المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌على أبواب المدينة

‌على أبواب المدينة

زينب: كُفّي يا فاطمة، كُفّي يا حبيبتي! لقد بلغنا مشارف المدينة.

فاطمة: وماذا أصنع في هذه المدينة؟ أألقى فيها أخي؟ أألقى الفتية الكرام من آل النبي؟ لقد ذهبوا يا زينب، لقد ذهبوا إلى الأبد.

سميّةُ أمسى نسلُها عددَ الحصى

وليس لآل المصطفى اليومَ من نسلِ (1)

زينب: إنا لله وإنا إليه راجعون!

فاطمة: ماذا أجد في المدينة؟ يا مدينة الرسول! هؤلاء بنات الرسول يتامى ثاكلات أسيرات ذليلات كأنهن سبايا الروم! يا مدينة الرسول

زينب: فاطمة! أشفقي على الصغار؛ لقد نفدت دموعهن.

(1) أنشده يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم بين يدي يزيد ولم ينكر عليه.

ص: 307

فاطمة: ولمن يدّخرن الدموع بعد حسين؟ ابكين، ابكين

لقد قتل الحسين!

زينب: فاطمة! أهكذا تدخلين المدينة يا فاطمة؟ كفي يا أختاه، كفي.

فاطمة: لقد كانت مدينتي يا زينب يوم كان فيها أهلي، فما لي اليوم فيها من أهل. إن مدينتي هناك، في القفرة التي غصت أحشاؤها بأجساد الهاشميين، آه! هل دخل على أهل بيت ما دخل علينا؟ آه، يا رب!

زينب: استعيني بالله.

فاطمة: لقد رأيت ابن أخي (وهو ابن خمس سنين) يخرج من الخيمة فيتلفت مذعوراً لا يدري ما هذا الذي يرى، فلحقته لأدخله، فوجدت

آه يا رب! وجدت

السهم

لقد قتلوا الطفل!

زينب: اصبري يا فاطمة؛ إن الله مع الصابرين.

فاطمة: لقد رموا أخاه فمات في حجر أبيه، فتلقى الحسين دمه بيده. انظري يا زينب! ألا ترين إلى الدم قد خضب حواشي الأفق؟

زينب: هذا هو الشفق يا فاطمة!

فاطمة: وهذا السواد الذي غطى على الكون؟

زينب: هذا هو الليل، ما لك يا فاطمة؟ هذا الليل.

ص: 308

فاطمة: إننا سنعيش في ليل دائم لا يُلمح في جوانبه فجر. سنعيش بعد الحسين في ليل الأحزان السرمدي.

زينب: عدتِ إلى البكاء! فاطمة، إلى متى تبكين؟

فاطمة: إلى أن يرجع حسين، حسين خير الفتيان وسيد شباب الجنة.

زينب: لا حول ولا قوة إلا بالله.

فاطمة: حسين! يا أخي يا حبيبي، يا قرة عين رسول الله.

زينب: .... ....

فاطمة: لقد رباك النبي وغذتك فاطمة بنت محمد ليقتلك سنان بن أنس النخعي؟ لتكن ملعوناً يا سنان على كل لسان.

زينب: تعال كلمها يا علي، تعال كلم عمتك.

فاطمة: أين هو علي؟

علي: هأنَذا يا عمتي.

فاطمة: ادنُ مني يا علي. أنت بقية آل محمد؛ أنت اليوم رجلنا وحامينا، لم يبقَ إلا أنت. كل أسرة فيها رجالها، ورجال بيت النبي مُصرّعون في كربلاء. لقد وسع المسلمون بعدلهم الذمي والكافر، ولكن عدلهم ضاق عن آل النبي. لقد قدموا الحياة السعيدة للنصراني واليهودي، ولكنهم لم يجدوا لابن بنت النبي إلا الموت الأليم. أفكان لهم ثأر عندك يا محمد!

ص: 309

علي: كفّي يا عمة! لست وحدك المصابة؛ إن المجد والشرف والإسلام، كل أولئك أصيب يوم أصيب الحسين. كفّي يا عمة، لست وحدك الباكية. ستبكي معك عيون طاهرة لن يجف فيها الدمع إلى يوم القيامة. لقد مات الحسين، لقد قُتل أبي، ولكنه سيعيش خالداً بروحه في جنان الخلد، وخالداً باسمه في القلوب. ألم يختر هو الموت اختياراً؟ ألم يقدُم عليه؟ ألم يُعرض عن نصيحة عمي محمد بن الحنفية؟ ألم يستحلفه عالما الأمة ابن عمر وابن عباس أن يقيم في الحجاز وألا يثق بما يقول الكوفيون، وألا يشقّ عصا المسلمين، فأبى إلا المسير؟ ألم يأتِه الخبر بمقتل مسلم بن عقيل وانقلاب أهل الكوفة عليه؟

فاطمة: بلى، بلى. ولكنه رأى الجور فاشياً، والمنكر معروفاً، وأموال الله نهباً مقسماً وحمىً مستباحاً، فنهض ينصر الحق ويحيي العدل، ولم يقم حتى دعوه وألحوا عليه. ما كان يظن أن المسلمين يقتلون ابن بنت نبيهم ويذبحون أطفاله ويسوقون نساءه كما تُساق أسرى الروم. فكيف كان هذا يا علي ولم تطبق السماء على الأرض؟ أيُقتل بنو النبي وتُسبى نساؤه ولا يغضب أحد؟ ألم يبقَ على ظهر الأرض مسلم؟ هذا ابن بنت النبي وفتى بني هاشم، لو مات على فراشه لهز موته أهل الإسلام، فكيف وقد قُتل مظلوماً، وقد قُتل معه هؤلاء الفتيان البُرآء وهتكت أستار أكرم بيت رفع على هذه الأرض؟ آه! أيطِلُّ (1) دمك يا حسين؟

علي: اطمئني يا عمة. إن دم الحسين لن يطل؛ لقد وقع

(1) طلَّ دم القتيل: هدر وبطل ولم يُثأَر به ولم تُؤخذ ديته (مجاهد).

ص: 310

الزلزال فأفاق الناس فزعين، ولكن الهزة لم تدع لهم سبيلاً إلى التفكير. إن العالم حائر مشدوه لأنه لم يكن يصدق أن هذه هي النتيجة. كلا، ولا هؤلاء الذين تألبوا على أبي يحاربونه. كانوا يظنون أنه سيستسلم لهم. كانوا يتحامَون قتله وينأون عنه، لا يريد أحد منهم أن يلقى الله بدمه وأن يبوء بهذه اللعنة، فلما رأوه مقتولاً ذُعروا وتيقظوا كأنما أفاقوا من حلم هائل.

فاطمة: ولكنهم أفاقوا بعدما فات الأوان. يا لهؤلاء الوحوش، يا للذئاب! لقد دعوه وألحوا عليه، حتى إذا جاء نهضوا إليه بالسيوف وضنوا عليه حتى بالماء. لقد شهدته يقاتل عطشان قد جف حلقه من الظمأ، فحسبتهم سيسقونه، ولكنهم سددوا إلى فمه سهماً ملأ فمه بالدم. هذا هو الذي منوا به عليه!

علي: إنهم سيندمون يا عمة؛ سيعضّون أصابعهم حسرة. إنهم سيلطمون وجوههم لوعة. إن هؤلاء الذين قتلوا الحسين وقتلوا أباه هم الذين سيبكون عليه وعلى أبيه. إن الكوفة التي أذاقتنا الغصص ستكون مثابة شيعتنا ومثوى أحبائنا. سيفنى الأعداء ويبقى الأحباء. سيأتي يوم يقال فيه: أين من قتلوا حسيناً؟ أين أنسالهم؟ أين من يبغض آل بيت النبي؟ قد خلا وجه الأرض منهم، ليس في الدنيا من بني أمية أحد.

الدليل: وما ذنب بني أمية؟

علي: لقد نسيت أنك هنا. ما كان لي أن أتكلم عن بني أمية بمسمع منك.

ص: 311

الدليل: ولِمَ يا سيدي؟ إني من جنود بني أمية ولكني محب لكم ولذلك صحبتكم. وهل يتم إسلام امرئٍ يبغض آل بيت نبيه؟ إني والله ما أوثر عليكم أحداً من بني أمية، ولكنها كلمة الحق.

علي: وما هي كلمة الحق؟

الدليل: هي أن أمير المؤمنين يزيد لم يُرد قتل أبي عبد الله ولم يأمر به، ولقد كتب إلى ابن زياد ألا يقاتل من لم يقاتله.

علي: لقد عرف ذلك الحسين، فسأل القومَ أن يدَعوه حتى يضع يده في يد يزيد، أو يمضي إلى ثغر من ثغور المسلمين فيقاتل فيه المشركين، أو يعود من حيث جاء.

الدليل: أنصفهم والله! ولو قدم على يزيد لوجده مبجِّلاً له عارفاً بقدره، إن لم يمنعه دينه من قتله منعته مروءته (وهو ابن عمه) أن يرمل نساءه ويهتك أستاره.

علي: صدقت والله. ما رأينا من يزيد إلا خيراً؛ أحسن إلينا ولعن ابن سمية وترحم على الحسين، وكان قصره من البكاء على أبي عبد الله كأنه في مناحة (1). ولكن المجرم شمر بن ذي الجوشن.

فاطمة: هذا الذي أوقد النار وضرّاها. لتنزل عليه اللعنة الحمراء، ليكن ملعوناً على كل لسان إلى قيام الساعة.

علي: وعبيد الله بن زياد.

(1) هذا ثابت عند المؤرخين.

ص: 312

فاطمة: هذا الذي أمر بها، هذا الذي ضرب بقضيبه فماً قبّله رسول الله. لتنزل عليه اللعنة الحمراء، ليكن ملعوناً على كل لسان إلى قيام الساعة.

علي: سيبوءان بلعنة العصور ويصيران سُبّة التاريخ. لقد فقدا الدين والمروءة وخسرا الشرف. لم يستثر حميتهما ولم يهج إنسانيتهما هؤلاء الأبطال الذين وقفوا يدافعون عن الحق ويذودون عن أسرة النبي، يقاتلون وهم عطاش والموت عن أيمانهم، والموت عن شمائلهم، والموت من أمامهم، وهم ماضون في سبيلهم لا يريدون مالاً ولا يبغون جاهاً ولا يحرصون على عَرَض من أعراض الدنيا، ولكنهم يريدون الله. حتى إذا أحسوا باليأس طفقوا يسارعون إلى الموت واحداً بعد واحد، وكلما ذهب منهم بطل ودع الحسين وسلم عليه وأسلمه إلى من خلفه ليدافع عنه، حتى فارقوه جميعاً ليلقوه في الجنة. هؤلاء هم الأبطال الأشراف الذين ستبقى أسماؤهم درة في تاج التاريخ تلمع أبداً فتضيء للسارين طرقهم إلى النبل والشرف والمجد: حبيب بن مظاهر، وزهير بن العتيق، والحر بن يزيد الذي كفر عن خطيئته وتاب من ذنبه؛ رحمة الله على الجميع.

زينب: انظري يا فاطمة، لقد وصلنا إلى المدينة.

فاطمة: خرجنا منها منذ شهرين فسحنا في الأرض ورأينا العراق والشام، ولكنا عدنا كالسبايا. لقد خسرنا كل شيء، آه! أين

أين أنت يا أخي تستقبلنا؟ أين فتيان بني هاشم يحفّون بنا؟ أين رجالك يا أسرة النبي؟

ص: 313

زينب: يا فاطمة، إنهم ذهبوا ولكن الله باق.

فاطمة: هذه داركم يا آل النبي فتجرعوا فيها الآلام، هذه الدار فاذكروا ساكنيها الذين احتواهم جوف الأرض من كربلاء. هنا كانوا يقيمون وهنا كانوا

علي: قد بلغنا المسجد، فانزلي فسلمي على الرسول. انزلي يا عمة.

فاطمة: السلام عليك يا رسول الله، يا جدي. لقد قتلوا ابنك الحبيب!

* * *

ص: 314