الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هند والمغيرة
في عشية (من عشايا سنة 41 للهجرة) ساكتة لا يُسمع فيها إلا الصمت، في برية هادئة لا يُرى فيها إلا السكون، كان يرى القادم على الحيرة - إذا هو اجتاز بدير هند، عند النخلة المتفردة التي قامت على الطريق - عجوزاً طاعنة، قد انكمشت وانطوت على نفسها وجلست صامتة وحيدة، تجيل عينيها الضعيفتين في هذه الدنيا الصامتة التي دارت من حولها، فتبدل كل شيء وهي ثابتة.
كانت نبتة طرية مزهرة في ذلك الروض، فباد الروض كله وبقيت هي وحدها حطبة يابسة. وكانت كلمة في كتاب الماضي، فمُحيت سطوره كلها وبقيت هي وحدها الكتاب. هذه العجوز التي تراها فتحسبها قد فرغت من الهم واستراحت من الحزن، تطوي أضالعها على ذكريات ضخمة لعالم كامل أخنى عليه الدهر وأضاعه، ولم يدع منه إلا هذه الذكريات تحفظها وتحملها وحدها.
إنها لا تعيش في دنيا الناس، ولا يعيشون في دنياها. إنها لا تعرف شيئاً مما يحيط بها، ولا تنسى شيئاً من عالمها الذي
افتقدته من زمان؛ عالم الحيرة، وعدي بن زيد، والنعمان
…
العالَم الذي احتوى مسراتها وأحزانها وروحها، فلما مر حمل ذلك كله معه؛ فعاشت من بعده بلا حب، ولا مسرات، ولا أحزان، ولا روح، إلا هذه الذكريات التي تنقر كل يوم نقرة في قلبها. فلو كان حجراً صلداً لتفتت، فكيف وهو من لحم ودم؟
لقد بنت هذا الدير وتوارت وراء جدرانه، وعاشت منه في المنطقة الحرام بين الحياتين. فلا هي بحياة الناس الدنيا، فيها متعتها وملاهيها ومشاغلها، ولا هي بالحياة الأخرى. منطقة وراء الحياة ودون الموت هي معيشة الدير. وزادها ضيقاً وجموداً أنها في الدير وحدها، بَنَته لتأوي إليه تناجي فيه ذكريات حبيبها الذي فُجعت به وعافت لأجله الأرض برحبها وسعتها، وصبرت على هذا السجن الدهر الأطول، لا تدري مما وراء بابه إلا طرفاً مما يحمله إليها رجال القوافل الذين كانوا يمرون بها. وكان أقصى ما تصنعه إذا هي نشطت يوماً وأحبت أن تفارق منسكها أن تسلك هذا الطريق الذي طالما مر عليه فاتحون ومنهزمون، وسارت فيه الحضارة مصعدة وهابطة، ومشى فيه ملوك وسوقة، وسوقة وملوك، ذهبوا جميعاً إلى حيث لا يؤوب ذاهب، حتى تتعب من المسير فتجلس على رابية، وتشرف على البلد الحبيب: الحيرة، التي كانت يوماً موطن هواها، وكان فيها الإنسان الذي أعطته قلبها وأعطاها متعة العمر، فترى الحيرة لا تزال ترفل في حلل الخزامى والأقحوان، ولا تزال قصورها البيض تخطر تيّاهة بين البساتين، ولا يزال نسيمها معطراً بأنفاس المحبين، تطفو على وجهه همسات الغرام. ولكنها لم تكن تحيا فيها؛ كانت تفكر في
ماضيها. وما أصعب أن يعيش المرء في الماضي! ثم تذكر أنه لم يبق أحد من ناس بلدها الحبيب. لقد ذهبوا، ولا تدري أين ذهبوا ولِمَ بقيت هي وحدها من بعدهم؟ وجاء هؤلاء، ولا تدري من أين جاؤوا.
حتى تغرب الشمس وراء الأفق البعيد وتمشي الظلمة إلى الكون، فتعود وفي قلبها ظلمة أخرى، ولكنها لا تأمل أن يكر عليها فجر يوم جديد. لقد خلّفت ضياء الفجر في طريق العمر فلا تملك أن تعود إليه. لقد كُتب عليها أن تعيش في ليل دائم، وصمت سرمدي، هو صمت هذه الصحراء التي وسع صدرها أسرار الزمان ثم أغلق عليه إلى الأبد. كم بين ترابها ورملها، كم تحت روابيها وقبورها من بقايا قلوب كانت محبة وكانت محبوبة، وأجسام كان فيها فتنة وجمال. وما أقرب ما يصير قلبها هي (أيضاً) تراباً فيها تطؤه أقدام لا تعرف أصحابها. فما الحب، وما الجمال، وما الدنيا؟ إنها زوال في زوال!
وقامت العجوز تجر رجلها إلى الدير لتبدأ ليلة مملة طويلة، كآلاف الليالي التي مرت بها من قبل، ليالي لا آخر لها ولا أمل يسطع من خلالها.
إن السجين يأمُل بالعفو ويرجو الحرية، ويتسلى بحديث الرفاق ويأنس بأحداث السجن. وهي لا ترجو شيئاً، ولا تأنس بأحد، ولا تتسلى بحادث. ولطالما أمضت ليالي قصيرة حلوة، تلك هي ليالي الحب والوصال، ليالي زوجها عدي فتى الفتيان وأبيها النعمان. إنها كلما فكرت فيها رأتها دانية منها قريبة كأنها لم
يطلع لها صبح، فأين - يا تبصر (1) - مكانها من الوجود؟ أفَنِيَتْ وعادت عدماً؟ لا، إن الفناء لا يقوى عليها. إنها موجودة في الكون كوجودها في ذاكرتها. إن الفناء لا يدرك حقيقتها كما أن النسيان لا يقوى على محو صورها. إنها لا تشبع من الإيغال في هذا الماضي لأنها كلما أوغلت فيه جَدّتْ لها طرق ظليلة لا عهد لها بها، قد أزهر فيها المجد وبدا السنا، ورُبىً على كل رابية فراش غرام مرشوش بالعطر والشعر، ووجوه أحبة كانت تعيش بهم ولهم.
ولطالما اجتوَت (2)(من محبتها هذا الماضي) حاضرَها فخامرتها فكرة الموت، فمشت تقصد النهر، حتى إذا أدنتها خطاها الواهنة من مياهه ورأتها تلمع كالمرآة أشفقت من الموت وهابته وارتدت عنه للمرة الخامسة بعد الألف. إنها لا تريد أن تموت ولا تزال متعلقة بحياة قد أقفرت من المجد والحب!
* * *
ولما دلفت إلى مخدعها في الدير سمعت ضجة، وقالوا لها إنه الأمير، المغيرة بن شعبة، يستأذن عليك.
الأمير؟ ما لها وللأمير؟ ما شأنه بها؟ ما يبتغي لديها؟ أما
(1) إذا جاز أن نقول: «يا ترى» فلمَ لا نقول: «يا تبصر» ، فننجو من هذا الابتذال ونأتي بجديد؟ والإعراب في كليهما واحد، فقدِّرْ لـ «يا» منادىً وخاطِبْه.
(2)
اجتوى الشيء واستجواه: كرهه (مجاهد).
تركت له ولقومه ملك أبيها، فلِمَ لا يترك لها ديرها؟ وفكرت
…
ثم أذنت له. فدخل عليها، فبسطت له مسحاً وسألته: ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً!
خاطباً؟! إنها كلمة لم تسمعها من عمر طويل، فلما طرقت سمعها هزت وتراً في قلبها كان قد صدئ ونسيت ضيفها وقفزت إلى الماضي فغابت عن حاضرها، وغرقت في ذهلة عميقة امتدت أبداً، والمغيرة يرقب جوابها، ولكنه كان أكيَسَ من أن يفسد عليها أحلامها، فانتظر صابراً.
تخيلت أنها قد عادت فجأة تلك الفتاة التي كانت فتنة القلب والنظر وكانت مطمح الأنفس والفِكَر، قد جمع الله لها المجد كله والجمال كله، فهي عروس الزمان بهاء وحسناً، وهي بنت النعمان أعز عربي عزاً وأمجده مجداً. وأنها قد عادت أيام الحيرة، ورجع الفصح والشعانين، فخرجت إلى البيعة تتقرب فيها، فلما احتوتها البيعة وأمنت الأنظار ألقت عنها خمارها وأخرجت هذه اللؤلؤة من صدفتها، وأبدت ذلك الجسم الذي كانت تتقطع على الوصول إليه قلوب الرجال، ولم تدرِ أن الزمان أراد أن يؤلّف قصة حب تتلى بعد أربعة عشر قرناً، فجاء بعدي بن زيد، الشاعر الجميل، ليختلس النظر إليها ويقع في قلبه هواها. فلما رأته استترت منه وسبّت جواريها، وظنت أن القصة خُتمت قبل أن تفتح؛ لم تدرِ أنها قد سُطرت منها الأسطر الأولى لتكون سفر سعادتها العاجلة وشقائها الطويل.
لقد كانت جاريتها مارية تحب عدياً ولا تجد إلى الوصول
إليه سبيلاً، إلا أن تأتي بهند لتُحِلّها مكان المحبوبة من قلبه، ترضي بذلك حبها ونفسها. وقد يفنى المحب في الحبيب فيبني مسرته على أساس من شقاء نفسه! ومشت بين عدي وهند تدير خيط الحب من حولهما، حتى غدا سبباً قوياً وجامعة لا تنقطع. لقد صبرت حتى مضى حَولٌ كامل على يوم الشعانين ونسيته هند، فواعدت مارية عدياً بِيعة ثوما، وأغرت هنداً بزيارتها فاستأذنت أمها فأذنت لها، وهنالك عرفت هند ما الغرام وذاقت غصصه.
يا ويل مارية! لقد جعلت هنداً مهراً لها لزواج ليلة (1). لقد تعرضت لعدي غداة يوم ثوما فهش لها وبش (وقد كان لا يكلمها) وقال لها: ما غدا بك؟ قالت: حاجة! قال: اذكريها، فوالله لا تسألينني شيئاً إلا أعطيتك إياه.
قالت: أريد
…
وسكتت. وأدركها الخجل، ونطقت عيناها وفهم عنها، فأخذ بيدها إلى حانوت خمار في الحيرة. وكافأته بأن وعدته أن تحتال له في هند.
وتتالت الصور على قلب هند، فذكرت ليالي زواجها بعدي. فكانت - لقوة الذكرى - تحس على لسانها حلاوة تلك القبل، وتجد على عنقها لذة ذلك العناق، وعاد قلبها شاباً (على أن قلب المرأة والشاعر لا يفارقهما الشباب أبداً). ومدت يدها إلى المغيرة تحسب أنه - لِما طغى عليها من الخيال - عدي الحبيب، فلما أحس بها أجفل منها وانتفض، فتهاوى الحلم وتهافت،
(1) لأنهم كانوا قوماً نصارى تُمهِر نساؤهم الرجال (وتلك هي الدوطة).
وهبطت المسكينة إلى أرض الحقيقة الصلدة، فإذا هي لم تفارق أرضها ولم تَطِرْ في سماء الأماني. وإذا هي تتحسس وجهها فتلقاه ذابلاً ذاوياً ذا غضون، ولا تلقى على لسانها من قبل الحبيب إلا مرارة الفقد، ولا تجد في قلبها إلا ذكرى الفاجعة (التي تركت لأجلها دنياها، وبنت ديرها فحبست فيه نفسها). فماذا يريد منها هذا الرجل الذي اقتحم عليها معتزلها في هذه العشية الساكتة؟ أجاء يخطب عجوزاً قد بقيت وحدها إرثاً من الدنيا التي فنيت واضمحلت (دنيا النعمان وكسرى) للدنيا التي يظهر أنها لن تضمحل أبداً (دنيا محمد صلى الله عليه وسلم؟ أيريد أن يتزوج ميتة تمشي؟ لا؛ بل هو يريدها لأنها ابنة النعمان.
ونسيت تطوافها الأليم بمرابع ماضيها، وغاب عنها الحبيب الذي كان يتراءى لها من وراء حجب الزمان، وأدركها إرثها الماجد من حزم النعمان فقالت للمغيرة:
«لو علمتُ أن فيّ خصلة من جمال أو شباب رغبتْك فيّ لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم: ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته. فبحق معبودك، هذا أردت؟
قال: إي والله.
قالت: لا سبيل إليه» (1).
* * *
(1) بين الأقواس جمل من التاريخ، والقصة على عهدة الشيخ الأموي صاحب «الأغاني» .
وخرج المغيرة، وعادت العجوز إلى مكابدة الذكريات وحيدة في لياليها الطوال. وأعرض عنها التاريخ لا يلتفت إليها فيواسيها، لأنه لم يتعود الوقوف إلا على أبواب الملوك وفي ساحات الحروب!
* * *