المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌هيلانة ولويس كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر! ولقد أسدل - قصص من التاريخ

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌هيلانة ولويس كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر! ولقد أسدل

‌هيلانة ولويس

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر!

ولقد أسدل الليل فروعه السود، فغطى على المعركة اللافحة الأُوار (1)، وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث، وهذه الأصلاد (2) المصبَّغة بالدم، وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان

فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكَلال، وهجعوا كالقتلى لا يحسون ولا يحلمون، وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصم التي تحيط بها من كل جانب.

وتلك هي الحرب: آفة الحياة، وعار الإنسانية! تلك هي الحرب: تتفجر الأذهان بالعلوم والمعارف، وتنفرج الأيدي عن

(1) الأُوار هو حر الشمس والنار، أو هو اللهب نفسه (مجاهد).

(2)

جمع صَلد، وهي الأرض التي لا تُنبت شيئاً، أو هي الصخرة العريضة الملساء، وفي القرآن {فأصَابَهُ وابِلٌ فتَرَكَهُ صَلْداً} (مجاهد).

ص: 109

الصنائع والمصانع (1) واللطائف والزخارف، وينفق الوالدان النفس والنفيس لتنشئة الأولاد وتهذيبهم، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة، وأزهرت الفنون وتقدمت، وارتفعت المصانع وسمَت، وأخذت الحياة زخرفها وازّينت، جاءت الحرب فأودت بذلك كله فجعلته حصيداً كأن لم يَغْنَ بالأمس. فيا ويل الحرب! ويلٌ لها ما لم تكن دفاعاً عن شرف أو حياة أو دين!

* * *

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر، إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفروجها ضوء خافت، ويُسمَع من جوفها همس ضعيف، لو أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان القوم وتقول لصاحبة لها: ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة، وما الذي جدد أحزانك وهيج آلامك؟ أفزعتِ من هذه المعركة العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن «قبر

» المسيح؟ أم هو الحزن على لويس قد خامر نفسك؟ لا تحزني يا هيلانة؛ فقد كان مقدّراً عليه هذا المصير، ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً، فاصبري يا أختاه، فإن لويس في السماء. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية؟ فلا تدَعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة التي تحتاجين فيها إلى الصبر والجلد!

(1) المصانع: المباني والآثار:

يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القُرى

شَتّانَ بين مَصَانعٍ ورجَالِ

وقال لبيد: وتبقى الديارُ -بعدَنا- والمصانعُ

ص: 110

وسكتت المرأة، وعاد السكون يغمر الدنيا. ومضت فترة طويلة لم يُسمَع خلالها نَبْأة (1)، ولكن النور الضعيف لبث منبعثاً من شقوق الخيمة. ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف، أو ميت محتضر، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره، فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها وحشة وهولاً

فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر. وكانت في الثلاثين ولكنها لا تزال كالعهد بها، فاتنة الطلعة، لدنة العود، بارعة الجمال. كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت على السفوح والصخور، وتمد البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها، وتفكر في هذه الحياة المروعة التي تحياها، فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها، يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور «الألب» لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحده شرقاً منعطف الوادي، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق، ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفاتنة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل، وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى. لقد كانت ترى مَن يوغل في الوادي ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلاً من الأبطال. أما هذه الجلاميد وهذه الذرى المشرفة على القرية، فلم تفكر يوماً من الأيام في البحث عما وراءها، ولم ترتَقِ بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها

(1) النّبْأة: الصوت الخفي، أو الصوت ليس بالشديد ولا بالمسترسل (مجاهد).

ص: 111

فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً؟ وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟

واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصوّر لها الوهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويُذهبوا ظمأ أجسامهم إلى الشراب، وليرتووا من «العيون» الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحب

فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ على أن تكاشفه بحبها

وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمر في موكب حياتها بهياً مشرقاً (على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات)، فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، المجلس الذي أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها وأثرها على شفتيها.

لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى كنيسة ربها (لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها)، فتتوجه إلى الله بالصلاة التي حفظتها

وتمشي فتطوف في الغابة، يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل!

ص: 112

وكانت القرية كلها في أمن ودعة حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة سقطت عليها صخرة من الجبل. كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل، لتنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي

فلم يُفسِد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي بين الجبلين يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه فيُسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها، وأبدلتها بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً. وذهب القوم يستقرون الصوت ويقصّونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح وطفق يلقي عليهم - باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى - ما يفهمون وما لا يفهمون. وكان يتكلم باكياً نادباً ناتفاً لحيته، منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين، ويدعو إلى إنقاذ «القبر المقدس» من أيدي «الكفرة المسلمين

». فذهب الهياج بالعقول، وأطار الأفئدة، وألغت الحماسة المنطق، ونسي الناس كل شيء إلا هذه النار التي قد سرت في العروق، ومشت إلى الدماغ فألهبته، فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون، إلى إنقاذ «قبر المسيح» من أيدي «الكفرة» الذي أهانوه وحقّروه.

ص: 113

وصدقت هيلانة وزوجها ما قالوا لهما من أن المسلمين أكَلة لحم البشر، وأنهم ذئاب الإنسانية، وأنهم عَدَوا على المسيح

ونهضا يدفعهما الإيمان الذي عبث به العابثون واستغلوه وأوقعوا في أبناء آدم هذه المذبحة المروعة، فأخذا الطفل الوليد وسارا مع الجموع، نحو بيت المقدس.

وعاودتها ذكرى زوجها الحبيب فانفجرت باكية، فأيقظ صوتُها صاحبتَها فخرجت تراها.

- مالك يا هيلين؟ لماذا تبكين؟ لِمَ لَمْ تنامي؟

فلم تجب واستمرت تبكي، فعادت ترفه عنها وتواسيها: ماذا عراك يا هيلانة؟ أجيبي، كلميني، لا تقتلي نفسك بسكوتك.

- لويس!

وخرج اسمه زفرة متصعدة من أعماق القلب، غارقة بالدمع، وعادت تبكي.

- اصبري يا أختاه؛ إنه في السماء. ثم إن عندك لويس الصغير، ألا تسمعين كيف يبكي؟ إنه ابنه يا هيلين، ابن الحبيب، فعيشي من أجله. أريه ألوان السرور والمرح تسعد بذلك روح لويس. هاكِ الطفل يا هيلانة، ألا ترين أن بكاءك يؤلمه؟

فأخذت هيلانة الطفل، تضمه إلى صدرها وهي مغمضة العينين، وتقبله في عنقه الدافئ، وتمرغ وجهها في صدره، ثم

ص: 114

تضع خدها على خده وهي تهمس باسم لويس، كأنما تذكر به مولد الحب وقبلاته الأولى.

* * *

وهجعت هيلانة وصاحبتها، وانطفأ هذا النور الكليل الذي كان ينبعث من الخيمة، ومرت من الليل ساعات.

وكان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يُرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من خيمة السلطان، وكان الجند نائمين يستريحون من عناء النهار الماضي الذي خاضوا فيه حرباً من أشد ما عرفوا من الحروب، وبذلوا جهد الجن حتى استطاعوا أن يشقّوا الطريق إلى عكا المحصورة. وكان المدد يتتالى على جيش العدو من البحر، وكاد يجزع المسلمون عندما رأوا الإمداد، ولكن منظر السلطان ثبّتهم، فقد كان ينظر إلى المراكب تحمل الصليبيين إلى البر فلا يثنيه مرآها ولا يُدخل الروع إلى قلبه، بل كان يراها مستبشراً متفائلاً مؤمناً بنصر الله. ولقد خبّر القاضي ابن شداد (رفيق السلطان) الجندَ وقص عليهم أن السلطان عد بنفسه من العصر إلى الليل سبعين مركباً نزلت إلى البر تنقل المدد والذخيرة، فما ضعف ولا اضطرب، ولا تغير اعتقاده بالله الذي يؤمن بأن النصر من عنده. وكان السلطان أشد القوم تعباً لأنه كان يباشر أمور الحرب بنفسه وينتقل خلال المعركة ويعرّض روحه للمهالك، ثم يبيت الليل ساهراً يدبر أمور المسلمين، لا يبالي راحته ولا صحته في سبيل إعلاء كلمة الله.

* * *

ص: 115

في تلك الساعة كانت تلمح رجلين يتقدمان في الظلام يريدان معسكر المسلمين، وهما يخطوان بحذر ويقفزان على الصخور بخفة ونشاط، وقد حمل أحدهما هَنَة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق، أحاط بها يسراه وأمسك بيمناه السيف مسلولاً خشية أن يفجأه كمين أو يعرض له عدو في هذه الظلمة الحالكة. وكانا صامتين، فلما جاوزا «اليزك» (1) ودخلا معسكر المسلمين وأمِنَا وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان، وقد أبقى الأول حمله على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به، وقال لرفيقه: ماذا ترى السلطان قائلاً لنا؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال، وألا نمس الأعزل بسوء، وأن ندع القسوس، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند؟ أفلا يكره ما أتينا هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه؟

فأطرق الثاني كأنما كان يفكر في غضب السلطان ويبحث عن سبيل الخلاص من هذه الوهدة التي سقطا فيها، ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له: لماذا يغضب؟ أليس الله قد أباح لنا أن نرد العدوان بمثله؟ أمَا بدؤونا هم بمثل هذا أول مرة، وروعوا نساءنا، وسرقوا أطفالنا؟ فلما صبرنا عنهم وترفعنا عن مقابلتهم بمثل فعلهم ظنوا ذلك عجزاً منا فأوغلوا في عدوانهم الآثم الدنيء. أفندعهم يفعلون ما يريدون ولا نمد إليهم يداً؟

(1) أي الحاجز. وكنا -ونحن في الابتدائية أيام الحرب الأولى- نسمع من الجند كلمة «يسق» ؛ أي ممنوع.

ص: 116

واطمأن الأول إلى هذه الحجة، فقاما يسيران في هذه البقاع التي كانت فيما مضى رياضاً زاهرة وتلالاً خضراً معشبة، فجعلتها الحرب قفراً خالياً وقبراً واحداً مفتوحاً، وألبستها ثوباً دامياً من أشلاء أبنائها، حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة فعلما أنه لم ينم، ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به لأنه كان يطّلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة.

ومرت ساعة ومال ميزان الليل وهما واقفان، فسمعا حركة ورأيا رسولاً يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطيرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها، فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي، ثم خرج الرسول على عجل وخرج من بعده ابن شداد معلناً أن السلطان سينام قليلاً. وكان ذلك في السحر، فأيِسَ الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح.

ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان، وكان صديقاً له، فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروعاً هو أن جيشاً من الصليبيين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل، فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه فأصبح المسلمون بين نارين.

تفكر السلطان في الأمر، ثم جمع الملوك والقواد (ولم يكن يقطع أمراً دون مشورتهم)، فهبّوا من فراشهم وجفوا راحتهم في هذه الليلة العصيبة التي يلتمس الراحة في مثلها أشد الناس مراساً وأكثرهم صبراً. فلما اجتمعوا عرض عليهم الأمر، فبذلوا

ص: 117

له طاعتهم ولكنهم تهيبوا الإقدام على هذين الجيشين، واضطربوا لهذا الخطر الذي لم يتوقعه أحد منهم.

ولم يكن هؤلاء الملوك والقواد من الجبناء الرعاديد، بل كانوا أبطال الحومة وسادة الجِلاد، ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل أوربة كلها حين جاءت يحدوها التعصب الذميم، ولا الشجاعة التي ردوا بها هذه الجحافل الجرّارة وقسموها قسمين: قسم مصرع على الثرى قد ذهب جزاء عدوانه الآثم، وقسم طائر على وجهه لا يدري أين المحط. فتصدع الخميس العَرَمْرَم تحت ضرباتهم المسددة وهتافهم المظفر كما يتصدع القطيع من الغنم إذا سمع صوت الأسد وأحس أنيابه

ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه ولا النهاية الماجدة التي ختموا بها الوقائع الماضية التي خاضوا غمرتها، ولكن لم يكن في تلك النهاية للمعارك كلها ما يشبه هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول. فغاضت الحماسة في نفوسهم وإن لم تنفد، وسكنت قليلاً لتستجم وتنهض من جديد، أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين، وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها. وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة، ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان؟! فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم ولبث وحده مهموماً يفكر.

قال الرجل: فماذا فعل السلطان كان الله له؟ كم يحمل وحده من الأهوال التي تخر تحتها الجبال وتعجز عن حملها الأمم!

قال القاضي ابن شداد (1): جلس يدبر أمره ويرسم خطط

(1) مؤلف سيرة صلاح الدين.

ص: 118

القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله، فسألته أن ينام ساعة فيستريح، فظن أني نعست فقال لي: لعلك جاءك النوم. ونهض

فخرجت أمشي إلى خيمتي، فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذّن الصبح. فعدت لأصلي فوجدته يمرر الماء على أطرافه، فقال لي حين نظر إلي: ما أخذني النوم أصلاً. فقلت: قد علمت. قال: من أين؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم.

فدخلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، وجعلت أفكر في أمره وما يحمل من الهم وما ورد عليه من الشدة، وذكرت أن قتيبة بن مسلم وقع في إحدى الشدائد وهو يحارب الأتراك، وضاق به الأمر، وتكاثر عليه العدو، وبذل كل ما يستطيع من القوة والمكيدة فلم يُغنِ ذلك عنه شيئاً. فقال: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سِيَة (1) قوسه يومئ بأصبعه نحو السماء. فتهلل وجه قتيبة واستبشر ووثق بالنصر وقال: "والله لتلك الأصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وسنان طرير". فلما فتح الله عليهم قال له: ما كنت تصنع؟ قال كنت آخذ لك بمجامع الطرق (2).

(1) السِّيَة من القوس: ما عُطف من طرفَيها، وهما سِيَتَان (مجاهد).

(2)

أي أنه يدعو له. والدعاء من أكبر أسباب النصر، والله أمرنا أن نعد لهم ما استطعنا لهم من قوة للإرهاب فقط، لا للنصر بها، وليس النصر للأقوى سلاحاً ولا للأكبر عدداً، بل لمن يريد الله نصره {ومَا النّصْرُ إلا مِن عِنْدِ الله} يعطيه من يشاء.

ص: 119

وذكرت أن قوّاد المسلمين الذين دوّخوا العالم وأخضعوا الممالك وملكوا الأرض لم يملكوها بقوتهم وعددهم، وإنما ملكوها بإيمانهم والتجائهم إلى الله. ورأيت السلطان قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، وباع نفسه من الله، ولم يقصر في فريضة، ولم يهمل نافلة، بل كان ينزل حيثما أدركته الصلاة فيصلي، ويسمع الحديث بين الصفين، ولم يُعرف عنه (بعد السلطنة) ميل إلى دنيا أو حرص على لذة من لذائذ العيش، فأيقنت أن دعاءه لا يُرَد، وأنه هو الوليّ إن عد الناسُ الأولياء، وهو التقي إن ذكروا الأتقياء، فقلت له: وقع لي واقع وأظنه مفيداً إن شاء الله. قال: وما هو؟ قلت: الإخلاد إلى الله، والإنابة إليه، والاعتماد في كشف الغمة عليه.

قال: وكيف نصنع؟ قلت: اليوم الجمعة، يغتسل المولى ويصلي ويتصدق بصدقة خفية على يد من يثق به ويدعو الله وهو ساجد فيقول:"إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك؛ أنت حسبي ونعم الوكيل".

وإن الله أكرم من أن يخيب من يلتجئ إليه!

* * *

وقطع القاضي حديثه ونظر إلى تلك المرأة التي أقبلت تريد السلطان، وهي سافرة تصيح بلسان قومها وتعول باكية تشير إشارات الفزع المروع، فأقبل عليها يسألها ما خطبها.

ص: 120

وكانت هيلانةَ بذاتها، أفاقت فلم تجد طفلها فخرجت من الخيمة جاحظة العينين مجنونة تصيح باسم ولدها وهي تعدو على غير هدى، تسير في كل سبيل تسأل كل من ترى عن ولدها هل رأى ولدها: أين ذهب ولدي؟ ماذا أعمل؟ ساعدوني، فتشوا لي عن ولدي. أين ذهب؟ هل مات؟ من أخذه؟ أأكلته الذئاب؟ وهل تدخل الذئاب إلى المعسكر؟ أم قد سرقه اللصوص؟ آه، أين أنت يا ولدي؟ ألا تردونه علي؟ ارحموني يا ناس، فتشوا لي عن ولدي

وانطلقت تعدو في أرجاء المعسكر حتى بلغت خيمة القواد فاقتحمتها، وهبطت على أقدامهم تولول وتصيح. فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها، فصمتوا. وبالغت في البكاء والتوسل، فرأى القائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين.

إن الرجل شهم وشريف، وفارس نبيل، وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد

وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية، فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم يرَ منه إلا الإكرام والإحسان؛ خلع عليه وقدمه ورفع مجلسه وسيّره إلى دمشق معززاً مكرماً، فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به وصنيعه هو بمن أسرهم من قواد السلطان.

ووافق القواد على ما وُصف به صلاح الدين من النبل والشرف والإنسانية، فسيروا المرأة إليه. فانطلقت تعدو حتى

ص: 121

تقطّعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها، وتعود إلى السعي تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها أو يكون فيها حتفها، وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر

يا رحمة الله على الأمهات!

وكانت نفسها كالبحر الغضبان لا تستقر فيه موجة حتى يموج موجة أخرى، وكانت الصور تتردد على نفسها متعاقبةً يأخذ بعضها بأعقاب بعض؛ فبينما هي تتصور فرحها بلقاء الطفل فتُقدم مسرعةً إذا بها تفكر في هلاكه فتقف لحظة كأنما لطم وجهها القدر بكفه، ولكنها تطرد هذه الصورة من نفسها ولا تطمئن إليها، ويعاودها الأمل قوياً منيراً، ويخالط الأملَ خوفٌ وإشفاق، ثم تمر عليها صور حياتها الأولى تجوز آفاق نفسها بسرعة البرق فتهزها هزاً عنيفاً، ثم تمضي إلى غايتها وترجع صورة الولد فتحتل خيالها كله. حتى بلغت «اليزك». فصاحوا بها: قفي. فوقفت تنظر ماذا يريدون.

ولم تكن تدري ما «اليزك» وما الحروب، وما جاء بها إلا إيمانها الذي استغله دعاة الشر وسخّروها من أجله لمنافعهم، فحرموها زوجها وطفلها وجرّعوها (كما جرعوا الآلاف من البشر) غصص الآلام!

وجعلت تصرخ فيهم صراخ اللبوة التي فقدت أشبالها، وتخاطبهم بالفرنسية: ابني، ابني أيها الجنود! ردوه علي، أريد ابني، فلماذا تمسكونه؟ لماذا تعذبون امرأة مسكينة؟ أين هو؟ هل

ص: 122

قتلتموه؟ لا، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية. إني ألمح الشفقة على هذه الوجوه، فلماذا لا تردون عليّ ابني؟

فلا يفهمون منها شيئاً، فتعود إلى صراخها. حتى جاء رجل منهم يعرف لسانها فسألها: ومن هو ابنك أيتها المرأة؟

- ابني لويس

لويس. أنا هيلانة. ردوه علي. أريد أن أقابل السلطان.

فأخذته الرحمة وتركها تمر ودلها على الطريق إلى خيمة السلطان فذهبت تعدو.

* * *

قال لها القاضي: ولكن السلطان الآن في شغل؛ يجب أن تنتظري ساعة.

- لا، لا. أتوسل إليك، أخاف أن يصيب ابني سوء فدعني أذهب إليه.

فقال لها القاضي: اذهبي مع هذا الرجل. وأمره أن يدعها ساعة في خيمة الأسرى حتى يستأذن لها على السلطان وينبئه نبأها. وظنت أنها في طريقها إلى السلطان فسارت صامتة مسرعة، فلما دخلوا بها الخيمة ورأت الأسرى عادت تصيح وتولول، فنبه صياحها الأسرى، ثم استفاض حتى بلغ خيمة السلطان، فبعث يطلبها.

وكان في أقصى الخيمة أسير اضطرب لمّا رآها ووجف قلبه،

ص: 123

ولبث بصره عالقاً بها حتى خرجت من حيث جاءت، فلبث مفكراً مشدوهاً، تطفو على وجهه خيالات أفكار هائلة وذكريات بعيدة، ثم تراخى رأسه فأسنده بكفيه، وظل ساكناً تنطوي جوانحه على البركان

الذي انفجر بعد دقائق، فنهض الأسير يصرخ صراخ الوحش الكليم: أريد أن أراها، أريد أن أراها.

وراع صياحه الأسرى وهم يعهدونه وديعاً كالحمل، فأقبلوا يسألونه فلا يأبه لهم ولا يكلمهم، وأسرع إليه الحراس يكلمونه فلا يجيب إلا بهذا الصراخ، فرفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوه عليه. فلما احتواه مجلس السلطان طأطأ رأسه ووقف خاضعاً. وكانت عظمة السلطان تملأ نفسه إكباراً له، وكان يحس فيها الشكر الخالص لِما رأى من إكرام السلطان في هذه المدة الطويلة التي قضاها أسيراً عنده، ثم رفع رأسه وجعل يقلب نظره في أرجاء المجلس فوقع على هيلانة وهي راضية مطمئنة وابنها في حجرها قد رُدَّ إليها، وهي تنظر إلى السلطان نظرة شكر وحب. ثم رآها تنهض فجأة فتجثو بين يديه فتقبل قدميه وتتقاطر دموعها فيتململ السلطان ويُنهضها. فلم يعد يتمالك نفسه، فأسرع نحوها على غير شعور منه، فلما رآه الطفل هتف به: بابا

ووقع بين ذراعيه. ونظرت المرأة مبهوتة لا تكاد تصدق ما ترى، وجعلت تنظر حولها لتتثبت مما ترى ولتعلم هل هي في يقظة أو في حلم، ثم صاحت: لويس! أنت حي؟

وفهم السلطان القصة، فحول وجهه حياء وتركهما يتعانقان.

* * *

ص: 124

ولما تلفّتَ السلطان وجدهما جاثيين بين يديه يحاولان شكره، فلا تجاوز الكلمات شفاههما إلا وهي جمجمات (1) غامضة. فقال لهما: إنّا لم نفعل إلا ما يأمرنا به ديننا.

قالت المرأة: أدينك يأمرك بهذا؟

قال: نعم؛ فإن الإسلام رحمة للعالمين، للإنسانية كلها.

قالت: أفتضيق هذه الرحمة عن امرأة مسكينة

تحب أن تسعد وتحيا بسلام في ظلال الإسلام؟

فتهلل وجه السلطان وقال لها: إن رحمة الله وسعت كل شيء.

قالت: كيف أغدو مسلمة؟

قال: تشهدين أن الله واحد، وأن محمداً رسوله. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

فنطقت بها، وتلفتت إلى زوجها فوجدته ينطق بالشهادة.

* * *

وخرج ويده في يدها يذكران الماضي الحلو والقرية الهادئة.

- لقد تركنا البنفسج يا هيلانة مخضراً يانعاً، فهل أزهَرَ من

(1) جَمْجَمَ فلان جَمْجَمة: لم يبين كلامه (مجاهد).

ص: 125

بعدنا البنفسج فتضوّعَ أريجه في جوانب الحديقة؟ وشجرة التفاح: هل تدلّت ثمارها وارتخت أغصانها؟ والعين، هل بقيت على صفائها؟ أواه يا هيلانة! هل لنا من رجعة إلى ذلك الوادي السعيد وتلك الغابة التي ولد حبنا في جنباتها ونما واكتمل؟

- لا يا لويس؛ إنا لن نعود. إن يكن حبنا قد ولد في تلك الغابة فإنه قد بُعث هنا بعدما مات. هنا عدتَ إليّ، وهنا عرفتُ الله، وهنا رأيت النبل والطهر والإنسانية. فلنبق هنا يا لويس. أليست هذه هي الأرض التي وُلد فيها المسيح؟ إننا لم نخسر المسيح، ولكننا ربحنا معه محمداً!

* * *

وتقدم الجيش الإسلامي - بعد ساعة - يمشي إلى الظفر مكبراً مهللاً، وكان لويس المسلم في طليعة ذلك الجيش!

* * *

ص: 126