المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌مع النابغة الذبياني

‌مع النابغة الذبياني

على أطلال دار «نُعْم»

لما بلغ الركب مشارف نجد، وترك القَارَة السوداء عن يمينه واستقبل تل بني عامر، أحس الشاعر بفرحة غامضة تشتمل عليها ضلوعه ويرقص لها قلبه، ولم يعرف لها سبباً. حتى إذا بلغ الركب ذروة التل، وتكشف له الفضاء الرحيب ومن حوله تلال الرمل الأحمر آخذٌ بعضها برقاب بعض وهي تتموج تموّج البحر، لينة رخوة تود النفس لو نامت عليها ثم اتخذت منها جناحين ناعمين طارت بهما في أجواء حلم فاتن، والعلم الشرقي يلوح من بعيد بأوديته القاحلة وصخوره المهولة. ودون ذلك كله السهل الأفيح وغديره الذي لا ينضب، والنخلات المطيفات به إطافة العشاق بمنزل الحبيب

هنالك أدرك الشاعر سر فرحته: هذه ديار نُعْمٍ!

وأقبل الركب ينحدر عن التل، وقد مدت الإبل أعناقها فسالت بها تلك السفوح والحدور، واستطاب السَّفْر الإغذاذ (1)،

(1) السَفْر هو المسافر، تقال للواحد والجماعة. والإغذاذ هو الإسراع في السير (مجاهد).

ص: 275

فضربوا بطون الإبل، يغتنمون لين الأمسية وطيبها بعد حرّ الهاجرة واشتعالها، ليبلغوا الغاية بعدما طال عليهم السفر وقطعوا فيه سواد إحدى عشرة ليلة وبياض نهارها. وإذا الشاعر يصرخ فيهم صرخة معمود الفؤاد حزين:

عوجوا فحيّوا لنُعمٍ دِمنةَ الدّارِ

ويلطم عنق ناقته لا ينتظر جواباً فيحولها ذات اليمين، وينطلق يحدوه الشوق وتدفعه الذكريات إلى ديار المحبوب. ولم يشأ أصحابه أن يتركوه يهيم في هذه القفار وحيداً، فتبعوه عن كثب، يخافون أن تنكأ الدار جراح قلبه ولمّا يبرأ من داء الغرام.

كان الشاعر ضاحك الوجه متهللاً، كأنما قد رجع إليه شبابه الذي ولى منذ حين وعادت لياليه البواسم، فلم يكد يبلغ الحي الخالي ويراه قفراً يَباباً حتى وقف وغمرت نفسَه كآبةٌ طفت على وجهه، فلاحت ظلالها في عيون الرفاق، فأحزنهم مرآه وفاضت نفوسهم بالرثاء له والحدب عليه، وودوا لو استطاعوا أن يواسوه ويرفعوا عنه وَقْر الذكريات، فأحاطوا به وعيونهم تنطق بكلمات الحب والإشفاق، ولكنهم احترموا صمته وأساه فلم يحركوا ألسنتهم بكلمة.

وظلت أفكار الشاعر شاردة كأنما هي ضائعة في الفضاء، فطفقوا يثيرون انتباهه إليهم، ويحاولون أن يشعروه بأنهم حوله حتى يعود إلى حاضره وهو غارق في لجج الماضي، يفكر في المرأة التي أحبها وأحبته، ويلمح وجهها طالعاً عليه من كل صوب، ويرى عينيها اللتين جعلهما مرآة تتجلى فيها ألوان العواطف: فهما

ص: 276

تضحكان بلا صوت، وتبكيان بلا دمع، وتغضبان وترضيان، وتعطيان وتمنعان! وإن من الجمال لما يثير الشهوة وينطق بلغة الغريزة، ولكن جمال «نُعم» يثير الحنان والعطف ويهيج في النفس الحب، فتفنى حاجات الجسد في مطالب الروح، ويرفع إلى عالم كله طهر، وينسى من يراه دنياه حين تغمره لذات هذه الدنيا الصغيرة من الجمال، ويجمع أهواءه المتفرقة في هوى واحد؛ هو القرب منها، والاطمئنان إليها، والفناء فيها.

وجعل يطوف بالحي طواف العابد المتنسك بالبيت الحرام، يخيل إليه الوهم أن الحبيب دانٍ والشملَ مجتمعٌ. ثم صحا وانتبه، فإذا يده صفر من هذا النعيم كله، وإذا الحياة قد ماتت في الحي، وخرب العمران، وامّحت صفحة من أمتع صفحات الحب والجمال فلم يبقَ منها إلا بقايا سطور. هنا كانت خيمة الحبيبة مهوى أمانيه وكعبة آماله، وكان نعيمه كله في أن يجلس فيها مع «نُعم» فتناجيه بأسرارها وتفتح له قلبها، ويبيحها أسراره ويكشف لها عن قلبه، وتلك هي غاية ما يبلغه المتحابّون:

أيّامَ تخبرني نُعْمٌ وأخبرها

ما أكتم الناس من حاجي وأسراري

وهنا كان موقد أهلها؛ طالما جالسها عنده تأنس روحه بقربها، ويحيا فؤاده بنجواها، وينتعش قلبه بأنفاسها التي لو لامست حرارتها الجلمد لوهبته الحياة، فكيف بقلب الشاعر! فلم يبق من خيمة الحبيب إلا هذه الحفرة التي كانت تحف بها تمنع عنها المطر، ولم يبق من موقدها إلا تلك الحجارة السود!

وتبلجت الحقيقة للشاعر المسكين، وانتابه الخجل مما حمل

ص: 277

رفقته من عناء العوج على دار الحبيب، والدار قواء، وقد عبثت بها الرياح الهوج وألبستها ثوباً من التراب، فأقبل يسائلهم وفي تسآله رجفة الخجل ورنة الأسى:

...

.... ....

ماذا تحيّون من نُؤيٍ وأحجار

أقوى وأقفَرَ من نُعمٍ وغيّره

هوج الرياح بهابي الترب مَوّار

ويهم أصحابه بالرحيل لطيتهم، يحسبون الشاعر قد آب إلى نفسه واستوفى من زيارة الدار مُناه، ويسايرهم يريد براحاً، ولكنه لا يستطيع، ويجد نفسه معلقاً بالديار؛ قلبه نهب بأيدي الذكرى وحياته مبعثرة في نواحي الربع، فيقف ناقته المأمونة ويرجع ليسأل الدار عن نعم وآلها:

وقفتُ فيها سُراة اليوم أسألُها

عن آل نُعمٍ أموناً عبرَ أسْفَارِ

فاستعجمَتْ دارُ نُعمٍ ما تكلّمُنا

والدار لو كلّمَتْنا ذاتُ أخبار

والدار سجل الماضي الحلو، والدار كتب الحب، فيها ولد ونما، وعلى هذه التلال الطرية الفاتنة، في الليالي الساجية ذات النجوم الساهرة، وفي ظلال تلك الشعاف البعيدة في مدخل الوادي المتلوي الرهيب، إذ ينفردان فيه في شدة الهاجرة، يأويان إلى ظله وبرده فيحيله الحب جنة عدن. وعلى الغدير إذ يصب فيه القمر زُلاله الصافي النمير

كم شهدت هذه المغاني من صور الحب وكم حفظت من ذكرياته!

خبّري يا دار عن الحبيب وآله: ماذا حل بالحبيب؟ يا دار! قد ذهبت المجالس، وقُوّضت الخيام، وأقفرت من أهلها المنازل،

ص: 278

أفيمحى الحب من الوجود مثلما امّحت منازله؟ أيفنى الغرام؟ إن الروح باقية يا دار، فلماذا لا تبقى العواطف ويخلد الشعور؟ أوَليست الذكرى من الماضي كالظل من الضاحي

خبريني إذن يا دار عن حبي، إن ذكراه لا تزال حية في نفسي، فأين الحب؟

أيكون ظل لشيء وليس من شيء؟ أللماضي حقيقة قائمة ووجود ملموس، وأين مكانه في هذا الكون؟ أهو شيء وراء المادة، أم هو منها وفيها، أم هو قد فني إلا صورة له في الذهن هي هذه الذكرى؟ أوَتكون الذكرى هي العذاب لنا والنسيان هو الدواء؟

أيموت الحب كما يموت المحبوب؟ ما الحب، ما البغض، ما الحياة؟ خبري يا دار ماذا صنعتِ بحبنا وما استودعناك من أنفسنا الحرار؟ أبردت هذه الأنفاس واستحالت هواء تصفر به الريح؟ وذلك الحديث الذي كان كأنه قطع الروض الممطور؟ وأين أثر أقدامنا حين كنا نسير والحب ثالثنا، ومع الحب الطهر والعفاف؟ أين يا دار ذهب أمس بما يحمل من شعورنا وعواطفنا؟

أين يَنْصَبُّ نهر الزمان؟ هل يلتقي الشيخ المهدم بالشاب المتوثب الذي كان يوماً إيّاه؟ أين ذلك الطفل الذي كان يوماً «أنا

»؟!

ماذا حل بنُعم يا دارَ نُعم؟ لقد سمع القمر نجواها وحديثها، وحمل النسيم طيبها وأريجها، وألبستها الشمس حلة من نورها، وكستها الأمطار ثوباً من قَطرها. فهل تخبرني عنها الشمس والقمر، وهل يحدثني حديثها النسيم والمطر؟

ص: 279

لقد كنت في نعيم مع «نُعْمٍ» ، فما لي أجد هذا النعيم أحلى كلما أوغل في البعد عني؟ ما لي أحنّ إلى الماضي كله وأرى سعادتي فيه أكبر كلما أُلقيَتْ بيني وبينه من الأيام سُجُفٌ وأستار؟ ما لي تلذّني مآسيه وتؤلمني أفراحه؟ ألأني فقدتُها وخرجت من يدي؟

ماذا عندك يا دار؟ خبري! يا أسفي!

فاستعجمَتْ دارُ نُعمٍ ما تكلّمُنا

والدار لو كلّمَتْنا ذاتُ أخبار

* * *

وراجع الشاعرَ كربُه وأساه. لقد ترك الدار تفيض بالحياة وتضج بالأحياء، تعيش للحب والحرب. وتلك هي حياة العربي في جاهليته؛ وقْفٌ على قلبه وسيفه، فإذا احتضن الجبل شمسه الغاربة اجتمع الحي على الغدير، فتشرق فيه شموس جمة وأقمار من كل فاتنة الطرف غضة الإهاب ذات حسن غير مجلوب، فتدور سوق الغرام وينشأ الحب، ويعيش هذا المولود قوياً مدللاً وإن لم يستكمل مدة حمله، وينمو طاهراً لا تعلق به ريبة ولا يدنّسه خاطر سوء، غذاؤه النظر والكلام؛ هو حب الصحارى لا يعيش في المدن ولا يدري به علماؤها! وإذا أصبح الصباح، وأضحى الضحى وتسعرت الشمس وتلظت، وبدا الموت من وراء الرمال المتأججة كالحَ الوجه كاشراً عن نابه

عصفت في الحي صرخات فرسانه الذين لا تثنيهم الهواجر عما نذروا نفوسهم له من المجد، يطيرون بخيولهم إلى الفلوات الفيح والبيد القفار، يحملون لبني العمومة الموت الأحمر على ظبا الأسنة وشفار السيوف. لم يكن

ص: 280

قد بعث الله لهم بعدُ من يعلّمهم أن المجد في إعلاء كلمة الله لا في قتل بني العمومة ونهب أموالهم، ولم يكن قد جاء من يقودهم إلى قرطبة من هنا والسند من هناك، فيكتبوا تاريخهم في سطر طويل يمتد من الأندلس إلى الصين عنوانه:«لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، {إنّ اللهَ يَأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتاءِ ذي القربى، ويَنْهى عن الفَحْشاءِ والمُنْكرِ والبغي} .

وخلال ذلك ربائب البيوت يهيئن الحياة الرغيدة لأولئك الفرسان البهاليل، فلا تجد في الربع إلا عاملاً كادحاً لا ينسيه الحب أماني المجد ولا يسليه المجد عن أحلام الحب.

فلم يلقَ الشاعر من هذا العالم كله الذي خلفه يوم ارتحل إلا الحجارة التي كانت موقد النار، وهذا النبت الضعيف الواني الذي لا تحمله سوقه، فيمتد على الأرض عاجزاً:

فما وجدتُ بها شيئاً ألوذُ بِهِ

إلا الثّمامَ وإلا مَوْقد النّارِ

* * *

وكأن الشاعر قد اختبل ولم تحمل أعصابه هذا الهول كله، وعرته جِنّة فانطلق ينادي وهو هائم على وجهه في الربع المقفر: نُعْمَ، يا نُعم! هأنَذا أتيت فتعالي. لقد جئتك بأمتع أحاديثي وأجمل أشعاري، يا نعم! ما لك لا تجيبين؟ لقد طفت بالربع كله، جست خلال الخيام وأممت التل، وألممت بالوادي وجثوت عند الصخرة، فوجدت ندى الحب ولمحت طيف الذكرى وشممت عطر الماضي الحلو، ولكني لم أجدك أنت. فأين أنت يا نعم؟

ص: 281

وطفق يضحك ضحكاً مروعاً أجفل منه الرفاق وأمسكوا قلوبهم بأيديهم، وحبسوا أنفاسهم حزناً على الشاعر الذي جن حقاً، وجعل يعانق شيئاً يتوهمه في الفضاء. ثم سكت فجأة وجذب رفيقه الحارث إليه، فجعل يشير له إلى بقعة غامضة في الفضاء ويقول له:

ألمحة من سَنا برقٍ رآى بصري

... .... .... ....

فيحار الحارث ولا يدري بماذا يجيب وهو لا يرى برقاً ولا يبصر شيئاً، ولا يقدر أن يفجع الشاعر بأحلامه فيزيده جِنة، فيسكت ملتاعاً.

.... .... .... .... .. .... أم وجهُ نُعْمٍ بَدا لي؟ أم سَنا نارِ؟

ويسكن الشاعر ويعلو وجهَه إشراقٌ وابتسام، فيسير مرحباً وهو يهمس همساً ناعماً فرحان مبتهجاً:

بل وجهُ نُعْمٍ بَدا والليل معتكرٌ

فلاحَ من بينِ أثوابٍ وأستارِ

ويغمر حسَّه خيالُ نُعمٍ ويملأ خواطره وشعوره، ويرى عينيها فيحس كأنما دارت به الأرض وهو يحدق فيهما، ثم أسرعت في دورانها، ثم اختفت بما عليها ولم يبقَ في الوجود إلا عينان قال الله كونا فكانتا. وخالط نفسَه الميلُ إليها والرهبة منها، والرغبة في امتلاكها وإفنائها فيه والاستسلام إليها والفناء فيها، واختلطت عليه المشاعر فلم يعد يعي شيئاً إلا أنه يعيش مرة ثانية في الماضي الحبيب، فأعاد طوافه بالربوع التي كانت مهد غرامه وجنة أحلامه، والرفاقُ ينظرون إليه ولا يقدرون له على شيء، وطيف «نُعم»

ص: 282

ما يفارقه فصورتها في ناظريه نقية حلوة مخلوقة من النور:

بيضاءَ كالشّمسِ وافَتْ يومَ أسعدَها

لم تؤذِ أهلاً ولم تُفحِشْ على جارِ

وعطرها في أنفه؛ لا العطر الذي تستعيره الحسان من الزهر ويستجدينه الروض، بل العطر الذي تقبس الوردة منه فتتيه على زهور الحقل بأريجها، وتأخذ منه الزنبقة فتختال منه عجباً، وتشمه الفلة فتميس بين الرياحين دلالاً، لا تمس «نعم» الطيب إلا لتطيبه بها:

والطيبُ يزدادُ طيباً أنْ يكونَ بها

في جِيدِ واضحةِ الخدَّينِ مِعطارِ

ويهمس الشاعر في أذن الطيف الذي يراه أحاديث الغرام، ويبثه الشوق المبرح والحنين الطويل، والطيف صامت لا يجيب. فتخالطه الحسرة والكمد، ولا يدري لهذا العتب سبباً، ويود لو فداها بروحه وأعتبها. ويقبل على الرفاق يقول لهم، وما قوله إلا صدى أفكاره ورَجْع ما في نفسه من الحسرات:

نُبِّئتُ نُعماً على الهُجران عاتبةً

سقياً ورعياً لذاك العاتِبِ الزّاري

ويخاف الرفاق أن يطول بالشاعر تذكره أو يعود إلى جِنته، فلا يزالون به حتى يصحو من سَكرته ويعود إليهم.

* * *

ويولي الركب عن دار «نُعمٍ» والشاعرُ منكبٌّ على راحلته صامت كئيب، يفكر في دار الحبيب وهي خلاء قواء، تنشد فيها الرياح أناشيد الفناء؛ لا الحب عاد ولا عادت لياليه، ولا الشباب

ص: 283

آب ولا آبت مجاليه، وإنما هي الذكريات انبعثت في صدر الشاعر فهدت أركانه، وضعضعت بنيانه، وشعبت في قلبه شعبة تفجر منها الشعر صادق اللهجة ملتهباً بالعاطفة، قد خرج من فؤاد ائتكل من نار الجوى، يبكي به الحبيب على أطلال دياره، فكان سؤال الديار بيت القصيد في ديوان الغزل، وكان سيد شعر العاطفة.

وانتشر الليل، ومشت القافلة صامتة، قد سكت فيها الحادي وخشع الرفاق، حتى لفها الظلام في طياته.

* * *

ص: 284