المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الطبعة الخامسة   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله. هذه طبعة جديدة من - قصص من التاريخ

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌مقدمة الطبعة الخامسة   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله. هذه طبعة جديدة من

‌مقدمة

الطبعة الخامسة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله.

هذه طبعة جديدة من الكتاب الذي أكاد أفضّله على سائر كتبي؛ إذ عرضتُ فيه صوراً من أجمل صفحات التاريخ، أبقيت على جوهرها التاريخي وأعملت قلمي في «الأعراض» والتفاصيل، فما جعلتُها تاريخاً التزمتُ فيه بالواقع ولا أدباً خالصاً أَصدُرُ فيه عن الخيال وحده.

ولقد طُبع مرات، ولكن هذه هي الطبعة الأولى التي تصدرها «دار المنارة» التي أخصّها -منذ اليوم- بنشر كتبي. وما أذمُّ من نشر لي قبلها، وأفرد بالثناء ولدي الأستاذ زهير الشاويش (والمكتب الإسلامي) وولدي الأستاذ عدنان سالم (ودار الفكر).

وأسأل الله أن يكتب لي ولكل مَن نشر لي الثواب، وأن ينفع الله الناس بهذا الكتاب.

مكة المكرمة: غرة سنة 1411

علي الطنطاوي

ص: 5

مقدمة

لم تُكتَب هذه الفصول في يوم واحد، بل كُتبت في أزمان متباعدات (1)، لذلك كان ما ترون من الاختلاف بين أساليبها. ولم أتعمد أن أجعلها قصصاً كما جاء في عنوان الكتاب، ولم أتقيد بقيود القصة وأقفْ عند حدودها، بل كنت آخذ الخبر أقع عليه، فأديره في ذهني وأتصور تفاصيله، ثم أحاول أن أعرضه موسَّعاً واضحاً. فكان ما أجيء به يقترب من القصة حيناً، ويكون أشبه بالعرض (الريبورتاج) حيناً. وربما غلبت عليّ الرغبة في التحليل النفسي فأطيل، وربما وقفت عند الحقائق فأقصر. ولو رجعتم إلى أصول هذه الفصول في التاريخ لوجدتم أن أكثرها لا يجاوز بضعة أسطر، جاءت متوارية في حاشية من الحواشي أو زاوية من

(1) نُشر الكتاب أول مرة سنة 1939م باسم «من التاريخ الإسلامي» ، أما القصص فقد كُتب كثير منها ما بين 1929م و 1936م، وفي بعضه أثر من أساليب من كنت مولعاً بهم يومئذ من الأدباء. ففي قصص الحجاج (هجرة معلم، وليلة الوداع، ويوم اللقاء) أثر من أسلوب معروف الأرناؤوط، وفي قصة «عالم» أثر من أسلوب الرافعي، وسائرها مكتوب بأسلوبي. وقد كتب النقاد عن الكتاب فصولاً كثيرة أجمعها وأوسعها ما تفضّل به الأستاذ شاكر مصطفى في كتابه «القصة في سوريا» والأستاذ أنور الجندي.

ص: 7

الزوايا، لا يتنبه إليها القارئ ولا يقف عليها، وليست أجمل ما في تاريخنا ولا هي من أجمل ما فيه، وإنما هي أخبار عادية، استطاع هذا القلم (على ضعفه وعجزه) أن يعرضها على الناس شيئاً جديداً أو هو كالجديد، فكيف إذا تولاها قلم أقوى من هذا القلم؟ وكيف إذا اختار لها مشاهد من التاريخ أعظم من هذه المشاهد؟

وإذا كان أصل هذا الكتاب الذي تفرع عنه وأساسه الذي بني عليه بضعَ صفحات من هذا التاريخ العظيم، فكم صورة رائعة، وكم قصة بارعة، وكم من الآثار الأدبية الخالدة، يمكن أن يستخرج من صفحاته كلها؟

أمَا إن ذلك ليزيد عن العد ويجلُّ عن الحسبان، ولكن أدباءنا لم يَرِدوا هذا المورد.

* * *

على أن هذا أسلوب من أساليب عرض التاريخ بقلم الأديب، وفي كتابي «رجال من التاريخ» (1) أسلوب آخر. وفي «على هامش السيرة» لطه حسين، وفي «وحي القلم» للرافعي، وفي «سيد قريش» لمعروف الأرناؤوط و «محمد» لتوفيق الحكيم و «في منزل الوحي» لهيكل أساليب غير ذلك.

ولو أن كل كاتب وأديب أخذ من تاريخنا على مقدار طاقته،

(1) الذي كنت أذعته من إذاعة دمشق ثم زدت عليه حتى صار كتاباً كبيراً وطُبع مرات.

ص: 8

وعلى أسلوبه وطريقته، وبلغ ما أخذ منه وصدر عنه ألف كتاب، لما نقص من كنوز تاريخنا شيء.

ولو أني بقيت خمسين سنة أحدّث الناس كل أسبوع عن علم من أعلام الإسلام، أو أعرض عليهم قصة من قصص بطولاتهم وعبقرياتهم، لما انتهيت ولما قاربت الانتهاء، وكيف؟ وعندي في مكتبة بيتي الصغيرة أكثر من مئة مجلدة في تراجم الرجال، لو أن في كل مجلدة منها مئة ترجمة لكان من ذلك - وحده - عشرة آلاف ترجمة لعشرة آلاف علم من أعلام الإسلام. وما ليس عندي من كتب التراجم أضعاف ذلك.

ثم إن في كتب التاريخ والأدب، والمحاضرات والرحلات، آلافاً أخرى لم تُفرَد في كتب التراجم.

ولقد كنت أتسلى من أيام بالنظر في «رحلة ابن بطوطة» ، فاستخلصت منها تراجم كثيرين لأجعل منها أحاديث؛ منهم السلطان المسلم العادل طرمشيرين من حَفَدة جنكيز خان، وكان يحكم مملكة واسعة المدى، مترامية الأطراف، كثيرة الجيوش، وافرة الخيرات. فهل سمعتم بطرمشيرين؟

وهل سمعتم بالملوك المسلمين الذين حكموا روسية، وكان لهم فيها حكومة عظيمة عاشت دهراً، وكانت تسمى دولة البلغار، وكانت عاصمتها بقرب ستالينغراد؟

وهل تعرفون سير الملوك المسلمين الذي حكموا الهند قروناً

ص: 9

طوالاً، وكان منهم أورنك زيب، أشبه الملوك سيرةً بالخلفاء الراشدين؟

ودول الإسلام في جنوبي آسية وسواحل أفريقية السوداء؟

لقد بلغ الإسلام بلاداً تعجبون أنتم الآن إذا سمعتم بأنه بلغها، وأقام فيها دولاً، وأنشأ فيها حضارات، وترك فيها آثاراً. وأكثر القراء لا يعرفون شيئاً عنها.

بل إني أعترف أني لم أكن أعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام في ماليزيا وأندونيسيا، وعن مراحل تاريخه في الهند، حتى زرت تلك البلاد ورأيت آثار الإسلام فيها، ولا سيما في دهلي وما حولها. لقد كنت أظنني في الأندلس، ولكنها أندلس أجل وأكبر. لقد حكمنا الهند ألف سنة، فمَن يعرف دقائق تاريخنا في الهند؟

لقد كدت أقول: لا أحد!

إننا أمة تجهل تاريخها!

هذا التاريخ الذي ليس لأمة مثله. هذا العالم الذي يفيض بالحب والنبل والتضحية والبطولة والإيمان.

هذا السجل الأدبي الذي اشتمل على بذور مآسٍ، وملاحم، وقصص، ودواوين، لو وجدت من يستخرجها ويزرعها في الذهن الخصيب لكان حصادَها أدبٌ جديد يزحم بمنكبيه آداب الأمم جميعاً. وإذا كان إسكندر دوماس وشارلز ديكنز قد استخرجا من تاريخ فرنسا وتاريخ إنكلترا - على قِصَر مدتهما وكثرة مخازيهما -

ص: 10

هذا الأدب كله، فماذا يُستخرَج لَعمري من تاريخنا الطويل الشريف الغني لو رُزقت العربية أديباً كدوماس أو كديكنز؟

ولست أعني التاريخ السياسي وحده، تاريخ القصور والملوك، بل أعني التاريخ العلمي أولاً؛ تاريخ القوم الذين باعوا نفوسهم لله مجاهدين في ميادين الطّروس (1) بأسنّة الأقلام، وهجروا لذلك لذائذهم، ونسوا حاجات بطونهم وغرائزهم، واطّرحوا رغبات الغنى والجاه وكل ما يتزاحم عليه الناس، واستهانوا في سبيله بكل صعب، حتى إنهم كانوا يرحلون الإبل أربعين ليلة، من مشرق الأرض إلى بغداد أو الشام أو الحجاز، في طلب مسألة مفردة أو حديث واحد. أحرقوا أدمغتهم فجعلوها مشاعل القرون الآتيات، فسارت «البشرية

» في طريق الحضارة على ضوئها.

هذا التاريخ الذي أعنيه، هو تاريخ القضاة الذين استطاعوا في عصر كان الحكم فيه في الدنيا كلها حكما مطلقاً، وكانت حياة الناس معلقة بكلمة ينطق بها الحاكم، استطاعوا في هذا العصر أن يجعلوا لأنفسهم منزلة، وأن تكون لهم بكفاياتهم وبأخلاقهم حصانة دونها حصانة القضاة اليوم التي ضمنها لهم القانون. فاقرؤوا أخبارهم في كتب التاريخ والأدب والمحاضرات، وفيما أُفرد لهم من كتب (ككتاب الكندي في قضاة مصر، وكتاب قضاة

(1) الطروس والأطراس جمع الطِّرس (بكسر الطاء)، وهو الصحيفة والكتاب يُمحى ثم يُكتب. ومنه التطريس، وهو إعادة الكتابة على المكتوب (مجاهد).

ص: 11

الأندلس، وكتاب قضاة الشام) تروا كيف كان أحدهم يستند إلى سارية المسجد وما معه إلا كاتبه، ما معه جند ولا شُرَط، ثم يحكم على الخليفة، وعلى الأمير، وعلى صاحب السلطان، فلا يُرَد له حكم ولا يستعصي على حكمه أحد. واقرؤوا مقدمة كتاب «الخراج» لتروا كيف كان أبو يوسف القاضي يخاطب أكبر ملوك الدنيا في عصره: هارون الرشيد!

هذه ناحية من أوسع نواحي العظمة في تاريخنا، لأن القضاء (منذ كان في الدنيا قضاء) هو مقياس الخير في الأمم، وهو معيار العظمة فيها، وهو رأس مفاخر كل أمة حية راشدة. وليس القاضي موظفاً كالموظفين (1)؛ فالموظفون، حتى الأمراء منهم والوزراء، أعوان الملك أو الرئيس وأتباعه، يأمرهم فيأتمرون ويدعوهم فيلبون، أمرهم من أمره وسلطانهم من سلطانه، يتكلم بألسنتهم ويبطش بأيديهم. أما القاضي فلا حكم عليه إلا لربه، ولا استمداد له إلا من قلبه؛ يتكلم بلسان الشرع، والشرع فوق الناس، ويحكم بحكم الله، وحكم الله على الجميع.

هذا هو التاريخ الذي أعنيه، لا تاريخ القصور وأهلها. وهذا الذي عُني به علماؤنا فألفوا فيه آلاف الكتب واستحدثوا منه علماً لم تعرفه أمة من الأمم قبلهم ولا بعدهم، هو «علم الرجال» الذي يميز صادق الرواة من الكاذب، والأمين من المزور، والمتثبت من المتساهل. وكان لأهل هذا العلم مثل «دوائر الاستخبارات» في الحكومات، وبها توصلوا إلى وضع قواعده ورفع دعائمه.

(1) الوظيفة في اللغة المرتب، ولكنا آثرنا ما يقول الناس.

ص: 12

وابدأ فانظر ما أُلِّف في سيرة سيد البشر ومعلم الخير صلى الله عليه وسلم، وكيف دُوّنت حركاته وسكناته وألفاظه وإشاراته في مئات من الكتب. إذا شئت كتاباً يكاد يغني عن هذه الكتب كلها، ولا يغني عنه كتاب، فاطلب «شرح المواهب» للزرقاني.

ثم انظر سير الصحابة فاقرأها في الإصابة أو في أسد الغابة أو في الاستيعاب.

ثم انظر العمل الذي قام به مؤرخو رجال الحديث، ومبلغ ما وصلوا إليه من الإحاطة والتدقيق والصدق، وانظر هل أفلت منهم خبر أو خفيت عليهم حقيقة؟ وهل صنع علماء أمة كالذي صنعوا؟ أو تصوروا إمكان هذا الصنيع المعجز الهائل؟ لقد صنفوا في الرجال الكتب الجامعة (1)، وأفردوا الضعاف والمتروكين بالتأليف، ووضعوا الكتب في ضبط الأسماء وبيان ما تشابه منها أو ما اشتبه، وبحثوا في تواريخ الوفيات، وحققوا الأسانيد.

ثم انظر ما أُلِّف من كتب الرجال في سائر العلوم والفنون، كطبقات الأطباء، وأخبار الخلفاء والوزراء والنحاة والأدباء، بل وفي أخبار الطفيليين والحمقى والمغفلين وعقلاء المجانين. وما ألف في رجال المذاهب، كطبقات الشافعية، والديباج في أعيان المذهب المالكي، وطبقات الحنابلة والحنفية. وما ألف منها في

(1) حسبكم منها كتاب «الكمال في أسماء الرجال» ، الذي رأوه طويلاً فاختصروه في كتاب التهذيب، ثم اختصروا هذا المختصر فكان الكتاب النفيس الممتاز، كتاب «تهذيب التهذيب» ، وهو في 12 مجلداً.

ص: 13

المدن، كتاريخ بغداد الذي ترجم لكل من دخل بغداد فلم يُبقِ ولم يذر، والكتاب الذي لم يؤلف في بابه مثله، كتاب ابن عساكر العجيب الذي عجزت دمشق عن طبعه وعن نشره. وما ألف على العصور. وعندنا سلسلة كاملة لأعيان كل عصر، من العصر السابع إلى الثاني عشر الهجري (1)، وما كان منها جامعاً كوفَيَات الأعيان، الكتاب النفيس الممتاز. وغير ذلك مما يتعسر الإحاطة به وتقصّي خبره في مثل هذا المقام. وفي كل صفحة من هذه الكتب مبعث إلهام للأديب، وأصل قصة للكاتب، وكنز من كنوز العقل والقلب لا يفنى.

ألفوا هذه الكتب كلها في «علم الرجال» ، على حين لا نعرف من تصانيفهم في تاريخ الملوك إلا بضعة كتب كالطبري وابن الأثير وابن كثير والمسعودي واليعقوبي وابن خلدون وأمثالها. ويا ليت وزارات المعارف في بلاد المسلمين تدع هذا كله، فلا تجعله أكبر همها من درس التاريخ وغاية مطلبها، وتنصرف إلى التاريخ العلمي فتعنى به (2). ورب عالم كان أبلغ أثراً في عصره من خليفة العصر، وكان أولى أن يُعرف العصر به ويُنسب إليه، فنقول عصر أبي حنيفة

(1) وقد ألف أحد المشايخ في دمشق في أعيان القرن الثالث عشر كتاباً ينقصه التحقق والترتيب. ثم طُبع كتاب الشيخ عبد الرزاق البيطار، جد شيخنا بهجة الشام حفظه الله، وهو كتاب جامع نافع.

(2)

حققت هذا -بفضل الله- لما عُهد إلي وضع مناهج المدارس الشرعية في سورية أيام الوحدة، وجعلت مكان التاريخ درس «أعلام الإسلام» .

ص: 14

مثلاً، وعصر ابن أبي دؤاد، وعصر أحمد، وعصر الغزالي، وعصر ابن تيمية وابن القيم.

ولست أدري إلى متى يبقى تاريخنا عبداً واقفاً على أبواب الملوك، لا ينظر إلا إليهم ولا يهتم إلا بهم، ولماذا لا يصير حراً يخالط الشعب ويسجل مناقبه ويصف أخلاقه؟

ومن منا يعرف ماذا كان يأكل الناس في عهد الرشيد مثلاً أو الواثق، وماذا كانوا يلبسون، وماذا كانوا يصنعون في أفراحهم وأتراحهم وجِدهم ولهوهم، وكيف كانت حياة التاجر والصانع والجندي والزارع؟

إننا نستطيع أن نقف على ذلك إذا بحثنا عنه وتصيدنا أخباره تصيداً، من كتب الأدب والأخبار، ككتب القاضي التنوخي. ولكن ذلك يحتاج إلى جد وكد، ونحن أهل كسل: نأكل ما وجدنا ولو كان شر الطعام، ولا نكلف أنفسنا عناء الإعداد والطبخ.

ثم إن تاريخ ملوكنا وإن كان أشرف بمئة مرة من تواريخ أمم الغرب، وإن لم يكن يرفع الرأس، وإذا استثنينا نفراً من الحكام كالخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز ونور الدين وصلاح الدين وأورنك زيب وأمثالهم (على ندرة أمثالهم) لم نكد نجد إلا حاكماً مستبداً إذا وزنت سيرته بميزان الإسلام لم ترجح في الميزان.

ثم إن رواية المؤرخين رواية عامية، والرواية العلمية هي رواية المحدثين، لذلك كان المرجع الأول لتاريخنا ما رواه المحدثون، وكان الجاهل بمصطلحهم وعلمهم لا يعد مؤرخاً. وكتب التاريخ

ص: 15

هذه هي المواد الأولية للتاريخ، وليست هي التاريخ، لأن تاريخنا لم يُكتب. ولا بد من تنقيتها أولاً، ثم ترتيبها، ثم إدخالها المصنع لتصير حينئذ تاريخاً، وإنها على ما هي عليه مخلوط فيها السم بالدسم والقطن بالبرسيم.

وإن علمنا كان يعتمد على الرواية، والرواية تقوم على معرفة الرجال. والطبري (وغير الطبري) حين يذكر أن الخبر مروي عن فلان وفلان يُسقط التبعة عنه ويلقيها عليك، وعليك أنت أن تعرف الكاذب من الصادق من الرواة لتعرف الصحيح من الباطل من الأخبار، فإن لم تعرفه حفظاً عرفته مراجعة.

ومن هنا يتبين أن الباحث الذي يذيّل بحثه بذكر صفحات الطبري (الطبري، صفحة كذا) مقرٌّ على نفسه بأنه حاطب ليل لا يدري ما يأخذ وما يدع (1)، وأنه هو الذي يسميه علماؤنا «المقمّش» !

ولذلك كان الاعتماد الأول على رواية المحدثين. ورواية المحدثين لها درجات؛ منها الرواية المتواترة الثابتة، والمشهورة، والعزيزة، والصحيحة، والحسنة، والضعيفة. ولها من جهة إسنادها درجات؛ منها المسندة، والموقوفة، والمرسلة، والمنقطعة، والمعضلة.

(1) فكيف بمن يجعل مستنده كتاب «الأغاني» ؟ وهو كتاب أدب ومحاضرة لا نظير له لكن لا يُعتمد عليه ولا يروى عنه لأن أبا الفرج معروف بالكذب والوضع، وهو فاسد السيرة بعيد عن العدالة، وهو -فوق ذلك- شيعي المذهب رغم أنه أموي النسب (وهذا من العجائب).

ص: 16

وكان لها من جهة انفرادها وتعارضها بغيرها أصناف، منها المتفق عليه، والغريب، والشاذ، والمنكر، والعاضد لغيره، والمخصص، والمقيد، والناسخ. والصحيح درجات تختلف باختلاف المصححين واختلاف شرائطهم في التصحيح.

وليس يمكن أن يكون مؤرخاً إسلامياً أو أستاذاً للتاريخ الإسلامي إلا من كان عالماً بالرجال أو كان ممن يحقق عن أحوالهم، عارفاً بالحديث ومظان وجوده و «مصطلح» أهله، عارفاً بالعربية ليفهم ظواهر الكلام وبواطنه وإشاراته ومعاريضه، وكان متجرداً عن العصبية والهوى، مريداً ببحثه الحق ورضاء الله.

فإن لم يكن كذلك لم يكن إلا جاهلاً بالتاريخ أو دجالاً، ولو كان أستاذ الجامعة ولو كان صاحب الشهادات الكبار، لأن الدولة تستطيع أن تجعل الرجل أستاذاً بمرسوم، وتقدر أن تجعله دكتوراً بشهادة (قد تكون شهادة زور)، ولكن الدولة لا تستطيع أن تجعل الجاهل عالماً، ولا العصبي نزيهاً، ولا الكاذب صادقاً.

وبعد، فهذه كلمة انجر القلم إليها، أردت فيها أن أستحث الأدباء وأثير هممهم، علهم يقبلون على هذا المنجم البكر فيستخرجوا كنوزه، ويَعرضوا على الناس جواهره.

والله الموفق للصواب.

ص: 17