المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ثلاثون ألف دينار

‌ثلاثون ألف دينار

سرى في المدينة أن قد سال العقيق (1)، فانتقلت المدينة بمساكنها وساكنيها، وزهوها وكبريائها، ولهوها وغنائها، وترفها ونعمائها، حتى استقرت في العقيق. ولقد كانت المدينة على عهد الخلفاء من بني أمية قلب الدولة الذي يخفق بالحب والشعر، كما كانت الشامُ رأسَها الذي يفكر في السياسة والملك، والعراقُ يدَها تلوح بعلم «المعارضة» وتهز سيف الثورة. وذلك أن فتيان قريش وشباب الأنصار ثقل عليهم المال الذي حمله آباؤهم الفاتحون الذين ورثوا كنوز كسرى وقيصر: ما حوى القصر الأبيض في المدائن، وما اشتملت عليه قصور الشام البلق، وكثُرَ في أيديهم

(1) في معجم البلدان لياقوت: العقيق كل مَسيل ماءٍ شقه السيل في الأرض فأنهَرَه ووسّعه، وفي ديار العرب أعِقّة: فمنها

ومنها عقيق المدينة، فيه عيون ونخل. وقيل: هما عقيقان، الأكبر مما يلي الحرّة إلى قصر المراجل، والعقيق الأصغر ما سَفُل عن قصر المراجل إلى منتهى العرْصة، وفي هذا العقيق دور وقصور ومنازل وقرى. ثم قال: والأعِقّة كثيرة، وذِكرُ العقيق في الشعر كثير (مجاهد).

ص: 137

حتى ما يدرون فيمَ ينفقونه. وكان من سياسة دمشق أن تقصيهم عن الولايات والأعمال، فاتسع عليهم الوقت حتى ما يعلمون بِمَ يملؤونه. فانصرفوا إلى تزجية الأيام وانتهاب اللذائذ، فجعلوا الحجاز دارة اللهو والترف ومثابة الشعر والغناء. وناهيك بالشباب والفراغ والجِدة إذا اجتمعت على قوم من الأقوام!

وكانت ليلة مشرقة غسل البدر بنوره ظلماءها، وأحالها مثل الغادة المائسة بغلالتها البيضاء، ثم ذهب يغتسل في العقيق، فطفا ضياؤه على وجهه، يعانق قطراته ويراقص أمواجه الصغيرة. وكان منظر عجباً، تحسب معه أن الوادي لا يجري بالماء وإنما يجري فضة سائلة ونوراً مذاباً.

وكان الناس منثورين في كل مكان، في القصور الشم التي يفيض بها الوادي وتمتلئ بها التلال والصخور، وعلى سفوح الربا وذُرا الهضاب، وجوانب الحرّة وفرش الرمال؛ حلقاً يستمعون إلى مغنّ أو شاعر، أو يديرون بينهم أطايب الحديث، أو يأكلون ويشربون، أو يلهون ويلعبون. ولم يكن فيهم إلا من ملأ الفرح قلبه وغمرت السعادة فؤاده. أما النساء فقد اعتزلن جانباً، يأخذن حظهن من ليالي العقيق، وقد بدَوْن في شعاع القمر بثيابهن الملونة الزاهية كالروض الزاهر الفاتن بكل ساحر أخاذ، من الورد والياسمين والنرجس والبنفسج، والزهر من كل شكل ولون. أما عطر الروض فكان يفوح من أعطافهن وشعورهن وثيابهن.

ذلك هو العقيق.

كم شهد من أعراس الحياة ومباهجها. كم جال في أرجائه

ص: 138

عمر بن أبي ربيعة ينضح حواشيه بشعره. كم غنى فيه معبد وابن سريج ومالك بن أبي السمح وعزة الميلاء، فاستفاضت ألحانهم على صفحة الماء وشطآن الأفق، وطفت على وجه النسيم ففتنت الجبال والربا، وسكر منها شعاع القمر، فضلّ طريقه مترنحاً في مسالك الجو.

كم رأى العقيق من العلماء الزاهدين كعروة ومالك، والسمحاء الأكرمين كابن جعفر وسعيد بن العاص، والمجّان المخنثين كأشعب وطويس والدلال.

كم رأى العقيق من تاريخنا الأدبي والفني. كم ألهم شعراءنا رائعات الشعر ومعجزات القصيد.

* * *

إذا جلتَ تلك الليلة في أنحاء العقيق رأيت على طرف الحرة، مما يلي بئر عروة وقصره، حيث تنحدر الرمال الطرية حتى تبلغ الماء وتدلي فيه أقدامها

رأيت سرباً من الظباء الفاتنات يتدافعن ويتراششن بالماء، وهن يتصايحن ويتضاحكن فرحات عابثات، حتى إذا تعبن جلسن على الرمل يتأملن صفحة الماء (وللماء الجاري في الحجاز سحر ليس للفرات مثله ولا للنيل) وينظرن مأخوذات بجمال هذه الليلة وفتونها. وكنَّ يتلفتن أثناء الحديث كأنهن يرقبن من يطلع عليهن من الثنيّة، فلما طال الانتظار قالت واحدة منهن: لقد طال غياب سهيلة، فيا ليت شعري ماذا عاقها عنا هذه الليالي المقمرات؟

ص: 139

فردّت عليها فتاة سمراء قد تلفعت بثوب من الحرير الأحمر: ألا تدرين ماذا عاقها؟ لقد شغلها هوى فروخ يا حبيبتي. لقد خسرنا سهيلة إلى الأبد.

- ولِمَ يا أمينة؟ أهي أول فتاة تزوجت؟ كلنا عرف الزواج، فما قصرنا في حق الرجل ولا أهملنا حق أنفسنا.

فأجابت أمينة ضاحكة: ولكن ما كل زوج فروخ! أرأيت إلى جماله وشبابه؟ إن له - فوق الجمال والشباب - ثلاثين ألف دينار، أفليس من حق سهيلة أن تنسى معه العقيق ولياليه المقمرات؟

- إن تنسَ العقيق فليس لها أن تنسى صويحبات صباها.

- لو كنتِ مكانها لنسيت أمك وأباك. إن للحب سكرة وللمال مثلها، فأنى لسهيلة أن تصحو من سكرتين؟

فقالت فتاة من طرف المجلس قد آلمها غياب سهيلة: لتكن قد وجدت كنزاً، أفيطير هذا الكنز من يدها إذا فارقت منزلها ليلة؟ لم يبق في المدينة أحد إلا أمَّ العقيق هذه الليلة، أفتبقى سهيلة في عزلتها الموحشة وهي الفتاة اللعوب؟ لا، لا. إنني لا أستطيع أن أفهم هذا.

قالت أمينة: مسكينة أنت يا رفيدة. تقولين إنها في عزلة؟ إنها في جنة الحب يا صديقتي؛ إن الدنيا على سعتها أضيق من هذا العش الذي تعيش فيه مع من تحب

* * *

ص: 140

وكان الفتيات في غمرة الحديث حينما مرّ بهن فارس يحمل لامته وسلاحه، قد أرخى عمامته وتلثم، فلم يعرفن من هو، وإنما نظرن إليه وهو يخترق جماعات الناس حتى جاوز الجماء وغاب وسط النخيل، فلم يحفلنه ولم يأبهن له.

وكان ذلك فرّوخَ زوجَ سهيلة.

وكان فروخ قد عزف عن اللهو ورغب عن المتع، فتلفّت إلى وجهة أخرى من وجهات الحياة في العصر الأموي؛ إلى حياة الجد، حياة الجهاد في سبيل الله.

وكان جيش المسلمين يسيح في الأرض يغمرها من كل جانب، كأنه البحر، لولا أنه بحر يمتد أبداً لا يعرف الجزْر ولا يدريه. وكان قد بلغ أواسط آسيا وأوائل أوربا، ولا يزال يمضي في وجهه لا يقف حتى يطوّق هذه الكرة ويرفع عليها علم الحق والهدى، ويوحدها حتى تمشي كلها إلى الفضيلة والمجد والخير صفاً واحداً ترفرف فوقه راية القرآن

فترك فروخ منزله، وخلّف زوجه الحسناء تتقلب وحيدة على فراش العرس الذي لم تجف أزهاره، وأودعها ماله كله، ثلاثين ألف دينار، تحفظها له إلى أن يعود من جهاده وقد قضى حق الله عليه فيستأنف الحياة معها رغيدة سعيدة.

لم يدرِ فروخ أن جهاده في حفظ زوجه وعصمتها وإنشاء أسرة صالحة خير له من أن يدعها وحيدة، وأن يهجرها بعد أن أذاقها من كأس الحب الرشفة الأولى.

ص: 141

ومرت الأيام، ولبثت ليالي العقيق على أنسها وطربها، ولكن سهيلة التي كانت تملأ الوادي أنساً وطرباً وتشيع فيه السرور والبهجة قد اختفت في سمائها كما تختفي النجوم في الليلة الماطرة. أما رفيقاتها فلقد حرصن على أن يخففن من لوعتها وينسينها آلامها، وسقن عليها أمينة، رفيقة صباها وصاحبة سرها وأحب الفتيات إلى قلبها، فكانت تعرض عنها ولا تنظر إليها، وكنّ يسألن أمينة عنها كل ليلة فتقص عليهن ما رأت منها:

لقد جزت بها اليوم، فإذا هي (يا أسفي عليها!) قد تبدلت حتى كأنها لم تكن يوماً من الأيام سهيلة التي نعرفها. وجدتها قابعة في زاوية المنزل تفكر هادئة، وإن في قلبها لناراً ما يقر قرارها تذيب الحشى وتأكل القلب. فكلمتها فنظرت إليّ بعينين ساهمتين كأنهما لا تبصران شيئاً، فحاولت أن أعيدها إليّ فسردت عليها أجمل ذكريات صباها. حدثتها عن ليالي العقيق، وأطرفتها بنوادر أشعب، وقصصت عليها أقاصيص الشاعر وعبثنا به. بل لقد تلوت عليها أجمل أشعاره، فلم تستمع. فحدثتها عن فرّوخ، فرأيت جسمها يهتز ولونها يشحب شحوباً هائلاً، وألفيتها تحب حديثه لأنه رجْع أحلامها وصدى أفكارها، ولكنها تفزع من حديثه لأنه يذكّرها بآلامها. لقد حدثتها عنه، فقطعت عليّ حديثي وقالت بلهجة حسبتها تجمع كل ما في الدنيا من آلام وأوجاع: كلا

إنه لن يعود. ولو أن امرأة أخرى كانت في مكانها لفسقت وانساقت في طريق الفحشاء، ولكن سهيلة في دينها وتقواها وشرفها أمنع من أن يستهويها الشيطان. وما أحسب إلا أنها ستجن إلا أن يتداركها الله برحمة منه.

ص: 142

فينطلقن يفكرن في سهيلة، كيف يسعدنها وينتشلنها من قرارة آلامها، فلا يجدن إلى ذلك من سبيل.

وكانت سهيلة قد علقت من زوجها وهي لا تدري، فلم تكن إلا شهور حتى بدا عليها الحمل واضحاً، فزادها ألماً على ألم، فأمعنت في الفرار من الناس والبعد عن صاحباتها، فضاعف الانفراد هواجسها وشجونها، فكانت تتلفت أبداً إلى الشرق البعيد، علّ نسمة من زوجها الحبيب تنعش فؤادها، وتسأل الغادين والرائحين عن فرّوخ (أبي عبد الرحمن) فلا تجد علماً عن أبي عبد الرحمن. فتناجي البدر وتسأله عنه عله يراه كما تراه هي، وتحمّل الرياح سلامها، وتسائل الشمس إذا أشرقت لعل عندها من أخباره علماً. لا تفعل ذلك كما يفعله الشعراء، فالشعراء يناجون البدر ويسائلون الرياح ليأتوك بالطريف العجيب من المعاني، ثم ينامون آمنين مطمئنين ويهجعون ملء عيونهم، ولكن سهيلة لم يكن يطيب لها منام ولا تُقبل على طعام، وإنما كانت حياتها كلها في هذا الماضي القصير الذي نعمت به حيناً ثم خسرته وهي أشد ما تكون حباً له وشوقاً إليه. وطغى عليها الفكر حتى كادت تجن حقاً؛ فلم يجد من يعنى بها من صديقاتها إلا وسيلة واحدة إلى نجاتها، هي أن يستعنّ عليها بأحد الأئمة من أصحاب رسول الله أو التابعين لهم بإحسان، يهديها ويرشدها ويداوي أمراض قلبها. وليس يغلب الحب إلا الدين، ولا يجد المحب راحة نفسه وأنس قلبه إلا في اللجوء إلى الله، عن نية صادقة وإيمان متين. ولقد وجدت سهيلة راحتها في اللجوء إلى الله، فكانت تقضي أكثر نهارها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في البقعة التي أذن الله أن تُنقل

ص: 143

من رياض الجنة فتستقر على الأرض بين محرابه ومنبره، وألا يرى أزهارها ويشم عبقها ويذوق نعيمها إلا من صفا قلبه من العلل، وتنزهت بصيرته عن العمى، وأنشأ له التقى جناحين يطير بهما في هذه «الروضة» من رياض الجنة.

* * *

ومرت الأيام

وغدا ابنها «ربيعة» طفلاً يدرج، فصرفت سهيلة إلى تربيته همها ورضيت به نصيباً من الحياة. وكانت تحدثه عن أبيه وتصفه له كما كانت تراه بعين الحب، وترقب عودته دائماً، فلا تسمع بركب قدم من الشرق إلا تمنت أن تجده فيهم، وتخيلت أي مفاجأة وأي دهشة

وتصورت لقاءه إياها، وبالغت في التصور فرأت نفسها بين ذراعيه، تقبله وتشم عبقه، ثم تقصيه عنها بدلال وتعاتبه عتاباً موجعاً. ثم تقدم إليه ابنه

ولكن الركب يصل ولا تسمع عن فرّوخ خبراً من الأخبار.

وكبر الصبي وضاق ما كان بيدها من المال، فكانت تصبر وترتقب، لا تمد يدها إلى الكنز الذي ائتمنها عليه، حتى لم يبقَ معها شيء. فكانت تصبر هي وابنها على الضيق وتبيت على الطوى وتسلي ابنها وتحدثه عن أبيه: غداً يعود أبوك ومعه المال الوفير، فنعيش في رغد وهناءٍ ونستمتع بما أحل الله من الطيبات.

- ومتى يعود أبي يا أماه؟

- عما قريب؛ إنه سيأتي مع الركب.

ص: 144

وتعود إلى انتظار الركْب وتخيل اللقاء!

وفي ذات صباح ذهبت تسأل القادمين من خراسان وتصف لهم زوجها، فدنا منها رجل من القافلة وخبّرها أنه شاهده بعينه قتيلاً في معركة من المعارك. فرجعت محطمة يائسة، ولجأت إلى الله، فأراحها باليأس؛ واليأس إحدى الراحتين. فقنعت بابنها، ونذرت نفسها ومالها لتربيته وتنشئته على العلم والتقوى، ووضعت المال بين يديه ينفقه على نفسه وإخوانه في طلب العلم ويرحل به إلى الآفاق.

* * *

ومرت الأيام والسنون. وتبدلت الدنيا وتغيرت الدول، وأفل نجم بني أمية، ولكن البحر لا يزال يموج ويمتد ويغمر أرجاء من الأرض جديدة، فيحمل إليها الحياة والخصب وتعيش في ربيع دائم تحت راية القرآن.

وبلغ الفتح في الشرق أراضي الصين، فرفرف عليها علم الإسلام إثر معارك هائلة اصطرع فيها الحق والباطل صراعاً عنيفاً.

وفي عشية معركة من المعارك، خرجت منها الراية الإسلامية مظفرة منصورة وخفقت على بقاع جديدة طالما خفقت قلوب أهلها شوقاً إلى الحكم الإسلامي، انصرف المسلمون إلى المعسكر يؤدون في الليل واجب الذكر والعبادة كما أدّوا في النهار واجب الحرب والجهاد، ويعطون أجسادهم حقها من الراحة كما أعطوا

ص: 145

الأمة حقها من التضحية والبذل. ولقد كان هؤلاء المجاهدون جِناً في النهار ورهباناً في الليل، وكانوا مثالاً للشرف والفضيلة والإخلاص.

ومضى الهزيع الأول كله، ونام المجاهدون ولم يبقَ ساهراً إلا الحراس يجيئون ويذهبون من حول المعسكر، ورجل آخر أصابه الأرق فبقي مسهداً يحس كأن يداً خفية تهز قلبه، فيخفق ويشتد خفقانه، وتحمله على الرجوع إلى سالفات أيامه، فإذا هو يذكر عالماً بعيداً متوارياً في ظلام ثلاثين سنة، فلا يطيق البقاء في خيمته فيخرج إلى العراء، فيجد الليل ساكناً موحشاً لا يسمع فيه إلا نداء الحراس وأصوات الوحوش التي تزدحم على الجثث التي تغص بها ساحة القتال، فيبتعد عنها وينأى عن المعسكر فلا يعترضه أحد لأن الجيش كله يعرفه، بل لعله أقدم جندي فيه، لم يفارقه منذ سبع وعشرين سنة يتنقل فيها من ميدان إلى ميدان.

ومضى يمشي وحيداً حتى صار في الوادي، فجعل يجول فيه حتى بلغ قرارته. وكان يجري في الوادي جدول ماء له خرير وزئير، يبدو في الليل مرعباً مخيفاً، فتركه وتسلق الجبل حتى بلغ قُنّته فأشرف منها على الفضاء الواسع. وكان الفجر قد دنا فسرت خيوط ضعيفة من النور حيال المشرق، ولكنه أعرض عنها وولى وجهه تلقاء الأفق الغربي المظلم. فطفق يحدق فيه، ويحس كأنه ينشق منه أريجاً يحيي نفسه وينعشها. وجعل يحس بأن قلبه يرق رقة شديدة، ونفسه تسمو، وأن خيالات الحب تلوح لعينيه من وراء الأفق البعيد غائبة في ظلمتين؛ ظلمة الليل الذي لم ينحسر بعد، وظلمة الماضي البعيد. فجعل يتأملها، فيبصر وجه سهيلة وقد

ص: 146

وقفت على الباب تودعه وتسأله ألا يذهب، فلا يبالي بها ويمضي لطيته. وكانت ليلة قمراء. إنه يذكرها كأنها كانت أمس، ويذكر العقيق وأهله

ثم يفكر في حاضره. إنه سيموت وحيداً شريداً لا يدري به أحد. إنه لا يبالي الدنيا ولا يحفل الناس، وحسبه أنه سيموت مجاهداً في سبيل الله، ولكن ألا يسأله الله عن زوجته؟

وأحس - في تلك الساعة - بإساءته إليها، وانطلق يفكر فيها: هل هي حية لا تزال أم هي ماتت حزناً وكمداً؟ وهل هي في المدينة أم قد رحلت فلا يدري أي أرض تقلها وأي سماء تظلها؟ وهل بقيت على العهد بها أم قد استهواها الشيطان ووطأ لها أكناف المعصية؟ والثلاثون ألف دينار؛ هذا الكنز، ماذا صنعت به؟ هل احتفظت به أم أنفقته؟ وإن تكن قد ماتت فماذا جرى على المال وأي يد ألقيت عليه؟

وطفق يذكر ويقلب صفحات سبع وعشرين سنة

هجر فيها زوجته وتركها تتقلب وحدها على الفراش، تفكر فيه كل ليلة وتشتاق إليه وتمني نفسها بعودته في صباحها. تسعة آلاف وسبعمئة وعشرين ليلة

غبرت عليها وهي تتجرع كل ليلة منها هذه الكأس. فماذا حملت من همّ، وماذا ذاقت من ألم؟ وهل بقيت بعد ذلك في الأحياء؟

وتمنى لو أن مخبراً يخبره عنها وعن ماله ثم يطلب إليه ما يشاء، وأحس كأن رأسه سيصدع من التفكير، ولكنه طفق يفكر على الرغم منه.

ذكر كيف لبث أياماً وليالي لا تفارق صورتها مخيلته، حتى

ص: 147

واجه العدو وانغمس في القتال، فلم يكن يذكرها إلا حين يأوي إلى فراشه. ثم أمعن في الجهاد، فلم يعد يذكرها أبداً، وظن أنه لم يبقَ لها في نفسه أثر حتى انفجرت ذكرياته كلها في هذه الليلة انفجاراً.

وجعل يتخيل هذه الدهشة اللذيذة التي ستغمرها حين تراه قد عاد إليها، ولم يعد يقوى على البقاء، وتمنى لو طار إلى المدينة طيراناً.

لقد خرج منها وهو شاب ما في وجهه ولا في رأسه شعرة بيضاء، فاشتعل رأسه ولحيته شيباً. وتصور - كرة أخرى - أنه سيموت فاستفظع أن يموت ولمّا يَرَ زوجته، ولمّا يقبض ماله، ولمّا يرَ العقيق ووادي النقا ومسجد الرسول.

واشتد به الحنين، فأسرع من فوره إلى القائد يستأذنه بالقفول.

* * *

عاد يطوي البلدان؛ لا يستقر في مكان ولا يقيم في بلد حتى يعاوده الحنين فيدعه يوالي مسيره، لا ينقطع لحظة عن التفكير في زوجته وماله، تلك الثلاثون ألف دينار، ثروته كلها وكنزه الذي يبني عليه الأماني. إنه سيضم إليه هذه الأربعة من الآلاف التي جمعها من عطائه ومن نصيبه من الغنائم. وكان يتصور ألوان الممكنات، ولكنه لا يطمئن إلى صورة حتى ينتقل إلى غيرها، لا يهدأ ولا يستريح، وكان يخشى أن يدركه الأجل قبل أن يبلغ

ص: 148

أمله، فَيَكِز فرسه ويعدو بها عدواً شديداً كأنما كان يسابق الموت. حتى إذا لاحت له طلائع الجزيرة، وبدت رمالها الأزلية التي أعجزت الجبابرة والفاتحين فلم ينالوا منها منالاً، وأعجزت الحياة فلم تقدر عليها ولم تدخل حماها ولم تخرج فيها نبتة مخضرة، وأعجزت الممات فلم يبدلها ولم ينل منها، فكأنها كانت تعيش فوق أنظمة الحياة والموت

لما بدت له هذه الرمال اطمأن إليها وأنس بها، وأحس أن سَمومها روح لقلبه ونعيم، وأن شمسها المحرقة ظل عليه ظليل، وأن جبالها الجرد وبيدها القاحلة رياض في عينيه وجنات. وجعل يغذّ السير فيها حتى بدت له جبال المدينة تلوح له على حواشي الأفق، فلم يتمالك نفسه أن يصيح من الفرح ويطير إليه.

* * *

رقص قلبه في صدره حين بدت له طلائع المدينة ضحى، وأحس كأنه لم يرها قط بهذه البهجة وهذا الرواء. وكان ذهنه قد كلّ من التفكير فترك كل شيء للمقادير، وانطلق يعد نفسه لكل ما تفجؤه به. وكان قد صار حيال «أحد» فوقف يتأمله وهو مأخوذ برونقه وجماله، وهذه الألوان التي تمتزج فيها حمرة الرمال بزرقة الصخور وبياضها، فيكون منها صورة فاتنة لا يمل الناظر من النظر إليها. وكان فرّوخ يجد في النظر إليه لذة ويذكر فيه عالماً مبهماً من الذكريات والمتع، أنساه غايته لحظات، استدار على إثرها فترك العقيق عن يمينه (وكان خالياً في تلك الساعة من النهار)، وساق راحلته فانكشفت له المدينة ورأى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولم

ص: 149

تكن قد أنشئت عليه هذه القبة لأن القوم لا يزالون إلى ذلك العهد على السنة الصحيحة، ولم تكن هذه البدع وهذه المظاهر قد عرفت طريقها إلى نفوسهم)، فذهب يؤم منزله وهو بسلاحه على راحلته، وكان يعرفه كأنه قد فارقه أمس. ولم تتغير المدينة عن عهده بها كثيراً، ولكن آثر أن يغلب هواه ويقهر رغبته، ويبدأ بمسجد الرسول. ومَنذا الذي يدخل المدينة ولا يبدأ بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

صلى في الروضة، وسلم على الرسول، ثم تلفت فإذا هو بحلقة عظيمة تزدحم فيها العمائم، فتطاوَلَ فلم يبصر وجه صاحبها ولم يعرفه، فوقف يستمع فسمع عجباً أنساه الدار والمال والزوجة، فظل في مكانه حتى أذّن المؤذن بالعصر فانفضّت الحلقة، وذهب فرّوخ يصلي مع الجماعة فشغلته الصلاة عن كل شيء.

لم ير فرّوخ المدرّس ولم يعرفه، فذهب يسأل جاره. قال له: من صاحب الحلقة التي كانت هنا آنفاً؟

فحدق فيه الرجل وقال له: ألا تعرفه؟ ألا تعرف ربيعة الرأي؟ من أين أنت أيها الرجل؟

- غريب قدم الساعة. فمَن ربيعة الرأي هذا؟

- هذا فقيه البلد وإمامه. هذا شيخ مالك وسفيان الثوري وشعبة والليث بن سعد .. ألا تعرف هؤلاء؟ هؤلاء هم علماء المسلمين وأئمة الدنيا. هذا الذي يجلس في حلقته أربعون معتمّاً من شيوخ الحديث. أعرفت من هو ربيعة الرأي؟ هذا الذي أنفق على

ص: 150

نفسه وعلى طلبة العلم ثلاثين ألف دينار، أرأيت مثل هذا؟ أسمعت به؟ إنه لم يجلس للناس حتى بلغ من العلم والعبادة مبلغ مَن يشهد له ابن عمر، أفتعرف من هو ابن عمر أم أنت لم تسمع به؟

فقال فرّوخ: بلى؛ لقد عرفت، لقد عرفت. وقام إلى فرسه وقد ارتبطها بباب المسجد، فركبها وحمل رمحه وانطلق إلى داره، وقد هاجت في نفسه ذكرياته وشكوكه وعادت إليها صورة زوجته، فإذا هو يبصرها للمرة الواحدة والسبعين بثيابها البيضاء تشير إليه ألا يذهب، وصورة الثلاثين ألفاً.

ماذا جرى عليها، وأي جديد مفاجئ ستلقاه به المقادير؟

ولم تكن داره نائية عن المسجد، فبلغها بعد قليل ونزل عن فرسه ورمحه بيده، وهمّ بخفق الباب، فما راعه إلا شاب حسن الثياب، مكتمل الفتوة، يخرج منه، تشيعه امرأته. نعم؛ امرأته سهيلة. لقد عرفها من النظرة الأولى برغم ما تغيرت، ورآها بعينه تشيّع هذا الشاب ثم تدخل وتغلق الباب، فهاج دمه في عروقه وأقبل عليه مزمجراً صارخاً، فنحّاه عن الباب وهمّ بدخول المنزل، فعجب منه الشاب.

«وصاح به: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ قال: بل أنت عدو الله، تدخل على زوجتي؟

وتواثبا، وتلبب كل منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا أفارقك إلا عند السلطان. وجعل فرّوخ يقول: ولا أفارقك إلا بالسلطان، وأنت مع امرأتي.

ص: 151

وكثر الضجيج. فلما أبصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال مالك: أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار.

قال الشيخ: هي داري، وأنا فرّوخ مولى بني فلان.

فسمعت امرأته كلامه، فخرجت فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به. فاعتنقا وبكيا جميعاً، ودخل فروخ المنزل» (1).

* * *

قال فروخ لزوجته وقد خرج ربيعة وبقيا وحيدين: سامحيني يا سهيلة، لقد أسأت إليك. إني أحبك، أحبك.

- أتحبني وقد صرت عجوزاً؟

- الجمال هو الإخلاص يا سهيلة. أحبك دائماً، إني أراك أجمل النساء.

وانطلقا يتحدثان ساعة، فقال لها: هذه أربعة آلاف دينار، فأخرجي المال الذي عندك. لقد صرنا أغنياء يا سهيلة! مالك تترددين؟ ألا تخرجين المال؟

(1) تاريخ بغداد (8/ 420). والذي هو بين الأهلّة هو كل ما روى التاريخ من خبر فروخ أحببت أن أثبته كما هو، والقصة في «وفيات الأعيان» .

ص: 152

قالت: لِمَ لمْ تُصَلِّ في مسجد رسول الله يا فرّوخ؟

قال: لقد صليت فيه، ورأيت عجباً. سمعت من رجل يدعونه ربيعة الرأي كلاماً ما كنت أظن أحداً يقول مثله؛ لكأنه - والله - كلام الأنبياء. لقد ندمت على أن أنفقت حياتي ولم أطلب علماً.

قالت: أيسرك أنك مثله وتخسر كل ما تملك؟

قال: نعم؛ إن ذلك ليسرني.

قالت: فإن كان ابنك مثله، أيسرك أن تكون أنفقت عليه مالك كله؟

قال: نعم؛ ذلك آثر عندي.

قالت: هو والله ابنك، وقد أنفقتُ عليه المال كله. ألا تشتريه بثلاثين ألف دينار؟

فوثب الرجل وهو يصيح: ابني؟ ربيعة الرأي ابني؟!

وخرج يفتّش عن ابنه كالمجنون.

* * *

ص: 153