الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصواب ما ذهبت إليه، فقد جاء في «باب الحظر والإباحة» من حاشية ابن عابدين (5/ 242) بعد نقل بعض النقول عن علماء الحنفية حول الثياب الضيقة:
«وعلى هذا لا يحل النظر إلى عورة غيره فوق ثوب ملتزق بها يصف حجمها» .
ظنه أن التخطئة ظنة في المخطئ والرد عليه بأقوال العلماء
والآخر: أنه يوافقني على ذلك، ولكنه لا يرى من الصواب الصدع بتخطئة الشافعية في قولهم بعدم الوجوب أو يرى أن التخطئة معناها الطعن في المخالفين، فإن كان هذا هو الذي يعنيه -وهو الذي يترجح لدي- فهذا من بالغ جهله، أو من تورعه البارد، فإن التخطئة لا تستلزم الطعن في المخطئ عن اجتهاد إلا عند الجهال، لأن المخطئ له أجر واحد كما صرح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمثل قوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ} .
فكيف يتصور أن يجتمع في ذهن المسلم اعتقادان متباينان في آن واحد، المخطئ، مأجور ومطعون فيه؟ ! ومن أبواب الحافظ ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله»:
وها أنا أنقل للقارئ الكريم بعض النصوص التي ساقها الحافظ في الباب المذكور، مختصرًا للأسانيد لتبين له منزلة هذا الطاعن الجائر من العلم بأقوال العلماء
ومذاهبهم، وإن تظاهر بالتأدب معهم لكنه تأدب بارد لا يرضونه من أحد لأنه خلاف أدب السلف بعضهم مع بعض!
1 -
عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل! فقال: كذب!
2 -
وردت عائشة قول [ابن] عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وقالت: وهم أبو عبد الرحمن أو أخطأ.
3 -
ورفع إلى علي بن أبي طالب أن شريحًا قضى في رجل وجد آبقًا فأخذه ثم أبق منه: أنه يضمن العبد. فقال علي: أخطأ شريح وأساء القضاء، بل يحلف بالله لأبق منه وهو لا يعلم، وليس عليه شيء.
4 -
وروى وكيع عن إسماعيل بن عبد الملك قال: سألت سعيد بن جبير عن ابنة وابن عم أحدهما أخ لأم؟ فقال: للابنة النصف وما بقي فلابن العم الذي ليس بأخ لأم قال: وسألت عطاء؟ فقال: أخطأ سعيد بن جبير للابنة النصف، وما بقي بينهما نصفان.
5 -
وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي إن ابراهيم قال في الرجل يكون له الدّين على الرجل إلى أجل فيضع له بعضًا ويعجل بعضًا: أنه لا بأس به، وكرهه الحكم؟ فقال الشعبي: أصاب الحكم وأخطأ إبراهيم.
6 -
وقيل لسعيد بن جبير إن الشعبي يقول: العمرة
تطوع. فقال: أخطأ الشعبي.
7 -
وذكر لسعيد بن المسيب: قول شريح في الكاتب، فقال: أخطأ شريح.
8 -
وروى همام عن قتادة أن إياس بن معاوية أجاز شهادة رجل وامرأتين في الطلاق. قال قتادة: فسئل الحسن عن ذلك فقال: لا تجوز شهادة النساء في الطلاق قال: فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بقول الحسن وقضاء إياس. فكتب عمر: أصاب الحسن وأخطأ إياس.
قال أبو عمر ابن عبد البر: هذا كثير في كتب العلماء، وكذلك اختلاف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من الخالفين، وما رد فيه بعضهم على بعض لا يكاد يحيط به كتاب فضلًا عن أن يجمع في باب، وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، ورد بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون شيء وضده صوابًا كله، ولقد أحسن من قال:
إثبات ضدين معًا في حال
…
أقبح ما يأتي من المحال
وقال أشهب سمعت مالكًا يقول: ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان لا يكونان صوابًا جميعًا، ما الحق والصواب إلا واحد، قال أشهب: وبه يقول الليث*.
قال أبو عمر: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله.
* جاء في الطبعة الثانية: (إلى حتفه بظلفه) بدل (إلا واحد، قال أشهب: وبه يقول الليث)، والمثبت من الطبعة الأولى للكتاب. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
قلت: ومستند تخطئة الصحابة ومن بعدهم بعضهم لبعض، بدون أي تحرج إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي سن لهم ذلك، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق بعد أن عبر رؤيا لرجل:
ولم يكن لمثل هذه التخطئة أي أثر سيء في قلوبهم، لسلامتها أولًا من الضغينة وسوء الظن، ولعلمهم ثانيًا أنها لا تستلزم شيئًا من الطعن الذي لا يليق بحق مسلم بخلاف هؤلاء المتعصبة الذين امتلأت قلوبهم بالبغض والحقد على أهل السنة وسوء الظن بهم فما يكاد السني ينطق بكلمة الحق نصحًا وتذكيرًا وتعليمًا إلا سارع أعداء السنة بحقدهم وسوء ظنهم إلى تفسيرها بنقيضها، وعلى هذا جرى أبو غدة في «كلماته» ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
ومما سبق تعلم أن أبا غدة قد رجع خاسرًا خائبًا بهذا السهم الأخير الذي وجهه إلي، شأنه فيه شأنه في كل السهام والطعون التي سبق الكشف عنها وتسديدها إليه. وهكذا شأن كل باغ معتد أثيم يظن أنه بمكره وكيده إنما يضر غيره وينفث فيه سمه والحقيقة أنه بذلك كمن يسعى إلى حتفه بظلفه.
أسأل الله تعالى أن يؤدبنا بآداب الإسلام، ويخلقنا بأخلاق المؤمنين المخلصين الصادقين، الذين طهر الله قلوبهم
من الحقد والحسد والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق. إنه خير مسؤول.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
دمشق/ 18 ربيع الثاني 1395
وكتبه
محمد ناصر الدين الألباني