الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحوم حولك شر أبدًا، ولا تصدر عنك نقيصة قصدًا، ولا تهن في قضاء حقٍّ، ولا تني عن شهادة صدق، ومع هذا وهذا وذاك، أنك مع علمك بواقع أمري، وعرفانك بسريرتي وسري، أراك ماذدت عن حق كان واجبًا عليك حمايته، ولا صنت عهدًا كانت عليك رعايته، وكتمت الشهادة، وأنت تعلم أني ما أضمرت للخديو ولا للمصريين شرًّا، ولا أسررت لأحد في خفيات ضميري ضرًّا، وتركتني وأنياب النذل اللئيم "فلان" حتى نهشني السبع الهرم والعظام، ضغينةً منه على السيد إبراهيم اللقاني، وإغراء من أعدائي أحزاب "فلان".
ما هكذا الظن بك، ولا المعروف من رشدك وسدادك، ولا يطاوعني لساني -وإن كان قلبي مذعنًا بعظم منزلتك في الفضائل، ومقرًّا بشرف مقامك في الكمالات- أن أقول عفا الله عما سلف، إلّا أن تصدع بالحق، وتقيم الصدق، وتظهر الشهادة؛ إزاحةً للشبهة وإدحاضًا للباطل، وإخزاءً للشر وأهله، وأظنك قد فعلت أداءً لفريضة الحق والعدل. ثم إني يا مولاي أذهب إلى لندن ومنها إلى باريس مسلمًا، وداعيًا لكم، والسلام عليكم وعلى أخي الفاضل البار أمين بك".
8 صفر سنة 1300 جمال الدين الأفغاني.
2-
الشيخ محمد عبده:
وإذا كان جمال الدين قد أبعدته ظروفه القاسية، وجنود الغدر والاستعمار عن مصر وهي أحوج ما تكون إليه، فقد ظلت بها روحه الوثابة، ومصر في ذياك الوقت قلب الإسلام النابض، وأمل العروبة الغض؛ لأن تركيا -وهي مقر الخلافة- كانت عجوزًا مشولة الأطراف، جافة الفؤاد يابسة العود، وتعتلج في أحشائها الوساوس والدسائس، ويسيطر عليها خلفاء شبعوا من اللذائذ المادية حتى بشموا، وانغمسوا في حمأة الشهوات حتى شرقوا، والشام قد هجرها المستنيرون الأحرار، واستوطنوا مصر هربًا بنفوسهم الأبية أن يذلها الظلم، ويجرحها الحيف والاضطهاد، وبقية أقطار العروبة في سباتٍ عميق، أو يقظةٍ قريبةٍ من الوسن، قد أعدتها تركيا بأدوائها، فهي تترنح تحت فكتات الأمراض الاجتماعية وآلامها المبرحة، وتكاد تسلم الروح إعياء وهزالًا.
أجل، قد بقيت روح جمال الدين بمصر ترفرف على واديها في شخص محمد عبده1 وهو شيخ من صيم ريف مصر، وأرسله أبوه إلى الجامع الأحمدي ليتعلم كما يتعلم كثير من الناس بعد أن حفظ القرآن، ولكنه تمرد على هذ التعليم بعد سنة ونصف، حاول فيها أن يفك طلاسم "الأجرومية" فأعيته الحيل، فأيقن أنه غبيّ، وأنه غير مستعدٍّ لتلقي العلم، وصمَّمَ على العمل في الحقل كما يعمل إخوته وأهله؛ بيد أن والده أكرهه على الاستمرار في طلب العلم، فهرب إلى أحد أخوال أبيه هو:
الشيخ دوريش:
والشيخ دوريش من الشخصيات التي أثَّرت في عقل محمد عبده وفي نفسه وفي خلقه، وحددت له أهدافه في الحياة، ولا يذهبن بك الظن، فتتخيل أن الشيخ دوريشًا هذا فيلسوف أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأنه عالم من علماء التربية الأفذاذ، فلم يكن -علم الله- إلّا شيخًا صوفيًّا سليم العقيدة، نَيِّرَ البصيرة، على حظٍّ قليل من العلم وكثيرٍ من التجارب، فقد تتلمذ على السنوسي بطرابلس، وجاب بعض الأقطار يتلقى على رؤساء الصوفية طريقة الدعوة وسياسة النفس.
جاء الشيح محمد عبده إلى الشيخ دوريش هاربًا2 من العلم، وكان في الخامسة عشرة من عمره فتيًّا قويًّا مغرمًا بركوب الخيل واللهو مع أمثاله من الشباب، ولكن الشيح دوريش تلقَّاه كما يتلقى الطبيب المريض، وعالج هذه العقدة التي كونتها "الآجرومية" في نفس الفتى، وأعطاه كتابًا سهلًا في المواعظ
1 ولد محمد عبده بقرية "شنرا" بمدرية الغربية سنة 1266هـ-1849م، وانتقلت به أمه إلى بلدة أبيه "عبده خير الله" محلة نصر بمديرية البحيرة بعد ولادته بقليل، وكان أبواه ذا مكانةٍ ملحوظةٍ في قريته، يمتاز بقوة الجسم وصحته ،بشيء من سعة الرزق والكرم والاستنارة، وقد ورث عنه محمد عبده كل هذا.
وقد ترك محمد عبده ترجمة حياته في وثيقتين؛ إحداهما كتبها استجابةً لصديقه الشاعر الرحالة الإنجليزي "ولفرد سكاون بلنت" وفيها شيء عن أصل أسرته، وجزء من تاريخ حياته W.S.Blunt Secret Hisstory Of Egypt، London 1907. والثانية ما نقله عنه الشيح رشيد رضا إجابةً على أسئلة وجهها إليه. انظر المنار 8 ص405 وما بعدها.
2 مع العلم أنه كان قد تزوج وصمم على المكث بالبلدة، ولكن والده أمره بالذهاب إلى طنطا بعد أربعين يومًا من زواجه.
والأخلاق، ولم يكن للفتى صبرٌ على القراءة، وسرعان ما مل المجلس، ولكن الشيخ درويشًا أخذه برفقٍ وتؤدة، وكان يفسِّرُ له ما يقرأ، فوجد الفتى فيما قرأ لذة، وانصرف عن اللهو، وعكف على قراءة الكتب، ويقول في ذلك:"وطلبت منه يومًا إبقاء الكتاب معي، فتركه، ومضيت أقراؤه، وكلما مررت بعبارةٍ لم أفهمها وضعت علامةً لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وهوًى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عمَّا لم أفهمه، فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة، والميل إلى الفهم، ولم يأت اليوم الخامس إلّا وقد صار أبغض شيءٍ إليَّ هو ما كنت أحبه من لهوٍ وفخفخةٍ وزهوٍ، وعاد أحب شيءٍ إليّ ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم"1.
وهكذا استطاع الشيخ درويشًا أن يحل العقدة النفسية، ويعيد للفتى ثقته بنفسه وفي ذكائه، ويرغبه في العلم، وقد أفاد الفتى من ذلك درسًا لم ينسه مدى حياته، وهو أن الأزهر بحاجةٍ إلى الإصلاح الشامل في كتبه التي تدرس، وفي المعلمين الذين يقومون بالتدريس، وكان هذا أحد أهدافه في الحياة كما سترى.
وقد أفاد من الشيخ درويش درسًا آخر وقر في نفسه، وبدَّلَ من قيم الأشخاص والناس عنده، فلم يعد يهتم بالتفوق الماديّ والغنى والجاه، بل علمه أن الإنسان الكامل في هذه الحياة هو من أمن وعمل صالحًا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وعلمه كذلك أن الإسلام الصحيح يتنافى مع الأخلاق المنحلة والفساد؛ لأنه عقيدة وعمل، لا ألفاظ تقال، ثم عَلَّمَه كذلك أن الإسلام دينٌ سهلٌ سمحٌ، وأن مصدره الذي يجب أن يؤخذ منه هو القرآن وحده2.
ظلت هذه الدروس التي تلقاها في صباه تنمو وتترعرع في نفسه، حتى صارت مبدأ يسعى إليه وغاية يصبوا إلى تحقيقها.
1 وبهذا برهن الشيخ درويش في قريته على أنه أقدر من علماء الأزهر في هداية الطلاب وتحبيبهم في القراءة، ولقد كان مشايخ الصوفية في الماضي رسل هداية وتبشير، وعلى أيديهم أسلم كثير من وثنيي السودان وزنوج غابات إفريقية، وهم الذين نشروا الإسلام في كثير من بقاع الأرض، فأين منهم متصوفة زماننا الذين لا هَمَّ لهم إلّا ملء البطون وكنز الأموال.
2 كان الشيح درويش تلميذًا للسنوسيين كما رأينا، وهؤلاء كانوا يتبعون مذهبًا شبيهًا بالمذهب الوهابي، وهو الرجوع بالإسلام إلى بساطته الأولى، متجنبين البدع وتفسيرات المتأخرين وزياداتهم في العقائد والفروع.
وليس هذا كل ما فعله الشيخ درويش من توجيه لتلميذه، بل كان يلقاه في الإجازات الصيفية بعد عودته من الأزهر، ويلومه على عزلته وعدم الاختلاط بالناس ودراستهم وإفادتهم بما عرف، وكان يغشى به المجالس، ويحمله على أن يتحدث إلى الناس ويجيب عن أسئلتهم ويكون لهم مرشدًا؛ لأن العلماء الذين يعنون بعلمهم على الناس لا خير فيهم، وقد بقي الشيخ محمد عبده حتى مات وهو يعمل بهذ النصيحة، ويرشد الناس كبارًا وصغارًا، رعيةً وساسةً، فرحم الله الشيح درويشًا، لقد أدى للإسلام ولمصر وللشرق خدمة جليلة.
في الأزهر:
وتحول الشيخ محمد عبده من الجامع الأحمديّ إلى الأزهر، وكان الأزهر في ذلك الوقت على حالة من الفساد لا تطاق، وبحسبك أن تقرأ تقريرًا وضعه الشيخ عبد الكريم سلمان1 عن هذا المعهد وحال أساتذته وطلبته، ومدة الدراسة فيه2 وحال العلم، فإن الكتب التي كانت تدرس به من نتاج العصور المتأخرة، يدرسها أساتذة لا يفهمون الغاية منها، ولا يستطيعون كتابة أربع جمل صحيحة3، وكان به كثير من ضيقي الفكر الذين يرمون الناس بالزندقة والكفر جزافًا؛ مثل: الشيخ عليش، ولكن كان به مَنْ هيأتهم الظروف لأن يتسع أفقهم بعض السعة كالشيخ البسيوني، والشيح حسن الطويل، وكان ذكيًّا حكيمًا له نظرات في الحياة صائبة، يقرأ الفلسفة فيُرْمَى بالزندقة.
1 لم يحمل التقرير اسم الشيح عبد الكريم، ولكن اشتهر بأنه له، وفيه أعمال مجلس إدارة الأزهر من ابتداء تأسيسه سنة 1321هـ، وهي مدة اشتغال الشيح محمد عبده في مجلس الأزهر.
2 كانت إجازات الطلاب كثيرة، ففي مولد السيد البدوي، والدسوقي، ويوم عاشوراء، والمولد الحسيني، ومولد الشافعي، والعفيفي، والشرقاوي، وهذا عدا الأعياد الإسلامية، والمولد النبوي، ورمضان، والأعياد الرسيمة، ولم تكن مدة الدراسة تزيد عن ثلاثة أشهر ونصف، يخرج منها الخميس والجمعة من كل أسبوع.
3 وقد مَرَّ بك وصف عبد الله فكري لهم في ص157 من هذا الكتاب، وقد كان الشيح أحمد الرفاعي يدرس في ذلك الوقت كتاب "المطول في البلاغة" ويعترف أنه لا يحسن أن يكتب خطابًا ولو غير بليغ؛ لأن هذا عمل تلاميذ المدرسة المدنية "أحمد أمين بمجلة الثقافة العدد 388" واعتذر أحد أكابر العلماء وهو الشيخ الإمبابي عن حضور وليمةٍ في رمضان؛ فكتب رسالة الاعتذار على ورقةٍ من أوراق العطار، وأخطأ فيها عشرة أخطاء نحوية، "محمد عبده لمحمد صبيح ص65، وتقرير الشيح عبد الكريم سليمان".
كانت هذه حال الأزهر العلمية حين وفد إليه محمد عبده، ناهيك بالقذارة التي كانت تلوث المسجد وصحنه، ودورة مياهه وأروقته، والفوضى الخلقية التي كانت سائدةً بين طلابه، وأخذ الشيح محمد عبده يدرس العلوم المتداولة بالأزهر حينذاك؛ من نحو وفقه وتفسير، وأما العلوم الحديثة فلم يكن يسمع عنها الأزهر ورجاله، ومن يتعرض لها فهو كافرٌ في عرفهم، مارق عن جادة الدين.
وكان الشيح درويش حينما يعود الطالب الفتى يسأله عمَّا درس بالأزهر في عامه، بعد أن يستمع إليه قليلًا يسأله: ما درست المنطق؟ وما درست الحساب؟ وما درست الهندسة؟ فيجيب الشيح محمد عبده بأن هذه الدروس لا يرى الأزهريون تعليمها، فيقرر له هذا الصوفيّ المنزوي في قريته بأن كل العلوم يجب أن تعلم، وعلى الطالب أن يسعى إليها في كل مكان، ويقول له: "إن الله هو العليم الحكيم، ولاعلم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء الحكيم هو السفيه! وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، لا شيء من الجهل بمحمود لديه إلّا ما يسميه بعض الناس علمًا، وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر، والشعوذة، ونحوهما، إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس، فأي رجل كان الشيح درويش هذا؟ وعلى أي حال من الجهل كان الأزهر؟
التمس الشيح محمد عبده بعض هذه الدروس التي وجهها إليه مرشده عند الشيح حسن الطويل1، بيد أن هذه الدروس لم تشبع نهم نفسه، على الرغم من طرافتها، وذكاء مدرسها، وسعة مداركه، وإنما كانت مثيرة لنفس الشيح محمد عبده، تبعث فيها الرغبة إلى الاستقراء والتعمق والوصول إلى الحقائق الواضحة
1 وكان الشيح حسن الطويل من الشخصيات الفذة في عصره، ذا ذكاء حادٍّ ومعرفةٍ بالرياضيات، وكان مدرسًا بدار العلوم، وقد بلغ من مهارته في الرياضيات أن كان يحل لطلبتها ما أشكل عليهم من تمرينات الهندسة، وكان على معرفة بكتب الفلسفة القديمة، وبالدنيا والسياسة، وكان ذا شجاعة في الكلام بما يعتقد لو حرم منصبه بدار العلوم، وزهد في الدنيا، حتى لا يهمه منها شيء، يلبس ثيابًا رخيصة، ويأكل قليلًا، ويدعى إلى موائد الأغنياء للإفطار في رمضان فيأكل من طبق الفول، ويزهد فيما عداه، ويطرد من دار لعلوم لكلامه في السياسة، فنيفق عليه صاحب مقهى بلدي، فلما عاد إلى عمله سلمه الشيح حسن الطويل مرتبه لينفق كما كان يفعل وهو مطرود، وكان يدرس في الأزهر الفلسفة والمنطق.
بدون تردد أو التواء، وأن تستشف ما وراء هذه الألفاظ القديمة، وأن تصل هذا العلم القديم بالحاضر الجديد، وتحل مشكلات الحياة بعامة، ومشكلات مصر بخاصة، ولم يكن ذلك ميسورًا عند الشيح حسن الطويل، وإنما تهيأ لمحمد عبده أن يدرك هذه الغاية عند أستاذه الأكبر جمال الدين الأفغاني حين وفد على مصر وقد تحابَّا وتصادقَا، ووجد جمال الدين في محمد عبده التربة الخصبة التي تحيل تعاليمه عملًا صادقًا قويًّا لا ينقص منه شيء، بل يزيد على مرور الأيام نماءً، ووجد محمد عبده في جمال الدين الأستاذ الذي كمل له ما كان يشعر به من نقص؛ فإذا كان الشيح درويش قد لقنه شيئًا من التصوف سابقًا، فقد كان تصوفًا خياليًا، تحوَّل على يد جمال الدين إلى تصوفٍ عمليٍّ، وإذا كان الشيخ درويش قد بعث فيه الجرأة لمواجهة الناس والتحدث إليهم وبث تعاليمه بينهم، فقد مكنه جمال الدين من اختيار الموضوعات الصالحة التي يتكلم عنها، وأفسح أمامه أفق الإصلاح، فتعددت شعبه وميادينه؛ من دينية وخلقية واجتماعية، ثم إن جمال الدين حرضه على استخدام سلاحٍ آخر في ميدان الدعوة، غير الخطابة والمشافهة، ألا وهو سلاح القلم؛ حتى تسير دعوته مشرقة ومغربة، فتشمل القريب والبعيد، وحتى تكون متقنةً رائعةً تغذيها التؤدة والفكر الناضج والمنطق، وقد فتن محمد عبده بجمال الدين وبدروسه وبروحه المتوجهة وحماسته العارمة، ونشاط فكره، ونظراته للحياة، ووجد فيه ما لم يجده عند حسن الطويل، فلا بدع إذا رأيناه يكتب بخط يده على نسخة من كتاب قديم:"وكان الفراغ من قراءته وتقريره عند لسان الحق، وقائد الخلق إلى جناب الحق، خلاصة من تحلى بالحكمة، ومنقذ الضالين في تيه الجهالة والغمة، ومحيى الحق والدين، أستاذنا السيد جمال الدين" وكان يلقبه "الحكيم الكامل".
وكان جمال الدين يبادل محمد عبده حبًّا بحبٍّ، وإعجابًا بإعجابٍ، فقال عندما رحل من مصرسنة 1879:"تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفى به لمصر عالمًا". وهى كلمة تدل على مبلغ اعتقاد هذا المصلح الكبير في تلميذه، وقدرته على تنفيذ تعاليمه، والقيام بالدعوة إليها من بعده، وقد روى المخزومي في خاطراته أن جمال الدين لم يذكر اسم محمد عبده إلّا مقترنًا بكلمة "الصديق" أو "صديق
الشيخ"، ولما اعترض عبد الله نديم على ذلك وقال له ذات يوم: "أيها السيد، ما غفلت مرةً عن إضافة لفظ الصديق إلى الشيخ محمد عبده، كأنه لم يكن بين الناس صديق غيره؛ إذ تراك تنعت من سواه بلفظ صاحبنا أو فلان من معارفنا، أجاب جمال الدين بقوله: وأنت يا عبد الله صديق، ولكن الفرق بينك وبين الشيخ محمد أنه صديقي على الضرَّاء، وأنت صديقي على السراء، ويعترف محمد عبده بأنه مدينٌ بالشيء الكثير لجمال الدين ويقول:"إن أبي وهبني حياة يشاركني فيها "أخواي" علي ومحروس، والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدًا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين" وقد مرت بك كلمته في قدرة جمال الدين على تفتيق المعاني، وكيف يتكلم في كل فنٍّ كأنه من كبار أساتذته.
ومنذ اتصل محمد عبده بجمال الدين ابتدأ اتصاله بالحياة العامة، والجهاد في سبيل إصلاحه الأمة، وهو بعد طالب في الأزهر، ولم ينل شهادةً تجيز له التدريس، فقد كتب في "الأهرام" في السنة الأولى من صدورها بعض مقالاتٍ دلَّت على روحه وجرأته مثل:"الكتابة والقلم" و"المدبر الإنساني والمدبر الروحاني""والعلوم الكلامية الدعوة إلى العلوم العصرية"1. ولخص بعض دروس أستاذه في الفلسفة بجريدة "مصر" التي كان يصدرها أديب إسحق، وكان من الطبيعيّ أن يثير هذا ضجةً حول ذلك الشيح الأزهريّ الجرئ، فمن معجب به ومن حاقد عليه، ومن جامدٍ ساخطٍ يرميه بالزندقة.
وأخيرًا تقدم الشيح محمد عبده لنيل شهادة العالمية، وقد تآمر الممتحنون عليه قبل مثوله أمامهم، وعزموا على ألّا يمنحوه العالمية، بيد أنه خيب أملهم بعلمه ومهاراته في تصريف الكلام، وسعة اطلاعه، وسرعة بديهته، ووجد من الشيخ العباسي المهدي عطفًا، واستطاع الشيح العباسي أن يقنعهم بوجوب منحه الشهادة، ولكن أصروا في عنادٍ على أنه لن ينالها من الدرجة الأولى، واكتفوا بإعطائه الدرجة الثانية2 في غرة رجب 1294هـ-1877م.
1 انظر تاريخ الشيخ محمد عبده لرشيد رضا ج27-57، وسنتكلم عن هذه المقالات فيما بعد من حيث قيمتها الأدبية.
2 وقد رجع الأزهر فيما بعد ذلك بست وعشرين سنة عن هذا القرار، ومنح الشيح محمد عبده في سنة 1904 العالمية من الدرجة الأولى، وكان شيخ الأزهر إذ ذاك الشيخ علي الببلاوي.
وتصدَّى الشيخ محمد عبده بعد ذلك للتدريس بالأزهر، وأثار حوله ضجةً كبيرةً، فالشيخ عليش يهم بضربه؛ لأنه رجَّحَ مذهب المعتزلة في مسألة من مسائل على مذهب أهل السنة، وتراه يتحدى علماء الأزهر جميعًا بإعطاء مائة جنيه لمن يبرهن على "أن الله واحد" وينظرهم إلى الغد، ويفتتح الدرس ويسأل الحضور -وقد توفادوا أفواجًا- عن العالم الذي يريد مائة جنيه، ويقرر في حجج دامغة وحدانية الله، ويسود الصمت، وتضطرب القلوب، وتتقلب الأبصار مدةً غير وجيزةٍ، ثم يبدأ هذا العالم الصغير درسه غير تاركٍ شبهةً إلا وضحها، ولا حجةً إلا أوردها، ولا عويصًا إلا حله، فترك في بعض القلوب فرحة، وفي كثير من القلوب غصة.
وكان يخص بعض مريديه بدروس في منزله تختلف نوعًا عن دروس الأزهر، فيدرس لهم "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ لهم كتاب "التحفة الأدبية في تاريخ تمدين الممالك الأوربية" للمؤلف الفرنسيّ "جيزو" وقد عربه "حنين نعمة خوري".
ثم عُيِّنَ الشيخ محمد عبده في أواخر سنة 1878 مدرسًا للتاريخ بدار العلوم؛ إذ توسط رياض باشا في هذا التعيين، ولم يدرس ملخصًا من ابن الأثير أو الطبري أو ما شاكلهما من الكتب القديمة، ولكن عمد إلى "مقدمة ابن خلدون" يبسط في درسه آراء هذا النابغة في أصول المدنية والاجتماع، وألف كتابًا في "علم الاجتماع والعمران" فُقِدَ ولم يعثر عليه1، وعُيِّنَ محمد عبده في نفس الوقت مدرسًا للعلوم العربية بمدرسة الألسن، وكان همه -سواء كان في الأزهر أو دار العلوم أو الألسن- هو إيجاد نابتة من المصريين تحيي اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوم عوج الحكومة"2:
1 أحمد أمين في مجلة الثقافة العدد 389، والمنار ج8 ص403-404.
2 المنار ج8 ص404.
محرر الوقائع المصرية:
ثم درات الأيام دورتها وعزل إسماعيل عن العرش، وتولى توفيق، ونُفِيَ السيد جمال الدين كما عرفت من قبل، وتسلم محمد عبده راية الإصلاح بعد أستاذه، ووجد في رياض باشا مشجعًا وحاميًا، فعينه محررًا للوقائع المصرية، وجمع الشيخ حوله بعض النابهين من الشباب1، وأنشأ بالجريدة "الرسمية" قسمًا أدبيًّا تنشر به المقالات الإصلاحية والاجتماعية، وقد كانت الجريدة تفرض على أعيان البلاد وموظفي الدولة، ويجدون بها قرارات جافة ركيكة العبارة، وأراد رياض باشا أن يجعل للجريدة الرسمية قيمةً في ذاتها، تحمل الناس على طلبها رغبة فيها؛ ليقفوا على ما تتضمنه من الأوامر واللوائح، فيكونوا على بصيرةٍ مما تريده الحكومة بهم ومنهم من غير إكراه، وكان قد أحس بتوجيه الأفكار إلى طلب شيء من طلاوة العبارة، ووفرة المعنى، وحسن الانتقاد"2.
ووضع الشيخ "لائحة" للجريدة الرسمية، وجعلها مشرفة على كل ما يصدر في البلاد من كتب وصحف، وحق إنذار هذه الصحف عربية أو أجنبية، ومعاقبتها بالتعطيل الدائم أو المؤجل كي يلزمها الوقوف عند حدود الوقار فيما تكتب، مع إطلاق الحرية لها في تبيين الحقائق وكشف وجوه الخطأ والصواب بدون خوف، كما أعطت هذه اللائحة لرئيس تحرير الوقائع الحق في انتقاد جميع إدارات الحكومة حتى وزارة الداخلية التي يتولاها رياض باشا؛ وذكر السيد رشيد رضا أن "أول ما بدأت الجريدة بانتقاده طريقة التحرير التي كانت متبعة في
1 أمثال سعد زغلول، وعبد الكريم سلمان، وإبراهيم الهلباوي، ومحمد خليل والسيد وفاء.
2 من كلام الشيخ محمد عبده قبل أن يتولى رئاسة تحرير الوقائع: المنار ص406 وما بعدها.
النظارات والإدرات، فأخذت تبين وجه الخلل بها، وإضرارها بفهم المعاني المطلوبة، ثم ترسم الطريقة المثلى التي يجب السير عليها، فلم تمض أشهر قليلة حتى ظهر فضل ذوي الإلمام باللغة العربية من موظفي الحكومة، وحضهم رؤساؤهم على مكاتبة الجريدة الرسمية سترًا لعيوب الإدارات؛ واضطر الجاهلون باللغة والتحرير إلى استدعاء المعلمين، أو المبادرة إلى المدارس الليلية ليتعلموا كيفية التحرير"1.
وبهذا صار محمد عبده مشرفًا على الأداة الحكومية جميعها، تراجعه جميع الإدارات في كل ما لديها من الأعمال الهامة والتي تنوي عملها، وقد اشتدت حملته على وزارة المعارف وتبيان ما بها من خلل وفوضى وسوء إدارة، فأدى ذلك إلى إنشاء مجلس أعلى لها، واختير به عضوًا، وكانت الوقائع المصرية منبرًا تذاع منه تعاليم جمال الدين في العدل والتربية الخلقية والإصلاح الاجتماعي، فيتكلم عن الفقر ومشكلته، وعن "وخامة الرشوة" وعن "العفة ولوازمها" وعن "القوة والقانون" وعن"منتدياتنا العامة وأحاديثها"2 وغير ذلك من المقالات الاجتماعية والإصلاحية، بيد أنه لم يخض في المسائل السياسية، ولعل ذلك لأن رياض باشا هو رئيس الوزارة، وله عليه يد لا تنكر، أو لأنه كان يتعمد مذهب رياض في التدرج وعدم الطفرة، وظل بمنصبه هذا إلى أن قامت الثورة العرابية.
1 تاريخ الأستاذ الإمام، الجزء الأول، هذا وقد أنذر محمد عبده مرة مدير جريدة مشهور بتعطيل جريدته إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة معينة، فأسرع مدير الجريدة إلى تنفيذ ما أراد رئيس تحرير الوقائع، وتعقبت الجريدة مرةً مدير بني سويف وانتقدته انتقادًا مرًّا، فأصدر أمره بعدم دخولها، وراجع وزارة الداخلية في أمرها فنصرت الجريدة عليه، ونشرت فعلته في منشور عام.
2 تاريخ الأستاذ الإمام، الجزء الثاني، ص68 وما بعدها إلى ص225.
محمد عبده والثورة:
كان محمد عبده يختلف مع جمال الدين في طريقه الإصلاح، فبينما الأول يريد أن تقفز الأمة قفزًا، وتتمتع بالشورى والحرية على يد مجلس نيابي يشرع لها القوانين، وتكون الحكومة مسئولة أمامه، كما تكفل في ظله حرية الفرد الشخصية؛ إذ بمحمد عبده وأصحابه يرون أن الإصلاح لا ينتج إلّا إذا تربت الأمة وتعلم أبناؤها كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وأن يسير الإصلاح تدريجًا في كل ناحية، حتى في العادات، "وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض التحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلّا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون1.
وكان يرى أن الشرق إنما ينهض على يد مستبد عادلٍ يحكمه خمس عشرة سنة، يصنع فيها ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا، مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، ويحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يجملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلّا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه، وإن هذا رأي رياض باشا.
وانقسمت الأمة فريقين، فريق النهضة السريعة والإصلاح العاجل، ويتزعمه شريف باشا، وهو كما صوره محمد عبده "من أقوى عوامل النهضة التي انقلبت إلى فتنة" في رأيه، ومن ألسنة هذا الفريق وأسلحته البتارة أديب إسحق، وفريق يود النهضة البطيئة المتدرجة، ويتزعمه رياض باشا، ويناصره في رأيه محمد عبده2.
1 من مقالة الأستاذ الإمام تحت عنوان "خطأ العقلاء". انظر تاريخ الأستاذ الإمام، ج2 ص123.
2 كتب محمد عبده مقالات في الشورى، وقد كانت من وحي جمال الدين، ولم يكن مؤمنًا بها، بل كان يرى أن تنشأ أولًَا المجالس البلدية، ثم بعد سنتين تأتي مجالس الإدارة لا على أن تكون آلات تدار، بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار، ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية.
ولما قامت الثورة على يد العسكريين، وتزعم عرابي مطالب الذين يريدون المجلس النيابي، وانضم إليه كثير من زعماء الأمة، وفي مقدمتهم سلطان باشا، وعبد الله نديم، وامتزجت مطالب الجنود بمطالب الأهالي، وطلب العدالة بين الضباط بطلب الحكم النيابي بإلغاء الاستبداد، لم يكن محمد عبده من المحبين لهذه الثورة أو العاملين فيها؛ لأنه كان يكره عرابي باشا، ويعتقد أنه شهم في الكلام، ضعيف في الحرب، أليق به أن يكون واعظًا للعوام من أن يكون زعيم أمة، ويقول فيه:"كان أحمد عرابي ينظر إلى رؤسائه من الجراكسة نظر العدو إلى عدوه، وكان يحتقرهم في نفسه لاعتقاده إنهم دونه في المعرفة، ويرى أنه أحق منهم بالرتب العالية التي كانوا يتمتعون براتبها ونفاذ الكلمة فيها، وربما لم يكن مخطئًا في الكثير منهم، وكان أجرأ إخوانه على القول وأقدرهم على إقامة الحجة" ونسي محمد عبده أن عرابي كان يبادل هؤلاء الجراكسة احتقار باحتقار، لأنهم كانوا ينظرون إلى المصريين دونهم في كل شيء، وحرمهم المناصب العالية، وأنهم السادة وهم الخدم.
ولكذلك كان مناوئًا للثورة في أول الأمر، ويعترف بذلك صراحة فيقول:"كنت معروفًا بمناوأة الفتنة واستهجان ذلك الشغب العسكري، وتسوئة رأي الطالبين لتشكيل مجلس النواب على ذلك الوجه، وبتلك الوسائل الحمقى.. مررت ببيت "طلبة" ثالث يوم عيد الفطر فسمعة جلبة، ورأيت بعضًا من صغار الضباط يجولون من جانبٍ إلى آخر من البيت، فدخلت للزيارة فوجدت عرابي، وجمعًا غفيرًا من الضباط، ووجدت معهم أحد أستاذة المدرسة الحربية، فجلست واستمر الحديث في وجهته، وكان موضوعه: الاستبداد والحرية وتقييد الحكومة بمجلس النواب، وأن لا سبيل للأمن على الأرواح والأموال إلّا بتحويل الحكومة إلى مقيدة دستورية، فأخذت طرفًا من البحث، فأقمنا على الجدل ثلاث ساعات، كان عرابي والأستاذ في طرف والكاتب في طرفٍ وهما يقولان: إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد، وتقرير حكومة شورية، والكاتب يقول: علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين، وليس من اللائق أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن
نستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد يفسد المال، ويفضي إلى التهلكة"1.
فأنت تراه يسمي الثورة فتنةً وشغبًا عسكريًّا، ووسائل حمقى، ويعارض في قيام حكومة دستورية، ويرى أن الأمة غير مستعدة للحياة النيابية في ذلك الحين.
لم يكن محمد عبده مشايعًا للثورة في أول الأمر؛ لأنه لم يكن معتقدًا بها ولا في صلاح الأمة لأن تتولى أمورها بيدها، وأخذ يناهضها ويقول:"ليس من الحكمة أن تعطي الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر في التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد" ويقول مرة أخرى، وكأنه كان يتكلم بلسان القدر:"إن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنًى، فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالًا أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى اليوم القيامة"2.
ولم يكن محمد عبده من الموالين لتوفيق باشا حتى يُتَّهَمَ بأنه ناهض الثورة من أجله، ولكنه كان مستقل الرأي، وبعد مدةٍ لم يستطع أن يقف مسلوب اليد والأمة كلها في صف واحد، وهو وفئة قليلة في صف، ورأى المسأة تتعلق بكرامة الأمة، بعد أن تدخل المواثيق ويحرر بيانات الثورة للشعب وللدولة، ويحض قومه للتجنيد ويحمسهم للقتال، ولا يدخر في سبيل ذلك وسعًا، وكان يستعين بالوقائع "وهي الجريدة الرسمية" على نشر أفكار الثورة3، وصار يرى أن مصر أصحبت صالحةً لحكم نفسها بنفسها، وأن الثورة قد علَّمت الناس الاتجاه نحو المنافع العامة، فلم يعودوا في حاجة إلى تربية وتعليم".
1 مذكرات محمد عبده عن الثورة العرابية وتاريخه، رشيد رضا ج1 ص217.
2 المنار ج7 ص412 وما بعدها.
3 المنار ج8 ص416.
وأخيرًا أخفقت الثورة وسجن محمد عبده مائة يوم، وحُقِّقَ معه، وحكم عليه بالنفي، فاتخذ بيروت ملجأً1.
بعد الثورة:
وفي بيروت التف حوله العلماء والأدباء، ودرَّسَ بالمدرسة السلطانية، وكانت أشبه بمدرسة أولية، فارتفع بها حتى صارت مدرسة عالية، ولكن مقامه بها لم يطل؛ إذ طلب إليه أستاذه جمال الدين أن يلحق به في باريس فلبى دعوته3 وأصدرا معًا مجلة "العروة الوثقى" وقد مر بك شيء كثير عنها ونبذ من مقالاته بها. وهنا تعجب كيف تغيرت لهجة الشيخ محمد عبده في "العروة الوثقى" ولم يعد ذلك المصلح المتأني الذي يأخذ الأمور بالرفق، ويسعى للإصلاح في هوادةٍ، بل نراه ثورة متأججة وذا قلم عنيف، كما اتسع غرضه، ولم ينظر لمصر وحدها، بل شمل العالم الإسلامي كله، والحق أن الشيخ محمد عبده في "العروة والوثقى" لم يستطع أن يقاوم تأثير جمال الدين عليه، وناهيك بجمال الدين قوةً وحماسةً ونارًا مشبوبة.
وعُطِّلَت "العروة الوثقى" بعد ثمانية عشر عددًا، وسافر جمال الدين إلى إيران.. وعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت، وقد أخفق مرتين: أخفق في الثورة العرابية، وأخفق في استمرار العروة الوثقى، فالتف حوله مريدوه، وشرح لهم نهج البلاغة، ومقامات بديع الزمان، وأخذ يفسر لهم القرآن الكريم على النحو الذياتبعه بمصر، من غير أن يتقيد بكتاب أو تفسير خاص، بل اتخذ آيات القرآن مجالًا لوصف أدواء المسلمين وعلاجها، ودرس الفقه على المذهب الحنفي بالمدرسة السلطانية، وهناك ألَّف رسالة التوحيد، وصار يكتب بعض المقالات في جريدة "ثمرة الفنون" مشاهبةً لمقالاته في "الوقائع المصرية"3.
1 تاريخ محمد عبده جـ2 ص217.
2 لم يتجاوز سنة حينذاك أربعة وثلاثين سنة، المنار جـ8 ص455.
3 ووضع في هذه الأثناء لائحتين: واحدة في إصلاح التعليم الديني بمدراس المملكة العثمانية، ورفعها إلى شيح الإسلام بتركيا، وفيها يقر أن ضعف المسلمين سببه سوء العقيدة والجهل بأصل الدين، وأن ذلك أضاع أخلاقهم وأفسدها، ووضع لائحةً أخرى رفعها إلى والي بيروت، تتضمن إصلاح سوريا، ووصف سوء حالها بانتشار المدارس الأجنبية بها، واقترح تعميم المدارس الوطنية وإصلاح التعليم الديني والعناية به، وهكذا برهن على أنه مصلح في كل مكان يحل به "تاريخ الإمام ج3 ص339 وما بعدها".
كان محكومًا عليه بالنفي ثلاث سنوات، ولكنه مكث ببيروت ست سنوات، وذلك لأن توفيقًا كان غاضبًا عليه1، وكان يجهر بخطيئة توفيق في حق الوطن ويقول2:"إن توفيق أساء إلينا أكبر إساءة، لأنه مهَّدَ لدخولكم -أي: الإنجليز- بلادنا، ورجل مثله انضم إلى أعدائنا أيام الحرب لا يمكن أن نشعر نحوه بأدنى احترام، ومع هذا، إذا ندم على ما فرط منه، وعمل على الخلاص منكم، ربما غفرنا له ذنبه، إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية".
فكان من العسير أن يعود في عهد توفيق، بيد أن رياض باشا عاد إلى الوزارة، وكان من الذين يجلون الأستاذ الإمام، ويتعقدون فيه النفع والخير لمصر، فما لبث أن سعى لدى توفيق هو وبعض ذوي النفوذ1 حتى عفا عنه، وكان عفوًا قريبًا من الاعتذار.
بعد العودة من المنفى:
عاد محمد عبده إلى مصر، فوجد الأمور قد تغيَّرَت، وصار الحل والعقد بيد الإنجليز، ولم يعد الخديو صاحب الأمر والنهي كما كان من قبل، ورأى لزامًا عليه وهو المصلح ذو المشروعات الحية في النهوض بالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية أن يعتمد على سلطةٍ تؤيده وتهيئ له الاستمرار في إصلاحاته، فسالم الخديو -على الرغم منه- واستعان بالإنجليز على الإصلاح المنشود، ولا تعجب بعد هذا إذا صار جمال الدين حانقًا عليه، ويرى فيه الرجل الذي تنكَّر لمبادئه ومَدَّ يده لأعذاه يهادنهم ويسالمهم، ورث محمد عبده من جمال الدين آراءه الإصلاحية الاجتماعية، وورث عبد الله نديم وسعد زغلول ومصطفى كامل آراءه السياسية.
1 لأن محمد عبده جاهر بخلع توفيق أثناء الثورة "مشاهير الشرق ج2 ص282".
2 من حديث له مع مكاتب "البول ميل جازيت" وهو بإنجلترا.
3 المعروف أن من الذين توسطوا في طلب العفو عنه الأميرة نازلي، وكانت ذات مكانة، والغازي مختار باشا، ثم اللورد كورمر، وقد كان له الفضل الأكبر في عودته والعفو عنه، وفي الواقع لم يعف عنه توفيق إلّا بضغط الإنجليز، فأي صلة كانت بين محمد عبده تلميذ جمال الدين والإنجليز؟ - يظهر أن أصحاب محمد عبده حين طلبوا عودته إلى مصر تعهدوا بألّا يشتغل بالسياسية، ثم إن كرومر وهو الداهية السياسيّ رأى أن يجذب نحوه هذا العالم الجليل ويأمن شره ما دام لن يشتغل بالسياسة، وهذا ما جعل جمال الدين يحنق عليه ويلومه أشد اللوم، حتى قطعت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه؛ لأنهما اختلفا في الوسيلة "راجع المنار ج8 ص467".
وقد ظل محمد عبده متمسكًا بسياسة التقرب من الإنجليز والاستعانة بهم حتى آخر حياته، وكان هذا مثار الطعن فيه والغض من شأنه، ولكنه كان يصدر فيه عن عقيدة وجرأة، فقد استُفْتِيَ مرةً في الاستعانة بالأجانب فكان من فتواه "قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة المسلمين" ونسي قوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} .
وأمل محمد عبده بعد عودته أن يرجع إلى التدريس بدار العلوم ويتصل بالنشء، ويربي طائفة من الشباب يعدهم للغد، يحملون بعده راية الإصلاح؛ ولكن أبى عليه توفيق ذلك1، وعُيِّنَ قاضيًا أهليًّا، ثم مستشارًا في محكمة الاستئناف، ووجد نفسه في بيئةٍ غريبةٍ عنه، تدل بمعرفتها للغة الفرنسية والقوانين الأجنبية، فدفعته نفسه الطموح إلى أن يكمل هذا النقص، وبدأ يتعلم الفرنسية3 وهو في سن الأربعين أو ما قاربها، وقد استطاع بعد مدة أن يتقنها، وترجم منها كتاب التربية لسبنسر بعد أن نقل من الإنجليزية إلى الفرنسية، وروى لطفي السيد أن محمد عبده هو الذي كان يجلو لإخوانه المصريين ما غمض عن عبارات الفيلسوف "تين" في كتابه المشهور عن "الذهن".
وقد رأى الأستاذ الإمام فائدة تعلم اللغة الأجنبية ولمسها، وفي ذلك يقول:"ثم إن الذي زادني تعلقًا بتعلم لغة أوربية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته، ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي، إلّا إذا كان يعرف لغة أوربية، كيف لا! وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتكبة مع مصالح الأوربيين في جميع أقطار الأرض، وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم، أو للخلاص من شر الشرار منهم؟ "
1 المنار ج8 ص467، وتاريخ الأستاذ الإمام ج3 ص242.
2 روى أن المعلم أتى له بكتابٍ في قواعد اللغة الفرنسية فقال له: ليس عندي وقت لأن أبتدئ، وإنما عندي وقت لأن أنتهي": قال ناول المعلم كتاب "لألكسندر ديوما" وقال له: أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلام، وما عدا ذلك فهو عليّ، والنحو يأتي في أثناء العمل، وهكذا أتممت الكتاب، وكتابًا بعده وثالثًا عقبه، وكنت أطالع وحدي بصوتٍ مرتفعٍ كلما وجدت نفسي في بيتي خاليًا، فتعلمت مبادئ اللغة الفرنسية، وحصلت منها ما يمكنني من القراءة والفهم، ولكن ما كنت أستطيع الكلام".
واشتهر محمد عبده بعدله في القضاء، ونظره إلى روح القانون، وعدم تقيده بالقالب والألفاظ، وقد ساعدته دراسته للشريعة الإسلامية في هذا كل المساعدة.
إصلاح الأزهر:
مات توفيق وتولى عباس سنة 1892م، وقد عاد لتوه من أوربا فتًى ممتلئًا حماسةً وغيرةً وحبًّا للخير ورغبةً في إنهاض مصر من كبوتها وتخليصها من الاحتلال، فغيَّرَ رجال الحاشية، وجمع حوله أقوياء الرجال حتى ضاق الإنجليز، فأخذوا يكيدون له، ورأى محمد عبده أن يستفيد من حماسة عباس، فتقرب منه وبسط آراءه في الإصلاح، وهو إصلاحٌ يتناول جهات لا تهم الإنجليز في شيءٍ، وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وليكن البدء بالأزهر، وارتاح الخديو للشيخ، وكلَّفَه بوضع تقرير مشروع للإصلاح، وسرعان ما وافق عليه وكوَّنَ مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النواوي، وعُيِّنَ محمد عبده، وعبد الكريم سليمان عضوين به، وهكذا أتيحت للشيح الفرصة التي طالما نشدها للإصلاح، ولكن هل استطاع الإصلاح؟!
إنا نقول كما قال أحمد أمين1 "يالله وإصلاح الأزهر! ما حاوله أحد ونجح ولا الشيخ محمد عبده، لأن كل المحاولات كانت تتجه إلى هامش الموضوع لا أساس الموضوع، وكانت عن سبيل استرضاء أهله، والخوف من أي قلق واضطراب، وهم يتزعمهم طائفة ألفت القديم حتى عدته دينًا، وكرهت الجديد حتى عدته كفرًا، وعاشت إلى المغارات فلم تر ضوءًا، وأفنت عمرها في فهم لفظ، وتخريج جملة، وتأويل خطأ، فلم تر حقائق الدنيا، فإذا أتى المصلح سمم أهله الجو حوله، واحتموا بالدين يخيفون به الحكومة، ويكسبون به عامة الشعب.
المشكل لا يحل إلّا بالعلاج الحاسم، وهو أن يتبع الأزهر الحكومة تبيعة الجامعة، ويستقل استقلالها ويخضع في نظمه لما ترشد إليه علوم التربية الحديثة، ويرقى برقيها، ثم ينفذ ذلك من غير خشية".
1 مجلة الثقافة العدد 392.
وأضيف إلى هذا بالأزهر اليوم وفي كل حين ثروة معنوية عظيمة تضيع هباءً وتوجه وجهةً خاطئةً، ولا تفيد منها الأمة شيئًا، ولو حولت هذه الجامعة الأزهرية إلى جامعة مدنية ينفق عليها من الأموال الموقوفة على الأزهر، ويتعلم الطلبة فيها بالمجان، لما حرمت الأمة من الثروة العظيمة، ولنبغ من أبنائها الطبيب النطاسي، والمهندس الفذ، والرياضي القدير، والصيدلي الماهر، أما الدين فتخصص له طائفة، تسد الفراغ وتلي شئونه من وعظ وإمامة وغير ذلك، لقد اتجه الأزهريون اليوم إلى الوظائف ولم يعودوا يطلبون العلم لذاته كما كان يفعل أسلافهم، فوجب على الأمة والحكومة أن تعدهم الإعداد الصالح لهذه الوظائف، وتتولى شئون الأزهرن بحزم، وتنهض به نهضة تليق باسمه وتاريخه، فيتعلم أبناءه اللغات الأجنبية، فإذا جادلوا في الدين جادلوا بالحجة القوية، وعرفوا مواطن الضعف عند سواهم، وإذا درسوا الفلسفة والمذاهب الحديثة تفتح أمامهم سبل الاطلاع، على أن تتجه جمهرتهم إلى التعليم المدني، وبذلك تفيد الأمة من هذه الثروة المعنوية الضائعة، ومصر بحاجة إلى أكثر من جامعة.
حاول الإمام محمد عبده إصلاح الأزهر، فلم يصلح سوى الشكل من زيادة مرتبات العلماء ووضع لائحة كَسَى التشريف، والامتحان، ومساكن الطلبة، ولكن حين ابتدأ ينظر إلى الدارسة وطرقها والكتب التي تدرس والمناهج، وجد العقبات أمامه جمةً، وأخفق في محاولاته، ونفض يده من الإصلاح، لقد كان كارهًا للطريقة الأزهرية في معالجة الدرس والشروح والحواشي والتقارير وعلك الألفاظ، وقد عرفنا أنفًا كيف كادت هذه الطريقة أن تحرم مصر إمامها ومصلحها، ولقد قال له يومًا الشيخ البحيري مدافعًا في مجلس إدارة الأزهر عن هذه الطريقة:"إننا نعلم الطلاب كما تعلمنا" فقال له الشيخ محمد عبده: "وهذا ما أخاف منه"، فقال البحيري مستنكرًا:"ألم تتعلم أنت في الأزهر، وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم وصرت في العلم الفرد؟! " فأجاب الإمام: "إن كان لي حظٌّ من العلم الصحيح الذي تذكره، فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق به من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة1".
1 من تقرير الشيخ عبد الكريم سلمان من التعليم في الأزهر.
وهذه كلمات دل على مرارة وألم، وعلى أن الشيخ لم ير في الأزهر وعلومه ورجاله ما يبشر بالنجاح، فليت شعري هل تغير الأزهر كثيرًا منذ محمد عبده حتى اليوم؟!
وتولى محمد عبده منصب الإفتاء في يولية 1899، وأضفى عليه وجاهةً دينيةً وجلالًا، وكان في منصبه هذا جريئًا، يصدر الفتاوى التي يرى فيها الجامدون زندقة وإلحادًا، وهو يراها اجتهادًا وتجديدًا وتمشيًا مع روح العصر بما لا يخالف حقيق الدين وجوهره1، ولم تكن العلاقة بينه وبين الخديو عباس طيبة؛ لأن عباسًا يراه مسالمًا للإنجليز مستعينًا بهم، وفي ذلك جرح لوطنية الخديو والتجاء إلى خصومه، وكان الشيخ محمد عبده يعتقد في مهادنة الإنجليز والاستفادة منهم، ويرى في عباس رأيًا آخر، وهو أنه جشعٌ محبٌّ لجمع المال ولو من دماء رعاياه، وقد اصطدم به مرتين؛ أولاهما: حين أراد استبدال أراضي وقف فأبى عليه الشيخ ذلك، ورأى أن هذا الاستبدل ليس في مصلحة الوقف، وحمل مجلس الأوقاف الأعلى على رفض هذا الاستبدال إلّا أذا أُعْطِيَ للوقف عشرين ألفًا من الجنيهات تعويضًا لهم، وثانيهما: حينما أراد الخديو منح بعض رجال حاشيته "كسوة تشريفة" ولم يكن هذا المنح منسجما مع اللوائح، فأوعز الشيخ محمد عبده بعدم تنفيذ أمر الخديو وإعطائها للمستحق، ولما اجتمع العلماء لدى الخديو، وأخذ يؤنب شيخ الأزهر على ذلك، انبرى له الشيخ محمد عبده، وطلب منه إذا أراد التنفيذ أن يغير اللائحة، وينسخ القانون السابق، فاستشاط عباس غضبًا ووقف
1 من ذلك فتوى "الترسنفال" وهي إجابة على ثلاثة أسئلة: أحدها: بقر يضربه النصارى على رأسه بالبلطة حتى تضعف مقاومته، ثم يذبح قبل أن يموت بدون تسمية الله عليه، فهل يجوز أكل لحمه، فأفتى الشيخ بحل هذا اللحم، وكانت للفتوى ضجة؛ لأن علماء الأزهر يقولون هي الموقوذة التي حرَّم الله أكلها، والشيخ يقول: إن الموقوذة التي ضربت بشيء غير محدد كالحجارة والخشب حتى ماتت، وهذه ذبحت قبل موتها، وثانيهما: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال يلبسون القبعات لقضاء مصالحهم، وتمكنهم القبعة من جني بعض الفوائد، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأفتى الشيخ بالجواز، ورأى أن لبس القبعة إذا لم يقصد به الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا، وإذا كان اللبس لحجب الشمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه وتيسير مصلحة لم يكره ذلك، وقد أثارت عليه هذه حملات شديدة من الجهلة وخصومه السياسيين، والثالث: يصلي الشافعي خلف الحنفية بدون تسمية، ويصلون خلفهم العيدين فهل تجوز الصلاة؟ ولم يكن لهذا السؤال ضجة كغيره. راجع تاريخ الأستاذ الإمام ج3 ص84، 167، 179، والجزء الأول ص 267، وتجد نص الفتوى في تاريخه ج1 ص646 وما بعدها.
إيذانًا للعلماء بالانصراف، وقد كان لهذا كله أثر في الحملات الشديدة، والمكايد التي دبرها عباس للشيخ وإيعازه للصحافة بالتشهير به، وانتهاز فرصة فتاويه الجريئة ورميه بالكفر والإلحاد، وكلما هَمَّ الخديو بعزله من منصب الإفتاء صرَّح كرومر بأنه لا يوافق على عزله، ومهما كانت الأحوال ما دام موجودًا.
كل هذا ومحمد عبده ماضٍ في مشروعاته الإصلاحية بالأزهر والمحاكم والأوقاف، وكان الحزب الوطني يناوئه ويحمل عليه بشدةٍ لأنه كان يشايع الإنجليز ويتخذهم أعوانه، وكان الإمام يرى أن مصطفى كامل مخطئ في صلته بالخديو؛ لأن عباسًا لم يكن مخلصًا في وطنيته، ولا هَمَّ له إلّا جمع المال وإيداعه بالمصارف الأجنبية خشية أن يعزله الإنجليز فجأةً، وقد قال محمد عبده في وصف مقالات مصطفى كامل:"إنها مجموعة نوبات عصبية بعضها شديد وبعضها خفيف".
والحق أن التباين كان شديدًا بين عقلية الإمام وعقلية الزعيم الشاب؛ من حيث طريقة التفكير واتخاذ الوسيلة، ولا نستطيع أن ندافع عن موقف الشيخ محمد عبده من الإنجليز واعتماده عليهم، إلّا أن الخديو هو الملوم في ذلك؛ لأنه لم يمكِّنْ هذا المصلح الكبير من السير في إصلاحاته، ولأنه أراد أن يلتهم مال الوقف بدون مبرر؛ وفي مال الوقف قسم كبير جدًّا للأزهر، كلما حاول عباس أن يعبث وقف له محمد عبده بالمرصاد، وحب المال ضعف بشري عام، وكان في عباس أضعف شيء فيه، ولكن دفاعنا هذا لا يسوغ لجوء الشيخ إلى خصوم وطنه وخصوم دينه مهما كان الإصلاح المنشود وقيمته، وما كان له أن يستعين بهم حتى لو ظل الأزهر على ما هو عليه، وهل بعد هذه التضحية استطاع أن يصلح الأزهر؟ كلّا! وقد اعترف بإخفاقه.
ولكن هل تقضي هذه الزلة السياسية على كل ما لمحمد عبده من مجد؟ اللهم لا، فقد شاركه في رأيه السياسي حينذاك كثير من زعماء الأمة؛ كسعد زغلول، وفتحي زغلول، وحسن عاصم، ومحمو عاصم، ومحمود سليمان، وسلطان وغيرهم، إلا أنه تعرض للهجمات أكثر منهم؛ لأن الخديو رأى فيه قوة واعتدادًا بالنفس، وعقبةً في سبيل مطامعه؛ فألَّبَ عليه العلماء الرجعيين، والصحافة المأجورة هزلية وجدية.
وأخيرًا اضطر محمد عبده إلى الاستقالة عقب خطبةٍ ألقاها عباس عند توليته الشيخ الشربيني مشيخة الأزهر، وهي تدل على عظم حنقه وسخطه على محمد عبده وتعريضه به، وجاء في هذه الخطبة:"إن الأزهر أُسِّسَ على أن يكون مدرسةً دينيةً إسلاميةً تنشر الدين في مصر وجميع الأقطار العربية.. ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا، ولكن من الأسف رأيت فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين، ويكثرون من أسباب القلاقل.. وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر، والشغب بعيدًا عنه، فلا يشغل علماؤه وطلبته إلّابتلقي العلوم النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه مدرسة دينية قبل كل شيء" ثم ذكر أنه قبل استقالة السيد علي الببلاوي رعايةً لصحته، وأنه مستعد لقبول كل استقالة من سواه، وممن "يحالون بثَّ الشغب بالوساوس والأوهام، أو الإبهام بالأقوال" ويرى أن مثل هذا الشخص يجب أن يكون بعيدًا عن الأزهر.
لم يكن محمد عبده صنيعة الإنجليز، أو مما يتناول أجرًا منهم، أو ممن يستعدونهم على قومهم، ويشجعونهم في أطماعهم الاستعمارية1، وإنما كان يرى أنه مصلح، ولابد له من عضد يسنده في إصلاحه ويشجعه على السير قدمًا في طريق الكمال، ولم يجد في عباس هذا العضد؛ لأنه كان مشغولًا بنفسه، وبجمع المال، وبأهوائه الخاصة، فلجأ إلى الإنجليز، وهذا اجتهاد منه أخطأ فيه، بيد أنه لا يطوح بكل ماضيه وآرائه، فالعظيم لا ينظر إليه من ناحية واحدة، بل لابد من رؤية جميع خصائصه وميزاته، وقد كان محمد عبده إمامًا في الإصلاح الاجتماعي، ورائدًا فذًّا من رواد النهضة الفكرية.
لقد كان ممكنًا أن يلتقي عباس ومحمد عبده ومصطفى كامل2، وينهض الثلاثة بمصر وبالإسلام وبالشرق العربي كله، ولكن لم يتم هذا، كما لم يتم
1 كما فعل سلطان باشا، وعمر لطفي، وكان يكرهما لموقفهما هذا.
2 كان مصطفى كامل يعتمد أول الأمر على عباس ماليًّا فكان من دعاته، ولعل هذا مما عاق اتصال الشيخ بالزعيم الشاب، وروى رشيد رضا "أن الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل التقيا على باخرة حملتهما إلى أوربا، وقال الزعيم للإمام: إذا قبلتني من مريديك فإن خدمتك للإسلام ومصر تكون مضاعفة، وأهدى له كتبًا بالفرنسية، وأخذ يرزوه بعد عودته إلى مصر، ولكن الاتصال لم يدم بينهما، كما أن مصطفى كامل قطع صلته بعباس بعد ذلك.
اجتماع محمد علي والسيد عمر مكرم ومحمد بن عبد الوهاب من قبل، واضهد محمد علي الزعيم الروحي لمصر عمر مكرم، والمصلح الديني الكبير محمد بن عبد الوهاب، وحاربه في نجد، وهكذا تكررت المأساة على يد أحد أحفاده بعد خمسين سنة.
وفاته:
استقال محمد عبده من الإفتاء وقد آمن بعجزه عن إصلاح الأزهر عجزًا تامًّا، ولم يلبث بعد ذلك مدةً وجيزةً حتى أحسَّ بالمرض، فعزم على السفر إلى أوربا طلبًا للشفاء، ولم يحل مرضه بينه وبين ما يقوم به من أعمال جليلة في مجلس الشورى وفي الجمعية الخيرية الإسلامية وامتحان دار العلوم، وإعداد مشروع القضاء، وإعداد مشروع الجامعة المصرية، بيد أن المرض ألَحَّ عليه، واختلف فيه الأطباء، هل هو المعدة؟ أو الكبد؟ ثم ظهر أنه السرطان الذي مات به من قبل أستاذه جمال الدين، فأشاروا إليه بعدم السفر، وفي يوم 11 من يولية سنة 1905، انطفأ هذا المصباح الوهَّاج، عن ست وخمسين سنة برمل الإسكندرية، واحتفل بتشييع جنازته رسميًّا، وكان حفلًا رائعًا لم تشهد مصر مثله من قبل، وكان عباس متغيبًا عن مصر فلما عاد وسمع بعظم الحفل واشتراك الحكومة فيه أنَّبَ كل من أسهم في هذا.
أثره في النثر:
لا نريد أن نتعرض هنا لآرائه الاجتماعية والسياسية والخلقية بالتفصيل، وقد مر بنا ما يعطينا عنها فكرةً واضحةً، وإنما الذي يعنينا حقًّا هي آثاره في الكتابة والنثر، وقد عرفنا أنه ابتدأ يكتب في الصحف، وهو بعد طالب في الأزهر، وقد طرأ على أسلوبه الكتابيِّ تغييرٌ كثير منذ المقالة الأولى التي أرسلها لجريدة "الأهرام"1 حتى انتقل إلى جوار ربه، ولمحمد عبده أثر عظيم في النثر العربي، سواء في أسلوبه هو، وجعله مثلًا يحتذى به في الأعمال الجليلة التي قام بها لخدمة النثر والكتابة.
1 العدد الخامس الصادر في 2 سبتمبر سنة 1876.
1-
أما أسلوبه فتراه يعنى به عنايةً زائدةً، وإذا قرأت ما كتبه في جريدة الأهرام، تجده متأثرًا بالكتب الأزهرية وخاصة ما أُلِّفَ في الفلسفة الإسلامية؛ من حيث الموضوع وطريقة علاجه، ونجده كذلك لا تفوته سجعة، وإن تكلف في سبيلها المشاق، ويقدم موضوعه بمقدمات طويلة تجهد نفس القارئ وتسئمه، وهاك مثلًا على هذا الأسلوب من مقالة "الكتابة والقلم":"ولما انتشر نوع الإنسان في أقطار الأرض، وبعد ما بينهم في الطول والعرض، مع ما بينهم من المعاملات، ومواثيق المعاقدات، احتاجوا إلى التخاطب في شئونهم، مع تنائي أمكنتهم، وتباعد أوطانهم، فكان لسان المرسل إذ ذاك لسان البريد، وما يدريك هل حفظ ما يبدء المرسل وما يعيد، وإن حفظ هل يقدر على تأدية ما يريد، بدون أن ينقص أو يزيد، أو يبعد القريب أو يقرب البعيد، فكم من رسول أعقبه سيف مسلول، أو عنق مغلول، أو حرب تخمد الأنفاس، وتعمر الأرماس، ومع ذلك كان خلاف المرام، ورمية من غير رام.. فالتجئوا إلى استعمال رقم القلم، ووكلوا الأمر إليه فيما به يتكلم". وهذا النوع من النثر قد وفيناه بحثًا فيما سبق.
ثم لما اتصل بجمال الدين، ورأى منه قدرته على تصريف المعاني، وعلى ابتداع أفكارٍ جديدةٍ، وقرأ معه بعض كتب الفلسفة والمنطق، وخاض في الموضوعات الاجتماعية والسياسية، تدفعه إلى الكتابة عاطفة جياشة وشباب فتيّ، وأثر متقد من نفس أستاذه جمال الدين، لم يجد وسيلة إلّا أن يتخلص من السجع والكلف به وأن يتجنب المقدمات الطويلة، وأن يرتِّبَ الموضوعات ترتيبًا منطقيًّا، ويكثر من استعمال الأقيسة والبراهين، يقلب الفكرة على شتَّى وجوهها؛ ويرى في كلامه قوةً وحرارة إيمان بما يكتب، وهذا النوع من النثر يتجلى في مقالات "الوقائع المصرية" وقد تدرج في إصلاح أسلوبه حتى اشتد وقوي، ثم بلغ درجةً عظيمةً من المتانة، وبرزت فيه هذه المزايا التي ذكرناها في مقالات "العروة الوثقى"، فمن نثره في "الوقائع المصرية" قوله في التربية بالمدارس: "من المعلوم البيِّنِ أن الغرض الحقيقي من تأسيس المدارس والمكاتب، والعناية بشأن التعليم فيه إنما هو تربية العقول والنفوس، وإيصالها إلى حدٍّ يُمَكِّنُ المربي من نيل كمال السعادة أو معظمها ما دام حيًّا، وبعد موته، ومرادنا من تربية العقول إخراجها من حيز البساطة
الصرفة والخلو من المعلومات، وإبعادها من التصورات والاعتقادات الرديئة إلى أن تتحلى بتصورات ومعلومات صحيحة تحدث لها ملكة التمييز بين الخير والشر، والضار والنافع، ويكون النظر بذلك سجية لها، أي يكون لنور العقل نفوذ تامٌّ يفصل بين طيبات الأشياء وخبائثها".
وهو أسلوب المصلح الاجتماعي، وقد عرفت خصائص هذا النوع من النثر قبل، ولم يكن يعمد فيه الشيخ محمد عبده إلى تفخيم الألفاظ وانتقائها، وحبك الجمل واستوائها، وقد يستعمل أحيانًا كلمات عامية أو دخيلة للتعبير عما يريد إذا لم تسعفه الكلمة العربية.
أما مقالات "العروة الوثقى" فقد مرت بك نماذج كثيرة منها، فلا داعي لذكر جديد.
ثم مرن أسلوب الشيخ محمد عبده واشتدَّ قلمه، من كثرة ما كتب، وما تناول من موضوعات، وما تأثر به من تجارب وقراءة، وبلغ أسلوبه غايته في مقالته التي يردُّ بها على "هانوتو" وكان وزيرًا لخارجية فرنسا، وقد بحث في كلمته الأسباب التي تدعو المسلمين إلى النفور من الحكم الأجنبي، وهل من وسيلة لتحبيبهم في فرنسا؟ وقد تعرض للإسلام، ولماذا كان المسلمون غير مسيحيين؟ ووازن بين الإسلام والمسيحية، وتعصَّب لدينه ونشرت جريدة "المؤيد"1 مقالته، فرد عليه الشيخ محمد عبده ردًّا مفحمًا، تجلت فيه نصاعة الفكرة، وصدق العاطفة ومتانة الأسلوب، وقوة الحجة، وسلامة البرهان، مع بساطة في التركيب، وسهولة في الألفاظ، وطالت المساجلة بين "هانوتو" والشيخ محمد عبده، وانتصر فيها الإمام انتصارًا بالغًا، وكان من الأسباب التي مكنت له مقامه بمصر بعد عودته من المنفى، ووضعته في مركز الصدارة من مفكري الأمة والذادة عن الدين.
1 تاريخ الإمام ج2 ص382، مقال "هانوتو" ص 382-395، ورد محمد عبده عليه ص 395-411، انظر التفاصيل في تاريخ الإمام ج2 ص289 وما بعدها.
ويقول في إحدى هذه المقالات: "إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها عدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم بعدما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم، في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة".
هذا وقد كانت للشيخ في رسائله الإخوانيه أسلوب يحتفي فيه، بعبارته، وتصوير مشاعره تصويرًا فنيًّا يدل على ذوق أدبي، وتمكن من اللغة والأدب، وعلى أنه ذو موهبة شعرية تمده بالخيالات الطريفة والصور البيانية الجميلة، وقد ذكرنا فيما سبق خصائص هذا الأسلوب، وضربنا عليه أمثلةً من كتابة أديب إسحق، وعبد الله نديم، وعبد الله فكري. وهاك مثلًا من رسالة للشيخ محمد عبده إلى أحد إخوانه وهو في سجن القاهرة بعد أن اتهم بالاشتراك في حوادث الثورة العرابية، وذلك في 9 من المحرم سنة 1320، الموافق 20 من نوفمبر سنة 1881م.
عزيزي:
تلقدتني الليالي وهي مدبرة
…
كأنني صارم في كف منهزم
هذه حالتي: اشتد ظلام الفتن حتى تجسم بل تحجر، فأخذت صخوره فمن مركز الأرض إلى المحيط الأعلى، واعترضت ما بين المشرق والمغرب، وامتد إلى القطبين، فاستحجرت في طباع الناس! إذا تغلبت طبيعتها على المواد الحيوانية أو الإنسانية، فأصبحت قلوب الثقلين كالحجارة أو أشد قسوة، فتبارك الله أقدر الخالقين.
رأيت نفسي اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه، في ليلة داجية، غطى فيها وجه المساء بغمام سوء، فتكاثف ركامًا؛ لا أرى إنسانًا، ولا أسمع ناطقًا، ولا أتوهم مجيبًا.
أسمع ذائابًا تعوي، وسباعًا تزأر، وكلابًا تنبح، كلها يطلب فريسةً واحدةً وهي ذات الكاتب، والتف على رجلي تنينان عظيمان، وقد خويت بطون الكل، وتحكم فيها سلطان الجوع، ومن كان هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين.
تقطع حبل الأمل، وانفصمت عروة الرجاء، وانحلت الثقة بالأولياء، وضل الاعتقاد بالإصغاء، وبطل القول بإجابة الدعاء، وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء، وحقت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة والأنبياء والناس أجمعين.
سقطت الهمم، وخربت الذمم، وغاض ماء الوفاء، وطمست معالم الحق، ومزقت الشرائع، وبدلت القوانين، ولم يبق إلّا هوًى يتحكم، وشهوات تقضي، وغيظ يحتدم، وخشونة تنفذ، تلك سنة الغدر، والله لا يهدي كيد الخائنين.
ذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية، ينوسون لطب أصداف من الشبه، ومقذوفات من التهم، وسواقط من اللم، ليموهوها بمياه السفسطة، ويغشوها بأغضية من معادن القوة؛ ليبرزوها في معرض السطوة، ويغشوا بها أعين الناظرين، لا يطلبون ذلك لغامض يبينونه، أو لحقٍّ خفيٍّ فيظهرونه، أو خرق بدا فيرتقونه، أو نظام فسد فيصلحونه، كلّا كلّا بل ليثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مخطئين"1.
ولعلك تلمس في تلك الشكوى المرة من الخيانة والغدر وعدم الوفاء، وتحكم الأهواء، وهي التي سمعتها من قبل على لسان البارودي بعد أن غدر به أصحابه، وأخفقت الثورة، وزج به في غياهب السجن، ولقد كان الشيخ في نثره شاعرًا جياش العاطفة، بارع التصوير لحاله ولآلامه ولمرارة السجن.
هذا ولم يعن محمد عبده بأسلوبه فحسب، بل حاول أن يحمل الكُتَّابَ على العناية بكتاباتهم، وله في هذا المضمار، وفي النهوض بالكتابة آثار منها:
1-
مكَّنَ له منصبه في "الوقائع المصرية" من الإشراف على الجرائد والمجلات، ومراجعة ما يحرره كتبة الدواوين في شئون الحكومة، وقد مر بك كيف أنذر
1 تاريخ الأستاذ الإمام ج2 ص521-522 طبعة أولى سنة 1374 بالمنار.
صاحب إحدى الجرائد بالتعطيل إن لم تغير أحد كتابها، أو تحمله على تحسين أسلوبه، وقد التَفَّ حوله فريق من طليعة كتاب مصر والشرق، وأفسح لهم في "الوقائع المصرية" يدبجون المقالات الاجتماعية والأدبية والسياسية بإرشاده، وكان يرى أن اللغة العربية هي أساس الدين1 وأن حياة المسلمين بدون حياة لغتهم من المحال2.
2-
وفي بيروت شرح نهج البلاغة ليسهل على الناس قراءته والإفادة منه، وشرح مقامات بديع الزمان الهمذاني ونشرها حتى تكون زادًا يتغذَّى به طلاب الأدب، ومن ينشدون قوة الأسلوب وسلامة التعبير.
ولما عاد إلى مصر كانت دروسه في البلاغة تختلف عن تلك الكتب التي أفسدتها عجمة مؤلفيها، واختار من كتب البلاغة دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وكان السبب في نشرهما لينتفع الناس بهما وقد نشرهما المنار.
وأنشأ جمعية لإحياء الكتب العربية، نشرت "المخصص" لابن سيده، وفي نشره تيسير على طلاب اللغة؛ لأنه من معجمات المعاني، فقد يكون بذهنك المعنى، ولكن يعوزك اللفظ المعبر عنه فتلتمسه في "المخصص" وفي أمثاله من المعجمات، وقام بتصحيح "المخصص" العالم اللغوي الشهير الشيخ محمد محمود الشنقطي، وقد حماه الشيخ محمد عبده، وشجعه على الإقامة بمصر، ولولاه ما بقي3. كما شرع في طبع "الموطأ" للإمام مالك بعد أن جاء بنسخ خطية له من تونس وفاس وغيرهما4.
4-
وعهد إلى الأستاذ سيد بن علي المرصفي في تدريس كتب الأدب بالأزهر، أمثال:"الكامل" للمبرد، و"ديوان الحماسة" لأبي تمام، وكانت هذه الدروس غريبة عن الأزهر، ولا عهد له بها، وقد تتلمذ على المرصفي عدد كبير من أدباء مصر البارزين اليوم، أمثال: المنفلوطي، وطه حسين، والزيات، والزناتي، وغيرهم، فهم أثر من آثار توجيهه وإرشاده.
1 تاريخ الإمام ج3 ص259.
2 المنار ج8 ص491.
3 بروكلمان ج1 ص309.
4 المنار ج8 ص491.
وبهذه الوسائل استطاع محمد عبده أن يقدم للنثر العربي خدمة جليلة، ويوجه الكُتَّاب إلى العناية بما يكتبون، غير مقيدين بذلك السجع السخيف، ومنصرفين إلى المعاني وتفتيقها، ودراسة الموضوع دراسة جيدة تفيد القارئ وتجدي على الأمة.
هذا ما كان من أثره في النثر، ولا يسعنا ونحن نختم هذه العجالة عن محمد عبده إلّا أن نقرر أنه أيقظ في مصر الشعور الديني، والرغبة في الإصلاح الاجتماعي، وأن الأولى بالمسلمين أن يعتمدوا في الإصلاح على أنفسهم، ويدعوا الفخر بماضيهم؛ ودعا إلى أن العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بالعقل، وكما دعا إلى الاجتهاد، وعدم الوقوف بالتشريع وبمسائل الدين عند الحد الذي قُرِّرَ من قرون عديدة، وذلك لكي نواجه المسائل الجديدة بتشريعٍ دينيٍّ سليم، قبل أن نغلب على أمرنا، وكان يرى أن أكبر سلاح في الدنيا هو العلم، وأكبر مقوم للأخلاق ومهذب لها هو الدين، والدين الإسلامي لحسن الحظ يتشمى مع العقل، ويحض على مكارم الأخلاق، ويفسح صدره للعلم.
لقد خلف محمد عبده تلاميذه ببررة تأثروا بتعاليمه، وظلوا ردحًا طويلًا من الزمن يفتخرون بانتسابهم إليه وبالأخذ عنه، ومنهم سعد زغلول، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم المويلحي، والهلباوي، ومصطفى صادق الرافعي بمصر، وإبراهيم اليازجي، وأحمد الحمصاني بسوريا، وعدد كثير سواهم ممن حملوا لواء الإصلاح بعده، وكان لهم الأثر البالغ في أوطانهم ونهضتها، وإن كان قد صبغهم في أثناء حياته بطابعه السياسي الخاص، ووجه ميولهم صوب الإنجليز، فهادونهم، وتعانوا معهم في كل شيء، فلما تُوفِّيَ الشيخ محمد عبده، أسرع بعضهم إلى جبهة الوطنيين مثل حافظ إبراهيم، وتأخر الزمن قليلًا ببعضهم عن ذلك المضمار، ولكن ما لبث بعضهم حتى صار زعيم الوطنية بمصر كسعد زغلول.