المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌محمود البارودي: 1255هـ-1322هـ، 183م-1904م: حياته: محمود سامي الباردوي، من أسرة جركسية ذات جاهٍ - في الأدب الحديث - جـ ١

[عمر الدسوقي]

الفصل: ‌ ‌محمود البارودي: 1255هـ-1322هـ، 183م-1904م: حياته: محمود سامي الباردوي، من أسرة جركسية ذات جاهٍ

‌محمود البارودي:

1255هـ-1322هـ، 183م-1904م:

حياته:

محمود سامي الباردوي، من أسرة جركسية ذات جاهٍ ونسب قديم1، وتنتمي إلى حكام مصر المماليك، وكان البارودي يعرف هذا النسب ويعتز به.

أنا من معشر كرام على الدهر

أفادوه عزةً وصلاحًا

عمرو الأرض مدة ثم زالوا

مثلما زالت القرون اجتياحًا

ويقول:

نماني إلى العلياء فرع تأثلت

أرومته في المجد، وافترَّ سعده

وحسب الفتى مجدًا إذا طلب العلا

بما كان أوصاه أبوه وجده

1 أبوه حسن حسني الباردوي، من أمراء المدفعية، ثم صار مديرًا لبربر ودنقلة، في عهد محمد علي، وجده لأبيه عبد الله الجركسيّ، والبارودي نسبة إلى "إيتاي البارود" بمديرة البحيرة، وكان أحد أجداده ملتزمًا لها، ينتهي نسبه إلى الملك الأشرف "سبرباي" الأتابكي، من المماليك الذين حكموا مصر في ما مضى. "مذكرات عرابي ج1 ص100".

ص: 167

وتيتَّمَ محمود البارودي صغيرًا، وهو في السابعة من عمره، فحُرِمَ بذلك حنان الأب ورعايته، وتلقَّى دروسه الأولى في البيت حتى بلغ الثانية عشرة، ثم التحق بالمدرسة الحربية مع أمثاله من الجراكسة، والترك، وأبناء الطبقة الحاكمة، وتخرَّج في المدرسة الحربية سنة 1854، وهو في السادسة عشرة من عمره، في عهد عباس الأول، وكان من المعوقين للنهضة كما مَرَّ بنا، وقد خمدت في عهده روح الحماسة التي شبها محمد علي في الجيش، بل سَرَّحَ معظمه، وقفرت ميادين القتال من ألوية مصر، ولم يكن عهد سعيد أحسن حالًا من عهد عباس، فلم يجد البارودي -كمالم يجد زملاؤه- عملًا يعملونه، أما هم: فقد طاب لهم عيش الرخاء والدعة، وسَرَّهم البعد عن ميادين القتال، ولكنه أحسَّ دونهم بألم ممضٍّ؛ إذ لم يشترك في حربٍ كما اشترك آباؤه، كم كان يود أن يحقق عن طريق الجندية والجيش آمالًا ضخمةً، وأمانيّ عريضة، ودفعه هذا الأمل إلى العوض عن المعارك الحقيقة بمعارك موصوفةٍ مدونةٍ في صحفات التاريخ، فعكف على كتب الأقدمين يلتهمها التهامًا. وكانت ملكة الشعر كامنة في حنايا فؤاده، فراقه من التراث الأدبي شعر الحماسة والفخر، ووصف ميادين القتال، وأعمال الأبطال، ورأى في هذا الأدب تصويرًا للحياة كلها؛ حلوها ومرها، من غزل وفكاهة وحكمة ورثاء، وكل ما يخطر ببال الناس، فازداد شغفه به وحرصه على حفظه وتدوينه، وتحركت نفسه لقول الشعر فقَلَّدَ فحول الشعراء في أروع قصائدهم، وهل على مثله مِنْ بأسٍ أو عارٍ إذا هو قال الشعر؟ إذا وهم هذا معاصروه من أبناء طبقته لجهلهم وخمود قريحتهم ولتقالديهم الموروثة، ولهوان شعراء زمانهم، وضعة شأنهم، فإن البارودي كان على ذكر من أنَّ أمراء كثيرين قبله، أعرق نسبًا، قد برزوا في الشعر العربيّ وسطروا تاريخهم في سجل الخلود، كامرئ القيس، وابن المعتز، والشريف الرضيّ، وأبي فراس، وأضرابهم، فلِمَ لا يكون مثل هؤلاء؟ ولم لا يرتفع بالشعر إلى منزلتهم؟ لن يكون مدَّاحًا متملقًا، أو نديمًا منافقًا، ولكنه سيقول في أغراض شريفة تليق به وبمكانته.

ص: 168

الشعر زين المرء ما لم يكن

وسيلة للمدح والذام

قد طالما عزَّ به معشر

وربما أزرى بأقوام

فاجعله ما ئشت من حكمة

أوعظة أو حسب نام

واهتف به من قبل تسريحه

فالسهم منسوب إلى الرامي

وقدعرف فيما عرف من أدب العرب منزلةَ الشعرِ وعبَّر عنها بعد بقوله:

صحائف لم تزل تتلى بألسنة

للدهر في كل ناد منه معمور

يزهى بها كل سام في أرومته

ويتقي البأس منها كل مغمور

فكم بها رسخت أركان مملكة

وكم بها خمدت أنفاس مغرور

والشعر ديوان أخلاق يلوح به

ما خطه الفكر من بحث وتنقير

كم شاد مجدًا، وكم أودى بمنقبة

رفعًا وخفضًا بمرجوٍّ ومحذور

هكذا رأى البارودي الشعر، وما كان له أن يعرض عنه، ولو حاول ما استطاع وفيه طبع شاعر، وقد ملك أداته اللغوية المعبرة.

تكلمت كالماضين قبلي بما جرت

به عادة الإنسان أن يتكلما

فلا يعتمدني بالإساءة غافل

فلابد لابن الأيك أن يترنما

فهو مطبوع على قول الشعر مثله في ذلك مثل الهزار أو البلبل، ينطق كلاهما بالغناء فطرةً وجبِّلَّةً، ولكن مصر ضاقت به، أو ضاق بها؛ حيث لم يجد غنية لدى الدولة تحقق آماله، فسافر إلى الآستانة مقر الخلافة، والتحق بوزارة الخارجية، وهناك تعلم التركية والفارسية وتعلم آدابهما، وحفظ كثيرًا من أشعارهما، ودعته سليقته الشاعرة فقال بالتركية وبالفارسية كما قال بالعربية، ومع ذلك لم يهجر لسانه الأول، ولما سافر إسماعيل إلى الآستانة بعد أن تولى أريكة مصر سنة 1863؛ ليقدِّمَ أي: الشكر على توليته، ألحق البارودي بحاشيته، ورأى فيه ما لم يره في غيره، فرجع به إلى مصر.

ص: 169

وابتدأ إسماعيل نهضته بعد عودته، مترسمًا خطا جده، وأعاد للجيش مكانته، ووجد البارودي المجال أمامه فسيحًا، فظل يرقى في مناصب الجيش، وفي فرسان الحرس الخاصِّ حتى وصل إلى رتبة "قائمقام" وتحقق له مناه بالاشتراك في معارك جزيرة "كريت" حين ثارت على الدولة، فأسهم إسماعيل بجيشه في إخماد الثورة، وقد فتنت الباردوي مناظر الجزيرة ومناظر المعارك، فسجَّل ذلك كله في شعره، وسمع الناس نغمًا جديدًا في الشعر لم يألفوه منذ عهدٍ طويل، وأخذوا يتطلعون في لفهةٍ وشوقٍ إلى المزيد من هذا النفس العالي، ومن هذا الطراز الجديد في الشعر1.

وتقلب البارودي في مناصب الدولة، وكان ذا حظوةٍ لدى إسماعيل، فاتخذه كاتم سره، وسافر في رحلتين سياسيتين إلى الآستانة في مهمةٍ خاصَّةٍ، ومكث اثنتي عشرة سنة بجوار إسماعيل، يرى نشاطه الجم في إحياء مصر وإنهاضها، ويشاركه في عمله المجيد، وفي سنة 1878 أعلنت روسيا الحرب على تركيا، وأرسل إسماعيل جيشًا يعاون الخليفة في حربه مع عدوه، وسافر البارودي مع الجيش، وأبلى في المعارك بلاءً حسنًا، فأُنْعِمَ عليه عليه برتبة "اللواء" وبأوسمة عدة.

وكان في ميدان القتال، والمناظر الخلابة، والعالم الذي رآه ما ألهب شاعريته، فوصف المعارك والناس والمناظر بشعر أخَّاذٍ بلغ الذورة في الوصف، وأخذ يهتف باسم مصر، ويحنُّ إلى الأهل والوطن، فانبعث منه الشعر قويًّا مليئًا بالحياة.

مولاي قد طال مرير النوى

فكل يوم مرّ بي ألف عامٍ

يقتبل الصبح ويمضي الدجى

وينقضي النور ويأتي الظلام

ولا كتاب من حبيب أتى

ولا أخو صدق يرد السلام

من خلفنا البحر وتلقاءنا

سواد جيش مكفهر لهام

ويقول في قصيدة أخرى:

هو البين حتى لا سلام ولا رد

ولا نظرةً يقضي بها حقه الوجد

1 سنتكلم عن شعر البارودي فيما بعد بالتفصيل إن شاء الله.

2 الخطاب للاديب العالم الشيخ حسين المرصفي، وإليه أرسل هذه القصيدة، والتي تليها.

ص: 170

ومنها يقول:

ولكنَّ إخوانًا بمصر ورفقة

نسوا عهدنا حتى كأن لم يكن عهد

أحن لهم شوقًا على أن دوننا

مهامه تعيا دون أقربها الربد

فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا

ثوت عندكم شهرًا وليس لها رد

أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم

وأنتم علينا ليس يعطفكم ود

فلا تحسبوني غافلًا عن ودادكم

رويدًا فما في مهجتي حجر صلد

هو الحب لا يثنيه نأيٌ وربما

تأجج من مَسِّ الضرام له الند

وعاد من حرب البلقان وهو في الأربعين من عمره؛ فعين مديرًا للشرقية، فمحافظا للعاصمة، ثم ساءت أمور مصر أخريات عصر إسماعيل، واضطربت اضطرابًا كبيرًا، وناء الفلاحون بالضرائب الفادحة العديدة، ولنستمع إلى شاهد عيان يصف لنا الهوة التي تردَّى فيها الفلاحون في تلك الحقبة سنة 1875؛ حيث يقول: كان من الأمور النادرة في تلك الأيام أن يرى الإنسان شخصًا في الحقول وعلى رأسه عمامة، أو على ظهره شيء أكثر من قميص.. وغَصَّت مدن الأرياف في أيام الأسواق بالنساء اللاتي أتين لبيع ملابسهن وحليهن الفضية للمرابين "الأروام"، لأن جامعي الضرائب كانوا في قراهن والسوط مشهر في أيديهم، فابتعنا مصوغاتهن الزهيدة، وأصغينا إلى قصصهن، واشتركنا معهن في استنزال اللعان على الحكومة التي جعلتهن عرايا، ولم نكن فهمنا وقتئذ -أكثر مما فهمه القرويون أنفسهم- ذلك الضغط الماليّ الآتي من أوروبا، والذي كان السبب الحقيقيّ في هذا الضيق، وعلى ذلك جاريناهم في إلقاء اللوم كله على إسماعيل باشا وإسماعيل صديق، دون أن يخامرنا شكٌّ في أن الإنجليز أيضًا يقع عليهم جانب من اللوم1.

1 التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر، تأليف ألفريد بلنت، ص12.

ص: 171

وكانت للامتيازات الأجنبية نصيبٌ كبيرٌ في تدهور الحالة بمصر في تلك الأونة؛ حيث قد أصبحت أداةً ينتفع بها شر الطغاة من الأوربيين، وأشباه الأوربيين من متخرجي الشرق الأدنى، وتجسمت في أخريات عهد إسماعيل، حتى بلغت مداها المخيف، وراح الأوربيّ قناص الغنيمة، وسمسار القروض المرهقة، والإغريقيّ صاحب الخان، ومرتهن الأرزاق، واليهوديّ المراب، ي ومن إليهم ممن يسهل عليهم الاحتماء بإحدى الدول الأوربية، يمتصون الخزانة العامة، والفلاح والفقير، ويقترفون في هذه الجناية ما يستعصي على التصديق1".

أما الضرائب التي فرضها إسماعيل على الأرض فقد كانت فوق ما يتصور، حتى لقد بلغت الضريبة على الفدان ما يقرب من ثمنه، فكان من الطبيعيّ أن يترك هؤلاء الفلاحين أرضهم وديارهم، وينسحبوا هاربين عجزًا عن أداء الضرائب، وخوفًا من السياط2.

عدا ثلاثين نوعًا من الضرائب الصغيرة، أضرَّت ضررًا بليغًا بالصناعات والأعمال التجارية والزراعية3.

ناهيك بالسخرة، وما كان يصطحبها من إهانةٍ وأذى وذلة، طوحت بعزة المصريين، وأرهقتهم إرهاقًا شديدًا، حتى جعلت أيام السواد منهم شقاءً وبؤسًا.

كانت هذه الأمور من العوامل التي ملأت قلوب المصريين حقدًا وكراهيةً لإسماعيل وحكمه.

وزاد الأمور سوءًا أن إنجلترا وفرنسا كانتا تدفعان الحوادث دفعًا نحو التأزم، حتى تتاح لهما الفرصة للتدخل المباشر، وافتراس مصر، ففرضتا على مصر وزارةً فيها وزيران أوربيان برياسة نوبار باشا، "وكانت طبقة الموظفين المسلمين تعده أفاقًا أرمينًا، جمع ثورةً كبيرةً من سمسرته لأصحاب الأموال المستعدين لإعطاء القروض على حساب الجمهور، أما الفلاحون فكانوا يعرفون فيه الرجل الذي أنشأ المحاكم المخطلته التي يمقتونها أشد المقت؛ لاعتقادهم أنها وضعتهم في قبضة المرابين4".

1 Milner: England in Egypt P.15.

2 Cromar: Modern Egypt.36.

3 تاريخ محمد عبده، لرشيد رضا، ج1، ص172.

4 بلنت، ص37.

ص: 172

واشتطت هذه الوزارة في الضرائب وجبايتها، وتأخرت رواتب الموظفين، وعزل الكثيرون منهم، وانقضت سلطة الباقي، وتقرَّرَ فصل عدد كبير من ضباط الجيش، مع أنهم لم يتقاضوا مرتباتهم منذ زمن طويل، فزاد السخط، وقامت مظاهرة من الضباط وطلبة المدرسة الحربية وبعض النواب، في 18 من فبراير 1879، أمام وزارة المالية، احتجاجًا على هذا الظلم، واعتدوا على نوبار، وعلى الوزير الإنجليزي، وعلى رياض باشا وزير الداخلية، ولم يتفرقوا إلّا بعد أن أطلقت النار، ثم سقط الوزارة، واتهم عرابي بتدبير تلك الثورة، وأبعد عن فرقته1.

وتولَّى توفيق ولي العهد الوزارة، واشتد الخلاف بينه وبين مجلس النواب الذي رأى تخفيض الضرائب فأبى، وفي هذه الأونة أُلِّفَ الحزب الوطنيّ، وأصدر لائحةً تتضمن مشروعًا ماليًّا لسداد الديون بكفالة الشعب، وطالب فيها بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، ووقَّعَ على هذا البلاغ النواب والعلماء ورؤساء الأديان، وكثير من التجار والموظفين والضباط، ورفعوها إلى إسماعيل، فقبلها على الرغم من احتجاج الوزيرين الأوربيين، ودعا شريف باشا في 7 من أبريل لتأليف الوزارة على مبادئ اللائحة الوطنية، فكانت فرحة الشعب بهذا النصر عظيمة. وبيد أن إنجلترا وفرنسا قابلتا هذه الوثبة الوطنية بالسخط الشديد، فعملتا على خلع إسماعيل؛ فأقلعت به "المحروسة" إلى نابلي غير مأسوفٍ عليه من المصريين الذين لم ينسوا ما فعله بهم، حتى لقد هموا من قبل بقتله والتخلص منه، فيقول عرابي:"خلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من عائلة محمد علي بأجمعها؛ إذ لم يكن فيها أحد جدير بالحكم سوى سعيد، وقد اقترح جمال الدين على محمد عبده أن يقتل إسماعيل على جسر قصر النيل"2، ويقول محمد عبده:"وكنت أنا موافقًا الموافقة كلها على قتل إسماعيل، ولكن كان ينقصنا من يقودنا في هذه الحركة، ولو أننا عرفنا عرابيًّا في ذلك الوقت، فربما كان في إمكاننا أن ننظم الحركة معه2".

1 بلنت ص171.

2 التاريخ السري، بلنت ص347.

3 المرجع نفسه 340.

ص: 173

وتولى توفيق العرش بدل أبيه، وكان المصريون يعلِّقون عليه آمالًا كبارًا؛ لأنه كان من المعجبين بالسيد جمال الدين الأفغاني وآرائه الإصلاحية، ولكنه ما لبث أن تَنَكَّرَ لهذه المبادئ بعد توليه العرش، وأرجع المراقبة الثنائية، وخاصم الحكم النيابيّ، وحكم البلاد حكمًا مطلقًا، وكان في هذا منفذًا لمشورة الأجانب، مستجيبًا لتدخلهم، فعزَّ ذلك على كثير من رجال مصر، ورأوا لزامًا عليهم أن يضعوا حدًّا لهذا التيار.

كان البارودي من المقربين لتوفيق، وولاه وزارة الأوقاف، فأصلح فيها ما وسعه جهده، وكان في الوقت نفسه وطنيًّا متشبعًا بروح الإصلاح، فحار في أمره بين ولائه للعرش، وبين نزعاته الإصلاحية.

ثم كانت حركة الجيش، والمطالبة بتولية المصريين المناصب العليا، وقد كانت قبل وقفًا على الجراكسة والأتراك، وكانوا في منتهى الغلظة والقسوة، فثار الجيش في أوائل سنة 1881، حين أصدر عثمان وفقي الجركسي وزير الحربية أمرًا بعدم ترقية المصريين، وبفصل بعض ضباط المتزعمين فيهم، وانتهى الأمر بعزل عثمان رفقي هذا، وإجابة الجيش إلى ما طلب من إصلاح، وتولية البارودي وزارة الحربية مع الأوقاف، وهدأت الأمور في الظاهر، ولكن الجراكسة كانوا يدبرون مكيدةً للضباط المصريين، وتأزمت الأمور، فكانت مظاهرة عابدين في 9 من سبتمبر 1881، يتقدمها "عرابي" وكبار الضباط المصريين، وأطلَّ عليهم توفيق، ومعه وزراؤه وحاشيته وقناصل الدول الأجنبية، وتَقَدَّمَ عرابي إليه بطلبات الجيش والأمة، وهي إسقاط وزارة رياض، وتشكيل مجلس النواب، وزيادة عدد الجيش، وبعد مناقشاتٍ طويلةٍ حادةٍ، تقرر إجابة هذه الطلبات.

وكان البارودي وزيرًا للحربية في وزارة رياض، ولما رأى هذا نزعاته الشعبية، وصلته بالوطنيين، دُسَّ عليه لدى توفيق فعزله، ودفعه إلى اعتزال السياسة فترةً من الوقت، فترك القاهرة وجوَّها القلق، وآثر العزلة في الريف، وفي هذا يقول:

ص: 174

صبح مطير، ونسمة عطرة

وأنفس للصبوح متنظرة

فدر بعينييك حيث شئت تجد

ملكًا كبيرًا وجنة خضرة

وخلنا من سياسة درجت

بين أناس قلوبهم وغره

يقضون أيامهم على خطر

فبئس عقبى السياسة الخطرة

خديعة لا يزال صاحبها

بين هموم وعيشة كدرة

فلما سقطت وزارة رياض تحت ضغط الوطنيين عقب مظاهرة عابدين، عاد البارودي وزيرًا للحربية بعد أن ألحَّ عليه توفيق إلحاحًا شديدًا، وانتخب مجلس النواب، وافتتح في ديسمبر 1881، وهدأت الأمور، وسارت وزارة شريف في طريق الإصلاح، ولكن إنجلترا وفرنسا كانتا كارهتين للهدوء والاستقرار، فما أن أخذ مجلس النواب يناقش المادة التي تخوّل له الحق في تقرير الميزانية، حتى قدمتا مذكرةً تحتجان فيها على ذلك، وقبل شريف هذا الاحتجاج، ورفضه مجلس النواب، فاستقالت وزراة شريف، وتولَّى البارودي رئاسة الوزارة في 4 من فبراير 1882، وكان عرابي وزيرًا للحربية في وزارة البارودي.

كان البارودي محبوبًا من الشعب ومن الجيش على السواء، وفرح المصريون بوزارته فرحًا عظيمًا، وأخذ مجلس النواب، فوق إصدار الدستور الذي كان صدوره عيدًا للأدب والتاريخ؛ يبحث عدة مشروعاتٍ لمعالجة غلاء الأسعار، وتعميم التعليم الابتدائي، وإصلاح القضاء، وإنشاء خزان أسوان، ثم انتهت دورته، وتابعت الوزارة حركة الإصلاح في خطًا واسعة، ولكن أنى لها الجوَّ الهادئ وتوفيق واقع تحت سيطرة فرنسا وانجلترا، وهما متربصتان بمصر والمصريين الشر، فانتهزتا فرصة الخلاف بينه وبين الوزارة بسبب مؤامرة الضباط الجراكسة على قتل عرابي وأصحابه، وبالرغم من أن هذا الخلاف قد سُوِّيَ، فقد بدأت سفن الأسطولين الإنجليزيّ والفرنسيّ تصل إلى مياه الإسكندرية، وقدمت الدولتان في 25 من مايو مذكرةًَ جديدةً بضرورة استقالة الوزارة، ونفي عرابي، وتحديد إقامة بعض أصحابه بناءً على اقتراح سلطان "باشا" الذي بدأ من ذلك اليوم يناصر الإنجليز، ويخون قضية بلاده، تلك القضية التي طالما ناصرها، وهكذا وقع في الشرك الذي وقع فيه شريف "باشا" من قبل1.

1 بلنت، التاريخ السري 224.

ص: 175

واجتمع الوزراء، وقرروا رفض المذكرة، ولما قبلها توفيق اضطروا إلى الاستقالة.

وهاج الشعب على أثر ذلك، واشتد سخطه، وقدموا احتجاجاتٍ قويةً لتوفيق، يطلبون فيها رفض طلبات إنجلترا وفرنسا، والإبقاء على عرابي في الوزارة، وإذا أبى توفيق عُزِلَ عَزْلًا، واضطر توفيق بعد استشارة "قناصل" الدول الأجنبية إلى الإبقاء على عرابي زيرًا للحربية حفظًا للأمن، وبقيت الوزرات الأخرى شاغرة إلى حين.

لما طالب الجيش بعزل توفيق راودت البارودي نفسه ونازعته يومئذ إلى المجد المؤمل، وإلى مكان أجداده المماليك الذين حكموا مصر، فخاض الصورة مع الخائضين، ولكنه رأى بعين فراسته أن التيار شديد، وأن انجلترا وفرنسا تتربصان بمصر الدوائر، وأحسَّ بالخطر، وعلم أن لا قِبَلَ له بمواجهته، فنصح لعرابي وإخوانه وصارحهم برأيه، وحاول الاعتزال في مزراعه، ولكن هيهات، وقد جرى مع الضباط شوطًا بعيدًا، ربط حظه بحظهم، وإن لم تعد له الصدارة كما كان.

وفي هذا يقول:

نصحت قومي وقلت الحرب مفجعة

وربما تاح أمر غير مظنون

فخالفوني وشبوها مكابرة

وكان أولى بقومي لو أطاعوني

تأتي الأمور على ما ليس في خلد

ويخطئ الظن في بعض الأحايين

حتى إذا لم يعد في الأمر منزعة

وأصبح الشر أمرًا غير مكنون

أجبت إذ هتفوا باسمي ومن شيمي

صدق الولاء وتحقيق الأظانين

وأخفقت الثورة، ونفي مع زملائه إلى "سرنديب" فأقام بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، وظلَّ وزملاؤه سبعة أعوام في "كولومبو"، ولما دبت بينهم البغضاء، وألقى كم منهم التبعة على زميله، فارقهم البارودي.

وفي المنفى قال القصائد الخالدة، يبثها شكواه، ويحن للوطن، ويصف كل ما حوله، ويراسل الأدباء، ويتلهف على ذكر الوطن ويتتبع أخباره، فيرثي من مات من أهله وأحبابه

ص: 176

وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه، وأويقات أنسه، وما آَلَ إليه حاله، ووجد في الشعر عزاءً أيَّ عزاءٍ، وصار أمامه في العالم العربيّ دون منازع، ولكن طول النفي أورثه السقام والعلل، فكُفَّ بصرُه، وضَعُفَ سمعه، ووهن جسمه، ولست أجد أروع ولا أوفى من قوله يصف ما أصابه:

كيف لا أندب الشباب؟ وقد

أصبحت كهلًا في محنةٍ واغتراب

أََخْلَقَ الشيبُ جدتي وكساني

خلعةً منه رَثَّةَ الجلبابِ

ولوى شعر حاجبيّ على عيني

حتى أطلَّ كالهداب

لا أرى الشيء حين يسنح إلّا

كخيالٍ كأنني في ضباب

وإذا ما دعيت حرت كأني

أسمع الصوت من وراء الحجاب

كلما رمت نهضة أقعدتني

ونية ولا تقلها أعصابي

لم تدع صولة الحوادث مني

غير أشلاء همة في ثياب

وزاد أمره بؤسًا أن الموت تخطف ابنته وزوجه الأولى وأصحابه، فابتدأ الفناء يدب إليه، هنالك رأى أول الأمر أن يعود المنفيون إلى أوطانهم، وعاد البارودي معهم "أشلاء همة في ثياب" كما يقول، ولكن جاء وفي يمينه سفر الخلود، وهو ذلك الشعر العلويّ، وكان ذلك في سنة 1900، واستقبل مصر بقصيدته:

أبابل مرأى العين أم هذه مصر؟

فإني أرى فيها عيونًا هي السحر

واستقبلته مصر بكل حفاوةٍ وترحابٍ، وكانت عودته عيدًا للأدب الرفيع، وصارت داره ندوة يؤمها الأدباء والشعراء القدامى والشادون فيه، يأنسون إليه، ويأنس إليهم، وعكف على تنقيح ديوانه، وحذف ما لا يروق له منه، وتدوين مختاراته وترتيبها، وأخيرًا فاضت روحه إلى بارئها، وأسلم هذه الشعلة المتوهجة في ديسمبر 1904م-شوال 1322هـ، إلى الأجيال من بعده، يتلقفها كابر عن كابر، وكلهم يذكر فضله ويمجد ذكره؛ لأنه أورثهم شعلة خالدة.

ص: 177

أخلاقه:

شبَّ معتدًّا بحسبه ونسبه، وفي عصرٍ ساد فيه جنسه، وتبوأ أبناء جلدته من الجراكسة والأتراك أسمى مناصب الدولة، ثم تزوَّد من فنون الجندية، ونُشِّئَ تنشئةً عسكريةً، فكان لهذه النشأة وهذا الحسب تأثير عميق في أخلاق البارودي، ولكن الزمن قد حوَّرَ في هذه الأخلاق، ومن يدرس شعره دراسة فاحصٍ مدققٍ يستطيع أن يتبين هذا التغيير أو التحوير في أخلاق البارودي، مجاراةً لزمنه، وعادات الناس الذين يخالطهم إن طوعًا وإن كرهًا، بيد أن كثيرًا من صفات الشباب التي اعتدَّ بها لازمته حتى مماته، ولم تتبدل ولم تتأثر بعوامل الزمن، ومحن الناس.

كان البارودي في صباه متوثب العزيمة، واسع الآمال، عزوفًا عن الملاهي، يود أن يعتلي ذورة المجد قفزًا:

لهج بالحروب لا يألف الخفض

ولا يصحب الفتاة الرداحا

مسعر للوغى أخو غدوات

تجعل الأرض مأتمًا وصياحا

لا يرى عاتبًا على شيم الدهر

ولا عابثًا ولا مزَّاحا

يفعل الفعلة التي تبهر الناس

وترنو لها العيون طموحا

وظلت نغمة المجد تتردد على أسلة لسانه أنشودةً حلوةً، وكان في نفسه شيءٌ يود تحقيقه ويرجو نيله، ويسعى سعيًا حثيثًا، ولكنه لم يصرح به.

وبي ظلمأ لم يبلغ الماء ريه

وفي النفس أمرٌ ليس يدركه الجهد

أود، وما ود أمرئ نافعًا له

وإن كان ذا عقلٍ إذا لم يكن جد

وما بي من فقر لدنيا وإنما

طلاب العلا مجد، وإن كان لي مجد

وما أن عضته الحوادث عضةً داميةً، ونكأه الزمان نكأةً قاسية، حتى تطامن في ملطبه وقال:

وكن وسطًا، لا مشرئبًّا إلى السها

ولا قناعًا يبغي التزلف بالصُّغر

ص: 178

وقال:

يود الفتى ما لا يكون طماعة

ولم يدر أن الدهر بالناس قلب

ولو علم الإنسان ما فيه نفعه

لأبصر ما يأتي وما يتجنب

ولكنها الأقدار تجري بحكمها

علينا، وأمر الغيب سر محجب

نظن بأنا قادرون وإننا

نقاد كما قيد الجنيب ونصحب

وإذا كان في صباه قد عزف عن النساء جدًّا منه وتزمتًا، وأبى اللهو والمجانة حتى لا ينصرف عن طلب العلا، فإن الشباب والجاه والمال قد غير نظرته إلى الحياة، وبات ذلك الفارس الذي يدل بشبابه وجاهه على الحسان، ويجري وراء اللهو، ويعب الخمر عبًّا، ويتصيد مجالس الأنس والسمر، ويقول:

ودعني من ذكر الوقار فإنني

على سرف من بغضة الحلماء

فما العيش إلّا ساعة سوف تنقضي

وذا الدهر فينا مولع برماء

ويقول:

لو حذر المرء كل لائمة

لضاع منه الصواب والرشد

ولو أصخنا لكل منتقد

فكل شيء في الدهر منتقد

واله بما شئت قبل مندمة

يكثر فيها العناء والكمد

فليس بعد الشباب مقترح

ولا وراء المشيب مفتقد

ومن أي شيء يخشى؟ وعلام ينتقده الناس؟ ينتقدونه على أنه ممتلئ بالحياة، مستهين بالتقاليد والعادات.

فرحنا نجر الذيل تيهًا لمنزل

به لأخي اللذات واللهو ملعب

مسارح سكري، ومربض فاتك

ومخدع أكواب به الخمر تسكب

ص: 179

أما الدين فله في النفس حرمته ولكن:

إذا ما قضينا واجب الدين حقه

فليس علينا في الخلاعة من عذر

أجل لقد صار فارسًا مرحًا ينهل من اللذات ويعل.

فطورًا لفرسان الصباح مطارد

وطورًا لإخوان الصفاء سمير

ويا رب حيٍّ قد صبحت بغارة

تكاد لها شم الجبال تمور

وليل جمعت اللهو فيه بغادة

لها نظرة تسدي الهوى وتنير

عقلنا به ماند عن كل صبوة

وطرنا مع اللذات حيث تطير

أما أخلاقه الطبيعية: فكان كثير الافتخار بها يرددها مرارًا في شعره، فهو مخلص في صداقته:

واختبرني تجد صديقًا حميمًا

لم تغير ودادوه الأهواء

صادقًا في الذي يقول وإن ضاقت

عليه برحبها الدهناء

أما الواداد فهو يرعاه، ويعد ذلك من كرم الأصل:

ليس يرعى حق الوداد ولا

يذكر عهدًا إلّا كريم النصاب

ولابد أن يتجلى أثر الوداد القلبيّ في أعمال الإنسان، وإلّا كان ودادًا كاذبًا:

وإنَّ وداد القلب ما لم يكن له

دليلٌ على إخلاصه لمريب

وكان عالي الهمة، يمثل لك في شعره الفروسية والنجدة، والإباء والأنفة، فيقول:

إذا لم يكن إلّا المعيشة مطلب

فكل زهيدٍ يمسك النفس جابر

من العار أن يرضى الدنية ماجد

ويقبل مكذوب المنى وهو صاغر

إذا كنت تخشى كل شيء من الردى

فكل الذي في الكون للنفس ضائر

ويقول:

ومن تكن العلياء همة نفسه

فكل الذي يلقاه فيها محبب

إذا أنا لم أعط المكارم حقها

فلا عزني خال، ولا ضمني أب

خلقت عيوفًا لا أرى لابن حرة

عليَّ يدًا أغضي لها حين يغضب

ص: 180

أما جوده: فطالما تغنَّى به في شعره؛ وحث الناس على الجود، ووضع من شأن المال والتباهي به فيقول:

فلا تحسبنَّ المال ينفع ربه

إذا هو لم تحمد قراه العشائر

فقد يستجم المال والمجد غائب

وقد لا يكون المال والمجد حاضر

ولو أن أسباب السيادة بالغنى

لكاثر رب الفضل بمال تاجر

ويقول:

وجد بما ملكت كفاك من نشب

فالجود كالبأس يحمي العرض والنسبا

ولا يقعد البطل الصنديد عن كرم

من جاد بالنفس لم يبخل بما كسبا

وكان يتمدح بصراحته وشجاعته، فهو لا يسكت عن القبيح وإلّا عُدَّ منافقًا، وإذا كان الإنسان على ثقةٍ من أمره، ونفسه حرة، وهو شجاعٌ، فعلام يغضي على القذى، أو لا يصارح الناس بعيوبهم علهم يصلحونها؟

أنا لا أقرُّ على القبيح مهابةً

إن القرار على القبيح نفاق

قلبي على ثقةٍ ونفسي حرة

تأبى الدني، وصارمي ذلاق

فعلام يخشى المرء فرقة روحه

أو ليس عاقبة الحياة فراق؟

لا خير في عيش الجبان يحوطه

من جانبيه الذل والإملاق

عابوا عليّ حميتي ونكايتي

والنار ليس يعيبها الإحراق

ولكننا نرى البارودي كثيرًا ما ينصح بمداراة الناس، ودفع القسر باللين، والغضب بالحلم، وقد صوَّر جملةً من صفاته ومداراته الناس، ومودته لأصداقائه ووفائه لهم في قوله:

ص: 181

ملكت يدي عن كل سوءٍ ومنطقي

فعشت بريء النفس من دنس العذر

وأحسنت ظني بالصديق وربما

لقيت عدوي بالطلاقة والبشر

فأصبحت مأثور الخلال محببًا

إلى الناس مرضيّ السريرة والجهر

إذا شئت أن تحيا سعيدًا فلا تكن

لدودًا، ولا تدفع يد اللين بالقسر

ولاتحتقر ذا فاقةٍ فلربما

لقيت به شهمًا يبذ على المثري

ولا تعترف بالذل في طلب الغنى

فإن الغنى في الذل شر من الفقر

ودار الذي ترجو وتخشى وداده

وكان من مودات القلوب على حذر

ويقول في غير هذا الموضع:

مداراة الرجال وطئًا

على الإنسان من حرب الفساد

يعيش المرء محبوبًا إذا ما

نحا في سيره قصد السداد

ولعل لتجاربه الكثيرة أثرًا في إملائه هذا النصح، وتحوله من الصراحة إلى المدارة، وإذا كانت الحياة قد علمته كيف يداري الناس، ويكون منهم على حذر، فإنها قد علمته كذلك أن المرح والحياة الصاخبة باللذات تورث الأسقام والعلل:

ولقد جريت مع الغواية والصبا

جري الكميت وللغرام سباق

ولبست هذا الدهر من أطرافه

ونزعته وقميصه أخلاق

فإذا الشباب وديعة وإذا الفتى

هدى لفاغرة المنون يساق

هذا هو البارودي كما صور نفسه في شعره، وإذا كان صادقًا في تصويره، ولا نحسبه إلّا كذلك، فالأخلاق التي تغنَّى بها تبعث في النفس الإكبار والإعجاب.

ص: 182

ثقافته:

أُعِدَّ البارودي ليكون جنديًّا، ولم يُعَدُّ ليكون أديبًا، بيد أنه حين وجد نفسه بعد أن تخرج في المدرسة الحربية متعطلًا، أبت عليه نفسه الطموح أن يستمرئ اللهو والدعة، وعكف على كتب الأولين يقرؤها بشغفٍ ونهمٍ، ولم يقرأ كتابًا من كتب اللغة، ولكنه قرأ كتب الأدب، ويقول الشيخ حسين المرصفي صديقه ومرشده1:"ولم يقرأ كتابًا في فنٍّ من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعاقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع إلى بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهةً يسيرةً هيئات التراكيب العربية، ومواقع المرفعوعات منها والمنصوبات والمخفوضات، حسبما تقتضيه المعاني والتعلبيقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، سمعته مرةً يسكن ياء المنقصوص والفعل المعتقل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعرًا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقلَّ بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم، حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها، ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها".

والحق أن أثر القراءة والحفظ ظاهر في شعر البارودي، ومن يطَّلِع على "مختارات البارودي" يشهد بحسن ذوقه، ودقة اختياره، وتأنقه في غذائه عقله، كما يشهد بكثرة محفوظه، ولا نعجب بعد هذا حين نرى البارودي ممتلكًا ناصية اللغة، يتصرف فيها تصرف الخبير العليم بأسرارها، المطبوع على التَّكَلُّمِ بها، وأغلب الظن أن مختاراته لم تحو كل ما حفظ من جيد الشعر العربيّ؛ لأننا نلمح أثرًا للشعر الجاهليّ في شعره: من كلماتٍ، وعباراتٍ، ومعارضاتٍ، وتشبيهاتٍ، مع أن مختارته لم تحو إلّا شعرًا عباسيًّا.

1 الوسيلة الأدبية، ص474.

ص: 183

كانت عند البارودي الملكة الكامنة، والملكة وحدها لا تكفي، بل لابد لها من عدة تصقلها وتنميها، وتعدها للبروز ناضجةً قادرةً خالقةً، ودراسة البارودي الأدبية قد غذت هذه الملكة غذاءً كاملًا، لا من دواوين الشعراء وحدهم، بل من كتب الأدب وطرائف القصص، وأخبار العرب، وقبائلهم، وشجاعتهم، وعدائيهم، وأمثالهم، وحكمهم، وغير ذلك مما لا يستغني عنه أديب، والأدلة على هذه المعرفة متوفرةٌ في ديوانه1.

كانت إذًا قراءة كتب الأدب والتاريخ وحفظ الشعر المنتقى الجيد، هي عماد ثقافته الأدبية، على أن البارودي قد اطَّلَع على آدابٍ أخرى غير الآداب العربية، فقد مر بنا أنه أنه حينما ذهب إلى الآستانة وهو في شبابه، والتحق بوزارة الخارجية، عكف على دراسة التركية والفارسية، ونظم الشعر بهما كما كان ينظمه بالعربية. أضف إلى هذا ما روي من أنه تعلَّم الإنجليزية وهو في منفاه وترجم بعض آثارها، وهذه اللغات المتعددة لها أثرها ولا ريب، في معانيه وأخيلته، وتصويره للحوداث.

1 من مثل قوله:

لك عرض أرق نسجًا من الريح

وأوهى من طليلسان "ابن حرب"

وكان ابن حرب أهدى إلى الحمدوني طيلسانًا خلقًا، وكان الحمدوني يحفظ قول أبي حمران السلميّ في طيلسانه.

يا طيلسان أبي حمران قد برمت

بك الحياة فما تلتذ بالعمر

في كل يوم له رفا يجدده

هيهات ينفع تجديد مع الكبر

إذا ارتداه لعيد أو لجمعته

تنكب الناس لا يبلى من النظر

فاحتذى الحمودني حذو أبي حمران، وقال في وصف طيلسانه ما يقرب من مائتي مقطوعةٍ من مثل قوله:

يا ابن حرب كسوتني طيلسانًا

مل من صحبة الزمان وصدا

طال ترداده إلى الرفو حتى

لو بعثناه وحده لتهدى

ومما يدل كذلك على سعة اطلاع البارودي قوله:

إن شوقي إليه أسرع شأوا

من "سليك والصول في بطء "فند"

وأمر سليك بن سلكة معروف، أما فند "بكسر الفاء" فهو مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وكانت قد أرسلته ليأتيها بنار، فوجد ثومًا يخرجون إلى مصر فتبعهم، وأقام بها سنة، ثم قدم فأخذا نارًا، وجاء بعدو، فتعثر وتبدد فقال:"تعست العجلة" فقيل: "أبطأ من فند".

ص: 184

هذا، وقد حفل زمان البارودي بأحداثٍ عظامٍ، فمن نهضةٍ شاملةٍ، وخلق لأمة متمدينة، إلى ثوراثٍ وفتنٍ وحروبٍ ومعارك، ونفيٍ وتشريدٍ، وقد سافر البارودي إلى الآستانة مرارًا، وشهد حرب "كريت" وحرب "روسيا" ورأى علمًا لم يعرفه من قبل، ومناظر جديدة، فتاثر بكل ذلك وانفعلت نفسه له، وهاجت هذه الأحداث شاعريته، فانطلق لسانه يردد خواطره وأحساسيسه، فكانت هذا الشعر الخالد.

وإذا أضيف إلى هذه الموهبة العظيمة، والدارسة الواسعة، والتجارب الحافلة، وراثةً في قول الشعر سجلها البارودي بقوله:

أنا في الشعر عريق

لم أرثه عن كلاله

كان إبراهيم خالي

فيه مشهور المقالة

زالت دهشتنا حين نرى البارود قد كملت عدته، وهيأته الأيام ليبعث الشعر من رقدته، وينهض به هذه النهضة السامية.

شعره:

يقول البارودي في مقدمة ديوانه: "الشعر لمعة خيالية، يتألق وميضها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب، فيفيض بلألأئها نورًا يتصل خيطه بأسلة اللسان، فينفث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك، ويهتدي بدليلها السالك، وخير الكلام ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غينًّا عن مراجعة الفكرة، فهذه صفة الشعر الجيد، فمن آتاه الله منه حظًّا، وكان كريم الشمائل، طاهر النفس، فقد ملك أعنة القلوب، ونال مودة النفوس، ولو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلّا تهذيب النفوس، وتدريب الأفهام، وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق، لكان قد بلغ الغاية التي ليس وراءها لذي رغبة مسرح، وارتبأ الصهوة التي ليس دونها لذي همة مطمح".

ص: 185

وتعريف البارودي للشعر غامض؛ لأنه لفه في ثوبٍ كثيفٍ مزخرفٍ بالمجازات والاستعارات، ولم يحدده تحديد علميًّا، وهو يعني: أنه خطرة ذهنية ينفعل لها الفؤاد، فيتحرك اللسان معبرًا عن خلجاته، والخطرة الذهنية تأتي مثلًا من نظرةٍ إلى شيءٍ جميلٍ، أو شيء يبعث الرثاء والأسى، وقد تكون خطرة ذهنية مجردة عن الأثر الخارجيّ، وهذا التعريف يتمشَّى مع مذهب العرب في الشعر، وهو أنه "لمعة خيالية" تومض إيماضًا، فتأتي هذه الخطرات الخيالية غير متصلة، أو مرتبط بعضها ببعض في حلقة متماسكة، أو قصة محبوكة الأطراف، أو خيال ممتد طويل في ملحمة من الملاحم، أو مسرحية من المسرحيات تتابع حوادثها، وإنما هو ومضات تتألق في أبيات وقصيدة لا تربطها وحدة فكرية.

والشعر الجيد في رأي البارودي "ما كان قريب المأخذ سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غنيًّا عن مراجعة الفكرة" وهذه صفة الشعر الغنائيّ، وهي سمة الشعر العربيّ غالبًا، ليس فيه عمق المعنى والتوغل في الخيالات، أو تعقيد الفكرة، وحشد القضايا المنطقية، والفكر المجرد عن الشعور والإحساس، كما ترى ذلك عند أبي تمام والمتنبي أحيانًا، وعند أبي العلاء كثيرًا، وكما نراه مذهبًا من مذاهب بعض شعراء العصر الحاضر، والشعر ليس فلسفةً ولا منطقًا، وقد لا يحتوي البيت كبير معنى، وإنما تطرب له النفوس وتهتز عجبًا، وذلك لأن الشعر غذاء القلوب، وليس مهارة العقول، وهذا ما جعل النقاد قديمًا ينعتون البحتريّ بأنه الشاعر، وأن المتنبي وأبا تمام حكيمان؛ لأن البحتري لم يكن يتكلف في شعره الغوص على المعاني وابتكارها، ولا يستعمل المنطق والفلسفة، بل كان يحذو حذو شعراء الجاهلية والصدر الأول في قرب معانيه، وانسجام ألفاظه بعضها مع بعض، والقائل ردًّا على من عاب عليه بعده عن ثقافة عصره، وعدم أخذه بشيء من الحكمة والمنطلق، وهو يمثل نظرة العرب إلى الشعر:

كلفتومنا حدود منطقكم

والشعر بغنًى عن صدقه كذبه

لم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق

ما نوعه وما سببه1

والشعر لمح تكفي إشارته

وليس بالهذر طولت خطبه

1 ذو القروح: امرؤ القيس، ولقب بذلك كما يقولون لأنه أصيب بمرض جلديّ في طريق عودته من لدن ملك الروم، حينما ذهب إليه يستنجد به على قتلة أبيه.

ص: 186

ويرى الباردوي أن وظيفة الشعر: "تهذيب النفوس، وتدريب الأفهام، وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق". وقد ردَّدَ هذه المعاني في شعره، بيد أن الشعر قد لا يؤدي وظيفةً ما إلّا التعبير عن شعور الشاعر، وهذه مسألة تحتاج إلى بحثٍ مستفيضٍ نقرر فيه نظرة العرب إلى وظيفة الشعر بخاصةٍ والأدب بعامة، ونظرة الغربيين إلى الشعر ومذاهبهم فيه، وهل للأدب وظيفة، أو هو التعبير لمجرد التعبير، أو للفن كما يقولون1؟ ومهما يكن من أمر فإن البارودي لم يفطن إلى كل أغراض الشعر، وما يمكن أن يستخدم فيه، وما قرره في مقدمته من تعريف للشعر ووظيفته يعبر عن مذهبه.

والبارودي مطبوعٌ على قول الشعر، لا ينتزعه انتزاعًا، ويتعسف في نظمه، بل يتدفق على لسانه تدفقًا، وتشعر وأنت تقرؤه أنه يجري في رفقٍ وهوداةٍ ولينٍ، غير قلقٍ أو مضطربٍ أو متكلفٍ، وقد كان البارودي يدرك هذه الميزة في شعره يقول:

أقول بطبع لست أحتاج بعده

إلى المنهل المطروق والمنهج الوعر

إذا جاش طبعي فاض بالدر منطقي

ولا عجب فالدر ينشأ في البحر

وعلى الرغم من سليقته المواتية، وحافظته الواعية التي تمده بمخزون الآداب ألفاظًا منمقة ومعاني سامية، فإن البارودي كان من المؤمنين بأن الفن تهذيبٌ وصقلٌ، وجهدٌ متصلٌ، وتحسينٌ مستمرٌ، وأن الطبع وحده لا يكفي، ولذلك كان يتعهده بالتهذيب والرعاية، فقد روي أنه رتَّبَ ديوانه بعد عودته من المنفى، وأعاد النظر فيما قاله من قصائد، وحذف الأبيات التي لا ترقه، حتى لا يخلف للأجيال المقبلة إلّا الشعر المصقول لفظًا ومعنًى:

لم تبن قافية فيه على خلل

كلّا! ولم تخلف في وصفها الجمل

فلا سناد ولا حشو ولا قلق

ولا سقوط ولا سهو ولا علل

لا تنكر الكاعب الحسناء منطقه

ولا يعاد على قوم فيبتذل

1 انظر دراستنا للمذاهب الأدبية الغربية في كتابنا "المسرحية".

ص: 187

ولا أدلَّ على هذا التنقيح من اختلاف القصائد كما نشرت في الديوان عن نصها المنشور أول الأمر في الوسيلة الأدبية للمرصفي، خذ قوله في الوسيلة الأدبية:

أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم

أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر

فقد صار في الديوان:

أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم

ملول من الأيام شيمته الغدر

ومطلع قصيدته التي يعارض فيها رائية أبي نواس، فقد كانت في الوسيلة على الصورة الآتية:

تلاهيت إلّا ما يجن ضمير

وداريت إلّا ما ينم زفير

وهل يستطيع المرء كتمان أمره

وفي الصدر منه بارح وسعير

ثم صار في الديوان:

أبى الشوق إلّا ما يحن ضمير

وكل مشوق بالحنين جدير

وهل يستطيع المرء كتمان لوعة

ينم عليها مدمع وزفير

كما كان يهتف بشعره قبل أن يخرجه للناس، ويصغي إليه ليتبين ما فيه من عيوب في الموسيقى وعدم انسجام الألفاظ بعضها مع بعض، والخلل المعنوي، والقافية القلقة المضطربة، والحشو، وغير ذلك من عيوب الشعر ويقول:

واهتف به من قبل تسريحه

فالسهم منسوب إلى الرامي1

1 يقول الشيخ حسين المرصفي في هذا: ونبه بقوله: واهتف به من قبل تسريحه، على أنه لا ينبغي أن يكتفي بالنظرة الأولى، فللنفس خداع وربما تنبهت بعد أن أغفلت، واستقبحت ما استحسنت، ولذلك يقول الأول:

لا تعرضن على الرواة قصيدة

ما لم تبالغ قبل في تهذيبها

فإذا عرضت الشعر غير مهذب

عدوه منك وساوسًا تهذي بها

ص: 188

فجاء والحق يقال شعرًا يأخذ بمجامع القلوب من حيث موسيقاه، وتماسك أبياته وقوافيه، وانسجام ألفاظه، وانتقاؤها انتقاء خبير ملهم:

فألق إليه السمع ينبئك أنه

هو الشعر لا ما يدعي الملأ الغمر1

يزيد على الإنشاد حسنًا كأنني

نفثت به سحرًا، وليس به سحر

كان البارودي يتخير الألفاظ المناسبة للمعاني التي يريدها فيرق ويلطف حين يقضي المقام الرقة واللطف كأن يتغزل أو يعتب، أو يصف منظرًا جميلًا، أو مجلس أنس وسمر، ويجزل شعره يجلجل لفظه، ويشتد أسره حين ينشد في الحماسة والفخر والمديح، وحين يصف البحر الهائج، والريح الزفوف والحرب الضروس.

إذا اشتد أورى زندة الحرب لفظه

وإن رق أزرى بالعقود فريدة

إذا ما تلاه منشد في مقامه

كفى القوم ترجيع الغناء نشيده

فجاء شعره مما يلذ للإنسان حقًّا إن ينشده بصوت مرتفع، يترنم به ليطرب، ويتأمل في نغمه وموسيقاه فيلتذ ويعجب، فلا بدع أن قال:

ولي كل ملساء المتون غريبة

إذا أنشدت أفضت لذكر بني سعد2

أخف على الأسماع من نغم الحدا

وألطف عند النفس من زمن الورد

كان البارودي يعلم أنه سيخلد بشعره لا بحسبه ونسبه، وإذا كان قد أخفق في بلوغ مناه وتحقيق آماله في هذه الدنيا، فإنه أدرك الغاية من السعي في الحياة العمل الصالح والمجد المؤثل، ألَا وهي الخلود بعد الموت، وترديد اسمه عطرًا على كل لسان، وفي ذلك يقول في شعره:

1 الغمر: مثلثة الغين، ومعناها الذي لم يجرب الأمور.

2 بنو سعد: بطن من هوازن، ومنهم حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بنو سعد من أفصح العرب، ولذلك أرسل رسول الله إليهم كي ينشأ على الفصاحة واللسن، ويريد البارودي أن شعره يذكر الناس بأفصح العرب.

ص: 189

سيبقى به ذكري على الدهر خالدًا

وذكر الفتى بعد الممات خلود

يقول:

سيذكرني بالشعر من لم يلاقني

وذكر الفتى بعد الممات من العمر

هذا، وفي شعر البارودي هنات، وعليه مآخذ قليلة، سنذكرها في موضعها من هذا الفصل، بيد أنها تزري به ولا تغض من شأنه؟ حسبه أنه سما بالشعر العربيّ إلى الذروة، وأنه حلَّق في السماء التي جاب آفاقها من قبل بشار وأبو نواس والبحتريّ وأبو تمام والمتنبي وأبو فراس وأضرابهم، بعد أن وصل الشعر العربيّ قبيل عهده إلى الحضيض، وكاد يلفظ أنفاسه الواهية.

والآن، علينا أن نتعرف على هذا الشعر الذي مدحه وافتخر به، وصقله وهذبه، لنرى أمحقٌّ هو في الثناء عليه، أم هو غرور شاعر زَيَّنَ له خياله الباطل حقًّا، والسيء حسنًا؟ ولنرى القديم والجديد في شعره، ومنزلته في موكب الأدب العربيّ، وهل كان صدًى للشعراء الذين عارضهم وجاراهم في مضمارهم، أو أنه استقلَّ وابتكر وخرج على المألوف، وتكونت له شخصية يذكره التاريخ غير معتمدة على سواها؟ وهل هي شخصية قميئة هزيلة؟ أو شخصية قوية فارعة ذات مزايا واضحة؟

أ- القديم في شعره:

1-

لم يجدد البارودي في أغراض الشعر التي عرفها شعر العصر العباسيّ، فهو يمدح ويصف، ويهجو، ويرثي، ويعتب، ويفتحر..إلخ ما هناك من أغراض معروفة مألوفة، ويا ليته وقف عند هذا، فقد تكون الأغراض قديمة والمعاني جديدة، ولكنه حاكى القدماء أحيانًا في أسلوبهم، كما حاكاهم في أغراضهم، وقد بلغ به التقليد حدًّا نسي معه أنه في مصر، وأنه بعيدٌ عن نجد ورباها ووديانها وآرامها وخمائلها، فقال:

يا سعد قل لي فأنت أدرى

متى رعان العقيق تبدو1

أشتاق نجدًا وساكنيه

وأين منِّي الغداة نجد

1 العقيق: الوادي، وكل ميل شقه ماء السيل، مواضع بالمدينة والطائف واليمامة ونجد، والمقصود هنا عقيق نجد.

ورعان: جمع رعن "بفتح فسكون"وهو أنف يتقدم الجبل.

ص: 190

وقال:

أين ليالينا بوادي الغضا

ذاك عهد ليته ما انقضى1

كنت به من عيشتي راضيًا

حتى إذا ولى عدمت الرضا

أيام لهوٍ وصبًا كلما

ذكرتها ضاق عليّ الفضا

2-

وقد وقف على الأطلال والدمن، وأتى بشعر جاهليّ الروح والمعنى، والوجه والزيّ، ولا يمتُّ إلى عصره وعصر الحضارة بصلة، وهو لم يقله لأنه مقتنع بأن ذلك هو الأسلوب الواجب اتباعه، والنهج الذي عليه أن يسلكه، ولكنه يريد أن يمتحن شاعريته، وهل في استطاعته أن يحاكي القدماء حتى وقوفهم على الأطلال والدمن؟ وليس أمامه أطلال ودمن تهيج شاعريته، وتثير عبرته، فإذا استطاع أن يقول مثلما قالوا فهو شاعر فحل، ولا شكَّ أن هذا النوع من الشعر خالٍ من العاطفة، وفيه كثير من الصنعة والتكلف، استمع إليه يقول:

ألا حيٌّ من أسماء رسم المنازل

وإن هي لم ترجع بيانًا لسائل

خلاء تعفتها الروامس والتقت

عليها أهاضيب الغيوب الحوافل

فلأيًا عرفت الدار بعد ترسم

أراني بها ما كان بالأمس شاغلي

غدت وهي مرعًى للظباء وطالما

غنت وهي مأوًى للحسان العقائل

إلى أن يقول:

فيا ليت أن العهد باقٍ وأننا

دوارج في غفل من العيش خامل

تمر بنا رعيان كل قبيلة

فما يمنحونا غير نظرة غافل

صيغرين لم يذهب بنا الظن مذهبًا

بعيدًا ولم يسمع لنا بطوائل

نسير إذا ما القوم ساروا غدية

إلى كل بهم راتعات وجامل3

فأي أطلال، وأي رسومٍ رآها البارودي فوقف عندها؟ وأين رأي الظباء وهو يعيش في أحضان القاهرة المتمدينة؟ وأين مرت بهما رعيان القبائل؟

1 الغضاء: شجر، وخشبه من أصلب الخشب جمع غضاة، ووادي الغضاء، مكان بنجد.

2 الطوائل: جمع طائلة وهي الوتر، والذحل والمعنى: لم نقترف إثمًا.

3 البهم: جمع بهمة، وهي صغار المعز والضأن، والجامل: الإبل.

ص: 191

وما هذه البهم والجمال السائمة؟ اللهم إنه التقليد ورياضة القول، وإظهار المقدرة على النظم في مثل هذه الأغراض، وعلى هذا النمط كما فعل القدماء.

3-

ونراه في النسيب ووصف المرأة يعمد إلى التشبيهات القديمة المحفوظة، فهي تحكي الظبي في كناسه، والبدر في سمائه، وهي مهاة، وألحاظها سيوف باترات، وقدها غصن يتثنى

إلخ هذه القوالب الموروثة.

إذ نظرت أو أقبلت، أوتهللت

فويل مهاة الرمل، والغصن والبدر

ويقول:

أيها الساهرون حول وسادي

لست منكم أو تذكروا لي نجدًا

لا تخوضوا في غيره من حديث

فهو حسبي، وأي ماء كصدا1

ويتغزل:

غصن بانٍ قد اطلع الحسن فيه

بيد السحر جلنارًا ووردًا

ما هلال السماء؟ ما الظبي؟ ما

الورد جنيًا؟ ما الغصن إذ يتهدى؟

هو أبهى وجهًا وأقتل ألحاظًا

وأندى خدًّا، وألين قدّا

ويصف المرأة بقوله:

كالورد خدًّا، والبنفسج طرة

والغصن قدًّا، والغزالة ملفتًا

ويصفها وصفًا ماديًّا كما كان يفعل القدماء، كأنها تباع وتشترى:

خفت معاطفها، لكن روادفها

بمثل ما حملتني في الهوى رجحت

ويلاه من لحظها الفتاك إن نظرت

وأهٍ من قدِّها العسال إن سنحت

كالبدر إن سفرت والظبي إن نظرت

والغصن إن خطرت والزهر إن نفحت

1 صدًّا بالقصر ضرورة من صداء: اسم عين يستعذبها العرب، وفي أمثالهم. "ماء ولا كصداء".

ص: 192

ويقول:

وا لوعة القلب من غزلان أخبية

تكاد تكسر من أحداقها الراح

من كل مائسة كالغصن قد جمعت

بدائعًا كلها للحسن أوضاح

فالعين نرجسة، والشعر سوسنة

والنهد رمانة، والخد تفاح

4-

نرى البارودي الذي حاكى فحول الشعراء حتى الجاهليين منهم، يقلد شعراء الصنعة، وعصر الضعف، فيؤرخ أحيانًا في شعره كما أرخوا -وإن كان قليلًا ما فعل حتى لا يكاد يذكر- فمن ذلك قوله يؤرخ عودة "إسماعيل باشا" خديو مصر من دار الخلافة العلية سنة 1289هـ.

ورجع الخديو لمصره

وأتت طلائع نصره

وتهللت بقدومه

فرحًا أسرة عصره

فلتبتهج أوطانه

بحلوله في قصره

وليشتهر تأريخه

رجع الخديو لمصره

وقال في تنهئة الخديو عباس الثاني بعيد الفطر:

أمولاي دُمْ للمُلْكِ ربًّا تسوسه

بحكمة مطبوع على الحلم والباس

ولا زالت الأعياد تجري سعودها

عليك وتحظى من علاك بإيناس

فلولاك ما فازت يد القطر بالمنى

ولا نشأت روح العدالة في الناس

وهذا لسان الشكر يدعو مؤرخًا

حوى العيد أنواع الفخار بعباس

1314هـ

24، 155، 128، 219، 135

5-

واستعمل البارودي المحسنات البديعية أحيانًا، ولا سيما الطباق في مثل قوله:

يموت قلبي ويحيا حيرةً وهدىفي عالم الوجد إن صدت وإن جنحت

وقوله:

وبنفسي حلو الشمائل مر الهجر

ويحيى وصلًا، ويقتل صدًّا

ما على قومه وإن كنت حرًّا

إن دعتني له المحبة عبدا

ص: 193

6-

أما معانيه فكثير منها قديم، والقليل فيه جدة، وهو مقلِّدٌ في المعاني كما هو مقلد في الشكل، ولا أستطيع أن أحصي المعاني القديمة لكثرتها، ولكن أدل على نوعها ببعض الأمثلة كقوله في الغزل:

طربت وعادتني المخيلة والسكر

وأصبحت لا يلوى بشيمتي الزجر1

كأني مخمور سرت بلسانه

معتقة مما يضن بها التجر

صريع هوى يلوى بي الشوق كلما

تلألأ برق أو سرت ديم غر

إذا مال ميزان النهار رأيتني

على حسرات لا يقاومها صبر

يقول أناس إنه السحر ضلة

وما هي إلّا نظرة دونها السحر

ويقول مفتخرًا في هذه القصيدة بقومه:

لهم عمد مرفوعة ومعاقل

وألوية حمر وأفنية خضر

ونار لها في كل شرق ومغرب

لمدرع الظلماء ألسنة حمر

ويقول في القصيدة من الحكمة:

ل

عمرك ما حيٌّ وإن طال سيره

يعد طليقًا والمنون له أسر

وما هذه الأيام إلّا منازل

يحل بها سفر ويتركها سفر

فهذه أغراض ثلاثة في قصيدة واحدة لم يأت فيها بجديدٍ من المعنى، ففي الغزل يقول: إنه استخفه الطرب والشوق على حدة قول أبي نواس.

حامل الهوى تعب

يستخفه الطرب

إن بكى يحق له

ليس ما به لعب

وحاكى الأقدمين في ذكره البرق والسحب، فهذه الأشياء كانت مقبولة في الشعر القديم لأنها تصف البيئة العربية، والغيث والبرق كان فيهما حياة العرب القاطنين بالجزيرة، فإذا لمع البرق أو هطلت السحب هلل الناس وفرحوا، وإذا ذكر

1 المخيلة: الظن، والمراد ذكريات الماضي، وبلوى به: يذهب به.

ص: 194

المحب محبوبته في ذلك الوقت فكأنه يريد أن يشاركها سرورها، أو تشاركه سروره، والسرور من الأشياء التي لا تتم إلّا إذا اقتسمها الإنسان مع سواه، أما في بيئة البارودي فليس لهذه الأشياء من التأثير والاهتمام ما يدعو لذكرها، بل قد يسبب المطر من المضايقات لأهل القاهرة الذين يعتمدون على النيل، ولأهل الريف في ضرر زرعهم ما يذكرونه بشرٍّ، ولكنه التقليد القديم، وقوله:"على حسرات" يعني به: أنه حين تغيب الشمس تكثر همومه، وكأنه يتقلب على حسرات؛ لأن الليل مصدر للذكريات لفراغ الإنسان من الشواغل والأعمال، وقديمًا قال النابغة:

وصدر أراح الليل عازب همه

تضاعف فيه الحزن من كل جانب

ويقول النابغة كذلك:

فبت كأن العائدات فرشن لي

هراسًا به يعلى فراشي ويقشب

وتشبيه نظرات المحبوبة بالسر تشبيه قديم معروف.

وفي الفخر ترى البارودي يذكر العمد المرفوعة وهو في القاهرة، ويذكر النار على عادات البدو، ولا سيما في الجاهلية إذا كانوا يشبونها على يفاعٍ من الأرضي كي يهتدي بها الساري، ويلجأ إليها الجائع ويطلب القرى، ورحم الله حاتمًا حين قال لغلامه:

أوقد فإن الليل ليل قر

والريح يا واقد ريح صر1

معل يرى نارك من ير

إن جلبت ضيفًا فأنت حر

وقوله في الحكمة: إن الإنسان لا يعد طليقًا في حياته وهو في أسر المنون، مأخذو من قول طرفة بن العبد:

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى

لكا لطول المرخى وثنياه باليد2

1 قر: بارد، وصر: شديد البرودة.

2 الطول: الحبل.

ص: 195

وبيت طرفة أحسن وأمتن؛ حيث شبه الإنسان بدابة، وحبلها بيد الموت يرخي لها فيه، وإذا شاء جذبها إليه فتقضي العمر، وأما أن الأيام منازل، وأنا فيها على سفر فمعنًى قديم مطروق، وقد تكررت في الأحاديث النبوية، وفي أقول الزهاد والوعاظ.

وهكذا إذا أخذت أي قطعة للبارودي تجده يردد فيها كثيرًا من المعاني القديمة المعروفة المشهورة، ولا يعني هذا أن البارودي لم يجدد في شعره وفي معانيه، بل له تجديد ملحوظ في شعره سنذكره فيما بعد.

وإذا كان البارودي قد طرق أبواب الشعر العربيّ الموروثة، ولم يجدد في أغراضه، فإنه كان واضح الشخصية في كثير من هذه الموضوعات المطروقة، فتراه يمثل نفسه، وزمنه، وبيئته، في قصائد شتَّى. فالبارودي ذاق حلو الزمان، ومره، وارتفع في مناصب الدولة حتى رئاسة الوزارة، ثم شُرِّدَ ونُفِيَ، وقضى زمنًا طويلًَ يتحرق فيه شوقًَا إلى وطنه وأهله، ويتحسر على أيامه الخاليات، ويندب فيه حظه، ويَنْعى على الأصدقاء الكاذبين خياناتهم وغدرهم، ويذم الحياة ويكيل لها السباب، وهو في كل ذلك صادق الشعور يصف ما به على طبيعته، فبرزت شخصيته واضحةً لا لبس فيها ولا غموض.

وإذا كان البارودي قد قلَّدَ القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضعات وفي أسلوبهم، وفي معانيهم، فإن له مع ذلك جديدًا ملموسًا في شعره؛ من حيث التعبير عن شعوره وعن مشاهداته، وله معانٍ جديدة، وصور لهم يسبق إليها، وإذا أردنا أن ننصفه، فعلينا دراسة الجديد في شعره حتى يكون حكمنا عليه عادلًا، ونستطيع أن نضعه في منزلته الجديرة به في موكب التاريخ والأدب والنهضة.

ب- الجديد في شعره:

1-

الوصف:

ولا تعجب إذا عددنا الوصف جديدًا عند البارودي، وإن كان قديمًا منذ أن كان الشعر العربيّ، وما من شاعر إلّا له في الوصف أبياتٌ وقصائدٌ، ولكن الجديد في وصف البارودي أنه أفرد له قصائد بعينها، ولم يأت به عرضًا في ثنايا القصائد.

ص: 196

كان يصف لمجرد الوصف، ولأن شاعريته، وحواسه المرهفة، وتذوقه الحاد للجمال، كانت تدفعه إلى قول الشعر، وإلى وصف مشاهداته لا كما هي في الطبيعة، ولكن يخرجها ملونةً بشخصيته وشعوره وأفكاره.

كان البارودي مفتونًا بالطبيعة، يرى شعرها لا ينضب منه معين الإلهام، ويرى في كل سطرٍ من هذا الشعر آيةً من آيات الجمال عليه أن يترنَّمَ بها، ويظهر محاسنها للأجيال من بعده، ويترجمها للناس حتى يعجبوا بها كما أعجب.

وديوان البارودي غاصٌّ بالموصوفات وبقصائد الوصف، وما دام الشاعر قد انصرف عن المديح، وعن أن يكون شعره مظهرًا للنفاق والخداع والاستجداء، والوقوف بأبواب الملوك والأمراء، فقد أصبح شعره طوع يده، يسجل به مشاعره الخاصة، وشعراء العربية الوصافون -أي الذين أكثروا من الوصف- قليلون؛ لأن المديح وللأسف قد ألهاهم عن قراءة محاسن الكون، ويُعَدُّ البارودي من أكثر شعراء العربية وصفًا، بل يعد في الطليعة، وشعره الوصفيّ يفخر به الشعر العربيّ، ويستطيع أن يباهي به خير ما عند الغرب من شعرٍ وصفيٍّ، وموصوفات البارودي كما ذكرنا عديدة ومنوعة، فمنها:

1-

مظاهر الطبيعة، فيصف الليلة العاصفة المطيرة، ويجعلك تحس معه هزيم الرعد، وعزف الريح، وتواصل المطر وشدته، وترى سوادها ووحشتها، ويصف الليلة الحالية بالنجوم فتلمس جمالها، ويصف السحاب الممطر والبرق والرعد وأثرها في الإنسان والأرض، ويصف البحر الهائج الغاضب، والريح الزفوف تعلو بالموج فتحيله جبالًا سامقة الذرى، وتنخفض به إلى وهادٍ عميقة الأغوار، ويصف الجبل والغابة وغير ذلك.

وهو في وصف الطبيعة مصوّرٌ ماهرٌ، بل هو دقيقٌ بارعٌ في كل ما يتناول من وصف، وهو في وصف الطبيعة قد يغرب في لفظه، ويأتي بتشبيهاتٍ جديدةٍ منتزعةٍ من بيئته أحيانًا، وأحيانًا يردد معاني القدماء وأخيلتهم، استمع إليه يصف ليلةً مطيرةً حتى مطلع الفجر.

ص: 197

وليلة ذات تهتان وأندية

كأنما البرق فيها صارم سلط1

لف الغمام أقاصيها ببردته

وأنهل في حجرتيها وابل سبط2

بهماء لا يهتدي الساري بكوكبها

من الغمام ولا يبدو بها نمط3

يكاد يجهل فيها القوم أمرهم

لولا صهيل جياد الخيل واللغط

يطغى بها البرق أحيانًا فيزجره

مخرنطم زجل من رعدها خمط4

كأنما البرق سوطٌ والحيا نجب

يلوح في جسمها من مسه حبط5

كأنه صارم يرفض من علق

بالأفق يغمد أحيانًا ويخترط6

مزقت جلبابها بالخيل طالعة

مثل الحمائم في أجيادها العلط7

وقد تخلل خيط النور ظلمتها

كما تخلل شعر اللمة الوخط

كأنها وصديع الفجر يصدعها

من جانب أدهم قد مسه نبط8

ومربع لنسيم الفجر هيمنة

فيه وللطير في أرجائه لغط

كأنما القطر در في جوانبه

يكاد من صدف الأزهار يلتقط

وللنسيم خلال النبت غلغلة

كما تغلغل وسط اللمة المشط

والريح تمحو سطورًا ثم تثبتها

في النهر لا صحة فيها ولا غلط

وللسماء خيوط غير واهية

تكاد تجمع بالأيدي فترتبط

كأنها وأكف الريح تضربها

سلوك عقد تواهت فهي تنخرط

وفي هذه القطعة أبيات يسمو فيها البارودي بإحساسه وبراعة تصويره، وإدراكه للأمور الدقيقة، كوصفه النسيم وهو يتخيل النبت، أو وصفه خيوط المطر وهي نازلة، وقال يصف النجوم:

1 أندية: ج ندى، وهو البلل، وسلط: لا نتوء في نصله.

2 حجرتاها: ناحيتاها، وسبط: شديد متدارك.

3 النمط: الطريق.

4 مخرنطم: وهو اسم فاعل من اخرنطم الرجل، أي: رفع أنفه واستكبر وغضب، وزجل: عالي الصوت، ومن رعدها: بيان لزجل، وخمط: غضوب ثائر.

5 الحياء: المطر، والنجب: كرام الخيل والإبل وعتقها وجيادها المفرد نجيب، ومن مسه: أي: بسبب مسه وأناه، والضمير يعود على السوط، والحبط: آثار السياط بالبدن أو الآثار الوارمة التي لم تشقق.

6 كأنه: أي: البرق، يرفض: يسيل ويقطر، والعلق: الدم، يخترط: يسل ويجرد من غمده.

7 العلط: ككتب جمع علاط ككتاب، وهو من الحمامة طوقها في صفحتي عنقها بسواد.

8 النبط: بياض في بطن الفرس، وصديع الفجر: أي: طلوعه؛ لأنه يصدع الليلة، أي: يشقها.

ص: 198

أرعى الكواكب في السماء كأن لي

عند النجوم رهينة لم تدفع

زهر تألق بالفضاء كأنها

حبب تردد في غدير مترع

وكأنها حول المجر حمائم

بيض عكفن على جوانب مشرع

وترى الثريا في السماء كأنها

حلقات قرط بالجمان مرصع

بيضاء ناصعة كبيض نعامة

في جوف أدحى بأرض بلقع

وكأنها أكر توقد نورها

بالكهرباءة في سماوة مصنع1

والليل مرهوب الحمية قائم

في مسحة كالراهب المتلفع2

متوشحٌ بالنيرات كباسلٍ

من نسل حامٍ، باللجين مدرع

حسب النجوم تخلفت عن أمره

فوحى لهن من الهلال بإصبع3

3-

ويصف مناظر الريف ويصورها تصويرًا بديعًا، فيصف القطن، والسفن في النيل، والساقية، والمزروعات، والطيور وهي تحوم على صفحة النهر، وحركات الطيور، والنحلة وهي تنتقل من زهرةٍ لزهرةٍ، كل هذا في حساسية غريبة، وشغف بالطبيعة وحب لها، كأنه يعيش معها.

فمن قوله يصف القطن:

والقطن بين ملوز ومنور

كالغادة ازدانت بأنواع الحلى

فكأن عاقده كرات زمرد

وكأن زاهره كواكب في الروا4

دبت به روح الحياة فلو وعت

عنه القيود من الجداول قد مشى

فأصوله الدكناء تسبح في الثرى

وفروعه الخضراء تلعب في الهوا

لم يسر فيه العقل مذهب فكرة

محدودة إلّا تراجع بالمنى

واسمعه يصف الريف المصريّ إبَّان الربيع في أرجوزة:

1 المصنع: القصر العظيم.

2 مسحه: مسوحه، أي: لباسه الأسود، كمسوح الراهب.

3 وحي: أشار.

4 عاقده: ما انعقد من اللوز قبل أن يفتح، الرِّوا: مقصور الرواء، وهو الحسن والبهاء.

ص: 199

عم الحيا واستنت الجداول

وفاضت الغدران والمناهل

وازَّيَّنَت بنورها الخمائل

وغردت في أيكها البلابل

وشمل البقاع خير شامل

فصفحة الأرض نبات خائل1

وجبهة الجو غمام حافل

وبين هذين نسيم حائل

تندى به الأسحار والأصائل

كأنما النبات بحر هائل

وليس إلّا الأكمات ساحل

وشامخ الدوح سفين جافل2

معتدل طورًا مائل

تهفو به الجنوب والشمائل

والباسقات الشمخ الحوامل

مشمورة عن ساقها الذلاذل3

ملوية في جيدها العثاكل

ممعقودة في رأسها الفلائل4

للبسر فيها قانئ وناصل

مخب كأنه الأنامل

كأنه من ذهب قنادل

من المرادين لها سلاسل

للمجنون بينها الأزامل

تخالها محزونة تسائل5

لها دموع ذرف هوامل

كأنها أم بنين ثاكل

في جيدها من ضفرها حبائل

من القواديس لها جلاجل

تدور كالشهب لها منازل

فصاعد ودافق ونازل

ففي هذه القصيدة يصور مناظر الريف تصويرًا سريعًا دون تعمق أو طويل وقوف على المشاهدات، ومعانيه قريبة، وتشبيهاته واضحة غير متكلفة، وخياله دان لا إغراب فيه ولا شرود.

ومما يدل على دقة حسه، وتدفق شعوره، وأنه مصور بارع، أن الأمور التي لا تسترعي نظرة جمهرة الناس يجد فيها ما يثير عاطفته، ويحرك شاعريته، قوله يصف طائرًا: تحرك فأيقظه من سنته، ويتبع حركاته بدقة، فأعطى صورة واضحة عنه.

1 خائل: ذو خيلاء معجب بنفسه.

2 جافل: مضطرب.

3 الباسقات: يريد النخل والذلائل، الأطراف، ويريد أن ساق النخلة عارٍ من الجريد والعسف.

4 العثاكل: ج عثكول، وهو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم، والفلائل ج فليلة: وهي الشعر المجتمع.

5 المنجنون: دولاب الساقية التي يُسْقَى بها الزرع، وأزامل: ج أزمل "كجعفر" وهو الصوت المختلط.

ص: 200

نبأة أطلقت عيني عن سنة

كانت حبالة طيف زارني سحرًا

فقمت أسال عيني رجع ما سمعت

أذني، فقالت: لعلي أبلغ الخبرا

ثم اشرأبَّت فألفت طائرًا حذرًا

على قضيب يدير السمع والبصرا

مستوفزًا يتنزى فوق أيكته

تنزي القلب طال العهد فادركرا1

لا تستقر له ساق على قدم

فكلما هدأت أنفاسه نفرا

يهفو به الغصن أحيانًا ويرفعه

دحو الصوالج في الديمومة الأكرا2

ما باله وهو في أمن وعافية

لا يبعث الطرف إلّا خائفًا حذرا

إذا علا بات في خضراء ناعمة

وإن هوى ورد الغدران أو نقرا

فأنت تراه يتتبع الطائر في أقل حركة له، ويحاول أن يستشف دخيلة قلبه الصغير ليعرف سر فزعه، وترقبه، ويتعجب لهذه الحياة القلقة المضطربة، مع أن ظاهر الأمر ينبئ أنه في نعمة وعافية، وهذه لعمري خطرات شاعر مرهف الإحساس جياش العاطفة.

واستمع إليه يصف غيضة احتلها في "قندية" أيام حرب كريت:

ومرتبع لذنا به غب سحرة

وللصبح أنفاس تزيد وتنقص3

وقد مال للغرب الهلال، كأنه

بمنقاره عن حبه النجم يفحص4

رقيق حواشي النبت، أما غصونه

فريا، وأما زهره فمنصص5

إذا لاعبت أفنانه الريح خلتها

سلاسل تلوى، أو غدائر تعقص6

كأن صحاف الزهر والطل ذائب

عيون يسيل الدمع منها وتشخص7

يكاد نسيم الفجر إن مر سحرة

بساحته الشجراء ولا يتخلص

كأن شعاع الشمس والريح رهوة

إذا رد فيه سارق يتربص8

يمد يدًا دون الثمار، كأنما

يحاول منها غاية ثم ينكص

1 مستوفزًا: غير مطمئن، قد تهيأ لوثوب، ويتنزى: يثب.

2 دحا اللاعب الكرة: دفعها ورماها بيده، والديمومة: الأرض المستوية.

3 المرتبع: المكان الذي يرتبع فيه القوم، أي: يقيمون زمن الربيع.

4 في هذا البيت إشارةٌ إلى أن الليلة التي يصفها كانت في آخر الشهر العربيّ، وحبة النجم: أي: النجم الشبيه بالحبة.

5 رقيق: صفة لمرتبع، منصص: ظاهر مرتفع بعضه فوق بعض.

6 الغدائر ج غديرة، وهي الذؤابة من الشعر إذا كانت مرسلة، غير ملوية ولا معقوصة، وتعقص: تضفر.

7 تشخص: تنفتح ولا تطرف.

8-

الرهو: الرقيق، ورد فيه: أي: إذا تردد الشعاع في المرتبع.

ص: 201

ا3- وإذا أردت أن تعرف متى يحلق البارودي في الوصف، فاقرأ أوصافه في الأشخاص، إنه لا يقل عن أمهر مصور، بل أين منه المصور؟ وهو لا يستطيع أن يبرز على "لوحته" دخائل النفوس، وأسرار القلوب والحركات والإشارات، وكذلك أوصافه للمعارك وميادين القتال وأدواته، وإذا كان وصف الحروب من الموضوعات القديمة التي تناولها قبله الشعراء، فإن تصوير الأشخاص من الموضوعات النادرة التي مر فيها قلةٌ من فحول الشعر العربيّ كابن الرومي، واسمعه يصف البلغار في بلادهم، حين ذهب مع الحملة المصرية لحرب الروس:

بلاد بها ما بالجحيم، وإنما

مكان اللظى ثلج بها وجليد

تجمعت البلغار والروم بينها

وزاحمها التاتار، فهي حشود

إذا راطنوا بعضًا سمعت لصوتهم

هديدًا تكاد الأرض منه تميد

قباح النواصي والوجود كأنهم

لغير أبي هذا الأنام جنود

سواسية ليسوا بنسل قبيلة

فتعرف آباء لهم وجدود

لهم صور ليست وجوهًا وإنما

تناط إليها أعين وخدود

يخورون حولي كالعجول، وبعضهم

يهجن لحن القول حين يجيد

فهو يصف رطانتهم وعجمة ألسنتهم، وقبح وجوههم ورءوسهم، حتى كأنهم ليسوا من البشر، وأن وجوههم متشابهةٌ لا تستطيع التفريق بينها، بل لا يريد أن يعترف بأنه لهم وجوهًا، إنما هي صور وضعت فيها أعين وخدود، ويخورون حوله كالعجول، وإذا حاول بعضهم النطق بالعربية أفسدها.

ص: 202

ومن قوله يصف حرب إقريطش "كريت":

في كل مربأة وكل ثنية

تهدار سامرة وعزف قيان1

تستن عادية، ويصهل أجرد

وتصيح أجراس، ويهتف عاني2

قوم أبى الشيطان إلّا خسرهم

فتسللوا من طاعة السلطان

ملئوا الفضاء، فما يبين لناظر

غير التماع البيض والخرصان3

فالبدر أكدر والسماء مريضة

والبحر أشكل والرماح دوان4

والخيل واقفة على أرسانها

لطراد يوم كريهة ورهان

وضعوا السلاح إلى الصباح، وأقبلوا

يتكلمون بألسن النيران

حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت

عينان بين ربى وبين مجان

فإذا الجبال أسنة، وإذا الوهاد

أعنة والماء أحمر قاني

فتوجست فرط الركاب ولم تكن

لتهاب، فامتعنت على الأرسان5

فزعت فرجعت الحنين، وإنما

تحنانها شجن من الأشجان

ذكرت مواردها بمصر، وأين من

ماء بمصر منازل الرومان

ومن المقطوعات اللطيفة في وصف الأشخاص قول البارودي يذم شخصًا ويصفه بالنهم والجشع.

1 المربأة: مكان المراقب، والتهدار: التصويت وقرقرة الحمام، والقينة: المغنية وجمعها قيان.

2 استن الفرس: عدا إقبالًا وإدبارًا، والأجرد: الحصان القصير الشعر، وهو من أمارات العتق والأصالة، والعاني: المتعب.

3 الخرصان: الدرع والرماح.

4 الأشكل: الذي يضرب بياضه في حمرة.

5 الفرط: الفرس السريعة الخيل، وامتنعت على الأرسان: حرنت وصارت لا تقاد بالأرسان.

ص: 203

وصاحب لا كان من صاحب

أخلاقه كالمعدة الفاسدة

أقبح ما في الناس من خصلة

أحسن ما في نفسه الجامدة

لو أنه صور من طبعه

لكان لعمري عقربًا راصده

يصلح للصفع لكيلا يرى

في عدد الناس بلا فائدة

يغلبه الضعف ولكنه

يهدم في قعدته المائة

يراقب الصحن على غفلة

مكن أهله كالهرة الصائدة

كأنما أظفوره منجل

وبين فكيه رحى راعده

كأنما البطة في حلقه

نعامة في سبسب شارده

تسمع للبلع نقيقًا كما

نقت ضفادي ليلة راكدة

كأنما أنفاسه حرجف

وبين جنبيه لظى واقدة

4-

وقد وصف البارودي كثيرًا من الأشياء كالسجن، والقطار، والخمر، وغير ذلك، وربما كان وصفه للقطار أول وصفٍ من نوعه في اللغة العربية؛ لأن السكة الحديدية دخلت مصر في أخريات أيام سعيد، ولم يفطن شعراء عصره له، أولم يهتموا بوصفه، ويقول فيه -وإن لم يصفه بدقة:

ولقد علوت سراة أدهم لو جرى

في شأوه برق تعثر أو كبا

يطوي الفلا طيّ السجل ويهتدي

في كل مهمة يضل بها القطا

يجري على عجلٍ فلا يشكو الوجى

مد النهار، ولا يمل من السرى

لا الوخد منه، ولا الرسيم ولا يرى

يمشي العرضنة أو يسير الهيدبى1

1 الوخد: سعة الخطو، والرسيم: سير الإبل قريب من الهرولة دون الجري، والعرضنة، نوع من السير يمتاز بالخفة والسرعة والنشاط، والهيدبى: مشي للخيل فيه جد.

ص: 204

ويقول وفي وصف السجن:

فسواد الليل ما أن ينقضي

وبياض الصبح ما أن ينتظر

لا أنيس يسمع الشكوى ولا

خبر يأتي، ولا طيف يمر

بين حيطان وباب موصد

كلما حركه السجان صر

يتمشى دونه حتى إذا

لحقته نبأة مني استقر

كلما درت لأقضي حاجة

قالت الظلمة: مهلًا، لا تدر

أتقرى الشيء أبغيه فلا

أجد الشيء ولا نفسي تقر

ظلمة ما إن بها من كوكب

غير أنفاس ترامى بالشرر

وهذه القطعة فيها أبيات من الشعر الواقعيّ التي تغني بتصويرها الحقيقة العارية عن أي خيالٍ مهما عمق وملح.

5-

وهذا وقد وصف البارودي بعض آثار مصر القديمة، وفتح بذلك الطريق لشوقي وغيره، وهو وإن لم يتعمق في وصفه، ويستعرض التاريخ المجيد كما أفعل شوقي من بعده، إلّا أنه برهنَ على أنه شاعر يرى الجمال والعظة فيما حوله من مناظر، وأن شاعريته حساسة مرهفة؛ لأن مثل هذا الوصف لا تحفزه إليه رغبة في صلة، أو تَقَرُّبٌ من أمير، وإنما هو إشباعٌ لرغبةٍ فنيةٍ تجيش في صدره، وتحاول شاعريته الإفصاح عنها، ولذلك عد باب الوصف من خير أبواب الشعر؛ لأنه فضلًا عن نشره ما طوى من آيات الجمال، أو ما خفي على عيون الناس منها، فإنه يدل على نفسية الشاعر، وقدرته وخياله، وهو خير محكٍّ للتمييز بين الشعراء، ومن ذلك قوله يصف الهرمين:

سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر

لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري

بناءان ردا صولة الدهر عنهما

ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر

أقاما على رغم الخطوب ليشهدا

لبانيهما بين البرية بالفخر

فكم أمم في الدهر بادت وأعصر

خلت وهما أعجوبة العين والفكر

ص: 205

تلوح لآثار العقول عليهما

أساطير لا تنفك تتلى إلى الحشر

رموز لو استطلعت مكنون سرها

لأبصرت مجموع الخلائق في سطر

فما من بناء كان، أو هو كائن

يدانيهما عند التأمل والخبر

يقصر حسنا عنهما "صرح بابل"

ويعترف "الإيوان" بالعجز والسحر

كأنهما ثديان فاضا بدرة

من النيل تروي غلة الأرض إذ تجري

وبينهما "بلهيب" في زي رابض

اكب على الكفين منه إلى الصدر2

يقلب نحو الشرق نظرة وامق

كأن له شوقًا إلى مطلع الفجر

وليست هذه القصيدة الوحيدة التي أشاد فيها بالأهرام، وبقدماء المصريين، فله قصيدةٌ أخرى فيها مطلعها:

أيُّ شيء يبقى على الحدثان

والمنايا خصيمة الحيوان

وله ثالثة مطلعها:

بقوة العلم تقوى شوكة الأمم

فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم

وفيها يقول:

فانظر إلى الهرمين الماثلين تجد

غرائبًا لا تراها النفس في الحلم

صرحان ما درات الأفلاك منذ جرت

على نظيرهما في الشكل والعظم

.......................

......................

ولاح بينهما لهيب متجهًا

للشرق يلحظ مجرى النيلب من أمم

1 البهر: مصدر بهره، من باب: قطع، أي: غلبه وفاقه، والإيوان: إيوان كسرى أنوشروان، وقصره الأبيض، وكان يعد من عجائب الدنيا، وكذلك صرح بابل الذي بناه بختنصر.

2 بلهيب: أبو الهول.

ص: 206

ب- الشعر السياسي:

ومن الأغراض القديمة التي خلع عليها البارودي لباس الجدة، وظهرت فيها شخصيته واضحةً مجليةً تفصح عن نفسه الأبية المتمردة على الظلم والطغيان، المحبة للعدالة والشورى والمساواة بين الناس، ذلك الشعر السياسيّ الوطنيّ الذي دفعه إلى مركز الصدارة بين أبناء شعبه، وجعل منه زعيمًا محبوبًا، ولذلك أُلْقِيَ به في غيابة السجن، ورُمِيَ به بعيدًا عن وطنه، ويا ليته كفَّ عن مثل هذا الشعر وهو يتجرع غصص النفي والتشريد والمرض، بل زفر زفرات حارة كادت تحرق الطاغين المعتدين بشواظها الملتهب، ولذلك طالت غيبته عن دياره، وخالف أولو الأمر من عودته حتى لا يعيدها جذعًا مشبوبة الضرام، ولما هدأت ثائرته، وكسرت حدته وخفت شرته، واشتكى ما به من ضعف وهزال، ودَبَّ إلى جسمه دبيب الفناء، أمنوا جانبه، فأعادوه إلى وطنه.

كان البارودي طموحًا، يعتلج في حنايا صدره أمل كبير يود أن يجدد به مجد أسلافه، وقد رزق العقل الذكيّ، والفؤاد الأبيّ، والعلم والبصيرة، فلِمَ لا يصل إلى ما لا يريد؟ ولكن ما كل ما يشتيه الإنسان ويأمله يسهل نواله، وقد وقفت في سبيل البارودي عقبات شتَّى، وظل الأمل يساروه على الرغم من هذه الصعاب.

ويلاه من حاجة في النفس هام بها

قلبي، وقصر عن إدراكها باعي

أسعى لها وهي مني غير دانية

وكيف يبلغ شأو الكوكب الساعي؟

ويعترف بهذه العراقيل التي تعترض طريقه، ولولاها لنال ما تمنى.

وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت

لسطوته البدو المغيرة والحضر

وهذا من أصرح الأبيات التي أشار فيها إلى ما يهيم به فؤاده، وإن كان قد ساقه في معرض الفخر بالشجاعة واقتحام ميادين القتال، وقد أخفق البارودي في تحقيق آماله، واعتذر عن هذا الإخفاق كما مر بنا.

ص: 207

ويلوح لنا أن البارودي كان بطبعه محبًّا للحرية، ومتمردًا على الظلم، شأن كل شجاعٍ شريفٍ، ولعل للوراثة، وللنشأة أثرًا في هذا؛ ولقد غذاهما ما حفظه من شعر الحماسة والقوة عند العرب، وهم أبطال الحرية في فيافيهم الواسعة، وقد تغنوا بحروبهم وشجاعتهم وانتصاراتهم وأنفتهم، وكان شعرهم سجلًّا وافيًا لمكارم أخلاقهم، وقد قرأه البارودي وهو بعد شاب غرير، فرسخت هذه الصفات في ذهنه، وشَبَّ مطبوعًا عليها يتمثلها نماذج يحتذيها، يرددها في شعره، ويود أن يحققها عملًا في الحياة، ويقول:

لا عيب في سوى حرية مَلَكَت

أعنَّتِي عن قبول الذل بالمال

تبعت خطة آبائي فسرت بها

على وتيرة آداب وآسال1

ويقول:

دع الذل في الدنيا لمن خاف حتفه

فللموت خير من حياة على أذى

ولقد صوّر البارودي الفساد الذي شاع أمره في مصر، واضطراب أحوالها، والفزع الذي ملأ قلوب الناس، وتنبأ بالثورة الدامية قبل حدوثها، مما يدل على أنه كان على صلة بزعمائها، وأن الناس قد ضاقوا ذرعًا بهذا الفساد وبرموا به، ولابد من سبيل إلى الإصلاح، وذلك حيث يقول:

تنكرت مصر بعد العرف واضطربت

قواعد الملك حتى ريع طائره

فأهمل الأرض جر الظلم حارثها

واسترجع المال خوف العدم تاجره2

واستحكم الهول، حتى ما يبيت فتى

في جوشن الليل إلّا وهو ساهره3

ويلمه سكنًا، لولا الدفين به

من المأثر ما كنا نجاوره

أرضى به غير مغبوط بنعمته

وفي سواه المنى لولا عشائره

1 آسال: شبه وعلامات، ويقال فلان يسير على آسال من أبيه، أي: شبه منه، ولا واحد لها.

2 جرا الظلم: من جرائه وبسببه.

3 جوشن الليل: وسطه أو صدره.

ص: 208

يا نفس لا تجزعي فالخير منتظر

وصاحب الصبر لا تبلى مرائره

لعل بلجة نور يستضاء بها

بعد الظلام الذي عمت دياجره

إني أرى أنفسًا ضاقت بما حملت

وفي الجديدين ما تغنَّى فواقره

شهران أو بعد شهر إن هي احتدمت

وفي الجديدين ما تغني فواقره

فإن أصبت فمن رأي ملكت به

علم الغيوب، ورأي المرء ناظره

وقد ذكرنا فيما سبق كيف أن البارودي كان من زعماء الثورة، وأنه كان يطمع في الانقلاب، ولكن لما رأى التيار عنيفًا، وتدخلت فرنسا وإنجلترا، أحجم وتردد ونصح لقومه فلم ينتصحوا، ولم يكن بدًّا من السير في الشوط حتى الغاية، وللبارودي في إبَّان الثورة، وبعدها شعر ملتهب حمية وحماسة وتمردًا على الظلم، أنصت إليه وهو يحرض المصريين على الثورة، ويهيب بهم ألا يستكينوا للحاكم المستبد، ويصور لهم نفوسهم العاجزة الضعيفة بقوله:

فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة

وفي الدهر طرق جمة ومنافع

أصبرًا على مس الهوان وأنتم

عديد الحصى؟ إني إلى الله راجع

وكيف ترون الذل دار إقامة

وذلك فضل الله في الأرض واسع

أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها

فأين ولا أين السيوف القواطع؟

فكونوا حصيدًا خامدين أو افزعوا

إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافع

أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجة

إليّ، ولباني الصدى، وهو طائع

فلم أدر أن الله صور قلبكم

تماثيل لم يخلق لهن مسامع

فلا تدعوا هذي القلوب، فإنها

قوارير محنيٌّ عليها الأضالع

ص: 209

ويقول معرضًا بالحاكم المستبد:

يأيها الظالم في ملكه

أغرك الملك الذي ينفد

اصنع بنا ما شئت من قسوة

فالله عدل، والتلاقي غد

وكان من الداعين إلى نظام الشورى، وقد مدح توفيقًا لما تولّى أريكة مصر، وظن المصريون أنه سيحقق آمالهم الوطنية، ويلبي دعوتهم إلى الأخذ بالشورى؛ حتى لا يستبد الحكام، ولا يقعوا في أخطاء تجلب عليهم وعلى قومهم المصائب كما حدث لإسماعيل:

سن المشورة وهي أكرم خطة

يجري عليها كل راع مرشد

هي عصمة الدين التي أوحى بها

رب العباد إلى النبي محمد

فمن استعان بها تأيد ملكه

ومن استهان بأمرها لم يرشد

أمران ما اجتمعا لقائد أمة

إلّا جنى بهما ثمار السؤدد

جمع يكون الأمر فيما بينهم

شورى، وجند للعدو بمرصد

هيهات يحيا الملك دون مشورة

ويعز ركن المجد ما لم يعمد

ويقول فيها مادحًا توفيقًا:

أطلقت كل مقيد وحللت كل

معقد وجمعت كل مبدد

وتمتعت بالعدل منك رعية

كانت فريسة كل باغٍ معتد

ويحرِّضُ الأمة على اليقظة والقوة، حتى لا يستهين السلطان بأمرها:

وكذلك السلطان إن ظن بالأمة

عجزًا سطا عليها وشدا

ولما أخفقت الثورة وتخاذل الثوار، وخان بعضهم بعضًا، ترك هذا الإخفاق، وذياك الخذلان في نفسه مرارة ظل أثرها في لسانه مدةً، فأخذ يلفظ بشعرٍ مريرٍ، فيه أثر الموجدة والغضب من مثل قوله:

ص: 210

كنا نود انقلابًا نستريح به

حتى إذا تَمَّ ساءتنا مصايره

ويقول ذامًّا للثورة والثوار، ويحاول أن يتنصل من تبعاتها، وأن ما ناله كان بسبب ما دب بينهم من الشحناء، وأنهم غدورا به:

صبرت على ريب هذا الزمان

ولولا المعاذير لم أصبر

فلا تحسبني جهلت الصواب

ولكن هممت فلم أقدر

ثنت عزمتي ثورة المفسدين

وغلت يدي فترة العسكر

وكنَّا جميعًا فلما وقعت

صبرت وغادرني مشعري

ولو أنني رمت أعناتهم

لقلت مقالة مستبصر

ولكنني حين جد الخصام

رجعت إلى كرم العنصر

وحاول البارودي أن يبرئ نفسه، ويعلل هزيمته، ويصف حنث الثوار في أيمانهم ومواثيقهم وتخاذلهم، ويتندم على زعامته:

دعوني إلى الجلى فقمت مبادرًا

وإني إلى أمثال تلك لسابق

فلما استمرَّ الجد ساقوا حمولهم

إلى حيث لم يبلغه حاد وسائق1

فلا رحم الله أمر أباع دينه

بدنيا سواه، وهو للحق رامق

على أنني حذرتهم غب أمرهم

وأنذرتهم لو كان يفقه مائق2

وقلت لهم كفوا عن الشر تغنموا

فللشر يوم -لا محالة- ماحق

فظنوا بقولي غير ما في يقينه

على أنني في كل ما قلت صادق

فتبًّا لهم من معشر ليس فيهم

رشيد ولا منهم خليل يصادق

ظننت بهم خيرًا فأبت بحسرة

لها شجن بين الجوانح لاصق

فيا ليتني راجعت حلمي ولم أكن

زعيمًا وعاقتني لذاك العوائق

ويا ليتني أصبحت في رأس شاهق

ولم أر ما آلت إليه الوثائق

هم عرضوني للقنا، ثم أعرضوا

سراعًا، ولم يطرق من الشر طارق

وقد أقسموا ألّا يزلوا فما بدا

سنا الفجر، إلّا والنساء طوالق

1 ساقوا حمولهم: كناية عن تخاذلهم.

2 مائق: أحمق.

ص: 211

ثم يصف فزعهم وفرارهم من المعركة بقوله:

مضوا غير معذورين لا النقع ساطع

ولا البيض في أيدي الكماة دوالق1

ولكن دعتهم نبأة، فتفرقوا

كما انقض في سرب من الطير باشق2

فكم آبقٍ تلقاه من غير طارد

وكم واقف تلقاه والعقل آبق

إذا أبصروا شخصًا يقولون: جحفل

وجبن الفتى سيف لعينيه بارق

أسود لدى الأبيات بين نسائهم

ولكنهم عند الهياج نقانق3

إذا المرء لهم ينهض بقائم سيفه

فيا ليت شعري، كيف تحمي الحقائق؟

وقد اتهم البارودي بأنه يطمع في الملك، وأنه يحاول ثل العرش، وخلع توفيق، فقال منكرًا هذه التهمة، معللًا ثورته بعد أن نُفِيَ إلى "سرنديب".

يقول أناس إنني ثرت خالعًا

وتلك هنات لم تكن من خلائقي

ولكنني ناديت بالعدل طالبًا

رضا الله، واستنهضت أهل الحقائق

أمرت بمعروف وأنكرت منكرًا

وذلك حكم في رقاب الخلائق

فإن كان عصيانًا قيامي فإنني

أردت بعصياني إطاعة خالقي

وهل دعوة الشورى على غضاضة

وفيها لمن يبغي الهدى كل فارق؟

بلى! إنها فرض من الله واجب

على كل حي من مسوق وسائق

وكيف يكون المرء حرًّا مهذبًا

ويرضى بما يأتي به كل فاسق؟

فإن نافق الأقوام في الدين غدرة

فإني بحمد الله غير منافق

على أنني لم آل نصحًا لمعشر

أبى غدرهم أن يقبلوا قول صادق

رأوا أن يسوسوا الناس قهرًا فأسرعوا

إلى نقض ما شادته أيدي الوثائق

فلما استمر الظلم، قامت عصابة

من الجند تسعى تحت ظل الخوافق

وشايعهم أهل البلاد فأقبلوا

إليهم سراعًا بين آتٍ ولاحق

يرومون من مولى البلادج نفاذ ما

تألاه من وعد إلى الناس صادق

1 دلق السيف: أخرجه من غمده.

2 النبأة: الصوت، ويريد الخبر الكاذب، والباشق: من الطيور الجارحة.

3 ج نقنق "بكسر فسكون" وهو الظليم، ذكر النعام، ويضرب به المثل في الجبن.

ص: 212

وإذا كان البارودي قد أنكر هذه التهمة هنا ونفاها عن نفسه، ففي شعره ما يثبتها ويدل على أنه كان يطلب من الثوار أن يولوه عليهم حاكمًا، ويمدح نفسه، ويطري حكمه، ومن البديهيّ أنه لم يرد رئاسة الوزارة، فقد كان رئيسًا للوزارة، ولكنه يريد ما هو أعلى منها، وتراه يذم هؤلاء الذين يقفون في سبيله ويكيدون له:

من كل وغد يكاد الدست يدفعه

بغضًا ويلفظه الديوان من ملل

ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت

قواعد الملك حتى ظل في خلل

وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة

بعد الإباء وكانت زهرة الدول

إلى أن يقول:

بئس العشير وبئست مصر من بلد

أضحت مناخًا لأهل الزور والخطل

أرض تأثل فيها الظلم وانقذفت

صواعق الغدر بين السهل والجبل

وأصبح الناس في عمياء مظلمة

لم يخط فيها امرؤ إلا على زلل

أصوحت شجرات المجد أم نضبت

غدر الحمية حتى ليس من رجل؟!

لا يدفعون يدًا عنهم ولو بلغت

مس العفافة من جبنٍ ومن خزل1

فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم

ولا تزول غواشيكم من الكسل

فبادورا الأمر قبل الفوت وانتزعوا

شكالة الريث فالدنيا مع العجل

وقلدوا أمركم شهمًا أخًا ثقةً

يكون ردءًًا لكم في الحادث الجلل

ماضي البصيرة غلاب إذا اشتبهت

مسالك الرأي صاد الباز بالحجل

إن قال بر، وإن ناداه منتصر

لبى، وإن هم لا يرجع بلا ثقل

يجلوا البديهة باللفظ الوجيز إذا

عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل

ولا تجلوا إذا ما الرأي لاح لكم

إن اللجاجة مدعاة إلى الفشل

هذي نصيحة من لا يبتغي بدلًا

بكم وهل بعد قوم المرء من بدل؟

1 الخزل: من الانخزال وهو الظلوع في المشي من أثر شوكة أو شبهها، مشي فيه تثاقل وتراجع.

ص: 213

فهذا الشعر السياسيّ، وهذه النفس المتوثبة الطموح، وهذه الثورة المتأججة التي انتهت بصاحبها إلى النفي والتشريد، هي من الجديد في معاني البارودي وشعره، وهي جديدة حتى في الأدب العربيّ كله، وإن كان المتنبي قد حاول من قبل ملكًا وثار على الدنيا التي مكنت للعبيد والخصيان والعلوج في الأرض يسوسون شعوبًا ضعيفة، وجعل يقول:

في كل أرض وطئتها فُدُم

ترعى بعبد كأنها غنم

فإنه اكتفى بالإشارة والتلميح والزفرة الحارة، وبملامة الدهر ومحاربته في مطلبه، ولكن البارودي كان يطلب شيئًا آخر: كان يطلب الحرية لقومه، والعدل والمساواة، كان يطلب العيشة الهنية في ظلال الحرية، ولا عليه إذا طلب بجانب هذا ملكًا عضوضًا ليحقق لقومه آمالهم، وهَبْ البارودي قَلَّدَ المتنبي في بعض معانيه، فهل كان اقتحامه نار الثورة تقليدًا؟ أو ليس شعره هذا وليد الحوادث وصدى لها؟ وهل فترت عزيمته، ووهنت قوته، وذلت نفسه وهو يقاسي ألم النفي والتشريد، ما دام يدب في جسمه شيء من العافية؟ كلا! وإذا شئت برهانًا فاستمع لهذه الكلمات التي كانت يخشى بأسها على البعد حكام مصر؛ كأنها جيش لهام يبدد سعادتهم.

أبى الدهر إلّا أن يسود وضيعه

ويملك أعناق المطالب وغده

تداعت لدرك الثأر فينا ثعالة

ونامت على طول الوتيرة أسده

فحتَّام نسري في دياجير محنة

يضيق بها عن صبحة السيف غمده؟

إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت

عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده

ومن ذل خوف الموت كانت حياته

أضر عليه من حمام يؤده

وأقتل داء رؤية العين ظالمًا

يسيء، ويتلى في المحافل حمده

علام يعيش المرء في الدهر خاملًا

ويفرح في الدنيا بيوم يعده؟

يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعه

كذى جرب يلتذ بالحلد جلده

ص: 214

عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش

بها بطلًا يحمي الحقيقة شده

من العار أن يرضى الفتى بمذلة

وفي السيف ما يكفي لأمر يعده

وإني امرؤ لا أستكين لصولة

وإن شد ساقي دون مسعاي قده

أبت لي حمل الضيم نفس أبية

وقلب إذا سيم الأذى شب وقده

وربما قيل: إن البارودي كان ذا أثرة، وأنه كان يسعى سعيه لتحقيق أمله، وأنه لم يكن مخلصًا في دعوته لمحابة الظلم، وسواء كان هذا صحيحًا أو غير صحيح، فالذي نلمسه هو أن البارودي كان يتغنى بمصر وأهلها ويظهر محبته لها، وحرصه على خيرها ونفعها، بما لم نسمعه قبل من شاعر، إنها الروح القومية الجديدة سرت في شعوب الأرض، وجعلتهم يطالبون بالحرية والاستقلال، ويشيدون بأوطانهم، ويتغنون بمآثر قومهم، وقد تمثلت هذه الروح في البارودي على غير انتظار، وعلى غير سابقة من شعراء وطنه وزمنه، أصغ إلى القطعة التالية، والمس ما بها من حرارة الصدق والمحبة؛ لتعرف أكان البارودي مخلصًا في دعواه أو مداجيًا؟

فيا مصر مد الله ظلك وارتوى

ثراك بسلسالك من النيل دافق

ولا برحت تمتار منك يد الصبا

أريجًا يداوي عرفه كل ناشق

فأنت حمى قومي، ومشعب أسرتي

ومعلب أترابي، ومجرى سوابقي

بلاد بها أهلًا كرامًا وجيرةً

لهم جيرة تعتادني كل شارق

هجرت لذيذ العيش بعد فراقهم

وودعت ريعان الشباب الغرانق

إننا لانستطيع أن نحكم على البارودي وشعره ينطق بوطنيته، بأنه منافق خداع، إنه كان يحب وطنه، وفي سبيله شرد ونفي.

ص: 215

ومن عجائب ما لاقيت من زمني

أني منيت بخطب أمره عجب

لم أقترف زلة تقضي عليّ بما

أصبحت فيه، فماذا الويل والحرب؟

فهل دفاعي عن ديني وعن وطني

ذنب أدان به ظلمًا وأغترب؟!

لقد كان يحب مصر حبًّا ملك عليه شغاف قلبه، وهو القائل فيها:

بلد نشأت مع النبات بأرضها

ولثمت ثغر غديره المتبسم

فنسيمها روحي ومعدن تربها

جسمي وكوثر نيلها محيا دمي

فإذا نطقت فبالثناء على الذي

أولته من فضل عليّ وأنعم

هي جنة الحسن التي زهراتها

حور المها، وهزار أيكتها فمي

ما إن خلعت بها سيور تمائمي

حتى لبست بها حمائل مخذمي

إن هذه النغمة الوطنية جديدة -كما ذكرنا- في الشعر العربيّ، وحسب البارودي فخرًا أنه من أوائل من تغنَّى بأمجاد وطنه في العصر الحديث، ولقد كاد يقضي أسى وهو يغادر مصر إلى منفاه، وزفر زفرة ملتهبة ينفس بها عن جواه:

ولما وقفنا للوداع وأسبلت

مدامعنا فوق الترائب كالمزن

أهبت بصبري أن يعود فبزني

وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن

فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى

وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن

وما كنت جربت النوى قبل هذه

فلما دهتني كدت أقضي من الحزن

ولكنه سرعان ما يثوب إلى رشده، ويكفكف من دمعه، ويتجلد أمام خصومه، ويظهر سمات الرضا، وأنه يؤثر أن يبرح أرضًا يغشيها الظلم، تصك أنات الجور مسمعيه، وتؤذي رؤية وجه الغدر ناظريه.

ص: 216

فيا قلب صبرًا إن جزعت فربما

جرت سنحا طير الحوادث باليمن

فقد تورث الأغصان بعد ذبولها

ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن

وكيف مقامي بين أرض أرى بها

من الظلم ما أخنى على الدار والسكن1

فسمع أنين الجور قد شاك مسمعي

ورؤية وجه الغدر حل عرى جفني

ولقد زاده النفي حبًّا في وطنه وتعلقًا به، وترديدًا لمحاسنه، ويتمثله على البعد جنةً دانية القطوف، عبقة الشذى، فمن ذلك قوله وهو بالمنفى، ويتشوق إلى أيام لهوه التي حرمها، وإلى الأرض الطيبة التي أبعد عنها، ويصف جزيرة سرنديب وصفًا جميلًا، وفيه تصوير دقيق، يدل على حسٍّ مرهف، وذوق فنان عبقريٍّ.

لبيك يا داعي الأشواق من داعي

أسمعت قلبي وإن أخطأت أسماعي

مرني بما شئت أبلغ كل ما وصلت

يدي إليه فإني سامع واعي

إني امرؤ لا يرد العذل بادرتي

ولا تفل شباة الخطب إزماعي2

أجري على شيمة في الحب صادقة

ليست تهم إذا ريعت بإقلاع3

للحب من مهجتي كهف يلوذ به

من غدر كل امرئ بالشر وقاع

يا حبذا جرعة من ماء محنية

وضجعة فوق برد الرمل بالقاع

ونسمة كشميم الخلد قد حملت

ريّا الأزهير من ميث وأجراع4

يا هل أراني بذاك الحي مجتمعًا

بأهل ودي من قومي وأشياعي

وهل أسوق جوادي للطراد إلى

صيد الجآذر في خضراء ممراع

منازل كنت منها في بلهنية

ممتعًا بين غلماني وأتباعي

فاليوم أصبحت لا سهمي بذي صرد

إذا رميت، ولا سيفي بقطاع5

1 السكن: السكان.

2 البادرة: ما يبدر من الإنسان عند حدة غضبه، والمراد بالبادرة هنا: شدة العزم وقوة الإرادة.

الإزماع: العزم.

3 ريعت: أخفت: والإقلاع، الترك والكف.

4 الميث: جمع ميثاء، وهي الأرض السهلة اللينة من غير رمل، والأجراع: جمع جرع "كجبل" هو الأرض الرملية السهلة.

5 صرد: مصدر صرد السهم، أي: أصاب ونفذ.

ص: 217

أييبت في قنة قنواء قد بلغت

هام السماك وفاتته بأبواع1

يستقبل المزن ليتيها بوابلة

وتصدم الريح جنبيها بزعزاع2

يظل شمراخها يبسًا وأسفلها

مكللًا بالندى يرعى به الراعي

إذا البروق ازمهرت خلت ذروتها

شهمًا تدرع من تبر بأدراع

تكاد تلمس منها الشمس دانية

وتحبس البدر عن سير وإقلاع

أظل فيها غريب الدار مبتئسًا

نابي المضاجع من هَمٍّ وأوجاع

لا في "سرنديب" خل أستعين به

على الهموم إذا هاجت ولا راعي

يظنني من يراني ضاحكًا جذلًا

أني خلي، وهمي بين أضلاعي

ولا روبك ما جدوى بمندرس

على البعاد ولا صبري بمطواع

لكنني مالك حزمي، ومنتظر

أمرًا من الله يشفي برح أوجاعي

أكف غرب دموعي وهي جارية

خوف الرقيب وقلبي جد ملتاع

فإن يكن ساءني دهري، وغادرني

رهن الأسى بين جدب بعد إمراع

فإن في مصر إخوانًا يسرهم

قربي، ويعجبهم نظمي وإبداعي

ويقول من قصيدة أخرى وهو في المنفى يتشوق إلى مصر:

يا "ورضة النيل" لا مستك بائقة

ولا عدتك سماء ذات أغداق3

ولا برحت من الأوراق في حلل

من سندس عبقريِّ الوشى براق

يا حبذا نسم من جوها عبق

يسري على جدول بالماء دفاق

بل حبذا دوحة تدعو الهديل بها

عند الصباح قماري بأطواق

مرعى جيادي، ومأوى جيرتي، وحمى

قومي، ومنبت آدابي وأعراقي

أصبوا إليها على بعد، ويعجبني

أني أعيش بها في ثوب إملاق

1 قنواء: عالية مرتفعة، الأبواع: جمع باع.

2 الليتان: صفحتا العنق مثنى ليت، زعزاع: شديدة تزعزع الأشياء.

3 البائقة الداهية: لا عدتك: لا تجاوزك، والمراد بالسماء السحب والأمطار.

ص: 218

ج- النسيب:

وقد مَرَّ بنا أن البارودي قد قلَّدَ القدماء في الوقوف على الأطلال والدمن، وفي الأوصاف الموروثة، وفي الوصف الماديِّ للمرأة والنظرة إليها نظرة السلعة، ولكنه مع هذا قد تحلَّلَ أحيانًا من كل تلك القوالب القديمة، وترَفَّعَ في نظرته إلى المرأة، فحسبه منها نظرة:

إني لأقنع من هواك بنظرةٍ

وأعدها صلةً إذا لم تمنعي

هذي مناي وحبذا لو نلتها

عن طيب نفسٍ فهي أكبر مقنع1

وهو يمتدح بعفته في حبه، ويبين مذهبه في الوداد بقوله:

إني امرؤ ملك الواد قيادتي

وجرى على صدق العهود وفائي

لا أستريح إلى السلو، ولو جنى

خِلِّي عليَّ، ولا أشين ولائي

لا ذمتي رهن الفكاك ولا يدي

تلقى أزمة عفتي وحيائي

ويقول:

على أنني لم آت في الحب زلة

تغض بذكري في المحافل أو تزري

ولكنني طوفت في عالم الصبا

وعدت ولم تعلق بفاضحة أزري

ويقول:

والعشق مكرمةٌ إذا عفَّ الفتى

عمَّا يهيم به الغويّ الأصور2

1 المعنى قديم، طرقه من قبلُ جميل في قوله:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو أبصره الواشي لقرت بلابله

بلا، وبألا أستيطع وبالمنى

وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله

وبالنظرة العجلى وبالعام بنقضي

أواخره لا نلتقي وأوائله

ولكن البارودي كان في عصر ماديٍّ لا يفطن إلى هذا، وقد سبقه آلاف الشعراء منذ جيلٍ لم يقنعوا قناعته.

2 الأصور: المنحرف عن الهدى والرشاد من الصور وهو الميل.

ص: 219

يقوى به قلب الجبان ويرعوي

طمع الحريص، ويخضع المتكبر

وقد يفطن أحيانًا إلى أن المرأة بها من أنواع الجمال غير هذه السمات المادية فقال:

تركتني من غمرات الهوى

في لُجِّ بحر الردى زاخر

أسمع في قلبي دبيب المنى

وألمح الشبهة في خاطري

وقد وُفِّقَ البارودي في البيت الثاني أيَّمَا توفيق، على أن معظم نسيب البارودي من الشعر القديم، وقد وفيناه نعتًا فيما سبق.

د- الهجاء:

والهجاء نوعان: شخصي وهو ما درج عليه معظم شعراء العربية، واجتماعي، ويراد به ذلك الهجاء التهكمي الذي يقصد إلى تجسيم عيبٍ من عيوب المجتمع وتصويره في أبشع صورة رغبةً في الإصلاح، وقد يتمثَّل هذا العيب الاجتماعيُّ في شخص من الأشخاص؛ فيهجوه الشاعر، ويبرز ذلك العيب فيه بشكلٍ يسترعي انتباه القارئ أو السامع، وليس الشخص مقصودًا لذاته في مثل هذا النوع من الهجاء، وإنما المقصود هو هذه السوأة الاجتماعية، وقد لجأ شعراء الغرب إلى التمثيل يصورون فيه هذه المثالب الإنسانية العامة، ويجسِّمون العيوب تجسيمًا يحمل الشعب على الاشمئزاز منها والبعد عنها؛ كما فعل شكسبير في رواياته الكثيرة، وكما فعل موليير في هزلياته.

وقد وُجِدَ في شعر البارودي نوعا الهجاء: الشخصي والاجتماعي، وأَكْثَرَ من النوع الاجتماعيِّ على غير عادة شعراء العربية، فهو يشكو الناس ونفاقهم وظلمهم وغدرهم، ويصور قومه ويعدد عيوبهم، ويحرضهم على إصلاح تلك العيوب، وقد مرت بنا نماذج من النوعين؛ فقصيدته التي يدعو فيها لنفسه ويعدد محاسنه وينعى على مواطنيه صفاتهم وخمولهم والتي يقول فيها:

ص: 220

بئس العشير وبئست مصر من بلد

أضحت مناخًا لأهل الزور والخطل

أرض تأثل فيها الظلم وانقذفت

صواعق الغدر بين السهل والجبل

من نوع الهجاء الاجتماعي، والمقطوعة التي ذمَّ فيها النهم والجشع من الهجاء الشخصي، وإن لم يظهر فيها أمرًا شخصيًّا، أو عداوةً خاصةً على هجائه، وإنما ذمه بعيب عامٍّ، وهو الجشع والنهم.

ومن النوع الاجتماعي: قوله يذم زمانه وينعى على معاصريه تلونهم وعدم وفائهم في صداقتهم، ولا سيما وقد خذوله وآذوه:

أنا في زمانٍ غادرٍ ومعاشر

يتلونون تلون الحرباء

أعداء غيب ليس يسلم صاحب

منهم وأخوة محضر ورخاء

أقبح بهم قومًا بلوت إخاءهم

فبلوت أقبح ذمة وإخاء

قد أصبحوا للدهر سبة ناقم

في كل مصدر محنة وبلاء

وأشد ما يلقى الفتى في دهره

فقد الكرام وصحبة اللؤماء

شقي ابن آدم في الزمان بعقله

إن الفضيلة آفة العقلاء

فهو هنا لا يذم شخصًا بعينه لعداوةٍ خاصةٍ بينه وبينه، وإنما يذم عيبًا اجتماعيًّا متفشيًا، ولو تناول هذا العيب شاعر غربيٌّ لأظهر لنا شخصية المنافق في مسرحية شائقة، ولأوسعه سخريةً وتهكمًا، ولكن البارودي أوجز في وصفه على عادة العرب؛ على أن له قطعًا تصويرية جميلة في هذا النوع الاجتماعيّ، اسمعه مثلًا يصور جارة تكثر من الصخب والضوضاء، ولها أولاد يتشاجرون كثيرًا، ويملئون الجوَّ صراخًا وعويلًا، لا تراعي هذه الجارة حرمة الجيران، ولا تعبأ براحة سواها، ومن العجيب أن هذا العيب لا يزال متنشرًا في كثيرٍ من بلدان الشرق بدعوى الحرية الكاذبة، فترى الجار يقلق راحة جاره بشتَّى الوسائل؛ فتارةً بالمذياع، وأخرى بمكبرات الصوت أو بالمشاجرة مع أهله وأولاده.. إلى آخر ما هنالك من أنواع المضايقات، والبارودي أديب ومفكر، وقد ابتلاه الله بجارةٍ مقلقةٍ للراحة تبدد ضوضاؤها، وجلبتها أفكاره وخيالاته، فلا بدع إذا سخط عليها وبرم بها:

ص: 221

إلى الله أشكو طول ليلي وجارة

تبيت إلى وقت الصباح بإعوال

لها صبيةٌ لا بارك الله فيهم

قباح النواصي لا ينمن على حال

صواريخ لا يهدأن إلّا مع الضحى

من الشر في بيت من الخير ممحال

ترى بينهم -يا فرق الله بينهم-

لهيب صياح يصعد الفلك العالي

كأنهم مما تنازعن أكلب

طرقن على حين المساء برئبال

فهجن جميعًا هيجة فزعت لها

كلاب القرى ما بين سهل وأجبال

فلم يبق من كلب عقور وكلبة

من الحيّ إلَا جاء بالعم والخال

وفزعت الأنعام والخيل فانبرت

تجاوب بعضًا في رغاء وتصهال

فقامت رجال الحيّ تحسب أنها

أصيبت بجيش ذي غوارب ذيال

فمن حاملٍ رمحًا ومن قابضٍ عصًا

ومن فَزِعٍ يتلو الكتاب بإهلال

ومن سبية ريعت لذك ونسوة

هوائم دون الباب يهتفن بالوالي

فيا رب هب لي من لدنك صبرًا

على ما أقاسيه وخذهم بزلزال

ومن هجائه الشخصيِّ الذي ينهش فيه العرض، ويذم الشخص بصفات خاصة فيه حتى تؤذيه، قوله: وهو من أخف أهاجيه:

هجوته لا بالغًا لؤمه

لكنني كفكفت من غربه

فإن أكن قد نلت من عرضه

فإني دنست شعري به

فلا يلومن سوى نفسه

من سلط الناس على ثلبه

وقوله:

وقد تكوَّن من لؤم ومن دنس

فما يغار على عرضٍ ولا حسب

يلتذ بالطعن فيه والهجاء كما

يلتذ بالحك والتظفير ذو الجرب

ص: 222

ولقد كان مولعًا بهجاء رياض "باشا"؛ إذ كان يرى فيه معولًا هدَّامًا للحركة الوطنية، وعدوًّا للشعب، ونصيرًا للاستبداد والظلم، ولم يغفر له البارودي وشايته به لدى توفيق حين رأى ميوله الشعبية، فأخرجه من الوزارة ولم يعد إلّا بعد أن ترضاه توفيق.

ومن أهاجيه المقذعة في رياض قوله:

إن ملكًا فيه رياض وزير

لمباح للخائنين وبل1

أهوج أحمق ستيم لئيم

أغتم أبله زنيم عتل

صغرت رأسه وأفرط في الطول

شواه وعنقه فهو صعل

أبرزت قدرة الطبيعة فيه

شكل لؤم إن كان للؤم أهل

ليس تغني الألقاب عن كرم الأصل

فمجد الفتى عفاف وعقل

أنت من عنصر لو اتكأ الذر

عليه لآده منه حمل

نازعتك اليهود واختلفت فيك

النصارى فأنت لا شك بغل2

وقد هجاه البارودي بقصيدةٍ أخرى مطلعها:

ما لي بودي بعد اليوم إلمام

فاذهب فأنت لئيم العهد نمام

على أن البارودي لم يكن هجَّاء، وأهاجيه الشخصية قليلة إذا قيست بشعره كله، ولكن سخطه على الناس وتبرمه بأخلاقهم وعيوبهم كثيرٌ نوعًا ما، وهو يدل على النزعة الإصلاحية عنده، ويدل على أنه قد أوذي ولقي من قومه محنًا كثيرة، وأنه كان يضيق بأخلاقهم ذرعًا، فهذا الهجاء الاجتماعي جديد في شعر البارودي، إنه صوَّرَ به عصره وناسه تصويرًا ملونًا بشعوره الخاص، وحسبنا من الشاعر

1 بل: مباح، يقال: حل وبل.

2 هناك من يدعي أن رياضًا من أصل يهوديٍّ، راجع كتاب الثورة العرابية للرافعي، ص32، 38، وراجع كذلك Yonng: Egypt، P.104.

ص: 223

أن يصور ما يختلج في صدره من عواطف وأحاسيس، وأن ينقل إلينا مشاعره الخاصة، لا أن يستتر وراء سدف كثيفة مصطنعة من المجاملات والنفاق الاجتماعي، والمدح الكاذب.

هـ- المخترعات الحديثة:

حفل القرن التاسع عشر بكثيرٍ من المخترعات الحديثة التي ذللت الطبيعة وأرضختها لخدمة الإنسان، وجعلت أمور الحياة هينةً أمامه، وقد أخذت مصر بنصيبٍ من هذه المخترعات، فانتشر فيها مثلًا استخدام الكهرباء وآلة التصوير، وعرفت في أواخر أيام البارودي الطائرات، وما شاكل ذلك، وكان البارودي حريصًا على أن يستمد تشبيهاته من هذه المخترعات الحديثة رغبةً في الطرافة، وتمثيل عصره، فيقول مثلًا:

تعرض لي يومًا فصورت حسنه

ببلورتي عينيِّ في صفحة القلب

ويقول:

فالعقل كالمنظار يبصر ما نأى

عنه بعيدًا دون لمس باليد

ويقول:

شفت زجاجة فكري فارتسمت بها

عليك من منطقي في لوح تصوير1

ويقول:

جسم برته يد الضنى حتى غدا

قفصًا به للقلب طير يصفر

لولا التنفس لاعتلت بي زفرة

فيخالني طيارة من يبصر

1 ارتسمت: يريد رسمت غير موجودة بالمعاجم.

ص: 224

قد يبدو على بعض هذه الأبيات شيءٌ من التكلف، ولكن البارودي ما كان ليستطيع أن يبتعد عن استخدام هذه المخترعات في شعره، وهو الولوع بالتجديد في الشعر، الحريص على أن يمثِّلَ زمانه تمام التمثيل.

ج- نظرة عامة:

رايت مما سبق أن البارودي حاول أن يجدد في الشعر العربي من حيث الموضوعات التي تناولها، ولا سيما في الوصف، وفي الشعر السياسي، ورأيت أن الوصف قد تناول نواحي عدة: من وصف للطبيعة، والأشخاص، وميادين القتال، والأشياء، وأن وصف البارودي كان في الغالب وصفًا حسيًّا يقف عند التصوير المشوب بشيءٍ من العاطفة دون أن يتعمق فيه، ويحلل ويوازن ويتخيل، وأن موصوفاته كانت كذلك من المشاهدات غالبًا، ولم يحاول وصف الأمور المعنوية والنفسية إلّا قليلًا؛ ومع ذلك، فالبارودي بإفراده قصائد خاصة بالوصف، وبمحاكاته الطبيعة في شعره، وإتيانه بالأدب الواقعيّ المجرد من العواطف والأخيلة إلّا القليل، قد فتح فتحًا عظيمًا في الشعر العربيّ، ونفض عنه غبار السنين الطويلة، وعرض القديم عرضًا جديدًا شائقًا جذابًا، ومهَّدَ الطريق لمن أتى بعده من الشعراء، ناهيك بأسلوبه الفخم الجزل، وبعده عن الزخارف والحلى التي تطغى على المعنى وتذهب ببهاء الشعر، وتدعو إلى التكلف والتعسف.

ومن أهم مزايا الباروديأنه كان بعيدًا عن التكلف، بل كاني ينطلق في سجيته، ويظهر كل ما في نفسه، ويصور مشاعره السارة والحزينة دون إخفاء أي شيء منها، وقد يغلبه التقليد للقديم أحيانًا فيخالف طبعه، ويسير على غير سجيته، ويتكلَّف القول محاكيًا القدماء، وتلمس أثر هذا التكلف واضحًا ليس عليه طابع البارودي ولا شخصيته، وقد مر بنا عند الكلام على القديم في شعره نماذج من هذ الطراز.

وهناك أغراض تقليدية قال فيها الشعراء منذ عصر امرئ القيس، وقال فيها البارودي كذلك مثل: الرثاء والمدح والحكمة وما شاكل هذا. ولا نستطيع أن نختم الكلام على البارودي قبل أن نرى موقفه من هذه الأغراض.

ص: 225

الرثاء:

ولم يرث البارودي إلّا صديقًا أو قريبًا، فلم يكن رثاؤه مفتعلًا أو من شعر المناسبات، وإنما كان منبعثًا عن عاطفةٍ صادقةٍ، وقد تمثَّل في رثائه كل ما يخطر ببال الراثي، من تفجع وشكوى من الزمن والحياة وسخط عليها، وإظهار لمحاسن المرثيّ، وبعض الحكم يتأسَّى بها الشاعر أو يعظ بها غيره، ويقدِّمُ العزاء أحيانًا لأهل البيت، وإن لم يحاول الوقوف على سر الحياة الأخرى، وأن يستشف ما بعد الموت كما كان يفعل شوقي، وقد يأتي الباوردي ببعض المعاني القديمة في قصائد الرثاء؛ كأن يدعو الله أن ينزل الغيث على جدث الميت، وما شايع هذا من الصيغ التقليدية المعروفة، وهو يظهر الجزع والحزن الشديد دون مبالغة جارفة في النعوت التي يضفيها على الميت، وجزعه وحزنه لا يدلان على عاطفة مشبوبة وقلب وفيٍّ، ولا سيما وقد قال معظم مراثيه وهو في المنفى، فزاد في أساه لوعة النوى عن الوطن، وحرمانه التزود من الميت بنظرة أو حديث، ودعاه هذا إلى توجيه الخطاب للشامتين به في نكبته ومحنته، وأن يظهر لهم التجلد في أخريات قصائده، وأنه ما زال صلب العود ولا سيما إذا كان الميت من ذوي قرابته.

ومن أحسن مراثيه قوله في ولده عليِّ:

كيف طوتك المون ويا ولدي؟

وكيف أودعتك الثرى بيدي؟

وا كبدي، يا عليُّ بعدك لو

كانت تبل الغليل وا كبدي!!

فقدك سَلَّ العظام مني ورَدَّ

الصبر عني وفت في عضدي

كم ليلة فيك لا صباح لها

سهرتها باكيًا بلا مدد

دمع وسهد، وأي ناظرة

تبقى على المدمعين والسهد؟!

لهفي على لمحة النجابة لو

دامت إلى أن تفوز بالسدد

ما كانت أدري إذ كنت أخشى عليك

العين أن الحمام بالرصد

فاجأني الدهر فيك من حيث لا

أعلم ختلًا والدهر كالأسد

لولا اتقاء الحياة لاعتضت بالحلم

هيامًا يحيق بالجلد

ص: 226

لكن أبت نفسي الكريمة أن

أثلم حد العزاء بالكمد

فليبك قلبي عليك، فالعين لا

تبلغ بالمدع رتبة الخلد1

إن يك أخنى الردى عليك، فقد

أخنى أليم الضنى على جسدي

عليك مني السلام توديع لا

قال، ولكن توديع مضطهد

ومن رثائه الذي يَنُمُّ عن عاطفةٍ صادقةٍ، ويظهر فيه الأسى واللوعة، وعظيم التفجع من غير مواربة أو تحفظ، رثاؤه لزوجته، وقد ورد إليه نعيها وهو بسرنديب، وعلى الرغم من أن رثاء الشعراء لزوجاتهم قليل في الأدب العربي، فإن قصيدة البارودي هذه تعد من عيون قصائد الرثاء، وهي تدل على الوفاء والمحبة، وعلى فرط حساسيته، ويقول في مطلعها:

أيد المنون قدحت أي زناد

وأطرأت أية شعاعة بفؤادي

ومنها:

لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي

تقوى على رد الحبيب الغادي

يا دهر فيم فجعتني بحليلة

كانت خلاصة عدتي وعتادي؟

إن كنت لم تحرم ضناي لبعدها

أفلا رحمت من الأسى أولادي

أفردتهن فلم ينمن توجعًا

قرحى العيون رواجف الأكباد

يبكين من وَلَه فراق حفية

كانت لهن كثيرة الإسعاد

فخدودهن من الدموع ندية

وقلوبهن من الهموم صوادي

أسليلة القمرين! أي فجيعة

حلت لفقدك بين هذا النادي؟

أعزز عليَّ بأن أراكِ رهينةً

في جوف أغبر قائم الأسداد

أو أن تبيني عن قرارة منزل

كنت الضياء له بكل سواد

لو كان هذا الدهر يقبل فدية

بالنفس عنك لكن أول فاد

1 الخلد: القلب، أي: أن العين مهما بكت لا يصل حزنها إلى منزلة حزن القلب.

ص: 227

ثم يذكر وفاءه لها، ولعله بذلك يسوغ رثاءه لها على الرغم من شهرته بالجلد والشجاعة، ولأنه لم تجر العادة بأن يرثي الشعراء زوجاتهم إلّا في النادر؛ ولعل ظرف البارودي، وبعده في المنفى عن أهله وأولاده، ورعاية هذه الزوجة لهؤلاء الأولاد هو الذي حَزَّ في نفسه، وتذكَّرَ أيامه الطيبة السعيدة في عش الزوجية بوطنه الحبيب، كما أنه كان يتخيل أن كل كارثةٍ تحلُّ بهم تشمت به الأعداء فيزيد ذلك من لوعته، قال:

جزع الفتى سمة الوفاء، وصبره

غدر يدل به على الأحقاد

ومن البلية أن يسام أخو الأسى

رعي التجلد وهو غير جماد

وإذا عددت مراثيه وجدته رثى أصدقاؤه الأدباء الذين كانت بينهم وبينه آصرة محبة ووداد، وتقدير وتفاهم، مثل: أحمد فارس الشدياق، وعبد الله فكري، وحسين المرصفي، ووجدته رثى أولاده، وزوجته، ورثى والده، وإن كان قد توفي وهو صبي كما عرفنا، ولذلك جاء رثاؤه لوالده خاليًا من العاطفة فيه كثير من الفخر، ليس فيه تفجع الحزين، ولا حسرات الفراق، وبه كثير من المبالغات غير المقبولة، وفيه يقول:

لا فارس اليوم يحمي السرح بالوادي

طاح الردى بشهاب الحرب والنادي

مات الذي ترهب الأقران صولته

ويتقي بأسه الضرغامة العادي

جف الندى، وانقضى عمر الجدى وسرى

حكم الردى بين أرواح وأجساد

المدح:

واقتصر في مدحه على ولاة مصر: إسماعيل، وتوفيق، وعباس، وهو في مدحه لا ينسى مصر وموقف الوالي منها، وما قَدَّمَ لها، أو ما يرجى على يديه من خيرات لمواطنيه، فيمدح توفيقًا لعزمه على الأخذ بالشورى والعدل، ويستطرد إلى مدح النظام الشوري، وأنه من تعاليم الإسلام، والأمة التي لا تأخذ به مصيرها إلى

ص: 228

الانهيار، والملك الذي لا يتبعه ملك غير عادل، وملكه سرعان ما يدب إليه الضعف؛ وهو في مدحه لعباس يذكر عدله وأريحيته، وما يرجى على يديه من نفع، وقد مدح عباسًا لأنه عفا عنه وأعاده إلى وطنه، فكان لزامًا عليه حين يمدحه أن يذكر له هذه اليد الكريمة، أما إسماعيل: فقد مدحه حين وُلِّيَ على أريكة مصر، وقدم نفسه لإسماعيل وأطراها، وأظهر استعداه لخدمته، وخدمة وطنه، وهذا ولم يغفل أن يثني على كل ممدوحيه وينعتهم بكرم الأصل وحب الخير والعدل، وأنهم ذوو هيبةٍ وشمائل كريمة

إلخ هذه الصفات المعروفة والمعاني المطروقة، وقد مرَّت بنا بعض أبيات من مدحه لتوفيق وعباس، وهاك بعض ما قاله في إسماعيل حين ولي أريكة مصر:

طَرِبَ الفؤاد وكان غير طروب

والمرء رهن بشاشة وقطوب

ورد البشير، فقلت من سرف المنى

أعد الحديث عليَّ فهو حسيبي

خبر جلا صدأ القلوب فلم يدع

فيها مجال تحفز لوجيب

فلتهن مصر وأهلها بسلامة

جاءت لها بالأمن بعد خطوب

بالماجد المنسوب، بل بالأروع الـ

مشبوب، بل بالأبلج المعصوب1

رب العلا والمجد "إسماعيل" مَنْ

وضحت به الأيام بعد شحوب

وَرَدَ البلادَ وليلها متراكب

فأضاءها كالكوكب المشبوب

برويَّةٍ تجلو الصواب وعزمة

تمضي مضاء اللهذم المذروب2

ويقول فيها:

وأعاد مصر إلى جمال شبابها

من بعد ما لبست خمار مشيب

فتنعمت من فيضه في غبطة

وتمتعت من عدله بنصيب

1 المنسوب ذو النسب، والأورع: من يعجبك بحسنة وجهارة منظره أو بشاعته، والمشبوب: الحسن الوجه والبلجة -بضم فسكون: الضوء، ونقاوة ما بين الحاجبين، ويقال للرجل الطلق الوجه أبلج، والمعصوب: المتوج.

2 المذروب: المحدد المسنون.

ص: 229

ويقدم نفسه لإسماعيل بقوله:

فاسمع مقالة صادق لم ينتسب

لسواك في أدب ولا تهذيب

أوليته خيرًا، فقام بشكره

والشكر للإحسان خير ضريب

فاعطف عليه تجد سليل كرامة

أهلًا لحسن الأهل والترحيب

ينبيك ظاهره بود ضميره

والوجه وسمة مخلص ومريب

وإليك من حوك اللسان حبيرة

بغنيك رونقها عن التشبيب

حضرية الأنساب إلّا أنها

بدوية في الطبع والتركيب

ولم يكن البارودي شاعرًا مدَّاحًا مكتسبًا بشعره، كما درج على هذه العادة معظم الشعراء في الأدب العربي، ولكنه كان أميرًا فارسًا عفيفًا، يقول الشعر للتعبير عن خلجات فؤاده، وقد قال:

الشعر زينا المرء ما لم يكن

وسيلة للمدح والذام

وهو إذا مدح لم يقصد بمدحه العطاء، وإنما للتعريف بمنزلته، أو الشكر على يدٍ أسديت إليه، أو حثٍّ على مكرمة، ومديحه خالٍ من المبالغات المذمومة والنعوت الموهومة، وهذا طبيعيٌّ ما دام لم يقصد بمدحه صلة أوعطية؛ لأن الشعراء إنما لجئوا إلى هذه المبالغات ظنًّا منهم أنها تزيد في عطائهم، وأن نفس الممدوح تسر لها فيغدق عليهم جزيل الهبات.

فخره:

وقد افتخر البارودي كما عرفت بنسبه وحسبه، وافتخر كذلك بشجاعته وفروسيته، وقد أكثر من القول في هذا المعنى، وله فيه مبالغات سخيفة؛ فمن ذلك قوله يفتخر ببأسه ونجدته، وأنه مَلَكَ أَزَّمةَ الفصاحة والبيان، وأن الزمان لو تقدَّم به لبذ الشعراء الفحول، ولسطر اسمه على جبين التاريخ بالفخر إلى آخر هذه المعاني المعروفة من مثل قوله:

ص: 230

ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة

ترد لهام الجيش وهو يمور

إذا سرت فالأرض التي نحن فوقها

مراد لمهردي المعاقل دور

فلا عجب إن لم يصرني منزل

فليس لعقبان الهواء وكور

وأصبحت محسود الجلال كأنني

على كل نفس في الزمان أمير

إذا صلت كف الدهر من غلوائه

وإن قلت غصَّت بالقلوب صدور

ملكت مقاليد الكلام وحكمة

لها كوكب فخم الضياء منير

فلو كنت في عصر الكلام الذي انقضى

لباء بفضلي "جرول" و"جرير"

ولو كنت أدركت الواسي لم يقل

"أجارة بيتينا أبوك غيور"

وما ضرني أني تأخرت عنهم

وفضلي بين العالمين شهير

فيا ربما أخلى من السبق أول

وبذ الجياد السابقات أخير

ويسود هذا النوع من الفخر شعر البارودي، ويبين أنه محسود المكانة، وأنه فريد عصره وواحد دهره، كما يقول:

فإن أكن عشت فردًا بين آصرتي

فهأنا اليوم فرد بين أندادي

بلغت من فضل ربي ما غنيت به

عن كل قارٍ من الأملاك أو باد

فما مددت يدي إلّا لمنح يد

ولا سعت قدمي إلّا لإسعاد

الزهد:

ولعل قوله في الزهد يرجع إلى تلك الحالات النفسية التي غلبة فيها اليأس على أمره؛ وهو وحيد شريد يعاني غصص الفراق والنفي، وإلا فهذه النفس الطموح التي خاطرت وغامرت وتطلعت إلى الملك، وتلذذت ونعمت بالحياة، كانت بعيدةً عن الزهد في الحياة، ولعلها لم تزهد إلّا مرغمة، وعلى كلٍّ فما قاله في الزهد قليل، مما يدل على أنه أثر لنوباتٍ كانت تعتريه؛ فيتشاءم من الدنيا ويتذكر الموت، والموت يذكره بالعمل الصالح والإقلاع عن الغواية والجهل، ويذكّره بمن ماتوا قبله من ملوك أمراء وأصحاب عروش وضياع، ذهبوا وذهبت دنياهم

ص: 231

الحافلة باللذات، وعمرت منهم القبور؛ ولم يذد عنهم الموت مالهم ولا جاههم، إلى آخر هذه المعاني التي استنفدها من قبل أبو العتاهية، وصالح بن عبد القدوس، وأضرابهما، من مثل قوله:

كل حي سيموت

ليس في الدنيا ثبوت

حركات سوف تفنى

ثم يتلوه خفوت

وكلام ليس يحلو

بعده إلّا السكوت

أيها السادر قل لي

أين ذاك الجبروت؟

كنت مطبوعًا على النطق

فما هذا الصموت؟

ليت شعري أهمود

ما أراه أم قنوت؟

أين أملاك لهم في

كل أفق ملكوت؟!

زالت التيجان عنهم

وخلت تلك التخوت

ومما يتصل بهذا الموضوع مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مدحه بقصيدةٍ طويلةٍ يتوسل فيها بجاهه ويطلب شفاعته، ويرجو الرحمة والمغفرة من الله بسببه، ويقول:

هو النبيُّ الذي لولا هدايته

لكان أعلم من في الأرض كالهمج

أنا الذي بِتُّ من وجدي بروضته

أحنُّ شوقًا كطير البانة الهزج

هاجت بذكراه نفسي فاكتست ولهًا

وأي صب بذكر الشروق لم يهج

يا رب بالمصفى هب لي وإن عظمت

جرائمي -رحمةً تغني عن الحجج

ولا تكلني إلى نفسي فإن يدي

مغلولة، وصباحي غير منبلج

ما لي سواك وأنت المستعان إذا

ضاق الزحام غداة الموقف الحرج

ص: 232

الحكمة:

وقد أكثر البارودي من قول الحكم، ومعظمها حكم مبتكرة، وقع عليها السابقون، وصاغها البارودي صياغةً جديدةً بأسلوبه الجزل الفخم، وقد وردت له كثير من الأبيات السائرة التي صارت كأنها أمثال كقوله:

ومن تكن العلياء همة نفسه

فكل الذي يلقاه فيها محبب

وقوله:

وقليلًا ما يصلح المرء للجد

إذا كان ساقط الأجداد

وقوله:

لعمرك ما في الدهر أطيب لذة

من اللهو في ظل الشبيبة واليسر

وقوله:

إذا ساء صنع المرء ساءت حياته

فما لصرف الدهر يوسعها سبا

ومن أبيات الحكمة التي اشتهر بها قوله:

والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر

وإنما صفوه بين الورى لمع

لو كان للمرء فكر في عواقبه

ما شان أخلاقه حرص ولا طبع1

وكيف يدرك ما في الغيب من حدث

من لم يزل بغرور العيش ينخدع

دهر يغرُّ، وآمال تسر وأعمار

تمر، وأيام لها خدع

يسعى الفتى لأمور قد تضر به

وليس يعلم ما يأتي وما يدع

يأيها السادر المزور من صلف

مهلًا فإنك بالأيام منخدع

دع ما يريب، وخذ فيما خلقت له

لعل قلبك بالإييان ينتفع

إن الحياة لثوب سوف تخلعه

وكل ثوب إذا ما رَثَّ ينخلع

1 الطبع: الشين والدنس والعيب.

ص: 233

وهي حكم قريبة مأخوذة من تجارب عادية، ليست فيها فلسفة عميقة، ولا تدل على مذهب في الحياة ومصيرها ومصدرها، أو على نظرة عامة شاملة للكون، وإنما هي نظرات عابرة ليس فيها تحليل دقيق، ولا سبر لأغوار الحياة والمجتمع ونفسيته، ولكنها حلوة الصياغة خفيفة على الألسنة متقنة السبك.

وبعد، فهذه معظم الموضوعات التي تكلم فيها البارودي، وقد عقَّبْنَا على كل موضوع بكلمة موجزة، وعرفنا إلى أي حَدٍّ مشى البارودي في ظل القدماء، وإلى أي حَدٍّ تميَّزَت شخصيته، وبرزت خصائصه، وفي شعر البارودي هنات.

هنات:

وهذه الهنات قليلة لا تقدح في منزلته، ولا تغض من شأنه، وبعض هذه الهنات ترجع إلى:

1-

لغويات: فاستعمل البارودي كلمات كثيرة غير موجودة في المعاجم، ولا يعين عليها الاشتقاق الصرفي من مثل قوله:"همامة نفس" فهذا المصدر بالمعنى الذي يريده، أي: قوة العزم، غير موجود في المعجمات التي بين أيدينا، وقد يلتمس له تخريج بعيد، فيه كثير من التعسف، ومن مثل قوله:"يكفيك منه إذا استحس" يريد أحس، ومثل قوله:

شفت زجاجة فكري فارتسمت بها

علياك من منطقي في لوح تصويري

فارتسمت بمعنى: رسمت، غير موجودة بالمعجمات، ومعناها في المعاجم امتثل؛ ومثل قوله:

فكم سلموا عينًا بها تبصر العلا

وشلوا يدًا كانت بها راية النصر

والفعل شل لازم، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أشل الله فلانًا، واستعمله الشاعر متعديًا بنفسه، وقد يوجد له تخريج بعيد.

ص: 234

ومن مثل قوله: "تمديدًا نحو السماء خضيبة" وخضيب على وزن فعيل بمعنى: مفعول، أي: مخضوبة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث إن تبع الموصوف، ولهذا قالوا: كَفٌّ خضيبٌ وامرأة خضيبٌ، فاستعمال خضيبة خطأ.

ومثل قوله:

فما أبصرته الخيل حتى تمطرت

بفرسانها واستتلعت كي تخلص

وليس بالمعجمات استتلعت، وإنما بها تعلت، بمعنى: مدت أعناقها، وقد يقال: إن زيادة الهمزة والسين والتاء للطلب، قياسية عند بعض الصرفيين.

2-

وقد يخطئ البارودي في الأساليب العربية في مثل قوله:

إذا راطنوا بعضًا سمعت لصوتهم

هديدًا تكاد الأرض منه تميد

والفصيح إذا راطن بعضهم بعضًا

ولكن هذا قليل في شعره؛ لأنه على قول الفصيح لكثرة محفوظه من كلام العرب الخلص.

3-

ومن المآخذ التي كثيرًا ما يعير بها البارودي اتهامه بسرقات شعرية تأتي في صورة أبيات أو أنصاف أبيات من مثل قوله:

على طلاب العز من مستقره

ولا ذنب لي إن عارضتني المقادر

وهو من قول أبي نواس:

على طلاب العز من مستقره

ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب

ومثل قوله:

نميل من الدنيا إلى ظل مزنة

لها بارق فيه المنية تلمع

ص: 235

فالشطر الثاني مأخوذٌ من قول أبي العتاهية.

لها عارض فيه المنية تلمع.

وقول البارودي:

قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته

وليس يدركها الهيابة الخلط

مأخوذ من قول الشاعر العباسي:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

قوله:

وما الحلم عند الخطب والمرء عاجز

بمستحسن كالحلم والمرء قادر

مأخوذ من قول المتنبي:

كل حلم أتى بغير اقتدار

حجة لا جيء إليها اللئام

وهناك أبيات كثيرة تدل على نظرته إلى أشعار القدماء؛ وقد ذكرنا آنفًا أن البارودي لم يسرق، ولم يتعمد أخذ هذه الأبيات والسطو عليها، وإنما كثر محفوظه، وتأثر به كل التأثر، ولا سيما إذا كان يعارض قصيدةً لشاعر مجيد، فإنه يجاريه حتى لقد يختلط شعره بشعره، وتتعذر التفرقة بينهما، وذلك لجودة محاكاته وسلامة طبعه، وقد ترد على لسانه كلمات أو أبيات من أشعار القدماء دون أن يدرك؛ لأنها من محفوظه، وقد عرفنا أنه لم يتعلم قواعد اللغة والصرف وغيرهما، وإنما صار يقرأ الشعر يحفظه حتى مرن لسانه على قوله، وتملك أزمة اللغة، وطُبِعَ على الفصاحة، كل هذه الهنات التي ذكرناها مصدرها اعتداده بنفسه، واعتماده على ذاكرته، وعدم دراسته المنظمة؛ ولكنها تفاهةٌ لا تغض من شعره أو تضير منزلته بشيء.

4-

هذا وللبارودي مبالغات سقيمة من مثل قوله:

وما زاد ماء النيل إلّا لأنني

وقفت به أبكي على الأحباب

ص: 236

ويكرر هذا المعنى في قوله:

وكفكفت دمعًا لو أسلت شئونه

على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر

ومن مثل قوله:

إذا تنفست فاضت زفرتي شررًا

كما استنار وراء القدحة اللهب

على أنها تغتفر له، فإنها خيالات شاعر.

منزلته:

يدين الشعر العربي الحديث للبارودي بأنه النموذج الحيّ الذي احتذاه الشعراء من بعده، وساروا على نهجه في أسلوبه وأغراضه، وذلك لأنه أتى -كما رأيت- بشعر جزلٍ رائق الديباجة، عذب النغم، في حقبة ساد فيها شعر الضعف والصنعة وضحالة المعنى وعقم الخيال، ثم إنه مثَّل عصره أتمَّ تمثيلٍ، وكان صدًى لحوادث بيئته، فكان قدوةً لمن جاء على أثره في التجديد.

أضف إلى ذلك أنه علمهم كيف يتجهون إلى الأدب العربي في أزهى عصوره، ويغترفون من ذخائره؛ بحيث لا تفنى شخصياتهم، فيقوى أسلوبهم، وتشرق ديباجتهم، ويبعدون عن الحلى المتكلفة، وبذلك سار الشعر من بعده إلى الأمام، ولم يجرع أبدًا إلى عصور الضعف والركاكة.

وممن تتلمذ على البارودي واقتفى أثره عدد كبير من شعراء العربية، اتخذوه إمامهم غير مدافع؛ كشوقي وحافظ والرافعي وصبري وعبد المطلب والجارم والكاظمي والرصافي وأحمد محرم والكاشف ونسيم والزين وغيرهم، وعلى تباينٍ بينهم في حظِّ كلٍّ منهم من التجديد والتأثر بثقافة الغرب ومذاهبه الأدبية.

وعلى الرغم من قيام مدرسة مجددة نشيطة يتزعمها مطران وشكري والمازني والعقاد وأبو شادي، فلا يزال كثيرون في البلاد العربية بعامة وفي

ص: 237

مصر بخاصة، يحنون إلى ديباجة البارودي وموسيقى مدرسته، مع الأخذ بطرفٍ من التجديد في المعاني والأخيلة والصور.

وحسب البارودي فخرًا أنه أحيا الشعر بعد مواته، على غير مثالٍ سبق من معاصريه.

ونقول مع هيكل: إنه كان مجددًا في كل بيت من أبياته، حتى في معارضاته للقدماء، والنهج على منهجهم.

هذا وقد حاول البارودي التجديد في الأوزان؛ فنظم قصيدةً من تسعة عشر بيتًا على وزن جديد هو مجزوء المتدارك، ولم يسبق للعرب أن نظموا منه، وإنما ورد المتدارك عندهم كاملًا أو مشطورًا، تلك هي القصيدة التي يقول في أولها:

املأ القدح

وعص من نصح

واروغلتي

بابنة الفرح

فالفتى متى

ذاقها انشرح

وقد نظم شوقي من هذا الوزن الذي اخترعه البارودي قصيدته التي مطلعه:

مال واحتجب

وادعي الغضب

ليت هاجري

يشرح السبب

ص: 238