الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هجرة معلم
يرى كل من يعبر البادية من شرقها إلى غربها (إذا هو قارب الساحل) سلسلة طويلة من الجبال، تلوح له من مسيرة أيام، زرقاء كأنها معلقة فوق الأفق أو غارقة في السماء. ولكن هذه الجبال تَضِحُ كلما دنا منها وتستبين، حتى إذا بلغها ألفاها بناءً عظيماً من الصخر الأصم، إذا حاول أن يتقصّى بنظره أعاليه سقط عقاله عن رأسه ولم ير شيئاً لأن أعاليه غائبة وسط السحاب المتراكم، فيقرّ في وهمه أنما هو جدار قائم يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويقف حياله خاشعاً خاضعاً شاعراً بالمذلّة والهوان.
هذه هي السلسلة الهائلة التي تخرج من الجنوب (من البحر) ثم تضطجع على الرمال بصخورها وجلاميدها، وأوديتها التي لا قرار لها، وذُراها التي ليس لها عدد، وسفوحها التي يضل فيها الهدى، وثناياها التي تموت فيها الحياة، وصمتها المهول، وجلالها الخالد
…
تضطجع متمددة بهذا الجسم الأزلي الجبار، حتى تُصاقِب (1) الشام وتبلغ مشارفه، فتهبط سفوحها مترفقة سهلة متتالية حتى تفنى في تلك السهول الخضراء.
* * *
(1) صاقَبَ الشيءَ مُصاقَبة: قاربه وواجهه (مجاهد).
إذا قُدّر لك أن تتوغل في هذه الأودية العميقة الموحشة، ثم تتسلق هذه الجبال ترتقي من ذروة إلى ذروة حتى تبلغ تلك القُنن (1) الشامخة التي لا يعلوها شيء، رأيت فيها طوداً باذخاً قد شهق واستطال في السماء، واستعرض حتى ضاعت جوانبه في هذه الجبال التي تتشعب من حوله صاعدة منحدرة في تسلق واتساق، كأنها الأمواج العظيمة في البحر الهائج الغَضوب، لولا أن ماءها الرمل والحصى وجَلْمَد الصخر، وأن عمر الموج ساعة وأنها من لِدات الدهر
…
كما ضاعت أعاليه في الغمام المسخر بين السماء والأرض.
على ضهر (2) هذا الطود، فوق قلعة من تلك القلعات الراسيات، كانت ترقد القرية ببيوتها ودروبها وبساتينها، متوارية مختبئة ضالّة في فلوات السماء، تشرف على الأرض من فوق السحاب فلا ترى منها إلا خيال هذه الصحارى الواسعة يبدو من بعيد موشّىً بالرمال المتسعّرة الملتهبة والسراب الذي يظل أبداً لامعاً خدّاعاً كأنه الحياة الدنيا! هذه الصخور وهذه الأودية وهذه الصحراء هي - عند أهل القرية - الوجود كله!
في طرف من أطراف هذه القرية كان يجثم بيت صغير منفرد قائم على شفير الوادي. إذا أنت دخلته لم تجد فيه إلا طائفة من
(1) القُنَن والقِنان جمع قُنّة، وهي من أي شيء أعلاه. والقُنّة -أيضاً- الجبل المنفرد المرتفع في السماء (مجاهد).
(2)
الضهر (بالضاد) أعلى الجبل، ومنه «ضهور الشوير» من سواحل الشام.
الأولاد يجلسون على حصير قد مات وفني وتقطعت أوصاله من قبل أن يولدوا، وشاباً على حشية قد طعنها الزمان فنثر أحشاءها. والشاب غض الإهاب حديث السن، ولكن نظرة واحدة إلى عينيه تريك أنه قوي الإرادة ماضي العزيمة، وأن له وقار شيخ في السبعين من عمره.
وبيد الشاب عصا طويلة، يشير بها ويهزها فوق رؤوس الصبية وينال بها من أبشارهم، على حين يجيل فيهم نظرات مشتعلة يتطاير منها الشرر الأحمر تلذع أفئدتهم كلذع العصا أجسامَهم.
تلك هي مدرسة القرية وهؤلاء هم تلاميذها، أما الأساتيذ فعقيل صاحب المدرسة، وزميله الشاب: كُلَيب!
وكانت أمسية طلقة، أراق عليها الربيع بهاءه ورواءه، فصرف كليب التلاميذ ووقف على باب المدرسة - على عادته في كل مساء - ينظر إليهم وهم يقفزون من عتبتها، مفاريح بالنجاة من المعلم وعصاه الطويلة وسحنته المنكفئة المقلوبة أبداً، مماريح يضحكون للحرية والجمال والانطلاق، يعدون إلى القرية عدواً
…
حتى إذا غيبتهم هذه الجدران في أطوائها، ولم يبقَ منهم في الرحبة أحد، وسكنت الحركة فيها، وسكتت الضوضاء التي انبعثت من أفواههم الصغيرة وحناجرهم الدقيقة الرنانة
…
زفر كليب (المعلم الشاب) زفرة أليمة اقتلعها من أعماق صدره، وألقى عصاه، وولّى ووجه شطر الصحارى البعيدة يفتّش فيها عن الطريق إلى أمنيتّه التي طالما جاشت في نفسه، وعاودته، وكرت عليه، حتى أمست له فكرة لازمة، وبات لا يعرف غيرها ولا يفكر إلا فيها ولا يعيش إلا
لتحقيقها. وطالما حلم في نومه وفي يقظته أنه قد بلغ أمنيته فنعم بها ومرح في جناتها، ولكن الحلم يتصرّم وتعود الحقيقة الواقعة بوجهها الكالح القبيح، فيرى أنه لم يصل إلى شيء.
ولّى وجهه شطر الصحارى. ولكنه لم ينظر إليها، وإنما جاز به خياله فيافيها المهلكة وقفارها الواسعة إلى تلك البلاد التي يسمع عنها، ويتسقط أحاديثها، ويحمل لها في نفسه أجمل صورة تنفرج عنها مخيّلة شاعر ملهَم أو مصور فنان (1)؛ إلى البلاد التي يعرش فيها الياسمين وينمو الآس ويُزهر التفاح والسفرجل، وتسيل الينابيع متحدّرة من أعالي الجبال الشجراء
…
فوقف يحلم بالوصول إليها ويتأمل صورتها التي صنعها خياله، وأقامها أمام عينيه خاشعاً خشوع العابد في محرابه، مَشوقاً شوق المحب المتيّم إلى صاحبته، مستغرقاً استغراق الصوفي في مراقبته والحالم في أحلامه، لا يحس مما حوله شيئاً!
وظل واقفاً شاخصاً إلى الأفق غارقاً في تأملاته، حتى لاح على الأفق من ناحية المشرق سواد خفيف، لم يلبث أن اشتد حتى شمل الصحارى النائية، ثم امتد حتى عم القفر كله، ثم تسلق السفوح حتى غمر القمم الواطية، ثم وصل إلى الذرى العالية فلفها هي والقرية في ثوبه القاتم وأحال الكون كله كتلة من الظلام
…
عند ذلك انتبه كليب وأفاق من ذهلته، فذهب إلى منزله خائباً يجر
(1) ما في استعمال هذه الكلمة بأس، ولو كره المتحذلقون.
رجله جراً، وبات أَرِقاً مسهداً، ينتظر انبلاج الفجر ليحمل عصاه ويعود إلى صبيانه.
* * *
لم يكن كليب جاهلاً ولا محمّقاً، وإنما كان أديباً أريباً فطناً ذكياً، من أبلغ الناس لساناً وأجرئهم جناناً، وكان من أحفظهم لكتاب الله، وأبصرهم بالشعر، وكان فتى بادي الفتوة، قوياً ظاهر القوة، لا يعرف اللهو ولا يميل إلى اللعب، ولكنه يعرف الجد في أموره كلها، ويحب النظام، ويميل إلى الصدق، ويأخذ تلاميذه وأصحابه بشيء من القسوة أحياناً، واللين حيناً، وكان يجنح إلى الحزم ولو اضطره الحزم إلى كثير من الشدة والصرامة.
ولم يكن يؤخذ عليه إلا هذه الأمنية التي كانت تخرج به - في كثير من أيامه - عن الوقار والحزم، وتدنو به - أحياناً - من اليأس والضعف، وتَعرضه على عيون الناس خفيفاً طياشاً، وهو الرزين الوقور، وتلقي الخلاف بينه وبين شريكه وزميله عقيل، الذي كان أعرق منه في الصناعة، وأعلى في السن، وأكثر اختباراً للحياة، وإن كان دونه في مضاء عزيمته وقوة شخصيته. حتى لقد اضطر عقيل إلى لومه مرراً، وحاول مرة أن يسخر من هذه الحماقة التي ملأت رأسه وأن يصرفه عنها، وأن ينتزع من نفسه الرغبة في الإمارة والسلطان
…
ولا يجد ما يقوله فيصمت هو أيضاً ويعاودان العمل.
وكثيراً ما كانت تطغى على كليب أحلامه، فتغلب عليه
وتستأثر به، فينسى حاضره الواقع ويعيش في مستقبله المأمول، فيحس كأنه في دست الملك لا على حشيَّة المعلم، وأن أمامه الحاشية والأعوان لا الأولاد والصبيان. فيرفع صوته آمراً ناهياً، ويستغرق في أمره ونهيه، ويعجب التلاميذ وتتحرك في نفوسهم طبائعهم العابثة، فتستبق القهقهات إلى شفاههم، ثم تجمد عليها يردها خوفهم من هذا المعلم العابس وخشيتهم إياه، ثم تغلبهم طبائعهم فينفجرون ضاحكين صائحين
…
فيتنبه المعلم الشاب فيُبلسون، ويزعق فيهم فيسكتون. ويتكرر ذلك، ويقصه الأولاد على آبائهم وأهليهم فيكذّبونه باديَ الرأي، ثم يصدّقونه، ثم يشيعونه في البلاد، فيصبح ملء الأفواه والأسماع أن كليباً المعلم الشاب قد أصابه طائف من الجن، فيأسفون ويحزنون لما عرفوا فيه من البلاغة وما آنسوا فيه من الرجولة والحزم، ولكنهم لا يعجبون. وهل يعجب الناس من معلم يجن؟ إنما يعجب الناس من المعلم إذا بقي عاقلاً وهو يعاشر أبداً هؤلاء التلاميذ!
* * *
وفي ذات صباح غدا التلاميذ على مدرستهم فلم يجدوا معلمهم الشاب، وكان دأبه أن يسبقهم، فانتظروه فلم يحضر، فذهبوا يطلبونه في بيته، فعلموا أنه باع بيته ليلاً وقبض ثمنه. ففتشوا عنه في كل مكان يظنون أنه يأوي إليه
…
فتشوا في كل زقاق من أزقة القرية، وفي كل ذِروة من هذه الذُّرى القريبة منها، وكل صخرة من هذه الصخور القائمة من حولها. فلم يجدوا له أثراً!
ولما راح الرعاة في المساء سألوهم عنه، فقالوا: لقد رأيناه
منذ الصباح ينحدر وحده يقفز من حجر إلى حجر، فحييناه فلم يرد علينا تحيتنا لأنه كان ذاهلاً قد تعلق بصره بالأفق النائي
…
ونظن أنه سار يومه كله، ولن تدركوه أبداً لأنكم لا تدرون أي سبيل سلك!
فاسترجع أهل القرية، واستعبروا أسفاً على أن جُنّ هذا المعلم الشاب، وأيقنوا أنه سيموت في هذه البادية وحيداً شريداً.
* * *
سار كليب يومين كاملين على غير ما طريق مسلوك أو جادة واضحة، يبتغي المنازل والمنحدرات، تسلمه كل ذروة إلى التي تحتها وكل سفح إلى الذي يليه، لا يحس تعباً ولا يخشى أذى لأن آماله قد ملأته شجاعة وصبراً، ثم إنه كان في أول الطريق، فهو لا يزال نشيطاً قوياً ولا يزال زاده كاملاً، ثم إن الحر لم يكن قد غمر هذه الجبال، وهي - بعد - في أواسط الربيع. فلما بلغ الصحراء (والصحراء لاتعرف، إذا استَعَرت شمسها وحميت رمالها، ربيعاً ولا خريفاً)، ولما أوغل فيها واحتواه جوفها، ونفد ما حمل من الزاد، والتهبت شمس الضحى التهاباً، وغلى الهواء غلَياناً
…
جففت هذه الشمس أحلامه الندية وأحالتها بخاراً، وطيرت أمانيه من رأسه، ووضعت عقله في جلده ومعدته، فواجه الحقيقة الواقعة؛ فإذا الصحراء الرحيبة الرهيبة تضيق به، وإذا هو يرى حيثما تلفت شبح الموت المروّع، بعظامه البادية وفكيه المرعبين وجمجمته الفارغة، يتراءى له على الأفق البعيد، يرقب أن يعانقه قبل أن يصل إليه. ويتمثل ذلك في خاطره فيشعر ببرودة هذه
العظام البادية تسري في جسمه، ويتصورها ملتفة حول عنقه فيحس بالقشعريرة تمشي في أعضائه، فيغض بصره عن الأفق فيتراءى له الشبح في هذه الرمال، ويخيل لنفسه أنها ليست إلا قبراً مفتوحاً فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف ركبتيه، فيرفع نظره عن الأرض، فيتراءى له الشبح في هذه الشمس التي تسكب عليه وعلى البادية وهج جهنم، فيغمض عينيه، فيتراءى له الشبح في الجوع الذي يلهب أمعاءه والعطش الذي يحرق جوفه والضلال الذي يملأ يومه وغده
…
ثم يزول النهار، ويشتد أوار الشمس ويبلغ لهيبها قرارة دماغه، فينسى الجوع والعطش ولا يبتغي إلا شبراً من ظل
…
فيعدو كالمجنون ههنا وهاهناك، والصحراء مبسوطة كالكف ليس فيها غار يأوي إليه ولا صخرة يستظل بها، ولا بشر يلجأ إليهم ولا شجرة يستذري بها، فينبش في الرمل بيديه وأظافره ليجد في بطن الأرض رطوبة يدس فيها أنفه ليريح رائحة الحياة، ويوالي النبش بجنون ثم يطمر رأسه في الرمل، فلا يزيد على أن يدفن نفسه حياً في رماد حار
…
فيجفو الرمل وينطلق يعدو حتى ينقطع ويعلوه البُهر (1) ويحس بأنه سيختنق، فيقبل من ضيقه يلطم وجهه بكفيه وينتف شعره بيديه، ويلعن المجد والسلطان، ويلعن هذه الصحراء، ويلعن نفسه حين استجاب لهذه الحماقة فخاض الصحراء وألقى بنفسه في جوفها الملتهب.
يندم أشد الندامة ويتمنى لو وجد إلى العودة سبيلاً، وهيهات
(1) البُهر: تتابع النفَس من الإعياء (مجاهد).
أن يجد إلى العودة من سبيل! لأن بينه وبين القرية هذه الجبال التي لا آخر لها، وهذه الصحراء وهذه الأودية، فإذا قطعها واستطاع أن يعرف طريقه بين آلاف التلال المتشابهة وآلاف الصخور المتشاكلة لم يعرف طريق النجاة من سخرية قومه، وهزء صبيانه. وهو ما لا يطيقه أبداً ولا يصبر عليه، ويرى الموت أخف منه حملاً وأحلى مذاقاً.
وراح يذكر تلاميذه الصغار وطاعتهم إياه وحبهم له، ويذكر بغضاءهم وعصيانهم، ويذكر براءتهم وسذاجتهم، وخبثهم وشيطنتهم، ويذكر لينهم ويذكر قسوتهم
…
فإذا هو يشعر بالحب لهم، ويغمره هذا الحب ويكون لقلبه برداً وسلاماً، ولمعدته رياً وشبعاً، ولروحه حياة. وينظر بعين الحب إلى قريته، ويعرضها كلها بطرقها وبيوتها وبساتينها وهذه المعابر التي سلكها مرات لا يحصيها عد، ويرى داره ويبصر كل حجر فيها وكل زاوية منها
…
ثم ينظر إلى هذه الصحراء المترامية حوله، فإذا بها قد ابتلعت هذا الحب وجففته! وحياة الحب قصيرة المدى. وإذا به يحس بالألم، ويشم من حوله رائحة الموت، ويرى نفسه نبتة اجتُثت من الأرض وقُطعت جذورها، ثم ألقيت على هذه الرمال التي يُشوى عليها اللحم (1) لتجف وتعود حطبة يابسة بعد إذ هي غصن مورق فَيْنان،
(1) لا على المجاز، بل الحقيقة التي رأيناها في بوادي الحجاز رأي العين في رحلتنا التي كشفنا فيها طريقاً للسيارات من دمشق إلى مكة سنة 1935م، وكانت سياراتنا أول سيارات سلكت هذه البادية من يوم خلقها الله.
ويخيل إليه أنه فقد حياته كلها حين فقد بلده وأهله وسعادته، فيلقي نظره على هذه الجبال التي خلفها منذ يومين فإذا هي بعيدة، بعيدة جداً، تبدو له خلال السراب اللامع كأنها صورة الأمل المنير، لا تكاد تظهر
…
فيسترجع نظرته اليائسة مغسولة بدموع الندم، ويوغل في جحيم الصحراء، تائهاً، يائساً، يمشي إلى الموت.
* * *
حتى إذا أطفلت (1) الشمس، ثم ضعفت وشحب لونها، ثم أسلمت الروح فلبس الكون كله الحداد، ثم برد الرمل واستحال إلى فراش لين جميل ولاحت في السماء النجوم واضحة قوية
…
شعر المعلم الشاب بالراحة فاستلقى على قفاه، يتنفس الصعداء من هول هذا اليوم ويتأمل النجوم، ويبصر امتداد الأرض والسماء من حوله؛ فيعجب من جمال الصحراء وبهائها وينتشي بنسيمها الرخي الناعش وسكونها الشامل وجلالها المهيب، ولا يستطيع أن يتصور كيف كان هذا العالم الجميل الفتان يموج قبل ساعات بأشباح الموت وتهاويل العذاب.
ورجع (2) الليلُ إلى الفتى المعلم حماستَه ونشاطه، وأترع
(1) أطفلت الشمس وطَفَلت طَفْلاً وطُفولاً: مالت للغروب (مجاهد).
(2)
رَجَعَ هنا فعل متعد بمعنى أرجع، كما في القرآن:{لئِنْ رَجَعَكَ اللهُ إلى طائِفَةٍ منهم} . وباب فعل وأفعل بمعنى واحد باب في اللغة كبير، وقد وجدت السرقسطي (في معجمه المفرد في بابه، «كتاب الأفعال»)، يبدأ به كل باب فيقول: فَعَل وأفْعَل بمعنى. مثل (مطرت=
نفسه قوة وحياة، فرأى أمله الذي بخّرته شمس الضحى قد عاد رطباً ندياً، فجلس وحيداً بين هذه الملخوقات العظيمة: النجوم والسماء والليل والصحراء، يناجي أمانيه ويرسم طريقه إليها. وكان الليل ساكناً هذا السكون العميق الذي لا تعرفه المدن، ولا تدريه القرى، ولا يقدر عليه البحر، وإنما تعرفه الصحراء العظيمة بصمتها وضجيجها وقوتها ولينها، فراقه هذا السكون وملك عليه لبّه، فأصغى إليه إصغاء شديداً، فكان يسمع فيه نشيداً سرمدياً متصلاً، له من الروعة في القلب والأثر في النفس ما لا يكون مثله لهذه الموسيقى المتكلمة الهزيلة الصاخبة الضاوية، التي تخرج من أفواه ضيقة أو آلات حقيرة جامدة، وإن هي عظمت فإنما مخرجها أغصان الدوح الذي يرتل ترتيلة العاصفة، أو السحاب الذي يغني أغنية الرعد، أو البركان الذي يزأر زئير الموت
…
أما الصمت فهو نشيد الصحراء الخالد وأغنية الوجود كله!
غير أن هذا الصمت ينقطع فجاءَة، ويحمل نسيم الليل الهادئ إلى أذن المعلم الشاب صدى أصوات بعيدة وعميقة، كأنها خارجة من أجواف الغيران أو من بطون القبور. فلم يدرِ أهي من صنع الواقع أم هي من تزوير الخيال. ولم يحفلها، لولا أن النسيم حملها إليه كرّة أخرى وهي أقوى وأشد وضوحاً. ثم تبين فيها حداء حلواً، فتخيل القافلة وهي تضرب في الرمل الناعم البارد، والإبل
= السماء وأمطرت، وحلَّ من إحرامه وأحلَّ منه، وحدَّت المرأة على زوجها وأحدَّت). وقد يأتي «فَعَل وأفعل» بمعنى واحد لازماً، وقد يأتي متعدياً، وفي هذا الباب مئات من الأفعال ومئات (مجاهد).
وقد راقها هذا الحداء فمدت أعناقها وأوسعت خطوها وهي طَرِبة سَكرى بخمرة الألحان، ولمس الفرَج يأتيه من حيث تأتي القافلة، وأرهف أذنيه يتسمع هذا الصوت الذي يدنو أبداً يحمل إليه الأمل والسعادة، فإذا بالصوت يتخافت ثم يضمحل وهو أشد ما يكون طرباً به وسروراً، ويسيطر على البادية هذا الصمت العميق، فيألم المعلم الشاب ويحس بالخيبة تحز في قلبه، ويضيق بهذا الصمت الذي كان ينعم به منذ لحظات.
وتنعقد السحب فتحجب عن عينيه هذه النجوم المتلألئة (أو يخيل إليه أنها حجبت عنه)، فيدور ببصره، فلا يرى إلا مخلوقاً واحداً هائلاً يحف به من كل مكان فيحس بالرعب، وتثقل عليه هذه الوحدة الموحشة تحت ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة الصمت، وظلمة الخيبة
…
ويهم بالتصريخ، ولكنه يقر ويسكن حين يرى هذه النجوم قد ظهرت دانية قريبة، كأنما هي قد استقرت على الأرض على قيد ذراعين منه، تتراقص على ظهر اللجة السوداء تحاول أن تخترق حجب الظلام بأشعتها الكابية الكليلة. وما ينفكُّ يحدق فيها، تختلط أفكاره في رأسه ويحس بأنه قد هوى في وادٍ مظلم سحيق
…
ثم لا يحس بعد ذلك شيئاً لأن النوم قد غلب عليه وهو في مكانه.
ويشعر المعلم الشاب بيد قوية تهزه هزاً فتقف كل شعرة في جسمه، ويفيق مذعوراً يظن أن الجن تداعبه وتوقظه، فيضغط جفنيه ضغطاً شديداً ويستر وجهه بكفيه، ولكن هذه اليد تقبض على كفيه فتنترهما نتراً، وتخالط أذنه أصوات عجيبة ولغط وضوضاء؛ فلا يشك في أنها أصوات الجن، ويفتح عينيه مضطراً
فإذا هو مسحور، قد بلغ منه السحر أن حجب عن عينيه هذه الظلمة الثقيلة التي كان يغيب في أثنائها وطمس أضواء القافلة الكليلة التي كانت تتراقص أمام عينيه، وبدّل كل شيء في لحظة واحدة
…
فإذا الدنيا ممتلئة إشراقاً وضياءً، وإذا هو قد انتقل من الصحراء الجرداء إلى دنيا تَمورُ بالأحياء وتموج بالناس، فيبالغ في فتح عينيه وقد كاد يجن لفرط الدهشة
…
ولا يشك أن هؤلاء الذي يرى طائفة من الجن. ثم يعود إليه وعيه ويصحو من نومه، فيتلو قول الله تعالى:{يراكُم هُوَ وَقَبيلُهُ مِن حَيثُ لا تَرَوْنَهُمْ} ، فيعلم أن ليس هؤلاء جناً لأن الجن لا يمكن أن يراهم بشر، ولكنه لا يزال على شكه. أين هو؟ وما هذا الذي يرى؟ فيقول لمن كان يوقظه: أسألك بالذي تحلف به إلا ما أخبرتني أين أنا؟
- أين أنت؟ أنت في هذه البادية!
- في هذه البادية؟ وما هذه الـ
…
- ويلك يا رجل! لقد حبست القافلة.
- اسقوني شربة ماء.
فيمضي الرجل ليأتي بالماء، ويحدث كليب نفسه: إذن، فأنا قد نمت إلى الصباح.
- خذ واشرب.
- الحمد لله. أشكركم.
- لقد حبست القافلة.
- وماذا تريدون مني؟
- نريد أن نعرف من أنت. إنا لنظنك عيناً للعدو، فمن أين أتيت؟
- أتيت من أعالي هذه الجبال أريد الشام، فضللت ونفد زادي وصهرت دماغي شمسُ الأمس، فعدت أركض على غير هدى حتى انتهيت إلى هذا المكان
…
ولست عدواً لأحد.
- وما اسمك؟
- اسمي كليب، من آل أبي عقيل. وأريد الشام، فهل تمنّون علي فتحملوني معكم؟ هذه هي دراهمي.
ويفرغ كيسه على الرمل، فتتكوم الدارهم والدنانير تنعكس عليها أشعة الشمس فيخطف بريقها البصر.
- وفر عليك دراهمك؛ إنّا لا نرزؤك شيئاً. أنت في حمى هذا السيد، فاركب جملك راشداً.
ويطغى الفرح على نفس المعلم الشاب حين يقدمون إليه هذا الجمل القوي البازل، وينسيه أن يسأل عن هذا السيد الذي أصبح في حماه، وأن يشكره. ويعلو متن الجمل ببراعة الأعرابي وخفة الشاب الجبلي، ويسير به الجمل وهو يقلب بصره في هذه القافلة العظيمة، فلا يستطيع أن يدرك به آخرها أو يحيط بها، ويأخذه العجب حين يرى مِن حوله مدينة كاملة (برجالها ونسائها وبيوتها وحاجاتها وجندها وحماتها) تنتقل تحت عين الشمس.
ثم يشرع الحادي بأغنيته فيصغي إليها كليب حالماً مأخوذاً.
* * *
طوت القافلة الفلوات، تتجنب الطرق المسلوكة وتنأى عن القرى القليلة القائمة في الصحراء بين دمشق ويثرب، لئلا تجد فيها ما تخشاه في هذه الأيام المضطربة الحافلة بالثورات والحروب. وكان أصحابها دائبين ينزلون النهار إلا أقله، ويمشون أكثر الليل وجانباً من النهار، يتجنبون حر البادية ووهج الشمس، حتى رأوا «بصرى» تلوح لهم في اليوم السادس عشر، يبسم طيفها خلال أشعة الطَّفْل، فوثبت إليها قلوبهم، وطارت أمانيهم، وجدّت القافلة المسير؛ دأبَ المسافر إذا دنا من بلد أو شارف غاية. وكان المعلم الشاب أشدهم طرباً وفرحاً، فطفق يحدق في هذا الطيف ويتأمل هذه الرمال، يستمتع بأحلامه البهيجة الحبيبة، فيرى الرمال إذ تمتد في اتزان عجيب من قلب الجزيرة إلى أسوار بصرى، يحملها هذا التيار المنبثق من قلب بلاد العرب فيصبها في أرض الشام فتغمرها بروح الجزيرة وتعلمها معاني الرمل
…
ومن معاني الرمل أن تكون الأمة مجتمعة كالرمل، كثيرة كالرمل، خالدة كالرمل، صابرة كالرمل.
ويغيم طيف المدينة ويظلم ثم يختفي في ثنايا الليل، ولكن المعلم الشاب لا يزال ممعناً في التحديق، قد نسي القافلة وغفل عن الزمان، فلم يبصر اختفاء المدينة، وإنما كان يبصر أحلام الجزيرة التي استهوته حتى استسلم إليها ووضع في يدها قياده، فساقته إلى عالم ناء لا يدرك العقل قرارته ولا يبلغ غوره، عالم يفيض بالفتون والجمال والسحر، فظل يستمتع بفتونه وجماله أمداً طويلاً
…
ثم قادته الذكرى إلى ماضي الجزيرة، فإذا هو يراها ممحلة مجدبة، قد تعرت من الخضرة كما تعرت من الحضارة،
وغاضت فيها ينابيع الماء كما غاضت ينابيع العلم. ثم يرى رجلين يسيران من «أُم القرى» إلى تلك «المدينة» النائمة بين الحرّتين، فينبت الزهر تحت أقدامهما، وتخضرُّ الرمال التي يطؤونها، وتكتسي البادية من حولهما أثواب الحياة. ويرى هذا الرجلَ يستقر في تلك «المدينة» فيبعث من بين حَرّتيها صيحته القوية، فيوقظ النيام ويحيي الجماد ويبعث في النفوس الفضائل والأمجاد، فإذا الجزيرة برملها وصخرها وشمسها المحرقة وجبالها الصلدة تسير وراء محمد صلى الله عليه وسلم (أعظم إنسان وأفضل نبي) لتحمل الحياة إلى سهول الشام والعراق. يا عجباً، يا عجباً! الصحراء القاحلة تمنح الحياة للسهول والبساتين؟!
رأى الجزيرة تمشي وراء محمد صلى الله عليه وسلم لتكون موقد المعركة الحمراء التي أكلت الظلم والرذيلة والطغيان، ثم تمشي ثانية لتكون رمالُها بذورَ الأزاهير والأشجار في السهول الخضراء، ثم تمشي مرة ثالثة لتكون قرائحها وأدمغتها مادة هذه الصحف المجيدة البيضاء، ثم، ثم
…
ثم بالغ رفيقه في هزه فانتبه كليب.
- أفي كل يوم إغفاءة أو إغماءة؟ ما لك أيها الرجل؟
-
…
- انزل؛ هذه أسوار بصرى.
* * *
نزلت القافلة تحت أسوار بصرى في موهن من الليل، فلم تبصر في بصرى إلا قطعة من الظلام الراكد، ولم تجد أثراً لذلك
الطيف البراق الزاهي الذي كان يتراءى لها راقصاً على أشعة الطَّفَل. فهجعت مكانها تنظر الصباح.
نامت القافلة يحرسها الحراس، ونام كليب نوماً عميقاً لا يطفو على وجهه حلم، حتى أحس بأنفاس الفجر الباردة على خديه، ففتح عينيه، فرأى طلائع الفجر تضطرب تلقاء المشرق في خطوط ضعيفة كأنها أضواء المصابيح الكليلة، فراقته وتعلق بها بصره. وما شيء يمتلك لب الرائي ويأخذ عليه مشاعره مثل انبلاج الفجر في الصحراء، حين يكون سفير النور، ومهبط الآمال على هذه النفوس التي ملت ظلام الليل وما يعيش في الظلام من مصائب وأوهام. ولم يستطع كليب أن يحمل وحده كل هذا الجمال، وأحب أن يجد صديقاً يشاركه حمل الشعور فكان يلقي على رفيقه النائم (من غير أن يحول وجهه عن المشرق): ما أجمل هذا!
وكان صوته هامساً خافتاً كأنه كان يناجي نفسه، فإذا لم يجبه أحد وطغى عليه شعوره عاد يقول: ما أجمل هذا! ألا ترى؟
وكان الفجر قد انبلج واستوى عموده، وامتدت خيوطه فإذا هي تملأ الفلاة كلها، وتَحْسِر عن هذه المشاهد التي كانت مخبوءة وراء حجاب الليل، فإذا هي بارعة فتّانة. ولم يكن صاحبنا المعلم قد رآها من قبل، فشُده حين ظهرت له بغتة كأنها لوحة فنية أُزيح عنها غطاؤها، أو كنز فُتح له بابه، أو متحف فيه كل جميل أخّاذ أُضيئت له جوانبه؛ فلم يدرِ أين كان هذا كله مخبوءاً، وحارت نفسه بين خضرة البساتين التي تحف بالبلد: أينعم النظر إليها ويذوق حلاوتها بعد هذه الأيام الطويلة التي ذاق فيها مرارة البادية،
ويصغي إلى تهامس أوراقها المتلاصقة ونجوى أفنانها المتعانقة، أم يتأمل هذه البنى العظيمة التي أودعها الفنانون أبدع ثمرة من جنى قرائحهم الخصبة، ونزلوا لها عن أجمل نتاج لعبقريتهم ونبوغهم، لتكون عروس البادية، تخطر بعظمتها وجمالها وتتهادى بزخرفها وزينتها على الرمال الخالدة.
وكان الفجر قد امتد إلى نفس المعلم الشاب، فأضاء له عوالمها كما أضاء هذا العالم، وحسر له عن آماله التي كانت مختفية في ظلام الأسفار كما كانت هذه المشاهد غائبة في سواد الليل، فعاد إليها وتمثلها قوية ظاهرة، وأحس كأن فجر حياته الماجدة قد انبثق فختم صفحة هذا الليل الأسود الذي قضاه معلماً في أعالي الجبال، ليفتح صفحة النهار الوضاء الذي يقضيه في المدن الكبيرة أميراً عظيماً. وتلهّى بأحلامه عن هاتين اللوحتين اللتين حار بينهما أولاً: اللوحة التي وشاها الربيع واللوحة التي زينها الفن، وانطلق يفكر في دمشق: ماذا تكون إذا كان هذا كله لقرية من قراها؟
* * *
بقيت القافلة في بصرى ريثما باعت واشترت وقضى تجارها وطراً من الربح والكسب، ثم توجهت تلقاء دمشق. وكان المعلم الشاب يكلف ذهنه ضروباً من الكد ليُمثّل له صورة لدمشق تشبه ما كان يسمع عنها من الأخبار التي كانت تشيع في الأرض، حتى تبلغ تلك الذرى العالية التي تهجع عليها قريته فتُنشَر فيها مكبرة منفوخة مكسوة بأنواع المبالغات: تُصوّر له دمشق جنة كالتي وُعد
المتقون، لها من العظمة والجلال ما تتضاءل أمامه عظمة «المدائن» التي كان يتحدث بها العجائز من قومه، وتُخيّل له من جلال الخليفة وضخامة سلطانه ما يصغر معه ملك كسرى ويهون
…
ولِمَ لا؟ وملك كسرى كله عمالة من عمالات الخليفة وولاية من ولاياته!
كان المعلم الشاب يكد ذهنه ليتصور دمشق ويتبين طريقه إلى النجاح فيها، وكان يحسب - لطول ما عزم على السفر وتردد فيه، ولعظم ما لاقى من الأهوال والمشاق - أنه ليس بينه وبين المجد والولاية إلا أن يهبط دمشق، فإذا هو والٍ أو أمير!
وكانت القافلة قد علت نشزاً من الأرض فانكشفت أمامها دمشق العظيمة؛ أقدم بلدان الأرض وأجملها، وهي في مثل حلة العروس، يضحك في أعطافها الجمال، تميس بثوب العرس الأبيض الشفاف الذي نسجته أكف الربيع من زهر المشمش الهفهاف، تموج في خديها دماء الشباب ظاهرة في زهر الدراق الأحمر الفاتن، وعبق أزهارها يعطر الجو كله، الأرض والسماء والجبال والصحارى المجاورة
…
فأُخذ كليب بها أخذاً، ورقص لها قلبه، وفتن بها فتوناً. ومن ذا الذي يرى غوطة دمشق (وهي في ثوب الربيع) ثم لا يرقص لها قلبه ولا يفتن بها فتوناً؟ ومن ذا الذي يقطع عرض الفلاة، حيث يعتدّ ظل الصخرة القائمة جنة حادرة، ويرى الحشيشة الخضراء روضة الدنيا، ويرى البئر الآسنة مورداً صافياً، ثم يطل على الغوطة، جنة الأرض حقاً وروضة الدنيا، بأشجارها المزهرة المتعانقة وأدواجها الباسقة، وعيونها الدافقة وأنهارها الرائقة، ووردها وزهرها، وطيبها وعطرها، وفتونها
وسحرها، ثم لا يجن بها جنوناً؟ وهل عدّ العرب الغوطة إحدى الروائع الأربع في متحف الطبيعة إلا بعد نظر وفكر؟
كان كليب سابحاً في أحلامه وهو أشد ما يكون بها استمتاعاً حينما ارتفع هذا الغبار من ناحية الشرق عالياً عريضاً، راع القافلة فوقفت تنظر إليه مذعورة. فجفا أحلامَه ووقف مع القافلة ينظر، فإذا الغبار يعلو، ثم تضربه الرياح فيتفرق، ثم يعود فيجتمع.
ويفزع رجال القافلة الكبيرة ويظنون الظنون، ويصغي كليب إلى حديثهم فيفهم منهم أنهم لا يدرون ماذا يُراد بهم ولا يعلمون ما هذا الغبار، ويوغلون في الحديث ويتشقق بينهم، فيكشف لكليب عن أشياء كثيرة لم يكن يعرفها وهو في قريته العالية. يعلم كليب أن الدولة في أزمة من هذه الأزمات الخطرة التي تعرفها الدول حين تعصف بها عواصف الانقسام والحرب الداخلية، وأن عبد الملك قلق مُسهَد لا ينام الليل إلا لماماً، فإذا هجع رأى شبح ابن الزبير ينقضُّ عليه فقام مرتاعاً، يخشى أن ينتزع منه الشام ومصر كما انتزع الجزيرة كلها والعراق وخراسان وصار الحاكم المطاع في شرق البلاد وجنوبها، وطالت مدته وامتد حكمه.
ثم تنقطع أحاديث القوم، وينظرون إلى الغبار الداني وسيوفهم في أيديهم، ومقاتلتهم أمامهم مستعدون للقتال، فينشقّ الغبار عن الراية الأموية التي يبعث مشهدها الطمأنينة في نفوسهم، ويخرج من تحته بضع مئات من جند الشام، يخالطون القافلة الكبيرة ويكشفون أمرهم على عجل، فيعلم رجال القافلة أنهم حيال فرقة من حرس الصحراء خرجت من دمشق منذ أسبوع لتجول في هذه
الفلوات القريبة، تقيم العواصم والمخافر ثم تعود لتفسح المجال لفرقة أخرى، فتجاوزت حدها وأمعنت في الضرب إلى الجنوب حتى دخلت أرض ابن الزبير، والتقت بهذه الفرقة الحجازية التي كسرتها وردتها على أعقابها ولحقتها لتقضي عليها.
وهز هذا الحديث القصير رجال القافلة، فاصطفوا للقاء الفرقة الحجازية التي دنا غبارها، وتلفتوا يفتشون عن الرجل الذي يقودهم إلى المعركة ويشق لهم طريق الظفر ويُلزمهم طاعته إلزاماً، ولن يكون هذا الإلزام إلا بقوة الشخصية وبلاغة اللسان وكبر النفس، وكانت ساعة انتظار وتردد توجهت فيها الأنظار إلى كثير من السادة فخيبوا رجاء الناس فيهم، وأوشكت الفرقة الحجازية أن تصل وهم على جمودهم وانتظارهم. عند ذلك تقدم كليب الذي كان يغالب نفسه ويقسرها على السكون ويمسك بركان حماسته أن ينفجر؛ تقدم حين عجز عن ضبط نفسه، ففتح له طريقاً وسط الفرسان وقد رأى أمانيّه أدنى إليه من أنفه، ومضى فيه مضي السهم حتى صار في رأس القوم، وهم يعجبون منه، وينتظرون أن يقودهم كل رجل في القافلة إلا هذا الشاب الذي أمضى طريقه كله صامتاً حالماً، لم يتحدث بحديث ولم ينطق بكلمة، والذي يظنونه عيياً لا يبين ولا يعرب عن نفسه. ولكن عجبهم لم يطل، فإن الفتى انطلق يخطب فيهم خطبة صارخة مجلجلة تلتهب كلماتها التهاباً، وتحرك جملها الجلاميد الصُّم، وتدع الجبان المخلوع القلب وهو البطل الحُلاحِل (1). وكان صوته القوي يمشي إلى حبات القلوب
(1) الحُلاحِل هو السيد في قومه وهو الرجل الشجاع، وجمعه حَلاحِل (مجاهد).
فتصيبها منه رجفة كما يرتجف الرجل يمسك بسلكة الكهرباء، وكانت إشارة يده وسمات وجهه تنطق بمعانيه قبل أن ينطق بها لسانه، فتحرك الناس وتقودهم حتى كأنهم معلقون بأصبعه.
ولم ينته المعلم الشاب من خطابه حتى كان القوم قد خلعوا نفوسهم التي أضناها طول السفر، وأرمضها حر الصحراء، وأضعفها التردد والإحجام، ولبسوا نفوساً جديدة ماضية لا تعرف التردد، قوية لا تعرف التعب، مؤمنة بالظفر لا شك عندها فيه.
ولم ينته من خطابه حتى كان الجند الحجازيون قد وصلوا؛ فأطلق من فيه صرخة الحرب، وأغار كالقضاء النازل، ينشد أنشودة الموت والجند ومسلّحة القافلة من ورائه تردد النشيد فتميد له البيد. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى آثر الحجازيون السلامة، ففروا لا يلوون على شيء. واستراحت القافلة حيناً ثم أخذت طريقها إلى دمشق يقدمها كليب «المعلم البطل» .
* * *
كانت دمشق في زلزال شديد، وكان أهلها في هيجان واضطراب، ينتظرون المعركة الفاصلة بينهم وبين ابن الزبير، لينجو العالم الإسلامي من هذا الانقسام الذي ينكره الإسلام ويأباه أشد الإباء، ليعود إلى الوحدة التي جعلها أساس الحياة الدنيوية للمسلمين، كما جعل التوحيد أساس الدين.
ولكن أهل دمشق فزعون مشفقون على الخلافة الأموية أن تنهار وتتحطم، وهم بُناتها وحُماتها، يرقبون الأحداث ويتسقطون
الأخبار، ويعدون نفوسهم للتضحية الكبرى في سبيل المبدأ القويم والغاية السامية، كدأب المسلمين في كل عصر وآن.
وكان «قصر الخضراء» ، مثوى الخلافة وسرة الأرض، في حركة دائمة؛ فمن مجلس يُجمع للشورى، إلى ألوية تُعقد للدفاع. وكذلك كان قصر «مستشار الدولة» ، رَوح بن زنباع، الذي أمّه كليب المعلم الشاب صبيحة وصوله إلى دمشق، يقوده إليه زعيم الجند الذين أنقذهم كليب وأعانهم على عدوهم، ليلقى عند روح جزاءه.
وكان قصر روح قائماً في ظل المسجد دانياً من باب الفراديس، يجري من تحته بردى متوارياً في حِمى القصر ثم يظهر كرة أخرى، يتحدر ويهدر هديراً سائغاً عذباً وسط جنة دانية القطوف متشابكة الأفنان، قد اتخذ فيها مجلساً يقوم على سيقان من خشب الجوز المنقوش، منغمسة في بردى تغسلها أمواهه دائماً وتداعبها أمواجه الصغيرة، فتقرصها ثم ترتد عنها ضاحكة مقهقهة، وسماء هذا المجلس أغصان الأشجار قد تعاطفت وتعانقت يزينها الياسمين بزهره الناعم العطر، وحول هذا المجلس إطار من الورد والنسرين والنرجس والبنفسج، فهو جنة تنعم فيها العين بهذه الأزاهير المؤتلفة الألوان المختلفة الأشكال، تتمايل وتتهادى حين يسمها هذا النسيم الرخي، فيفوح من أعطافها هذا الشذا الطيب الذي ينعم الأنف برياه، كنعيم الأذن بهذه (الأوركسترا) الإلهية التي تعزف ألحان الفطرة الجميلة الساحرة على حناجر البلابل والشحارير، وبردى فوق هذا كله يغني لحنه
السرمدي، وتنعكس على صفحته المتموجة ألوان الزهر فيكون منها لوحة فنية تزري بألوان الغروب في لجة البحر.
والقصر طبقتان من الرخام الأبيض والأسود والمجزع، له رواق على بابه قائم على أساطين من المرمر، قد استفرغ صنعُها وتزيينها عبقريةَ البنّائين والمهندسين فبدت آية معجزة في لغة البناء، تحس لدقتها وإحكامها كأنما هي حية ناطقة نشوى بخمرة هذا الأريج العطر الذي يفوح من أشجار البرتقال والليمون، المكللة بالأزاهير، التي تنافس بعطرها الورد والياسمين، وأشجار المشمش التي تظهر بزهرها الأبيض الشفاف كأنما هي في حلة من الثلج الحي المعطر، وأشجار الدراق التي تبدو بزهرها الأحمر كأنما هي محب ورّد وجنتيه الخجل، وأشجار الحور سكرى تميس بثوبها الجديد الذي خلعته عليها أيدي الربيع
…
يتوّج هذا كله منارةُ المسجد الشاهقة في السماء، تنشر في الدنيا كلها العطر السماوي الخالد، وتريق عليها السمو والجلال، فتطهر الأرض من الشرك والرذائل وتطهر النفوس من المطامع والشهوات، وتهبُ على الوجود نسمة من نسمات الجنة حين يخرج منها النداء:«الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» .
كانت دمشق (وما تزال، وستبقى دمشق) جنة الأرض، ودرّة تاجها، وواسطة عقدها؛ ليس في الأرض أجمل منها ولا أحفل بكل محبوب ساحر أخاذ مما يُشَم أو يُرى أو يُسمَع
…
وكان قصر روح من أجمل ما في دمشق، وكان فوق الجمال جليلاً فخوراً بساكنيه، يملؤه الحجّاب والجُند وذوو الحاجات، فلا ينصرفون إلا وافرين غانمين شاكرين.
كان محط الجمال والجلال، ولكن كليباً (المعلم البطل) لم يحفل شيئاً من هذا ولم ينظر إليه، لأن من عادته ألا ينظر إلا أمامه، لا يلتفت يَمنة ولا يَسرة لئلا يشغله عن غايته شاغل أو يعوقه معوق. وكانت آماله هي غايته، فمضى إليها قدماً لا يبصر إلا ظهر الجندي الذي سبقه ليدله على الطريق في هذا العالم الصغير، حتى دخل على المستشار.
* * *
ندع كليباً في حضرة رَوح بن زنباع مستشار الدولة، ونقفز قفزة واحدة إلى واسط مدينة الحجاج؛ نقطع في هذه القفزة سنوات طوالاً مليئة بالأحداث الجسام، من قتل مصعب وعبد الله ابنَي الزبير، إلى عودة الوحدة الإسلامية على يد عبد الملك والحجاج
…
فنرى في شوارع واسط الفسيحة شيخاً أعرابياً حافياً يلتفت تلفّت المشدوه الذي لم يُبصر في عمره مدينة كبيرة، يتوسم في وجوه الناس بفضول ظاهر فيفرون منه، حتى زال النهار وكلّت رجلاه من المسير، فجلس في ظل دار من هذه الدور الجديدة كئيباً حزيناً.
- ما لك يا عم؟
-
…
...
- ما لك؟ أخبرني، ما شأنك؟
فيرفع الأعرابي رأسه ويحدّق في وجه الرجل، حتى يطمئن
إليه ولا يرى فيه ما يريبه، فيقول له: أريد أن تدلني على رجل يدعى كُلَيب بن يوسف الثقفي، من الطائف.
فيضطرب الرجل ويسأله: أتدري - ويحك - ما تقول؟ ابن يوسف الثقفي؟ أخو الحجاج؟
فلا يسمع الأعرابي هذه الكلمة حتى يسرى عنه وينطلق ضاحكاً بملء فيه، ويقول: بل هو والله الحجاج. كنا نسميه كليباً، قاتله الله ما أشد عقوقه! ألا تخبرني أين هو هذا الخبيث؟
- قبحك الله من أعرابي جاهل. أبهذا تصف الأمير؟
ويلتفت إلى كل جهة وقلبه يكاد ينخلع من الرعب، يخشى أن يسمع حديثهما أحد. ثم يقول للأعرابي هامساً: اخفض صوتك
…
سألتك بالله!
- ولِمَ ويحك؟
- ألا تعرف من هو الحجاج؟ ألست من سكان هذه الأرض؟
فيعود الأعرابي إلى الضحك وقد راقه ما يسمع، ويقول له: بل أنا من سكان السماء، هبطت الساعة من أعالي جبال الطائف. أما الحجاج فأنا أعرف الناس به: معلم صبيان أحمق!
- ويلك يا أعرابي! هو - والله - أمير العراقين، وقاتل ابن الزبير، وسيف الخلافة الأموية ومثبّت أركانها.
- إنك تهزل!
- وهل في هذا هزل؟ سل - ويلك - مَن شئت.
- كليب أمير العراقين؟ يا ضيعة شيبتك يا عقيل! ويلك يا هذا، دلني عليه، دلني عليه
…
* * *
-
…
...
-
…
...
- ادنُ يا عقيل.
- أوَقد عرفتني؟
- وهل ينكر الحجاج أصدقاء كُليب؟ كيف تركت صبياننا؟
- ما أنت والصبيان؟ أنت أمير العراقين. ولكن خبرني ويحك يا كليب: كيف بلغت هذا كله؟
- بلغته لأني «أردت» أن أبلغه.
ولم يدرك عقيل ما شأن الإرادة هنا، فانطلق يضحك يحسبها نكتة، ثم سكت فجأة وقال: ولكنه شيء عظيم والله يا كليب، أين هذا من دارك في الطائف؟
- واشواقاه إلى داري في الطائف، وإلى أيامي مع الصبيان!
لقد خلّفت فيها ربيع حياتي يا عقيل، لقد خلّفت فيها ربيع حياتي
…
والآن، يا مرحباً، يا مرحباً برفيق الشباب (1).
* * *
(1) روى التاريخ أن الحجاج كان يُدعى في صغره كُلَيباً وكان معلم صبيان في الطائف، وهذا كل ما روى التاريخ.