المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلد الأول ‌ ‌المقدمات ‌ ‌الطبعة الأولى … بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين مقدمة الطبعة الأولى: في مستهلِّ - في الأدب الحديث - جـ ١

[عمر الدسوقي]

الفصل: ‌ ‌المجلد الأول ‌ ‌المقدمات ‌ ‌الطبعة الأولى … بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين مقدمة الطبعة الأولى: في مستهلِّ

‌المجلد الأول

‌المقدمات

‌الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

مقدمة الطبعة الأولى:

في مستهلِّ القرن التاسع عشر، أخذت مصر والبلاد العربية تستيقظ من سباتٍ طويلٍ، وتفرك عيونًا طالت هجعتها، وتنظر دهشةً إلى دنيا حافلةً بالجديد في نظم العيش، ووسائل التغلب على قوى الطبيعة، وتذليلها للإنسان؛ بالمخترعات الحديثة، وفي نظم الفكر، وعالم المعاني، والآداب، وما خلقه أدباء الغرب من صور ودبجوه من كتب؛ ونظموه من شعر، وسطروه من علمٍ مبنيٍّ على التجارب الممحصة، ومن حقائق مؤيدة بالبراهين الساطعة، منذ ذلك الوقت، ومصر والبلاد العربية تزداد بالغرب صلة، وبأهله تعرفًا، وبحضارته وثقافته ولوعًا، ولم تنس ماضيها وتراثها المجيد من الحضارة والثقافة، فأحيت ما ورثته عن العرب من آداب ضخمة، وأخذت تتناول من القديم، وتتناول من الجديد، وتمزج بين الثقافتين.

وكان اتصالها بالغرب عن طرقٍ كثيرةٍ: فمن بعثات ترى رأي العين، وتتلقى العلم عى أساتذة مختصين ثمة، وتعود فتنقل صورًا جديدةً من العادات والحياة، وأفكارًا وآراءً لم تكن موجودةً من قبل، ومن ترجماتٍ لآثار العلماء الغربيين، ورجال الأدب والفكر والفن والقانون، يطَّلِعُ عليها جمهرة المتعلمين من الشعوب العربية، ويدرسونها فيستقر ما بها من آراءٍ في عقول الناس نتيجة التداول، ومرور الزمن، وتصير من تراث الأمة العقليّ؛ تظهر دون تعمد على ألسنة الخطباء، وعلى أسلات الأقلام، وفي ثنايا الأبيات الشعرية، والصور الفنية، وبذلك يتخذ الأدب والفن لونًا جديدًا يميزه عن العصور السابقة، ويطبعه بطابع خاص.

ص: 3

وكان التعليم المدني الذي وضع محمد علي أسسه في مصر، ونمَّاه إسماعيل، واشتد عوده وآتى أكله بعد ثورتنا القومية في سنة 1919، من أعظم العوامل التي ساعدت على اتصال الشرق بالغرب؛ وكذلك فعلت النهضة التعليمية في سوريا، وفي لبنان على الأخص، ومجهودات الإرساليات التبشيرية في هذا المضمار لا تنكر، وصار الطالب العربي في مدارس القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، حتى وهو في مرحلة الدراسة الثانوية يلم بشيء كثير من الأدب الغربيّ، ويطَّلِعُ على بعض صوره: من قصة، وشعر، ومقالة، وحياة أدباء، ويستوعب كل هذا، ويؤدي فيه امتحانًا، ثم يخزنه في عقله الواعي، أو في عقله غير الواعي؛ ولن يستطيع أن يتخلص من تأثيره حين يتكلم، وحين يكتب، وحين يقرض الشعر، وحين يفكر وحده، دع جانبًا دراسة التخصص في الجامعات، وما تقوم به الهيئات والأفراد من بحوثٍ وترجماتٍ، ونهضة الصحافة والتجديد في مادتها بنقل كثير من ألوان الصحافة الغربية وأبوابها لجمهرة القراء وعامة الشعب.

وليس الغرب أمة واحدة، ذات ثقافة واحدة، ولكنه أمم شتًّى، ولها أذواق مختلفة، وآداب متباينة، ولغات عديدة، ولكل شعب أسلوبه في التفكير، وفلسفةٌ خاصةُ في الحياة، ولم يكن اتصال مصر والبلاد العربية قاصرًا على شعب غربيٍّ دون آخر، بل اتصلنا بكل بلاد الغرب إن لم يكن عن طريق البعثات، فعن طريق الترجمة: اتصلنا بفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، وإيطاليا وروسيا، وأسبانيا، والولايات المتحدة، وغيرها، وعرفنا صورًا وألوانًا من آداب كلٍّ، وفلسفة كلٍّ، ولا سيما في الحقبة الأخيرة، بعد ما انتشر الطيران، وازداد العالم اتصالًا بعضه ببعض.

ومن العسير أن نحدد مدى تأثر الأدب العربيّ بكل ثقافةٍ من هذه الثقافات، بيد أننا نستطيع أن نقول على وجه التقريب: إننا تأثرنا بادئ الأمر بالحضارة الفرنسية، فنقلنا عنها كل ما يتصل بأسباب الحياة من طب وهندسة، وعلوم تجاربة، وقانون، وما شاكل هذا؛ وإن مصر تأثرت بالثقافة الإنجليزية، ثم بالثقافة الفرنسية، ثم أخذت ألوانًا من ثقافاتٍ أخرى دون أن يكون لها تأثير كبير، أما لبنان: فبالثقافة الفرنسية، ثم بالثقافة الأمريكية والإنجليزية، ثم سوى ذلك من الثقافات.

ص: 4

هذا التيار الغربيّ القويّ الذي يجري في حياة الأمة العربية العقلية والأدبية، وينافسه تيارٌ آخر حبيبٌ إلى نفوس الأمة، ويمتُّ إلى ماضيها المجيد، ويعرض الشخصيات المألوفة لديها، الأثيرة عندها، التي تبعث فيها العزة والكرامة، وتقوي من شخصيتها، وتزيد في اعتدادها بنفسها، وذلك هو الأدب العربيّ القديم، وهو أدبٌ قويٌ ضخمٌ غاصٌّ بكثيرٍ من آيات الفن ومعجزاته، وهو قريبٌ من نفسية الشعب العربيّ، ويستطيع أن يتمثله بيسر ومسرةٍ، قريبٌ من فكره وعاداته، وعقيدته، ومزاجه، وشعوره، فلا بدع إذا عظم هذا التيار، واشتد وزاحم تيار الثقافة الغربية مزاحمةً عنيفةً.

والأدباء في العالم العربيّ -في خلال قرن من الزمن- قد تباينوا في تأثرهم بهذين التيارين: فمنهم من اقتصر على القديم بحكم ثقافته وبيئته، والعوامل الاجتماعية الخاصة المحيطة به، وإن لم ينج من التأثر بالأفكار الشائعة، والألوان الأدبية المترجمة في الصحف والمجلات، ودور العلم، ولكن غلب القديم عليه في خياله وموضوعه وأسلوبه، وطريقة عرضه؛ ومنهم مَنْ كانت ألوان الثقافة الغربية غالبةً على أدبه، فتقرأ له وكأنما تقرأ لأديبٍ فرنسيّ أو إنجليزيّ يكتب بالعربية؛ ومنهم مَنْ حاول الجمع بين القديم والجديد، فحذق من القديم متانة الأسلوب، وطلاوة العبارة، ووضوح الغرض، وأخذ من الجديد حسن العرض، وطرافة الموضوع، أما الفكرة فتارةً يأخذها من هنا، وتارةً يأخذها من هناك.

هذا، وقد حاول بعض أدباء العربية في السنوات الأخيرة محاكاة المدارس الأدبية الأوروبية، التي نشأت بتطور تلك الأمم في الحياة والمدنية، والتي كانت أثرًا لعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة.

حاولوا محاكاتها دون أن تحفظهم إلى هذه المحكاة، أو تدفعهم إلى لونٍ خاصٍّ من الأدب دافع قهريةً، كما كان في الغرب، ولكنه حب التجديد، والتقليد للأدب الغربيّ فحسب.

ص: 5

ولذلك رأينا مَنْ يقلِّدُ المدرسة الإبداعية "Romantiame"، ومن يدعي أنه من المدرسة الواقعية "Realisme"، ومن يحاول أن يكون من المدرسة الرمزية "Symbolisme" إلى آخر ما هناك من مدارس.

وأدب هؤلاء المغرقين في التجديد، والمغرمين بالتقليد، هو أدب غربيٌّ صرفٌ، جاء في ثوبٍ عربيٍّ ضعيف النسيج، ملونٌ بألوان صارخةٍ يمجُّهَا الذوق العربيّ.

هذه الأنماط المختلفة من الأدباء، وهذه الألوان المتباينة من الأدب، في عصرٍ ازدحم بالعلوم والثقافات، يجعل مهمة مؤرخ الأدب عسيرةً في تعرف طريقه: في درسها وتقسيمها وحصرها، وإصدار أحكام عامة عليها، وتبيان كل مدرسة، والفريق الذي ينتمي إليها في كل بلاد العروبة، ولا سيما النهضة اليوم عامة، وهناك عشرات من الأدباء اللامعين يستحقون الدراسة، ولابد لمؤرخ الأدب كذلك من التعرض للعوامل السياسية والاجتماعية التي أثَّرت في الأدب العربيّ الحديث، وتتبع نمو هذا الأدب منذ عصر محمد علي، حين كان يحاول التخلص من القيود التي كُبِّلَ بها في عصور الانحطاط، إلى أن قوي، ووقف على قدميه حرًّا طليقًا، ثم إلى أن صار ماردًا عملاقًا في جيلنا الحاضر.

وأشهد أن هذا العمل الضخم يحتاج إلى دراساتٍ واسعةٍ قبل أن يَتِمَّ ويصيرَ عملًا تاريخيًّا علميًّا له قيمته: فمن دراسةٍ لتأثر الشعر العربيّ الحديث بالثقافة الغربية؛ من حيث الفكرة والخيال، والغرض والصورة، ومن دراسةٍ للكلمات الدخيلة والمعربة التي استعملها الأدباء، ومن دراسةٍ لتطور القصة في الأدب العربيّ قديمًا وحديثًا، ومن دراسةٍ للأساليب الأدبية المتأثرة بالأساليب الغربية، ومن دراسةٍ لتطور النثر العربيّ، وأدب المقالة، إلى غير ذلك من الدراسات المنظمة المسهبة التي تأخذ جزءًا خاصًّا من هذا العمل الضخم، وتبحثه وتصدر عليه أحكامًا مدعومةً بالأدلة والنماذج، لتعين مؤرخ الأدب حين يتعرض إلى المدارس الأدبية في العصر الحديث، ورجال كل مدرسة.

ص: 6

ولست أزعم أنني ضليعٌ بهذا العبء وحدي، وأنني حين أقدم هذا الكتاب للقارئ العربيّ قمت بهذه الدراسات المستفيضة، وانتهيت من الأحكام العامة التي تؤدي إليها هذه الدراسات، ولكن هذا الكتاب ليس إلّا محاضراتٍ ألقيتها على طلبة كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وحاولت أن أعرض عليهم فيها نماذج من هذه التيارات المتباينة في الأدب الحديث، وأسرد عليهم فيها كيف نما هذا الأدب وتطوّر، في إجمالٍ واختصارٍ.

وقد ألحُّوا عليَّ إلحاحًا شديدًا في أن أقدمه للمطبعة، حتى ينتفعوا به، وينتفع غيرهم فيما يزعمون، ولقد ترددت طويلًا قبل أن أستجيب لرغبتهم، لاعتقادي أن هذا العمل يتطلب جهدًا عنيفًا، ووقتًا طويلًا، وأن الأولى به أن يظل دراسةً حتى تستوفي عدتها، وتكمل أهبتها، وتوضع في قالبها على صورة كتاب.

فإنا لا أعفي كتابي هذا من التقصير، وإذا لم يستوعب الأدب الحديث ومدارسه، وكل الشخصيات الأدبية الجديرة بالدرس، فإني أول المعترفين بذلك، والمعتذرين عن تقصيره، والذي يشفع لي عند القراء أنها محاولة لدرس الأدب الحديث؛ علَّ فيهم مَنْ يكون أقوى مني منه، وأطول باعًا، فيستوفي الموضوع، ويلمَّ بكل أطرافه، أو يكون فيهم مَنْ تستهويه ناحية خاصة، أو أديب بعينه؛ فيتخذه مجالًا لدراسته، وتزويد المكتبة العربية بها، فيعين على تحديد معالم أدبنا المعاصر.

وبعد، فإن المعاصرة حجاب، وقد أتعرض في كتابي هذا بالنقد لبعض الأحياء من الأدباء، والتعريف بآثارهم الأدبية، وقد يكون في كلامي ما لا يروقهم، أو يثقل عليهم، ولكني سألزم نفسي قول الحقِّ مجردًا عن الأهواء والغايات، ثم إني مجتهدٌ، فإن أصبت فلي ثوابان، وإلّا فلن أعدم ثواب الاجتهاد، ولن تحول المعاصرة بيني وبين تقرير الحقيقة، والله الموفق للصواب.

عمر الدسوقي.

ص: 7