المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ليلة الوداع ولّى نهار الإثنين 16 جمادى الأولى سنة 73 للهجرة - قصص من التاريخ

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌ليلة الوداع ولّى نهار الإثنين 16 جمادى الأولى سنة 73 للهجرة

‌ليلة الوداع

ولّى نهار الإثنين 16 جمادى الأولى سنة 73 للهجرة وخلّف مكة وهي ثكلى ملتاعة، محطمة القلب مخلّعة الأضلاع، قد غرقت في دماء أبنائها الذين ضربتهم يد الدهر ففرقت جمعهم وشتت شملهم، فراحوا

فريق مصرّعون على أرض الحرم، وفريق تحت رايات أمية. قد أرمضتهم هذه الحرب الطويلة التي حملوا عناءها وقاسوا لاواءَها سبعة أشهر لم تدع لهم أخضر ولا يابساً، فتسللوا من مكة لِواذاً، ثم تسلقوا هذه الجلاميد التي انتشرت عليها جيوش أمية الغازية فاستسلموا إليها وأخذوا منها لأنفسهم أماناً، ثم كانوا عوناً لها وجنداً فيها. وفريق أقاموا على الولاء لابن الزبير، يذكرون من مات من أهليهم فيَغُصّون بالماء حزناً وألماً، ويذكرون من فرّ من إخوانهم فيوارون وجوههم حياءً وخجلاً، ثم إنهم ينتظرون الموت بين كل لحظة وأختها، ويعيشون خائفين في مقام إبراهيم (ومن دخله كان آمناً!).

وألقى الليل غلائله السود على هذه المدينة التي عضتها الحرب بنابها، وأصابتها بأوصابها، فباتت تتنفس الصعداء من شدة يوم قاس عَبوس، تحالفت فيه طبيعة الجو وقسوة القلوب

ص: 191

على حرب هذا البلد الحرام، فلم يكن ينجو من حجارة المنجنيق إلا إلى شَرَى (1) الصواعق، فكأن الطبيعة قد شمرت عن ساقها للقتال، فهي ترمي المهاجمين والمدافعين والآمنين من صواعقها ورجومها بشَواظٍ من نار، تصيب به الدور والمنازل فتدعها قاعاً صفصفاً كأن لم تَغْنَ بالأمس. والحَجاج ما ينفك مجالداً مقارعاً، يقذف بأحجار منجنيقه وجنادله بيت الله فيهدم جدران بيت الله، ويرمي بيوت الناس فيُهلك من بقي فيها من أشياخ عجّز لا قبل لهم بالحرب وأهوالها، وأطفال برآء لا يدَ لهم في جرائرها وأوزارها، فيختلط عويلهم وصراخهم بهزيم الرعود وزئير الرياح، ثم تضيع هذه الموسيقى المروعة في جلبة الانهدام، ويخفي الغبار الثائر حول المنازل المهدودة هذا المشهد المرعب لحظة من زمان، ثم ينجلي فإذا التراب قد حوى كل شيء، وإذا المدينة العامرة المقدسة مقبرة من المقابر.

وامتد رواق الليل، وصفت السماء وأطل البدر، ونامت الحرب. وكانت الحرب يومئذ طفلة لم تستكمل شراستها، ولم تَنْمُ أنيابُها، ولم يستَطِرْ شرُّها (كما استطار اليوم فغدت لا تنام ولا تُنيم). وكان في نفوس المتحاربين شرف ووفاء، فاستراحوا وأراحوا، ونام هؤلاء الأبطال المدافعون نوم الأُسْد في آجامها، كما نام هذا الجيش الجرار الذي امتد زحفه حتى بلغ أبواب الحرم.

سكن الليل وعم شوارع مكة المقفرة الخالية (حيث كان جيش ابن الزبير يروح ويغدو بطبوله وراياته، فطوت كف الردى

(1) شَرِيَ البرق شَرَىً: لمع وتتابَعَ لمعانه (مجاهد).

ص: 192

راياته وطبوله) وهذه الأوعار (1) الصم التي انتشر عليها جيش الحجاج بكبريائه وعنفوانه. عمها كلها صمت عميق وهدوء شامل، فلا تسمع في ثناياه إلا صيحة حارس يتنقل شبحه خلال السواد، أو صرخة جريح معذَّب، ثم يعود السكون.

* * *

نامت العيون، واستسلم المتحاربون إلى سبات أعمى، وأراق القمر عذوبته وهدوءه على هذه الجبال فبدت جميلة فاتنة، فجفا فراشَه سيدُ الموقف وبطل الجيوش المظفرة وقائدها، وانسلّ في خفية كيلا يشعر حرسه وأعوانه، فجلس على باب الفسطاط يتأمل هذه السماء الصافية ويحدق في النجوم المتوقدة المتلألئة، فتفتح عليه باب الذكرى، فيَلِجُ منه إلى سالفات أيامه فيعيش فيها وينسم أريجها. وحملته هذه النجوم إلى ذكرى بعيدة، فأحس بأنها عزيزة عليه محببة إليه، فطفق يتأمل صورة تلك الليلة (2) التي قضاها في الصحراء وحيداً فريداً قد هجر بلده وحياته ليقدم على بلد لا يعرفه وحياة لا عهد له بها، ويستعيد خواطره التي كانت تعتلج في نفسه، وذهب إلى أبعد من ذلك فذكر أيامه في تلك الأعالي الباذخة حين كان معلماً لصبيان الطائف، وأمانيه التي لم يكن يأنس إلا إليها، والتي يحاول أبداً أن يستشف خيالها من وراء

(1) جمع وَعر (بكسر العين وسكونها) وهو المكان المرتفع (ضد السهل)، والمقصود بالأوعار هنا جبال مكة (مجاهد).

(2)

راجع قصة «هجرة معلم» .

ص: 193

حجاب الغيب

واستمرأ بقايا تلك اللذة التي أحس بها وهو خارج من دار «مستشار الدولة» روح بن زنباع، وقد قلده شارة الشرطة فكانت عنده أكبر من شارة الخلافة.

أين ذلك الشرطي من قائد الخميس العَرَمْرَم (1) الذي ترك جنات الشام الألفاف وسهوله الفِيح (2)، وأبى أن يقطف ثمرة النصر وأزاهر المجد إلا من جلاميد مكة وصخورها، فأمّ بزحفه رؤوس الجبال، ثم هبط نحو مكة يستذري براية الظفر، حتى امتد بزحفه هذا (الذي كان يحسبه مجيداً) إلى أبواب الحرم؟

وألقى نظرة القائد الشاب (ابن السبع والعشرين) على الحرم فرأى الكعبة وقد أضاءها القمر بشعاعه الكابي، فبدت مهدمة مصدعة الجدران رهيبة، فراعه ذلك وأخافه، وعَرَاه ارتجاف شديد هزّ كيانه كله، فعاف ذكرياته وأعرض عن المجد والأماني، ولم يبق في فكره إلا صورة بيت الله المهدّم تظل ماثلة له بعد أن أغمض عينيه عنها، فيحس بأنها تثقل على قلبه حتى لتكاد تسحقه سحقاً، ويكبر هذا الذي أقدم عليه وتملأ نفسَه خشيةُ الله، فيندم ويشتد به الندم. ثم يذكر وعده الذي وعده الخليفة: أن يقضي على ابن الزبير

(1) الخميس هو الجيش، والعرمرم (صفةً للجيش): الشديد الكثير (مجاهد).

(2)

حديقة لَِفٌّ (بفتح اللام وكسرها) وبستان لفٌّ: الذي اجتمع شجره والتفَّ نباته، جمعه ألفاف. في القرآن {وجنّاتٍ ألْفَافاً} . والفيح جمع أفْيَح وفيّاح، وهو كل موضع واسع، ومؤنثه: فيحاء (فتقول: روضة فيحاء)، والفعل منه: فاحَ يَفاحُ فَيْحاً (مجاهد).

ص: 194

ويعيد إلى الدولة سلامتها ووحدتها، ويُشعره جلال هذه الغاية وسموّها استصغار ما أتى، ويذهب يلتمس لنفسه المعاذير.

أليست وحدة المسلمين وسلامة دولتهم دعامة حياتهم ورأس دينهم الذي قام على توحيد الخالق ووحدة المؤمنين؟ أليس ضمان هذه الوحدة من واجبات الخليفة؟

وما ذنبه هو إذا أمره عبد الملك بضرب الكعبة لتحقيق الوحدة، وما هو إلا جندي في طاعة عبد الملك؟ بل ما ذنب عبد الملك وهو أمير المؤمنين المسؤول عن مصالح المسلمين وسلامة دولتهم؟ أيَدَعُ المملكة شطرين يعبث فيها المفسدون ويهلكها الخُلف؟ وأي جسم يعيش إذا انقسم جسمين وغدا قطعتين؟

أوَليس على عبد الملك أن ينقذ المسلمين من هذا الخلاف ولو دفع ثمنه حياة ابن الزبير وسلامة حصونه وقلاعه؟ فما ذنب عبد الملك إذا اتخذ ابن الزبير بيت الله حصناً له واحتمى به واستغلّ حرمته؟ أمن حق البيت الحرام على عبد الملك أن يدعه آمناً في ظله، يدّعي ملكاً وينشر راية ويتخذ جيشاً، فيلتقي في مشعر الحج مَلِكان مسلمان ورايتان وجيشان؟ ويأبى الله والإسلام إلا راية واحدة، لجيش واحد، يسيرّه خليفة واحد. أوَلم يكن أخلق بابن الزبير لو جنّب بيت الله أوحال الدنيا وأوضار المطامع، وخرج بجيشه إلى الحِل؟

وانطلق القائد الشاب يفكر في ابن الزبير وعبد الملك، ويعود به الفكر إلى رحلته الأولى يوم صافح سمعه للمرة الأولى اسم ابن الزبير، فإذا هو اسم ضخم مجلجل، وإذا هو ينطوي على السيادة

ص: 195

والظفر والملك الواسع الذي يظلل ثلاثة أرباع البلاد الإسلامية، وإذا اسم عبد الملك ضاوٍ هزيل، فما زال هذا يضخم ويعظم، وما فتئ ذاك يهزُل ويَضْؤُل، حتى انتزع عبد الملك الذي كان قابعاً في زاوية قصره في الشام ينتظر أن يغلبه عليه ابن الزبير، انتزع العراقين والحجاز، ونازل عبد الله في قرارة داره ودارة ملكه. أليس هذا دليلاً قاطعاً على أن ابن مروان أحق بالخلافة من ابن الزبير وأقدر عليها وأولى بها؟

وأفلتت منه نظرة فوقعت على الكعبة، فأعادت صورتها الرهبة إلى صدره وأحس بوجل شديد، فذكر تهيبه الإقبال عليها، إذ كانت مثابة الأمن ودار السلام منذ الزمان الذي يضيع أوله في طفولة البشرية، وذكر كيف فزع جنده وأحجموا فشد من عزائمهم وهوّن الأمر عليهم، وكيف عبست السماء وبسرت - حين شرعوا بتسديد الرماية إلى صدر الكعبة - وألقت برجومها وصواعقها، فقتلت منهم مقتلة، فارتدوا وامتنعوا وظنوا أن الله مهلكهم كما أهلك الأمم من قبلهم، فانصدعت قلوبهم وطارت نفوسهم شعاعاً، فقام فيهم يطمئنهم ويهدّيهم:"أنا ابن تهامة، وهذه صواعقها"(1)، فلا تخافوا ولا تراعوا. سنة الله التي لا تبديل لها وقوانينه في كونه لا تغيرها أمور البشر ولا تبدلها حوادث الأرض، وما قيمة جند الشام حتى يدع الفلك من أجلهم سيره وتخرج الطبيعة عن سننها وتخالف طريقها؟

وانطلق يحدثهم حديث رسول الله ومعلم العالم، حين

(1) هذه الجملة من التاريخ.

ص: 196

استأثر الله بابنه إبراهيم فكسفت الشمس، فظنوا أنها كُسفت لموته، فنبأهم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته. فاطمأن الجند، وعادوا إلى تسديد الرماية وضرب الكعبة، فعادت السماء إلى زمجرتها وزئيرها، وانقضّت صواعقها، ولكنها أصابت من جند ابن الزبير مثل الذي أصابت من عسكر الشام، فأمن الجند وأقبلوا يوالون قذف الحجارة.

إنه لم يضرب الكعبة على أنها بيت الله، ولكن ضربها على أنها قلعة من قلاع ابن الزبير، ولم يقدم مكة فاتحاً، ولكن قدمها حاجاً مُحرماً، وحج بالناس ولكنه لم يطف. ولم يكن له إلا الوحدة الإسلامية غاية، فهو يعلم أن المسلمين كرجل واحد، فأي رجل هذا الذي له رأسان؟ ولقد نهاه فقيه العصر وإمامه، عبد الله بن عمر، أن يضرب الكعبة فيؤذي الطائفين بها ويعطل مناسك الحج، وشدد عليه في النهي، فأطاع وامتنع وترك الناس وحجهم، حتى إذا استكملوا مناسكهم وفرغوا من عبادتهم نادى فيهم بالرحيل إلى بلدانهم وعاد يحارب ابن الزبير.

وسكن الحجاج إلى هذه النتيجة التي انتهى إليها واقتنع بأنه لم يأتِ منكراً (1)، فعاد يتأمل هذه النجوم الصافية وهو عازم على بناء الكعبة وسد هذا الخرق الذي خرقه وإصلاح ما أفسدته الحرب. وراح يحدق في القمم الشاهقة التي تلوح له عن بعد ذائبة أعاليها في الشعاع الفاتن الذي يسيل من صفحة القمر، فذكّرته

(1) هذه حجته لنفسه، والحق أن الحجاج من الظلمة المعتدين، ولم يكن من أمراء الخير ولا من أهل الصلاح.

ص: 197

- كرةً أخرى - بيتَه ومدرسته وقريته الصغيرة فأحس كأن قلبه ينازعه إلى أيامه اللاتي سلخهن فيها.

سلاماً أيتها الأرض الضائعة في طريق السماء

لقد وفيت لك بنذري، فقدت إليك المجد ووهبت لاسمك الظفر، وخرجت منك معلم صبيان ولكني عدت إليك قائد الجيش العرمرم، فثبّتُّ اسمك على صفحات البطولة، فلا يذكر التاريخ عودة الوحدة الإسلامية إلا ذكر معها الطائف!

ثم استغرق في تأمل عميق.

* * *

في تلك الساعة كانت تهدف في طرقات مكة الخالية عجوز طويلة، لا تبالي هذا الظلام الثقيل الذي يحف بها لأن عينيها المنطفئتين قد ألفتا هذا الظلام منذ أمد طويل. وكانت تؤم منزلاً من هذه المنازل المقفرة، فتمضي إليه قُدُماً كأنما هي قد ألفت طريقه وحفظته بذاكرة قدميها لكثرة ما تتردد عليه في الصباح والمساء، فهي تتخطى هذه الأنقاض وتدور حول الجدر، لم تقف حتى غيبتها مداخل المنزل المهجور، فقبعت في زاوية من زواياه جامدة لا تتحرك ولا تهمس، كأنما هي بعض أثاثه القديم الهَرِم، الذي تركه أصحابه زهداً فيه. وجعلت تجيل عينيها الهامدتين في أرجاء عالم مجهول، فيبدو لها مترعاً بالألوان الفتانة زاخراً بالصور البارعة، فلا تملّ التحديق فيه والتجوال في أرجائه، تفتش عن هذه الفتاة التي عرفتها في سالفات أيامها، فلا تلبث أن تجتلي

ص: 198

خيالها فتطمئن إليه وتجد فيه صبابة نفسها وبُلغة أمانيها، وترى هذه الفتاة وقد أهديت إلى بعلها الذي خلا كيسه من المال، ولكن نفسه فاضت بالحب، فشاركته حبه وفقره، وأقامت من نفسها أنيساً لنفسه وخادماً لبيته وسائساً لفرسه، تلتقط لها النوى ثم تدقه وهي سعيدة هانئة، تعيش لبيتها وزوجها الذي تنهل السعادة من نظراته وكلماته، وتقبس الهناءة من حبه وإخلاصه. فاستراح قلبها إلى هذا الخيال الذي ترى، وشعرت كأن دم الشباب قد عاد يجري في عروقها بحراراته وتوثبه وفورانه، وأحست بالنور قد عاد يضيء في عينيها، فاستقرت على شفتيها بسمة عريضة طغت صورتها على جبينها المجعد فأومض فيه بريق من السعادة خاطف، ورجع إلى وجنتيها ظل من حمرة الشباب الآفل، حتى لو أن إنساناً رآها في تلك الساعة لما رأى عجوزاً شمطاء عمياء، ولكن فتاة في السابعة عشرة!

ونفضت عنها العجوز غبار السنين المئة، وانطلقت تعيش في بقايا ليلة من ليالي زواجها الحافلة بالغرام والنبل والسعادة، فتصغي إلى أغاني الحب تنبعث همساً من فم ذلك الزوج المعمود (1)، وتذوق بين ثناياها حلاوة قبلاته وتسمع بأذنيها وسوستها الناعمة. وتبالغ في التخيل، فتمد يديها تعانقه، وتخفي وجهها في صدره العريض، وتلقي برأسها على قلبه الكبير الخافق الذي يصفق أبداً للحب والمجد والإيمان

ولكن برودة الحجر الذي ألقت عليه

(1) المَعمود والعَميد والمُعمَّد هو الرجل الذي هدَّه العشق وأضناه (مجاهد).

ص: 199

رأسها أطفأت جذوة أحلامها وردتها إلى حاضرها، فإذا هو ينشر أكفان الموت على مسراتها ومباهج حياتها الماضية، فتنسى كيف استقادت إليها السعادة كاملة على يد هذا الزوج الذي تبعته الدنيا حين تبع دين محمد صلى الله عليه وسلم، فغدا يحمل على ألف فرس (1) في سبيل الله بعد أن كان ماله كله فرساً تعلفها زوجه النوى.

وتغيب صور هذا الماضي في الليل السرمدي الذي غمر حياتها وأترعها بالآلام والأوجاع، فتمنت لو أنها ماتت وهي بنت الخليفة العبقري، الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه في أمته ووقف وحده حين كانت الردة في وجه الناس كلهم، ثم ظفر بهم وساق المرتدين عن دين محمد ليقاتلوا في الشام والعراق تحت راية محمد

أو لو ماتت وهي زوج البطل الذي ملأ حياته بطولة وشرفاً ومجداً ثم ذهب فمات في ساحة الشرف والبطولة والمجد، أو لو ماتت وهي أم الخليفة الذي عنت له الحجاز والجزيرة والعراق وخراسان وكاد يدخل دمشق مظفراً منصوراً، ثم ضاع منه كل شيء حتى كادت أمية تدخل عليه مكة مظفرة منصورة.

واستيأست من طلوع الفجر الذي يزيح ظلمة هذا الليل، فانطلقت تناجي الموت وتدعوه بأحب الأسماء وأجملها، وأذكَرَها الموت أحبتَها الذين طواهم في أحشائه، فاشتهت قرب الأحبة. وكان من أقوى رغباتها في هذه الليلة أن تقف على قبر أبيها الذي يجاور أشرف بقعة في ملكوت الله الواسع، في الغرفة الصغيرة التي بنيت من الحجر والطين وسعف النخل في العشايا الأولى لاستقرار

(1) أي يهبها، يحمل عليها فقراء المجاهدين.

ص: 200

الإسلام في يثرب، فكانت مقر أختها الصغيرة، أحب زوجات الرسول إليه وأفضل أمهات المؤمنين وعالمة النساء ومعلمة الرجال. ثم كانت مهبط الوحي وصلة الأرض بالسماء، ثم كانت دار الحكومة، فيها نظمت خطط الحروب وأعدت قوانين المجتمع وعقدت مجالس الشورى، ومنها خرجت الكتب إلى شيرويه ملك الفرس كسرى شاهنشاه وهراقليوس قاهر كسرى وسيد الدنيا في عصره (ثم خرجت الجيوش لتمحو ملك شاهنشاه وتخلف سيد الدنيا في أرضه وتعود بأسلابه). وفيها عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته، حتى إذا مات دفن فيها، ثم أغلق بابها، لا إلى سنة ولا إلى عشر ولكن إلى

يوم القيامة.

وكان من أمتع أمانيها هذه الليلة أن تقف على قبر زوجها الماثل في آخر البادية، في الزاوية التي تلتقي فيها بادية العرب بسواد العراق (1) ببساتين العجم

بالبحر! فتجدد بزيارته عهد الماضي.

* * *

وكانت تتناهى إليها بين كل آونة وأخرى صرخة من صرخات الحراس أو أنّة من أنّات الجرحى، فتردها إلى وعيها، فتتأمل هذه الشعاعة الواحدة التي بقيت لها من شمس حياتها الآفلة، ابنها عبد الله، الذي تجد فيه عبق غرامها بزوجها، وعطر الأمجاد

(1) أي على قبر الزبير، وهو في قرية «الزبير» القائمة في مكان البصرة القديمة. ولما كنت أدرّس في ثانوية البصرة سنة 1936م كانت تبعد عنها ثلاثين كيلاً.

ص: 201

التي عاشت فيها والمعارك النبيلة التي شهدتها، وتذكر فيه تاريخاً طويلاً تلتقي حوادثه الكبيرة في هذا التاريخ الصغير الذي تحفظه لابنها، وتنقلها الذكرى إلى هذا التاريخ

فإذا هي في دنيا قريش، وقريش في حيرة وقلق وقد خابت وفشلت في رد هذا السيل الآتي بأكفها الضعيفة، ورأت الإسلام ينتشر ويمتد ولا يثبت شيء أمامه، فائتمرت بالنبي تقتله، ولكنها لم تجده في بيته، ولا تعلم أين هو. لا يعلم أين هو إلا رجل في مكة وامرأة. أما الرجل فعليّ، وأما المرأة فأسماء

يا لروعة هذه الذكريات!

لقد كانت في بيتها تعد اللحم لتحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن رسول الله يعجبه اللحم)، وإذا بالملأ من قريش يدخلون عليها وهم يرعدون ويبرقون، يزهون بكبريائهم الفارغة وعنفوانهم المزيف وثيابهم الزاهية، فقال لها أبو جهل بلهجة حاول أن يجعلها فخمة نبيلة، ولكنها جاءت أقرب إلى التصنع والإضحاك: أين أبوك؟

- وما يدريني أين أبي؟ لا أعلم.

فلم يترفع هذا السيد الذي عجز عن ردّ محمد عن أن يرفع يده على امرأة! لقد لطمها لطمة أطارت قرطها

ومدت العجوز يدها تتلمس أذنها على غير شعور منها، ومست بيدها بطنها، فقد كانت يومئذ حاملاً

يا لبطولة هذا السيد القرشي الذي يضرب امرأة حاملاً!

ثم استدار المشهد، فإذا هي قد انطلقت من دنيا قريش الضيقة المحصورة إلى دنيا محمد الواسعة الفسيحة. لقد هاجرت تقطع الصحارى والقفار حتى أشرفت على نخيل المدينة، فوقفت

ص: 202

على هذه الجنان الطاهرة التي أُسس فيها أول مسجد بُني على تقوى، فسمعت وحدها هذا النشيد العلوي التي أصغت إليه الدنيا كلها من بعد، والذي يتردد اليوم خمس مرات في كل نهار تتجاوب به المنابر في كافة أرجاء الأرض.

وهنالك، وسط هذا النشيد الذي يتألف من كلمتين اثنتين لم تعرف ألسنة البشر أكثر منهما هديراً وأشد في النفس تأثيراً (هما:«الله أكبر» ) صاح البشير أن أول مولود في الإسلام قد استهل، فانشرحت به صدور المسلمين حتى كأن كلّ واحد منهم كان أباه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وبارك عليه ودعا له.

وتمثلت عبدَ الله وهو صبي يبايع رسول الله يبتسم له ابتسامة تفيض بالحب والرضا. ورأته وقد شبَّ حتى صار يلعب مع الصبيان في الطرقات. وإنه لفي لعبه وإذا بعمر القوي المهيب يمر فيفر الصبية ويتوارون ويبقى عبد الله واقفاً.

- لِمَ لمْ تفر كما فروا؟

- ولِمَ أفر؟ وما أنت ظالم فأخشى ظلمك ولا أنا مذنب فأرهب عدلك؟

فيعجب به عمر ويكبر جرأته وبلاغته.

ثم تبصره وقد علا مكانه، واستعلن أمره، وضخم سلطانه؛ فانقادت إليه الأماني طيعة وتبعته الدنيا خاضعة. ثم انهار هذا كله

ثم انهار هذا كله

وراحت العجوز تحدق بعينيها اللتين حرمتا النور في أفق

ص: 203

مجهول، وتفكر في غير وعي، فقادها الفكر إلى دنيا تحبها وتألفها، فإذا هي ترى - كرة ثانية - بداية هذا الصباح الذي غمر الكون ضوؤه وغسلت أنواره الأرض من أرجاس ليل طويل ماتت في ظلامه الفضائل والمثل، وتفكر في قوة هذه الرسالة التي انتصرت على العالم كله

ثم ترى حاضرها الممض فتشجى وتتألم. ما أسرع ما نسي الناس هذه المبادئ وأجدبت نفوسهم منها، وهذه أصلاد حراء، وهذه جلاميد ثور، لا تزال مخصبة مخضرة

أفتكون هذه الحجارة وهذه الجلاميد أوفى وأحفظ من قلوب البشر؟ وإذا نسي الناس أفلا تذكّرهم هذه الجبال الشاهقة التي شهدت عزلة محمد وإيواءه إليها ليالي بطولها، يفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ويفتش وراء مظاهر الكون عن مبدع الكون

ثم شهدت منبثق الوحي، وأشرق عليها فأضاء جنادلها وصخورها قبل أن تسطع أنواره في السهول والقرى، وسمعته وآمنت به قبل أن تسمعه هذه المدائن العظيمة المنثورة في الأرض من حول الكعبة؟ ومثلت لها الكعبة المهدمة فهالها أن يعبث المسلمون بحرمة الكعبة وهي التي كان المشركون - على جهالتهم وكفرهم - أكثر لها إجلالاً وأشد احتراماً، وصبّتْ سخطها على ابنها وعلى الأمويين جميعاً. أيستحلّون البلد الحرام في الشهر الحرام وينسون مبادئ الرسول ولمّا يمضِ على وفاته إلا ثلاث وستون سنة؟ وينقضون عرى الأخوّة بينهم ويقاتل بعضهم بعضاً في بطن مكة؟ ولِمَه؟ أوَلم يبقَ في الأرض ظالمون ولا طغاة يقاتلونهم؟ أينفض المسلمون أيديهم من هذا الإرث العظيم ويهملونه حتى يبدو في عيونهم مجدباً، وهو الذي بلغ من خصبه

ص: 204

أن أترع أيام البشرية الماضية بالحياة، وهو كفيل بأن يغمر أيامها الباقيات حياة وفضيلة ومجداً؟

وآلمها ضياع هذه المبادئ أكثر مما آلمها خذلان ابنها وضياع عرشه، بل هي قد نسيت ابنها، ونسيت هذا الملك الذي رتع في بحبوحته تسعة أعوام جاء يتجرع الآن مرارتها، ونسيت ماضيها الآفل، بل لقد نسيت نفسها، وذهبت تفكر فيما هو أعز عليها من حاضرها وماضيها وابنها ونفسها، في هذا المبدأ الذي أخلصت له. إنه لا ينتصر هذا المبدأ وعلى الأمة واليان يصطرعان ويقتتلان، فلا بدّ من ذهاب أحدهما، فإذا لم يذهب عبد الملك فليكن ابنها هو الذي يذهب، ولتشترِ حياة الأمة بحياة ابنها!

وكان عزماً خطيراً، وكانت فكرة هائلة يرتجف لها أقوى القلوب، ولكن قلب أسماء الذي يحمل قسطه من الإرث الأخلاقي الذي صهرته شمس هذه البلاد في الألوف المؤلفة من السنين، وأنضجه الإسلام وهذبه، لم يرتجف ولم يخَفْ. كان همها أن تستريح هذه البلاد المقدسة ليلة آمنة إثر نهار مليء بالخطوب، لتستيقظ مع الفجر قوية نشيطة، فتفيء إلى ظلال وحدة هانئة تستجم فيها، وتفرغ لنفسها لتفرغ من بعد لأعدائها. ولكن العجوز غفلت لحظة عن عواطفها التي خنقتها في صدرها فانطلقت صارخة صاخبة، فتصورت العجوز نفسها - بعد عبد الله - فلم تطق أن تتصور، وعادت إليها أنوثتها فعظم عليها أن تفرط بولدها الحبيب وهي على عتبة الموت، وهو عمادها وعونها وحاضرها ومستقبلها، وهو كل شيء لها، وعادت تعرض ذكرياته منذ كان طفلاً إلى أن غدا شيخاً، فتحس أن أمانيها كلها تختصرها ساعة

ص: 205

تضم فيها ابنها إلى صدرها، ثم تنسى نفسها وهي بين ذراعيه حتى تسلم الروح. إنه حياتها، وهو كل شيء لها

وراحت تبكي بعينيها المنطفئتين بكاء موجعاً.

* * *

وفي تلك الساعة كان في الحرم طائفة من الناس تحت علم منصوب في ظل الكعبة؛ أولئك هم بقية هذا الجيش اللجب الذي كان منتشراً بين أقصى خراسان والبحر الأحمر، وهذا هو العلم الذي خفق على هذه البلدان تسعة أعوام كاملات.

وليس أروع من الجيش القوي الظافر الذي يسد منافذ الفضاء ويحجب الشمس وتعنو له الشوامخ الراسيات وتميد بثقله الأرض إلا هذه الحفنة من الرجال الأشداء الصابرين، الذين تخيرتهم شجاعتهم وعبقريتهم فكانوا بقية السيف وطرائد الموت، ثم آثروا الموت أمجاداً على الاستسلام والهوان. وتلك هي حال هذه الطائفة من الناس.

وكان في الجمع شيخ مستند إلى جدار الكعبة، تومض شعوره البيض في شعاع القمر، يفكر (أو هو يبدو كالمفكر) على حين يتجرع مرارة خيبة قاتلة ويحس من حوله زمهريراً بارداً، فكان بحاجة إلى صدر دافئ يقبس من حرارته الحياة والأمل. ولقد كان شيخاً في الثمانين، ولكنه لا يزال حيال أمه ذلك الطفل الذي يتمرغ في أحضانها ثم يضطجع فيها، ويرفع وجهه الصغير إلى وجهها، ويقطف بعينيه ثمرات الحب الحلوة من عينيها الوادعتين، ويبعث أصابعه تعبث بوجهها وشعرها.

ص: 206

وملأت نفسَ هذا الشيخ صورةُ أمه فنسي اليوم العصيب، وغفل عن تصور النصر الذي أفلت منه كما يفلت الطائر الجميل من قفصه ثم يوغل في مسارب السماء، ونسي خيبته التي جعلت حياته سوداء فارغة كظلام الليل، ولم يعد يفكر إلا في هذه الصورة التي أعارته من بهائها وسموها جناحين طار بهما إلى أيامه الخوالي، فتغلغل في رحابها الواسعة.

لم يبق له من صورة هذا الماضي العظيم (من عالم أبي بكر والزبير) إلا خط واحد ضعيف كابٍ يوشك أن تعدو عليه الأيام فتمحوه اليوم أو غداً؛ لم يبقَ إلا ذات النطاقين، أمه، أسماء العظيمة، التي كانت تاريخاً حياً وكانت الفضيلة المجسدة، فانطلق إليها يودعها قبل أن يموت. وكان الموت الشريف أجمل أمنية لهذا الشيخ البطل الذي خسر الملك والجيش ولكنه لم يخسر العبقرية ولا الشرف، بيد أن هذا الشيخ يخشى أن يدع هذه العجوز تحمل معها آلام الثكل والوحدة حتى تبلغ بها قبرها القريب

فكيف السبيل إلى إكراهها على التسليم به والرضا بموته؟

وقام الشيخ من مجلسه يسلك هذه الطرق الموحشة التي سلكتها أمه في الهزيع الأول من هذا الليل، فلم يقف في طريقه على الأطلال ولم يُثره مشهد الملك الضائع، لأن أفكاره كلها قد تعلقت بأمه، فهو يجب أن يصل إليها. فيمضي مسرعاً، حتى إذا دنا من هذا المنزل المظلم الموحش تباطأ في سيره، حتى إذا بلغ بابه تهيب الدخول عليها وأحس بالعجز عن مواجهتها بعزمه، وهو الذي لم يحس العجز عن مقابلة الخميس العرمرم ولم يشعر الضعف عند مجابهة الشدائد والخطوب. فوقف وأطال الوقوف،

ص: 207

وتقاذفته الأفكار حتّى أحس كأن رأسه خلية نحل

كيف يمسك قلبه أن يتخاذل ويضعف أمام بكائها وتوسلها إليه أن يبقى، أن يبقى إلى جانبها في أيامها الأخيرة؟

كانت الأفكار تصطرع في رأسه وهو هادئ ساكن لا يبدي حراكاً، قد تعلق بصره بهذه العجوز القابعة في الزاوية، ينيرها شعاع ضئيل من أشعة القمر يسقط عليها من خروق السقف المتهدم، وكانت أذنه مرهفة مائلة إليها، فسمعها تردد اسمه في خفوت بلهجة يقطر منها الحب والشوق واليأس والحزن، فلم يتمالك هذا الشيخ نفسه أن صاح: أمي!

وألقى بنفسه بين ذراعيها، فمرغ لحيته بوجهها، وغابا معاً في حلم ممتع نشوان. ثم تنبهت العجوز، وذكرت نذرها الذي نذرته للوحدة الإسلامية وعزمها الذي اعتزمته، فخلصت عن عناقه برفق وقالت له: ما جاء بك؟

فحار في جوابها، ولم يدرِ كيف يعلن عزمه على الموت، ثم آثر أن يرى ما عندها وقال لها:«يا أماه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير من أصحابي ومَن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟» (1).

قالت: أهذا ما جئت لأجله؟ أجشمت نفسك عناء المسير فوق أنقاض المدينة المقدسة التي هدمتها وتركتها أطلالاً، لتقول

(1) هذه الجملة من التاريخ.

ص: 208

لي إنك جبنت وفقدت حميتك وشجاعتك؟ أجئت تحتمي بصدري من الموت الذي سقت إليه هذه الألوف المؤلفة من المسلمين؟ أهذه هي خاتمتك يا ابن الزبير، ويا مَن جده أبو بكر، ويا من جده عبد المطلب؟

ولم يكن عبد الله يتوقع أن يسمع منها ما سمع، فطفق ينظر مشدوهاً، يود أن يصيح من الفرح لأنها رضيت له بالموت في معمعان المعركة؛ وذلك أقصى ما يريد. ولكنه لا يدري إلى أية غاية ترمي فهو يكتم صيحته ويصمت.

- ما لك يا عبد الله؟ أنسيت أمجاد أبيك الذي يجري دمه في عروقك؟ تعال اقترب أحدثك بأمجاد أبيك: في عشية من عشايا الإسلام الأولى خرج أبوك من بيته هذا، فتنكب طريق الحرم حيث تمثل قريش بجبروتها وشركها، وأم هذه الجبال القريبة يحمل في نفسه بَهاء هذا الدين الجديد فهو يحب أن يفيء إليه وأن يستمتع بعزلة هانئة. فلم تكد تحتويه أعالي مكة حتى طرق أذنيه همس مرعب ارتجفت له أضلاعه واضطرب قلبه وأنساه غايته التي خرج من أجلها. لقد سمع أن محمداً قتل، وانطفأت هذه الشعلة التي أضاءها الله ليقبس منها العالم ضياء نهار دائم، وجف هذا الينبوع، ووقف الإسلام الذي جاء به للدنيا كلها عند هؤلاء النفر القلائل الذي أسلموا! وكان أبوك يعلم أن قريشاً التي قتلت محمداً ستمحو هؤلاء النفر وتبيدهم، ولكن أباك لم يخف ولم يفرّ، بل ثارت في نفسه حماسته، وصرخ في عروقه دمه الذي يحمل ميراث عصور طويلة من النبل والشرف، وتوثب إيمانه في صدره وأشعره أنه يقدر بهذا الإيمان على العالم كله، فسلّ أبوك سيفه ورجع يريد

ص: 209

أن يثأر لمحمد، فإذا محمد صلى الله عليه وسلم حيّ يبلغ دعوة ربه.

فكان أبوك أول من سل سيفه في سبيل الله، فسطع من سيفه الوميض الأول لهذا الصباح الذي غمر الكون بالضياء الذي أشرق من سيوف المسلمين في بدر وهوازن والقادسية واليرموك ونهاوند. أفلا يهز حماستك حديث أبيك؟

فلم يجب عبد الله وآثر أن يظل ساكتاً. فرجعت تقول: يا أسفي! لم يعد يثيرك حديث أبيك فلن أحدثك عن أمجاده. فهل تثير حماستك شجاعة جدتك صفية بنت عبد المطلب؟ إنك تعرف حديثها وتروي خبرها مع حسان ابن ثابت في الحصن

فهل أطفأت لذائذ الحياة لهيب الحماسة في صدرك، فأنت في حاجة إلى قبس تقتبسه من امرأة؟

فبرقت عينا الشيخ واشتعلت النيران في عروقه، ولكنه أزمع السكوت لتمضي العجوز في حديثها، فآلمها أنه ساكت لا يجيب وحسبت سكوته جبناً وهلعاً، فراحت تبالغ في تحميسه. قالت: أخبرني

أنسيت ذلك الدم الزكي الذي أُهريق على عتبات المجد؟ سرعان ما نسيت صورة مصعب، ابن أبيك، ذلك الذي عاف الشباب والمال والرفاهية وجفا عقيلتَي قريش، عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين، وذهب ليموت شريفاً مجيداً تحت راية الخليفة عبد الله بن الزبير؟ إذا كنت تعلم أنك تدعو إلى باطل فلِمَ فرطت بهذه الأرواح

هذه الألوف من الأرواح التي زهقت في سبيلك؟ أكان جنى هذه المعارك النبيلة أن يحمل الخليفة الذي مات هؤلاء كلهم تحت رايته ليزدان به موكب الحَجّاج؟ ما كان جدك أبو بكر ولا كان أبوك الزبير جباناً ولا رعديداً، أفتنتمي إلى

ص: 210

هؤلاء الذي أترعوا التاريخ بأحاديث المكارم، ثم ترضى أن تُساق وأنت شيخ أبيض اللحية إلى دمشق ليلعب بك صبيانها، وليشيروا إليك بأصابعهم يقولون: هذا الذي كان

؟

ولم يعد عبد الله يملك صبره، فصرخ: أماه! كفى؛ إنني جئت أودعك.

وألقى بنفسه بين ذراعيها، فتحسسته فإذا هو بالدرع. قالت: أتخدعني يا عبد الله؟ «ما هذا صنيع من يريد الموت» (1).

قال: ما لبسته إلا لأجلك، وما لي به من حاجة.

ونزعه فألقاه، ثم تملص من ذراعيها برفق: أماه

وداعاً. «ولا تَدَعي الدعاء لي، فوالله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تُستحل محارمه، وإني مقتول في يومي، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله؛ فإن ابنك لم يتعمد إيثار منكر، ولا عملاً بفاحشة، ولم يَجُرْ في حكم الله ولم يغدُرْ في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به. اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي» (2).

وأسرع فخرج وأمه تدعو الله:

«اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت، فأثبني ثواب الصابرين الشاكرين» (3).

(1)(2)(3) هذه جمل من التاريخ.

ص: 211

وسكتت العجوز ومدت يديها تتلمس عبد الله لتودعه الوداع الأخير، فلما أحست أنه قد ذهب ثارت أحزانها دفعة واحدة، وهوت على الأرض!

* * *

وسدل الستار يوم الثلاثاء (17 جمادى الأولى سنة 73 للهجرة) على هذا الشاب الذي هجر مدرسته وصبيانه، ونزل من الطائف وحيداً شريداً، فمهدت له عبقريته السبيل لما كان يحسبه مجداً وعظماً؛ وأعاد إلى الأمة الإسلامية وحدتها وسلامتها، وبنى في صرح أمجادها ركناً ضخماً ما كان أعظمَه وأزهاه لو لم يُلطَّخ بدماء الأبرياء.

وعلى هذه الشيخ البطل الذي عاش مسلماً شريفاً، ومات شريفاً مسلماً. هذا الشيخ الذي سَمَتْ به نفسه حتى ضارع الخليفة في الشام، ثم صارعه حتى سلبه ملكه وسلطانه، ثم خسر كل ما ربح، ولكنه مات أشرف ميتة وأمجدها، فكان موته مغلوباً ظفراً بارعاً ونصراً مؤزراً.

وهذه العجوز التي لم يعرف تاريخ بنات حواء من وقفت مثل موقفها أو ضحّتْ مثل تضحيتها، أو دانتها في نبلها وشرف نفسها وإخلاصها لوطنها ودينها.

رحمة الله على الجميع.

* * *

ص: 212