الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
الطباعة والصحافة:
الكتب غذاء العقول، وإذا لم يتيسر للعقل غذاؤه أجدب، والأمة التي تجدب عقولها لا تعرف كيف تحيا حياة الأناسيِّ، وتكون أمة من سائمة.
ولا ريب أن الكتب تُيَسّرُ ويسهل على الناس اقتناؤها والانتفاع بها، والاستنارة بمصابيحها، إذا كثرت وانتشرت، وساعد أولو الأمر على إذاعة الثقافة.
وقد كان القائمون على شئون مصر في مبدأ نهضتها، من أولئك الذين ألهموا حب الخير، ورزقوا العقل المفكر، والنظر الثاقب، فعملوا على نشر الطباعة في مصر.
ليست مطبعة بولاق أول مطبعةٍ عربيةٍ في العالم، ولكن أول مطبعة عربية ظهرت، كانت في "فانو" بإيطاليا، حيث أمر بها الباب "يوليوس الثاني" وأخذت تعمل في سنة 1514 في عهد البابا "ليون العاشر".
وأول كتاب عربيٍّ طُبِعَ في هذه السنة، هو كتابٌ دينيٌّ -كما هو منتظر- ثم سفر الزبور سنة 1516، وبعد قليلٍ طبع القرآن في البندقية، ولكن الطبعة أحرقت خشية أن يؤثِّر على عقائد المسيحيين، وطبع كتاب القانون لابن سينا في روما سنة 1593 في مجلد ضخم، وتعددت المطابع العربية في أوربا، وطبعت فيها مئات من الكتب العربية وغيرها1.
أما الطباعة العربية في الشرق، فأسبق الأمم إليها الدولة العثمانية، وقد مَرَّ بك كيف اضطر من أراد إدخال المطبعة الأولى لأخذ فتوى من علماء الدين، وأول كتابٍ طبع بالعربية في الآستانة كان سنة 1728.
وكانت للسوريين محاولات سابقة لهذا التاريخ؛ إذ طُبِعَ الإنجيل في حلب بالعربية سنة 1706، وأقدم مطبعة عربية في الشام هي مطبعة "ماريو حنا" الصايغ، في "الشوير" للروم الملكانيين، أنشئت سنة 1145هـ- 1732م، ثم مطبعة القديس "جارجيوس" للروم الأرثوذكس، في بيروت سنة 1167هـ-1753م، ولكن مطبوعات هاتين المطبعتين لم تتعد بعض كتب الدين، ولم يكن لهما أثر يذكر في نشر الثقافة العربية، ولا في النهضة الحديثة.
وأهم مبطعة انبعث منها النور متدفقًا فياضًا، يبدد الظلام الحالك المطبق على عقول الأمة العربية، هي تلك المطبعة الضخمة التي أسست في بولاق سنة 1822، وهي إلى اليوم تعد أكبر مبطعة عربية في العالم.
نعم! إن مصر قد عرفت الطباعة المصرية قبل محمد علي؛ لأن نابليون كان قد أحضر معه مطبعة عربية، وحاول أن يصدر بها تلك النشرة المعروفة "بالتنبيه" التي لم تصدر فعلًا2، وإنما الذي صدر هو "سلسلة التاريخ" وكان يحررها السيد إسماعيل الخشاب.
1 راجع جروجي زيدان، في كتاب آداب اللغة العربية، ج4 ص44.
2 راجع عبد الرحمن الرافعي، في تاريخ الحركة القومية، الجزء الأول، ص145، والجزء الثاني، ص223، 228، ج3 ص538.
وكانت سجلًا لمحاضر جلسات الديوان والحوادث الهامة، بيد أن أثر مطبعة نابليون زال بخروج الحملة الفرنسية من مصر، واشترى محمد علي مطبعتهم، فكانت نواةً مطبعة بولاق الشهيرة، أما مطابع تركيا فكانت أسبق إلى نشر الكتب الأدبية والعلمية من سواها، فطُبِعَ هناك القاموس المحيط سنة 1814، وطُبِعَتْ كافية ابن الحاجب سنة 1819، وجملة ما نشر من الكتب الأدبية واللغوية لا يزيد على أربعين كتابًا حتى سنة 18301.
لم يكن اتجاه محمد علي أدبيًّا، ولكن معظم اهتمامه كان بالعلوم والجيش والإدارة، ولذلك؛ كان نتاج مطبعة بولاق في أوائل أمرها علميًّا بحتًا، ومن أوائل الكتب التي طبعت بها قاموس طلياني عربي، وكتاب الأجرومية في النحو، ورسالة الفنون الحربية مترجمةً إلى التركية، وكتاب صباغة الحرير من الإيطالية، ثم سيرة الإسكندر الأكبر.
وفي الحق، لم تخرج مطبعة بولاق شيئًا ذا قيمةٍ من الكتب الأدبية إلّا في عهد إسماعيل، حينما أخذت النهضة الأدبية تشتد وتقوى، على أن مطبوعات استامبول كانت في نموٍّ واطرادٍ، ولا يزال لطباعتها في آذاننا رنة حتى اليوم.
ومن أشهر المطابع التي كان لها أثر ملموس في يالنهضة الأدبية بالشرق العربيّ، المطبعة الأمريكية ببيروت سنة 1834، ومطبعة الآباء اليسوعييين ببيروت كذلك، سنة 1848.
وتعد الأخيرة أكبر المطابع في سوريا، وأعظامها إتقانًا، وفيها حروف عربية، وإفرنجية، ويونانية، وسريانية، وعبرية وأرمينية.
الصحافة:
الصحافة من أسس النهضة الأدبية الحديثة، وعامل من أهم العوامل في مقاومته اللغة العامية، وانتشار اللغة الفصحى، ومجال واسع لنشر الأبحاث الأدبية، والعلمية، والسياسية، والتاريخية، والاجتماعية، ولقد تدرجت في نموّها من عصر محمد علي حتى اليوم.
1 راجع مجلة الشرق 3، 1900م.
أنشأ الفرنسيون إبان مقامهم في عهد نابليون صحيفتين فرنسيتين: العشار المصري "La Decade Egyptinne" وهي جريدةٌ علميةٌ اقتصاديةٌ، تنشر فيها أبحاث المجمع العلمي ومناقشات أعضائه، وتصدر كل عشرة أيام، وبريد مصر "Lecourrier de L'Egypt" وهي الصحيفة الرسمية للحملة الفرنسية، وتصدر كل أربعة أيام، وقد ذهبتا بانقضاء الحملة الفرنسية، كما أنهم نشروا سلسلة تاريخية حررها السيد إسماعيل الخشاب.
وقد أشرنا إليها سابقًا، وقد ذهبت كذلك بانقضاء حملتهم.
كانت هذه محاولات بدائية في الصحافة، فلما جاء محمد علي أصدر أول صحيفةٍ عربيةٍ سنة 1822، حين أصدر "جنرال الخديو"، وكان يطبع في مطبعة القلعة بالقاهرة، ويصدر كل مرة في مائة نسخة باللغتين العربية والتركية، متمضنًا الأخبار الحكومية، وبعض القصص من ألف ليلة وليلة، وكان يرسل إلى رجال الدولة الذين يهم الحاكم أن يقفوا منه على أحوال البلاد، وظلت تصدر لمحمد علي وحده بعد أن ظهرت الوقائع المصرية، وكان الغرض من تزويده ببعض القصص جذب القراء إليه، ثم أنشأ في سنة 1828 جريدة الوقائع المصرية، وكانت تصدر أول أمرها بالتركية والعربية معًا، وأخيرًا اقتصرت على العربية، ولا تزال تصدر حتى اليوم.
ولم يكن صدورها في عهد محمد علي منتظمًا، وكان يشرف على تحريرها الشيخ العطار شيخ الأزهر، وكان صديقًا للشيخ إسماعيل الخشاب محرر "سلسلة التاريخ".
وتكاد الوقائع تكون مقصورةً على الأخبار الرسمية، وكان محمد علي شديد الاهتمام بالوقائع، يودُّ أن يراها في قوة تحريرها وحسن إخراجها، وغزارة مادتها، مثل تلك الجرائد التي كانت تأتيه من أوربا، وتقرأ له، وقد أرسل ذات مرة يعنف المسئولين عن تحريرها؛ لأنهم نشروا خبرًا تافهًا لا يليق بمقام الجريدة الرسمية للدولة.
وجاء في كتابه: "لقد أخذنا العجب في درج مثل هذه الحوادث القبيحة، فإذا علمتم ذلك فعليكم من الآن فصاعدًا أن تدرجوا الحوادث اللائقة بالنشر، وتتجنبوا نشر ما لا يليق نشره، وأن تلاحظوا ذلك بكل تدقيق واهتمام؛ لأنه من مقتضى ذمة خدمتكم، ومطلوبي أن تكونوا بعدئذ على انتباه وبصيرة"1.
وقد حرص محمد علي على أن يرى مسودات الجريدة، ويبدي فيها رأيه قبل أن تنشر2، وبذا كان محمد علي أول صحفيٍّ بمصر، وكانت مهمته أشبه بمهمة رئيس التحرير في الجرائد اليومية اليوم، فكان يشير بالمقالات، ويحذف ما لا يراه لائقًا بكرامة الصحيفة، ولا يبخل عليها بمالٍ أو رجالٍ، ويأمر أن يلي أمر طبعها عمال مهرة لا تشوب كفايتهم شائبة.
وقد تعاقب على تحريرها منذ ذلك الوقت نخبة من كبار الأدباء منهم: مختار بك، مدير المدارس في عهد محمد علي، وبغوص بك، موضع ثقته في المسائل العليا، وأحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين، صاحب السفينة، والشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، والشيخ أحمد عبد الرحيم، والشيخ عبد الكريم سلمان، وغيرهم.
وقد تعطلت الوقائع بعد محمد علي، ما بين 1849- 1863، ولم تصدر جريدة غيرها، وذلك راجع إلى عزوف عباس وسعيد عن النهضة ووسائلها، ولكنها استأنفت حياتها في عهد إسماعيل.
تعقيب:
كانت نهضة محمد علي -كما رأينا من كل ما تقدم- علميةً حربيةً، ولم يلتفت للأدب أدنى التفاتة، وذلك لأنه لم يكن بحاجةٍ للأدب كحاجته لجيشٍ قويٍّ يدعم به عرشه، ويؤسس دولته، ويدافع به عن نفسه.
1 محفوظات عابدين، وثيقة رقم 51، في 14 من جمادى اللآخرة 1248هـ، دفتر 48 معية سنية.
2 راجع محفوظات عابدين، وثيقة رقم 799، في 19 من جمادى الآخرة 1251هـ، دفتر 66 معية تركي.
وكان كل شيء في مصر، وكل البعثات من طبيةٍ وهندسيةٍ وصناعيةٍ وغيرها، ترمي إلى خدمة الجيش، ورجال الجيش، ومع ذلك، فقد كانت هذه النهضة الحربية أساسًا للنهضة العلمية الأدبية التي ظهرت في عهد إسماعيل، فالمدارس التي فتحت في عهد محمد علي، والكتب التي ترجمت، والبعثات التي تزودت من علوم أوربا، واطلعت على حضارتها، أسهمت كلها في النهضة التالية، وساعدت على نجاحها، فلم يكن كبار المفكرين في عهد إسماعيل إلّا شبّانًا في عهد محمد علي، ولقد أفادوا مصر فيما بعد أكبر فائدة، وفي طليعتهم رفاعة الطهطاوي، ومحمد علي البقلي، وإسماعيل الفلكي، ومحمود الفلكي، وعلي مبارك.
وتعلَّم هؤلاء في عصر محمد علي، وقادوا الحركة الفكرية في عهد إسماعيل، ففضل هذا العصر على النهضة الأدبية من هذه الناحية أَجَلّ من أن ينكر، على الرغم من أن اللغة الرسمية للدولة كانت التركية، ولكن اللغة العربية أخذت منذ ذلك الحين تنمو وتشتد، حتى استطاعت بعد زمنٍ وجيزٍ أن تقضي على التركية في الديوان، ثم تصير لغة الأدب الحيِّ الذي ينبض بالقوة، ويعبر عن الحضارة الحديثة؛ لكثرة ما ترجم إليها من آثار الغرب، وكثرة ما أحيا من تراث العرب، والفضل في ذلك لهذه الأسس التي بنيت عليها نهضتنا الحديثة.
وعلى الرغم من مظاهر النهضة المختلفة، فإن محمد علي لم يكن يقصد نفع مصر والمصريين، وإنما كان يريد استغلالهم على أسوأ طريق؛ فحكمهم بالقهر، وأطاح بالرءوس الكبيرة في البلاد، وجمع كل عقود التمليك، ووزع الأرض الزراعية توزيعًا جديدًا، كان لأقاربه وأنصاره من غير المصريين منها النصيب الأكبر، ومن هنا جاء الإقطاع الحديث بشروره وآثامه.
كما أنه جعل مصر مزرعةً كبرى يجني وحده خيراتها، وينفق من تلك الخيرات على الجيش الذي يعده لتمكين ملكه وتثبيت عرشه، وتوسيع نفوذه.
وقد أخذ ما كان للمساجد من أموال، وأخذ من أوقاف الأزهر ما لو بقي له اليوم لكان ذا شأن كبير في إصلاحه، والنهوض به.
ولقد أساء محمد علي إلى المصريين وأذلهم، وصار يجبي منهم الأموال بالعسف، ويسوقهم سوق الأنعام للجندية التي يحارب بها السلطان أو الوهابيين في نجد، وفَضَّل عليهم الأجانب الذين جلبهم لمعاونته في تدبير شئون البلاد، وأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز متعديًا حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوكٍ منهم، لم يكن يملك قوت يومه، ملكًا أو كاللملك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ فصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبيّ بحقوق الوطنيّ التي حرمها، وانقلب الوطنيّ غريبًا في داره، غير مطمئنٍ في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم الأجنبيّ إياه ليصل إلى ما يريد منهم، غير واقف عند حَدٍّ، أو مردود إلى شريعة1.
1 مذكرات محمد عبده، ص49-50.