المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عشية وضحاها هبطت ليلة الثلاثاء 15 رجب 484هـ على قصر الملك - قصص من التاريخ

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌عشية وضحاها هبطت ليلة الثلاثاء 15 رجب 484هـ على قصر الملك

‌عشية وضحاها

هبطت ليلة الثلاثاء 15 رجب 484هـ على قصر الملك الشاعر وهو لا يزال على العهد به منذ عشرين عاماً، سابحاً في النور، رافلاً في حلل النعيم، ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم، واثقين بدهرهم، مطمئنين إلى سعدهم، ولم يُخِفْهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونُذُرها إذ أطبقت سحبها سوداً متراكبات ترتجس بالرعد، وتنبجس بالبرد (1)، وتعزف رياحها الهوج العاتيات

لأنهم كانوا على يقين من زوالها، وكانوا يرجون - من بَعدها - صباحاً طلقاً، ضاحك الطلعة، ساجع (2) الطير، مزهر الروض.

كذلك عوّدتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها، وأفاضت عليهم متعها، ولم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان

(1) رَجَس صوت الرعد وارْتَجَس: عَظُمَ واختلط، ورَجَسَت السماء: رعدت رعداً شديداً. وتنْبَجِس: تنفجر؛ في القرآن: {فانْبَجَسَتْ منهُ اثنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} . (مجاهد).

(2)

يقال: سجعت الحمامة: إذا رددت صوتها على طريقة واحدة (مجاهد).

ص: 237

عظيم الثقة بها والاعتماد - بعد الله - عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورّثه الجدود بطلاً في الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحداث التي كرت عليه فجأة بعدما طال أنسه بالدعة، وبعدما نام عنه الدهر فطالت نومته وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته.

وكان قد نزل به في يومه ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً فحار وسُقط في يده فلم يعرف له مضطرباً، أو انصدع قلبه وانخلع فؤاده، واستسلم. ولكن المعتمد بن عبّاد لم يكن ليذل ولا ليجزع، بل احتمل هذه الشدائد صابراً عليها، مُعِداً العدة لدفعها.

لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث، كانت كالحلقات في سلسلة أسره: انقلب عليه حليفه القوي أمير المؤمنين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الإسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز (1) أمس بالخميس العرمرم، لم يعدّه هذه المرة للإسبان ولم يَسُقْه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه عليه ليزيله به عن عرشه ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين حميّة جنده بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام بحطم هذه العروش الصغيرة وهذه الممالك المزورة:

ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها

كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ

(1) مضيق جبل طارق.

ص: 238

فقد أطمع هذا التفرق العدو حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له كلها وخضعت، ورضخت (1) له بالإتاوة (وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون). وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة عليها أمير واحد، وما جزيرة الأندلس إلا ولاية في دولة المسلمين.

بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواده وجنده من البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين وأطمع العدو فيهم، المعتمد، الذي كان بالأمس الداني صديقَهم وحليفهم، وكان مضيفهم، وكانوا يتغنّون بما رأوا منه من عجيب الكرم وما أوتيه من بارع الخلال.

ثم إن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الإسبان، واختارهم - لغرض يريده - من فرسان المرابطين وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لمّا بلغهم زحف أميرهم وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل، يؤثرونها على مواقعة الإسبان، ومروا يطحنون في طريقهم الأرباض والقرى، يأخذونها أخذ الفجاءة ويدعسون (2)

(1) هذا هو معنى رضخ، لا كما تُستعمل اليوم.

(2)

الدعس هو الوَطء الشديد، وهو من العامي الفصيح، وبعض الصحفيين عندنا «يتفاصحون» فيكتبون:«دهست السيارة» ، بالهاء بدل العين. وذلك خطأ.

ص: 239

مآثر العمران ويحطمون الجنان. وجابوا في هذه الكرّة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، وربا حالية بالزهر، وضياعاً عامرة ممرعة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلّوها بلاقع (1)، فكأنما مرت عليها ريح سموم محرقة لا تبقي ولا تذر!

وكانت ثالثة الأثافي هذه الثورة التي قدح زنادها ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضرى وحكّمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده وكرم طبعه إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحِباءهم (2) حباء الجواد المحسن!

* * *

لم يحفل الملك وقُطّانُ قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها - في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين - كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجيء ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرّف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع.

وأوى الملك إلى سريره بعدما صرم أكثر ليله يعدّ قوته

(1) البَلْقَع: الخالي من كل شيء. يقال: مكان بَلْقَع، والجمع: بَلاقِع (مجاهد).

(2)

حَبا فلانٌ فلاناً حِباء وحَبْوَة: أعطاه وأكرمه (مجاهد).

ص: 240

ويقيم مسالحه (1). وكان يؤنسه أن يستمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق وهزيم الطبول وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي؛ إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جنى النصر الحلو على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية يوم فُتحت له أبواب قرطبة، وفي «الزلاقة» يوم ساق الأذفونش فيالقه وجيوشه ليمحو - بزعمه - الإسلام من الأندلس فمُحي جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هُزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة.

وأغفى الملك وهو يداعب ذكر ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشه الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الإسبان ولم يسئ إلى البطولة بحربه الإخوة المسلمين. ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوي واستفاض حتى رجعت أصلادُ إشبيلية صليلَه وعزيفَه (2)، وعَظُمَ إرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاء، ففتح عينيه وأفاق مرتجفاً وأصاخ فسرعان ما أدرك: إنه العدو قد طرق المدينة، إنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهور المجَانّ، فتخلوا عن ثغورهم

(1) المَسالح جمع مَسْلَح، وهو الموضع الذي يقف فيه الجند بالسلاح للحراسة والمراقبة والدفاع (مجاهد).

(2)

الصّليل هو الصوت ذو الرنين، والعَزيف: صوت الرمال إذا هبت بها الرياح أو صوتٌ يُسمَع في الصحارى ليلاً (مجاهد).

ص: 241

حيال الإسبان وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر .... أولئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين أغفى.

* * *

وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب ولا فرسان ضِراب، وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شيء. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل:

إن يسلُبِ القومُ العدى (1)

مُلكي وتُسْلمْني الجُموعُ

فالقَلبُ بين ضلوعِهِ

لم تُسلم القلبَ الضلوعُ

لم أُستَلَبْ شرفَ الطباعِ،

أيُسلَبُ الشرف الرفيع

ولا يزال سيفه في يده، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى يلبس لأمته ويدرع. وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسّنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة الهجوم وتمكن البادرة:

قالوا الخضوعُ سياسةٌ

فليَبْدُ منك لهم خُضوعُ

وبرزتُ، ليس سوى القميـ

ـص عن الحَشا شيءٌ دَفوعُ

فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو

(1) يكتب بالياء وإن كان أصله الواو لمكان الكسرة التي في أوله (اللسان). وقد قال الشاعر هذه القطعة العبقرية بعد أسره.

ص: 242

الكفر يوم الروع أو دونه الكفر، وأبت له ذكريات النصر ومواريث الجدود:

وألذُّ من طعمِ الخضوعِ

على فمي السمُّ النقيعُ

أمن الموت يفر وقد كان يتعشقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر - إذا خرج للقائه - في أهل ولا ولد؟

ما سرتُ قَطّ إلى القتالِ

وكان من أملي الرّجوعُ

شِيَمُ الأولى أنا منهُمُ

والأصلُ تتبعه الفروعُ

ولكنه كان يريده موتاً شريفاً نقياً كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريَب، وكان يهوى لقاءه في الملحمة الحمراء فيلحقه فيفر منه ويتأبّى عليه! أما هذا الموت الذي يُقبل عليه في غرفته إقبال اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان وفي سُدْفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه، بل لقد أحنقه ذلك عليه وملأ صدره غيظاً منه وكرهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت! ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فردّ هذه الغاشية التي اقتحمت عليه حصنه على حين غفلة من أهله.

وضوّأ النهار إشبيلية وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر وجزع من الخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتؤون - كلما سمعوا همسة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بين الأرض والسماء - يثبون إلى سيوفهم،

ص: 243

يتطلعون أبداً إلى الطرق من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير، الذي كان بالأمس الحليف النصير! فإذا لم يروا أحداً رجعوا إلى مسالحهم يقظين مرتقبين. وكانت الحصون حول البلد وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها شبلا ذلك الأسد وفرعا تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتد بالله، ولدا المعتمد بن عباد.

وكان عصر ذلك اليوم وأهل إشبيلية لا يزالون يتغنّون بمأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان واطمأنوا إلى بعد العدو، فاستراحوا قليلاً بعد هذه الليلة الجاهدة. في تلك الساعة صرخ النذير كما يُنفَخ في الصور، فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر من جهة البر ومن الوادي صدمة تحط الصخر من ذُراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال.

واستراحت إشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة!

* * *

في يوم الأحد 20 رجب سنة 484هـ ارتجّت إشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غَشَمْشَم (1)، يقوده ابن أخيه،

(1) الغَشَمْشَم والمِغْشَم هو الجريء الماضي الذي لا يثنيه شيء عما يريد (مجاهد).

ص: 244

كبش القوم وفارسهم، سير ابن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جناً مقاتلة كأنهم - من طول ما ألفوا الخيل - قد وُلدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الأتِيّ الدفّاع.

أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فثبتوا وجاؤوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها. وناضل الملك البطل حتى لم يبقَ مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفد آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلاً بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل

ونُفضت قصور الملك عن غيدها وكنوزها فعادت أطلالاً

وهوى الصرح الذي أقامه من النبل والحزم والكرم الغرُّ البهاليل (1) بنو عباد.

* * *

إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تُعِزّه (2) الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم وجلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد؛ فلم تذل نفسه، ولم يضرع، ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن، وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما

(1) البُهْلول هو السيد الجامع لصفات الخير، جمعه: بَهاليل (مجاهد).

(2)

يُعِزّ الأمر: يعظُم ويَشِق ويشتد (مجاهد).

ص: 245

حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما. وكانا في حصنين أمنع من النجم، تهاوت الحصون وهما ثابتان. ولكن ماذا ينفع حصنان وقد باد الملك، وماد العرش، وساد المرابطون؟

فلما أطاعا ونزلا قُتل الراضي على باب حصنه، واستُصفي مال أخيه وتُرك على شر حال. ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قُدّر عليهم في صحراء المغرب.

* * *

كان إذا خرج موكب المعتمد أطلت عليه كل فتاة في حمص (1) تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شغاف قلبه ليجعله مثلاً له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي، لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي. وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة.

أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر؛ خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديه بحبّاتها لو كان يمكن الفداء. وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، لا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألم:

(1) حمص المغرب هي إشبيلية، وتدعى الجنة.

ص: 246

والناس قد ملؤوا العُبرين واعتبروا

من لؤلؤ طافيات فوق أزبادِ

وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم، وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يبكي أو يصرخ، حتى إذا قُدمت بنات الملك الأسير يجرهن جند من البرابرة جرّ الشياه إلى المسلخ وقد:

حُط القناع فلم تُستَر مخدرة

ومُزِّقت أوجهٌ تمزيقَ أبرادِ

أوجه تزري بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض وأرق من شعاع البدر على البحيرة الصافية في ليلة غرام! ثم طلع الملك، لا تاج على رأسه ولا سيف في يده ولا لواء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح ويبذلون دونه حر الدماء، بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار

تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم.

حان الوداعُ فضجّتْ كلُّ صارخةٍ

وصارخٍ من مُفدّاةٍ ومن فادي

ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساؤه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كالآلي:

حموا حريمَهمُ حتى إذا غُلبوا

سيقوا على نَسَقٍ في حبلِ مُقتادِ

ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وانتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح خيوط الشمس لحظة خلال السحاب

ص: 247

في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً وفك أسيراً وأجاز شاعراً وفعل بها المكرمات، أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق، و

سارت سفائِنهم والنَّوْحُ يتبعُها

كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي

* * *

وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد بن عباد!

أفي عشية وضحاها يُطمس كتاب كله مجد وكرم أُلِّف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا؛ فهُرعوا إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن وأقام فيها النبل، فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد، ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارُهم علماً يخفق ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها، وصوّح زهرها، والدور قد هُدّمت جدرانها وهُدّت أركانها. وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء، فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة، قد محي نقشها وطمس

ص: 248

زخرفها وعشش فيها البلى

هناك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون:

عرينةٌ دخلَتْها النائباتُ على

أسَاوِدٍ لهُمُ فيها وآسَادِ

وكعبةٌ كانت الآمالُ تعمُرُها

فاليومَ لا عاكِفٌ فيها ولا بادي

فمن للعفاة تعمهم جدواه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر حين يخفى على الدليل سبيل النصر؟

لقد ذهب من كان لهم، فيا من يقصد الملك الشاعر! إنه لم يبقَ هنا ملك؛ إنها قد خلت منه داره وبَعُدَ مزاره:

يا ضيفُ أقفَرَ بيتُ المَكرُماتِ فخُذْ

في ضَمّ رَحْلِكَ واجمَعْ فضلةَ الزادِ

ويا مُؤمِّل واديهم ليَسْكُنَه

خفّ القطينُ وجفّ الزرعُ في الوادي

وأنت يا فارسَ الخيل التي جعلت

تختَالُ في عدد منها وأعداد

ألقِ السلاحَ وخلِّ المشرَفيّ فقد

أصبحتَ في لهَوَاتِ الضيغَمِ العادي

* * *

ضلت سبيلُ النّدى يا ابنَ السّبيلِ فسِرْ

لغيرِ قصدٍ فما يهديك من هادي

كذلك ذهب الملك الشاعر البطل، الذي كان في ملوكيته وفنه ونبله تمثالاً للإنسان الذي كانت تتمنى كل حامل في الأندلس أن تلده، ويتمنى كل ناشئ متطلع إلى العلا أن يكونه.

الملك، الذي كان زمانه كله فجراً رخياً ناعماً، وأيامه كلها ربيعاً بهياً باسماً.

ص: 249

الشاعر، الذي كان شعره لحن كل قلب مدلّه بالجمال مفتون بالفن.

البطل، الذي بنى لقومه مفاخر في السناء ومآثر.

وكذلك أُلقي الستار (بين عشية وضحاها) على ملحمة فخمة فيها أجمل مشاهد الهوى والشباب، والبطولة والظفر، والسماحة والكرم، والشعر والطرب، والغنى والترف، ورُفع عن مأساة من أفجع المآسي التي «عُرضت» على مسرح هذا الكون!

* * *

ص: 250