الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في صحن الأموي
في أمسية رخيّة (من صيف سنة 489هـ) خرج الناس - على عادتهم - إلى صحن المسجد الأموي، فبسطوا فيه البسط وأسرجوا السرج، حتى كاد المسجد يقطر ذهباً ويشتعل لهباً. وأقبلوا عليه زرافات ووِحداناً، يقضون بالصلاة حق الله عليهم وبالاجتماع والتعاون على الخير حق بعضهم على بعض، فيعودون بثواب الله واطمئنان النفس وراحة البال.
وليس أشهى إلى النفس ولا أحلى في العين من صحن الأموي في ليالي الصيف. وإن المرء ليطوف ما يطوف، وينشق عبير الأزهار ويسمع تغريد الأطيار، ويصعد الجبال تنفجر منها العيون ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار، ثم يعود إلى الأموي فيراه في عينه أجمل من ذلك كله، ويجد في نفسه - حين يجلس فيه - هزة طرب ونفحة أنس لا يجدهما في شيء من ذلك.
وكانت عشيةً تُنسّم نسماناً ناعشاً، فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضئ يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم ويسرع إلى قبة الماء، وهي في وسط الصحن صغيرة مثمّنة،
من رخام عجيب محكم الإلصاق، قائمة على أربع سَوارٍ من الرخام الناصع، وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاسي يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين (1) وقد زينت جوانبها بالمصابيح.
ومصلٍّ يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها (2)، فيقوم في الصف خاشعاً، يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه عن الدنيا التي خلّفها وراء ظهره.
وجالسٍ إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة، يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ، أو ينصت لقارئ، أو يذكر الله مع
(1) هذا الوصف لابن بطوطة (وقد زارها في آخر الربع الأول من القرن الثامن)، وفوق البركة اليوم سدة جميلة قد يجلس فيها المؤذنون، قائمة على أربعة أركان وأربع سَوار من الرخام. وقد أُجري إلى هذه البركة ماء الفيجة الذي ينبع من قرية «الفيجة» ، وهي من دمشق على عشرين كيلاً، وعلى الينبوع آثار بناء فخم من أبنية الرومان. وأول من جر هذا الماء إلى دمشق ناظم باشا رحمه الله، أحد ولاة العثمانيين، فأجراها في الطرقات في أنابيب. ثم جُرّ قسم أكبر من الماء في قناة نقرت في الصخر وأدخل البيوت والمساجد. أما قبة الماء هذه فقد أزيلت.
(2)
ومن المشاهَد في الأموي أنه إلى اليوم هذا لا يخلو من صلاة قائمة من أذان الظهر إلى أن يغلق المسجد أبوابه، فلا تنقضي جماعة حتى تشرع أخرى. وهذا خلاف السنة. ملاحظة: كتبت هذه الحاشية يوم نشرت القصة في سنة 1935، أما الحال الآن فـ «إنّا لله وإنا إليه راجعون» .
الذاكرين، أو مستند إلى أسطوانة من الأساطين، أو مُحْتَبٍ تحت رواق من الأروقة يقرأ في مصحف، أو ينظر في كتاب، أو يُسبّح على أصابعه، أو يتفكر في شأن من الشؤون، أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد ورقة النسيم، ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة.
وكان حيال قبة زين العابدين (قبة الساعات) في شرقي المسجد رجل رث الثياب، ما عليه إلا مِزَق مردمة وخلقان بالية، يرنو بعينه إلى الناس تارة وينظر إلى المسجد أخرى، فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً، يقرؤه في هذه القبة الباذخة، قبة النسر، وهي «من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر، ذاهبة في الهواء، منيفة على جميع مباني البلد» (1)«وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظراً منها» (2)
…
وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس «منارة عيسى» (لحديث جاء فيه أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق (3)) ويعجب من سموها وارتفاعها، وهذه المنارة الغربية التي بناها المسلمون
(1) ابن بطوطة.
(2)
ياقوت. قلت: ولا تزال إلى اليوم كما وصفاها على ما استُحدث في دمشق من بنايات عالية، فيها ما هو بست طبقات وما هو بسبع، وهي بجانب القبة كالطفل بجانب الرجل. وتحت هذه القبة يجلس المحدث الأكبر في البلد، وآخر من جلس تحتها البدر الحسني رحمه الله رحمة واسعة.
(3)
ولم تكن المنارات معروفة أصلاً على عهد الرسول صلوات الله عليه.
فأجادوا بنيانها ووضعوا فيها العجائب: من براعة الزخرف ودقة النحت والضبط والإحكام، والمنارة الشمالية (منارة العروس) وقد ازّينت وأُوقدت فيها المصابيح، وقام في شرفتها المطلة على الصحن (1)«المؤقِّت» ليعلن دخول العشاء.
ودخل المسجدَ قرويٌّ له مسألة، فسأل عن مجلس المفتين حتى دُلَّ عليه عند قبة عائشة (2). فجاء فعرض عليهم مسألته، فلم
(1) وهذه الشرفة مخصصة اليوم للبسيط الذي تُعرف به الأوقات. وكان الذي صنع البسيط الشيخ علاء الدين علي بن إبراهيم، الفلكي المشهور بابن الشاطر المتوفى سنة 777هـ، فطرأ عليه خلل سنة 1293هـ، فصنع الشيخ محمد الطنطاوي المصري الأزهري نزيل دمشق (وهو جد أبي) بسيطاً غيره وحسبه على الأفق الحقيقي وزاد فيه قوس الباقي للفجر، وأنزل القديم وجعل هذا مكانه في يوم مشهود، وهو فيها إلى الآن. قال مؤلف «الحدائق»:"وهو (أي البسيط) موضوع شريف لا نظير له تفرد به الطنطاوي بعد ابن الشاطر". ثم مدح الشيخ الطنطاوي بقصيدة مطلعها:
صنع البسيطَ بغاية التأسيس
…
شيخُ الشآم رئيسُ كلّ رئيسِ
يجيب بها أحد سفهاء دمشق على قصيدة حمقاء كان قد نال بها من الشيخ فجلده عليها الأمير عبد القادر الجزائري حد القذف.
(2)
وهي غرفة عالية غربي المسجد ليس لها إلا باب صغير من الحديد تقوم على ثمانية أعمدة كبيرة من الحجر وفوقها قبة، ولا طريق إليها إلا على سلم ينصب حيال الباب.
وكنا نتحدث ونحن أطفال أن فيها كنزاً حتى فتحها الألمان -كما أذكر- في الحرب العامة وسرقوا منها كنوزاً من الكتب والمصاحف القديمة. ولا أحسبها تحتوي الآن شيئاً له خطر.
يجد عند واحد منهم جوابها. فذهب يدور على الفقهاء والمحدّثين يسألهم، فلم يفُزْ منهم بطائل. فيئس منهم وهمّ بالخروج من المسجد، والفقيرُ ينظر إليه ويعجب من حاله وحالهم، وعزّ عليه أن ينصرف آيِساً فأشار إليه، فلما جاءه قال: اعرض عليّ مسألتك.
فضحك القروي وصاح: انظروا - يا قوم - إلى هذا المجنون؛ يزعم أنه يجيبني على مسألتي وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث!
فأقبل الناس على الصوت وطفقوا يتكلمون، فقال قائل: دعه فإنه مجنون. وقائل: لا عليك أن تسأله، فلعل عنده علماً. وقائل: سله واحمل جوابه إلى المفتين، فانظر ما هم قائلون.
ثم سكتوا، وسكت كل من في المسجد، وانقطعت أصوات القرّاء والمدرسين والذاكرين ولم يبقَ فيهم متكلم، لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة، وسمعوا «الله أكبر» تدوّي في نواحي المسجد، تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء، فيها روعة الوحي وجلال الدين وجمال الإيمان، فتقوضت المجالس، ورُصّت الصفوف، وتحاذت المناكب، وقال الإمام:«الله أكبر» ، فماتت الدنيا في نفوسهم وامّحت منها الشهوات وطُمست فيها الميول، لأنه مهما يكن من كبير فـ
…
الله أكبر.
* * *
فلما قُضيت الصلاة عادوا إلى القروي فقالوا له: اذهب
فسل صاحبك. فذهب إليه فقال: يا هذا، زعمت أنك قادر على الجواب، فهل أنت على قولك؟
قال: أستعين بالله.
قال: إنها قد أعجزت المفتين وحيّرتهم، أفأنت تستطيع أن تجيب عليها؟
قال: أستعين الله.
قال: هي كذا وكذا
…
قال: الجواب كيت كيت
…
وابتدر الفقير الباب. وحفّ الناسُ بالقروي فقالوا: هل أجابك؟ بِمَ أجابك؟ قل لنا بماذا أجابك؟
فقال: ما أنا بقائل لكم حرفاً حتى ألقى المفتين.
وأسرع وأسرع معه الناس إلى المفتين وقد عادوا إلى مجلسهم، فقال: أرأيتم ذلك الفقير؟
قالوا: نعم.
قال: قد أجابني عن مسألتي.
فضحكوا من جفائه وجهالته، وقالوا: بِمَ أجابك؟
قال: كذا وكذا.
فلما سمعوه أخذ منهم الجِد مأخذه، ونظر بعضهم إلى بعض
وكلهم مشدوه حائر لا يدري مِمّ يعجب: أمن كثرة علم الرجل مع رثاثة هيئته، أم من رثاثة هيئته مع كثرة علمه؟! ثم انتبهوا فقالوا: ويحكم، أدركوا الرجل فإن له لشأناً، وما نظنه إلا آية من آيات الله جاءت ترينا حقيقة العلم وسمو الفقر وجلال التواضع. أدركوا الرجل!
فقالوا: قد خرج.
قالوا: أوَليس فيكم من يعرفه؟
قال رجل من القوم: والله ما رأيناه إلا في السميساطية (1)، وقد نزلها منذ أيام فكان ينظف مراحيضها، ويتخذ مجلسه على الباب حتى أذنوا له بالدخول. وما رأيناه إلا عاكفاً على صلاة أو مشتغلاً بتسبيح، ولم يكلم أحداً.
قال المفتون: ويحكم! قوموا بنا إليه.
فلما دخلوا عليه قالوا له: من أنت؟
قال: رجل من الناس.
قالوا: قد سمعنا جوابك، وإنا نسألك بالله الذي لا إله إلا هو إلا ما أخبرتنا من أنت.
(1) الخانقاه السيمساطية وراء جدار الأموي الشمالي، حيال الحديقة التي فيها اليوم قبر صلاح الدين الأيوبي، وهي قديمة، كانت منزل عمر بن عبد العزيز فجعلها السيمساطي مدرسة. والمشهور اليوم أن اسمها «الشيمصاتية» (بالشين والتاء) وهو غلط. وقد مر ذكرها في هذا الكتاب في «قضية سمرقند» .
قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أمَا وقد أقسمتم فأنا أبو حامد الغزالي.
فصاحوا: حجة الإسلام! وانكبّوا على يديه يقبلونهما ويسألونه أن يعقد لهم مجلساً في الغد، ثم انصرفوا.
* * *
فلما كان الغد نظروا، فإذا الشيخ قد فارق دمشق! (1)
* * *
(1) انظر طبقات السبكي: ج4 صفحة 104.