المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌يوم اللقاء لمّا خرج عبد الله من المنزل المهجور كان الليل - قصص من التاريخ

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌يوم اللقاء لمّا خرج عبد الله من المنزل المهجور كان الليل

‌يوم اللقاء

لمّا خرج عبد الله من المنزل المهجور كان الليل قد عسعس فانجابت ظلمته عن سنا السحَر، والصبح قد تنفس فتضوّعت أنفاسه الناعشة في أرجاء هذا الوادي المقدس، وكان الكون لابساً ثوب شاعر مدلّه، أو عابد متبتل، يغمر النفس بحس سماوي لا تصل إلى الإحاطة بوصفه لغات البشر.

ولكن عبد الله لم يتلفت إلى شيء من ذلك ولم يُلقِ إليه وعيه، لأن الدنيا قد ماتت في عينيه منذ عزم على الموت وسلك سبيله. وماذا ينفع السحر وجمالُه رجلاً فرغ من ذلك كله وخلّفه وراءه ليستقبل حفرة الموت التي لا تضيئها أشعة الشمس ولا يصل إليها رَواء السحر؟

وماذا يرى المسلول اليائس في صفاء العيون، وضحك الزهور، وغناء العصافير، وهو يعلم أنه سيموت ويحتويه هذا القبر الموحش

فلا تدري به الينابيع ولا تكف عن وسوستها وتغريدها، ولا يحفله الورد ولا يمسك ضحكه حزناً عليه، ولا تأبه له الطيور ولا تقطع من أجله غناءها، والشمس لا تفتأ تطلع من

ص: 213

بعده تغمر الكون بلألائها، والقمر لا يزال يريق على الدنيا وابلاً من نوره

وكل شيء يبقى على حاله بينا يكون هو قد ذهب وامَّحى؟ وماذا يرى المحكوم عليه - وهو يُساق إلى حبل المشنقة - في بهاء الشمس وابتسام الربيع وضحك الروض؟

إن المرء لا يجد في الكون إلا صورة نفسه وخياله وعواطفه، فأي شيء يجده عبد الله وليس في نفسه إلا ذكرى ماض بارع، قطف ثماره أمداً طويلاً ثم عصفت به رياح الفناء، فصوّح نبتُه (1) وذوت غصونه، وصورة مستقبل غامض يسلم إليه أمه المسكينة، لا يدري من أمره شيئاً، ولكنه لا يثق به ولا يطمئن إليه، وهو بينهما يمشي طائعاً مختاراً إلى

الموت؟!

وبلغ عبد الله أبواب الحرم وهو في ذَهلة عميقة، فإذا هو بأبي صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، فألقى عليه نظرة فارغة كأنه ينظر إلى رجل من العالم الآخر لا يبصره.

- سيدي أمير المؤمنين!

-

...

- لقد استطاع رجالي أن يفتحوا لك طريقاً إلى العراق، وهذه هي ركائبك وهؤلاء هم حرسك. فتلفع يا سيدي بهذا الثوب وسِرْ في أمان الله!

(1) صوّحَ النبتُ: يبس حتى تشقّق (مجاهد).

ص: 214

فلبث عبد الله صامتاً شاخصاً إليه بعينيه، يردد هذه الكلمات التي سمعها ترديد من لا يفقه لها معنى، كأنما هو قد أضل فكره وفقد ذكاءه، أو كأن هذه الكلمات قد خلصت إلى نفسه بعد أن طرحت معانيها، فجاءت خالية لا تدل على شيء. فريع ابن صفوان وأشفق أن يكون قد أصابه سوء، وجعل ينظر إليه بعينين تجلّى فيهما الإخلاص للأمير، والحب للوالد، والوفاء للصديق. ولا عجب في ذلك؛ فلقد كان يرى في عبد الله أميره ووالده وصديقه، ويوليه من نفسه الحب والإكبار. وجعل ابن صفوان يحدق فيه فيراه دائباً على ترديد هذه الكلمات، ولكنه يرى وجهه تنبسط أساريره، ويخطف على جبينه نور الذكاء، وتبرق عيناه ببريق العبقرية، فيطمئن ابن صفوان ويعلم أنه قد عاد إلى نفسه.

نشط عبد الله واستبشر استبشار غريق رأى خشبة النجاة، وعاشت في نفسه آماله، وأورَقَ غصن ماضيه الذاوي فبسط ظلاله الندية على حاضره القاحل المقفر، فأحس كأنه يسمع أبواق النصر التي كان يسمعها في سالفات أيامه، وانتهى إلى أذنيه صدى أناشيد الظفر التي كان يهتف بها جنده تحت راياته المنصورة، وشعر كأنْ قد عاد إلى اسمه عطره وجلاله، فرجع ينبثق من أفواه الكُماة المَسَاعير (1) الذين ذهبوا ينشرون عبقه في بلاد العرب والعجم.

(1) الكُماة جمع كَمِيّ (على وزن غَنِيّ)، وهو الشجاع من الناس، وأصلها الذي يلبس السلاح، من الفعل: كَمَى نفسه: أي ستر نفسه بالدرع، فهو كامٍ وهم كُمَاةٌ. والمَسَاعير جمع مِسْعَار، وهو -في الأصل- ما تُحرَّك به النار (من حديد أو خشب)، ثم استُعير للذي يوقد نار الحرب ويسعّرها (مجاهد).

ص: 215

وكرّت الأيام راجعة، فإذا هو يرى عبد الملك وقد روّعه اسمه وأرّقه، ويبصر رأس المختار الذي ظفر بعامل الأمويين يسقط على قدمي عامله وأخيه مصعب، ثم تقوى هذه الصورة في نفسه وتجيش وتموج، حتى تبلغ هذا الحاضر الذي يعيش فيه، ثم تمتد إلى آفاق المستقبل، هذا المستقبل الذي ولد ونما واستكمل نموه في لحظة.

وطغت موجة الفرح على نفسه فأحس كأنه في حلم، واختلطت عليه الحقيقة بالوهم، فأخذ بيد ابن صفوان وسأله نشوان فرحاً: هل قلت إن الطريق مفتوح؟ أأستطيع أن أخرج من مكة؟

ولم يكن ابن صفوان ينتظر منه الرضا، فاستخفّه الطرب لرضاه ونسي أنه يكلم خليفته وآمِره. فجعل يهز يديه بشدة ويقول: نعم، نعم يا سيدي، أسرع، أسرع بالله، أخشى أن يفوت الأوان. إن الفجر سينبلج.

فينساق عبد الله في الطريق الذي أراده له ابن صفوان ويكاد يمضي فيه، ولكنه يذكر أمه، ويعود إلى نفسه مشهدها وهي قابعة في زاوية البيت حزينة ملتاعة. هل يدع أمه وحيدة بين براثن هؤلاء الذين يراهم وحوشاً؟

لا. وتوقف، وبدا عليه التردد.

- سيدي! إن الوقت قصير.

- لن أدع أمي!

ص: 216

- وكيف تدعها يا سيدي؟ إن الجند سيحملونها معك إلى حيث تمضي أو يضعونها حيث لا تنالها أيدي الحجاج.

فعاودت عبدَ الله حماستُه، ولكنه وقف مرة أخرى يفكر: هَبْهُ وصل إلى العراق، فماذا؟ هل تكون خيراً له من الحجاز؟ لقد ضاعت العراق يوم ضاع مصعب. فهل يذهب إلى خراسان؟ لقد مد الأمن رواقه على هذه المدن، أفيقلبها ساحة للحرب؟ لا، لن يقتل الآلاف من المسلمين ليعيش هو!

وراح يعرض البلاد كلها في لحظة فلا يجد بقعة لم يبلغها ملك أمية، أفيمضي إلى بلاد الكفر؟ وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فاستصغرها وزهد فيها وفترت همته، وانطفأ هذا اللهيب الذي وَقَد في نفسه وخَطَف نورُه على جبينه، فاستل يده من يد أبي صفوان وقال له بصوت رهيب: اسمع يا أبا صفوان!

فأدرك ابن صفوان أنه سيسمع نبأ لا يسره؛ فقد نطق وجه عبد الله بأنه عازم على الموت قبل أن ينطق به لسانه، ولكنه أرهف أذنيه وذهب يستمع، فقال له عبد الله: يا ابن صفوان، أخبرني. أفي طوقك أن تردّ على العالم بهاء الشمس ونورها إذا غمره الليل بسواده القاتم؟ إن لكل نهار ليلاً

فقاطعه ابن صفوان وقد رأى بارقة من أمل سنحت له فحاول أن يتمسك بها: ولكل ليل فجر يا أمير المؤمنين.

- ولكن هذا الفجر لن يسطع عليّ من بين رايات الأمويين أستظل بها، ولا تتسرب خيوطه من خلال هذا الثوب الذي رضيتَ لي الفرار فيه

بل إنه سيسطع (إني لأرى تباشيره تلوح بيضاء

ص: 217

زاهرة) من وراء باب الموت، ولا بد لي من ولوج هذا الباب يا ابن صفوان، فلماذا تأبى علي أن ألجه حراً مجيداً وترضى لي أن أطبع على لحيتي البيضاء وصمة العار الحمراء، وأن أختم سفر حياتي الماجدة الحافلة بالبطولة بأبشع خاتمة وأبعدها عن البطولة والمجد؟ أتأبى علي أن أموت ميتة أبي؟ في تلك الرملة التي تتكسر على جوانبها أمواج البحر كل مساء، ويحمل الرافدان: دجلة والفرات، العذب النمير من أعالي بلاد الروم ليغسلا به حواشيها الأخرى، حيث تلتطم رياح الجزيرة وتتراقص نسائمها اللينة

هناك - يا ابن صفوان - يثوي قبر منفرد منعزل، هو قبر أبي.

لقد مات أبي شهيداً، ولكنه لم يمت في المعركة الحمراء، وإنما مات على يد وغد دنيء فضاع قبره في تلك الفلاة (1)

أفيسوؤك أن يموت ابنه وسط المعمعة فيقوم قبره في بطن مكة، فيشير إليه الناس قائلين: هذا قبر الشيخ الذي مات شهيد المعركة الملتهبة. وتمتد أيديهم إلى السماء يسألون له الرحمة والغيث،

(1) المروي في كتب التاريخ أن علياً خاطب الزبير يوم الجمل فقال له: يا أبا عبد الله، أتذكر يوماً أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال:«أتناجيه؟ والله ليقاتلنّك وهو ظالم لك» . فصرف الزبير وجه دابته وغادر المعركة. فمر في طريقه بمعسكر الأحنف بن قيس فقال الأحنف: والله ما هذا انحياز؛ جمع بين المسلمين حتى إذا ضرب بعضهم بعضاً لحق ببيته. مَن يأتيني بخبره؟ فقال عمرو بن جُرموز: أنا. فاتّبعه، فلحقه في موضع يقال له وادي السباع. فنظر إليه الزبير وقال: ما وراءك؟ قال: إنما أريد أن أسألك. وحضرت الصلاة، فلما قاما يصليان استدبره ابن جرموز فطعنه فقتله، فدُفن هناك (مجاهد).

ص: 218

ثم يمسكون بقلوبهم مخافة أن يهزها هذا الدرس الصامت فتنفجر من الحماسة؟!

لماذا تأبى علي أن أموت ميتة أخي البطل مصعب، وأنت الذي مجّدَ مصرعه واتخذه مثلاً للبطولة والتضحية والشرف؟ ألا يسرك أن أشتري بدمي حياة هذه الأمة فتعود السعادة إلى هذه البقية الطاهرة، ويخيم عليها الأمن، وتستعد لتحمل رسالة الله إلى الدنيا

مرة ثانية؟

إنك لن تستطيع أن تردّ ما فات. أرجِعْ إلى الزهرة الجافة رواءها وعطرها، ردّ على الشيخ الهرم شبابه وقوته، أعِدْ للنهار الآفل ضُحاه! لقد انتهى كل شيء؛ فلن تكون خاتمة حياتي أن أفر تحت ثوب امرأة.

وأخذ الثوب يقلبه بيده وعلى وجهه ابتسامة ساخرة، فيها آيات القنوط المرعب والاستماتة الهائلة والإقدام المخيف.

- لا؛ لا يا ابن صفوان. إن عبد الله بن الزبير أكرم من أن يتشح بثوب امرأة. لا؛ لن أفر، «بئس الشيخ أنا - إذن - في الإسلام إن أوقعت قوماً ثم فررت عن مثل مصارعهم» (1).

- سيدي!

- ابن صفوان!

ثم التفت الأذرع في عناق جمعت فيه الصداقة والمحبة

(1) هذه الجملة فقط من التاريخ.

ص: 219

والتضحية أروع قطوفها، ثم تملص الشيخ من ذراعي ابن صفوان وأمسك برأسه فقبله بين عينيه: جزاك الله خيراً يا ابن صفوان، فلقد والله وفيت لي حين غدر الناس بي، ولزمتني حين تركني ابناي، فكانت صداقتك أوثق من الولادة وأثمن من البنوّة. ولقد كنت رفيقي في اليوم الأسود كما كنت رفيقي في الليالي البيض، ومننت وأجزلت، ولم تدع لي إلا حاجة واحدة، فأخبرني: هل تقضيها لي؟

فترق نفس ابن صفوان، ويطفر الدمع من عينيه فيقول: ولو كان في قضائها موتى!

- بل فيها حياتك إن شاء الله، فأنا أعزم عليك إلا ما نجوت بنفسك.

- معاذ الله يا سيدي!

- إني لتقر عيني في حياتي وتسكن عظامي بعد موتي إذا أنت نجوت بنفسك. قل إنك فاعل.

- معاذ الله يا سيدي، أموت معك كما حييت معك!

* * *

وكان الفجر قد انبلج وأرعدت هذه الأوعار والصخور وأبرقت، فضاع هذا الحديث الخافت في جلبة الجيش المنتصر وإرعاده.

قطع عبد الله الحديث وانثنى نحو الكعبة يأمر مؤذّنه بإعلان

ص: 220

الفجر، وكان محتفظاً بعظمته وجلاله، فكأن هذا الفشل المتتابع وهذه الخيبة الشاملة لم تنل منه قليلاً ولا كثيراً. وكان جنده الأوفياء ينظرون إليه فيعزيهم بجلده واحتماله، وتسري فيهم هذه العزة فيطوون جوانحهم على قلوب ملؤها القوة والأمل. وهل في الدنيا أقوى من عُصبة تريد أن تموت؟ إن العدو يفزعها بالموت والموت أكبر أمانيها، فكأن عدوها خادم لها مسخَّر لرغباتها؟

ودوى صوت المؤذن قوياً ضخماً، فجاوبه من تلك الأوعار صوت آخر واضح قوي: الله أكبر! الله أكبر!

* * *

الله أكبر من هذا الجيش وهذه الدنيا، ولكن هؤلاء قد نسوا معاني «الله أكبر» وأضاعوا جوهرها.

ذلك ما كانت تناجي به نفسها هذه العجوز وراء سور الحرم. وكانت قد أوت إلى هذه الزاوية لتودع ابنها، وتحتفظ بذكرياته الأخيرة، وتسمع جرسه، تختزن في نفسها هذه الصور التي ستكون - من بعد - ينبوع حياتها وستعيش بقية أيامها بذكراها. وقد لبثت هذه العجوز في مكانها من المنزل المهجور، بعد أن ودعها ابنها، تبكي وتتقاذفها شتى الأفكار، حتى نالت منها متاعب اليوم وأوقار الشيخوخة، فاستسلمت إلى نوم مزعج متقطع، تضطرب فيه الأحلام المرعبة

فرأت ابنها بأيدي الجنود الشاميين تنوشه رماحهم وسيوفهم، فوثب قلبها من صدرها وجعلت تصيح وهي نائمة: دعوه، دعوه لي، لا تقتلوه، قد ترك لكم الخلافة فاتركوه لي.

ص: 221

وأفاقت مذعورة وقد طار النوم من آماقها، فلم تُطِق البقاء وابنُها على عتبة الموت. قامت تحمل آلامها وأوجاعها وأثقال هذا القرن الكامل الذي يجثم على عاتقها

هذه السنين المئة

وتوجهت تلقاء الحرم.

وكانت تفكر في ابنها: ماذا عليها لو أنها أخذته من بين مخالب الموت، ثم عاشت معه في ركن منعزل من أركان هذا الكون الواسع؟ أيؤذي عبدَ الملك - وقد تم له الأمر وأطاعه الناس كلهم - أن تعيش عجوز بجانب ابنها؟ ألا يجد لذته إلا في ألمي؟ وهمت العجوز باستنزال اللعنات على عبد الملك، ثم رجعت إلى نفسها تفكر في عبد الله فإذا هو لا يقر ولا يهدأ، وإذا هو صاعقة حيثما نزلت خرجت وقلبت الأرض عاليها سافلها، فلا يقر لهذه الأمة قرار.

وكانت قد بلغت الحرم، فسمعت صوت المؤذن يردد التكبير فيعود الصدى في هذه الأوعار بمثل تكبيره، فأصغت فإذا ما حسبته صدى ليس إلا أذان أهل الشام، فآلمها هذا الانقسام وجعلت تتكلم همساً كأنما تخاطب نفسها: يا لهؤلاء الذي نسوا معاني «الله أكبر» وأضاعوا جوهرها!

* * *

وفي تلك اللحظة تقدم هذا الشيخ الذي كان أمير المؤمنين ووارث كسرى وقيصر ليصلي آخر صلاة له في ظل الكعبة، فسمعته العجوز (ولم يكن بينها وبينه إلا جدار قصير) فنازعتها نفسها إليه واشتاقت إلى عناقه!

ص: 222

ولم يكن يكلفها ذلك إلا همساً خافتاً يعلم منه موضعها، فكادت تهمس باسمه، وقويت هذه الرغبة في نفسها حتى لقد توهمت أن ابنها قد دلف إليها يعانقها، فمدت يديها تعانقه فسقطتا على جنبيها

وكان قلبها يرتفع في صدرها حتى يبلغ حنجرتها ويذوب حزناً وكمداً، ويسيل من عينيها المنطفئتين قطرات من الدمع

ولكنها لبثت ساكنة صابرة على قضاء الله.

* * *

انفتل هذا الشيخ من صلاته وقد رقّ الظلام وانبعثت فيه أشعة الفجر فأراقت على الحرم ظلالاً من النور، فاستطاع أن يتأمل في أصحابه الذين لبثوا على وفائهم له لم يخذلوه كما خذله ابنه حمزة، فمرت على وجهه سحابة من غم حين ذكر أن حمزة قائم في هذه الساعة تحت رايات الحجاج ينتظر أن يرى أباه معلقاً على خشبته ليرقص في مأتمه ويظفر بأسلابه، وكاد يجاري غضبه ويقذفه بلعنة حمراء تتسلسل في أصلاب ذريته فلا ينجو من جناها المسموم أحد منهم، ولكنه أمسك ولم يحب أن يكسب أولاده هذا الشر المستطير في آخر لحظة من حياته.

وجعل ينظر إلى هؤلاء الفتية فيروقه شبابهم المزهر، ويضن بهذا الصبا الغض على الموت، ويعلم بأنه ميت لا ينفعه دفاعهم شيئاً، فأرادهم على الحياة وزينها لهم، وابتغى إلى إقناعهم شتى السبل وأفانين الأساليب، فأبى وفاؤهم ومروأتهم ودينهم (وما كانوا يعتقدون من ضلال الأمويين) إلا الموت. فرقّتْ نفس هذا الشيخ وغمرها الحب والرضا، فأحب أن ينظر إلى هذه الوجوه

ص: 223

وأن يجعل صورها زاداً له من دنياه في جولته الأخيرة، فقد كانوا ثمالة ذلك الجيش العظيم وبقية أولئك الأبطال الغطاريف الذين كان في وسعهم أن يقلعوا قيصر من كرسيه في القسطنطينية كما قلعوا كسرى من عرشه في المدائن، لولا أن أُلقي بأسهم بينهم فأصبحوا يحسبون مجد القائد المسلم في الانتصار على القائد المسلم، ويرون المعركة الظافرة هي التي تأكل إخوانهم في الدين وفي النسب، ويرون الفتح الأغر في استباحة مدينة الرسول أو العبث بقصبة الخلافة.

وكان هؤلاء الفتية قد لبسوا الحديد واتخذوا المغافر، لا يبين منهم إلا الحدق، فلما أرادهم عبد الله على كشف وجوههم أزاحوا هذه المغافر فأضاءت وجوههم كما تضيء الأقمار، ولكن شعاعها وميض الجمال الفاضل وبريق الإخلاص والذكاء، فأشجاه أن تكون هذه الوجوه فريسة السيوف بعد ساعة واحدة، وأن يذهب هذا الشباب الناضر، وأن يخسر جيش المسلمين هؤلاء الفتيان الأشاوس، ومن ستصيبه سيوفهم الماضية ينالونه بها قبل أن يموتوا. فعاد يدعوهم إلى الحياة ورجعوا يأبون.

قال: أما إذا أبيتم «فلا يَرُعْكم وقع السيوف فإن الدواء للجراح أشد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم. غُضّوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله» (1).

فهتف هؤلاء الجنود هتافاً عالياً وأنشدوا أناشيد الحرب،

(1) هذه الجملة (بين الأقواس) من التاريخ.

ص: 224

ولكن أصواتهم ذابت في هزيم الرعود التي تفجرت من حلوق الأمويين وهم منحدرون من أوعارهم وأصلادهم التي اعتصموا بها يتدفقون نحو أبواب الحرم. ودارت المعركة في البقعة المقدسة التي كانت ملجأ الناس ومثابة الأمن في الجاهلية وفي الإسلام!

* * *

بلغ هذا الزحف أبواب الحرم الأقدس، واشتركت في حمل وزر هذا الزحف مدن من الشام تعاونت على العبث بحرمة المسجد وإراقة الدم الزكي على أرضه الطاهرة، فكانت حمص بجندها على الباب الذي يواجه الكعبة، تحاول أن تقتحمه لا لتطوف بالبيت العتيق ولا لتقوم فيه لرب العالمين، بل لتستبيح فيه حرمة الدم الحرام، في الشهر الحرام، في المسجد الحرام! وكانت دمشق على باب بني شيبة، وكان أهل الأردن على باب الصفا، وأهل فلسطين على باب بني جمح، وأهل قنسرين على باب بني تميم، وكان الحجاج، قائد هذا الجيش الذي هدم بيت الله، في ناحية الأبطح. تدفقت هذه الجموع براياتها وكبريائها، وقوادها وجندها، وسلاحها وعتادها، وحماستها وهتافها، ولكنها لم تستطع أن تتقدم؛ ردها وحده هذا الشيخ!

هذا الشيخ الذي أدنته الأيام من الثمانين، فكان من حقه أن يستريح إثر حياة صاخبة، وأن يقضي بقية أيامه في دعة وهدوء

قد جفا راحته وهناءته ووقف وسط الحرم كالأسد الهائج، يدافع عن عرينه بلبدته البيضاء وشيبته المهيبة، قد دارت مقلتاه اللتان تنفضان الشرر على هذه الأبواب، فكلما رأى باباً انفتح كرّ على

ص: 225

أهله فردهم على أعقابهم، فكان يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، حتى ارتفع الضحى ولم يقر الشيخ ولم يهدأ

فأحس بالونى في أعصابه وكلت يداه. وأي رجل يستطيع أن يجالد مثل هذا الجِلاد، وأي رجل يقدر أن يقف وحده في وجه هذا السيل الطامي من البشر؟ وكلما أزاح من طريقه واحداً حلّ مكانه مئة. فوقف لحظة يستريح، وتلفت فإذا هو بابن صفوان لم يفارقه. فقال له:«أبا صفوان، ويل أمه فتحاً لو كان له رجال! والله لو كان قرني واحداً كفيته» (1).

فيقول أبو صفوان: إي والله، وألف!

وتدور رحى الحرب من جديد، قد دفعها الحجاج دفعة انطلقت على إثرها مدوية مرعدة، تسيل على جوانبها الدماء وتزهق الأرواح.

* * *

حتى إذا زال النهار، وتلهبت شمس مكة فجمعت على الناس نارين: نار الحرّ ونار الحرب، ضاق ابن الزبير وأصحابه ذرعاً، فجمعوا بقية عزمهم وأقدموا إقدام المستميت، فلم يرجعوا حتى أجلَوْا هذا الجيش العرمرم عن الحرم وردوهم حتى بلغوا بهم الحجون. وكان في طوقهم أن يردوهم إلى أبواب الشام، ولكنهم كانوا عشرات من الناس يحاربون ألوفاً مؤلفة!

(1) هذه جملة من التاريخ.

ص: 226

ورجع عبد الله إلى الحرم - وقد خلت ساحته إلا من الحجارة التي نثرتها المنجنيقات من جدار الكعبة، وأشلاء القتلى ودمائهم، وهذه البقية الباقية من جنده - يغلب عليه الألم لما حل بالمسلمين، وعزف عن الطعام والشراب فلم يفكر فيهما، ولا في الراحة المسعدة إثر هذا الجهد الحاطم، وإنما أقبل يريد أن يصلي في ظل الكعبة فيناجي ربه ويستغفره ويودع دنياه. ولكنه لم يدنُ من الحطيم حتى وقف مرتجفاً قد اهتز من مفرقه إلى قدميه كما تهتز القصبة في الريح النكباء، وفتح عينيه يحدق. إنه لا يشك في أنها هي

يا إلهي! ما الذي جاء بها إلى هنا؟

ودنا منها متلصصاً يمشي على رؤوس أصابعه، فإذا هي صامتة جامدة لا تتحرك ولا تنبس. أهي ميتة؟

واقترب حتى حاذاها، فأحسست به وصاحت: من أنت؟

فلم يجب، فعادت تصرخ: من هذا الذي يمد يده إلى امرأة عجوز؟ ويلكم، أما كفاكم أن دفعت إليكم ابني لتقتلوه؟ آه! أين أنت يا عبد الله؟

وسمعها تبكي بكاءً خافتاً فتحرك، فعادت إلى تصريخها: قلت لك ابتعد أيها الوغد، أنسيتم أخلاقكم ومروءتكم واستبدلتم بها هذه الأخلاق التي ترى البطولة في البطش بعجوز عمياء لا تريد أن تؤذي أحداً؟ آه لو أن عبد الله كان حياً! أين أنت يا عبد الله؟ عبد الله

ص: 227

وراحت تنشج نشيجاً أليماً حتى لقد ظن أنها ستشرق بدمعها، وخال روحها ستزهق في نشيجها، وأحس كأن قلبه يُقطع بسكين، ونسي الحرب والنضال وهمّ بأن يلقي نفسه بين ذراعيها كما فعل في ليلة الأمس، ثم يحملها إلى بقعة من أرض الله الواسعة تقضي فيها لياليها الباقيات. ثم يرده الحفاظ والدين وهذه الغاية التي باع نفسه من أجلها.

وكان يسمع اسمه يرتجف في غضون الزفرات يخرج بصوت مكلوم، يلهب قلبه كأن فيه قبساً من قلبها المحترق، فخاف أن يغلبه ضعفه البشري، وانتهى إلى أذنيه هتاف أهل الشام وقد أقبلوا كرة أخرى كما يقبل البحر بمده على الساحل بعد أن نأى عنه في جَزْر طويل، فترك مكانه حيال أمه وذهب يستقبل الموت، وقد مات من قبل مراراً.

* * *

وكان في شعب من شعاب مكة النائية عن الحرم شيخ جليل قد اعتزل الحرب هو وأصحابه، لأن دينه لم يبح له أن يحارب أبناء دينه ومروءته تمنعه من تجريد سلاحه في وجوه إخوانه، وذهب ينتظر في هذا الشعب النائي.

كان عبد الله بن عمر معتزلاً، يحسر لأصحابه عما يخامر نفسه من ألم لتفرق المسلمين، ويحدثهم حديث الرسول الذي جاء بالإسلام فألف بين القلوب وجمع الناس جميعاً، ويرقب انكشاف هذه الغمة. فسمع التكبير (ظهر يوم الثلاثاء 17 جمادى الأولى سنة 74) يتجلجل في حلوق الشاميين، فاسترجع ومد يده إلى

ص: 228

عينيه الهامدتين فمسح دمعة خال أنها تترقرق فيهما، وأقبل على أصحابه فقال لهم: ألا تسمعون التكبير؟ والله لقد كبر المسلمون مثل ذلك من قبل في ليالي الهجرة الأولى، وارتجّت لتكبيرهم حرّتا المدينة وتمايد نخيلها، وأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لولادة هذا الرجل الذي يكبّر المسلمون اليوم لموته!

«رحمة الله عليك يا أبا خبيب. أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا، ولقد كنتَ والله صواماً قواماً وَصولاً للرحم» (1).

* * *

لما أقدم عبد الله تساقط الشاميون تحت سيفه كما تتساقط أوراق الخريف وانزاحوا من بين يديه، ولكن رجلاً ممن عجز عن مواجهته في المعمعة ومقابلته بالسيف قذفه بآجرّة ضخمة، فعل الجبان الرعديد، فأصاب بها وجهه وهشمه.

أحس عبد الله كأن أعصابه كلها قد مزقت واستُلّتْ من جسمه دفعة، وشعر في رأسه بأشد من لذع النار، ودار الكون من حوله، وتداخلت في عينيه المشاهد، فزاغ بصره ولم يعد يرى شيئاً، ثم هوى

ولكنه (2) نهض بعد لحظة واحدة، نشيطاً سليماً يكاد يتوثب من الصحة والنشاط، فأقدم مجالِداً فلم يعرض له أحد، فعجب

(1) بين الأقواس جملة من التاريخ.

(2)

من هنا بدأت الصورة التي تصورها الكاتب لحياة الشهيد.

ص: 229

وأغار على القوم، فلم يرُعْهُ إلا أنه يخترق الجموع لا يمنعه أحد، حتى جاز الجيش كله وصار إلى الفضاء والحرية فوقف يفكر ويذكر أمره

فلم يعرف منه شيئاً، ولم يجد في أعماق نفسه إلا لذة لا توصف وطرباً لا يُحَد ولا يُعرَف. فرجع يوغل في هذا الجيش، فإذا هو يخترقه كرة أخرى ويتغلغل بين كتائبه وفرسانه، ثم ينتهي إلى الفضاء

فينظر حوله ويتمنى أن يعلو هذه الجبال الشامخة، ثم يجلس على قُنّة من قُننها البوازخ يفكر في أمره، فلا يكاد ينتهي من أمنيته حتى يصير في أعلى الجبل، من غير أن يتجشم عناء أو يقاسي تعباً. فيزداد حيرة وعجباً وينظر حواليّه، فيَحسُر له البصر عن عوالم عجيبة تموج بالنور وتمور بالمشاهد البارعة التي لم ترها عين البشر، فيأنس بها، ثم تغلب عليه حيرته المحبوبة اللذيذة، فيحجب عينيه بكفيه وينطلق يفكر، فإذا كفه تشفُّ عما وراءها، كأنما ينظر من خلال زجاج صاف شفاف! فيجفو مكانه ويمر هائماً على وجهه، فإذا هو يمضي بسرعة البرق، يخترق الصخر وينفذ من الجبال، فيزداد دهشة ويبالغ في مروره. ثم يسمع من يدعوه باسمه، فيقف ويلتفت، فإذا هو بابن صفوان. فيقبل عليه فرحاً بلقائه، ولكنه يرتد فجأة: أنت ابن صفوان؟

- نعم يا سيدي.

- ولكن

- ماذا؟

- إن بصري ينفذ من خلال جسمك!

ص: 230

- وأنا يا سيدي أرى ما وراءك!

- ويحك، وما هذا؟ أين نحن؟

- لست أدري.

- ألا تتذكر شيئاً؟

فيفكر ابن صفوان وينظر حواليّه: بلى؛ أذكر الموقعة.

- الموقعة؟ أي موقعة؟ ها، لقد ذكرتها؛ لقد عادت صورتها إلى نفسي. ولكن

أين نحن؟ وأين جيش الحجاج؟

- هو هناك. أترى هذه النقطة الدقيقة المائلة في أقصى الحضيض؟

عبد الله: من المتكلم؟

ابن صفوان: من هو الذي يتكلم؟

- أنا.

يعجب عبد الله وابن صفوان، ويجيلان بصريهما في أرجاء الكون فلا يريان أحداً.

عبد الله: من أنت؟ أقول لك: من أنت؟

- ها أنذا! (ويظهر لهما).

عبد الله: زيد؟

- نعم، أنا زيد.

ص: 231

عبد الله: ولكنك قد مت منذ زمن طويل!

زيد: نعم، لقد مت منذ زمن طويل.

عبد الله: كيف تكون ميتاً وأنت حي تنطق؟

- كما تنطق أنت!

- ولكني لم أمت.

- نعم يا سيدي

ولكن تعال معي.

وينحدرون بخفة البرق وسرعته كأنما كانوا يطيرون بغير جناح، فلا تمضي لحظة حتى يشرفوا على مكة.

زيد: ألا ترى يا عبد الله؟

عبد الله: ما هذا الذي أرى معلقاً على رمح؟

زيد: رأسك.

عبد الله: رأسي أنا؟ هل جننت يا زيد؟ عهدي بك رجلاً لَقِناً عاقلاً. هذا هو رأسي لا يزال مركباً بين كتفي!

زيد: وهذه هي جثتك مصلوبة.

عبد الله (وقد أخذته حيرة فجعل ينظر في جسده ويجسه): لا شك في أنك قد جننت يا زيد، إن جثتي صحيحة.

زيد: إنها جثتك، ألا تسمع؟

ص: 232

يصيخ عبد الله بسمعه، فيسمع حديث القوم حول جثته المصلوبة ولكنه لا يصدق.

عبد الله: مستحيل، إن جثتي كاملة. ألا تراها؟ تلك بقايا حشرة حقيرة، أأنا - ويحك - أدخل في جسم حشرة؟

زيد: ولكنك عشت فيها أكثر من سبعين سنة!

عبد الله: قلت لك مستحيل. لن أرضى أبداً بهذا السجن الضيق الخانق.

زيد: ألا ترى إلى هؤلاء الذين يحفّون بالجثة؟

عبد الله: بلى، أرى حولها كثيراً من هذه الحشرات الوضيعة.

زيد: هذا هو جيش الحجاج!

عبد الله: أأرواح بشر تدخل هذه الأجساد الحقيرة وتُسجَن فيها؟ إنني لأختنق من تصوري الحياة فيها لحظة.

زيد: كما يحس هؤلاء بالاختناق إذا تصوروا أنهم عاشوا لحظة في بطون أمهاتهم. لقد نسيت سجنك الثاني كما نسوا سجنهم الأول!

عبد الله: ولكنني لم أمت؛ أنا في غمرة الحياة!

زيد: إن هذه الحشرات تسمي الحياة الحقيقية موتاً.

ص: 233

عبد الله: يا للغباوة! ولكني لم أمت، بل أنا لم أعرف الحياة إلا اليوم.

زيد: ذلك لأنك مت!

عبد الله: أليس في الموت قيد؟

زيد: بلى، ولكنا مطلَقون:{ولا تَحْسَبَنّ الذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحياءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقون} . والآن

هلمّ بنا!

عبد الله: دعني أرى أمي وأحملها.

زيد: لا؛ إنه لم يجئ أجلها فهلم بنا.

فينطلق الثلاثة إلى النعيم المقيم في السماء، كما تنطلق العجوز إلى العذاب الأليم في الأرض.

* * *

حل السلام في هذه البقعة التي خلقها الله للسلام الدائم، ونزل الحجاج يُزيل الأوضار عن الحرم ويرفع القواعد من البيت. ومرت الأيام سراعاً فووري ابن الزبير في لحده، واستغفر الحجاج من جريمة صلبه كما يُصلب المجرمون والمفسدون، وكادت الجروح تندمل، وأوشك الناس أن يستعيدوا هناءتهم وسعادتهم بعد هذه الحرب الطاحنة الضروس، ولكن أسماء لم تسترح ولم تهنأ، ولم يبق لها من الدنيا إلا قبر عبد الله تلبث الليالي والنهارات عاكفة عليه، تبكي وتدعو وتنادي عبد الله.

ص: 234

وكانت تتخيل كأن شخصاً قد ألمّ بها فتصرخ فيه: من أنت أيها الوغد؟ فيبتلع الصمت صيحتها ولا تسمع من مجيب، فتعود إلى تجرع آلامها وأحزانها.

وإنها لفي مقامها على القبر في وسط ليلة ساكنة، وإذا هي بيد تلمسها لمساً رفيقاً، فيذكّرها مسها بعالَم غامض يفيض باللذة والأنس، ويردها إلى ماضٍ بعيد لا تتبينه ولا تعرفه؛ عالم عبد الله والزبير، فتحاول أن تمسك بهذه اليد لترفعها إلى شفتيها، فإذا هي لم تمسك إلا الهواء. فيختلط عليها الأمر وتتعوذ بالله، وتمد يديها إلى كل جهة تتلمس صاحب هذه اليد فلا تقع يدها على شيء

ثم تشعر بصوت مستمر يطنّ في أذنيها، ثم يقوى حتى يشبه هزيع الرعود، ثم يستحيل إلى ضجة هائلة تحسب أن الأرض لم تسمع مثلها. وتشعر بزلزال عظيم، فتميد بها الأرض وتهتز بشدة وعنف، ثم تحس بيد تقبض على خناقها، وتطير بها مع الرياح الأربع، لا بل الرياح الأربعين، فتحوم في أرجاء الكون بسرعة البرق الخاطف حتى تصير الدنيا كلها خلاء في نظرها، لأن نظرها لا يستقر على شيء. ثم تلقيها هذه اليد في أعماق هوة سحيقة فلا يبقى عضو من أعضائها إلا أصابه كسر أو حطم، وتجتمع عليها البرودة القاتلة والصمت المرعب والظلمة المتكاثفة، فلا تعي من بعدها شيئاً.

ولكنها تستفيق على صوت محبب إلى نفسها، يذكّرها جَرْسه ورنينه بعوالم تعرفها وتحبها، فإذا هي في دنيا عبد الله، قريبة منه، بل تسمع صوته يدعوها. يدعو أمه بأحب الأسماء إليها، فتمد يديها تمسح دمعة الفرح، فإذا هي مفتحة العيون تبصر عالماً من

ص: 235

النور كل ما فيه جميل ساحر، وإذا هي ترى عبد الله وقد عاد شاباً يفيض وجهه بشراً، فتمد ذراعيها تعانقه حقيقة!

- أهذا أنت يا عبد الله؟ كلا؛ كلا. إن عبد الله قد مات، فمَن أنت ويلك؟

- أنا عبد الله! سرعان ما نسيتِني يا أماه. أما تذكرين ليلة دفعتِني إلى الموت؟

- بلى، بلى، ولكن

رباه! ماذا أرى.

- لقد حسبوني مت؛ ولكني ذهبت لأحيا الحياة الحقيقية مع أبي بكر والزبير، فتعالي يا أماه، تعالي!

- هأنذي قد جئت. عبد الله! أدركني

إني أحس كأني أطير. بل أنا أطير حقاً! لقد عدت شابة. ماذا أرى؟ عبد الله

عبـ

- مهلاً يا أماه؛ سنلتقي لقاء لا افتراق بعده.

- أقلت أ

أ

* * *

ولما مر الناس في الصباح على قبر أمير المؤمنين وجدوا أمه، ذات النطاقين، أسماء بنت أبي بكر الصديق ميتة على القبر!

* * *

ص: 236