الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طالب علم
قال محمد بن سعيد: ويْك! اتق الله يا أبا فلان. إنك لتوشك أن تقتل هذا الرجل الصالح وتبوء والله بدمه. ويلك اتق الله. لا تطرده من «فندقك» فإنه غريب نائي الديار، قطع سباسب (1) وبحاراً وجاب ما بين المشرقين.
قال: أبقيّ بن مخلد (2) جاب ما بين المشرقين؟
قال: نعم، وهل تراني عنيت غيره؟ إنه حاجتي إليك، وما سألتك حاجة قبلها، أفلا تقضيها لي؟ إنه شيخ جليل القدر يحمل الحديث ويروي السنن، أفندعه يموت على قارعة الطريق؟
قال: وما أصنع به أنا؟ لقد آويته في فندقي عامين اثنين، لا آخذ منه مالاً ولا أرزؤه شيئاً ولا أعصي له أمراً، أفيكون جزائي أن أعجف عليه نفسي (3) حتى يموت، فيخرج من فندقي محمولاً
(1) السّباسب هي الصحارى، مفردها: سَبْسَب (مجاهد).
(2)
انظر الصفحة 79 من «مختصر طبقات الحنابلة» ، طبع دمشق.
(3)
يقال: عجف نفسه على فلان: احتمل منه ولم يؤاخذه، وعجف نفسه على المريض: صبّرها على التمريض والقيام عليه (مجاهد).
إلى القبر فيتشاءم الناس بالفندق فيتحامونه فأفلس؟ إنه مريض أنهكته الأوجاع وأدنفته الحمى، ولقد أعجز نقاريس (1) الأطباء، وما أراه إلا ميِّتاً العشية أو غداة الغد
…
فارحموني، أنقذوني منه، ليس لي به حاجة. قبحها الله ساعة أكريته فيها هذا البيت، لقد كانت ساعة ما حضرها مَلَك!
قال: أَرْبِعْ عليك أيها الرجل؛ فإنك في نعمة لو عرفت قدرها لقطّعت الليل بحمد الله عليها. إنك لا تدري أيّ خير ساقه الله إليك وأي أجر كتبه لك، فأقم نفسك في خدمته وارجُ وجه الله أطمعْ لك بالجنة.
قال: إني والله لفي بلية لو عرفت مداها لما لمتني على الجزع منها. إنك لا تعرف هذا الشيخ أي رجل هو؟ أأقول لك، إنه لم يبت عندي ليلة واحدة حتى خرج بخلقان بالية ومزق مخرقة وركوة وعصا ليسأل الناس
…
ما لك تضحك من كلامي؟ أتهزأ بي يا ابن سعيد؟
قال: لا، ولكنك لا تدري ما شأن هذا الرجل.
قال: وإنّ له - بعدُ - شأناً؟
قال: وأي شأن! هذا رجل هجر جنات الأندلس ورياضها، وعيونها وأنهارها، ومكانة له فيها سامية وجاهاً له عريضاً، وفارق أهلاً فيها وصحباً، وعشيرة كبيرة، وأموالاً كثيرة، وذهب يخوض
(1) جمع نِقريس، وهو الطبيب الحاذق (مجاهد).
اللجج والبحار ويجوب السباسب والقفار ليقدم بغداد، لا طمعاً بمال يناله أو جاه يحصله، أو صديق يزوره أو امرأة يخطبها أو لذة يطلبها، ولكن رغبة في العلم وحباً للحديث وشوقاً إلى لقاء أبي عبد الله!
فلما سمع الفندقي اسم أبي عبد الله انتبه وتبدلت حاله، وطفت على وجهه خيالات من الحب العظيم والإجلال الكبير الذي يحتفظ عليه قلبه لهذا الإمام. وقال بلهجة أرق ونغمة أعذب، قد ذاب فيها حقده على بقيّ بن مخلد في محبته لأبي عبد الله: أتقول إن الرجل قدم من الأندلس ليلقي أحمد بن حنبل؟
- نعم.
- يا له من شرف في الدنيا والآخرة! وهل لقيه؟ ألا تخبرني كيف لقيه؟
قال: إنه نزل عليك في هذا الفندق فألقى فيه متاعه وذهب يطلب أبا عبد الله، وكان ذلك أيام المحنة والناس لا يجرؤون على ذكر اسمه، وأبو عبد الله منفرد لا يلقاه أحد إلا أخذته عيون السلطان فناله أذى شديد. فلما علم الرجل بذلك ناله من الغم ما الله عالم به، فأمّ المسجد الجامع في الرُّصافة يسمع من المحدثين، فما زال يمر بالحِلَق حتى انتهى إلى حلقة نبيلة فوقف عليها، وكنت أول من رأى زيه الغريب، فسلمت عليه أونس غربته، فسألني: من هذا الشيخ؟
قلت: يحيى بن معين.
وكان يعرفه، ومن لا يعرف يحيى بن معين؟ فوقف ساعة، ثم لمح فرجة قد انفرجت فقام فيها، وكان الشيخ يكشف عن الرجال (1) فيقوّي ويضعف ويزكّي ويجرح، فقال: يا أبا زكريا، رحمك الله. رجل غريب نائي الديار، أردت السؤال، فلا تستخفني.
فقال الشيخ: قُلْ.
فجعل يسأل عن بعض من لقي من أهل الحديث (وكان قد لقي منهم خلقاً كثيراً) فبعضاً زكّى الشيخ وبعضاً جرّح. فسأله عن هشام بن عمار (وكان قد أكثر الأخذ عنه)، فقال الشيخ: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر ما ضره شيئاً لخيره وفضله.
فتصايح أهل الحلقة: حسبك يرحمك الله، حسبك! غيرك له سؤال.
فقال وهو واقف على قدم: أكشفك عن رجل واحد؛ أحمد بن حنبل؟
فما قالها حتى جمد الناس وعلت الشيخ كآبة، ونظر إليه متعجباً كأنه يقول له: أعن أحمد يسأل أحد؟ وهل تجرؤ على ذكره؟ وكأن الشيخ قد خالطه شيء من الجزع، ثم غلب عليه إيمانه فلم يعد يبالي السلطان وغضبه وقال للسائل: من أين أنت أيها الرجل؟ نحن نكشف عن أحمد بن حنبل؟
(1) أي رجال الحديث.
وسكت الشيخ لحظة ثم قال بجرأة عجب لها الناس ولبثوا شاخصين، ينظرون إلى الشيخ يخافون أن تتخطفه جلاوزة السلطان
…
قال الشيخ: ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.
* * *
ثم إن الرجل ذهب يستهدي الناس إلى دار أبي عبد الله، فمنهم من يُعرض عنه خشية أن يكون عيناً للسلطان ومنهم من يجرؤ فيمشي معه خطوات. حتى انتهى إلى الدار.
فنال الإعجاب من نفس الفندقي كل منال، وسأله: أتقول إنه زاره في منزله أيام محنته؟
قال محمد بن سعيد: نعم؛ قرع عليه الباب، فلما فُتح له قال: إني رجل غريب أتيتك من مكان سحيق. قال أبو عبد الله: مرحباً بك، أين بلدك؟ قال: الأندلس. قال: إفريقية؟ قال: لا؛ أبعد من ذاك، أركب البحر من إفريقية إلى بلدي. قال: لا جرم أنه بعيد، فما حاجتك؟ قال: أسمع منك وأروي عنك. قال: ولكني كما رأيت وعلمت، لا ألقى أحداً ولا يدَعون أحداً يلقاني، ولست آمن عليك الأذى إذا أنت أتيتني. قال: ما كنت لأبالي في سبيل الأخذ عنك أذى ولا عذاباً. قال: فإن هم منعوك؟ قال: أحتال بحيلة. آتيك بزي السؤال فأصيح: الأجرَ يرحمك الله
…
فتفتح لي وتحدثني. قال: على ألاّ تظهر في الحِلَق فيعرفوك. قال: على ألاّ أظهر.
فكان يفعل ذلك. وكنتَ تظنه يخرج فيسأل الناس.
فعاد الفندقي يسأله متثبتاً وقد كبر الرجل في عينيه حتى كأن
الذي تحتويه غرفته ملك أو وزير، عاد يسأل متثبتاً: إذن فهو من أصحاب أحمد بن حنبل؟
قال: نعم؛ ولبث على ذلك حتى رفع الله المحنة وولى الأمر المتوكل، فأحيا المذهب الحق، مذهب أهل السنة، وأمات البدعة، وجزى الله أحمد بما صبر. فكان - كما تعرف وأعرف - إمام الأمة، وأيّد الله به الدين كما أيّده بأبي بكر يوم الردة، فصار يَعرف لهذا الرجل حقه ويقول لأصحابه: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.
قال الفندقي: جزاك الله يا ابن سعيد خيراً؛ فقد عرّفتني حقه، فهلمّ بنا إليه.
كان بقيّ بن مخلد الأندلسي وحيداً في غرفته، يتقلب من الألم ويتلوى من الحمى، قد طحطحه المرض وهدّته الأوجاع فما أبقت منه إلا هيكلاً كالقناة الجوفاء يتردد فيها الهواء، ولَمَا يشكو من الحنين إلى بلده والتشوق إلى أهله أشد عليه من كل ذاك.
ولم يكن في البيت إلا لبد اضطجع عليه ووسادة ألقى عليها رأسه، وكتبه مبثوثة من حوله ما يدعها، إذا أدركه انتباه نظر فيها، فإذا غاب عنه مِن الوجع عقله تركها في مكانها. فلما دخلا عليه ألفياه يقرأ في صحيفة في يده. فجلسا ساعة يؤنسانه، فما شعرا إلا ضجة تدنو حتى حسباها قد استقرت في الفندق، فنظرا من الشبّاك فإذا الرحبة والطرق التي تؤدي إليها ما فيها موطئ قدم خلا من إنسان، فاضطرب الرجل ونزل يسأل أنْ ماذا جرى؟ فما أحس إلا الناس يقولون: لقد أتى
…
هو في الطريق. فأيقن أنه الخليفة،
ولكنه رأى موكب الخليفة غير مرة فما رأى مثل اليوم، ودنا من شيخ واقف في أطراف الناس فسأله من القادم، وأين يذهب؟
فقال: إنه أبو عبد الله، الذي لا يمشي إلى الخليفة، قادم ليعود مريضاً في هذا الفندق.
فصاح الفندقي: أبو عبد الله قادم إلى فندقي، أبو عبد الله؟! وطفق يصيح ويثب لا يدري ماذا يصنع وماذا يقول، وما يحفله أحد لأن الناس يستشرفون الطريق ينظرون وقد احتشدوا فيها، فما بقي بزّاز في دكانه ولا تاجر في سوقه ولا طالب علم في حلقته، ولهم دويٌّ وجلبة.
وصحا الفندقي على نفسه، فإذا هذا البحر ينشقّ بقدرة الله، وإذا الخلق يسكتون حتى كأن على رؤوسهم الطير، ويبدو الإمام ومن حوله طلبة العلم قد احتشدوا من جهات بغداد كلها، بغداد العظيمة التي يسكنها مليونان، وبأيديهم قراطيسهم وأقلامهم يكتبون كل كلمة يقولها. فانتهى الإمام إلى الغرفة، فوقف على المريض فقال له: يا أبا عبد الرحمن، أبشرْ بثواب الله، أعلاك الله إلى العافية ومسح عنك بيمينه الشافية.
فتناقل القوم ما قال فكتبوه.
ومرت أعوام بعد ذلك وأعوام والناس يذكرون هذا اليوم المشهود. أما الفندق فغدا منذ تلك الزيارة محط رجال العلماء والكبراء، ودرت على صاحبه أخلاف الرزق، وأما بقيّ فقد شفاه الله وأعاده إلى الأندلس فملأها علماً.
* * *