الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر؛ ولهذا لا ينكر منه البديع، على ألّا يكون من الكثرة بحيث يستهلك ذهن القارئ، وبحيث لا يستكره على النظم استكراهًا، ولا تساق الجملة لمجرد اصطياده، بل إن خيره ما جاء عفوًا.
ويقضي التأنق في اللفظ، جودة السبك، وتفتيق المعاني، معرفةً بأسرار اللغة، ووفرة محصولٍ من المفردات، وخبرةً بالكلام الجيد، واستظهار كثير من المنثور والمنظوم، هذا إلى طبيعة مواتية، وحسٍّ مرهفٍ، وذوقٍ، وفطنةٍ إلى مواطن الجمال.
وعلينا بعد أن سقنا إليك أمثلة من أنواع النثر، وعرفناك بخصائصه ومميزاته، أن نطلعك على سير موجزة لأعلام البيان في هذا العصر، وما برز منهم غير هؤلاء الذين ترجمنا لهم آنفًا؛ أمثال: الشدياق وأديب إسحق.
1-
جمال الدين الأفغاني:
وإذا أردت أن تقف على الروح التي تكمن من وراء هذا الأديب الحيّ، والتي بعثت في الشرق الإسلاميِّ كله حيويةً دافقةً، وهزته هزةً عنيفةً أيقظته من نومه الطويل، وعرَّفته كيف يطلب حقه من الأقوياء العتاة، وكيف يدفع عن نفسه جور الظلمة القساة، فاعلم أن الروح تمثلت في السيد جمال الدين الأفغاني: من يدين له الشرق الإسلاميّ بيقظته القومية والفكرية في العصر الحديث.
رجل فرد، استطاع بما أوتي من عزيمةٍ جبارةٍ تنهار أمامها العروش، وتزلزل الممالك، وتتقوض الحصون، وبما أوتي من فكرٍ نيِّرٍ مشرقٍ ملهمٍ، ينقشع أمام ضوئه الوهاج حندس الجهل وغياهب الظلم، وبما أوتي من لسان ذرب طلق، حادٍّ مطواع، يدفعه شعورٌ متقدٌ، وعاطفةٌ متأججةٌ، وإحساسٌ مرهفٌ، وحماسةٌ عارمةٌ، فيلهب بهذا اللسان، وذاك الشعور كل ما ينصت إليه، فيحيل البليد نشيطًا، والجبان جريئًا، والخامل مقدمًا؛ استطاع هذا الرجل وحده بهذه القوة أن يخلق قادةً وزعماء، وأن يكوّن جيلًا من الناس يسيرون بأممهم إلى حيث أمل السيد وصوب، فكان بعمله أقوى من الحكومات القومية الفتية.
وهكذا يأبى الله إلّا أن يضرب للناس أمثلةً على بالغ قدرته، وعظيم إعجازه في كل جيل، وقد مَرَّ بك ما قاله الشيخ محمد عبده عن حالة مصر قبل أن يهبط واديها جمال الدين، وكيف أن بعثات محمد علي وإصلاحاته ونشاط إسماعيل وتقديراته، واطلاع بعض شباب مصر وشيوخها على حضارات الأمم الأوربية وغيرها لم يؤت ثمره، ولم يبعث في الأمة هذه الروح المتوثبة، ولم يحرك خامد العزائم، وينصب المثل العليا أمام الشعوب تهدف إليها في سيرها، وتحث الخطى نحوها، وإنما وجد ذلك كله على يد جمال الدين، فأي رجل كان هو؟
شعلة متقدة من الذكاء، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة، شديد الرغبة في الإصلاح، وإنهاض الأمم الإسلامية، وتحطيم الأغلال والقيود التي جعلتها في مسغبةٍ ومذلةٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ، كان ثورةً عنيفةً على الظلم، والطغيان والجبروت؛ قابله السلطان عبد الحميد الطاغية في "يلدز" فطلب منه أن يكف عن هجماته على شاه العجم، فال السيد:"إني لأجلك قد عفوت عنه"، فيرتاع السلطان لهذه الكلمة الجريئة، عفا "السيد" عن الشاه ذي الحول والسلطان، أجل؟ فالسيد أقوى منه بأسًا، وأعظم قدرًا، وأقدر على النكاية، إنه حربٌ شعواء تطوح بالتيجان، تدك العروش.
ويجلس جمال الدين بحضرة عبد الحميد، وهو يداعب مسبحته غير حافلٍ بمن تعودت الأبصار أن تخشع في مجلسه، وتطأطئ الرءوس فرقًا ورعبًا منه، ونبهه إلى هذا كبيرٌ من رجال الحاشية بعد مغادرة عبد الحميد للمجلس، فقال له:"إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء؟ " فيرتاع الرجل، ويهرب من سماعه هذه الكلمة التي لا يجرؤ أي إنسان أن يرفع بمثلها، أو بما هو أقل منها صوتًا في البلاد الإسلامية.
وُلِدَ السيد جمال الدين في قرية "أسعد أباد" من قرى "كندر"1 ببلاد الأفغان، سنة 12454هـ-1839م، من أسرةٍ شريفةٍ تنتسب إلى الإمام الترمذي المحدث المشهور، وترتقي إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وانتقل به والده إلى "كابل" وهناك تلقى تعليمه، فدرس مبادئ العلوم العربية والتاريخ، وعلوم الشريعة، والعلوم العقلية؛ من منطق، وحكمة عقلية سياسية، وفلسفة، وكذلك العلوم الرياضية؛ من حساب، وجبر، وهندسة، وفلك، ودرس نظريات الطب والتشريح، ثم سافر إلى الهند، وهو في الثامنة عشرة من عمره، واطَّلَع على علوم الرياضة في الطرق الحديثة، وقَدِمَ الحجاز للحج، وقضى في رحلته إلى مكة سنة، فأفادته الرحلة خبرةً بالشعوب الإسلامية، وأحوالها الاجتماعية، ثم رجع إلى بلاده، واشترك في مؤامرة سياسيةٍ مكنت بعض الأمراء من التغلب على عرش الأفغان، فعظمت مكانته لدى هذا الأمير، ولكن عصفت الأحداث بأميره هذا، وحاول خلفه الانتقام من السيد جمال الدين، ففطن لمكايده، وغادر بلاده إلى الهند فمصر، ومكث بمصر أربعين يومًا، ومن ثَمَّ يمم نحو الآستانة، فذاع صيته بها، وعلت مكانته، حتى انتخب بعد مدة وجيزة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، ولكن آراءه الإصلاحية الجريئة، وأفكاره الحرة التي لم يألفها الناس في عصره، بعثت في نفوس رجال عبد الحميد الهلع، وتألب عليه كثير من علية القوم، ولا سيما شيخ الإسلام، فجاءه الأمر بمغادرة البلاد خشية أن يشعل في عرش عبد الحميد الحريق.
فقدم السيد جمال الدين مصر، ودخلها في مارس سنة 1871، ومكث بها ثماني سنوات، كانت خير السنين بركةً على مصر وعلى الشرق العربي والإسلامي، فقد حاول جمال الدين من قبل أن يغرس تعاليمه، وينفخ في الشعوب الشرقية من روحه؛ ولكن وجد أرضًا مجدبة، وشعوبًا ميتة لم تسمع لندائه، وما أن نزل مصر حتى فتحت له ذارعيها، وحببت له الإقامة به، والتف حوله لفيف من
1 هكذا روى جمال الدين عن ولادته، أما الفرس: فيدَّعون أنه وُلِدَ بالقرب من حمدان بإيران، ويرجع تفضيله الانتسباب إلى الأفغان، كما يقول الأستاذ بروان "الثورة الفارسية ص 402. هامش" إلى أن جمال الدين كان سنيًّا عربيًّا، وأنه أراد الهروب من الجنسية الفارسية الشيعية التي كان يشك في قيمتها.
أبنائها، من كل تواق للحرية، محب للعلم، حريص على نفع وطنه وإنهاض قومه، وتجاوبت روحهم وروحه، ووجدوا فيه المعلم الفَذّ، والمفكر الجريء، وصاحب العقل المستقيم، ووجد فيهم بررة، وعقولًا خصبة، ونفوسًا تتحرق شوقًا للحرية والعدل.
كانت هذه السنوات الثمان مليئةً بالأحداث، فقد غرقت مصر في ديونها التي اقترضها إسماعيل، وبدت مطامع إنجلترا وفرنسا جليّة، فأنشىء صندوق الدَّيْنِ، وفرضت الرقابة الثنائية، واستحالت هذه الرقابة إلى مشاركةٍ في الحكم، إذ دخل وزارة نوبار باشا وزيران أوربيان؛ أحدهما فرنسيّ، والآخر إنجليزيّ، يشرف الفرنسيّ على وزارة الأشغال، ويشرف الإنجليزي على وزارة المال1، وأيُّ احتلال أبشع من هذا؟ إن الذي يصرف المال قوَّام على شئون الدول، ومن يتولى الأشغال مهيمن على تقدم الأمة، فكان عجبًا ألا ينغمس السيد جمال الدين في السياسة من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، وهو الذي حاول من قبل أن يثل عرشًا، وينصب ملكًا، ويصلح من شئون عبد الحميد المستبد الطاغية.
جاء جمال الدين مصر وهذه ظروفها، ووجد من إسماعيل صدرًا رحبًا؛ لأنه رأى فيه العالم المشهور بفلسفته وعلمه، فوجوده بمصر ربحٌ لا يقدر، وهو في نظره أجل وأنفع من بعض المعاهد العلمية التي أنشأها؛ لأنه معهدٌ حيٌّ حنَّكَتُه التجارب، وأنضجته الحوادث، ولم يكن السيد قد عُرِفَ بآرائه السياسية المتطرفة، بل غلبت عليه الصبغة العلمية، ولم يكن إسماعيل يخشى على حكمه أحدًا، وهو الحاكم الذي لا يرجع في حكم، والذي يتصرف في أقدار البلاد دون رقيب أو حسيب، وكان مجلس الشوى آلةً مطواعةً في يده، لا يجهر باعتراضٍ، أو يجرؤ على مخالفة، ثم إن إسماعيل كان يتحدَّى الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ويتوق جهده إلى الاستقلال بأمر مصر، وقد رأى أن الآستانة قد ضاقت رحابها بالسيد جمال الدين، وخافت من آرائه وتعاليمه، فلتبرهن مصر على أنها أقوى من تركيا وأكرم نفسًا، وأقدر على هضم آراء جمال الدين من أي بلد في الشرق، ولم يكتف إسماعيل بهذا الترحاب، بل أجرى على السيد راتبًا شهريًّا زيادةً في إكرامه.
1 عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي ج2 ص90.
وأخذ هذا العقل المنظم الجبار يشع النور في كل مكان يحله صاحبه، فدروس منظمة يلقيها في بيته على صفوة مختارة من حوارييه، أمثال: محمد عبده، وعبد الكريم سليمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي، وكانوا جميعًا طلبةً بالأزهر حينذاك، وكانت هذه الدروس: منطقًا وفلسفةً وتصوفًا وهيئةً، مثل كتاب "الزوراء" في التصوف، و"شرح القطب على الشمسية" في المنطق، و"الهداية" و"الإشارات" و"حكمة العين"، و"حكمة الإشراق" في الفلسفة، و"تذكرة الطوسي" في علم الهيئة القديمة، وهي كتب تمثل علمًا قديمًا دوَّنَها أربابها في العصور الأولى للدولة العربية، ولكن الروح التي درس بها جمال الدين هذه الكتب، والطريقة التي عرض بها هذه المباحث، والتعليقات التي كان يفيض بها عقب كل مقالة أو بحث، والاستطرادات التي تدعو إليها مقتضيات العصر وظروفه، هي التي حبَّبَت هذه الدورس وتلك الكتب لهؤلاء التلاميذ الأذكياء، وجعلت من دروس جمال الدين نبعًا صافيًا يغترف منه الطلبة علمًا وفلسفةً، ووطنيةً واجتماعيةً وحججًا قويةً لرد المارقين عن جادَّة الدين، ووجدوا فيه شخصية لا تترد في إصدار الأحكام العامة على القضايا المعروضة.
وبجانب هذه الدورس المنظمة، كان للسيد مجلس آخر بأحد المقاهي القريبة من حديقة الأزبكية، حيث يلتف حوله أنماط شتَّى من الراغبين في التزود من علمه وفكره، ويجلسون إليه، ويطرحون عليه أسئلة في مختلف الموضوعات، وهو يجيب إجابات العالم المحقق "لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشئون العامة، مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستقيظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطرافٍ متعددةٍ من البلاد، خصوصًا في القاهرة1".
1 من ترجمة الإمام الشيخ محمد عبده، له.
وفي هذه الحلقة أنشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب، ولكنها كانت روحًا مشعةً تبدد دياجير الغفلة، وتحيي العزائم الميتة، وتلهب الإرادات الخامدة، وتفتح الأذهان المغلقة، وفيها تخرج محمود سامي البارودي، وعبد السلام مويلحي، وأخوه إبراهيم المويلحي، ومحمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحق، وغيرهم، وفي هذه المدرسة العامة استعرضت حال الأمة الاجتماعية والسياسية، وحقوقها وواجباتها، وأدواؤها ودواؤها، وانتقدت الحكام، وبثت التعاليم، وفشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم في شئون البلاد، مما كان له أبلغ الأثر فيما بعد.
كان جمال الدين يقضي بياض نهاره في بيته يختلف إليه أخصاء تلاميذه، وما أن يقبل الليل حتى يخرج متوكئًا على عصاه إلى هذا المقهى، فيجد في انتظاره الطبيب والمهندس والأديب والشاعر والمعلم والكيماوي وغيرهم، ويظل يحدثهم بشغف وقوة حتى يمضي جزء من الليل.
ولم يكتف جمال الدين بهذه المدرسة العامة، ولا بالدورس الخاصة، بل حاول أن يسيطر على الحياة السياسية، فانضم إلى جماعة "الماسون" وبها الطبقة الممتازة من أبناء الأمة؛ لعله يسيتطيع أن يريهم النور، ويبصرهم حقيقة ما هم فيه، وما عليه بلادهم، وكيف يتسطيعون نفعها بمالهم وجاههم؛ ولكن وجد المحفل الماسوني يأبى أن يقتحم ميدان السياسية، ويتعرض للمسائل العامة، والقضايا الهامة، فثارت ثائرته، وأخذ ينقد اعضاءه نقدًا لاذعًا، ويتهكم بهذه الكلمات الجوفاء التي اتخذوها لهم شعارًا مثل:"الحرية والمساواة ومنفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق" فكيف تتحقق معاني هذه الكلمات إذا لم يشغل المحفل "الماسوني" بالسياسة، ولما أخفق في بعث هذه النار في نفوسهم الميتة استقال، وكوَّن محفلًا آخر للشرق الفرنسيّ، وأخذ الأعضاء يزيدون حتى بلغ عدد ثلاثمائة عضو من نخبة الفكرين، ونظمهم شعبًا مختلفة: فشعبة للعدل، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجيش، وهكذا، حتى تدرس أحوال البلاد جميعها، وتعرف وجوه النقص، وما يتطلبه الإصلاح من أعمال.
وبذلك أراد جمال الدين أن يسيطر على عقول العلماء في بيته، على أفئدة المتعلمة غنيها وفقيرها بآرائه وتعاليمه، ويدفعها في الطريق التي رسمها.
أثره بمصر:
1-
أراد في درسه النظاميّ أن يعوّدَ الطلبة حرية البحث، ويطلعهم على آفاقٍ جديدةٍ من التفكير وفهم العالم، وأن يُوجِدَ شخصياتٍ تبحث وتنقد وتحكم، وألَّا تقف عند حدّ هذا النص بعد ذلك، فإذا هو واضح كل الوضوح، وعلى العكس من ذلك كانت طريقة الشيخ محمد عبده، إذ كان يقرأ النص أولًا، ثم يعلق عليه بعد ذلك.
2-
وأراد في مدرسته العامة أن يعلِّمَ الشعب كيف يسترد حرتيه المفقودة وكرامته المهدرة، وكيف يحاسب حكامه حسابًا عسيرًا على تصرافاتهم، وكيف يتنبه إلى دسائس المستعمرين الجشعين ونواياهم، وكيف يعيش هذا الشعب عيشةً تليق بالأناسي.
3-
وأراد في ميدان السياسة أن يغيِّرَ هذا الحكم المطلق الذي يستبد فيه الحاكم بأمته ويستهين بشعبه، ويتصرف في أموالهم وأرواحهم تصرُّفَ السيد في حر ماله وعبده، وأراد أن يشترك الشعب في حكم نفسه بنفسه، وأن ينوب عنه ممثلون نيابيون يَرْعَوْنَ مصالحه، ويسهرون على إسعاده.
وقد كان له في السياسة كذلك مقصدٌ أسمى من هذا، وعنه عَبَّرَ الشيخ محمد عبده بقوله:"إنه كان يسعى لإنهاض إحدى الدول الإسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام بشئونها، حتى تلحق بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيف مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنجليز شئون يطول بيانها1".
1 تاريخ الأستاذ الإمام، ج1 ص34.
4-
وقد استعان على تحقيق هذه الأهداف -وإن لم تتحقق كلها، ولا سيما السياسية منها- بتكوين جماعةٍ من الكهول والشبان حبب إليهم الكتابة، ورسم لهم خطتها، وأوحى لهم بالمعاني الجديدة التي يكتبون فيها، وشجعهم على إنشاء الجرائد، ويكتب فيها بنفسه، ويطلب إلى من يتوسم فيه المقدرة والمنفعة أن يكتب فيها، ومن مقالاته في جرائد أديب إسحاق، ما كان يوقعه باسم "مظهر بن وضاح".
وطلب إلى الشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني وغيرهما أن يشتركا في تحرير جريدة "التجارة" التي أنشأها أديب إسحق، وفي هذه الجريدة كتب السيد جمال الدين مقالين؛ أحدهما:"الحكومات الشرقية وأنواعها"، والثاني بعنوان:"روح البيان في الإنجليز والأفغان"، وكان لهذين المقالين صدًى بعيد، ولكن جريدتي أديب إسحق "مصر والتجارة" ضايقتا رياض باشا بروحهما الجديدة وأسلوبهما الملتهب، وأفكارهما الجريئة، فأغقلهما كما مر بنا1.
وقد تدخل كذلك في تحرير "الوقائع المصرية"، وطلب إلى الكُتَّاب أن يدبجوا مقالاتهم في موضوعات معينة تمس حياة الأمة في صميمها، فيقول الشيخ محمد عبده:"إن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، ولا يرده عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته إلّا نصح الأمة له بالقول والفعل".
وتراه يحرض الصفحيّ اليهوديّ "يعقوب بن صنوع" على إصدار جريدته التهكمية "أبي نضارة" ويشجعه على الاستمرار في النقد الذي يلدغ به إسماعيل.
وقد كان لهذه المقالات أثران؛ أحدهما: تنبيه الأذهان إلى المسائل الحيوية، وتعويد الناس الجرأة على الحكام، ومطالبتهم بالنصفة والعدل، وتبيان مكايد الأجانب وجشعهم، وثانيهما: تكوين جيل من الكُتَّابِ متمكن من اللغة، قدير على الإسهاب وشرح المعضلات، من غير لجوءٍ إلى المحسنات والزخارف، وخبير بتفتيق المعاني وتوليد الأفكار، متحرر من السخافات والجمود، ومتبعًا في ذلك سنن أستاذه جمال الدين الذي يقول عنه الشيخ محمد عبده: "له سلطة على دقائق
1 راجع ص92 من هذا الكتاب.
المعاني وتحديدها وإبرازها في الصورة اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها، كل مضوع يُلْقَى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صُنْعُ يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع".
ويقول في موضع آخر: "كان أرباب العلم في الديار المصرية، القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف إلّا عبد الله باشا فكري، وخيري باشا، محمد باشا سيد أحمد -على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي، على تخصص فيه، ومن عدا هؤلاء، فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شكالها، ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري، لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة، وما منهم إلّا أخذ عنه، أو عن أحد تلاميذه، أو قَلَّدَ المتصلين به".
وقد مر بك ما تميز به أسلوب هذا النثر في موضوعات الثلاثة: الاجتماع، والأدب، والسياسة.
جمال الدين والثورة:
لم يكن جمال الدين على وفاقٍ مع إسماعيل في أخريات أيامه، بل كان ناقمًا عليه لاستبداده وإسرافه، وتمكينه بسياسته للأجانب في البلاد، وكان يتوهم الخير في توفيق؛ إذ كان يجتمع به وهو وليٌّ للعهد، ويرى ميله للأخذ بنظام الشورى، ونقده لسياسة أبيه وإسرافه، وقد اجتمعا في محفل الماسونية، وتعاهدا على إقامة النظام النيابي.
يد أن توفيقًا لم يف بعهدٍ بعد أن تولى الحكم، وسرعان ما تنكر لمبادئه ولأصدقائه، فلم يدخل نظام الشورى، ولم يحسن معاملة السيد جمال الدين الأفغاني، بل استمع لأقوال الوشاة من الإنجليز وسواهم؛ إذ حرضوه على إخراجه من مصر1 فاستجاب لهم، ولم يكن كريمًا في معاملة هذا العبقريّ الشريف، بل استعمل معه غاية الغلظة والقسوة والجفاف، فسيق إلى دار الشرطة بليلٍ بعد انصرافه من مقهاه بغير غطاء أو فراش، وبات ليلته كما يبيت اللص الأفَّاق على أرض المخفر، ثم هرب إلى السيوس حيث رحلت به سفينة إلى الهند، وهكذا حرمت مصر مصدر خير كبير لها، وجازت هذا النابغة على فضله جحودًا وجفوة.
ومن العجيب أن يضم مجلس الوزارء الذي أصدر أمره بنفيه بحجة أنه "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعةً على فساد الدين والدنيا" اثنين أعجب بهما وتوسم فيهما الخير: توفيق باشا، والبارودي، وكان ألمه بالغًا غايته للنكسة التي أصابت البارودي، وقد كان يؤمِّلُ فيه كل خير، ويعده ليومٍ عصيبٍ في تاريخ مصر، وقد ظلت هذه الآلام تَحِزُّ في نفسه حتى آخريات حياته، فقد زاره الأمير شكيب أرسلان وهو بالآستانة، ويدور الحديث حول ما روى من أن العرب عبروا المحيط الأطلسي قديمًا، وكشفوا أمريكا بدليل الأهرام الموجودة ببلاد المكسيك، فيقول السيد:"إن المسلمين أصبحوا كلما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه: إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعشاوا في خيال ما فعل آباءهم، غير مفكرين بأن مكان عليه أباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من خمولٍ وضعةٍ، إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان أباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالًا، ولكنكم أنتم أولاد كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلّا أن تفعلوا فعلهم؛ إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم، وهذا محمود سامي الباودي عاهدني ثم نكث معي، وهو أفضل من عرفت من المسلمين".
1 المنار ج8 ص 404 وانظر كذلك The persian: F.G. Browne p.8 وتاريخ الإمام ج1 ص70.
والحق أن موقف البارودي من السيد جمال الدين لا يمكن الدفاع عنه، وإذا كانت مصر قد حرمت شخص جمال الدين، فقد ظلَّت تعاليمه وروحه الثورية مشتعلة، قد انتقل منها قبس إلى كل من اتصل به، يتطلعون إلى نظامٍ جديدٍ في الحكم، حتى قامت الثورة العرابية، وكثير من أقطابها مدينون بأفكارهم وحماستهم للسيد جمال الدين.
أقام السيد جمال الدين بحيدر أباد بعد أن خرج من مصر، وهناك ألَّفَ كتابه في الرد على الدهريين، وفيه يثبت أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران، ويبطل فيه مذهب "داروين" في النشوء والارتقاء؛ لأن هذا المذهب قد أثار موجةً من الإلحاد والزندقة كادت تودي بالحياة الروحية بالشرق، وهي كل ما بقي له من تراث السلف، بعد أن نال منه الدهر غايته، وبَيَّنَ في هذه الرسالة كذلك، أن الدين أكسب عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال؛ كلٌّ منها ركن لوجود الأمم، أما العقائد: فالأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضيّ وأنه أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلالٍ وباطلٍ، والثالثة: يقينه بأن الإنسان جاء إلى الدنيا كي يكْمُلَ كمالًا يهيئه للعروج إلى عالمٍ أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، وأما الخصال الثلاث: فهي الحياء والأمانة والصدق.
ويبين أن الإسلام يتميز على غيره من الأديان بمزايا عديدة؛ منها: صقل العقول بالتوحيد، وتطهيرها من لوثة الأوهام، ومخاطبة العقول حتى تؤمن، فلا يقبل الاعتقاد بدون دليل، وحرصه على تعليم الأمة ذكورًا وإناثًا.
ولما أخفقت الثورة العرابية، ودخل الإنجليز مصر، أبيح له أن يذهب أنَّى شاء في غير بلاد الشرق فاختار أوربا، وزار لندن، ثم انتقل إلى باريس، ووافاه إليها تلميذه الأكبر محمد عبده، وكان منفيًّا ببيروت، وهناك أصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى".
جريدة العروة الوثقى:
وهي دليلٌ أخر على أن عزيمة السيد لا تفتر، وعلى أن اليأس لم يبلغ في نفسه مبلغًا يثنيه عن أداء رسالته، وقد كان من رأي الشيخ محمد عبده أن هذا الجيل من المسلمين، الذين يدعونه للرشاد واليقظة جيلٌ فاسدٌ ولا رجاء فيه، وأن الأولى أن تنشأ مدرسة يُربَّى بها عددٌ محدودٌ من خيار الشباب يقودون الأمة فيما بعد لما فيه خيرها ونفعها، ولكن هذه الفكرة لم ترق للسيد، ورأى فيها تثبيطًا للهمم، وكأني به يتعجل قطف الثمرة لههذه الغراس التي أودعها المتصلين به، وأصَرَّ على أن يوجِّه الدعوة إلى الجيل الحاضر من الناس في صورة جريدة "العروة الوثقى"، يكون له فيها الفكر المدبِّر والعقل المسيطر، وللشيخ محمد عبده القلم المحرر واللسان المعبر، ولميرزا محمد باقر الترجمة من الصحف الأوربية، ونقل كل ما يهم إلى الشرق والإسلام1، وصدر من الجريدة ثمانية عشر عددًا، وكان شعلةً ملتهبةً متوجهةً من الحماسة والآراء الحرة الجريئة، وكانت حربًا شنَّهَا جمال الدين وزميلاه على الاستعمار الجشع، وكان طبيعيًّا أن يحاربها الاستعمار خشية أن تفسد عليه تفرده بالغنيمة، وقتله الشعوب التي وقعت في قبضته، فمنعها من دخول الهند ومصر2.
ولما شعر السيد وزميلاه أن الأعداد لا تصل إلى أصحابها إلّا في النادر، وأنه قد حيل بينهم وبين وصول صوتهم إلى آذان الناس في مصر والشرق عطلوها، وإن لم يمت أثرها حتى اليوم.
عود إلى الرحلة:
لما عطلت الجريدة، وانفرط عقد هذه الجماعة الصغيرة المجاهدة، ورجع الشيخ محمد عبده وميزرا باقر إلى بيروت، وطلب شاه العجم السيد جمال الدين فلَبَّى دعوته علَّه يجد ميدانًا صالحًا للجهاد، وأرضًا خصبةً لغرس تعاليمه، ومَلِكًا شهمًا مستنيرًا ينفذ آراءه، فيكون هو الأمل المنشود، ولكن هيهات وملوك ذاك الزمان ما ألفوا أن يشاركهم في سلطانهم أن جاههم أحدٌ، ولذلك سئم الشاه "نصر الدين" صحبة السيد، ودبت في نفسه الغيرة منه، ولما أحسَّ جمال الدين أنه أخذ
1 تاريخ الإسلام ج2 ص229، والمنارج8 ص255.
2 المنار ج8 ص 462، مشاهير ج2 ص57.
يتنكر له، استأذن في الرحيل، ويَمَّمَ صوب روسيا، حيث قضى بها ثلاث سنوات، يحرك روسيا ضد إنجلترا، ويشن هجمات متتالية شديدة على شاه الفرس كي يقر النظام الشوري، ولما سأله القيصر عن سبب عدواته للشاه، أجاب بأنه نظام الشورى الذي لا يرضيه، والذي لا أنفك أدعو إليه ما حييت، فقال القيصر: إن الشاه على حق، فكيف يرضى مَلِكٌ أن يتحكم فيه فلاحو مملكته، فقال السيد: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خيرٌ للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه من أن يكونوا أعداءه يترقبون له الفرص، فلم يعجب القيصر هذا الحديث، وكان من الطبيعيّ ألَّا يعجبه وهو المستبد الذي لا ينازعه سلطته منازع، ولذلك عمل على إبعاده من روسيا1.
ومن ثَمَّ توجه السيد إلى باريس، وفي طريقه إليها تقابل مع الشاه مرةً ثانيةً واعتذر للسيد عما حدث، ووعده أن يمهد له طريق الإصلاح إن هو عاد معه، وتمنَّع السيد جمال الدين، ولكن رغبته في الإصلاح وحرصه عليه جعلته يقبل الرجوع إلى طهران، وفيها أخذ يُعِدُّ العدة للإصلاح وإقامة العدل، هو ومن التفَّ حوله من العلماء والعظماء، والشاه يظهر استعداده لتقبل هذا الإصلاح، ولكن الصدر الأعظم في تركيا خشي إن تمكن نظام الشورى في فارس أن تسري عدواه، فوسوس للشاه، ونفَّرَه من هذا الإصلاح بدعوى أن ذلك يحد من سلطانه، ويتركه إمعةً لا رأي له في بلده، فتجهم للسيد جمال الدين، ولكن هذا لجأ إلى ضريح وليٍّ في بلاده "شاه عبد العظيم" وهو حرمٌ من دخله كان آمنًا، ووافاه جم غفير من العلماء والزعماء ولقنهم دعوته، وملأ قلوبهم إحنًا وبغضًا للشاه ونظامه، فاغتاظ هذا، وأرسل جنده إليه، واقتحموا عليه الضريح غير مبالين بحرمته، ولا بمرض السيد، وفي ذلٍّ يقول: "سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوانٍ وصغار وفضيحةٍ لا يمكن أن يتصور دونها في الشناعة
…
ثم حملتني زبانية الشاه وأنا مريض -على برذون، مسلسلًا، في فصل الشتاء، وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية، وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين" ومنها سافر إلى البصرة، وهو في أشد حالات المرض، وكاد يقضى عليه لولا رحمة الله به2.
1 The Persian Revolution، p.LL.70.
2 Persian Revolution.p11. وتاريخ الإمام ج1 ص55.
ولكن هذا المكافح أبى أن يتقبل هذه الإهانة، وأقسم ألّا يكفَّ عن الشاه حتى يسقطه عن عرشه، وقد بَرَّ بقسمه، وذلك بتحريضه العلماء والزعماء، وتعديده مساوئ الشاه وتجسيمه أخطاءه، ولا سيما تعاقده مع شركة إنجليزية للدخان، واضطر الشاه إلى فسخ العقد، ودفع تعويض مالي كبير، فكان ذلك أول خطورة في الانتقام.
وأخيرًا ذهب السيد إلى لندن، وأصدر مجلةً شهريةً سماها:"ضياء الخافقين" بالعربية والإنجليزية، وكان يكتب بها مقالاتٍ بإمضاء "السيد الحسيني".
خاتمة المطاف:
ثم رأى السلطان عبد الحميد أن يدعو إليه جمال الدين خشية أن ينضم إلى حزب تركيا الفتاة فيزيد قوته، وأرسل عبد الحميد رجاله يغرون السيد بالسفر إلى الآستانة، ويمنونه الأمانيّ الحلوة حتى استجاب لدعواه، فكان بها كأنه في قفص من ذهب، ويحصون عليه حركاته وأقواله، وإن لقي من السلطان حظوةً عالية. بيد أن الحاشية ولا سيما أبو الهدى الصيادي، ذلك الداهية المحتال الذي أتقن فن الدس والمؤمرات، وتمكَّن من قلب السلطان حتى أصبح قوَّةً غلابةً، وقد أفسدوا السلطان عليه، وما لبث عبد الحميد أن اصطدم بآراء السيد وجرأته، ولم يدع السيد فرصةً إلّا حرَّضه فيها على الإصلاح، وإقصاء الخونة والجبناء عن حاشيته، ولكن لم يستجب لشيءٍ من هذا.
ولما قُتِلَ شاه العجم سنة 1896 على يد أحد تلاميذ السيد، اشتدت الريبة في جمال الدين، وضُيِّقَ عليه حتى صار محبوسًا في قصره، ولما أراد الرحيل ترضَّاه السلطان خشيةَ أن يشنها عليه حربًا شعواء في الخارج، وهو تحت سمعه وبصره أهون، ثم مرض السيد بالسرطان في فمه ومات، وشاعت الأقوال بأنه مات مسمومًا، أو أن الطبيب أهمل في علاجه عمدًا1، وكانت وفاته في 9مارس سنة 1898، ودفن في قبرٍ حقيرٍ كما يدفن أقل الناس، وطُمِسَت معالم هذا القبر إلى أن قَيَّضَ الله رجلًا أمريكيًّا يبحث عنه، حتى وجده فجدده، وبنى عليه حاجزًا حديديًّا، وشاده بالرخام، وكتب على أحد وجوه
1 راجع حاضر العالم الإسلامي، ج1 ص204.
الرخام اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته، وفي وجه آخر العبارة الآتية:"أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم، الخيِّر الأمريكانيّ، المستر "شارلس كرين" سنة 1926" وهكذا خمدت هذه الشعلة المتوهجة، وإن ظلت آثارها حتى اليوم في نفوس من خالطوه وأخذوا عنه، وفي نفوس تلاميذه وأتباعهم والأجيال التي تأثرت بهم.
نبذة من آرائه:
1-
مر بك في ثنايا هذه الترجمة الموجزة شيءٌ من آراء السيد جمال الدين، وهناك بعضٌ من أفكاره وتعاليمه ونظراته إلى الحياة جديرةٌ بالنظر، فقد كان في أول حياته طموحًا، ذا خيال واسع، وأمل عريض، شمل الإنسانية جمعاء، حتى دعاه ذلك التفكير في السبب الذي يدعو الناس إلى الاختلاف والخصام، ويدعو الدول إلى الحروب والعداء، وهداه تفكيره إلى أن السبب الأول: هو تعصب رجال الدين في كل ملة، وسوء توجيههم للشعوب، وشحن قلوبهم بالحقد والبغضاء لكل مَنْ خالف دينهم، وفي هذا يقول:"ورجعت إلى أهل الأرض وبحثت في أهم ما فيه يختلفون فوجدته الدين، فأخذت الأديان الثلاثة، وبحثت فيها بحثًا مجردًا عن كل تقليدٍ، منصرفًا عن كل تقيد، مطلقًَا للعقل سراحه" ووجد أن الأديان الثلاثة تتفق في الغاية والمبدأ وأنه "إذا نقص في الواحد شيء من أوامر الخير المطلق استكمله الثاني، وإذا تقادم العهد على الخلق، وتمادوا في الطغيان، وساءت الكهان فهم الناموس، أو أنقصوا من جوهره أتاهم رسول فأكمل لهم ما أنقصوه، وأتم بذاته ما أهملوه" وإذا كانت الأديان متفقةً في المبدأ والغاية، فما الذي يحول بين أهل هذه الأديان وبين الاتحاد؟ إن اتفاقهم ووحدتهم تكفل لهم السعادة للبشرية، وبعد ذلك يقول:"وأخذت أضع لنظريتي هذه خططًا وأخط أسطرًا، وأحبِّرُ رسائل للدعوة، كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب، ولا تعمقت في أسباب اختلاف حتى أهل الدين الواحد، وتفرقهم فرقًا وشيعًا وطوائف".
1 أحمد أمين بمجلة الثقافة العدد 288.
ولكن سرعان ما أدرك أن دون هذا الاتحاد أهوالًا وأهوالًا، ولقد نسي قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وأن من يتعرض لهذه الدعوة يُرْمَى بالكفر والإلحاد، والخروج عن جادة الدين، وقد رُمِيَ بذلك فعلًا، ولهذا باء بالإخفاق:"انقلبت أفراحي بالخيال أتراحًا، ورجعت عن نظريتي والفشل ملء إهابي وجبتي"1.
وتطامن من أهدافه، ووجد أن الشرق المسكين أولى بالرعاية والعناية، وأن إصلاح العالم كله محال، ولذلك عكف على جهاده في سبيل هذا الشرق، وكان متألمًا لبعض الخلافات الدينية بين أبناء الملة الواحدة؛ كالسنة والشيعة.
2-
كان يرى أن لا موجب لسد باب الاجتهاد في الدين، وعلى المسلمين إذا أرادوا التقدم أن يستعملوا عقولهم، ويتسنبطوا كما اسنبط أسلافهم أحكامًا تتمشى مع زمنهم وبيئاتهم، ويقول: مامعنى أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأيِّ نصٍّ سُدَّ؟ ومن قال: لا يصح لمن بعدي أن يجتهد لبيتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه؟ إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا، ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواه القرآن ليس إلّا فطرةً، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده2".
وإذا تأملت أهداف جريدة "العروة الوثقى" التي ذكرها في المقال الافتتاحيّ، أدركت إلى حدٍّ ما بعض آراء جمال الدين في إصلاح الشرق، وقد عرفت أن جمال الدين كانت له الفكرة التي يعبر عنها محمد عبده في الحرية، وهاك بعض هذه الأهداف والآراء:
أ- بيان الواجبات على الشرقيين التي كان التفريط فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات، ويستتبع ذلك بيان أصول الأسباب ومناشئ العلل التي أفسدت حالهم، وعمت عليهم طريقهم، وإزاحة الغطاء عن الأوهام التي حلت بهم.
1 قدري طوقان، جمال الدين: أراؤه وأثره في نهضة الشرق، ص20.
2 خاطرات: محمد باشا المخزومي.
ب- إشراب النفوس عقدية الأمل في النجاح، وإزالة ما حلَّ بها من اليأس.
ج- دعوتهم إلى التمسك بالأصول التي كان عليها أسلافهم، وهي ما تمسكت به الدول الأجنبية العزيزة الجانب.
ج- الدفاع عما يُرْمَى به الشرقيون عمومًا والمسلمون خصوصًا من التهم، وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون في المدنية ما داموا متمسكين بأصول دينهم.
هـ- تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية، وتمكين الألفة بين أفرادها، وتأمين المنافع المشتركة بينها، ومناصرة السياسة الخارجية التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
وكان جمال الدين يعتز بشرقيته وبلغته، ويشمئز من هؤلاء الذي يتنكرون لقوميتهم ولغتهم؛ فإن هذا التنكر يساعد المستعمر، بل هو أثر من آثار تعاليمه يرمي بها إلى الحطِّ من شأن كل ما هو شرقيّ، ولإضعاف لغة القوم، والتدرج بقتل التعليم القوميّ، وتنشيط القائلين من الشرقيين بأن ليس في لسانهم العربيّ أو الفارسيّ أوالأرديّ أو الهنديّ آداب تؤثر، ولا في تاريخهم مجد يذكر": لقد بلغ ببعضهم السفه "أن ينفروا من سماع لغتهم، وأن يتتباهوا بأنهم لا يحسنون التعبير بها، وأن ما تعلموه من الرطانة الأعجمية هي منتهى ما يمكن الوصول إليه من المدركات البشرية".
وقد عرفت فيما سبق كفاحه في سبيل حرية الشعوب، ومطالبته بنظام الشورى، ووقوفه أمام الحكام المستبدين كالجبل الأشمِّ في جرأةٍ وعزة نفسٍ، واستنهاضه الهمم، كي تقوى دولةٌ إسلاميةٌ تكون النواة التي يلتف غيرها حولها، وبذلك يعاد مجد الإسلام قويًّا أمام مطامع الغرب وعسفه.
ولقد كان جمال الدين عالمًا ومفكرًا وفيلسوفًا ومصلحًا اجتماعيًّا، أشرب قلبه حب بلاده ودينه، وأرسله الله في هذه الحقبة من التاريخ ليبدد دياجير الجهل ويبعث الحمية في النفوس.
ولقد أرغم خصومه على احترامه بصراحته وجرأته، ولقد رأيت كيف ضاقوا به ذرعًا في كل مكان؛ لأنه كان حربًا على الجهل والظلم والقسوة والطغيان، ولقد أقرَّ له الغربيون بالفضل، حتى لقد قال عنه "رينان" وهو من هو في كراهته للمسلمين:"ولقد يخيل إليَّ من حرية فكر الأفغاني ونبالة شيمه وصراحته -وأنا أتحدث إليه- أني أرى أحد معارفي من القدماء وجهًا لوجه، وأني أشهد ابن سينا وابن رشد، أو واحدًا من العظام الذين ظلوا قرونًا عدة يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار".
أسلوبه في الكتابة:
لم يكن جمال الدين مفطورًا على اللغة العربية مطبوعًا على أساليبها الفصيحة؛ لأنها ليست لغته الأولى، وإنما تعلمها تعلمًا، ولم يكن حظه من آدابها كثيرًا، ولم يتذوق منازع بلاغتها بقدر كبير، ولكنه أفادها فائدةً جليلةً بإرشاد تلاميذه إلى التحرر من القيود الثقيلة التي كانت ترسف فيها الكتابة الإنشائية من محسنات بديعية مختلفة، وسجعٍ متكلَّفٍ ممقوت، واستعاراتٍ غريبة، وغير ذلك مما أفسد المعنى وستر الأفكار عن الوضوح والجلاء؛ كما أرشدهم إلى تجنب المقدمات الطويلة؛ وطبعي أن يصرفهم إلى الاهتمام بالمعاني؛ لأن هناك أشياء كثيرة يريدون الإبانة عنها، والإفاضة فيها، ولا يتسع هذا النثر المقيد لكل تلك المعاني، ولا يستطيع إيضاحها كاملة، ولقد رأيت فيما سبق نماذج من هذا النثر دبجها تلاميذه، مثال: محمد عبده وأديب إسحاق، وقد قال أديب عن أسلوبه الذي تاثَّر فيه بتعاليم جمال الدين:"رأيت أن أصرف العناية والاجتهاد إلى تهذيب العبارة، وتقريب الإشارة؛ لتقرير المعنى في الأفهام، ومن أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق للمعنى الرقيق، متجنبًا من الكلام ما كان غريبًا وحشيًّا أو مبتذلًا سوقيًّا، فإن التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج عن دائرة الإنشاء داء إذا سرى في القراء والمطالعين أدى إلى فساد عام، وأغلق على الطلبة معاني كتب العلم، والتنازل إلى ألفاظ العامة يقضي بإماتة اللغة وإضاعة محاسنها، وإن في لغة القوم لدليلًا على حالهم".
هذا الوصف الذي ذكره أديب إسحق لنثره، هو أثر من تعاليم جمال الدين، وسترى من النموذج الذي سأعرضه عليك من نثره أن جمال الدين -وإن لم يكن من المطبوعين على أساليب العربية الجميلة، إلّا أنه كان ينتزع البلاغة انتزاعًا، فترى لقلمه سطوةً لا تراها لكثير من الأقلام، وقد مر بك ما قاله الشيح محمد عبده في قدرته على تفتيق المعاني والاحتفال بها، ومن مزايا أسلوبه كثرة الجمل الاعتراضية، والفصل بين فعل الشرط وجوابه، أوالمسند والمسند إليه بفواصل طويلة، وهذا ناشئ من ترتيب فكره، وتعوده على الأساليب الفارسية الأعجمية، كما كانت لديه جرأة في استعمال القياس في اللغة، فيأتي بمجموعٍ لم يعرفها العرب، وصيغ لم تسمع في لغتهم، وكان من مستلزمات كتابته، وأثر عجمته، إدخال "الـ" على الأعلام.
هذا وقد وفينا موضوعات النثر في ذلك العصر حقها من الكلام، وبينَّا الأسلوب الذي تميَّزَ به كلٌّ منها، فألق عليها نظرة لتقف على أسلوب جمال الدين، فقد كان المرشد للكُتَّاب، وإن لم يكتب هو إلّا القليل، ومن هذا القليل الرسالة الآتية التي بعث بها إلى عبد الله باشا فكري يعتب عليه، وقد بلغه أن رجلًا ذمه أمام الخديو على مسمعٍ من فكري باشا، فسكت ولم يدفاع عنه، وهي من النوع الأدبيّ، ولذلك احتفى بأسلوبها أيما احتفاء، وفيها تتجلى خصائص أسلوبه عامة.
"مولاي. إن نسبتك إلى هوادة في الحق وأنت -تقدست جبلتك- فطرت عليه، وتخوض الغمرات إليه، فقد بعت يقيني بالشك، وإن توهمت فيك حيدانًا عن الرشد، وجورًا عن القصد، وأنا موقنٌ أنك ما زلت على السداد غير مفرطٍ في الحق ولا مفرط، فقد استبدلت علمي بالجهل، ولو قلت: إنك من الذين تأخذهم في الحق لومة لائم، وتصدهم عن الصدق خشية ظالم، وأنت تصدع به غير وانٍ ولا ضجر، ولو ألب الباطل الكوراث المردية، وأرى عليك الخطوب الموبقة لكذبت نفسي وكذبني من يسمع مقالتي؛ لأن العالم والجاهل، والفطن والغبي كلهم قد أجمعوا على طهارة سجيتك، ونقاوة سريرتك، واتفقوا على أن الفضائل حيث أنت، والحق معك أينما كنت، لا تفارق المكارم ولو اضطررت، وأنت مجبول على الخير لا