الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: البعث
مدخل
…
الفصل الأول: البعث
1-
قبيل البعث:
ظلت مصر وبلاد العروبة ثلاثة قرونٍ تحت حكم الأتراك، وهي في ظلامٍ دامسٍ، وجهلٍ فاضحٍ، تعاني مرارة الظلم، وقسوة البغي.
قَلِّبْ ما شئت من أسفار التاريخ، فلن ترى إلّا صفحاتٍ سوداء قاتمة، تنبعث منها روائح الاستبداد والبطش، وستسمع صراخ المظلومين يضم الآذان، وتلمح دماء الفلاحين في كل صقع تسيل تحت سياط الجباة، وتتمثل لك بلاد العروبة تخنقها يدٌ غاشمةٌ، أصابعها: الفقر، والمرض، والجهل، والذلة، والانحلال.
لم يكن لولاة الأتراك هَمٌّ إلّا استدرار الأموال بأية وسيلة، غير معيرين صرخاتِ الشعوب العربية التفاتًا، وغير مهتمين بما يقاسونه من ضنكٍ وبؤسٍ وفاقةٍ وجهلٍ، واشتد الخلف بين أمراء المماليك، وسلبوا الوالي سلطته، وشنوها حربًا شعواء كلٌّ على أخيه، ينازعه السلطة والجاه، والضحية في هذا النزاع كله هُمْ أبناء البلاد، فلا غرو إذا أقفرت من أهلها، وقد جاء القرن التاسع عشر، وسكان مصر أقل من ثلاثة ملايين، أكثرهم من العرب المسلمين، ويليهم الأقباط، ثم الأتراك، وكان الحاكم يفيد من الأستانة، ويقيم بالقلعة، ويدعو للخليفة، ويضرب باسمه النقود.
ولكن السلطة الفعلية كانت في يد المماليك، وهم أخلاطٌ من الأتراك والشراكسة، وجميع ثروة البلاد وإداراتها في أيديهم، ولم يكن لهم عصبية؛ لأنهم لم يتوارثوا الملك إلّا نادرًا، وإنما الغلبة للقوي، فضربةٌ موفقةٌ من حسام أحدهم، تكسبه الصدارة بين أبناء جلدته، ولم يكن حظه السعيد يغير من أخلاقه، فهو في منصب الوالي تتقمصه روح العبد الوضيع، وليس له من هَمٍّ إلّا الاستيلاء على النساء والخيل والأموال.
وكان الفلاح المسكين يُغْزَى وتُنْهَبُ أمواله، ولم يكن التاجر المصريّ أو الأوروبيّ الغريب بأحسن منه حالًا1، ولا ريب في أن الحالة الاجتماعية والأدبية تتأثر إلى حَدٍّ كبيرٍ بالحالة السياسية: فرعيةٌ هُمْلٌ، ورعاةٌ مستبدون، وهيهات أن يكون للأدب نصيبٌ في مثل هذه البيئة الجاهلة.
وقد زار "فولني" الرَّحَّالة الفرنسيّ مصر، وبلاد الشرق العربيّ، وتركيا، في أخريات القرن الثامن عشر، فراعه ما بها من جهلٍ مطبقٍ، وفسادٍ شائع، وهو في هذا يقول:"الجهل عامٌّ في هذه البلاد، وفي كل بلد تابع لتركيا، وقد عَمَّ كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية، وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية تراها في حالةٍ بدائيةٍ، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وُجِدَ فهو أجنبيّ".
ويقول في موضعٍ آخر: "ولَّى عصر الخلفاء، وليس من الأتراك أو العرب اليوم علماء في الرياضيات أو الفلك، أو الموسيقى، أو الطب، ويندر فيهم من يحسن الحجامة، ويستخدمون النار في الكيّ، وإذا عثروا بمتطببٍ أجنبيٍّ عدُّوه من آلهة الطب، وصار علم الفلك والنجوم شعوذةً وتنجيمًا، وإذا قيل لعلمائهم ورهبانهم: إن الأرض تدور، عدُّوا ذلك كفرًا؛ لأنه -في زعمهم- يخالف كتب الديانات".
ولم تكن تركيا أحسن حالًا من البلاد الخاضعة لسلطانها، وحسبك أنه حينما أراد بعض النابهين من الأتراك في القرن الثامن عشر2 إدخال المطبعة لأول مرةٍ في تركيا، وجَدٍّ من ولاة الأمور، وجمهور الشعب عنتًا وإرهاقًا، واضطر إلى استصدار فتوى شرعية، بعد أن بذل إبراهيم بك صهر السلطان مجهودًا كبيرًا، وقد سمحت الفتوى بطبع الكتب غير الدينية، ثم أفتى علماء الشرع بعد ذلك -حين ظهرت فائدة المطبعة- بطبع كتب الدين اعتمادًا على أن الأمور بمقاصدها".
1 The Begining of the Egyptian question and the Rise of Mohamed Ali by prof Shafik Cherbal. p.2.
2 هو محمد حلبي، سفير الدولة العثمانية بباريس.
وقد حرم الأتراك مصر أغلى كنوزها؛ فنقولوا أكثر الكتب التي كانت بخزائن المدارس إلى بلادهم، ثم نقلوا كثيرًا من العلما، والأدباء، والأمراء، والمهندسين، والورّاقين، وأرباب الحرف، وقد ذكر ابن إياس أسماء كثير من هؤلاء، وقال: إنهم يبلغون ألفًا وثمانمائة، وصادفهم النحس، فغرقت بهم بعض السفن التي كانت تقلهم، فمات كثير منهم، مع أن ابن إياس1، أرَّخ لمصر حتى أوائل الاحتلال العثماني، ولم يشهد الاحتلال في أوج جبروته، وما جرَّه على البلاد من نكباتٍ.
وكان من نتائج هذا الاحتلال كذلك: أن قلت أموال الأوقاف التي كانت محبوسةً على العلماء وطلبة العلم، فتفرق الطلاب، وانفضت سوق العلم، ولم يبق منه إلّا ذماء يسير بالأزهر، ومن البديهيّ أن اللغة العربية لم تجد في هذا العصر المظلم من يشد أزرها، ويثيب الشعراء والكتاب المحتفين بها؛ لأن اللغة التركية طغت وصارت اللغة الرسمية في الدواوين، وفشت على ألسنة الناس، ولأن الحكام لا يفهمون العربية، ولا يقدرونها قدرها، ولا يميزون بين الجيد والغَثِّ من الكلام، حتى يلجأ إليهم الشعراء مادحين.
ولم يعد في استطاعة كثيرٍ من الكُتَّاب أن يسلموا من اللحن الفاحش، أو يأتوا بالمفهوم المقبول، بل عَزَّ عليهم اللفظ الجزل والأسلوب القويّ، فلجئوا للزخرف والمحسنات يخفون بها عوار كلامهم، وقد أكثروا من هذه الحلى اللفظية حتى استغلق الكلام، وأتوا بالغَثِّ السَّمَجِ الذي إن حَسُنَ فيه شيءٌ، كالسرقة واغتصابًا من آثار من سبقوهم من الكُتَّابِ.
وحسبنا أن نقدم بعض نماذج دليلًا على ما وصلت إليه اللغة وآدابها نثرًا ونظمًا من الركة والضعف.
1 هو ابن إياس الجركسيّ الحنبليّ، من رجال القرن التاسع والعاشر للهجرة، وله كتاب "بدائع الزهور في وقاع الدهور" دَوَّنَ فيه تاريخ مصر حتى سنة 248هـ 1521م، ولغته ضعيفة أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى.
1-
قال عبد الوهّاب الحلبيّ في رسالة إلى الشهاب الخفاجيّ:
"لقد طفحت أفئدة العلماء بشرًا، وارتاحت أسرار الكاتبين سرًّا وجهرًا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بيمن قدوم مَن اخضرت رياض التحقيق بإقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه".
2-
قال عبد الرحمن الجبرتي، من النثر المرسل مبينًا نشأة مدرسة الهندسة في عهد محمد علي:
"لمَّا رغب الباشا في إنشاء محلٍّ لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة، تعيَّنَ المترجم رئيسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب، وذلك أنه تداخل بتحيلاته؛ لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك، ورتَّبَ له خروجًا وشهريًّا، ونجب تحت يده المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها، وأعجب الباشا ذلك فذاكره، وحسن له بأن يفرد مكانًا للتعليم، ويضم إلى مماليكه مَنْ يريد التعليم من أولاد الناس، فأمر بإنشاء ذلك المكتب، وأحضر له أشياء من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكليز وغيرهم".
3-
ولم يكن الشعر -إذا صح أن نسميه شعرًا- أرقى حالًا من النثر، وإنما كان صناعةً لفظيةً غثَّةً.
وهاك مثلًا مما قاله عبد الله الشبراوي1، يرثي أحمد الدلنجاوي، المتوفى سنة 1123هـ:
سألت الشعر هل لك من صديقٍ
…
وقد سكن الدلنجاوي لحده
فصاح وخَرَّ مغشيًّا عليه
…
وأصبح ساكنًا في القبر عنده
فقلت لما أراد الشعر أقصر
…
فقد أرَّختُ مات الشعر بعده
441 601 81
1 كان عبد الله الشبراوي من أكابر شيوخ الأزهر، واشتهر بقوله هذا النوع من الشعر، وتوفي سنة 1172هـ.
ومن ذلك قول الشهاب الخفاجي1:
فديتك يا مَنْ بالشجاعة يرتدي
…
وليس لغير السمر في الحرب يغرس
فإن عشق الناس المها وعيونها
…
من الدل في روض المحاسن تنعس
فدرعك قد ضمتك ضمة عاشق
…
وصارت جميعًا أعينًا لك تحرس
ومن هذه النماذج المتقدمة للأدب قبيل النهضة، ندرك كيف كان النهوض صعبًا بطيئًا، ويحتاج إلى عناءٍ طويلٍ، وصبرٍ كثيرٍ، وزمنٍ مديدٍ ليبلغ أشده ويؤتي أكله.
2-
البعث:
هبَّت مصر من سباتها العميق فزعةً مذعورةً حين دوَّت في آفاقها مدافع نابليون سنة 1798م، وأخذت تقلب الطرف دهشةً في هذه الجيوش العجيبة، والوجوه الغريبة، فكان ذلك أول عهدها بالفرنجة منذ عصر صلاح الدين الأيوبي. ولكن شتَّان بين العهدين، ففي الأول كانت قويةً عزيزةً لا تزال فيها أثارةٌ من علم وأدب، وكانت أوربا لا تزال تتحسس طريقها نحو النور؛ فاقتبست من مهد العروبة، وأفادت علمًا وحضارةً، وأخذت ترقى صُعُدًا في سلم المدنية بخطواتٍ ثابتةٍ سريعةٍ، بينما أخذت مصر تهوي وتنحدر رويدًا رويدًا، ويتراكم عليها الجهل والغفلة حتى جاءها "نابليون" وهي في الدرك الأسفل.
اصطحب "نابليون" معه كل عدد الاستعمار والاستغلال والإيقاظ، وكانت دهشة المصريين جدَّ عظيمةٍ مما رأوا من مظاهر هذه المدينة؛ إذ أنشأ نابليون مسرحًا للتمثيل، كانوا يمثلون فيه روايةً فرنسيةً كل عشر ليالٍ، ومدارس لأولاد الفرنسيين، وجريدتين، ومصانع، ومعملًا للورق، وأسس
1 هو أحمد بن محمد بن شهاب الدين الخفاجيّ المصريّ، ولد بسرياقوس، وتَلَقَّى دروسه بالقاهرة، ثم رحل مع أبيه إلى الحرمين، ثم الأستانة، ثم عُيِّنَ قاضيًا للعسكر بمصر، ثم استقال، وسافر إلى دمشق فحلب فالأستانة، وتوفي سنة 1069هـ، ومن أشهر مؤلفاته:"ريحانة الألباب" يشتمل على تراجم أدباء عصره، ثم "شفاء الغليل بما في لغة العرب من الدخيل".
مراصد فلكية، وأماكن للأبحاث الرياضية، والنقش والتصوير في حارة الناصرية، وأسس مكتبة عامة، وقد جمعت بعض كتبها من المساجد والأضرحة، وفيها كثيرٌ من الكتب الفرنسية التي أحضرتها الحملة معها ليفد إليها كل من يريد المطالعة، وكان القائمون بأمرها يرحبون بمن يدخلها من المصريين، وكان بها عدد كبير من الكتب العربية، وأنشأ المَجْمَعَ العلميَّ المصريَّ على نظام المَجْمَعْ العلميِّ الفرنسيِّ، في أغسطس سنة 1798، وكان من أغراضه:
1-
نشر المدنية، وبعث العلوم والمعارف بمصر.
2-
دراسة المسائل والأبحاث التاريخية والطبيعية والصناعية، ونشر هذه الأبحاث في مجلة المَجْمَعِ التي تنشأ لهذا الغرض.
3-
إبداء رأيه في الأمور التي تستشيره فيها الحكومة.
وكان المجمع يتألف من أربعة أقسام: قسم الرياضيات، وقسم الطبيعيات، وقسم الاقتصاد السياسيّ، وقسم الآداب والفنون، ويتألف كلُّ قسمٍ من اثني عشر عضوًا.
وقد أفاد هذا المجمع مصر والتاريخ بآثاره وأعمال رجاله، وصارت أبحاث أعضائه هي النواة الأولى لكل بحث خاصٍّ بمصر، ولا بدع إذا ظلَّ المجمع العلميّ هو الأثر الباقي حتى اليوم من آثار حملة نابليون، وذلك لجليل فائدته، وهذا ما دعا بعض المؤرخين إلى القول بأن حملة نابليون على مصر، كانت علميَّةً أكثر منها حربيةً1:
وبذل الفرنسيون غاية جهدهم في تقريب المصريين إليهم، وترغيبهم في أسباب الحضارة، وفي الجبرتي وصفٌ مستفيضٌ لكل هذا، حتى موائد الفرنسيين، وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون، وما شاهده من سائر أعمالهم العلمية والكيمائية، وكتبهم المصورة وأدواتهم، وهو يمثِّلً بدهشته هذه حالَ كلِّ عربيٍّ في أيامه.
1 تاريخ مصر السياسيّ، لمحمد رفعت ج1 ص39.
ولقد ظَنَّ كثيرٌ ممن شاهدوا التجارب العلمية التي أجراها الفرنسيون في معاملهم سحرًا1، بيد أن كل هذا ذهب بذهابهم سنة 1801م.
كانت حملة نابليون هزةً عنيفةً لمصر، أيقظتها من سباتهات الطويل العميق، وبيَّنَت لها أنها تعيش في عالمٍ آخر، وأن الدنيا تسير، وأهلها واقفون غارقون في أحلامهم، يجترون ماضيهم، ولا يدركون مساويهم، ويظنون أنهم الناس وأن غيرهم لا شيء.
وقد نَظَّمَ نابليون شئون مصر الداخلية تنظيمًا حسنًا، يشهد له بالنبوغ الإدرايّ، فوق نبوغه الحربيِّ، على الرغم من قصر المدة التي أقامها بمصر، فأنشأ الدواوين في مصر والمدن الكبرى، وانتخب لها أكفأ المصريين، واختيار من بين المصريين المسيحيين رجال المالية والإدارة، بيد أن شراسة رجال الحملة، واستهتارهم بالشعب المصريّ، ودينه وتقاليده، وانتهاكهم حرمات الأهالي جهارًا، ونهبهم القرى الآمنة، وإفزاع أهلها، وفرض الضرائب على الأوقاف الخيرية التي كان يصرف ريعها على المساجد وطلاب العلم، وفرضها كذلك على المنازل، جعل كل قلوب المصريين تنفر من نابليون وإصلاحاته، وعلمه، وتنظر إليه نظرة الغاصب المستبد، ولقد ثار المصريون في أكتوبر سنة 1798؛ فأخمد ثورتهم في قسوةٍ عارمةٍ، وعنفٍ وغلظةٍ، وانتهك حرمة المساجد الإسلامية2، وعبثًا حاول بعد ذلك أن يتألف قلوبهم، أو يستميلهم إلى المدنية الغربية، وإن كلفوا بها بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، واتخذوا ما وضعه لهم أساسًا للإصلاح الداخليّ2.
1 وصف الجبرتي بعض ما رآه في أحد هذه المعامل بقوله: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان، أن بعض المتقدمين لذلك، أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصبَّ منها شيئًا في كأسٍ، ثُمَّ صَبَّ عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلَا الماء وصعد منه دخان ملون حتى انقطع، وجَفَّ ما في الكاس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا، أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا أزرق، وبأخرى فجمد حجرًا ياقوتيًّا".
2 Professor Shafik Gherbal. pp. 73.5.
3 لمحة عامة إلى مصر، لكلوت بك، ج2، ص255-268.
وفي ذلك يقول المؤرخ الإنجليزي ألجود "Elgood":
"لقد ترك الاحتلال الفرنسيُّ في مصر أثرًا لا يمحى، فقد ظلَّ المصريون يعجبون بنابليون بعد خروجه من ديارهم، وظلَّت طرق الإدراة الفرنسية مهيمنةً على حكومة مصر، وظلَّت عادات التفكير الفرنسية تسيطر على الطبقة المستنيرة بمصر، وإنَّ ما خَلَّفَته الحملة الفرنسية في مصر خلال ثلاثة أعوام لاغير، لمن أضخم ما يتسنى إنجازه في هذا الأمد الوجيز1".
ثم أتيحت لمصر الفرصة لكي تنهض وتتبوأ مركزها بين أمم العالم المتمدين، باستيلاء محمد علي على عرش مصر، وحاول أن ينشئ دولةً قويةً خالصةً لنفسه ولذريته من بعده، فأفادت مصر من مجهوداته في هذا السبيل، وإن حكمها حكمًا استبداديًّا خالصًا.
كان محمد علي طموحًا، يريد أن يرى مصر ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، لا تقل في حضارتها وقوتها عن دول أوروبا، فوضع أسس نهضةٍ شاملةٍ: في الجيش، والصناعة، والزراعة، والتعليم، والإدارة، حتى يكون البعث عامًّا، يدفع بعضه بعضًا، ولا يعنينا في مقامنا هذا إلّا ما يَمَسُّ اللغة والأدب.
وقد وجد محمد علي أن خير وسيلةٍ تنهض بالشعب المصريّ وترفعه إلى مستوى الأمم الناهضة، الاهتمام بالتعليم، وقد سلك في سبيل تعليم الشعب كلَّ الطرق الناجحة: فمن بعثاتٍ وطباعةٍ، وفتح مدارس، ونقل آثار الأمم الغربية في العلوم والآداب، وتأسيس الصحافة لتنير الحياة أمام الشعب.
البعثات:
جاء محمد علي إلى مصر جنديًّا في الحملة التي اشتركت في إخراج الفرنسيين منها سنة 1801م، ولم يمض عليه أربع سنواتٍ حتى استولى على مصر سنة 1805م؛ بعد أن ثار المصريون بقيادة الزعيم العالم السيد عمر مكرم على واليهم التركيّ خورشيد لعسفه واستبداده؛ فقرروا عزله.
1 The Transit of Egypt.by P.G. Eigood. P. Edward & Co. Londor 1928.
وكان محمد علي قد تقرَّبَ إليهم، وأظهر حرصًا على استرضائهم، والاستجابة لكلِّ ما يأمرون به، والخضوع لهم، فاغتروا بمظهره وخداعه، وبايعوه بالولاية، وعلى رأسهم زعيم مصر الشعبيّ السيد عمر مكرم، ولكنه ما لبث أن تَنَكَّرَ لهذا الزعيم الذي وضع بين يديه عرش مصر، خوفًا من منافسته، وتخلُّصًا من رقابته، وحسدًا لمكانته فنفاه.
ورأي كذلك أنه لن يستقيم له الأمر حتى يقضي على المماليك لتمردهم وكثرة شغبهم، فأبادهم1؛ وأنه لابد له من جيشٍ قويٍّ يُقِرُّ به الأمن، ويصون هيبة الحكم في الداخل، ويدفع به غارة المغيرين من الخارج، فانتدب طائفةً من أساتذة الفنون العسكرية بأوروبا، وأرسلهم مع مماليكه إلى أطراف الصعيد؛ ليدربوهم هناك.
وفي سنة 1815 أسس مدرسةً حربيةً إعداديةً، واتخذ لها قصر ابن العيني مكانًا، وكان كل تلامذتها في أول الأمر من غير المصريين، إلّا أنهم لم ينجحوا، فالتفت إلى المصريين، ونقلها إلى أبي زعبل، وأكثر بها من الأساتذة الفرنسيين؛ وتعجلًا للفائدة، كان قد سبق وأرسل في سنة 1813 طائفةً من شبان المماليك لدارسة الفنون العسكرية بإيطاليا، وفي سنة 1818 أرسل بعثةً أخرى إلى انجلترا؛ لدارسة علم الحيل "الميكانيكا" وغيرها.
ورأى محمد علي أن الجيش في حاجةٍ إلى أطباء يأسون جراحات الجند، ويقاومون الأوبئة، ويعنون بالمرضى، وأن الطب لا أثر له ألبتة، فخاصة المصريين كانوا يعتمدون في هذا على المأثور من نسخ الأدوية في الكتب القديمة، وعلى ما تمخضت عنه التجارب، ومنها الكيّ والحجامة، وأما الدهماء فكانوا في عامة شأنهم يعوذون بمدعي الطب من الدجالين والمشعوذين والسحرة، أو يقنعون من طلب الاستشفاء بزيارة الأضرحة، فأنشأ في سنة 1826 مدرسة الطبِّ في جهة أبي زعبل، وأقام بجوارها مستشفًى كبيرًا لمعالجة المرضى، ولتمرين الطلبة، واستقدم لها أساتذة من الغرب؛ وجعل رياستها إلى الدكتور "كلوت بك الفرنسيّ".
1 احتال عليهم ودعاهم إلى وليمة بالقلعة -وكانت مقر الوالي حينذاك- ثم أوقع بهم بعد أم أمنوا، فقضى عليهم، وكان ذلك في سنة 1226هـ 1811م.
وكان الطلاب في هذه المدرسة من المصريين وغيرهم، واختير كثير من أولئك من بين نوابغ طلاب الأزهر، ثم نقلت هذه المدرسة إلى قصر ابن العيني في سنة 1838.
وقد كان لمدرسة الطب أثرٌ لا يُنْكَرُ في بعث اللغة العربية والنهوض بها، واتصالها بالعلم الحديث؛ لأن فصيح اللغة فوق أنه قد غُمَّ على الناس وعلى المصريين بخاصةٍ من عهد بعيد، وأن آدابها ومظاهر بلاغتها قد دَبَّ إليها الضعف والانحلال إلى حدٍّ كبيرٍ، فإنها قد تخلفت عن متابعة العلم حقبًا طويلةً؛ فلما استوى العلم وأدرك، إذا هو في وادٍ، وإذا حظّ الناس من لغة العرب في وادٍ آخر.
وحين فوجئت مصر بهذه العلوم التي حذقها الغرب منذ عدة قرون، تشايعها الألفاظ هناك، وتدارجها الصيغ، وتطبع لها المصطلحات التي تهيئها الهيئات العلمية المنظمة، تبين العسر أشد العسر في تعليم هذه العلوم الحديثة لطلابٍ يجهلون لغات أهلها، وخاصةٍ من معلمين لا يعرفون العربية، ولو عرفوها ما تهيأ لهم أن يدرسوا بها لعجزها عن أداء الكثير والقليل مما تهيأ لهم أن تؤديه، ليس في متناول اليد، بل إنه يحتاج إلى كثرة مراجعة، وشدة تنقيب، ويحتاج إلى علماء عندهم شغف بالاطلاع، ورغبة في البحث، وجَلَدٌ على العمل؛ لهذا دعت الضرورة أول الأمر أن يقام بين الأساتذة وتلاميذهم جماعةٌ من المترجمين، يستمعون الدرس في اللغات الأجنبية، ثم يؤدونه إلى هؤلاء بالعربية، وكان هؤلاء المترجمون من المغاربة والسوريين والأرمن وغيرهم.
ولقد عانوا كثيرًا في القيام بهذه المهمة الشاقة، ولكن كان علمهم هذا أول دعامةٍ في صرح النهضة الحديثة، فلقد حفَّزَّهم ذلك إلى مراجعة معجمات اللغة، والكتب الفنية القديمة؛ كمفردات ابن البيطار، وقانون ابن سينا، وكليات ابن رشد، وغيرها من الكتب العربية لاستخراج المصطلحات العلمية، أو لصياغة ما يؤدي مطالب العلم الحديث، إذا عجز القديم عن أدائه، وإذا كانت قد غلبتهم الألفاظ الأجنبية في كثيرٍ من الأحيان، ففضلهم في عقد الصلة بين الشرق والغرب لا يجحد.
رأى محمد علي أن تشمل نهضته جميع نواحي الحياة؛ فأكثر من إنشاء المدارس العالية والابتدائية، وقد بدأ بالمدارس العالية، وكان على حقٍّ فيما فعل؛ حتى يجد بجنبه جماعةً من المتخصصين في المواد المختلفة، يشرفون على مراحل التعليم الأخرى، ويسيرون بالنهضة سريعًا، فأسَّسَ مدرسةً للصيدلية، وأخرى للهندسة في القلعة، ثم نقلت إلى بولاق، ومدرسةً للولادة والتمريض، ورأى أن الحاجة ماسَّةً إلى أساتذة متخصصين عالمين بعلوم الغرب وثقافته، فجلب الأساتذة من فرنسا في كل فنٍّ من الفنون، ولكنه أدرك أن النهضة الحقة لا تتم إلّا على يد أبناء البلاد، فأكثر من البعثات، وفي سنة 1826 أرسل بعثةً إلى فرنسا، عدتها أربعة وأربعون طالبًا، ذكر أسماؤهم "المسيو جومار"1 -وقد عهد إليه محمد علي بالإشراف على بعثاته- في المجلة الأسيوية، Journal -Asiatipue 2 وقد تخصصوا في شتَّى العلوم والفنون: من حقوق، وعلوم سياسية، وهندسة حربية، وطب، وزراعة، وتاريخ طبيعيٍّ، وميكانيكا، وكيمياء، وطباعة، وحفر، وغير ذلك مما استلزمته النهضة الحديثة، ومن أشهرهم وأعظمهم أثرًا، إمام البعثة الشيخ: رفاعة الطهطاوي، وسنترجم له فيما بعد لجليل قدره وعظم أياديه على الترجمة والنهضة والأدبية.
ثم توالت البعثات، ومن أشهرها البعثة الطبية الكبرى في سنة 1832، وقد اختير طلبتها من نابهي مدرسة الطب المصرية، ومن نوابغ رجالها محمد علي البقلي، وفي سنة 1844 أرسلت بعثةٌ ضمَّت خمسةً من أمراء أسرة محمد علي، ومنهم الأمير إسماعيل3، ولذا سميت ببعثة الأنجال، وهي أكبر بعثات محمد علي، وآخر بعثاته الكبرى، وقد اختار تلامذتها سليمان باشا الفرنساوي من نوابغ تلاميذ المدرس المصرية، ومن أجل هذه البعثة فتح محمد علي مدرسةً بباريس، ومن أشهر رجالها علي مبارك باشا، وحسن أفلاطون باشا، ومحمد عارف باشا، ومحمد شريف باشا.
1 كان مهندسًا في الجيش الفرنسيّ بمصر، وعضوًا في المجمع العلميِّ أيام حملة نابليون.
2 عدد أغسطس سنة 1828 ص109.
3 الخديوي إسماعيل فيما بعد.
وقد أرسل محمد علي إحدى عشرة بعثةً، آخرها سنة 1847، وكان شديد العناية بأعضاء البعثات، يتقصى أنباءهم، ويشرف على دراستهم باهتمام، ويكتب لهم من حينٍ لآخر رسائل يستحثهم فيها على العمل والاجتهاد، وينبههم إلى واجباتهم؛ وذلك لشدة حاجته في نهضته إلى من يقف بجانبه، وينفذ مشروعاته الضخمة، وقد ذكر رفاعة الطهطاوي نموذجًا من الرسائل التي وجهها محمد علي إلى طلبة البعثات، ويوبخهم فيها على تقصيرهم، ويحثهم على الاجتهاد، وبتعجلهم في قطف ثمار تحصيلهم1.
كان لهذه البعثات كلها أثرٌ بالغٌ في تقدُّم مصر ونهضتها، وإرسال نور العلم دافقًا قويًّا في ربوعها، كما كان لها أعظم الفضل في إحياء اللغة، وجعلها مسايرةً للعلم الحديث، بما ترجم أعضاؤها من كتبٍ، وما أدخلوه من مصطلحات، وما ألفوه في شتَّى نواحي العلم.
الترجمة:
اقتضت النهضة أن تنقل كنوز الغرب إلى اللغة العربية، فأسست في سنة 1836 مدرسة الإدارة والألسن، وعهد بالإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي، ولما كان تاريخها مرتبطًا به، ونهضة الترجمة في عصر محمد علي وخلفائه ثمرة جده وكده، رأينا أن نترجم له ترجمةً موجزةً، فحياته حياة مدرسة الإدارة والألسن: لأنها وجدت بفضله، وانتهت بخروجه منها.
1 راجع الرسالة: في تخليص الإبريز لتلخيص باريز، لرفاعة بك ص151، وفي تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص455.