الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخر أبطال غرناطة
لم تشهد شمس اليوم الواحد والعشرين من المحرم سنة 897 هـ حينما أطلت على غرناطة تلك المدينةَ الضاحكةَ للحياة، الساكنةَ إلى النعيم، السابحة في جو النغم العذب والعطر الأريج، بل رأت مدينةً واجمةً حَيرى، قد أقفرت من الرجال إلا قبضة من الأبطال رابطت حيال الأسوار، هي بقية ذلك الجيش الذي دانت له إسبانيا كلها وأظلت ألويته فرنسا وإيطاليا
…
قد وقفت تدافع عن آخر حصن للإسلام في هذا القطر الممرع، تذود عن بيوت الله ومقابر الأجداد.
ولقد جازت غرناطة أياماً سوداً عوابس، ورأت مصائب ثقالاً متتابعات، ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التي قضتها مسهدة مذعورة، تنظر حواليها فلا تبصر إلا مدناً خضعت للعدو فجاس خلالها واستقر فيها، وقد كانت أرض العروبة وكانت ديار الإسلام، وأمة استُذلت واستُعبدت، وقد كانت أعز من النسور وأمنع من العقبان، وبقيت هي وحدها تحمي الحمى وتدافع عن الأرض والعرض والدين، وتحمل وحدها أوزار الماضي وما كان فيه من تخاذل وأثَرة وانقسام، وتؤدي وحدها الدَّين، دَين الجهاد
الذي كان في أعناق مدن الأندلس كلها والمسلمين أجمعين، فنامت عنه مدن الأندلس وشغلتها خيالات الإمارة وألقاب مملكة في غير موضعها!
وجعلت تنظر غرناطة إلى القصر البهي العظيم (وهو آخر هاتيك القصور التي شغل رواؤها الأمراء، وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهم الأولى، فكانت مقابر لأمجادهم) طفقت تنظر إليه فلا ترى من بُناة الحمراء إلا الرجل الضعيف والمرأة الملتحية التي اسمها أبو عبد الله الصغير، وأمه الشريفة الأبية، الرجل الذي خُلق في جسم امرأة: عائشة. فحولت وجهها عن القصر إلى جهة السور تسأل: هل عاد موسى؟
ولقد كان «موسى» أملَ هذا الشعب وإليه مفزعه، وعليه بعد الله اعتماده. بدا له في ساعة الخطر كما يبدو النجم الهادي للضال الآيس.
لقد طلع فجأة من الظلام، ظلام الدهماء، فإذا هو يلمع في لحظة واحدة التماع البدر المنير (وكذلك يقذف هذا الشعب المسلم بالأبطال كلما حاقت الشدائد وادلهمّت الخطوب)، وإذا هو أمل أمة، وإذا هو ملء السمع والبصر، وملء السهل والجبل، وإذا هو بطل المعركة المكفهرّة. دعا إلى القتال شعباً كلَّ من القتال فلباه على كَلاله، هذا الشعب الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم كيف يلبي كلما دعي إلى التضحية والجهاد، لباه وتشققت أسماله البالية عن أسود غاب وسباع عرين، ووقف بهؤلاء الأسود في وجه السيل
الإسباني الطامي وما زال ثابتاً، ولكن أسوده قد سقطوا صرعى في ميادين الشرف.
خرج موسى منذ إحدى عشرة ساعة يضرب الضربة الأخيرة ينال بها إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، ويرد العدو الذي أبقى عليه حِلم المسلمين حتى قوي بضعفهم واشتد بلينهم، وانتزع منهم الأرض قرية قرية، وبلداً بلداً، حتى أقبل يطردهم من آخر منزل لهم في الأندلس، من غرناطة.
* * *
وعلت غرناطة فترة الجزع من خوفها على موسى. لقد جعلته قائدها، وسلمته الدفة ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع إلى الشاطئ الآمن، فإذا عجز موسى عن نجاتها لم يُنجها أحد من بعده. وقد كان موسى آخر خيط من خيوط الرجاء، وآخر شعاعة من هذه الشمس التي سطعت فملأت الأرض نوراً وهدى ثم أدركها المغيب، فإذا انقطع هذا الخيط عمَّ ظلام اليأس وانتشر. وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق، ثم توالى على نظمه «شعراء» البطولة: عبد الرحمن وعبد الرحمن وعبد الرحمن، الغافقي والداخل والناصر، فحمله الأبطال المساعير إلى الأقاصي والأداني، وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا وبطاح إيطاليا، ثم ضعف وتخافت ولم يبق منه إلا هذا المقطع، فإذا انقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات.
وقد كان موسى آخرَ سطر في سفر الحق والبطولة والمجد،
ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمئة سنة، فمحاه الإسبان في سنوات، ولم يبق إلا هذا السطر، فإذا طُمس ذهب السفر وباد. وقد كان موسى آخر نفَس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة، فإذا وقف هذا النفَس الواحد وسكن هذا الذماء الباقي صارت الأندلس المسلمة أثراً بعد عين، وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم وأمانة في عنقه إلى يوم القيامة.
* * *
وانطلقت من أعالي الأسوار أن: "لقد عاد موسى"، فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان، فطارت في أرجاء المدينة وسارت في جوانبها مسير البرق، فبلغت الساحات والدروب، وولجت الدور والمنازل، وأوغلت خلال البيوت والسراديب، فلم تلبث أن نفضتها نفضاً فألقت بأهليها إلى الأزقة والشوارع، فإذا هي ممتلئة بالناس من كل جنس وسن ومنزلة، وإذا هي تزخر بهذا النهر الإنساني الذي يجري صوب الأسوار صخّاباً جيّاشاً مُزبداً، يتحدر ويسرع مجنوناً كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها الكلمات السحرية «المكهربة» الثلاث:"لقد عاد موسى"!
لقد كان يوماً من الأيام الغر التي تضيء الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ، وتجيء في الليالي كالعبقري في الناس، وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان، ما شهدت مثله غرناطة، ولا أبصرت منه (إلا قليلاً) عين الوجود! إنه يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع، ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن، وانبتّوا من الحاضر المقيت ليعيشوا في
الماضي الفخم؛ فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابُها أرواحَهم على أكفّهم، وقدّموا بين أيديهم دماءهم التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز، ونفوسَهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة، فمشت في الأعصاب النار، واستعد كتّاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب إذا هبّ.
ووصل موسى، ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأتِ في سنوات الهجرة الأولى، بل جاء في الأواخر من القرن التاسع، ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد، بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها.
وكانت تعلوه كآبة، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكاً أخرى أو قادسية ثانية، ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى، قد ختمه الآن بموسى!
ونظر موسى حوله، فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره، وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم، ونسوة تفتحت تفتح الأكمام عن زهراتها فرأت الطرقات مَن لم تكن الشمس تراهن صيانة وتعففاً، قد برزن يَسِرْنَ إلى المعركة ويزاحمن الرجال، ولم يكُنّ يخشين على جمالهن، فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس، فكان كل رجل أخاً فيه لكل امرأة.
فأحنى رأسه، ورأى الناس في عيني البطل دمعة تترقرق، وفتح فمه فحبس الناس أنفاسهم.
فإذا هو يعلن النبأ المهول، نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة!
نبأ بدا صغيراً كما تبدو المصائب، فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثر هذا وما خطره، ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ ولم تفرغ - إلى اليوم - من وصف فواجعه وأهواله.
ونظر موسى فإذا الصرح الذي أنفق في إقامته الدهر الأطول قد انهار في دقائق، وإذا هذه الديار التي سُقيت بدم الجدود وامتزجت برفاتهم وقامت على أيديهم يسلمها جبان مأفون للعدو المغير، وإذا السادة صاروا خَوَلاً والملوك عبيداً
…
وجعل يفكر في هذه الفئة التي حوله، في أكرم زهرات غرناطة وأزكاها، هل يُجنّبها الموت الحاصد ويردها إلى حيث وجدت الراحة والدعة، أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها إلى موت شريف؟
وإنه لفي تفكيره وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يُعرف من نظمه لهم، فيصغي الناس ويستمع الفلك الدائر:
لا تبكي يا أماه؛ إنّا ذاهبون إلى الجنة.
إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات في سبيل الله.
إن أزهار غرناطة لن تمنع عطرَها قبراً لم يمتع صاحبه بعطر الحياة.
إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها.
أنت يا أرض غرناطة أمنا الثانية، فضمينا إلى صدرك الدافئ الذي ضم آباءنا الشهداء.
لا تبكي يا أماه، بل اضحكي واحفظي لعبنا، سيأتي إخوتنا فيلعبون بها.
فذكّريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن، بل في سبيل الله.
سنلتقي يا أماه! إنك لن تؤثري الحياة في ظلال الإسبان على الموت تحت الراية الحجازية، راية القرآن.
ولن تضيق عنا أرض غرناطة. ما ضاقت أرضنا بشهيد.
* * *
ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك، فلكز فرسه وانطلق إلى حيث لا يدري أحد، كما جاء من حيث لم يَدرِ أحد.
وكذلك يذهب آخر أبطال الأندلس، لم يخلف له قبراً في الأرض ولا سيرة واضحة في التاريخ، بل مرّ على الدنيا كأنه حلم بهيج!
رحمة الله على موسى بن أبي الغسان، وعلى أولئك الأبطال.
* * *