الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الأدب في عصر إسماعيل
المدارس الأدبية في هذا العصر
…
الفصل الثالث: الأدب في عصر إسماعيل
لم يكن لهذه النهضة الشاملة، وهذا الإحياء القويّ الذي ظهر في عصر إسماعيل، ورجال البعثات أثر كبير في الأدباء الذين نشأوا في عصر محمد علي، وعاصروا إسماعيل بعد أن جمدت طباعهم، ورسخت عادتهم، وصار عسيرًا عليهم أن يتقبلوا الأفكار الجديدة، ويغيروا أسلوبهم في التعبير والتفكير، ولم يكن من المنتظر أن تؤثر النهضة في مثل هؤلاء الأدباء، ولم يتشربوا مبادئها، ويسيروا على هداها، ويتمتعوا بنورها ردحًا طويلًا من الزمن، ولم يكن من السهل التخلص من أوضار الماضي وتقاليده، ولا سيما ذلك الماضي القريب الذي يمت إلى عصور الضعف اللغويّ والفكريّ والخلفيّ؛ إذ لم ير الأدباء أمامهم أمثلةً تحتذى إلّا ما قيل في الماضي إن قريبًا وإن بعيدًا، أما الأدب الأوربيّ القويّ فلم يترجم في عصر إسماعيل منه إلّا شيءٌ يسيرٌ وبلغة ضعيفةٍ، ولا سيما الرويات المسرحية، ولو عرفه الأدباء ما استساغوه؛ لأن ثقافتهم كانت محدودة، وكان عصرهم مثقلًا بتلك التقاليد القديمة، والمدارس قليلة العدد، والمتعلمون في الأمة يعدون عدًّا.
هذا، وقد كان اهتمام مصر في عهد محمد علي وإسماعيل بالعلوم أعظم من اهتمامها بالأدب، ولولا ما أخرجته المطبعة العربية حينذاك من الكتب القديمة، واطلاع المحبين في الأدب، والراغبين في التزود من ينابيعه على آثار السلف، ودواوين كبار الشعراء الذين ظهروا في عصور القوة، لما كان للأدب في مصر والشرق العربيّ نصيب.
ولما كان الأدب الموروث هو أول ما عرفوا من الآداب، كان طبيعيًّا أن يحتذوه، ويحاكوه في موضوعاته وأسلوبه، ومعانيه وأخيلته، وقد تفاوت الأدباء في هذا التقليد تبعًا لمواهبهم وشخصياتهم، كما تفاوتوا في اختيار من قلدوهم فمنهم:
1-
أدباء لم تكن لهم شخصية ألبتة، بل ساروا في الطريق المعبَّد الذي سلكه مِنْ قبلهم أدباء عصور الانحطاط والضعف، ذلك هو طريق الشعراء النظامين أو العروضيين، لا يعرفون الشعر والأدب إلّا أنه مهارةٌ لفظيةٌ وقدرةُ على التفوه بعباراتٍ شعريةٍ ونثريةٍ لا حياة فيها ولا عاطفة ولا قوة، وإنما غرضها إظهار
البراعة في اقتناص ألوان البديع، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكمات والتصريف، إذا تعارض الإعراب أو التصريف مع ما يريدونه من جناسٍ أو طباقٍ، ويفسدون بنية الكلمة، عساها تصادف ما يجرون وراءه من هذه الحلى التي يسترون بها عوار لغتهم الركيكة، وأفكارهم السقيمة، وخيالاتهم المريضة، ومثال هذه المدرسة العروضية في عصر إسماعيل: السيد علي أبو النصر، والشيخ علي الليثي، ولولا ما بهما من ظرفٍ طبيعيٍّ، ورقة قاهرية، ولولا أنهم أَلِفَا منادمة الأمراء والعظماء، وتطلبت المنادمة منهما أدبًا وحلاوة نكتة، وسرعة بديهة، لما خرجا عن نطاق أدباء مصر والشام إبَّان الدولة العثمانية، ولما امتازا بشيءٍ عن عبد الله الشبراوي، وحسن قويدر، وأضرابهما.
2-
أدباء كانت لهم -مع تقليدهم للسلف والأدب الموروث -شخصية، بيد أن هذه الشخصية كانت ترى من بعيد، ومن خلف الحجب الكثيفة من التقاليد، في العبارات والأساليب والأخلية، حائلة غير واضحة ولا مميزة، ولكنها تدل على أن هذا الأديب قد جاهد في أن ينفذ بشاعريته وأدبه من خلال هذه الحوائل الغليظة، وإن لم تمكنه شخصيته القوية، ولا أدبه المتين من التغلب عليها، خير مثل لهذا النوع من الأدباء هو: محمود صفوت الساعاتي، وإبراهيم مرزوق، وصالح مجدي.
3-
أدباء قويت شخصيتهم بعض الشيء، وحاولوا أن يجددوا، وأن يلونوا أدبهم بما يظهر نفسيتهم، ويطبعه بطابعهم، وقد نجحوا في ذلك أحيانًا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقاوموا سيطرة الأدب الموروث، ولا إغراء المحسنات، والزخارف، فضعفت هذه الشخصية، وتضاءلت أمام هذا الإغراء، فجاء أدبهم إبَّان هذا الضعف من نمط المدرسة الثانية، ومن هذه المدرسة: عبد الله فكري، تراه آنًا ينطلق على سجيته ولا يتقيد بهذه الصناعة السمجة المتكلفة في نثره، وبهذه الزخرفة اللفظية الممجوجة، فتتضح شخصيته وتنجلي فكرته، ويترسل في كتابته، فيفهم الناس منه ما يقول دون عناء، وهذا قليل في كتابته، وآنًا يجذبه ذلك الزخرف فيستعد ويهتم ويحتفي بموضوعه، ويبذل جهدًا شديدًا في صوغ العبارات، ويكاد هذا يطغى على شخصيته، وأكثر شعره ونثره من هذا الطراز.
4-
وأدباء رزقوا الشخصية الغلابة، والأدب المتين، وحاكوا النماذج الرفيعة من أدب السلف، فاستحصدت مرتهم، وعظمت ذخريتهم من الأدب الرصين، فمزقوا هذه الحجب الكثيفة، وطرحوها جانبًا، وارتفعوا بالشعر وبالأدب إلى حيث الشمس الساطعة القوية، فتراءت معانيه، وتجلت أخيلته، واهتزت لديباجته المشرقة النفوس، قلدوا القدماء بل عارضوهم، وجروا وإياهم في ميدانٍ واحدٍ، ولكنهم لم يقلدوا الغَثَّ من الآداب، بل عمدو إلى فحول الشعراء ينسجون على منوالهم، ويبارونهم في قصائدهم المشهورة الخالدة، فحلَّقوا معهم في سماواتهم، وأضفوا على الشعر لونًا جديدًا جذابًا، لم يستمتع به منذ أمد طويل.
أجل! لم يكونوا دائمًا في قوة فحول الأدباء والشعراء السابقين، بل قصروا عنهم في كثير من الأوقات، ولكن حسبهم أن سلم شعرهم من هذه العلل والأوصاب التي أزمنت لدى الشعر العربيّ قرونًا، ووصلت به إلى درك الغثاثة والركة والعجمة، وخير مثل لهذا النوع من الأدباء -أستغفر الله- بل باعث الشعر العربيّ في العصر الحديث، وصاحب هذه اليد الطولى على الأدب هو البارودي.
هذا، وقد ظهر في أخريات عصر إسماعيل فجر نهضةٍ جديدةٍ في الأدب، لم تكن مدارس إسماعيل، ولا حركة الإحياء في عهده هي الباعث عليها، ولكن رغبة إسماعيل في أن يرى مصر بين عشيةٍ وضاحها قطعةً من أوربا في مدنيتها وحضارتها، وجعلته يسرف في مال مصر ويبدده في هذه السبيل، غير ناظر إلى الشعب ومصيره. واتخذ الأجانب من حب إسماعيل للحضارة الأوروبية وسيلةً لاستيطان مصر، فجاؤوا زرافاتٍ ووحدانًا، يرتادون هذه الأرض البكر، وينشئون البيوت التجارية والمصارف المالية، ويتقدمون لخدمة الحكومة في جميع مصالحها، ولما استدان إسماعيل، وأثقلته ومصر الديون، عظم نفوذ هؤلاء الأجانب، وشجعتهم حكوماتهم وحمتهم امتيازاتهم، فكان هذا النفوذ المتزايد سببًا في تنبه المصريين إلى الخطر الداهم الذي ينتظر بلادهم.
وتصادف أن كان بمصر الزعيم المصلح السيد جمال الدين الأفغاني -وكان من الملهمين في العصر الحديث- فبثَّ تعاليمه الإصلاحية، وشجَّع حركة الاستياء من طغيان النفوذ الأجنبين، وأخذ يقتحم هذا الحمى الذي ظل قرونًا لا يقرب، وهو حق الحاكم في التصرف برعاياه وأموالهم ونفوسهم، فوجَّه الانتقاد لإسماعيل، وحاسبه في الصحف المختلفة التي يكتب فيها أتباعه ومريدوه، من أمثال: أديب إسحاق، وإبراهيم المويلحي، وسليم نقاش، وعبد الله نديم، ويوسف أبو السعود، وهو من ورائهم يغذيهم بروحه وتشجيعه وآرائه، ويكتب هو أحيانًا مستترًا.
وهذه الحركة أنتجت أدبًا قوميًّا؛ حيث وجهت الأدب -ولا سيما النثر- إلى النظر إلى شئون الشعوب العربية، والدفاع عن حقوقها، ووصف أمراضها وأدوائها، وماتتطلبه هذه الأوصاب من علاجٍ، ولنا عودة إلى هذا الأدب ومظاهره فيما بعد.
وحريٌّ بنا، وقد ألقينا هذه النظرة العاجلة على ألوان الأدب في عصر إسماعيل، أن نعود إلى هذه الألوان والنماذج فندرسها بشيءٍ من التفصيل.
1-
السيد علي أبو النصر:
مصريٌّ شريف النسب من منفلوط، لا نعرف على التحقيق متى ولد، وأغلب الظن أنه كان رجلًا ناضجًا في عصر محمد علي؛ حيث أرسله في مهمةٍ إلى الأستانة، في خلافة السلطان عبد المجيد، ومبعوث محمد علي إلى "الحضرة الخليفية" لن يكون حدثًا غرًّا، أو شابًّا غير مجرب، بل رجلًا مكتمل العقل والشهرة، ولذلك نرجح أن ولد في أوائل القرن التاسع عشر، وجاء إلى مصر من منفوط وهو صغير السن، ثم دخل الأزهر وتلقى به العلوم العربية والشرعية، إلّا أنه لم يسر في مرحلة التعليم هذه حتى غايتها، بل ترك العلم واشتغل بالأدب، وقد ظهر ميله إليه منذ الصغر، وكان عصر شبابه مقفرًا من الأدباء اللامعين، وكان صفوت الساعاتي في شغلٍ بمدح أمراء الحجاز -كما سيأتي، فنال أبوالنصر شهرةً، واتصل بالأسرة الحاكمة، وبعثه محمد علي -كما ذكرنا- إلى الآستانة، وصحب إسماعيل من بعده، وكان له نديمًا وجليسًا، وقد سافر إلى الآستانة معه مرةً ثانيةً.
ولم يكن أبو النصر شاعرًا فحسب، ولكنه كان نديمًا أكثر منه شاعرًا، وللمنادمة صفات كثيرة، وهي صنعة شاقة، أما هذه الصفات فمنها: الإحاطة بالأدب القديم، ورواية شعره ونثره ونوادره وأمثاله، ثم الذكاء الحاد، وسرعة البديهة، ومعرفة دخائل النفوس، ودراسة أحوالها المتباينة، وأهم من هذا طبيعة مرحة، قادرة على استلال سخائم النفوس، وبعث الضحك مع الاحتفاظ بالوقار والمنزلة، حتى لا يمتهن النديم ويهان، وليس الضحاك أمرًا هينًا، ولا سيما في مجلس أميرٍ عظيمٍ تشغله أعباء الحكم، وتَحِزُّ به أزمات نفسية كثيرة، والنفس الإنسانية يعتورها الحزن والسرور، والانقباض والانشراح، والغضب والرضا، والمفروض في النديم أن يستطيع بعث الضحك في كل حالة، ولا سيما في حالات الانقباض والحزن، وأن يذهب بمرحه وأدبه ضُرَّ القلوب، وتجهم الوجوه، مع أنه إنسانٌ كسائر الناس، له نفس تحزن وتنقبض، وعقل يفتر ويخبو، وقريحة تخمد وتتبلد أحيانًا.
ولهذا كانت مهمة النديم شاقة، وعليه أن يخلق الجو المناسب لنكاته، وأن يروض الناس على الضحك حين يطلق النكتة، ولو لم تكن مستساغة، وهذا فن يتقنه الموهوبون من الندماء.
ثم إن النديم صدًى للحوادث التي تحدث في مجلس الأمير أو العظيم، يسجلها في أدبه، فيقول الشعر في كل المناسبات الممكنة، حين يرحل الأمير، وحين يعود، وحين يرتقي أحد أفراد الحاشية، أو ينعم عليه بلقبٍ، وحين يولد مولود جديد، وفي الأعياد والأفراح والمآتم، بل في غير ذلك من المناسبات المفاجئة والعارضة.
وإذا تصفحنا ديوان أبي النصرلم نجده شيئًا غير هذا، وقلَّمَا يلتفت النديم لنفسه، فيظهر لواعج حبها، أو اهتزاز مشاعرها وعواطفها، أو يلتفت إلى غير الأمير وحاشيته.
وشعر أبي النصر يمثِّلُ كذلك هذه المدرسة التي أثقل أدبها بأوضار القديم وآفاته، فهو مولع بالمحسنات البديعية، وبالتأريخ الشعري، وبالألغاز، وبالتشطير، والتلاعب بالألفاظ، والشعر في هذه المدرسة -كما ذكرنا- صناعة تظهر البراعة والقدرة على صياغةٍ معينةٍ تحقق غرضًا من هذه الأغراض، وليس ترجمانًا عن همسات القلوب، وأشجان النفوس وأحاديثها، ومطية للخيال يحلق في سماواته الواسعة، أو مفصحًا عن فكرة اختمرت في عقل الشاعر وأبت إلّا أن تظهر جليةً واضحةً، كما يجب أن يكون الشعر.
ولم يكن مع هذا شعر السيد علي أبي النصر متين النسج، قويّ العبارة، بل هو وسط بين القوة والضعف، وبذلك يكون خير مثال للنظامين أو العروضيين، ومن شعره وقد أهدي إليه قدح:
أهدى الحبيب لمن أحب
…
قدحًا تحلى بالذهب
لو أفرغت فيه الطلا
…
لأطل ينظره الحبب
قد راق منظر حسنه
…
ودعا له داعي الطرب
لا نظرت لشكله
…
في رسم تيجان العرب
قلبته وقبلته
…
ووعدته بنت العنب
ولأجله لولا التقى
…
لخلعت أثواب الأدب
وملأته راحًا بها
…
ينفي عن الصب الوصب
لكنني أودعته
…
بخزنة تحوي الأدب
ومدحت من أهداه لي
…
ومنحته شكرًا وجب
وجعلته بشرى المنى
…
والدهر يأتي بالعجب
وقال ملغزًا:
ما اسم الحبيب أفيدوا أيها الأدبا
…
فإن بقراط عنه ساء منقلبا؟
فقال لي بعضهم: حرف أضيف له
…
حرفان دلَّا على شيءٍ حوى ذنبا
فقلت: هذا جواب رائق فعلى
…
مثلي لمثلك شكر الفضل قد وجبا
ومن قوله يتغزل:
نور زاهي الروض أم نور الصباح
…
وابتسام الثغر أم زهر الأقاح
ونجوم تزدهي في أفقها
…
بوميض البرق أم كاسات راح
ولا، ولا، بدر تمَّ ينجلي
…
للندامى في اغتباق واصطباح
بمحايا يزدري شمس الضحى
…
في معاني حسنه تعيا الفصاح
وقال مهنئًا مصطفى نعماني برتبة الباشوية، مؤرخًا في كل شطرٍ من أبيات القصيدة بتاريخ هذه الرتبة، وهو سنة 1295.
بشير الهنا لاحت بيمن قدومه
…
بدور بها نور البشائر قد صفا
وبدر التهاني فاق بالأنس نوره
…
فأهدى لنا أسنى السرور وأتحفا
وهكذا حتى أتم خمسة عشر بيتًا، كل شطر منه يؤرخ سنة 1295 مظهرًا بذلك مهارته وقدرته على الصياغة والنظم.
ومن أحسن ما قاله من الشعر هذه القطعة التي يتأسف فيها لفراق أحبابه:
لقد ذهب النوى بجميل صبري
…
وأودع في حشاشتي الولوعا
وألبسني الأسى خلع التمني
…
وألزمني التذلل والخضوعا
ونار الشوق أغراها غرامي
…
على كبدي فقومت الضلوعا
ولي قلب تقلبه شجوني
…
وتمنعه السكنية والهجوعا
يبيت مع الأحبة حيث كانوا
…
ويصبح راجيًا منهم رجوعا
يرى أضغاث أحلام الأماني
…
حقائق لا يزال بها ولوعا
تطوف به الحوادث وهو لاهٍ
…
كأن الوهم ألبسه دروعا
وقائلة: إلام تحن شوقًا
…
إلى حيٍّ أحلَّ بك الهلوعا
فقلت لها: وقيت اليأس إني
…
أود بحبهم أدعى هلوعا
أبعد فراقهم ترتاح روحي
…
وترجو ساعةً أن لا تلوعا1
فهم روحي وريحاني رواحي
…
فكيف أرى إلى السلوى نزوعا2
وفي هذه النماذج التي سقناها من شعره يتبين مدى ما ذكرناه عن أدباء هذه المدرسة وتقليدهم، وعدم ظهور شخصيتهم، مع افتتانهم بالبديع والجري وراءه، وضعف أسلوبهم، وقد مات سنة 1880، وله ديوان مطبوع.
الشيخ علي الليثي:
ولد سنة 1830 ببولاق، وتيتم صغيرًا، فتحولت به أمه إلى جهة الإمام الليثي وإليه ينسب، وطلب العلم بالأزهر مدةً، ولكنه لم يتم تعليمه، ثم رحل إلى طرابلس الغرب، وأخذ عن الشيخ السنوسي الكبير، والشيخ القوصي الكبير الطريقة والعلم، ولما عاد اتصل بالأسرة الحاكمة، وكان مقربًا لدى الخديو إسماعيل؛ لأنه كان مثلًا للنديم المحبوب الذي لا يُمَلُّ حديثه، ولا يطاق فراقه، وتورى له في باب المنادمة ونوادر لا تزال تتردد حتى اليوم على ألسنة السمار في مجالس الأنس، ولعل كثيرين منا يعرفون قصته مع "المهردار" بقصر الخديو إسماعيل، حين كتب على باب حجرة الشيخ الآية الكريمة:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إذ لم يجد لقبًا سواها يعطي لهذه الحجرة، كما أعطيت الحجرات الأخرى بالقصر ألقابًا، من مثل حجرة أمين المخازن، ورئيس الحرس، وغير ذلك، وقد كانت هذه مداعبة من "المهردار"، أثارت في نفس الشيخ الليثي الرغبة في الانتقام منه، وجعله سخريةً أمام رجال الحاشية، فانتهز فرصة وجوده معه بحضرة إسماعيل، والمجلس عامرٌ بعلية القوم يخوضون في أحاديث شتَّى، ولما سنحت الفرصة قال الشيخ علي الليثي للخديو: عندي قصةٌ صغيرةٌ يا مولاي، فقال: ما هي؟ قال:
1 تلوع: تجزع.
2 الراح: الخمر، والنزوع، الميل.
لنا طحونة في البلد
…
لكن تقيله ع الحمار
علقت فيها الطور عصى
…
علقت فيها المهردار
فكانت أضحوكةً سارت على الألسنة، وطرب لها الخديو وأفراد حاشيته، ونال الشيخ الليثيّ لدى إسماعيل حظوة ومنزلة، وعرف رجال الدولة مكانته، فكان مقصد طلاب الحاجات، ولايرد له رجاء عند أولي الأمر، ولما مات إسماعيل أبقى عليه توفيق، وقرَّبَه وأكرمه، وبقي مخلصًا له في أحلك أوقات الثورة، حين تنكر له كثيرون ممن أكرمهم توفيق، فأسبغ عليه من نعمه، وكافأه على إخلاصه له.
وللشيخ علي الليثي ديوانٌ لم يطبع، بل يقال: إنه لعن من يطبعه، ولسنا ندري سببًا واضحًا لعزوف الشيخ عن تخليد أثره الأدبيّ، إلّا أنه نال ثراءً واسعًا في أخريات حياته، وصار من سراة مصر، وليس من اللائق بسريٍّ وجيهٍ مثله أن يكون له ديوان شعر يروى، وبه ما به من عبثٍ ومجونٍ وتزلفٍ لكثيرين ممن يتسامى في حالته الأخيرة لمنزلتهم، ومن المستبعد أن يكون الشيخ قد أدرك أن شعره لا يستحق الخلود، وأنه ركيك ضعيف، فكل إنسان مهما كان شأنه يعجب بما يقوله، ولا يفطن ما به من عيوب، ثم إن الذوق الأدبيّ والنقد لم يكونا قد وصلا إلى منزلةٍ تمكن الشيخ من الاطلاع على مساوئ شعره، بل على العكس، كان الشيخ محسود المكانة الأدبية، ويتهافت أدباء عصره على مكاتبته ومطارحته الشعر1، وقد طال عمر الشيخ، وتوفي سنة 1313هـ-1896م.
وإذا نظرنا إلى ما روي لنا من شعره، لم نجده يتميز عن زميله السيد علي أبي النصر في شيء، ونجده يقول في المناسبات المختلفة شأن الندماء، وقلما يطلق نفسه على سجيتها، وينظم الشعر؛ لأنه يشعر بدافع نفسانيّ يلهمه القول، ومن شعره على البديهة قوله، وقد كان أحد رجال الحاشية يفرغ تفاحة بمدية ليشرب فيها، فانكسرت المدية، فنظر إلى الشيخ نظرة من يسأله وصف هذه الحال، وخليق بنديم الخديو إسماعيل أن يسجل مثل هذه الحادثة، فقال الشيخ مرتجلًا:
1 الآداب العربية في القرن التاسع عشر، للأب لويس شيخو.
عزَّت على الندمان حتى إنهم
…
تخذوا لها كأسًا من التفاح
ولدى اتخاذ الكأس منه بمدية
…
لان الحديد كرامةً للراح
ومن شعره في رثاء عبد الله باشا فكري:
نذم المنايا وهي في النقد أعدل
…
عداة انتقت مولى به الفضل يكمل
كأن المنايا في انتقاها خبيرة
…
بكسب النفوس العاليات تعجل
فتم لها من منتقى الدر حلية
…
بها العالم العلويّ أنسًا يهلل
ويقول في وصف الفقيد:
لقد كان ذا بر، عطوفًا، مهذبًا
…
سجاياه صفو القطر بل هي أمثل
وقيق حواشي الطبع سهل محبب
…
إلى كل قلب حيث كان مبجل
وله في مدح السلطان عبد العزيز في عيد جلوسه سنة 1290:
مولى الملوك الذي من يمن دولته
…
ظل العدالة في الآفاق ممدود
عبد العزيز الذي آثاره حمدت
…
أبو الألى جدهم في المجد محمود
أجاد نظم أمور الملك في نسق
…
لا يعتريه مدى الأزمان تبديد
فلا تقسه بأسلافٍ له كرمت
…
والشبل من هؤلاء الأسد مولود
ففخرهم عقد در وهو واسطة
…
في جيد آل بني عثمان معقود
وهذا نظم ليس فيه شيء من الخيال أو المعاني السامية، وعبارته تميل إلى الضعف، وهكذا كان شعر الشيخ، بل له شعر مليء بالمحسنات والزخارف اللفظية التي زادته ضعفًا على ضعفٍ، من مثل قوله يرثي محمود باشا الفلكي، وقد تصادف أن تهاوت نيازك ليلة وفاته:
أرى النيازك عن سام من الفلك
…
مذعورة أصبحت تصبو إلى الدرك
كالطير فاجأها البازيّ وأذهلها
…
فحاكت البرق، وانقضت عن الحبك
إلى أن يقول:
إليس نسر سماء العلم قد علقت
…
كف المنون به فانحاز في الشرك
الصبر يا نفس، واستبقي منايحه
…
أو فالتصبر إن تبغي الهدى فلك
حل القضاء وناعي المجد أرخنا
…
قد مات محمود باشا المسند الفلكي
"فقد أرخ وفاته سنة 1353 في هذا البيت".
وهو شعرٌ ليس فيه من أثر الحزن شيء، بل هو مصنوعٌ ليظهر قدرة الناظم على تلفيق مثل هذا الكلام، وقد حاول مرةً أن يَفْتَنَّ ويصف السفينة التي أقلته إلى مصر وهو عائد من برلين، فلم تمكنه اللغة القوية، ولم يسعفه الخيال، وأتى الشعر ضعيفًا، وأغلب الظن أنه لم يقله بدافع نفسيّ، وإنما طلب إليه أن يسجل هذه الرحلة فصنع الأبيات التي منها:
أصبح الوقت باسمًا بالسرور
…
كابتسام الربيع وقت الزهور
أينا لقي ظريف طبع لطيفًا
…
كي ندير الحديث مثل الخمور
فوق ظهر السفين نحسن وصفًا
…
حيث يجري على صفاء البحور
وتراه يختال وهو معنى
…
ويحه كم يجر ذيل الفجور
ذيله يرسم المجرة عجيبًا
…
بين موج يضيء مثل البدور
وهو وصفٌ غنيٌ عن التحليل، وإظهار ما به من ركاكة، ففي كل بيت عوار لا يغفر، ودليل قاطع على أن الشيخ ينتمي إلى مدرسة النظامين والعروضيين، ولعل خير ما روي له، قصيدته التي قالها مستعطفًا الخديو توفيق عقب الثورة العرابية، وطالبًا الصفح عمن أجرم -في رأيه:
كل حالٍ لضده يتحول
…
فالزم المصبر إذ عليه المعول
يا فؤادي استرح فما الشأن إلّا
…
ما به مظهر القضاء تنزل
رب ساعٍ لحتفه وهو ممن
…
ظن بالسعي للعلا يتوصل
قدر غالب وسر الخفايا
…
فوق عقل الأريب مهما تكمل
غاية العقل حسرة وعقال
…
واللبيب الذكيّ من قد تأمل
كيف ننسى، وحادثات الليالي
…
فاجأتنا بكارثٍ ليس يحمل
أذهبت أنفسًا وغالت نفيسًا
…
وذوي مربع الحظوظ وأمحل
وإذا المرء كان بالوهم يبني
…
فخيال الظنون ما قد تمثل
وريح قوم سعوا لإدراك أمر
…
دون إدراكه الجبال تزلزل
ما أصروا عليه إلّا أضروا
…
بأناس من نابه أو مغفل
ذاك يسعى على التقية خوفًا
…
وسواه سعى لكيما يجمل
لو أصابوا الرشاد عند ابتداء
…
كانت الغاية الجميلة أجمل
وهذه القصيدة على ما بها من سهولة، فمعانيها مطروقة ليس فيها جديد، وحكمها مألوفة، وبها كثير من أثر الصنعة والتكلف، أما الخيال وهو روح الشعر وجناحه الذي يحلق به فلا أثر له، ونعود فنقرر أن هذه المدرسة التي ينتمي إليها علي أبو النصر، وعلي الليثي، هي مدرسة التقليد للشعر الذي كان سائدًا في عصور ضعف اللغة، وليس لهذين الشاعرين وأضرابهما شخصيةٌ قويةٌ تهتك ستار هذه الحجب الكثيفة من الزخارف السمجة، وليس لهما قوة عارضة، وفحولة نسج لتستر مساوئ هذا الذي يسمى شعرًا، وهما نظامان أكثر منهما شاعران، ويقولان في المناسبات نظمًا غير صادر عن شعور إلّا القليل النادر.
3-
محمود صفوت الساعاتي1:
وهاك مثلًا لشاعرٍ استطاع بمواهبه أن يفصح عن شخصيته، وإن تراءت من بعيدٍ حائلة اللون، غير واضحة المعالم، تحاول جهدها أن تظهر من خلال هذه السدف الغليظة من التقاليد الموروثة في الشعر العربيّ، ولا سيما عصور الركة والانحلال، وقد أوتي حظًّا من اللسن والفصاحة فاستطاع أن يجيد في غير ما موضع من شعره، حتى ليعده بعضهم طليعةً للنهضة الحديثة، وممهدًا للطريق الذي سلكه الباردوي من بعد.
ولد الساعاتي بالقاهرة سنة 1241هـ-1825م، وظلَّ بها إلى أن بلغ الثانية عشرة، ثم ارتحل إلى الإسكندرية فأقام بها ثمانية أعوام، ولم يدخل الساعاتي الأزهر كما دخله علي أبو النصر، وعلي الليثي، ومحمد شهاب، وعبد الله فكري، وغيرهم، بل يقال: إنه لم يتعلم النحو، وإنما استظهر ديوان المتنبي، وكثيرًا من أشعار القدماء فاستقام لسانه، وعظم مخزونه من الأدب، وقد ظهر تأثير المتنبي في شعره واضحًا، وكان بينه وبين النحاة مناقشات طويلة كما سنرى.
وكان تليمذًا للشيخ حسن قويدر، يغشى مجلسه، ويأخذ عنه الأدب، وكان الشيخ قويدر غنيًّا كريمًا، ومات سنة 1845، وكانت سن الساعاتي حينئذ عشرين سنة، وهذا كل ما نعلمه عن ثقافة هذا الشاعر وحياته حتى هذه السن، وقد رثى الشيخ قودير بقصيدة مطلعها:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب
…
ومزقت شملها من حزنها الكتب
وفيها يقول: وقد حشاها بالمبالغات السخيفة، وهي ليست قوية النسج، مما يدل على أنها من أوائل ما نظم:
1 هو محمود صفوت بن مصطفى أغا الزيلع، الشهير بالساعاتي، والساعاتي لقب غلب عليه؛ لأنه مهر في إصلاح الساعات، ولا ندري على التحقيق أكان إصلاح الساعات حرفةً له أم هوايةً كما يقول بعضهم.
يا شمس فضل فدتك الشهب قاطبة
…
إذ عنك لا أنجم تغني ولا شهب
لما أصابك لا قوس ولا وتر
…
سهم المنية كاد الكون ينقلب
ما حيلة العبد والأقدار جارية
…
العمر يوهب والأيام تنتهب
لو افتدتك المنايا عندما فتكت
…
بخيرنا لفدتك العجم والعرب
وأمست لفقدك عين العلم سائلة
…
ترجو الشفاء وأنَّى ينجح الطلب
إلى آخر هذا النظم الذي ينبئنا بأن ذوق الشاعرلم يكن قد تهذَّب بعد، وأنه يحاكي الشعراء المتأخرين في نسجهم الضعيف، واستعاراتهم السمجة، مثل "عين العلم سائلة" وغير ذلك.
وفي سن العشرين بدا له أن يحج إلى بيت الله الحرام، وهناك اتصل بأشراف مكة "آل عون"، فأكرموه، واصطحبوه معهم في غزواتهم، وحروبهم مع آل سعود وأمراء اليمن، وظل بجوارهم خمس سنواتٍ يسجل انتصارتهم، ويسبغ عليهم مديحه، ولما عزل الأمير محمد بن عون عن إمارة مكة، ورحل إلى الآستانة، صحبه الشاعر ثمة، ومكث معه قليلًا، ثم تركه، ورجع إلى مصر، ولسنا ندري سببًا لتركه: أيئس من عودة الأمير إلى أريكته، فأراد أن يبحث عن شخصٍ آخر يستظل بظله؟ أم أن الأمير رأى نفسه معزولًا قليل المال، فبرم بصحبة شاعرٍ يعوله وينفق عليه في غربته؟ ولما عاد إلى إمارته لم يستدع شاعره الصداح، وفي شعر الساعاتي ما يدل على أن القطيعة كانت من الأمير من مثل قوله يخاطبه:
أوليتني الآلاء ثم تركتني
…
مثل الذي حلت به اللأواء
ما كان ذا أملي الذي أملته
…
فيكم وأنتم سادة كرماء
ويقول:
وحبوتموني بعدها بقطيعة
…
أكذا يكون تكرم وحباء
وقال مرةً يعاتبه، ويظهر يأسه منه، وكأنه يودعه إلى غير رجعة:
قضى العبد بعض الواجبات بقصده
…
إليكم وقد جوزي بما هو أعظم
ونال الذي قد كان يرجوه وانقضت
…
أمانيه منكم، والسلام عليكم
وعلى الرغم من هذه القطيعة، فقد ظل الشاعر يتحسر على أيامه الخاليات، وعلى المودة المفقودة، ويتعذر عن جرم لا ندري كنهه للشريف محمد، ولأولاده من بعده عبد الله، وحسين، وعلي، فيقول للشريف عبد الله:
شددت بكم بعد الإله عزائمي
…
فكنت عليهم بالعذاب شديدًا
وإني أعيذ النفس بعد لعفوكم
…
وإن جلَّ ذنبي أو مكثت بعيدًا
ويقول مرة أخرى للشريف عبد الله:
فإني لم أبرح على العهد مخلصًا
…
وإن طال عهد البعد واشتقت معهدًا
ويبدو أن الشريف عبد الله كان يصله على البعد، ولكن كان يأمل أن يستدعيه لديه:
يقلدني فضلًا عن البعد بيننا
…
وأطمع حرصًا في شنوف المسامر
ويتذلل للشريف حسين، ويطلب العفو:
أقلني وبادر بالجميل فإنني
…
أرى العفو دومًا ممن صفات الأماجد
ولما يئس الشاعر من صلاتهم، والعودة إليهم بعد كل ما قدمه من زلفى ومن قصائد يرسلها إليهم في كل المناسبات، قال للشريف حسين:
عللت نفسي غرورًا بالمواعيد
…
فكان تعليلها عنوان تفنيد
إلى متى وإلى كم لا أرى زمني
…
إلّا كذا بين تقريب وتبعيد؟!
قالوا ذكاؤك محسوب عليك كما
…
يروى، فقلت حديث غير مردود
وما كان أغنى الشاعر عن هذه الضراعة والذلة، وهذا الإلحاح المشين في الطلب، وأغلب الظن أنه لم يكن يراه بهذا المنظار، وإنما يقتفي آثار الألى عبدوا له طريق المدح، والإلحاف في المسألة من لدن النابغة الذبياني حتى عصر إسماعيل، ولم يجد في قوله هذا ما يخل بالكرامة أو يشين المروءة، ونحن إنما نحكم عليه وعلى أمثاله من الذين طبعوا الشعر العربيّ بهذا الطابع؛ لأننا في عصرٍ تغيرت فيه قيم الأشياء، وصرنا نعتد بالأدب الشعبيّ القوميّ، وبالشعور الخاص، والعواطف الكامنة في نفس الأديب، ونجوى خياله وروحه، أكثر من التفاتنا إلى شعر المناسبات، والسير في ركاب العظماء، والتمدح بمناقب الأغنياء، ولكننا نتساءل: ألم يكن بمصر أمراء يكفون الشاعر لو تقرب منهم مؤنة هذا التسول؟ ولماذا قصر في مدح إسماعيل إذا لم يثبه سعيد على مديحه إياه ثوابًا يرضيه؟ وهل ثلاث قصائد تكفي في إسماعيل، وهو من هو حدبًا على الأدب والأدباء، وهو الذي أظل بعطفه العليين أبا نصر والليثي، هما دون الساعاتي قدرةً على النظم، ومتانة شعر، وسمو خيال، أيهما المقصر: إسماعيل إذ لم يضم إلى حاشيته وندمائه هذا الشاعر؟ أو الساعاتي إذ انصرف إلى مديح آل عون بمكة، واشتهر بإخلاصه لهم، وجعل شعره حبسًا عليهم إلّا القليل، ورأى أن باب إسماعيل قد سبقه إليه شاعران آخران، واحتلّا لدنه مكانةً ومقامًا؟ فلم يشأ أن يدع طريقًا عرفه، ونوالًا جربه وذاق حلاوته، وينافس آخرين في أمرٍ لا يعرف مصيره، فظلَّ على ولائه لآل عون يمدحهم في كل مناسبة: إذا غزوا، وإذا أبلوا من مرض، وإذا ولد لهم مولود، ويقول فيهم:
أحبهم ما دمت حيًّا ديانةً
…
وأرغب لكن عن سواهم ترفعًا
وقد سار شعري بين شرق ومغرب
…
فما اختيار غير البيت والآل موضعًا
وما طار في الآفاق بدعًا مديحهم
…
ولكنه نشر زكي تضوعًا
وكان يرى أنهم هم الذين أطلقوا لسانه بعطاياهم، وعلموه الشعر، ولولاهم ما نظم قصيدًا:
نظمت حالي ولولا سلك فضلكم
…
ما كان قولي ولا فعلي بمتنظم
علمتني الحمد والشكر الجزيل على
…
فعل الجميل بما توليه من نعم
ما كنت لولاكم أبغي الفوائد من
…
نظم الفوائد في اسم ولا علم
وعلى الرغم من هذا الولاء، ومن دءوب الشاعر على مدحهم في كل مناسبة، وهو عنهم بعيد، فإنهم لم يستجيبوا لرجائه دعوته إليهم، ولعل للمنافسات التي كانت بين الشاعر، وبين بعض الحجازين1 أثرًا في هذه الجفوة، فقلما خلت حاشية أمير عظيم، سمح النفس، سخي اليد من أمثال هؤلاء الحساد لكلِّ من نال لديه حظوةً أو نبغ وقصروا، وما أمر المتنبي وسيف الدولة بمجهول، ولقد بلى
1 من المنافسين للشاعر في الحجاز، الشيح زين العابدين المكيّ، وكان نحويًّا، اعترض مرةً على قول الساعاتي:
وأبصرت في كف ابن عون مهندًا
…
يرويه قرم بالضرب خبير
بأن الضراب في اللغة: النكاح، وليس فيه ضراب بمعنى الضرب، واحتج الشاعر مؤيدًا رأيه بقول الحارث بن ظالم المري:
وقومي إن سألت بني لؤي
…
بمكة علموا الناس الضرابا
أقاموا للكتائب كل يوم
…
سيوف المشرفية والحربا
واستشهد بقول المتنبي، وكان من الحفاظ لشعره:
وكل السيوف إذا طال الضراب بها
…
يمسها غير سيف الدولة السأم
وقوله:
إنما بدر رزايا عطايا
…
ومنابواه وطعان وضراب
وقوله:
بغيرك راعيًا عبث الذئاب
…
وغيرك صارمًا ثلم الضراب
فأفحمه بهذا الاستشهاد، وفات المكيّ أن الضراب مصدر قياسيّ لضارب كقاتل وناضل، ولكنها حزازات النفوس تزل الحصا.
الساعاتي بمثل ما بُلِيَ به المتنبي من هؤلاء النحاة الذين يحاولون الوقيعة بينه1 وبين ممدوحه، كما فعلوا مع أبي الطيب من قبل، لكنه انتصر عليهم في كل مرةٍ تعرضوا فيها لأدبه، وأغلب الظن أنهم لم يتركوه يهنأ بهذه المنزلة، وحاولوا جهدهم أن يزحزحوه عن مكانه، وفي ذلك يقول معرضًا بهم:
لا تعدلوا بالشعر كل معمم
…
كالثور ذي القرنين بالإسكندر
ما كل من يملي القصيدة ناظم
…
قد ينتمي للشعر من لم يشعر
لو كان فيهم شاعر لوقفت في
…
ديوانه أدبًا، ولم أتكبر
يا آل محسن لم يزل إحسانكم
…
يدع الدنيء على حماكم يجتري
بل يحاول أن يوقع بهم كما حاولوا الوقيعة به، وأن يفسر بغضهم له لإخلاصه لآل عون:
فما أبغضوا مثلي سدًى غير أنهم
…
يعدون مدحي فيكم كالمأتم
ألم تر حسانًا ولى أسوة به
…
وما كان يلقى من عد آل هاشم
إذا زعموا أني مع الفضل جاهل
…
فقل لهم: هاتوا فصاحة عالم
فدعني من قول النحاة فإنهم
…
تعدوا لصرف النطق في غير لازم
وما أنا إلّا شاعر ذو طبيعة
…
ولست بسرَّاقٍ كبعض الأعاجم
1 من ذلك أنهم خطئوه في قوله يمدح الشريف، ويصف أعداءه بالجبن:
كأنهم فوق السوابق خرد
…
لهن متون الصافنات جياد
بأن في ذلك انحطاطًا لمقدار من يقاومه حيث شبههم بنسوة، فكأنه انتصر على نساء لا على أبطال، ومكنته ذاكرة واعية لما استظهر من شعر المتنبي في الصغر من إفحامهم بقوله يمدح سيف الدولة.
فصبحهم وبسطهم حرير
…
ومساهم وبسطهم تراب
ومن في كفه منهم قناة
…
كمن في كفه منهم خضاب
شعره:
قدمنا عند الكلام على الساعاتي، والمدرسة التي ينتمي إليها، بأن له شخصية في شعره، وأن هذه الشخصية استطاعت البروز والوضوح على الرغم من كثافة التقاليد الشعرية الموروثة.
أجل! استطاع أن يتخلص في بعض قصائده من المحسنات البديعية، وأن يرتفع بديباجته عن درك الغثاثة والركة، وأن يعبِّرَ عن شعره تعبيرًا واضحًا، وأن يشعرك على الرغم من معانيه المطروقة بأنه أحسن التقليد وأضفى عليه شيئًا من نفسه ورووحه، ومع كل هذا فمعظم شعره من ذلك النوع الذي ساد أيام المماليك وبني عثمان، وقلما خلت قصيدة من تاريخ وتعمد للصناعة والزخرف.
1-
ترى الشاعر يجيد في الحماسة، ويقوى شعره وتشرق ديباجته، اسمعه يقول مادحًا سعيدًا، وقد عزم على زيارة المصطفى عليه السلام:
ملأت قلوب العرب رعبًا فما دروا
…
بعثت لهم بالكتب أم بالكتائب
تركتهم في أمرهم بين صادق
…
وآخر في تيهٍ من الظن كاذب
تسير لهم في بحرٍ جيش عرموم
…
يفيض بموج الحتف من كل جانب
إذا هتفوا باسم العزيز تزلزلت
…
جبال عليها الذل ضربة لازب
فكيف إذا يممت بالشهب أرضهم
…
وزاحمت ما في أفقهم بالنجائب
وجُرد عليها الأسد في قصب القنا
…
ترى الأسد في الآجام مثل الثعالب
وخيرٌ من هذا قوله يمدح الشريف ابن عون، ويصف غزوته لبني سليم:
وأضرمتم النيران فيهم وأضرموا
…
لهم نار حرب مثل نار الحباحب1
كررتم على أهل الجبال بمثلها
…
جبال رجال سيرت بالركائب
وما ثبتوا إلّا قليلًا وزلزلوا
…
وأبطالكم ما بين ضارٍّ وضارب
1 الحباحب: فراشية صغيرة تضيء بالليل.
رأوا باترات البيض تغمد فيهم
…
وتخرج من أصلابهم والترائب
فملوا ومالوا للهزيمة بعدها
…
وملتم على أرواحهم ميل ناهب
فهذه الديباجة القوية، وهذه الفحولة قد طال انتظار الشعر العربيّ لها، ولعل في حفظ الشاعر للمبتنبي ما جعله يجيد في الحماسة ووصف المعارك، كما كان المتنبي يجيدها وهو يمدح سيف الدولة، وقد شهد الساعاتي معارك آل عون مع أعدائهم، كما شهد المتنبي معارك سيف الدولة مع الروم وغيرهم.
2-
ومن الأغراض التي وُفِّقَ الشاعر للقول فيها العتاب، وقد سلمت له أبيات جيدة في هذا الباب مثل قوله يعاتب آل عوان:
إني على العهد القديم وإنما
…
حظ الأديب عداوة الأرزاق
عاملتموني بالجفاء، رويدكم
…
الورد ذو أرجٍ بلا إحراق
مالي أراكم تنكرون مكانتي
…
الشمس لا تخفى من الإشراق
قلدتم غيري الجميل وقلتم
…
حسب الخغرد زينة الأطواق
أسديتم الجدوى له وسددتم
…
طرق الرجاء عليَّ بالإطراق
إن لم يكن مثلي يسيء ومثلكم
…
يغضي، فإين مكارم الأخلاق؟
ويقول معاتبًا صهرًا له:
هلّا اتخذتم سوى أعراضنا غرضًا
…
يُرْمَى وصيرتم الإكثار تقليلا
إنا لنضرب صفحًا عن بوادركم
…
ولو أردنا أسأنا الرد تنكيلا
لكن نصون عن الفحشاء ألسنةً
…
هي الأسنة تجريحًا وتعديلا
فليتكم تحسنون الظن إذ حسنت
…
منا الظنون، وكان الود مأمولا
رأيت وصلكم قطعًا وحبكم
…
بغضًا ونصركم للصهر تخذيلا
ومن عتابه الرقيق قوله:
كنا وكنتم فأكثرنا زيراتكم
…
ونحن مثلان في فقر وإفلاس
كانت مناسبة الحالين تجمعنا
…
ومن يدوم على حال من الناس
والعتاب، كما نعلم، بابًا ليس جديدًا في الشعر العربيّ، بل طرقه قبل الساعاتي كثيرون، وأتت معانيه فيه مما وردت عند غيره من شعراء العتاب، وكان الساعاتي أحيانًا يستعمل الكلام المألوف العاديّ في العتاب، حتى يفهم المعاتب ما يقول:
3-
وقد ظهرت شخصيته في نصائحه التي قدمها لممدوحيه، والتفاته للشعب، وطلب الرأفة به، وحسن معاملته، كقوله للشريف ابن عون:
فما استقام عماد الملك منتصبًا
…
إلّا إلى قائم بالعلم والعمل
ودولة الجد ما انقادت ولا خضعت
…
إلّا إلى عادل للشرع ممتثل
ما راقب الله مولى في رعيته
…
إلّا وأدرك منها غاية الأمل
ويطلب العفو لأعداء ممدوحه محاكيًا المتنبي في توسطه لدى سيف الدولة لبني كلاب، فمن ذلك قوله:
للسلم قد جنحوا فمنوا واصفحوا
…
ما قتل نصفهم من الإنصاف
وإذا أساءوا أحسنوا لمسيئهم
…
وراعوا مقام بقية الأحلاف
وإذا هم اقتتلوا وشدوا أصلحوا
…
ما بينهم خير من الإجحاف
4-
وكانت له دعابات طريفة تدل على روح مرحة، وبديهة طيعة، ونكتة رائقة، وهذا طابع المصريين غالبًا لا يستطيعون عنه حولًا، فمن ذلك قوله يعزي منافسه وحاسده الشيح زين العابدين المكيّ، وقد نفقت فرسه في طريق جدة:
قضت وهي تدعو فالق الحب والنوى
…
بقلب كئيب دقه الحب والنوى
فكيف يعزى الشيخ في الفرس التي
…
به طوت الأسفار صبرًا على الطوى
وكانت به تجري مع الريح خفة
…
وأشبعها جريًا فعاشت على الهوى
وإن حملت ما لا تطيق لضعفها
…
تعوج منها الظهر والذنب استوى
قضت، وهي ما ذاقت شعيرًا لزهدها
…
فما شعرت إلّا وعرقوبها التوى
ألَا أيها الخل الذي طال حزنه
…
عليها وفي أحشائه التهب الجوى
فعش أنت واسلم والحمير كثيرة
…
ومثلك معدوم النظير لما حوى
ألا تذكرنا هذه القصيدة بالبهاء زهير حين يقول:
لك يا صديقي بغلة
…
ليست تساوي خردلة
تمشي فتحسب أنها
…
فوق الطريق مشكلة
هي روح الدعابة المصرية تتجلى دائمًا حين ينطلق شعراء مصر على سجيتهم، لا يتكلفون القول، ولا يتزمتون.
ومن دعاباته الظريفة قوله معرضًا ببعض النحاة، وواصفًا لهم ولحركاتهم وخلطهم:
إذا ارتفعت بالنحو أعلام علمنا
…
جعلنا جواب الشرط حذف العمائم
ليعلم من بالنصب يرفع نفسه
…
بأن حروف الخفض غير الجوازم
ويعلم من أعياه تصريف اسمه
…
بأنا صرفناه كصرف الدراهم
نصبنا على حالٍ من العلم والعلى
…
وكنا على التمييز أهل المكارم
لأنا رأينا كل ثور معمم
…
يكلف قرنيه بنطح النعائم
يجر من الإذلال فضل كسائه
…
كأن الكسائي عنده غير عالم
إذا نظر الكراس حرك رأسه
…
وصاح: أزيد قام أم غير قائم؟
وقال: المنادى اسم شرط مضارع
…
وظرف زمان نحو جاء ابن آدم
وجمعك للتكسير اسم إشارة
…
كقولك: نام الشيخ فوق السلالم
5-
وقد تغنى الشاعر في بعض قصائده بمصر وأمجادها، وإن لم يظهر من الروح الوطنية مثل الذي أظهره رفاعة الطهطاوي، فمن ذلك قوله مادحًا إسماعيل:
على أنها من جنة الخلد غيضة
…
رياض بها عين وأنت ضياء
فأبصرت فردوسًا تدانت قطوفها
…
وللنيل فيها كوثر وشفاء
ومصر هي الدنيا جميعًا وربها
…
عزيز وأهلوها هم النجباء
وكان الساعاتي يدرك أنه مطبوع على قول الشعر، وأنه استطاع أن ينجو ببعض شعره من آفات القول، وأوضار الشعر التي انتشرت في زمانه، وقبل زمانه، ويقول في هذا:
فلا تحسبني بالوضيع مكانهً
…
في القائلين وما أقول هذاء
ويقول:
وما أنا إلّا ناظم در فكرتي
…
ولم أنتحل فيما أقول وأسرق
ويقول:
وما أنا إلّا شاعر ذو طبيعة
…
ولست بسراق كبعض الأعاجم
على أن هذا كله لا يعفي الشاعر من أنه أراق ماء وجهه في الطلب؛ حيث يقول مادحًا توفيق باشا:
أريد ورودًا من نداكم لأرتوي
…
كما يطلب الصادي على البعد موردا
فسيرت آمالي دليل قصائدي
…
لنيل الأماني علَّ أبلغ مقصدا
وأنه كان يرى الشعر ثمنًا للمال، وأن المسألة بيع وشراء، وأخذ وعطاء:
مني المدائح والمنائح منكم
…
لا غبن إن كليهما آلاء
تعتاض من بذل النضار جواهرًا
…
هذا بذلك وفي البقاء نماء
وأنه أسرف في الصناعات اللفظية، واستعمال المحسنات البديعية، كما يدل على ذلك معظم شعره، وقد نظم قصيدةً كاملةً في مدح الرسول عليه السلام معارضًا بها ابن حجة الحموي، والبوصيري، وكل بيت منها يشتمل على محسن بديعيّ، وفيها يقول، وقد بلغ عدد أبياتها مائة وخمسين بيتًا:
براعة استهلال:
السفح الدموع لذكر السفح والعلم
…
أبدى البراعة في استهلاله بدم
التورية:
وكم بكيت عقيقًا والبكاء
…
بدر، وتوريتي كانت لبدرهم
الجناس التام:
أقمار تم تعالوا في منازلهم
…
فالصب مدمعه صب لبعدهم
وأن الشعر عنده -كما كان عند معاصريه- مهارة لفظية، وصناعة خالية من الروح والشعور، ومقدرة على صياغة منظومة، فمن ذلك قوله موريًا:
قالوا: اتخذ لك خادمًا، فأجبتهم:
…
أنّى يكون لناظم الشعر الرقيق؟
قالوا: التمس لك طيب عيش، قلت: لا
…
يرجى لرب اللفظ والمعنى الدقيق
وقوله في الجناس، وكل القصيدة على هذا المنوال:
أيا من به صار الزمان سعيدًا
…
ومن كل وفاه آنس عيدًا
أما التأريخ الشعريّ، والألغاز فكثيرة.
هذا، وقد شغل الساعاتي عدة مناصب في الدولة، فمن موظف بالمعية، إلى موظف في مجلس الأحكام المصرية "وكان بمثابة هيئة الاستئناف العليا في عهدنا"، وكان يرأسه الأمير إسماعيل في عهد سعيد، ومدح من حكام مصر في العهد السابق سعيدًا، وإسماعيل، وتوفيقًا، ومات في سنة 1298هـ-1880م، قبل أن تندلع الثورة العرابية.
4-
عبد الله فكري:
وهو يمثل المدرسة الثالثة من المقلدين، تلك المدرسة التي قلد أربابها بلغاء القرن الرابع؛ كالصاحب بن عباد، وابن العميد، وقلدوا كذلك في حياتهم وأسلوبهم وتنميق رسائلهم القاضي الفاضل، وابن مطروح، واستطاعوا بما أوتوا
من تضلع في اللغة، وتمكن من الأدب، وذوق مرهف حساس ألَّا يكونوا صدًى لهؤلاء الكُتَّاب القدامى، بل أضفوا على ما كتبوا طابعهم وشخصيتهم، ومثَّلوا عصرهم بعض التمثيل، فتشعر حين تقرؤهم أنك تقرأ كتابًا في القرن التاسع عشر، وذلك لخوضهم في الموضوعات الحيوية للبلاد، ولتخلصهم في بعض الأحيان من قيود الماضي جملةً، فلا سجع ولا تنميق ولا تزويق ولا محسنات، وإنما يتبعون طريقة ابن خلدون في الترسل، مع متانة نسج، وحسن عرض، وإن كانوا في كثير من الأحيان، ولا سيما حين يحتفلون بكتاباتهم، أو يراسلون عظيمًا أو أديبًا، أو يتحدثون عن لسان السلطان أو الأمير، يعمدون إلى الأسلوب الشعريّ المنثور، بما فيه من خيالٍ وسجعٍ، وفقراتٍ تختلف طولًا أو قصرًا، ويزخرفون كتاباتهم ويرصعونها بشتَّى الحلى اللفظية والمعنوية، وهنا تتضاءل شخصية بعضهم، وتحافظ شخصية آخرين على وجودها في وسط هذه الزينات والتقاليد تبعًا لتمكن الكاتب من موضوعه، وحذقه للغة، ومتانة شخصيته، وتمييز خصائصها.
كان لديوان الإنشاء في الدولة العربية منزلةً ساميةً، يتوصل به الكاتب والشاعر إلى أرقى مناصب الدولة، منذ سهل بن هارون، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وابن العميد، والقاضي الفاضل، وابن مطروح، وقد مضى على مصر حين من الدهر استعجمت فيها لغة الدواوين، وسادت التركية، وصدرت بها قوانينها ورسائلها، ووصلت العربية الحضيض، ولم يبق فيها إلّا ذماء يسير، وحاول إسماعيل -كما ذكرنا- بعث اللغة العربية، وترجمة القوانين التي صدرت من عهد محمد علي حتى أيامه من التركية إلى العربية، كي يسهل عليه الانفصال عن الدولة العثمانية حينما تلوح الفرصة، وقد كان لعبد الله فكري يد كريمة في هذا العمل الجليل، فبعث اللغة الديوانية، لا ركيكة ولا سخيفة، بل ممتلئةً رونقًا وقوةً، فصار نموذجًا يحتذى، وأستاذًا يأخذ الناس عنه طريقة الكتابة الديوانية، وتدبيج الرسائل الأدبية.
ولد بالحجاز سنة 1250هـ-1834م، من أب مصريّ1 وأم من بلاد المورة، وعاد به والده إلى مصر بعد عودة جيوش محمد علي من الحجاز، ولكنه توفي ولما يبلغ عبد الله الحادية عشرة من عمره، فكفله بعض أقاربه، ودخل الأزهر، وتلقى العلوم المتداولة على كبار مشايخه، وكان في نفس الوقت يدرس اللغة التركية، فلما حذقها عُيِّنَ في القلم التركيّ في الديوان الكتخدائي، وظل مع اشتغاله بالوظيفة يتردد على الأزهر، والتحق بعدة وظائف ديوانية، ثم عُيِّنَ بمعية سعيد، وتولَّى فيها تحرير الرسائل الديوانية بالتركية والعربية، وظلَّ في منصبه حتى تولى إسماعيل عرش مصر، فأبقاه وقربه وسافر معه مراتٍ إلى الآستانة، ثم عهد إليه بتثقيف أولاده وغيرهم من أمراء الأسرة، فكان يباشر تعليمهم أحيانًا، أو يشرف على المدرسين أخرى، ولما نُقِلَ إلى وزارة المالية، كان له الفضل في جمع الكتب الموجودة بها، وضمها إلى دار الكتب حين أنشأها علي مبارك. وبعد ذلك عهد إليه بترجمة اللوائح والقوانين، وتنقيحها، فأدى هذه المهمة الجليلة على أكمل وجه، ثم عُيِّنَ وكيلًا لديوان المكاتب الأهلية، فرفع مستواها وجعلها صالحةً لتغذية المدراس الأميرية، فوكيلًا لنظارة المعارف مع شغله منصب الكاتب الأول في مجلس النواب، وقد ارتفعت طريقة تعليم العربية على يده، وهجرت طريقة الأزهر، ثم عُيِّنَ وزيرًا للمعارف في وزارة محمود سامي البارودي، ولما استقالت الوزارة بسبب الثورة العرابية، اتهم بممالأته للثوار بعد انتهاء الثورة، وقبض عليه، ولكنه برئ، فأطلق سراحه، وعاقبوه بقطع راتبه، فراح يستعطف الخديوي توفيق، وقال في ذلك قصيدته المشهورة:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى
…
وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
1 أبوه محمد بليغ بن الشيخ عبد الله، وكان الشيخ عبد الله، من علماء المدرسين بالأزهر، أما محمد والد عبد الله فكري فكان مهندسًا بالجيش، ووصل فيه إلى رتبة صاغ، وحضر عدة مواقع حربية منها حرب المورة، وفيها تزوج أم عبد الله فكري، وولدته بالحجاز حين ذهبت مع زوجها في الحرب السعودية.
فعفا عنه توفيق، وأعاد إليه راتبه، وقام بعد ذلك بعدة رحلات إلى الحجاز ولبنان، ولقي فيهما كل ترحاب وإجلال لمكانته الأدبية، ولما رأى فيه أهلها من سعة علم وعظيم فضل وحسن حديث.
وفي سنة 1888 مَثَّلَ مصر في مؤتمر المستشرقين باستكهلم عاصة السويد، وصحبه نجله أمين باشا فكري، وقام بسياحة عظيمة شهد فيها معظم عواصم أوربا، ولما عاد عكف على تدوين رحلته، ووصف ما شاهد من المناظر في أوربا، وما رأى من آثار الغرب، وكيف استطاع العقل البشريّ أن يسخر الطبيعة ومواردها لخدمة الإنسان، غير أن المنية لم تمهله، فقضى بعد عودته بزمنٍ وجيزٍ، وأتم نجله أمين كتابة الرحلة، وسجلها في كتاب أسماه:"إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا" في سنة 1892، هذا وقد توفي عبد الله فكري سنة 1307هـ -1889م.
ونرى من حياته التي سردنا تاريخها موجزًا، أنه ديوانيّ النشأة والمربى والعمل، فلا بدع إذا تجلّى أثر عبد الله فكري في الكتابة الديوانية، ولما كنا في صدد ذكر الشعراء الذين ظهروا في عصر إسماعيل، والمدارس التي ينتمون إليها، وقدَّمنا أن عبد الله فكري يمثل إحدى هذه المدارس التقليدية، وكان حريًّا بنا أن نذكر نماذج من شعره، على أنه يمثل بكتابته تلك المدرسة التي تظهر فيها شخصية الكاتب والأديب واضحةً أكثر مما يمثلها بشعره، بل إن شعره لينتمي إلى مدرسة علي أبي النصر أو الساعاتي، وذلك لأن عبد الله فكري تفوق في نثره تفوقًا باهرًا، وكان أكثر منه شاعرًا.
كان يمثل في شعره مدرسة الصنعة لا مدرسة الطبيعة، يؤرخ لكل مناسبة، ويشطر يقول الألغاز والأحاجي، ويقول كما يقول الندماء في وصف الآنية ومجالس الأنس والأزهار وغير ذلك، ويكثر من المحسنات ينتزعها انتزاعًا، ويحشرها حشرًا شأن المدارس التقليدية، وقلما انطلق على سجيته، وترك نفسه لطبيعتها.
اسمعه يؤرخ زواج الأمير حسين كامل بالأميرة عين الحياة:
بشر بأحسن فألٍ
…
يقول والقول يصفو
أرّخ لنحو حسين
…
عين الحياة تزف
ويقول في هذه المناسبة:
بشرى يطالع سعد
…
بالبشر واليمن آتٍ
تزف للبدر شمس
…
تسموا على النيرات
بخير فأل سعيد
…
يومي لطول حياة
يقول والفأل حق
…
عن سيد الكائنات
أرخ لنحو حسين
…
تزف عين الحياة
94 128 487 130 450
المجموع 1289.
ويؤرخ لانتصار الأتراك على الروس، وأخذهم ميناء "سباستبول" بعد تخريب قلاعها سنة 1272هـ، وكل مصراع من المطلع يساوي هذا التاريخ.
لقد جاء نصر الله وانشرح القلب
…
لأن بفتح القرم هان لنا الصعب
وقد ذلت الأعداء من كل جانب
…
وضاق عليهم من نفيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط هولها
…
يكاد يذوب الصخر والصارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت
…
كئوس منون قصرت دونها السحب
تجرع آل الأصفر الموت أحمرًا
…
وللبيض في مسود هاماتهم نهب
تراهم سكارى، للظبا في رءوسهم
…
غناء، ومن صرف المنايا لهم شرب
وقد سقنا مع البيت الأول الذي فيه التأريخ بعض أبيات من هذه القصيدة لنرى مدى قوته في وصف الحرب، وقد مرَّ بنا شاعر معاصر له، أو قريب منه، أجاد في هذا الغرض، ألا وهو الساعاتي، إن أثر الصنعة، وضعف النسج، وضحالة الخيال، وتفاهة المعاني، واقتناص المحسنات، كلها محشودة في هذه الأبيات.
وهاك مثلًا آخر يقلد فيه القدماء في معانيهم وأخليتهم، بما لا يناسب قاهريته وحضارته، فتشبيهاتٌ قديمة، وخيالٌ سخيفٌ، وديباجة ضعيفة، وجري وراء المحسنات، وموضوع هذه القصيدة المديح، وقد ابتدأها بالنسيب كما كان يفعل القدماء قال:
أزاحت ظلام الليل عن مطلع الفجر
…
وقامت تدير الشمس في كوكب دري
وهزت على دعص النقا غصن بانة
…
ترنح في أوراق سندسه الخضر
ومالت بها خمر الصبا مثلما انثنت
…
نسيم الصبا بالأملد النام النضر
من الترك لم تترك لصب محجة
…
إلى الصبر أو نهجًا لعذل إلى العذر
وبيضاء سوداء اللحاظ غريرة
…
من الغيد ريا الردف ظامئة الخصر
ممنعة لا تجتني ورد خدها
…
يد اللحظ إلا بين شوك القنا السمر
من الروم مثل الريم جيدًا ولفتةً
…
ولحظًا ومثل الغص والشمس والبدر
فهي لم تترك نصب محجة إلّا أنها من الترك، وهي مثل الريم جيدًا، ولفتة لأنها من الروم، ومالت بها خمر الصبا مثلما انثنت نسيم الصبا بالأملد النضر، وهزت على دعس النقا غصن بانة.. وغير ذلك من هذه العبارات المحفوظة والقوالب المعدة، وذلك الوصف الماديّ الرخيص الذي لا يمثل المرأة إلّا سلعةً.
وقد قال في الأغراض التي نظم فيها كتاب الدولة الأيوبية ورؤساء دواوين الإنشاء، فكان يصف الآنية والأزهار، ويشبه بالنفائس على طريقة الظرفاء المقتدى بهم في عصر الأيوبيين وما بعده، خلال المنادمات والمطارحات، فمن ذلك قوله يصف نارًا موقدة في فحم حوله رماد:
كأنما الفحم ما بين الرماد وقد
…
أذكت به الريح وهنا ساطع اللهب
أرض من المسك كافور جوانبها
…
يموج من فوقها بحر من الذهب
وقال في الورد:
كأن وردًا في كمه
…
يزهو بثوبي خضرة واحمرار
ياقوتة في سندس أخضر
…
أو وجنة خط عليها العذار
وكان يقول الشعر في أغراض التظرف مثلما قالوا، وله في هذا بعض المقطوعات الصغيرة، فمن ذلك قوله مجيبًا مليحًا، قال له: كيف أصبحت؟
أصبحت من فرط وجدي فيك ذا شجن
…
وكانت الروح كادت أن تفارقني
فمذ لقيتك كل الهم فارقني
…
وألف الله بين الروح والبدن
وقال في مليحٍ رآه أول الشهر مستعملًا الجناس التام:
وبدر تبدّى شاهرًا سيف جفنه
…
فروع أهل الحب من ذلك الشهر
وليلة أبصرنا هلال جبيته
…
علمنا يقينًا أنها غرة الشهر
وقال يتغزل:
كتبت ولولا دمع عيني سائل
…
تلظّى جوابي من تلهب أنفاسي
وعندي من الأشواق ما لم يبح به
…
لسان يراع في مسامع قرطاس
ولي من تباريح الهوى وشجونه
…
أحاديث تلهي الشرب عن لذة الكأس
ولو كنت من دهري أنال مآربي
…
لسرت لكم سعيًا على العين والرأس
وكتب يعتذر للشيخ عبد الهادي نجا الإبياري عن دعوة وصلته منه متأخرة1.
يا من بديع حلاه
…
تزري البديع وتنسى
وفات عقيلة نظم
…
تتلوا فصاحة قس
كالبدر لاح سناه
…
من بعد مغرب شمس
فغادرتني صريعًا
…
نشوان من غير كأس
فمن بالعفو إني
…
منه على غير بأس
وإن عتبت فحق
…
وما أبرئ نفسي
1 وصلت رقعة الشيخ الإبياري بعد غروب الشمس وفيها يقول:
يا نور فكري وسري
…
وروح روحي ونفسي
لدى شامة شام
…
لطيف معنى وحس
يود كل أديب
…
لقياه رغبة أنس
فإن تمن فشرف
…
من قبل مغرب شمس
وكتب إلى أحمد فارس الشدياق ردًّا على قصيدةٍ له:
تفديك نفس شج عليل آسى
…
عز الدواء له وحار الآسى
أضناه طول أساه حتى إنه
…
يحكي لفرط ضناه ذاوي الآس
هزته سارية النسيم، وقد جرت
…
بشذا فروق أريجة الأنفاس1
فكأن في طي الشمال، إذا انثنى
…
من نشرها طربًا، شمول الكاس2
وكأنها حملت إليَّ رسالة
…
غراء جاءت من أغر مواسي
كمليحة عذراء وافت صبها
…
من بعد طول تعذر وشماسي
يفتر مبسمها بحسن حديثها
…
عن سحر فاتن جفنها النعاس
تدنو فيطمع عاشقيها أنسها
…
ويشير عز دلالها بإياس
أو روضة فيحاء حياها الحيا
…
من صوب محلول العرى رجاس3
ولك هذا الذي رويناه له شعر مصنوع لا يفصح عن طبع وسليقة، أو شعور دفعه إلى القول بما يختج في نفسه، ومن هذا النمط قوله في الحكمة والمواعظ:
إذا رمت المروءة والمعالي
…
وأن تلقى إله العرش برًّا
فلا تقرب لدى الخلوات سرًّا
…
من الأفعال ما تخشاه جهرًا
وقوله ينصح ولده أمين وهو صغير:
إذا نام غر في دجى الليل فاسهر
…
وقم للمعالي والعوالي وشمر
وخل أحاديث الأماني فإنها
…
علالة نفس العاجز المتحير
وسارع إلى ما رمت ما دمت قادرًا
…
عليه، فإن لم تبصر النجح فاصبر
ولا تأت أمرًا لا ترجى تمامه
…
ولا موردا ما لم تجد حسن مصدر
وعود مقال الصدق نفسك وارضه
…
تصدق، ولا تركن إلى قول مفترى
ودع عنك إسراف العطاء ولا يكن
…
لكفيك في الإنفاق إمساك مقتر
ولا تقف زلات العباد تعدها
…
فلست على هذا الورى بمسيطر
1 فروق من أسماء استامبولي
الشمول: الخمر.
محلول العرى: المطر الغزير الذي لا يحجبه شيء، والرجاس: الشديد الصوت.
وهذا من الشعر التعليميّ الذي لا ينبيء عن خيال عميق؛ لأن الحكمة نظم للحقائق المجردة، والحقيقة المجردة منتزعة من صميم الوجود، وقائل الحكمة السائرة عالم بطباع الناس، يضع العالم أمام ناظريه، ويشرف عليه من علٍ، وكأنه ينظر في كفه فيستقري الحوادث والطباع، ثم ينطق بالحكمة تصلح لكل زمان ومكان، من أمثال ما نظم المتنبي وغيره من فحول الشعراء، وأين منهم عبد الله فكري في مواعظه المدرسية هذه؟ على أنها تعد من خير شعره وأسلسه وأوضحه.
ومن شعره، وربما كان فيه من الشاعرية، لصراحته وتصويره نفسية امرأة فرنجية تتجر بعرضها، وتتهافت على المال، وما حدث له معها:
وهيفاء من آل الفرنج حجابها
…
على طالبي معروفها في الهوى سهل
تعلقها، لا في هواها مراقب
…
يخاف ولا فيها على عاشق بخل
إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة
…
من الأصفر الإبريز زل بها النعل
فلما تعرضنا الحديث تعرضت
…
لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل
فرحت بها في حيث لا عين عائن
…
ترانا، ولا بعل هناك ولا أصل
وبت ولي سكران من خمر لحظها
…
وراح ثناياها، ومن خدها نقل
وقمت ولم أعلم بما تحت ثوبها
…
وإن كان شيطاني له بيننا دخل
ومن خير شعره قوله:
أنسيت ليلتنا وقد خلص الهوى
…
منا، وحبل الوصل وهو متين
بتنا على فرش العفاف وبيننا
…
نجوى ترق لها الصفا وتلين
ومن أحسن شعره قصيدته التي يعتذر فيها للخديو توفيق، ويتنصل من اشتراكه في الثورة، ويطلب إرجاع راتبه المقطوع، وإن كانت معانيها مما يخطر لكل شاعر وليس فيها جديد، وهي تنبيء عن تلك الروح الذليلة التي تمثلت في كبار رجال الدولة إبّان عصور الظلم:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى
…
وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
وقف خاضعًا واستوهب الإذن والتمس
…
قبولًا وقبل سدة الباب لي عشرا
وفيها يقول:
مليكي ومولاي العزيز وسيدي
…
ومن أرتجي آلاء معروفة العمرا
لئن كان أقوام عليَّ تقوَّلُوا
…
بأمر فقد جاءوا بما زوروا نكرا
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
…
وبالباب والميزاب والكعبة الغرا
لما كان لي في الشر باعٌ ولايد
…
ولا كنت من يبغي مدى عمره الشرا
ولكن محتوم المقادير قد جرى
…
بما الله في أم الكتاب له أجرى
أتذكر يا مولاي حين تقول لي
…
وإني لأرجو أن ستنفعني الذكرى
أراك تروم النفع للناس فطرة
…
لديك، ولا ترجو لذي نسمة ضرا
فعفوًا أبا العباس لا زلت قادرًا
…
على الأمر، إن العفو من قادر أحرى
أيجمل في دين المروءة أنني
…
أكابد في أيامك البؤس والعسرا
ولعلنا بعد لك هذا الذي رويناه له، قد أخذنا فكرةً واضحةً عن منزلته بين الشعراء، وقد ذكرنا آنفًا أنه اشتهر بالكتابة، وأنه كاتب أديب أكثر منه شاعر، وشعره في الواقع قليل إذا قيس بما ترك من مقالات ورسائل، وكتب وشروح وغير ذلك.
نثره:
استطاع عبد الله فكري أن يرتقي بالكتابة الديوانية، وأسلوب الرسائل والمكاتبات إلى منزلة سامية، وأعاد إلى الأذهان عصر رؤساء ديوان الإنشاء في العصور القديمة، واتخذ له خاتمًا {إني عبد الله آتاني الكتاب} ، لأن هذه الآية وافقت سنة ميلاده 1250هـ، كما كان لهؤلاء الرؤساء خواتم.
وكان له أسلوبان في نثره: أحدهما: وهو الغالب، وبه كتب أكثر رسائله، هو ذلك الأسلوب الذي يحتفي بعبارته، وموسيقاه، ويختار ألفاظه، وبه خيال شعريّ، ومعانٍ دقيقة معارضًا فيه أسلوب القاضي الفاضل، أو بديع الزمان، أو الخوارزمي، أو ابن العبيد، وثانيهما: أسلوبٌ مرسلٌ سهلٌ يجري مجرى الكلام العاديّ، وهو أسلوب الصحافة في عهده، ولكنه قليل فيما ترك من آثار.
ومن الأسلوب الأول قوله من رسالةٍ لصديق، بَيَّنَ فيها أحوال أهل العلم في عصره، منتقدًا هذه الأحوال، متهكمًا بهم في لهجةٍ ساخرةٍ لاذعةٍ، قال: "كتبت والذهن فاتر من وهن الدفاتر، والتبييض والتسويد، والتقييد، والتسديد، والترجمة وكثرتها، والهمة وفترتها، والماهية وقلتها، النفس وذلتها، وراتبي لا يكفي أجرة البيت، ولا يفي ثمن الماء والزيت، وبالأمس وعد الوكيل بالزيادة، واعتذر اليوم بالأصيل على العادة، على أنه لو حصلت زيادة، فلزيد ولعمرو، إلى آخر الزمر، ولله الأمر، أحوال متبددة، ونفوس متبلدة، وأشغال متعددة، وإخوان خُوَّان، وخلان غيلان، ورفاق، وما أجمل الفراق.
وقلت:
إلام أعاني الصبر والدهر غادر
…
وحتى متى أشكو وما لي عاذر
ولو أنني أشكو عظائم شدتي
…
لميت لرقت لي العظام النواخر
وسألت عن فلان وفلان، وهيان بن بيان، ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتظاهر بشعار فضله، ولو كان العلم بلحيةٍ تعظم وتطول، وشوارب تحفّ وتستأصل، وعيون على ما بها من غمضٍ ورمضٍ تكحل، وعمامة تعظم حتى ترذل، وطيلسان يلف ويسدل، وكم يوسع ويسبل، وأحاديث خرافة تقص وتنقل، ومحفظة تفعم وتثقل، وسواك يظهر من العمامة نصفه، وكتاب يخرج من الجيب طرفه، ثم بتشدق في الكلام، وبتباله في المرام، وتعسف في الأفهام، وحرص على الحطام، ثم يقول الإنسان: حضرت درس فلان، وسمعت من لفظه باللسان، وقضيت في العلم كذا سنة من الزمان، فهم أعلم من أقلته الغبراء، وأفقه من أظلته الخضراء، وإن كان للعلم غير هذه الآلات، فما لهم سوى هذه الحالات، غاية الأمر أنهم قضوا أرذل العمر في كتب معدودة، وشروح موجودة، وهم يكررونها ولا يدرونها، ويقررونها ولا يحررونها، ويتداولونها ولا يعقلونها، ولو صرف حماري هذا العمر فيها، لأصبح فقيهًا، وأضحى نبيهًا، والذي يظهر مينهم وشينهم، وعلامة ما بيننا وبينهم، أن يؤمر أحدهم برقعةٍ تكتب لحاجة معهودة،
ويمتحن بكتاب غير هذه الكتب المعدودة، فيه بعض كلام العرب وأشعارها، وشيء من وقائعها وأخبارها، فإن كتب فصيحًا، وفهم مليحًا، عرفنا أنه شم عرف العلم وذاق طعم الفهم، وسلمنا إليهم ما يدعون، وتركنا لهم ما يأتون وما يدعون، وإن ارتبك للرقبة، ووقف حمار الشيخ في العقبة، عرفنا حاله وقلنا له:
أيها المدعي سليمى سفاهًا
…
لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواو
…
ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو
وقد مررت بالأمس على أحدهم في الدرس، يقرأ القطر لابن هشام، ويلحن لحن العوام، ومررت بالأمس بآخر يدرس الكافي في علمي العروض والقوافي يقرر له:
قف على دراهم وابكين
…
بين أطلالها والدمن
فلا وربك ما أقام له وزنًا، ولا عرف له معنى، مع سهولة مبناه وظهور معناه
…
إلخ.
ومن هذا النثر المسجوع قوله يصف حديقة:
ثم خرجت إلى حجة حالية، أعدت فيها فرش عالية، وأدوات غالية، وسطعت بها روائح الطيب والغالية، وقد أكملت وجوه تحسينها، وأتمت أسباب تزيينها، وهي على حديقة ذات أفنان، وأنواع من الزهور وألوان، وثمرات حسان، وقد فاح الطيب من محاجر أزهارها، وصاح خطيب العندليب على منابر أشجارها:
رياض كديباج الخدود نواضر
…
وماء كسالسال الرضاب برود
فجلست أجيل فيها الظر، أتأمل محسان الروض غب المطرن وأطالع ما رقمه الطل في صحائف الغدارن، وأرى خواتم الزهر حين تسقط من أنامل الأغصان:
من قبل أن تشرف شمس الضحى
…
ريق الغوادي من ثغور الأقاح
ومن ذلك الضرب من النثر الذي يذكرنا بكُتَّاب الإنشاء في الدولة الأيوبية وما قبلها، وفيه بعض القوة والعافية في سجعاتٍ قصيرة الفقرات نوعًا قوله من رسالة:
سلام يعبر عن الوداد طيب عبيره، ويخبر عن إخلاص الفؤاد لطف تعبيره، وثناء على محاسن تلك الشمائل، أرق من نسمات الشمائل1، وتحية بهية تباهي الخمائل بنفحات أورادها، وأدعية مرضية جعلتها الألسنة خير أورادها، وسؤال عن المزاج الزاهر، وصحة الخاطر الباهر، لا زلتم محل نعمة يتصل على مدى الأيام بقاؤها، ويزيد على مر الشهور الأعوام بهاؤها، ولابرحت ثغور الإقبال إليكم بواسم، ورياح الآمال لديكم مواسم.
وبعد، فإني بي من الأشواق، ما تضعف عن حمله إلى حماكم الأوراق، ومن التأسف على ما حرمته من لقياكم، والتهلف إلى مطالعة محياكم، ما يقصر عن وصفه لسان اليراعة، ويقصر دون وصفه بيان البراعة، ويضيق عنه نطاق العبارة، ولا ينفسح له ميدان الإشارة.
ومن رسائله التي تذكرنا بأسلوب العصر العباسيّ الثاني، عصر الصاحب بن عباد، والخوارزمي، وابن العميد قوله معزيًا:
يعزُّ عليَّ أن أكاتب سيدي معزيًا، أو ألم به في ملمة مسليًا، ولكنه أمر الله الذي لا يقابل بغير التسليم، وقضاؤه الذي ليس له عدة سوى الصبر الكريم، وقد علم مولاي "أجمل الله صبره، ولا أراه من بعد إلّا ما سرَّه، وشرح صدره" أن الله -جل ثناؤه وتباركت آلاؤه- إذا امتحن عبده فصبر، آجره وعوضه بكرمه، كما أنه إذا أنعم عليه فشكر زاده، وضاعف له نعمه، وقد عرف من حال سيدي في الشكر على السراء، ما يستوجب المزيد منها، والظن بحزمه وعلمه أن يكون حاله في الصبر على الضراء ما يستجلب الأجر والتعويض عنها.
1 الشمائل الأولى: الطباع، والشمائل الثانية: جمع شمال.
قد استعمل عبد الله باشا فكري الأسلوب المسجوع في كل بابٍ وغرضٍ، حتى في التقارير الفنية، والمنشورات العامة و"الفرمانات" فمن ذلك صورة "الفرمان" الآتي بتنصيب محافظ:
"صدر هذا الفرمان المطاع، الواجب له القبول والاتباع، خطابًا إلى الحكام والعلماء، والقضاة والأعيان، والوجوه والعمد ومشايخ البلدان، وعموم الأهالي المتوطنين محافظة كذا بجهات السودان، ليكون معلومًا لديكم بوصول هذا المنشور إليكم، أنه قد نصَّت إرادتنا تنصيب فلان محافظًا عليكم، لما توسمناه فيه من الدراية، والاستعداد والسلوك في طرق الرشاد، وبذل الهمة في أمور المصلحة ومزيد الاجتهاد
…
إلخ".
ومن هذه النماذج المتقدمة نرى أن هذا الأسلوب على ما به من سجعٍ، فإنه سهلٌ متين العبارة، تقل فيه المحسنات المتعمدة، ويطرق أغراضًا متعددة؛ منها: الديواني البحت، ومنها: ما يستعمل فيه الشعر، وقد أفاد هذا الأسلوب الكُتَّاب من بعده، وصار لهم قدوةً ولكنه أخر تخلص النثر من طريقة هذه المدرسة الديوانية حتى أوائل عصرنا الحاضر؛ لأن أرباب هذا الأسلوب شغلوا المناصب الرفيعة، فظن الشادون في الأدب أنهم لو قلدوهم لوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فتمسكوا بأسلوبهم أمدًا غير يسير، والحق أن الغرض الأدبيّ المهم يحتاج إلى عبارةٍٍ خاصةٍ يحتفي بها الكاتب بعض الاحتفاء، ويضعها في قالب جميل تناسب الغرض الذي قيلت فيه، حتى لا تذهب بنفاسة الموضوع تفاهة العبارة، وتجويد العبارة محبوب مرغوب فيه على شريطة ألّا يضحي بالمعنى من أجل لفظة، أو سجعة، أو محسنٍ خاصّ.
ولقد استطاع عبد الله فكري أن يسترد بأسلوبه هذا للغة العربية مكانتها التي فقدتها عدة قرون، وأن يزيح التركية من أمامها، ويثبت قدميها في الدواوين، وفي لغة الرسائل، واضحة، أدبية، جذابة.
أجل! لم يكن عبد الله فكري من هؤلاء الذين طرقوا موضوعات جديدة في كتاباتهم، بل استخدموا مقدرتهم البلاغية في الأغراض القديمة من تعزية وتهنئة، ووصف ومدح، واعتذار وعتاب، ومنشورات على لسان الأمير، وتقارير عن مهمات وكلت إليهم، وغير ذلك من الأغراض المطروقة، ولم يكن للأفكار الجديدة، ولا
للأغراض القومية أي تأثير عليه، وقد زاد نفوذ الأجانب، وقامت الثورة العرابية، ونكبت مصر بالاحتلال، ولم يسمع له كلمة تعبر عن هذه الأحداث، ولم يتألم لألم وطنه وذلته، كما تألم الشدياق، وأديب إسحاق، وعبد الله النديم، وجمال الأفغاني، وغيرهم، وما ذلك إلّا لأنه كان مثال الموظف الديوانيّ المخلص، البعيد عن الاشتغال بالمسائل العامة، والأمور الهامة.
ومن الأسلوب المرسل الذي تأثر فيه رجال الصحافة لعهده، ولا سيما أسلوب الجوائب، قوله من رسالة بعث بها إلى المرحوم عبد الله أبي السعود صاحب جريدة "وادي النيل":
"قد كنت وعدت فيما حررته سابقًا أني أكاتب حضرتكم بعد بما تيسر على حسب الإمكان، ومساعدة الزمان، والآن أريد أن أخبركم بمحاورة جرت بيني وبين بعض المتورعين من الناس فيما يتعلق بصحيفة "وادي النيل" وكتاب الجغرافية المطبوع في وريقاتها، وذلك أني رأيته ينكر على حضرتكم بعض المباحث المندرجة في ذلك الكتاب؛ ككون الأرض كرة، والقبة السماوية متخيلة، وما قيل في كيفية الكسوف والخسوف، ونحو ذلك، بعد اعتراف منه بأن الكتاب المذكور كتابٌ مناسب في موضوع مهم تدعو إليه الحاجة لمعرفة مواقع البلاد ومحالها، وأقسام الأرض وأحوالها، فإن هذا لا تنكر مزيته وفائدته في السياحة والتجارة وأمور التمدن والحضارة، فقلت له: قد علمت أن منشيء "وادي النيل" ليس مؤلف الكتاب المذكور، وإنما هو مترجم له، والمترجم ناقل ليس عليه عهدة ما ينقله، وإنما يلزمه صحة النقل، وتوفية حق الأداء على صحته، ولا يلزمه ما يترتب على الأصل المنقول عنه من نقدٍ ومؤاخذةٍ بعد عزوه لأصله، ونسبته إلى قائله، فلو سلم أن جميع تلك المباحث مما ينكر، فما عليه شيء من ذلك، فقد قالوا: إن ناقل الكفر ليس بكافر
…
إلخ1 وهي رسالة طويلة تقع فيما يقرب من عشرين صفحة.
ومن نثره المرسل كذلك قوله في تقريرٍ عن رحلته إلى استوكهلم؛ حيث حضر مؤتمر المستشرقين:
1 راجع الآثار الفكرية 221-222.
"ثم أشير إلي فقمت، وأنشدت قصدةً كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس، فأتممتها في الطريق، وبيضتها في استوكهلم، فابتدأت أقول:
اليوم أسفر للعلوم نهار
…
وبدت لشمس نهارها أنوار
ومضيت فيها إلى آخرها، وصفق الناس لكل من خطب، وبالجملة لي لما أتممت الإنشاد، وخاطبني أناس منهم باستحسنانها في اليوم، وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها، وساورني يطلب نسختها، فأخذها في الحفلة، وخطب بعد ذلك أناس منهم "المسيو شفر" وافد فرنسا، وكانت هذه الحفلة خاصة بعد ذلك ليس في تقديم موضوعات علمية
…
إلخ".
على أن عبد الله فكري لم يكثر من هذا الأسلوب المرسل، وإنما كان من غواة النثر المسجوع، وهو بأسلوبه يمثل دورًا هامًّا مرَّ فيه النثر العربيّ من مرحلة الغثاثة والركاكة، إلى مرحلة القوة وتوخي الفصاحة وقواعد اللغة، بل والتأنق في الأسلوب، ولم يذهب تقليده لرؤساء ديوان الإنشاء في القديم بشخصيته وطابعه، بل لا يزال يعطينا صورةً عن عصره، ولم يأسره حب البديع ومحسناته، فيذهب بمعانيه بإغراقه فيه.
آثاره:
وتوفي سنة 1890، وله عدة مؤلفات منها: المقامة الفكرية في المملكة الباطنية، المطبوعة سنة 1289هـ، ومنها الفوائد الفكرية، وشرح بديعية محمود صفوت الساعاتي، ومنها جزء من شرح ديوان حسان بن ثابت، وكتاب "نظم اللآل في الحكم والأمثال" وكتاب "آثار الأفكار ومنثور الأزهار" طبع منه تسع ملازم بروض المدراس"، ومنها الفصول الفكرية للمكاتب المصرية، ورسالته التي كتبها في المقارنة بين الوراد في نصوص الشرع، والمقرر في علم الهيئة الفلكية، وغير ذلك من المراسلات والمقالات، وله أيضًا "إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا" وقد أتمه ولده أمين بعد وفاته، وقد جمعت معظم آثاره في كتاب الآثار الفكرية، وترجم له في أوله المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده.
هذا وقد كان لعبد الله فكري عناية برواية الحديث، وله طرق عديدة وأسانيد سديدة1.
5 -
السيد عبد الله الألوسي2:
ولد في بغداد من أسرة مشهورة بالعلم سنة 1248هـ-1832م، وتلقى العلم على والده، فعرف شيئًا من النحو ورويّ الشعر، وقرأ القرآن، والتفسير، والحديث، وغير ذلك من العلوم التي كانت تدرس في المساجد، والتي لا تزال تدرس في الأزهر حتى اليوم في الكتب الموروثة3.
ولم نترجم للسيد الألوسي، لأنه أديب نابغة، أو شاعر ملهم، وإنما لنعطي صورة عن الأدب في البلاد العربية إبَّان هذه الفترة التي نتحدث عنها، حتى نصدر حكمًا صائبًا عن الأدب العربيّ وتطوره، وأنه لم يكن في بلدٍ أحسن منه في أخرى، وأن النهضة أخذت تدب فيه شيئًا فشيئًا.
لم يعمر السيد عبد الله طويلًا، فقد مات سنة 1291هـ-1874م، عن ثلاثة وأربعين عامًا، وقد قضى هذه السنين القصيرة عليلًا سقيمًا، واشتغل بالتدريس حقبةً في بغداد، واشتهر بحسن إلقائه، وتوضيحه لعويص المشكلات العلمية، ولكن الحياة لم تكن ميسرةً له، فمن أسرة كبيرة العدد، وصحة سقيمة، وإلى فقر وعدم تقدير، فعزم على الرحلة، وباع كل ما يملك، ويمم صوب الآستانة، ولكنه لم يصل؛ لأن قطاع الطرق سلبوه كل عتاده، وتركوه عاريًا في الصحراء، ولولا أن الله مَنَّ عليه بمن التقطه وأرجعه إلى بغداد، لقضى جوعًا وعريًا، ورجع صفر الكف من زاد الدنيا، ولم يكن ممن يجيدون التزلف والملق، فساءت حاله، وطالما عرض عليه القضاء قبل هذا فكان يرفضه ورعًا وزهدًا، بيد أنه الضائقة أحرجته، فاضطر إلى قبوله، وتولَّى قضاء البصرة سنتين ثم مات.
1 راجع الآثار الفكرية 9-11.
2 هو ابن السيد محمود الألوسي "أبو الثناء " الذي ترجمنا له سابقًا.
3 راجع أعلام العراق لبهجت الأثري، ص89.
وقد ترك عدة مؤلفاتٍ في علوم اللغة، وله شعرٌ لطيفٌ ومقالات أدبية جمعها ابنه السيد محمود شكري الألوسي، فوقعت في مائة صفحة، ومن نثره يصف مطرًا شديدًا متواليًا، وفيضان نهر دجلة، وهذا النثر يمثل مدرسة الصنعة والسجع والتكلف، أو انتزاع الاستعارات وحشدها ركامًا عجيبًا، وهو دون عبد الله فكري منزلةً ولا ريب من حيث الأسلوب، والفكرة، وتنوع الموضوعات، قال من رسالة بعث بها لأخويه يصف هذا المطر:
"
…
إنه "المطر" عند غروب شمس الأربعاء، تنفس بفم الشوق الصعداء، ورمى بوجه الأرض حصى من كف السماء، فناداه الليل -وقد تحقق أن الدائرة على الأرض- وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وحاك الدوي بمكوك الريح من سدى البخار ولحمته شققًا سودًا، وصبغها الليل فكانت ظلماتٍ بعضها فوق بعض، وطنَّبها خيمة على أكتاف العراق في الطول والعرض، واشتد الريح والظلام، وشرع جنى الليل يخوف صبي النهار، كلما أحس منه بقيام، حتى سلَّ الفجر قرضًا به الأبيض من غمده الأسود، وأغمد الليل قامة الجوزاء، بعد أن كان بها على النهار يتهدد"1.
6-
حسين بيهم2:
ولد مسين ببيروت سنة 1249هـ 1813م، وأخذ من العلم المعروف في عصره قسطًا غير قليل، ثم انقطع للتجارة، ولكن حنينه إلى العلم جذبه إليه ثانيةً فنال شهرةً، وتولى عدة مناصب كبيرة؛ كنظارة الخارجية، ورئاسة الأحكام العدلية، ومثَّلَ بلاده في مجلس النواب التركيّ مدةً، ولما عاد ترك الوظائف وتفرغ للأدب، ومن آثاره رواية أدبية وطنية مثلت مرارًا، وقرظها الأدباء، وشعره لا يتميز عن مدرسة أبي النصر والليثي، وقد وفيناه نعتًا عند الكلام عليهما، ومن ذلك قوله يؤرخ إنشاء "التلغراف" في بيروت:
1 راجع أعلام العراق، تجد فيه الرسالة كاملة، ص48-50.
2 أبوه: السيد عمر بيهم، وكان من أعيان بيروت وأدبائهم، ولا تزال أسرة بيهم حتى اليوم ذات مكانة في بيروت.
لله در السلك قد أدهشت
…
عقولنا لما على الجو ساق
فأعجب الكون بتأريخه
…
شبيه برق أو شبيه البراق
"1277"
وقال مشطرًا:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
…
وحباكها من فضله الرحمن
ناداك طائر يمنها وسعودها
…
نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة
…
واملك بها الغبراء فهي سنان
واصعد بها العلياء فهي معارج
…
واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وقال يعزي صديقًا بفقد ماله:
لقد غمنا والله والصحب كلهم
…
مصابٌ دهاكم بالقضا حكم قادر
كأن شرارًا منه طار لأرضنا
…
فأحرق أحشاء الورى بالتطاير
ولكننا قلنا مقالة عاقل
…
يسلم للباري بكل المظاهر
إذا سلمت هام الرجال من الردى
…
فما المال إلّا مثل قص الأظافر
فكن مثل ظن الناس فيك مقابلًا
…
لذا الخطب بالصبر الجميل المصابر
ولا تأسفن إذا ضاع مال ومقتنى
…
فربك يا ذا الحزم أعظم جابر
وإن حياة المرء رأس لماله
…
سلامته تعلو جميع الخسائر
وهو شعر بادي الضعف، كثير العوار، لا يحتاج منا وقفة أو نقدًا.
ب-
مميزاته:
إذا كانت الأحداث السياسية وتقلباتها الكثيرة، والثورات العنيفة، ويقظة الشعوب الشرقية والإسلامية، قد وضعت أمام الكُتَّاب مادةً خصبةً غزيرةً، وجعلتهم يخوضون في شتَّى الموضوعات؟ وإذا كانت الحال الاجتماعية، وما عليه الناس من فقرٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ قد دعت زعماء الإصلاح الاجتماعي إلى تشخيص الداء ووصف الدواء، وحَثّ الهمم على التخلص من تلك الرذائل، فإن ثمة عوامل أخرى نهضت بالنثر من حيث أسلوبه وألفاظه، وقد مر بنا ما قدمته حكومة إسماعيل للنهضة الأدبية من وسائل: كالمدارس والمكتبات العامة، وانتشار الصحف، وتشجيع المطابع على إيحاء تراث الآباء والأجداد، والقيام بترجمة شيء من أدب الغرب، وقد أضفى كل هذا على النثر طابعًا خاصًّا، فخلصه في الغالب من المحسنات البديعية التي كانت شائعةً في الكتابة الديوانية، وصرف الأدباء همهم إلى العناية بالمعاني لا إلى الألفاظ، اللهم إلّا في الموضوعات الأدبية البحتة، وخلا النثر من المبالغات الممجوجة، والأخيلة السخيفة، وانصرف عن المقدمات الطويلة التي كثيرًا ما تستهلك جهد الكاتب والقارئ جميعًا دون بلوغ الغرض الذي سيق له الكلام.
وكان من أثر هذا كذلك تغير طريقة الكتابة تبعًا لتغير طريقة التفكير: من تقصير الجمل، وفصل العبارات، وحبس كل واحدة منها على أداء معنًى واحد، واعتماد لون طريف في ترتيب الكلام وتبويبه، وسوق المقال في الغالب لأداء فكرة واحدة، واستحداث صيغ جديدة لأداء معانٍ جديدةٍ، والتجويز بكثير من المفردات لإصابة ما لا تطوله بأصل الوضع اللغوي.
ولقد رأيت من النماذج التي سقناها إليك أن موضوع هذا النثر، اجتماع، أو سياسة، أو أدب، ولقد تميز كل نوع من هذه الموضوعات بسماتٍ عامَّةٍ اقتضاها روح الموضوع وطريقة علاجه.