الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثالث والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم على ما أسبغت علينا من نِعَمك الظاهرة في السراء، والباطنة
في الضراء، وأريتنا من آياتك في الآفاق بتنازُع الباغين الطاغين وفشلهم، وفي
أنفسنا بالتأليف بين المستضعفين المُؤذَن بظفرهم، وأتممت النعمة بما أكملت لنا قبلُ
من الدين، واستخلفتنا في الأرض، فجعلتنا أئمةً وارثين؛ إذ جعلت إرثها لأهل
العدل من عبادك الصالحين، ونصلي ونسلم على مَن بعثتَه خاتمًا للنبيين، محمد
نبي الرحمة الأمي، المعلم للكتاب والحكمة، وآله وعِتْرته، وكل مَن فاز بصحبته،
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} (الأنفال:
74) ، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا وصبروا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ
لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .
أما بعد: فإن المنار يبشر قُراءه في فاتحة المجلد الثالث والعشرين، وخاتمة
ربع قرن من جهاد مُنشئه في خدمة الشرق بإصلاح حال المسلمين، وبعد انقضاء
جيلٍ مِن صيحة أستاذَيْه الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين، بأن ليل الذل
والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس، فقد ذهب طور الترف
والفسوق المهلك للأمم، والمفسد للحكومات والدول، وصرنا إلى طور الشدائد
الممحِّصة للقلوب، المُذْكية لمصابيح العقول، الموقدة لنار الهمم،المظهرة لاستعداد
الأمم، بإزالة الأحقاد، وجمع الكلمة على الجهاد {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214) .
جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوَحدةِ، وجمع كلمة الأمة،
بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن، وما هدى إليه من سننه المُطَّردة في أطوار
الإنسان، عالمين أن هداية القلم واللسان، لا يغيران ما رسخ في القلوب والأذهان،
إلا بقدر تربية كوارث أحداث الزمان، وإنما تتغير أحوال الأمم بتغيُّر الأعمال،
التي تنبعث عما ثبت في الأنفس من الأفكار وملكات الأخلاق {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) .
ألا وإنه قد أتى الأوان، للعمل بما أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان
أهل هذا الزمان، من أهل مصر والسودان، وسائر العرب والهند والترك
والفرس والأفغان، فهاؤم اقرؤوا بعض قواعدهما التي نشرناها في الشرق، في
مثل هذا الشهر من السنة الأولى بعد ثلاثمائة وألف:
(خفيت مذاهب الطامعين أزمانًا ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما لا
تنكرها الأنفس ثم التوتْ، أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء، حتى
تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم، وخرجوا بهم عن
محيط النظر، وبلغوا بهم من الضيم حدًّا لا تحتمله النفوس البشرية.
ذهب أقوامٌ إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطان الخيال، فظنوا أن القوة
الآلية وإن قل عمالها - يدوم لها السلطان على الكثرة العددية وإن اتفقت آحادها،
بل زعموا أنه يمكن استهلاك الجم الغفير، في النزر اليسير، وهو زعم يأباه
القياس، بل يبطله البرهان، فإن تقلبت الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقة
بأنه إن ساغ أن عشيرةً قليلة العدد فنيت في سواد أمةٍ عظيمةٍ ونسيت تلك العشيرة
اسمها ونسبتها فلم يجز في زمن من الأزمان امِّحاءُ أمةٍ أو مِلَّةٍ كبيرةٍ بقوة أمة تماثلها
في العدد أو تكون منها على نسبة متقاربة وإن بلغت القوة أقصى ما يمثله الخيال،
والذي يحكم به العقل الصريح، ويشهد به سير الاجتماع الإنساني من يوم عُلِمَ
تاريخُهُ إلى اليوم - أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف الافتراق في الكلمة، أو غفلة
عن عافية لا تُحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيمٍ يزول، ثم صالت
عليها قوة أجنبية أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالت عليها وخزات الحوادث
وأقلقتها آلامها فزعت إلى استبقاء الموجود، ورد المفقود، ولم تجد بُدًّا من طلب
النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهى ما تكون بالتئام
أفرادها، والتحام آحادها، وإن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي -
ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد وهو أيسر شيءٍ عليها.
إن النفوس الإنسانية - وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت - إذا كثر
عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه
الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمَّر
ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادًا.
ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها
تدارُك ما فرط، والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لها الظفر
والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يطاق إذا قام بتدبيرها القَيِّم عليها
ومدبر لسيرها - لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها قهر ذلك القيم،
وإهلاك ذلك المدبر؛ فإن العلة مادامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن
ذهب قَيِّمٌ خلفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة. نعم، يمكن تخفيف الأثر أو
إزالته بإزالة علته ورفع أسبابه.
جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمَن يباينها في الأخلاق والعادات
والمشارب وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمَن هو على شاكلتها، فكيف بها
إذا حمَّلها ما لا طاقة لها به؟ ، لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما
أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما تباعدت منه لجهة كونه غريبًا - تقرب بعضها
من بعض، فعند ذلك تستصغره، فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب!
إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تُنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في
الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمّها من الخطر ألزم من التحزب
للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من
دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.
أَبَعْدَ هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركة فكرية في أغلب أنحاء المشرق في
هذه الأيام؟ ! كُلٌّ يطلب خلاصًا ويبتغي نجاةً وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب
ما يصل إليه فكره على درجته من الجودة والأَفَن، وإن العقلاء في كثير من
أصقاعه يتفكرون في جعْل القُوى المتفرقة قوة واحدة يمكن لها القيام بحقوق الكل.
بلى كان هذا أمرًا ينتظره المستبصر، وإن عمي عنه الطامع، وليس في
الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه،
بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه - سيكشف لهم وَهْمَهُم فيما
كانوا يظنون! .
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب
منهم نكايته، خصوصًا في المسلمين منهم، فمنهم ملوك أُنْزِلوا عن عروشهم جورًا،
وذَوُو حقوق في الإمرة حُرِموا حقوقهم ظلمًا، وأَعِزَّاء باتوا أَذِلاّء، وَأَجِلاّء
أصبحوا حُقَراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصِحَّاءُ أضحوا سِقامًا، وأُسُود تحولت
أَنعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسَّها الضُّرُّ من إفراط الطامعين في
أطماعهم خصوصًا من جرَّاء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي
المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها: حملوا إلى البلاد ما لا
تعرفه فدهشت عقولها، وشَدُوا عليها بما لا تَأْلفُهُ فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس
في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضَّدُوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة
ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع، فكانت الحركة العرابية العشواء، فاتخذوها
ذريعة لما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب بل طوفان المصائب على
تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب ولكن أخطأ الظن وهَمُّوا بما لم ينالوا - إلى
أن قال -:
(ولو أنهم تركوا الأمر من ذلك الوقت لأربابه، وفوضوا تدارك كل
حادث للخبراء به، والقادرين عليه، العارفين بطريق مدافعته، واقْتِنَاء فائدته -
لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة، بدون أن تزل
لهم قدم، أو يُنَكَّسَ لهم عَلَمٌ.
غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرق الكلمة، وتشتت الأهواء
وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب،
وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلب المعتدين؛
فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعُوفي منه باقيها كانت سلامةً لبعضٍ،
تعزيةً للمصابين وحجابَ غفلة للسالمين، يحُول بينهم وبين الإحساس بما أصاب
إخوانهم، أما إذا عَمَّ الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر،
فيندفعون إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.
إن الفجيعة بمصر حركت أشجانًا كانت كامنة، وجددت أحزانًا لم تكن في
الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من
تذْكارِ الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس
زفيرًا، بل.. بل يكون صاخَّة تمزق مسامع مَن أصمه الطمع.
إن أَوْلَى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في
فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أَسِنَّة يحفظ
بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان، متقاربة الأشكال،
كحافظ عروش الملوك والمُدافع عن ممالكهم، ومثبت مراكز الأمراء، ومسكن الفتن،
ومخلّص الحكومات من غوائل العصيان، وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما
يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق
الذي يكفي لتمزيقه رَجْعُ البصر، وكَرُّ النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد
تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مُكنتهم وهو يعلم أن الكلمة
إذا اتحدت لا تُعْوِزها الوسائط، ولا يعدم المتحدون قويًّا شديد البأس ويساعدهم
بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب،
فهو يَضُرُّ ليضرَّ، وإن مسه الضر.
إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين
الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار
العقلاء وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت
بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى
معالجة علل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومُؤَمِّلين أن
تمهد لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر
منها لَنُهزةً تُغتنَمُ، وإليها بسطوا أَكُفَّهُم، ولا يخالونها تَفُوتُهم، ولئن فاتت فكم في
الغيب من مثلها وإلى الله عاقبة الأمور!
تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار
خصوصا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجهٍ،
ويوحدون كلمة الحق في كل صقعٍ، لا ينون في السعي ولا يقصرون في الجهد،
ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حيٌّ على حياته) إلخ.
هذا بعض ما نشره يومئذ ذانكم الإمامان الحكيمان، ولو كان الشرق مستعِدًّا له
في زمنهما كاستعدادِه في هذا الزمان - لما رسخ قدم الاحتلال في مصر والسودان،
ولكان الشرق على غير ما هو عليه الآن، وحسبهما أنهما هما السابقان، والموقظان
المرشدان، وإن زعيم مصر اليوم ليفتخر بأنهما هما المربيان لعقله وآرائه، ويشهد
بأنهما هما النافخان لروح الوطنية في قومه وأمته، كما يفتخر المنار بأنه المحيي
لذِكْرهما، والناشر لدعوتهما، والمقفي على آثارهما، ونسأله تعالى أن يتم لهذه
الأمة ما ظهرت أوائل فضله به من جمع الكلمة، ويكمل لخَلَفها ما صدق به وعد
سلفها، بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم بجعْلهم من الصالحين.
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
والنصيحة له
نُذكِّرُ قُرَّاء المنار في جميع الأقطار بما جرينا على مطالبتهم به في رأس كل عام
أن يُذكِّرونا بما عسى أن يروه من الخطأ فيه، سواء كان ذلك في المسائل الدينية
والعلمية أو في مصلحة الأمة، ونعِدُهم بنشر ما يتفضلون بكتابته إلينا ملتزمين فيه
لشروطنا، فإننا لا نكتب إلا ما نرى أنه الحق، وأن فيه المصلحة، وكل أَحدٍ يؤخذ
من كلامه ويُردُّ عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سؤال
عن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان
(س1) من أحد القراء في سنغافورة نشرناه بنصه وغلطه:
ما قول علماء الإسلام أدام الله بهم النفع للخاص والعام فيما يتعاطاه أهالي
بعض الجهات، وذلك أن أحدهم يأخذ من أحد الشِّيَنَةِ - وهم مشركون - بِنته
الصغيرة بثمنٍ، فيربيها، ثم يتسرَّاها، أو يبيعها إلى آخر مثلاً، ويستولدها، فهل
يجوز ذلك؟ ، والحال أن حكومة تلك الجهة كافرة تمنع ذلك، وتعاقب عليه بفرض
ثبوته لديها لمنعها بيع الرقيق والفاعل لذلك إنما يفعله بخفية وبصورة استخدام،
ومتى خرجت تلك البنت من عنده وامتنعت منه لا يقدر هو ولا غيره على ردها
بحال أو لا يجوز ذلك أو يكون مجرد شراها من والدها أو والدتها استيلاء تُملَكُ به
فيجوز تَسَرِّيها وبيعها؟ وإن كان الحال ما ذُكر وإذا قلتم بالملك فهل يختص بها
المشتري أو يسلك بها مسلك الفَيءِ؟ ، أفيدوا فإن المسألة واقعة ولا يخفى ما يترتب
عليها من هتك الأَبضاعِ وضياع الأنساب وقد استشكل ذلك بعض طلبة العلم وفهم
بدِيهةً أن مجرد الشراء - والحال ما ذكر - لا يملك به لأن المِلْكَ هو الاستيلاء لا
الشراء كما نُصَّ عليه ومَن لا يقدِرُ على قهرِهِ ليس مستولى عليه، فالمسئول مِن
أهل العلم توضيح هذه المسألة بما فيها من خلافٍ وأقوالٍ بما يطلع الكاتب مذهبِيًّا
كان أو غيره وفي أنه هل يختص بها المشتري فلا يجبُ عليه تَخمِيسُها أو لا يجب؟
فلعل شيئًا من الأقوال يحمل مَن وقع في شيء من ذلك، أفيدونا وأوضحوا وبيِّنوا؛
فإن المسألة وقع فيها كثير من الناس وحرجت منها الصدور وماذا يكون الحكم في
الأولاد من هذا الوطءِ لو قيل بفساد وجه التملك، لا عدمكم المسلمون.
(ج) ليعلم المسلمون في سنغافورة وفي سائر بلاد الإسلام أن الله تعالى خلق
البشر أحرارًا وأن الحرية حقٌّ لكل فردٍ ولكل جماعةٍ أو شعبٍ منهم بفطرة الله
وشرعه، كما كتب الفاروق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص لما بلغه أن ابنه
ضرب غلامًا قبطيًّا: (يا عمرو، منذ كم تَعَبَّدتُمُ الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم
أحرارًا؟ !) ، وإن الرق كان عادة اجتماعية عمت بها البلوى، حتى كانت
تكون في بعض الأحيان من الضروريات التي تختل بدونها بعض المصالح
العامة، وكان العُرفُ بين الأمم والدول أن الدولة الظافرة في الحرب تملك
الرقاب، كما تملك الأعيان مما تستولي عليه.
فلما جاء الإصلاح الإسلامي فتح أبوابًا كثيرةً لتحرير الرقيق ولم يحرم
الاسترقاق من أول الأمر تحريما قطعِيًّا؛ لئلا يكون المسلمون وحدهم عرضة
للاسترقاق إذا غُلِبُوا في الحرب وهذه علة صحيحة كنا غافلين عنها، فهذا أمر لا
يمكن إبطاله إلا بتواطؤ بين الأمم، ولا سِيَّما الحربية منها، كما جرى أهل هذا
العصر ووافقتهم عليه الدولة العثمانية؛ لأنه من مقاصد الشرع لا من محظوراته،
ولأن البشر يشق عليهم إبطال العادات الراسخة دفعةً واحدةً ولا سِيَّما إذا كانت
مصالحهم مشتبكةً بها ولأن بعض الرِّق كان يكون لمصلحة الأرِقَّاء في بعض
الأحوال كأَنْ يُقْتَلَ رجال قبيلةٍ ويبقى النساء والأطفال لا ملجأَ لهم ولا عائلَ، وقلما
يقع مثل هذا في زماننا؛ لأن شئون العمران فيه قد تبدلت، والذي عليه فقهاء
المذاهب المعروفة كلها أن الاسترقاق للسَّبْيِ والأسرى جائزٌ لا واجبٌ ولا مندوبٌ
لذاته؛ لأنه ضرورة كالحرب نفسها وأنه مفوضٌ إلى الإمام الأعظم يعمل فيه وفيما
يقابله بما يرى فيه المصلحة بمشاورة أهل الحَلِّ والعَقْدِ ويشترط فيه أن يكون في
حربٍ شرعِيَّةٍ مبنِيَّةٍ على تبليغ دعوة الإسلام وحمايتها وحفظ بلاد المسلمين
بالشروط المعروفة في كتب الفقه، ويقابله المَنُّ على مَن ذكر أي إطلاقهم بدون
مقابلٍ أو فداءُ أسرى المسلمين عند قومهم بهم، وهذا مقدمٌ على غيره عند التعارض
بالضرورة على خلافٍ فيه وفي قتل الأسرى. وقد خيَّر الله رسوله - صلى الله
عليه وسلم - في هذين الأمرين الأخيرين بسورة القتال ولم يذكر الاسترقاق، فقال:
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) .
وقد فصَّلْنا هذه المسائل في مواضع من مجلدات المنار السابقة كالرد على
خطبة لورد كرومر الشهيرة وغيره.
فعلم من هذا أن ما يجري عليه الناس من اغتصاب بعض أولاد الزنوج أو
الشِّينة (الصينيين) أو الجركس أو شرائهم من آبائهم وأوليائهم - لا يعد
استرقاقًا شرعيًّا؛ فلا تملك به الأعيان ولا الأبضاع وإن التسري بالمغصوبة أو
المشتراة مِن والدها أو غيره - حرامٌ، وأهونُ ما يقال في فاعله جاهلًا حكمَ
الشرع فيه أن وَطأَهُ وَطءُ شُبهةٍ وولَده منها ولَدُ شبهة، وإلا فهو زنا ظاهرٌ، لا
يستحله أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر.
وما ذُكِرَ في السؤال عن بعض طلبة العلم من أن سبب الملك هو الاستيلاء
دون مجرد الشراء لا محلَّ له في النوازل المسئول عنها؛ فإن شرط كوْن الاستيلاء
الصحيح مملكًا - قابليةُ المَحَلِّ للمِلْكِ، وهو الحَرْبيُّ المُشرِكُ الذي يُسبَى بالحرب
الدينية بعد إباء الإسلام، والجزية، وبعد ترجيح إمام المسلمين لاسترقاقه،
كما تقدم، فههُنا يختلف الفقهاء في حقيقة الاستيلاء المملك، هل يشترط
فيه دار الإسلام أم يحصل بالحيازة في دار الحرب؟ ، وقد صرح الفقهاء بعدم
جواز بيع الكافر لأولاده في دار الحرب ولا في دار الإسلام.
وإنا لنعجب ممن يهتم بأمر الأبضاع والأنساب والحلال والحرام ثم يُصِرُّ على
اتباع شهوته في الاستمتاع بهؤلاء الحرائر من السُّود أو الصفر أو البيض؛
ويسأل عن نوادر الخلاف بين الفقهاء، وشواذ الأقوال لِيَجدَ لنفسه عُذرًا
لبقائه على ضلاله؟ ، ألا فليتوبوا إلى الله تعالى وليتركوا هذه الرذيلة وما
يتبعها من الفواحش والمنكرات، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسيح الهند
(س2) من أحد القراء في زنجبار
نكتب ملخص هذا السؤال لكثرة الغلط في عبارته لُغةً وإملاءً وإعرابًا، وهو
أن الدعوة إلى مسيح الهند غلام أحمد القادياني قد بثت في زنجبار بأنه (النبي
المسيح المهدي) وأن مذهب أتباعه ودعاته هو مذهب خوجة كمال الدين الذي في
لندن والإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويقول السائل: إنهم قد غشُّوا
الناس بهذه الأسماء وصار الناس بالمجادلات حزبين، أحدهما مُصدِّقٌ والآخر مُكذِّبٌ،
وسألنا هل عندنا كتابٌ في الرد عليهم فنرسله إليه؟ ، وقد أرسل إلينا صورة
القادياني التي يوزعونها هنالك.
(ج) إن غلام أحمد القادياني قد ادعى أنه هو المسيح عيسى ابن مريم وأن
الله تعالى قد أوحى إليه بذلك وأن البسملة تدل بلفظ الرحمن الرحيم على أن محمدًا
صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله وأن غلام أحمد القادياني هو المسيح عيسى ابن
مريم، وقد نسخ من أحكام الشريعة الجهاد، وكان يستدِلُّ على صدق دعوته بقصيدةٍ
نظمها وادعى أنها معجزة كالقرآن، على أنها كثيرة السخف والغلط والهذيان،
وبكتابٍ في تفسير الفاتحة سماه (إعجاز أحمدي) ، وأكثره لغوٌ لا يفهم واستنباط
معانٍ لا تدل عليها الألفاظ بحقيقتها ولا بضرب من ضروب المجاز ولا الكناية، بل
هي دعاوٍ باطلةٌ كادعاء دَلالةِ البسملة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم
ومسيحيَّتِهِ، وكان يتأوَّل الأحاديث الواردة في نزول المسيح عيسى ابن مريم من
السماء في الشام وبكونه يقتل الدجال ويفعل كيت وكيت، أو يردها بزعم أنها
مخالفةٌ للقرآن، والقرآن لا يدل عليه، بل ولا على نزول المسيح عيسى ابن مريم
أيضًا كما بيناه في المنار مِن قبل. والآيتان اللتان استدَلَّ بهما بعضهم على ذلك
ليستا نصًّا ولا ظاهرًا فيه.
فأما قوله تعالى في المسيح: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) - فإنه لا يدل على ما ذهب إليه بعضهم في تأويل الآية إلا
بتكلُّفٍ بعيدٍ لا مُسَوِّغَ له، كما بيناه في تفسيرها [1] وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 61) بعد قوله
عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 57-58) ،
ففي مرجع الضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} (الزخرف: 61) وجهان،
ذكرهما المفسرون: (أحدهما) أنه القرآن، فإنه ذَكَرَ أوّلاً رسالةَ موسى، ثم رسالة
عيسى لأجل الاستدلال بهما على رسالة محمدٍ (عليهم الصلاة والسلام) وصدق
القرآن، (ثانيهما) أنه عيسى عليه السلام، وقد ذكروا لكونِهِ عِلمًا للساعة وجوهًا:
أظهرها أنه إحياؤُهُ لبعض الموتى وحياة صورة الطير من الطين بنفخه فيها، فإنه
دليلٌ يعلم به أن البعث مُمكِنٌ تتعلق به قدرة الله تعالى، وواقعٌ بتأييده تعالى لعيسى،
وجعل إحياء الميت وحياة الجماد من آياته الدالة على رسالته، وقد أوضحنا هذا في
المنار من قبل.
وقد ردَّ عليه كثيرٌ من علماء الهند، وناظروه، ففندوا دعوته، ورددنا عليه
في المجلد الثالث، والمجلد الخامس من المنار، وترجمت ردنا عليه الجرائد الهندية
في حياته؛ فساءه ذلك وآلمه حتى حمله على تأليف كتاب في شتمنا وتهديدنا يُضحك
الثَّكْلَى، سمَّاهُ (الهدى والتبصرة لمَن يرى) فإنه خلط فيه الهزل بالجد، وجمع
بين الذم والمدح، ولم يخلُ من المجُونِ، ووحي شياطين الجنون، ومما توعدني به
فيه زعمًا أنه قاله بالوحي قوله بعد كلامٍ: (وعمدَ أن يؤلمني ويفضحني في أعين
العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع، وألقى وجوده في الآلام، ووطئني
كالحصى، واستوقد نار الفتنة وحضى [2] وقال ما قال، وما أمعن كأولي النهى -
إلى أن قال - سيُهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر وأخفى) إلخ [3] .
ولو قدر الله تعالى جعْل وفاتنَا أو نكبة تقع بنا أو بالمنار بعد صدور كتابه هذا-
لادَّعى هو وأتباعُه أنها مصداقُ دعواه، ولكنَّ الله لم يزدنا إلا صحةً وقوَّةً وحُجَّةً،
ولم يزد المنار بفضلِهِ إلا تأييدًا، وانتشارًا، وقبول كلمة، إذ رددنا عليه بعد هذا
عدَّةَ مراتٍ، فكان هو المنهزمَ إلى أن مات.
ولكن كان من الغريب أن أتباعه قد مرنوا على المناظرة والجدل، فانصرف
أناس منهم إلى الدعوة إلى الإسلام في الهند وإنكلترة والولايات المتحدة الأميركية،
وما أعرف لهم بدعةً غير هذه الضلالة الوهمية، التي زاحموا بها البابية البهائية،
ولو تركوها للقي دعاتهم للإسلام مساعدةً وتعضيدًا من جميع المسلمين، وما أدري
أي فائدةٍ يطلبون بإصرارهم عليها؛ فإنهم ليسوا كالبهائية الذين اخترع دعاتهم دينًا
جديدًا ملفَّقًا، أصابوا به مجدًا وعظمةً بإقرار مَن أُشْرِبَتْ قلوبهم الوثنية بأن البهاء
إلههم وربهم، حتى إن خليفته وابنه، الذي فعل في تأسيس هذا الدين ما عجز قبله
أبوه عن مثله، قد لقب نفسه بعبد البهاء.
وكنت أظن أن هؤلاء القاديانية قد رجعوا عن هذه الدعوى الخرافية، حتى إذا
ما زرت الهند جاءني وفدٌ منهم للسلام عليَّ في (لكهنؤ) ودعوني إلى زيارة بلدهم،
فعلمت منهم أنهم لا يزالون على غرورهم، ولم يتسع الوقت لاختبارهم التام
بزيارة بلدتهم، ولا يبعد أن يكون خوجة كمال الدين منهم؛ فإنه ليس من كبار
العلماء الأعلام، وحاشا حكيم الإسلام والأستاذ الإمام، أن يكونا من أهل هذه
الأوهام.
_________
(1)
راجع ص 815 و 902، م 15، منار، وص 21، 95، ج 6 تفسير، وبيَّنَّا حقيقة المسيح الهند وبهاء البابية في ص 900-902، م 12، وص 42 و75، ج 6 تفسير.
(2)
حضأ النار بالهمز وحضاها يحضوها بالواو: إذا حركها لتشتعل، واستعملها هو بالياء.
(3)
يراجع ص 317-320 من مجلد المنار الخامس، وص900، م12.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إشْكَال في بيت من الشعر
(س3) من صاحب الإمضاء في لنجة (في خليج فارس) في 10 ربيع
الأول 1340.
حضرة العلامة المِفضال الأستاذ الإمام المصلح الفهامة السيد محمد رشيد رضا
منشئ مجلة المنار لا زال مفيدًا للإسلام ومعينًا للأنام، المرجو بيان إعراب هذا
البيت، فقد وصلنا إليه في الأشموني في المدرسة الرحمانية، وعجزنا عنه؛ لأن
إعرابه ينافي معناه وبالعكس، فسألنا حضرة الوالد خليصكم عنه؛ فادعى أن فيه
تحريفًا، ولم نقتنع، فصدَّعنا حضرتكم؛ لتزيلوا الإشكال، ولم تزالوا كذلك:
وكائن في الأباطح من صديق
…
يراني لو أُصبت هو المصابا
وقد راجعنا المواد التي عندنا كالصبان وحاشية ابن سعيد وشرح شواهد
الرضي وشرح العيني وشرح شواهد المغني - فلم نجد ما يشفي العليل، ويطفئ
الغليل، والمرجو أن تشرفوني بالجواب، فنحن من المحسوبين، ولم يزل حضرة
الوالد يحثنا على ذلك.
…
...
…
...
…
...
…
... من أسير إحسانكم
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بن عبد الرحمن
…
...
…
...
…
...
…
... سلطان العلماء بلنجة
(ج) إذا كنتم لم تطَّلعوا على ما قاله ابن هشام في روايتَيْ البيت، ووجوه
إعراب الرواية المشكلة من المغني، فالعجب منكم كيف راجعتم فيما عندكم من
الكتب شرح شواهد المغني، ولم تراجعوا المغني نفسه أوَّلاً، وإذا كنتم قد اطلعتم
على ما في المغني - ورأيتم فيه أن في البيت روايتين وما ذكره في إعراب الرواية
المشكلة - فالعجب منكم كيف لم تكتفوا بما فيه، وما بعده قولٌ لقائلٍ؟ ! .
والمختار عندنا في البيت أن الرواية التي عني بنقلها النحاة ليشحذوا قرائحهم
بإعرابها غير صحيحة، بل هي من تحريف بعض الرواة وفاقًا لذوق والدكم السليم
وأن الرواية الصحيحة:
وكائنٌ بالأباطح من صديقٍ
…
يراه إن أُصبت هو المصابا
أي إن أُصبت أنا يرى أنه هو المصاب؛ لأنه بصدق وُده أنزلني منه منزلة
نفسه، وما ينبغي لمن علم بنقل الروايتين أن يعرض عن الواضحة، ويضيع
الوقت النفيس في الرواية المشكلة، التي لا يمكن تطبيقها على القواعد، وفهم معنى
صحيح لها إلا بتكلف الاحتمالات البعيدة التي ذكرها مَن وقفوا أعمارهم لاستقصاء
أمثالها من الأغلاط أو الشواذ لأجل الإحاطة بفروع فن النحو ونوادره، وتقْيِيدِ
أوابده وشوارده.
وقد أورد صاحب المغني البيت في الكلام على (شرح حال الضمير المسمى
فصلاً وعمادًا) ، وهو في الباب الرابع (ص105، ج2) .
_________
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [
1]
لسيدنا آية العصر، وسر حكمة الدهر، ودرة تاج الحكماء، وواسطة عِقد
البلغاء، مَن لا تستوعب وصفه الأقلام وما نسقت، والطروس وما وسقت، أستاذنا
الأكبر، الفيلسوف الأشهر، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله.
إن الممكن بالإمكان الخاص (وهو الذي لا يلزم مِن وجوده ولا مِن عدمه
محالٌ) يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها، ولا ريب في أن السعادة من
الماهيَّات الممكنة بالإمكان الخاص، وأنها العلة الغائية لحركة كل فردٍ من أفراد
الإنسان، حِسِّيَّةً كانت تلك الحركة أو معنويَّةً، إذ لو لوحظت مساعيه آناء الليل
وأطراف النهار، وأخذه بوسائل الحِرَفِ مِن زراعةٍ، وصناعةٍ، وتجارةٍ، وجدّه
في تحصيل العلوم والفنون، وارتكابه المصاعب، في نيل المراتب والمناصب -
ما وجد لها مِن باعثٍ أو داعٍ سوى طلب السعادة، مع أنك لا تجد مَن نالها أو دنا
منها، ولو تنقل في مراتب الشؤون وتقلب في درجات التطورات، وما ذلك إلا
لعدم تحقق علتها، فعلينا أن نبحث عن تلك العلة، وعن الأسباب التي أوجبت عدم
تحققها، حتى يتبين وجه ضلال طلاب السعادة عن أن يصيبوها، فنقول:
إن بين السعادة والصحة شبهًا كليًّا، فكما أن صحة الجسم هي نتيجةٌ ومعلولةٌ
للتناسب الطبيعي بين أعضاء ذلك الجسم وجوارحه، وكمال الاعتدال فيما تكونت
عنه تلك الأعضاء، وحسن قيام كل عضو منها بأداء وظيفته مع مراعاة اللوازم
والشروط الخارجية: من الزمان، والمكان، والمطعم، والمشرب، والملبس،
فيكون زوالها لزوال هذه الأمور كلها أو بعضها، كذلك سعادة الإنسان هي معلولةٌ
للتناسب الحقيقي في الاجتماعات المنزلية، وقيام كلٍّ مِن أركانِ المنزل بأداء
وظيفته، وللتعادل التام في الائتلافات المدنيَّةِ بأن تكون المدينة فيها من الحِرَفِ
والصنائع ما يكفيها مؤنة الافتقار من دون نقصٍ أو خروجٍ عند حد حاجتها مع حسن
التعامل بين أرباب تلك الصنائع، وأن تكون أحكامها تحت قانونِ عدلٍ تساوَى فيه
الصغير والكبير، والأمير والمأمور، وللارتباطات العادلة بين الدول بأن تقف كل
دولة عند حدها، ولا تتعدى على حقوق غيرها، وأن يمهد سبل التواصل بينها
وبين باقي الدول لكمال التعاون والتوازر بين نوع الإنسان، وانتفاع كلٍّ من الآخر،
فيكون حصولها على السعادة بحصول تلك الأمور وفقدها لفقد جميعها أو بعضها.
وهذه الأمور وإن كانت ممكنة الحصول وجدَّ الناس في التماسها ما استطاعوا-
إلا أن هناك مانعًا من الوصول إليها، وهو اعتقاد كلّ كمال نفسه، ونقص غيره،
ونظره إلى أفعاله بعين الرضى، وإلى أفعال غيره بعين السُّخط، وزعمه أنه ما
حاد عن حدِّ الاعتدال، ولا أخلَّ بشيءٍ من واجباته وشؤونه، ولا تقاعدت همته عن
أداء وظائفه في العالم الإنساني، ويتحمل لإثبات ذلك بما تسوله له نفسه من الحجج
والبراهين، وإن أصابه العناء، ونزل به الشقاء، حسبهما من تهاون الغير فيما
يلزمه وإهماله ما يجب عليه مبرئًا نفسه من أسباب ذلك، حتى لو أغفل شأنًا من
شؤونه، يزعم أن قد سُدَّتْ دونه أبواب الإمكان، وتعذَّر عليه القيام به، ولو انتهك
محظورًا من المحظورات لادَّعى أنه لا اختيار له فيه، وإنما الضرورة هي التي
ساقته إلى ارتكابه، فهو مجبورٌ لا مختارٌ، مع أنه لا يلتمس للغير عذرًا فيما يفوته
أو يقع منه، ولو كان في نفس الأمر مجبورًا. ومن ثَمَّ وقع التضارب في الآراء،
والتدافع في الأفعال والحركات، وعمل كلٌّ على نقيض الآخر، فارتفع التناسب
وانعدم العدل وذهب الارتباط.
انظر إلى حال الآباء مع الأبناء والسادات مع الخَدَمَة، كيف أن كلاًّ منهم مع
علمه بأن السعادة المنزلية إنما تُحَقَّقُ بأدائه ما يجب عليه، وجعْل حركته من
متممات حركات الآخر، يخالفه في أفعاله، ويضاده في آرائه، معتقدًا أنه لو لم
يقصر ذلك الآخر في أداء الحقوق المفروضة عليه لاستقرت الراحة المنزلية،
وارتفع العناء، وإلى حال المشتركين في المدينة؛ فإن كل واحد مع جزمه بأن
الراحة والنجاح إنما يكونان بإحكام الصنعة وتهذيبها، وحسن التعامل، وكف يد
الشَّرَه والخيانة، وضبط العهود والمواثيق، واجتناب الكذب والاعتصام بحبل
الصدق والوفاء - لا يرى نفسه مخلاًّ بشيءٍ من ذلك، وإن أخل بجميعه، ويزعم
أن زوال السعادة المدنية إنما جاء من تهاون الآخرين.
وتدبر حال الملوك مع رعاياها تَرَ كلاًّ منهما يرمي الآخر بالإغراق وعدم
الاعتدال، ويتهمه بانتهاك المحارم والحقوق، ويبرئ نفسه من نسبة شيء من ذلك
إليها.
فالملوك - فضلاً عما رسخ في نفوسهم من أن رتبتهم الملوكية إنما هي رتبةٌ
سماويةٌ ساقتها إليهم يد العناية الإلهية؛ بسبب طيب عنصرهم، وطهارة طينتهم -
يعتقدون أن لا قوام للرعية بدون وجودهم، وأن لا غنى لها عنهم؛ إذ هم يحفظون
أموالها، ويحقنون دماءها، ويوفون لكل ذي حق حقه، وينتقمون للمظلوم من
الظالم، ويحرسون الثغور لدفع ضرر المهاجمين، فيرون أن لهم بذلك حق
التصرف في أموال الرعية ودمائها، وأنه يجب عليها طاعتهم، والخضوع
لسطوتهم وسلطتهم، وامتثال أوامرهم، واجتناب نواهيهم، ويرمون الرعية
بالتقصير فيما يجب عليها.
والرعايا يخاطبونهم قائلين: لا مَزِيَّة لكم علينا كما زعمتم، ولستم أطهر
عنصرًا، ولا أطيب طينةً، بل نراكم أناسًا استولى عليكم حب الرئاسة، وأسرتكم
الشهوة واستعبدكم الهوى، فاستمالكم إلى سلب راحتكم، وراحة رعاياكم حرصًا
على التغلب، وطمعًا في توسيع دائرة السلطة، وكسب الافتخار مينًا، وأما
اعتقادكم أن لا قوام لنا إلا بكم فأَنَّى لكم صدق هذا الاعتقاد، وقد أصبحتم كَلاًّ على
كواهلنا: نحن نغرس ونحرث، ونغزل ونحوك، ونفصل ونخيط، ونبني ونشيد،
ونخترع الصنائع، ونتفنن في المعارف، وأنتم تأكلون وتشربون، وتلبَسون
وتسكنون، وتتمتعون بلذة الراحة. وأما ما تعللتم به من حفظ أموالنا، وحقن دمائنا-
إلى آخر ما ادَّعيتم - فذلك إنما نشأ عن العظمة والكبرياء اللذين ثبتت أصولهما
في نفوسكم، أفلا تعلمون أن الحارس والمرابط إنما هو منَّا، وأنَّ الحافظ والحاقن
والمنتقم، إنما هو القانون والشريعة الحقة، وما أنتم إلا مَنُوطُون بحفظها، والعمل
في الناس بها، فإن قمتم بذلك على وجه الاستقامة كان لكم علينا ما يُقَوِّمُ أَوَدَكم،
فكيف ساغ لكم أن تلعبوا بأموالنا، وتعبثوا بدمائنا، وتلقوا بنا في هاوية الشقاوة،
ثم تبتغوا طاعتنا وامتثالنا، وترمونا بالتقصير والتهاون فيما وجب علينا.
وذلك الذي ذكرناه فيما إذا لم يكن الملوك من المتغلبين المباينين للرعايا جنسًا
ومشربًا، وأما المتغلبون من الملوك والمتغلب عليهم، فكل منهما يزعم فوق ما ذكر
أنه الوسيلة لمنفعة الآخر، والواسطة لمصلحته، وأن الآخر قابل حسنته بالسيئة،
ومنفعته بالمضرة.
مثلاً إن الحكومة الإنكليزية المتغلبة على الهنود تخاطبهم بقولها: إني عمرت
لكم المدن (كبمباي) و (كلكتا) و (كراجي) وأمثالها وزيَّنتها بالأبنية الشاهقة،
والقصور الشائقة، ووطَّأت شوارعها، ووسعت مسالكها، ورقشتها بالأغصان
وزخرفتها بمروجٍ وبساتين، ومهَّدت لكم سُبُلَ التجارة، وسهلت لكم أسباب الزراعة،
وفتحت أبواب الثروة؛ بما مددت من الأسلاك البرقية في أرجاء بلادكم، وأنشأت
من الطرق الحديدية في أنحائها. وحفرت من الترع والأنهار، ووضعت من
القناطر، وكذلك أسست لكم المدارس، ورفعت عنكم ظلم النوابين وقهر الراجاوات.
وأنتم مع ذلك أبيتم إلا الشقاق والنفاق، ونبذ الطاعة وسلب الراحة
…
وإن الهنود يجيبونها متظلمين مستغيثين منها قائلين لها: إنك ما عمرت تلك
المدن إلا بعد أن خربت بلادًا كانت زينة الأرض وفخار الأبناء (شيو) و (وشنو)
و (كهكلي) و (مرشد آباد) و (عظيم آباد) و (أكبر آباد) و (الله آباد)
و (دهلي) و (رايبود) و (فيض آباد) و (لكهنؤ) و (حيدر آباد) وغيرها
من البلدان، وإنك ما مددت الأسلاك البرقية ولا أنشأت الطرق الحديدية، ولا
حفرت الترع والأنهار، ولا وضعت القناطر إلا لنزف مادة ثروتنا، وتسهيل سبل
التجارة لساكني جزيرة بريتانيا وتوسيع دائرة ثروتهم، وإلا فما بالنا أصبحنا على فقرٍ
وفاقةٍ وقد نفِدَت أموالنا، وذهبت ثروتنا، ومات الكثير منا يتضوَّر جوعًا؟ فإن
زعمت أن ذلك لنقصٍ في فطرتنا، وضيقٍ في مداركنا، فيا للعجب من أبناء
(بريتوس) الذين مضت عليهم أحقابٌ متطاولة يهيمون في أودية التوحش والتبربُر؛
إذ يعتقدون النقص، وعدم الاستعداد في أولاد (برهما) و (مهاديو) مؤسسي شرائع
الإنسانية وواضعي قوانين المدنية.
وأما المدارس التي تمُنِّين علينا بتأسيسها فلم تكن لمصلحةٍ تعود علينا؛ إذ لو
كانت لذلك لاحتوت على العلوم، والفنون، والصنائع، مع أنها لم تنشأ إلا لتعليم
اللغة الإنجليزية المتعجرفة الخشنة لأبناء اللغة (السنسكريتية) اللغة المقدسة
السماوية حتى تستعمليهم في إدارة مصالحك في تلك الممالك الشاسعة.
وأما دعواك رفع ظلم النوابين، وقهر الراجوات عنا، فمما يُضحك الثكلى
ويُبكي المستيئس الذي جاءته البشرى؛ فإن الظلم إذ ذاك كان قاصرًا على البعض،
وظلمكِ الآن قد عم وطم، وإن الثروة والأُبَّهَةَ والجلالة والشأن التي يزدهي بها الآن
أهالي بريتانيا كان المتمتع بها وقتئذٍ أبناء وطننا؛ إذ النوابون والراجوات وغيرهم
من الأمراء، والكبراء، وحاشيتهم، وخاصتهم كانوا من أبنائنا، ومشاركينا في
الجنسية وكنًَّا نَتِيهُ بهم فخارًا على سائر الممالك والأقطار، فكيف بكِ أن تُمَنِّي
علينا بما مننت زورًا ومَينًا، وإنا لا نراكِ أيتها المتغلّبة علينا إلا كالعلق مصصت
دماءنا، بل كالسَّلاخ سلخت جلودنا؛ لتتخذيها أحذية لنعال البريتانيين، على
أنك لم تكتفِ بهذا وذاك، بل تريدين أن تستعملي عظامنا النخرة لتصفية السكر في
معاملك.
وتبصَّر في شأن الملوك بعضها مع بعض، فإن كل واحدٍ منهم يرى بما أقيم
من الحجج القاطعة - أنه على صراط العدل، وحدِّ الاستقامة، لا يُقدم على محاربةٍ،
ولا يحجم عنها، ولا يضع غرامةً أو يأخذ مِن ممالِكِ الآخر شيئًا إلا وهو في ذلك
مُحِقٌّ عادلٌ، مثلاً ملك الروسيين يحتج لحرب العثمانيين بأن أنين النصارى من
رعاياهم قد ذهب براحته، وتجافى به عن مضجعه، وحرك فيه حاسة الشفقة،
حتى دعته الرحمة والإنسانية للأخذ بناصرهم، واستنقاذهم من أيديهم، وتحريرهم
من رِقِّ عبوديتهم، مِن
…
والعثمانيون يدحضون حجته قائلين: (أولاً) لو كنت
مِمَّن تحركهم الشفقة والرحمة لكان الأحق بنيلها رعاياك المتحدون معك في المذهب
من أهالي (لهستان) ، فما دعواك هذه إلا محض الرياء والمواربة، (وثانيًا) أننا
لا نعامل رعايانا إلا كمعاملة الآباء للأبناء بدون تفرقة بين مذهبٍ ومذهبٍ وجنسٍ
وجنسٍ، وأوضح دليلٍ على ذلك بقاؤهم على مذهبهم حافظين للغاتهم وجنسيتهم،
ولو أننا كنا نفرق بين المذاهب والأجناس - كما تدعي - لحملناهم على رفض
مذاهبهم وتغيير لغاتهم، وكنا قادرين على ذلك في وقتٍ لم يكن لك فيه اسمٌ ولا رَسمٌ،
بل لم تكن شيئًا مذكورًا.
وكذلك إمبراطور الفرنساويين - بما ثبت عنده من البراهين البيِّنةِ على طمع
الجرمانيين، وحرصهم، وشرههم - يرى لنفسه الحق في افتتاح الحرب عليهم،
وإمبراطور الألمانيين - بما تحقق لديه من كبر الفرنساويين، وعُجبهم، ومجاوزتهم
الحد في أطوارهم - يحسب أن من الواجب عليه أن يضع عليهم غرامةً باهظةً،
ويتسلط على قطعةٍ واسعةٍ من بلادهم لتذليل نفوسهم، وإضعاف قوتهم؛ ليدفع بذلك
شرهم، ويأمن على نفسه، وأمته من تعدِّيهم.
ودَقِّقِ النظر في شؤون العقلاء، والحكماء وذوي الآراء والمذاهب الذين
يعتقدون أن الحق واحدٌ في نفس الأمر، والواقع لا يتعدد - كيف أنهم بعد اتفاقهم
على أن القواعد المنطقية هي ميزان النظر، وبها يعرف صحيح الفكر من فاسده -
قد انتهج كل واحدٍ منهم منهجًا واتخذ مشربًا يناقض به الآخر، ويعتقد أن دلائله
المُؤَدِّية إليه هي المُنطبِقةُ على ذلك الميزان، وأن لا انطباق لدلائل غيره عليه.
وارجع البصر إلى أحوال السارقين، والقاتلين، ونحوهم من مرتكبي
الفواحش والشناعات في العالم الإنساني - ترَ أنه لا يصدر عملٌ من هذه الأعمال
المُجمَعِ على قبحها من فاعلها إلا بسبب هذه الخِلَّةِ الذاتية، أعني اعتقاده كمال نفسه،
والنظر إلى أعماله بعين الرضى - ضرورة أن الفعل إنما يكون بعد الإرادة التي
لا تكون إلا بعد ترجيح الفعل على الترك، ورؤيته خيرًا منه، وهو عين الرضى
به.
ومن غرائب آثار هذه الخِلَّةِ إبرازها لحقيقةٍ واحدةٍ بصورٍ مختلفةٍ في نظر
شخصٍ واحدٍ على اختلاف مراتبه وشؤونه، فإنك ترى زيدًا من الناس مثلاً، وهو
في رتبةٍ دانيةٍ رؤوفًا بالفقراء، رحيمًا بالضعفاء، شفيقًا على المظلومين، ذامًّا
للبُخلِ والشُّحِّ، مادحًا للكرم والسخاء، مهتمًّا بقضاء حوائج ذوي الحاجات، مدَّعيًا
للعِفَّةِ، كارهًا للانكباب على الشهوة، مستهزِئًا بذوي التكاثر والتفاخر، مُبغِضًا
للكبرياء مُتَنفِّرًا عن الارتشاء، مشمئِزًّا من الإهمال في المصالح العامة، والتهاون
في الواجبات، مستهينًا بالمستبدين بآرائِهم، المعجبين بأقوالهم وأفعالهم، مستقبِحًا
تقديم المفضول على الفاضل؛ لغرضٍ يعود على ذاته مستبشِعًا لإعطاء المراتب
لغير أهلها وحرمان مستحقيها منها، لائِمًا على الغضب، وإسراع العقوبة مستفحِشًا
للسفاهة والبذَاءِ، محبًّا للوطن، مُحاميًا عن الحرية، زاعمًا أنه لو آل الأمر إليه
لقام بصلاح العالم.
وإذا ارتقى إلى رتبةٍ ساميةٍ تجده قسِيَّ القلبِ على الفقراء زاعمًا أن التَّكفُّفَ
صناعة اتخذها أرباب السَّفالةِ والبَطالةِ هربًا من عناء الكسب، جافي الطبع على
المظلومين مستدِلاًّ بأن المتظلمين أولو مكرٍ ودهاءٍ (أو رِياءٍ) يعلنون خلاف ما
يسرون، ويستترون تحت حجاب المَسكنةِ، والالتجاء للتغلب على حقوق غيرهم
بخيلاً شحيحًا متمسكًا في ذلك بأن من مقتضيات الحزم أن تُحرَّز الأموال، وتُودَع
المخازن لوقت اللزوم أو (إن الكرم والسخاء قبيحان عند السويليين من الإفرنج)
مُتوانِيًا في الأخذ بيد المحتاجين متعلِّلاً بتراكم الأعمال عليه في وظيفتِه المهمةِ،
وعدم تمكُّنه من إسعافهم، شَرِهًا شَهَوِيًّا مُحتجًّا بأنه بشَرَهِهِ وانصبابِهِ إلى الشهوة
يؤدي حق الطبيعة، فخُورًا برتبٍ وشؤونٍ ساعَدَهُ على نيلها البخت والصُّدفة بدون
استحقاقٍ، مع أنه ما أدى حقها ساعةً من دهره مُرضِيًا نفسه في ذلك بكلمة العبد
العاجز أو (افتخار أولمسون)[2] ، متكبرًا، يظن أنه وَقُورٌ من الواجبات عليه
إقامة الحُجَّابِ على بابه، والذائدين عن أعتابه، قيامًا بحق رتبتِهِ، ولازم شأنِهِ،
مرتشيًا يقنع نفسه بأن ما يأخذه حقٌ تبيح له الشريعة أخذه، إما لأنه جُعَالةٌ على
عمله أو هديةٌ من صديقٍ، مهملاً في المصالح العامة متهاونًا فيها معتذرًا بأنه من
آحاد الناس ليس في طوعه تقويمها. وما من مساعد يعاضده عليها. وقد أدى
الواجب على شخصه، مستبدًّا برأيه، معتقدًا أنه قد بلغ من العقل والدراية إلى حدٍّ
تنحط دونه جميع أفكار العالم، ويقصر عن إدراك غايته مدى أنظارهم، مع أنه
أعمى البصر والبصيرة، لا يرى ما تحت قدميه، مُقدِّمًا للمفضول على الفاضل،
مستنِدًا إلى سلامة قلب ذلك المفضولِ ولين عَرِيكتِه وطلاقة وجهه، أي أنه (يهز له
القاووق) وفي رواية (يمسح له جوخ) ، وأنه (سطري لجنابه العالي)[3] رافعًا
إلى أسنى المراتب مَن لا يليق لأدناها حاسبًا نفسه طبيبًا، روحانيًّا، خبيرًا بأخلاق
العالم وطبائعهم، حكيمًا لا ينظر في أعماله إلا إلى المصالح العامة، غضوبًا،
سريع العقوبة، يحسبها سياسةً وتدبيرًا مدنيًّا، سفيهًا بذيئًا يرى أن الناس لا
يستحقون سوى قبيح فعله، وفحش قوله، ولا يدركون مزية الآداب، ولا يقدرون
الأديب حق قدره، خائنًا لوطنه، ساعيًا في خرابه وإذلال أهله (كأفيالتيس اليوناني)
ويعد نفسه في ذلك مجبورًا ملجأً طالبًا للاستعباد، متشبثًا بأن الحرية لا تليق
بالأهالي لعدم استعدادهم لها، بل إنها مما يوجب فسادهم لو نالوها! ، آيِسًا من
صلاح العالم؛ إذ يراهم لنقص قريحتِه ناقصي الاستعداد فاقدي القابلية، ويزعم أنه
لو كان لهم نوع من التهيؤ للإصلاح لأتمه لهم بسعيه واجتهاده.
ومن أغرب آثارها أن المتخلق بها مع كونه متصفًا بأرذل الأخلاق، وأشنع
الخصال - يعمى عن أنه متصفٌ بها، مثلاً يكون قسيَّ القلب، ويعتقد نفسه رحيمًا.
ومتكبرًا ويرى نفسه متواضعًا. وهكذا باقي الخصال مع أنه لو تلبس غيره بأدنى
رذيلة لأدركها وشد عليه النكير فيها، حتى إنك ترى كل واحد (كأنه) قد جعل
على إحدى عينيه نظارةً معظِّمةً (ميكرسكوب) ؛ ليقف على دقائق معايب معاشريه،
وعلى الأخرى نظارةً رَصدِيَّةً (تلسكوب) ؛ لئلا يفوته أعمال البُعداء عنه،
وعلى إحدى أذنيه موصلة الصوت (تليفون) ؛ لاستراق أخبار الناس كيلا يَعْزُب
عنه شيءٌ من نقائصهم، وعلى الأخرى حافظة الصوت (فنوكراف) ؛ ليستحفظ
قبائحهم؛ لئلا يغيب عنه شيءٌ منها، ويقتدر على استحضارها وقت الحاجة عند ما
يتحرك دولاب حقده وحسده، مع أن أقرب الأشياء إليه نفسه، وهو لا يرى شيئًا
من معايبها، فهو أعمى حديد البصر وأصم قوي السمع.
فتعسًا لها من خلة قضت على نوع الإنسان بالاختلال وسوء الحال، وآذنته
بالشقاء والعناء، وأوقعت الخبط في الأعمال، والخلط في الأقوال، ولبَّست الحق
بالباطل، والزائف بالصافي، والجيد بالرديء، وحسن القبيح، وقبحت الحسن،
وأبرزت المُعْوَجَّ مستقيمًا والمستقيم معوجًّا.
ومَن نظر بعين الحق، وسير الحقائق بنور البصيرة لا يجد لهذه الخِلَّةِ -
أعني اعتقاد كل كمالٍ لنفسه، ونظره إلى أعماله بعين الرضى - علةً وسببًا سوى
حب الذات الذي هو غشاوةٌ على عين العقل، تمنعه من استطلاع الحقائق على ما
هي عليه، ووقوفه عند حد الصواب في سير الأفكار، بل هو متغلِّبٌ على جميع
الإحساسات النفسانية، وحاكم على كلها بالتغيير، بل لا يختص حكمه بها؛ إذ
يتعدى إلى الإحساسات الطبيعية أيضًا، فإنك ترى مشوه الوجه مختل الخلقة رثّ
الثياب، الذي قد تجسدت عليه الأدران والأقذار - إذا نظر إلى صورته بهذه الصفة
الرديئة في مرآةٍ مثلاً، لا يشمئز، ولا يستنكر، وإذا وقع بصره على مَن بلواه في
ذلك أخف مِن بلواه - انفعلت نفسه، واستنفر واستبشع.
وهذا الوصف - أعني حب الذات الذي هو علة الشقاء والعناء - من
الأوصاف اللازمة لذات الإنسان ما دام موجودًا، فلا ينفك الإنسان عنه، ولا هو
يزايله، فإذن لا حيلة، ولا خلاص من بلاياه ونكباته إلا باستعمال الإنسان عقله
ورجوعه إليه في جميع أموره، والخروج من رِبقةِ عبوديةِ سلطانِ حب الذات،
ورفض أحكامه، وذلك أن يحكم على نفسه بما يراها عليه في مرآة غيره، لا في
مرآة نفسه، (ما أجملك أيها الإنسان المعجب في مرآة نفسك، وما أقبحك في مرآة
غيرك!) .
وهذا الذي ذكرناه هو العلاج الحقيقي، والوسيلة العظمى لوقوف كلٍّ عند حده،
وسعي كل لاستكمال نفسه، اللذين هما مدار السعادة.
ولسنا نذم حب الذات بجميع أنواعه؛ فإن منه ما قد يعود بسعادةٍ ما على
طائفةٍ من الطوائف، أو أمةٍ من الأمم، وهو حب الذات الداعي إلى طلب المحمدة
الحقة [3] وهو الذي يرتقي بصاحبه إلى توجيه أفكاره وأعماله نحو المصالح
العمومية، بدون أن يطلب في ذلك شيئًا سوى الحمد، وخلود الذكر، والسلام على
مَنِ اتبع الهدى، ورجَّح العقل على الهوى.
_________
(1)
هذا الأثر النفيس لأستاذنا موقظ الشرق رحمه الله تعالى كان فاتحة لكتاب (البيان في الانكليز والأفغان) الذي كان مما أملاه حكيمنا ونشر في جريدة (مصر) التي أصدرها بأمره الأديبان السوريان الشهيران سليم النقاش وأديب إسحق وكانت لسان حاله، ومظهر آرائه، وأقواله ثم طبع ذلك في كتاب مستقل بمطبعة جريدة مصر بالإسكندرية سنة1878، وكتب تحت الاسم هذه العبارة (لسيدنا آية الحكمة، مجلي الجمال والجلال، ومظهر محاسن الكمال، أستاذنا الفيلسوف الطاهر الأرومة، النسيب ابن النسيب، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله) وقد كان لمقالات (البيان) المذكورة تأثير في الأمة البريطانية، حتى ردت عليها جرائدها، فرد هو عليها ردًّا عرفت به عظيم شأنه وكان ذلك السبب الأول لمعرفة اسمه في أوروبا.
(2)
كان السيد رحمه الله يملي وقلما كتب بيده مقالاً وكان تلاميذه كاللقاني وأديب إسحق يكتبون كل ما يقوله في الكَلِم والأمثال العامية، التي يمزج بها الكلام عادة كهذه الجمل في الموضعين وكانت ذائعةً في معاشري الحكام من الترك، ولكن أكبرهم الأستاذ الإمام كان يتصرف في العبارة ويجيز له ذلك السيد.
(3)
الحق: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع.
الكاتب: محيي الدين آزاد
كتاب الخلافة الإسلامية
مُؤَلِّفُهُ باللغة الأوردية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
مُتَرْجِمُهُ بالعربية
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى
…
باب (الخلافة)
(الخلافة) : مصدرٌ من خلف يخلف خلافة، ومنها (الخليفة) من قولك
(خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده (ابن فارس) فالخليفة
(: هو الذي يخلف مَن قبله، ويقوم مقامه، إما بموته، أو عزله، أو غيبته، أو
نصبه إياه في منصبه وسلطته، وفي مفردات الإمام الراغب الأصفهاني:
(الخلافة: النيابة عن الغير، إما بغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه،
وإما لتشريف المستخلف) (ص155) .
وهذه الكلمة أيضًا من تلك المختارات اللغوية التي اختارها القرآن الحكيم،
فنقلها من معانيها اللغوية إلى المعاني المصطلحة الشرعية (كالإيمان والغيب
والتقدير والبعث والصلاة) وغيرها من الكلمات التي انتقاها من اللغة لمعنى
خاص به، فكلمة (الإيمان) مثلاً تُستعمل في اللغة لليقين، والطمأنينة، وزوال
الخوف، والشك، ولكن القرآن يستعملها في يقينٍ أخص من الأول، يصحبه إقرارٌ
باللسان، وعملٌ بالجوارح، فصارت اصطلاحًا خاصًّا، دالةً على معنى خاصٍّ به
دون دلالتها في اللغة.
وكذلك كلمة (الخلافة) كان معناها عامًّا في اللغة، فوضعها القرآن لمعنى
أخص من الأول، واستعملها (وكذلك الاستخلاف في الأرض، ووراثتها والتمكين
فيها) في العظمة القومية، والرئاسة المِلِّيَّة، والحكومة العامة، والسلطة التامة على
الأرض، ومَن فيها من الأمم والشعوب، ويعدها أكبر مِنَّةٍ، وجزاءٍ من الله سبحانه
تناله الأمم في هذه الحياة الدنيا على إيمانها وحُسن عملها.
أما المراد من هذه الخلافة: فهو أن تقوم في الأرض أمةٌ، وحكومةٌ تأخذ على
عاتقها هداية النوع البشري وسعادته، وتنشر لواءَ القسط الإلهي، وتمحق الظلم،
والجور، والضلال، والطغيان؛ حتى لا تذر له أثرًا على وجه البسيطة، وتمد
رواق الأمن والسكينة، والراحة، والطمأنينة على العالم بأسره، وتقيم ناموس
العدل الإلهي الذي يسميه القرآن (بالصراط المستقيم) الذي هو نافذ من الأرض
إلى السموات العلى، ومِن ذرات الرمل في الصحراء إلى الشمس، والقمر،
والنجوم، وما هو تحت الثرى، فتقيم ذلك الناموس في مشارق الأرض، ومغاربها،
وتنفذه في جميع بقاعها ونواحيها؛ حتى تصبح الكرة الأرضية جَنَّةً، ودارَ قرارٍ،
وتكون السعادة ضاربةً فيها بأطنابها، والأمنية باسطةً جناحيها من فوقها!
وإنما أُطلِقَ لفظُ الخلافة على هذه الخلافة المصطلحة؛ لأن أول أمةٍ، وأول
فردٍ لما قام في الأرض بأعباء الخلافة - كان نائبًا عن الله في إقامة عدله، ثم الذين
جاءوا بعد تلك الأمة، وذلك الفرد كانوا نائبين عنهم في هذا الأمر، حتى ظهر
الإسلام، وقامت الأمة الإسلامية، فانتقلت الخلافة الأرضية الإلهية إليها، فكان
أول خليفةٍ مِن هذه السلسلة المباركة صاحب الشرع المتين، ورسول رب العالمين،
محمد صلى الله عليه وسلم فكان خليفة الله العظيم مباشرة ثم الذين استووا بعده
على منصّة الحكومة الإسلامية المركزية، كانوا خلفاء هذا الخليفة الإلهي والنائبين
عنه في الدنيا؛ فلذا سُمُّوا الخلفاء، ولا يزالون يسمون به إلى الآن.
وقد تقلبت خلافة الأرض، ووراثتها في أمم كثيرة، قامت كلُّ واحدةٍ منها في
نوبتها بخدمة دين الله الحق، وقد ذكرت هذه الخلافة في الآيات الآتية:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) ، {وَيَسْتَخْلِفُ
رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود: 57) ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس: 14)، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: 69) ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: 26) .
وعبر عن هذه الخلافة (بوراثة الأرض)، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105)
وأيضًا (بالتمكِين في الأرض) وهو استفحال القوة، وكمال العظمة الذي ناله فتى
إسرائيل في أرض الفراعنة، بعد أن بِيعَ فيها عبدًا، ثم وصل إلى عرش الحكومة،
وتاج المُلك بعمله الحق وسيره القويم {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} (يوسف: 21) .
وقد وعد الله به سبحانه المسلمين فقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) .
وثبت أيضًا من هذه الآية أن الله تعالى إنما يريد من التمكين في الأرض أن
تقام عبادته فيها، ويعم الصلاح، والصدق، والهداية فيها، ويصد الإنسان العَنُود
عن غيِّه، وعمل المنكر.
وعبر في الآية الأخرى عن التمكين في الأرض (بالخلافة) فقال تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور:
55) .
نزلت هذه الآية العظيمة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين من الكفار، ومحاطين بالأعداء من كل
جهة، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فضجر منهم رجلٌ من هذه
الحالة، وقال:(ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ !) ، فبشرهم
الله بهذه الآية أن لا يهنوا، ولا يحزنوا؛ فإنه لا يضيع أجر إيمانهم، وحسن
صنيعهم، فسينالونه بإذنه، ويأمنون أعداءهم، فيذهب الخوف ويحل محله الأمن،
ويصيرون ملوكًا وسلاطين، فيكون الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، وأكبر من ذلك
كله أن خلافة الله ستنتقل إليهم، فيرثونها، وتطمئن قلوبهم بها (ذكره الطبري
بالمعنى في تفسيره عن أبي العالية، ج 18 ص 109) .
وقد تضمن هذه الآية أن مراد القرآن الحكيم بالخلافة، إنما هو خلافة الأرض
أي الحكومة والسلطان فيها؛ فإذًا لا بد للخليفة الإسلامي من أن يكون صاحب الأمر
والنهي، والحكومة التامة؛ لأنه ليس كبابا المسيحيين، وبطاركتهم فأولئك سلطتهم
روحية، وهي خضوع القلوب، وانحناء الرُّءوس أمامهم، بل هو حاكمٌ وسلطانٌ
بالمعنى الحقيقي إلا أن سلطته يجب أن تكون تحت الشريعة الإلهية، وليس له حق
التشريع ألبتَّة [1] ، ولا أعطته الشريعة سلطةً دينيةً روحانيةً كما أعطت المسيحية
للبابوات؛ لأنها تُعِدُّ كل سلطةٍ لغير الله ورسوله شركًا به وكفرًا تمقته أشد المقت
وتمحقه من أول ظهوره [2] قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31)، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79) .
هذا، وقد وفى الله تعالى للمسلمين وعده بالخلافة، كما وفى جميع وعوده
وعهوده، فلم يمضِ بضع سنين - والرسول بين أظهرهم - إلا وأصبحت جزيرة
العرب في قبضة يدهم، وشوهدت جيوشهم خارجة من أسوار المدينة لمقاومة الروم
أعداء دينهم، وسبقت خلافة الأرض إليهم، بعد أن نزعت من غيرهم، فكان أول
خليفة منهم هو حامل الشريعة الغراء بنفسه صلى الله عليه وسلم، ثم الذين
قاموا في مقامه من بعده كانوا خلفاءه، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم
بتسميتهم (خلفاء) أنهم ينوبون عنه بعده، فقال للمسلمين: (عليكم بسُنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي) (رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية) ؛ ولذا
سمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خلفه خليفة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -.
***
الخلافة النبوية الخاصة والخلافة الملكية
انصبغت الخلافة الإسلامية بعد النبي عليه الصلاة والسلام بصبغتين
مختلفتين، وظهرت بمظهرين متباينين، وكان عليه السلام قد أخبر عنهما،
ورفع الستار عن خصائصهما، والأحاديث التي وردت في هذا الباب تكاد أن تكون
متواترةً لكثرةِ طرقِها، وشهرة متونها، فخلافة الخلفاء الراشدين المهديين كانت
مصبوغةً بصبغة الرسالة، وسائرةً على منهاج النبوة، فكانت خلافة الرسول حقًّا،
والخلفاء الراشدون خلفاءه حقًّا، لا في منصة الحكم والسلطان فقط، بل في جميع
أعماله وهدْيه، فكانوا مثله دعاة الدين، هداة الأمم، قضاة الشرع، قادة الشعوب،
ساسة البلاد، قواد الجيوش، إخوة الحروب، رايات الأمن، قد اجتمعت في
شخص كلِّ واحدٍ منهم صفاتٌ كثيرةٌ مما كان مجتمعًا في شخص سلفِهم وهاديهم
صلى الله عليه وسلم، فكانوا خلفاءه وحاملي شرعه، بل حلقةً من حلقات عهد
الرسالة، وبركةً من بركات زمن النبوة، حكومتهم حكومة إسلامية محضةٌ،
ونموذجٌ كاملٌ للنظام الإسلامي، فكانت (حكومة جمهورية) قائمةً على أساس
الشورى بالمعنى الصحيح غير أنها لم تدم كثيرًا، بل ماتت بموت علي - عليه
السلام - ودفنت معه في أرض الكوفة.
ثم ظهرت بعد هذه الخلافة الراشدة، خلافةٌ في حُلَّةٍ غير حُلَّةِ أختها منحرفةٌ
عن منهاج النبوة، منقطعةٌ عن مسلك الرسالةِ، فكانت حكومةً دنيويةً ومُلكًا
عَضَوضًا، وذلك عندما فشت البدع العجمية، وامتزجت بالمدنية الإسلامية العربية،
ولدت جراثيم الفساد في فضاء العالم الإسلامي، فهذه الخلافة - وإن كانت كل
حلقةٍ منها أشبه بالخلافة الراشدة من التي جاءت بعدها - لم تكن في مجموعها من
محاسن الخلافة الراشدة في شيءٍ؛ ولذا سميت الأولى على لسان النبي - صلى الله
عليه وسلم - بالخلافة لغلبة الهداية والصلاح عليها، والثانية بالمُلك العَضَوضِ
لظهور الاستبداد والقهر فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون
سنة، ثم ملك بعد ذلك) [3] وفي حديث أبي هريرة: (الخلافة بالمدينة، والملك
بالشام) [4]، وأخبر في حديث آخر بأن هنالك ثلاثة أدوارٍ: عهد نبوةٍ ورحمةٍ -
عهد خلافة ورحمة - عهد ملك وسلطان، فانتهى الدور الأول بالنبي - صلى الله
عليه وسلم - والثاني بعليٍّ عليه السلام كما مر وقد كان هذا الدور بالحقيقة
ذيلاً للأول وجزءًا لازمًا له، كما هو سنة الله في دعوة الأديان وتوثيق عرى
الشرائع، حيث يجعل الله لكل نبيٍّ خلفاء يقومون بعده بدعوته، ويوطِّدُون دعائم
شريعته، ثم جاء بعد هذا وذاك الدور الثالث، دور حكومة وملك عضوض، وهو
باقٍ على حاله إلى الآن، ولم يكن الصحابة يجهلون هذا الدور، ولا يستبعدونه،
بل كانوا يعرفونه، وينتظرون مجيئه لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياهم
به.
وقد كان هذا الدور أكبر مصيبةٍ ابتُلِيت بها الأمة، فبعد أن كانت ترتع في
رياض النبوة، وتجني ثمار الخلافة الراشدة آمنةً مطمئنةً، إذ نَعق ناعق الشر بينها،
وقُتِلَ الخليفة الثالث عثمان بن عفان بين يديها، فتقلص ظل هدي النبوة شيئًا
فشيئًا، وذهبت بركاتها واحدةً تلو واحدةٍ، وأخرجت البدع رءوسها، وزحفت الفتن
بخيلها ورَجلِها، فأحاطت بها من كل جوانبها، فكلما ابتعدت الأمة عن عهد الرسالة
حرمت نصيبًا من بركاته، وبركات الخلافة الراشدة، ولم يكن حرمانها محصورًا
في أمر الإمامة العظمى، والخلافة الكبرى فقط، بل تعداها إلى غيرها، فتغلغلت
جراثيم الفساد في هيكلها الاجتماعي، فزعزت نظامها وقوامها، ثم سرت إلى
حياتها الشخصية، فأفسدت عقائدها، وعواطفها ونفثت في أعمالها سمومها،
فغيرت من صغيرها وكبيرها، ولم تكن فتنة واحدة أو فتنًا قليلة محصورة فيسهل
اتقاؤها، بل سالت سيولٌ من الفتن، دهمت المسلمين بغتة، فماجت عليهم أمواجها،
وثقلت عليهم وطأتها، فكانت كما قال أعلم الصحابة بالفتن حذيفة - رضي الله
عنه -: (تموج كموج البحر) ، وبيَّن لهم أنه ليس بينها وبينهم سد إلا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه -وأنه متى سقط هذا السد المنيع طغت تلك السيول
الجارفة، وبغت، فلم يقدر أحدٌ على صدّها، فما زالت حتى أخذت الخلافة النبوية
في تيارها، وحطمتها، وتركتها أثرًا بعد عين.
نعم، وقع ما وقع، إلا أن الأمة المسلمة قد بُشِّرت على لسان نبيها بأنها
سترى في آخر أيامها دور نجاحٍ وفلاحٍ، فتقر به عينها، وينشرح صدرها،
وتصلح أمورها، حتى (لا يدرى أولها خيرٌ أم آخرُها)[5] ، ويتم فيه نور الله
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (الصف: 8)
…
إلخ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33)[6] ؛ ولذا لا يزال قلب المؤمن قويًّا برجاء الله،
مملوءًا باليقين، لم يخالطه ريبٌ، ولا دخله زيغٌ، ولا صادفه قُنُوطٌ ويأسٌ، حتى
في هذا الزمان الذي انصبَّت فيه على المسلمين المصائب، ونزلت بهم النوازل،
وزُلزِلُوا فيه زِلزَالاً شديدًا، بل كلما ازدادت العواصف شدَّةً، والليل ظُلمةً،
والأرض عداوةً - يزداد المؤمن رجاءً ويقينًا، ويبصر بعينيه نور الصبح الجميل
من بين هاتيك الظلمات، والغيوم والعواصف، ولسان حاله يقول: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 81) .
***
فصل
عهد الاجتماع والائتلاف ودور التشتُّت والانتشار
قبل أن نخوض في غمار هذا البحث نتكلَّمُ في هذا الفصل على كلمتين
مصطلحتين زيادةً في الإيضاح، وتفصيلاً للبيان، فنقول:
(الاجتماع والائتلاف) كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،
فيهما سر حياة الأمم ومماتها، نهوضها وهبوطها، سعادتها وشقوتها، (فالاجتماع)
من الجمع، وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض (مفردات ص95) ،
ويقرب منه (الائتلاف) من الإلف، اجتماع من التئام (والمؤلَّف ما جُمع من
أجزاء مختلفة، ورُتب ترتيبًا فقُدِّم فيه ما حقه أن يقدم وأُخِّر فيه ما حقه أن يُؤَخَّر)
(مفردات ص19) ، أما (عهد الاجتماع والائتلاف) فهو ذلك العهد الذي تجتمع
فيه القوى الاجتماعية الفعالة في مكانٍ واحدٍ، في نقطةٍ واحدةٍ في سلسلةٍ واحدةٍ، في
ذاتٍ واحدةٍ، وفي يدٍ واحدةٍ بترتيبٍ طبيعيٍّ لائقٍ بها، فتصبح كل المواد والقوى
والأعمال الاجتماعية، وأفراد الأمة مُتماسِكةًَ متشابِكةً؛ حتى لا نرى فيها خَلَلاً، ولا
خَرقًا ولا فَتْقًا، بل تجدها كلها كحلقات السلسلة التي التحم بعضها مع بعضٍ،
فأضحت شيئًا واحدًا.
فدور الاجتماع والائتلاف إذا جاء على المادة، ظهر فيها الخلق، واستعدت
للحياة ، وعبَّر القرآن عن هذا بالتخليق والخلق والتسوية (فقال: {الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى} (الأعلى: 2) ، فالوجود والحياة ليس إلا اجتماع أجزاء المادة مؤتلفة،
وكذلك الموت والفناء ليس إلا تفرقها وتشتتها، وإذا جاء على الأعمال سماه علماء
الأخلاق) بالخير (وسمته الشريعة) بالعمل الصالح والحسنات (، وإذا جاء على
الجسم سماه علم الطب (بالصحة) ، وقال الطبيب هذه حياة، ثم إذا جاء على
القوى والأعمال الاجتماعية القومية سمي (بالحياة الملّية الاجتماعية) ، وكان
موجبًا لنبوغ الأمة ونفوذها وسلطانها، فالعبارات مختلفةٌ كثيرةٌ، والحقيقة واحدةٌ،
لا تتعدد ولا تتبدل، ولا غَرْوَ فإن الله الحكيم واحدٌ منفردٌ وحكمته واحدةٌ وناموسه
واحدٌ ولَنِعْمَ ما قيل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد
…
وكلٌّ إلى ذلك الجمال يشيرُ
وضد الاجتماع والائتلاف (التشتت والانتشار) فالتشتت من (الشتات) ،
ومعناه في اللغة: التفرق، يُقال شتّ جمعهم شتًّا وشتاتًا وجاؤوا أشتاتًا أي متفرقي
النظام (مفردات ص 256) وفي القرآن: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} (الزلزلة: 6)، {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} (طه: 53) {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:
14) أي مختلفة، والانتشار من النشر، وهو أيضًا التفرق والبسط كما في القرآن
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10) .
وأما دور (التشتت والانتشار) : فهو أن تتفرق المواد، والقوى، والأعمال
والأفراد، فيصير كل شيء على ضد ما كان عليه في عهد الاجتماع، فإذا عرضت
هذه الحالة للمادة قيل (فسادٌ وانحلالٌ) ، وللجسم قيل (مرض وداء ثم موت) ،
وللأعمال قيل في تعبير القرآن (عمل السوء والعصيان والفسق والإجرام) ،
وللأمم قيل: (الموت الملي، والموت الاجتماعي) ، فتصبح الأمة في هذا الدور
في هبوطٍ بعد الصعود، وذلةٍ بعد العزة، وضعفٍ بعد القوة، وعبوديةٍ بعد الحرية
والسيادة، ثم تسير إلى الموت والهلاك بعد أن كانت صحيحة ًقويةً حيَّةً، فيا له من
بلاءٍ ليس فوقه بلاءٌ، والعياذ بالله!
ولذلك تجد القرآن ينبه مرة بعد مرة على أن (الاجتماع والائتلاف) الأساس
الأكبر لحياة الأمم، ويعده أكبر نعمة من الله سبحانه على البشر، ويعبر عنه
بالعبارات العظيمة الشأن (كالاعتصام بحبل الله) وغيره، ويقول للأمة:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) ثم يخبر بعد هذا
بأن لا حياة مع التشتت والانتشار، فإنه نارٌ موقدةٌ تحرق كل شيءٍ يقربها، ولا
سيَّما شجرة الحياة الاجتماعية، فإنها إذا مستها لا تُبقِي عليها ولا تَذر، فقال تعالى:
{وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) ، ثم يخبر بأن الحياة الاجتماعية في الأمم ليست من تدبير
البشر [7] ، فمهما بلغ الإنسان من القوة، والعظمة والعقل - لا يقدر على أن يكون
أمةً، بل هو الله الواحد القادر، يجمع الأشتات فيؤلف بينها ويسلكها في نظام واحد،
فقال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) .
وأخبر القرآن أيضًا بأن أول ثمرةٍ تثمرها الشريعة الإلهية، وأعظم بركة
تجود بها على النوع الإنساني في الدنيا هي (الاجتماع والائتلاف) ، وكرر مرةً
بعد أخرى أن التفرق، والتشتت، والانتشار لا يجتمع مع الدين أبدًا، وأنه عاقبة
الإعراض عن الله، وعصيانه، والبغي عليه، فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (يونس: 93) {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: 17) .
ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام والحياة الإسلامية في
الجماعة، وعدَّ الخروج عنها من الجاهلية، والحياة الجاهلية، فقال: (مَن فارقَ
الجماعةَ فمات فمِيتَتُهُ جاهليَّةٌ) (كما ستراه مفصلاً إن شاء الله) ، وأمر المسلمين
أمرًا مؤكدًا بالتزام الجماعة في كل حال، وبطاعة الأمير سواءً كان برًّا أو فاجرًا،
أهلاً للإمارة أو غير أهل، عادلاً في حكمه أو ظالمًا، كيفما كانت سيرته، ومهما
فسدت طريقته يجب عليهم طاعته، ولا يجوز لهم الخروج عليه، إلا أن يَمرُقَ مِنَ
الدين جهارًا، أو يترك الصلاة؛ فحينئذٍ لا طاعة له عليهم [8] ، وأخبر أن كلَّ من
تَنَكَّبَ عن الجماعة شبرًا فقد كُبَّ على وجهه في النار، وجعل زمامه بيد الشيطان،
وقضى على نفسه بالخسران والهلاك؛ وذلك لأن الجماعة كالسلسلة الفولاذية التي
يعيي الأشداءَ كسرُها، وآحاد الأمة كالحلقات التي سلامة كل واحدةٍ منها في سلسلتها؛
فإنها إن انفصلت عنها صارت حلقةً واحدةً تُكسرُ أو تُلقى في الزُّبالةِ.
ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرًا ما يروي
في خُطبهِ: (عليكم بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الفَذِّ، وهو من الاثنين أبعد) ،
وفي رواية: (
…
فإن الشيطان مع الواحد) ، وقد ذكره في خطبته الشهيرة
بالجابية، التي رواها عبد العزيز بن دينار وعامر بن سعد وسليمان بن يسار
وغيرهم ونقل البيهقي أن الشافعي رضي الله عنه كان يستدل بهذا على صحة
الإجماع، وورد في الحديث المتواتر بالمعنى -:(عليكم بالسواد الأعظم) ،
وحديث: فإنه مَن شذَّ شذَّ في النار) وحديث: (يد الله على الجماعة) وحديث:
(لا يجمع الله أمتي على الضلالة) ، وكما قال عليٌّ عليه السلام في خطبة
له: (إياكم والفُرقة؛ فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب،
ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه) [9] ، وغير هذا
كثيرٌ من الأحاديث والآثار في هذا الباب.
فجملة القول أن المسلمين أُمِروا أمرًا مؤكدًا بأن يكونوا مع الجماعة أبدًا؛ لأن
مَنِ انقطع عنها انقطع في النار؛ ولأن الأفراد والآحاد المتفرقة لا حياة لهم، بل
إنما هم للموت، والفناء، والهلاك، وأما الأمة الصالحة فحياتها باقيةٌ على وجه
الدهر، ولن تهلك أبدًا؛ ولأن يد الله مع الجماعة، وهو لا يرضى أن تجتمع الأمة
بأسرها على الضلالة.
ولتعويد المسلمين على الحياة الاجتماعية [10] أمرتهم الشريعة بالتزام صلاة
الجماعة في كل حالٍ، حتى إنها لا تُترك لفقدان الإمام الأهل للجماعة، بل يداوم
عليها مع السعي في نصبِ الأهلِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا خلف كل
بَرٍّ وفاجِرٍ) [11] .
ولذلك نرى سورة الفاتحة التي هي دعاءٌ اجتماعيٌّ للمؤمنين عامَّةً يدعو بها
كلُّ واحدٍ منهم على حدته - استعملت فيها صيغ الجمع لا الواحد، فقال: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6)، ولم يقل:(اهدني) ؛ وذلك لأن القرآن -
كما قلنا من قبل - لا يَرَى للفرد حياة قائمة بالذات، بل الحياة عنده للجماعة فقط،
وما الأفراد وأعمالهم - في نظره - إلا لأن تتكون منهم، ومنها الهيئة الاجتماعية؛
فلهذا عبر بصيغ الجمع في هذا الدعاء الذي هو حاصل الإيمان، وزبدة القرآن،
ومخ الإسلام - وكذلك جعل الدعاء الذي يدعو به كل مسلم لأخيه لما يلقاه: (السلام
عليكم) بالجمع، لا (السلام عليك) ، وكذلك السلام حين الخروج من الصلاة،
والعلة فيه أيضًا ما ذكرناه، لا ما فهمه كثيرٌ من الناس.
وإنك إذا أمعنت النظر ترى جميع أحكام الشريعة وأعمالها - مبنيةً على هذا
الأساس، أساس الاجتماع، والائتلاف، وقد علمت ما في صلاة الجماعة،
والجمعة والعيدين، ومثلها الحج، فليس هو إلا عبارةٌ عن اجتماع المسلمين (على
أحاديث شعائر الله) ، وكذلك الزكاة التي ما جُعلت إلا لقيام الهيئة الاجتماعية،
فيؤخذ مِن رءوس أموال الأفراد شيءٌ مُعَيَّنٌ؛ ليُصرَفَ على الجماعة، وطريقة
أدائها أيضًا اجتماعية، فليس لكل أحدٍ أن يصرف زكاته بمشيئتِه وإرادته، بل عليه
أن يؤديها إلى الإمام الذي له وحدَه أن ينفقها في الأمور العامة، ويعين لها مصرفًا
مِن المصارف المنصوصة في الكتاب، لا كما يفعله الناس في الهند فينفق كلُّ واحدٍ
زكاته بنفسه، نعم ليس في هذه البلاد التعسة إمامٌ، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نعمل
لها نظامًا مخصوصًا كما عملنا للجمعة والعيدين.
ولعمر الله إن هذه الحقيقةَ واضحةٌ لا غُبار عليها، تنجلي كالشمس لمَن دقق
النظر في الأحاديث النبوية التي تنص على أن المسلمين يجب أن يعيشوا عيشةً
واحدةً، ويحسبوا أنفسهم أبناء أمةٍ واحدةٍ؛ فانظر مثلاً حديث مُسلمٍ: (مَثَلُ
المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى
منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وحديث الصحيحين:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشُد بعضه بعضًا، ثم شبّك بين أصابعه) ، فأوضح
صلى الله عليه وسلم أن المسلمين ليسوا آجُرًّا أو حجارةً متفرِّقةً، بل هم جِدارٌ، بل
حِصنٌ مُشيَّدٌ يشد بعضه بعضًا، ولا يذهبنَّ عن بالك أن الأمر بتسوية الصفوف في
الصلاة إنما هو لنفس هذه الحكمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو
ليخالفنَّ الله بين وجوهكم) (البخاري) وفي رواية السنن: (سوُّوا صفوفكم؛ فإن
تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) (البخاري) ، ومثلُهُ كثيرٌ من الآيات،
والأحاديث في هذا الباب، يحتاج في شرحها وبيان حقائقها إلى مجلدٍ ضخمٍ، وقد
وفينا البحث حقه في تفسيرنا (البيان في مقاصد القرآن) ، فليراجعْهُ مَن يشاءُ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الشارع في دين الإسلام هو الله تعالى ويطلق اللقب على النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار التبليغ وقال بعض العلماء. إن الله تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أن كل ما ثبت في السنة من الأحكام فهو إما استنباط من القرآن، وإما وحي غيره، فإن الوحي لا ينحصر فيه، والتحقيق أن هذا التفصيل خاص بالأحكام الدينية كالعبادات، وأما الأمور المدنية والسياسية والحربية فقد كان صلى الله عليه وسلم يحكم فيها ويسن برأيه واجتهاده، ومشاروة أولي الأمر من عقلاء المسلمين وزعمائهم بالمكانة، والرأي وجمهور الأمة، وقد أذن له تعالى بهذا، ولأولي الأمر بعده بالتبع له كما حققناه بالتفصيل في تفسير:[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ](النساء: 59) وهذا يسمى تشريعًا في عرف علماء الحقوق وواضعي القوانين، وبه يبطل قول الجاهلين بشرعنا إنه شرعٌ جامدٌ لا ينطبق على كل زمانٍ.
(2)
الكاثوليك من النصارى يقولون بأن من حق البابا أن يكون حاكمًا سياسيًّا مدنيًّا أيضًا.
(3)
رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن حبان بسند صحيح، وفي رواية:(ثم تكون ملكًا عَضُوضًا) .
(4)
رواه البخاري في تاريخه والحاكم بسند صحيح.
(5)
إشارة إلى حديث: (أمتي أمة مباركة لا يُدرَى أولها خير أو آخرها) رواه ابن عساكر عن عمر بن عثمان مرسلاً، وسنده حسن.
(6)
كان شيخنا الأستاذ الإمام يقول: (إن هذا الوعد لما يتم ولا بد من تمامه بظهور الإسلام على سائر الأديان في أوروبا وأمريكة والشرق الأقصى) .
(7)
ليس المراد أنه لا ينبغي لزعماء الشعوب والأقوام المتفرقة أن يسعوا إلى تكوينها وجعْلها أمةً عزيزةً لعجز البشر عن ذلك، بل المراد أن هذا التكوين للأمم قد جُعل بسنة الله تعالى في الاجتماع أثرًا وغاية لأعمال أطوار كثيرة، بعضها من كسب الأفراد، وبعضها ليس من كسبهم، فلا تقع بتدبيرهم، ولكن عليهم أن يعملوا ما في طاقتهم مِن وسائلها، ويَكِلوا إلى عناية الله تعالى - إنجاح سعيهم وإتمام عملهم.
(8)
(إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق) ، كما صح في الحديث، وأجمع عليه المسلمون وصرح الخلفاء الراشدون على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم بمطالبة المسلمين بتقويم زيغهم وعوجهم، وإنما يمتنع عند علماء أهل السنة الخروج على الإمام الجائر إذا كان يُخشَى مِن الخروج عليه فتنةٌ تفرق الأمة، وشق عصاها لضعف القائمين بذلك من الأمة وإذا كان المؤلف قد وعد بتفصيل القول في المسألة فإننا منتظرون ما يجيء به، فإما أن نقره، وإما أن نذيّله بحاشيةٍ، نبين فيها ما نرى أنه الحق، كما بيناه في المنار مرارًا.
(9)
رُوي هذا في الروايات الأخرى مرفوعًا اهـ من حواشي الأصل.
(10)
تقديم التعليل يفيد الحصر، ولا حصر، ففي صلاة الجماعة فوائد أخرى.
(11)
رواه البيهقي في سننه بسند ضعيف، وله تتمة.
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة
(2)
الضربة الأولى التي ضُرب الإسلام بها
كان الواجب أن نبدأ بالفصل الأول والثاني حسب ترتيب الكتاب الذي هو
مأخذنا، ولكن بعض الأسباب دعتنا إلى تأخير ذَيْنِكَ الفصلين، وتقديم هذا الفصل:
إن الضربة الأولى التي ضُرِبَ الإسلام بها كانت بيد رجلٍ اسمه (عبد الله بن
سبأ) ، كان هذا الرجل يهوديًّا، ثم أسلم ظاهرًا، وأعماله تدل على أنه كان يحمل
حقدًا شديدًا للمسلمين، وكان يرمي إلى غرضٍ واحدٍ هو تمزيق شمل (الوَحدةِ)
الإسلامية، وسلاحه القاطع نشر الخرافات الملائمة لطبائع المسلمين من غير
العرب.
ذهب هذا الرجل إلى البصرة؛ إذ كان عبد الله بن عامر عاملاً (واليًا) عليها،
وسمى نفسه باسم مستعار (ابن السوداء) ، وأخذ ينشر هناك آراءَ تلائم أهواء
الذين دخلوا في الإسلام حديثًا. وعند ما بلغ خبره العامل (الوالي) استقدمه إليه،
وسأله عن شخصه، وسبب مجيئه إلى البصرة فقال: (أنا رجل من أهل الكتاب
أحببت السكنى في دار الإسلام تحت رعايتك) ! ، وإذ لم يقنع الوالي هذا الجوابُ
طرده من البصرة. فتزيَّا بزي مسلمٍ مهتدٍ، وطَفِقَ يزرع بذور الفساد بين المسلمين
الذين دخلوا في الإسلام حديثا، ولم ينسلخوا من تقاليدهم القديمة، ذهب أولاً إلى
الكوفة ثم إلى مصر، وألف جمعيات سرية لأجل القيام على الخليفة بقصد إيقاع
الشقاق، والتفريق بين المسلمين.
لقيت البذور التي زرعها هذا اليهودي المُتزيِّي بزيِّ المسلمين تربةً خصبةً،
وكانت إدارة عثمان بن عفان كمساعد لنموها؛ فتمكن الرجل من تفريق المسلمين
في أمر الخليفة، وشق عصاهم، فإذا هم فريقان يختصمون.
ولم يكتفِ بذلك، بل تمسك بحبل الاستفادة من شعور الحب والاحترام في
القلوب لأهل البيت النبوي الشريف، واستفاد من استخدام هذا الشعور العالي
لمقاصده، واتخذ الفجيعة بعلي المرتضى، وولديه سبطي الرسول عليهم السلام
ذريعةً لدسِّ الدسائس، وتقسيم المسلمين إلى شِيَعٍ؛ لأنه كان يعلم أن العقائد
الراسخة، والتقاليد الموروثة، والعادات لا تتبدل في الناس بسرعةٍ بمجرد دخولهم
في دينٍ جديدٍ، مهما يكن واضحًا جليًّا ومنطقيًّا معقولاً، كما كان يعلم أن الدين إذا
دخل محيطًا غير محيطه الأصلي لا بد أن يضم إليه أشياءَ كثيرةً، ويكتسب لونًا
يوافق نظر أهل تلك البلاد؛ لذلك عزم على أن يستفيد من هذا الحال؛ ليضرب
الدين ضربةً قاضيةً، فأخذ ينشر قواعد الدين الحنيف صابغًا إياها بصباغ عادات
البلاد الموروثة، والناس كانت تستقبل ذلك بشوق وسرور.
انتشر الإسلام في فارس، ومصر، وسورية، واستولى عليها، وكان
لأهالي هذه البلاد عقائد وعادات قديمة راسخة في القلوب. ومع قبول هؤلاء الناس
للدين الإسلامي كانت عاداتهم لا تزال ذات السلطان الغالب عليهم، فسذاجة الدين
الإسلامي وبساطته لم تكن كافية لتسكين نيران شوق السكان الأصليين لحب الفخفخة
والعنجهية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؛ ولذلك كانوا يتلقَّوْن أقاويل عبد الله بن
سبأ كماءٍ زُلالٍ تسرَّب إلى قلوبهم المملوءة حرارةً وشوقًا إلى المظاهر الفارغة.
وكانوا يحرصون على إلباس الدين الحنيف كساءً جديدًا منسوجًا من خيوط عاداتهم
وأساطيرهم، وهذا الشوق من جملة أسباب دخول خرافات إيران، ومصر القديمة
والهند في الدين الحنيف.
أول مَن تصدى لهدم دين مجوس الفرس، وملكهم الكسروي أبو بكر الصديق
الأعظم، وتلاه الفاروق الأعظم، فقضى على ذلك الاستقلال، وجعل تلك الأمة
تابعة للعرب الذين كانت تحتقرهم، وتبع ذلك انتشار الإسلام فيهم، فساء هذا وذاك
الذين ظلوا مستمسكين بدينهم، ولا سيما أصحاب السلطتين الدينية والدنيوية منهم،
فكان منهم بالطبع مَن يندب استقلالهم، ويتربص الفرص لرفع السلطة العربية عنهم،
وكانون يمقتون الفاروق مقتًا شديدًا؛ لأنه هو الذي فتح بلادهم، وذهب بعِزِّهم
ومجدِهم. في ذلك الوقت استفاد عبد الله بن سبأ من مجرى الأحوال، كما استفاد
في زمان ذي النورين، وظهر بمظهر المدافع عن حقوق آل البيت، فخدع بعض
العرب، ومهَّد الطريق أمام سياسيي المجوس لأخذ الثأر، والانتقام من العرب،
وإعادة الاستقلال السياسي لبلادهم؛ بحجة الانتصار لآل البيت.
وأما مقصد عبد الله بن سبأ فلم يكن إلا تفريق المسلمين بجعْلهم شيعتين
متعاديتين، تقاتل كل منهما الأخرى، مستفيدًا من شعور المسلمين معتمدًا على
أهواء الفرس، فاستفاد من إحساس العرب ومن دهاء العجم.
بث أولاً دعوة حصر الخلافة والإمامة في عليٍّ وأولاده - رضوان الله
عليهم - ثم ادعى ألوهية عليٍّ، حتى قال له:(أنت الله) ! ، عندئذٍ نفاه - كرم
الله وجهه - إلى المدائن ولكنه ظل مثابرًا على نشر دعوته.
قلنا إن الذي بدأ بالمسألة الإيرانية أبو بكر الصديق، والذي ضرب الضربة
القاضية عمر الفاروق، وفي زمان ذي النورين عام 31 هجرية قُتل آخر ملوك
إيران (يزدجرد) ؛ فكان هذا من دواعي تشيع عبد الله بن سبأ لعلي - رضي الله
عنه - لأجل أن يشق عصا المسلمين، ويفرق شمل العرب؛ فيجعلهم فريقين
مُختصِمَين، ويوقع الشبهات في العقيدة الإسلامية الجامعة للكلمة، ويُجرِّئ المجوس
من الفرس على أخذ ثأرهم، ومحاولة استعادة ملكهم.
وبعد أن توفَّى الله أبا الحسنين طَفِقَ يقول: (لم يمُت عليٌّ وإن الذي قتله ابن
ملجم شيطانٌ، تمثل بصورة عليٍّ؛ لأن صهر النبي صعد إلى السماء، والرعد
صوته، والبرق لمعان سيفه، وسينزل يومًا إلى الأرض، ويَمْلَؤُها عدلاً) !
وقد صدَّقَ كثيرٌ من العوام الجاهلين أقوال هذا اليهوديِّ الماكر؛ لأن دأبهم
تصديق كل قائلٍ، واتباع كل ناعقٍ، ولا سيما إذا كانت هذه الأقوال قريبةً من
تقاليدهم، كما هو شأن أولئك الذين دخلوا الإسلام حديثًا من النصارى، واليهود،
والمجوس، فالقول بألوهية عليٍّ، وربوبيته كالقول بربوبية عيسى وألوهيته،
والقول بنزول عليٍّ إلى الأرض لأجل إصلاحها - يوافق اعتقاد النصارى (الذين
ينتظرون نزول عيسى من الملكوت إلى الأرض) ، ولا يبعد عن اعتقاد اليهود
ظهور مسيح آخر، وقد تلقاه الإيرانيون بأحسن قبولٍ؛ لأنه يشابه اعتقادهم أن
(هرموز) بموجب دين (زرادشت) - صعد إلى السماء، وسينزل يومًا ما إلى
الأرض؛ وبهذا الشكل جعل اليهود، والنصارى، والمجوس راضين مطمئنين؛
لأنه أتاهم بشيءٍ أَنِستْ به أرواحهم، ولَطَمَ الحنيفية لطمةً، لطَّخَ بها جسمها الناصع
البياض لطخةً مُبايِنَةً للونه الجميل، فكانت هذه أوَّل خرافةٍ سرت إلى أهل هذا
الدين الحنيف.
العوام غريبو الطبع، يتَّبِعون كل ناعقٍ، ويركضون خلف كل صوتٍ بسهولةٍ؛
لذلك تمكن هذا اليهوديُّ (عبد الله بن سبأ) من تكوين حزبٍ دينيٍّ، وشِيعةٍ
سُمِّيتْ (السبائية) . وإذ كان أفراد هذه الفرقة التي زالت، ولم تزل خرافاتها -
يعتقدون أن الرعد صوت علي عليه السلام صار من شعائرها أن يقولوا كلما
تألق البرق بالتقاء الكهربائية الإيجابية بالسلبية: (السلام عليك يا أمير المؤمنين) !
***
الأسباب التي مهدت لظهور هذه الفرقة ثلاثة:
السبب الأول: سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه:
في إرخاء العِنَان لمروان، وكثرة استعماله لأقاربه، ومحاباته لهم، خلافًا لما
جرى عليه الخليفتان قبله؛ فبذلك كثر الناقمون الطالبون لتغيير الحال، وقد قال الله
تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ، فلو اتُّبِعَتْ هذه الآية
الكريمة لما وجد عبد الله بن سبأ محلاًّ خصبًّا لبذر بذوره.
السبب الثاني: افتتح المسلمون بسيف الحق ومكارم الأخلاق بلاد الفرس
والروم (مستعمرات الرومان) .
وكانت هاتان الدولتان في ذلك الوقت على غايةٍ من الانحطاط، وفساد
الأخلاق، وكان أبو بكر الصديق، والفاروق رضي الله عنهما يبذلان الجهد
لحفظ كرامة الإسلام، ورفعته ونقائه، ويحذران عليه من سريان أمراض تَيْنك
الأمتين الروحية والاجتماعية إلى العرب، وناهيك بعناية الفاروق، وحرصه
على معالي الأخلاق والفضيلة والشرف، فمتانته في الدين، وصلابته في الحق،
وعدالته التامة بين الخلق كانت تجذب إلى الإسلام فضلاءَ الأمتين (الفرس
والروم) ، كما يجذب المغناطيس الحديد، ومن سوء حظ الأمم المنحطة أن
يكون أبناؤها المتحلون بالفضائل خصومًا لها، كما وقع في هاتين الأمتين،
وغيرهما من الأمم [1] .
وأول ما كان الفاروق يعتني به هو منع الامتزاج بين العنصرين الغالب
والمغلوب كما يفعل الإنكليز اليوم [2] .
ولكن عندما صار الأمر إلى عثمان ذي النورين، وحصل الشقاق بين بني
هاشم، وبين الأمويين - تمكنت عادات الفرس والروم (إيران وبيزانس) من
التسرب إلى المسلمين؛ وهذا مما جعل بذور عبد الله بن سبأ تنبت، ثم تثبت
في هذه القلوب، فبرجوع مروان إلى المدينة - وهو المطرود منها بأمرٍ نبويٍّ -
وجعْله على رأس رجال الحلِّ والعقد، وتعيين أكثر الأمويين ولاةً واشتداد
الخصام بين الأمويين وبني هاشم - أُهملت أحكام الشرع الأنور. وكانت
شكايات الناس، وتظلُّماتهم تصل إلى عثمان رضي الله عنه بصورةٍ
مقلوبةٍ، لا يعرف بها حقيقتها، إلى أن اشتد البأس، ونفد الصبر؛ فَسُفِكَ
الدَّمُ، أفكان صيِّبًا نافعًا يسقي بذور أعداء الإسلام؟ !
السبب الثالث: توسيد الأمور السياسية التامة إلى غير العرب من
المسلمين:
فلو حصرت الحقوق السياسية - أي حق التدخل بأمر الإدارة وتنفيذها -
بالعرب لما حصل ما حصل؛ فإن بعض الذين أسلموا لم يكن إسلامهم حقيقيًّا، بل
اتخذوا الإسلام سلاحًا لجرح الإسلام، ثم كانوا أمهر من العرب بالدسائس
السياسية، فاستفادوا من صفاء قلوب العرب، وكَدَّروها كما شاؤوا بكل
سهولةٍ.
ألم تر إلى الدول التي تغلب الشعوب على أمرها في هذا العصر، لا تعطي
مثل هذا الحق للمغلوبين ألبتة؟ ! أيتصور اليوم أن يدخل مجلس النواب
الإنكليزي أعضاءٌ من فلسطين أو الهند، ويكون لهم رأيٌ في أمور الإدارة
والسياسة؟ ! إن رجال دول الاستعمار في هذا العصر يبعدون المغلوبين عن
الوظائف العالية، إداريةً كانت أو سياسيَّةً أو عسكريَّةً؛ لأنهم درسوا
التاريخ، وعرفوا علَّة انحطاط مَن سبقهم مِن الأمم؛ فاعتبروا بخطيئات
المتقدمين [3] .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: هذه الكلمة منبعثة عن التعصب الجنسي من المؤلف، وهي ليست حقًّا باطراد؛ فما جرى عليه أهل الفضائل من تفضيل الصلاح، والإصلاح الإسلامي، وإن جاءهم من غير أبناء جنسهم على فساد أقوامهم - كان من حسن حظ أقوامهم؛ لأنهم استفادوا من العرب هدى وصلاحًا، ولم يخسروا شيئًا؛ لأن الإسلام لم يفضل العرب عليهم بشيء إلا بحصر الخلافة في قريش وقد تمنى بعض كُتاب فرنسة الأحرار لو بقي العرب في بلادهم عند ما فتحوا بعضها، وقال: إن إخراجهم منها قد كان لسوء حظهم، فلولاه لسبقوا سائر أوربة إلى المدنية ببضعة قرون وإنما تصح هذه الكلمة في حالة استيلاء شعبٍ على شعبٍ آخر؛ ليسخره في منافعه، ويستغل بلاده بأيدي أهلها، كما فعل الرومان بالأمس، ويفعل أخلافهم من الإفرنج اليوم، ولكن أهل الفضائل في هذه الحالة لا يفضلون الأجنبي على قومهم، وإن كان يفوقهم في كثير من المزايا، وإنما يفضله طلاب المنافع بخدمته، وهم من أهل الرذائل، وإن رفعتهم المناصب التي يخونون أمتهم بقبولها من الأجنبي ثمنًا لأوطانهم.
(2)
من أصح الشواهد على هذا ما رواه مسلم في صحيحه مختصرًا: (كتب عمر رضي الله عنه إلى قائد جيشه في بلاد العجم عتبة بن فرقد: يا عتبة إنه ليس من كدّك، ولا من كدِّ أبيك ولا من كد أمِّك، فأشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعمَ، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير) إلخ، وفي مسند أبي عوانة بسند صحيح أنه كتب إليه:(أما بعد: فاعتزوا، وارتَدُوا، وألفوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم بالشمس؛ فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشِنُوا واقطعوا الرَّكب، وابرزوا وارموا الأغراض)، قال النووي - في شرح صحيح مسلم -:(ومقصود عمر - رضي الله تعالى عنه - حثّهم على خشونة العيش، وصلابتهم في ذلك، ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك) اهـ، التمَعْدُدُ التشبه بمعد بن عدنان في ذلك.
(3)
المنار: يظهر أن مؤلف الكتاب - وهو من إخواننا الترك الذين ينظرون في تاريخ الإسلام بالعين التي ينظرون بها إلى دول أوربة وشعوبها، ولا يقدرون ما بينهما من الفارق حق قدره - أن أهل أوربة يقصدون من التغلب على الشعوب استخدامها؛ لتوفير لذَّاتهم، والاستعلاء عليها لمجرد التمتع بالعظمة، والسلطان، والكبرياء، والعلو في الأرض وأما الإسلام فإنه يحرم هذا كله، ولم يقصد أهله العارفون به من فتح البلاد إلا هداية أهلها إلى الحق، والعدل والفضيلة، وإنقاذهم من الشرك، والخرافات، والرذائل، لا لجعلهم عبيدًا للمسلمين، بل ليكونوا مثلهم، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ولو جرى العرب على الخطة التي يجري عليها الأوربيون اليوم - خلافًا لتعاليم الإسلام - لما أمكن أن يستولوا في قرنٍ واحدٍ على سلطنة أعظم من السلطنة الرومانية التي أسسوها في بضعة قرون، ولَمَا غلبوا أعظم دول الأرض - الفرس والروم - في بضع سنين، وقد كانت الدولة الأموية ذات عصبيةٍ عربيةٍ، فلم تقدر أن تثبت قرنًا واحدًا نعم، إن سياسة الفاروق كانت هي السياسة المثلى في محافظة العرب الفاتحين على آدابهم، وعاداتهم التي كانت على وفق هداية الإسلام؛ لئلا تفسدها التقاليد الأعجمية الفاسدة، وكان ينبغي أن تكون بيدهم مقاليد الأمور، وألا يشركوا فيها إلا مَن يوثق بصلاح حاله، وعدم الخوف من سوء مآله، ولم يعمل الأمويون، ولا العباسيون بهذه القاعدة الراشدة؛ فضاع الأمر بين التفريط والإفراط.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العبر التاريخية
في أطوار المسألة المصرية
ذهب وفد وزارة عدلي باشا الرسمي إلى لندره؛ لأجل الاتفاق مع حكومتها
على رفع الحماية البريطانية عن مصر واستبدال علاقةٍ أخرى بين البلدين بعد أن
صَدَّعَ هذا الوفد بناءَ الوَحدةِ المصرية، وفرَّق كلمتها، فمن جرَّاءِ هذا كان نصيبه
الفشل، واغتر الإنكليز بتفريق الكلمة بقوة الوزارة المصرية، فوضع اللورد
كيرزون لمصر نظامًا جديدًا، حذف به كلمة (الحماية) ، وأبقى معناها، بل ما هو
أشد منه في استعباد البلاد، واستذلالها الأبديِّ، فلم يَسَعْ عدلي باشا، ووفده قبول
هذا النظام باسم مصر، بل عاد إليها، وبعد عودته بأيامٍ نشرت الحكومة الوثائق
الثلاث الآتية في المسألة المصرية، وها هي ذي بنصها:
بلاغٌ رسميٌّ
رفع حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا رئيس مجلس الوزراء، ورئيس
الوفد الرسمي المصري إلى حضرة صاحب العظمة السلطانية بطريق البريد -
مشروع المعاهدة الذي وضعته الحكومة البريطانية وجواب الوفد الرسمي المصري
عليه، وهذه ترجمة هاتين الوثيقتين:
ترجمة مذكرة
بخصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر
أولاً - انتهاء الحماية:
(1)
في مقابل المعاهدة الحالية، والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في 18 ديسمبر سنة
1914، والاعتراف بمصر من ذلك الحين دولةً متمتعةً بحقوق السيادة
STATE SOVEREING تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ، فبمقتضَى هذا قد
أُبرمَت، وتستمر باقيةً بين حكومةِ جلالة ملك بريطانيا من جهةٍ، وبين حكومة
مصر، والشعب المصري من الجهة الأخرى معاهدةٌ دائمةٌ ورابطة سلامٍ، وودادٍ
وتحالُفٍ.
ثانيًا- العلاقات الأجنبية:
(2)
تتولى الشؤون الخارجية لمصر وزارةُ الخارجية المصرية تحت إدارة
وزيرٍ معيَّنٍ لذلك.
(3)
يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عالٍ،
يكون له في جميع الأوقات - وبسبب مسؤولياته الخاصة - مركز استثنائي، ويكون
له حق التقدم على ممثلي الدول الأخرى.
(4)
يمثل الحكومة المصرية في لوندره، وفي أية عاصمةٍ أخرى ترى
الحكومة المصرية أن المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها
فيها معتمدون سياسيون، يكون لهم لقب ومرتبة وزيرٍ.
(5)
بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر،
وعلى الخصوص فيما يتعلق بالدول الأجنبية - يجب أن توجد أوثق الصلات بين
وزارة الخارجية المصرية، والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة
الممكنة للحكومة المصرية فيما يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية.
(6)
لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاقٍ سياسيٍّ مع دولةٍ أجنبيَّةٍ
بدون أن تستطلع رأي حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير
العالي البريطاني.
(7)
تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج
حسب مقتضياتها.
(8)
لأجل تولي الشؤون السياسية بوجهٍ عامٍ والقيام بالحماية القنصلية
للمصالح المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون، أو قناصل
مصريون - يضع ممثلو جلالة ملك بريطانيا العظمى تحت تصرف الحكومة
الحكومة المصرية لمصرية ويقدمون لهم كل مساعدة في قدرتهم.
(9)
تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة
لإلغاء الامتيازات الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسؤولية حماية
المصالح المشروعة للأجانب في مصر، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة
المصرية قبل البت في هذه المفاوضات رسميًّا.
ثالثًا - النصوص العسكرية
(10)
تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها
الحيوية، وعن سلامة أراضيها.
لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية
الحماية اللازمة - تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر
في أي مكانٍ في مصر، ولأية مدةٍ يحددان من وقتٍ لآخر. ويكون لها أيضًا في كل
وقتٍ ما لها الآن من التسهيلات لإجرائه، واستعمال الثكنات، وميادين التمرين،
والمطارات والترسانات الحربية والمين الحربية.
رابعًا - استخدام الموظفين الأجانب
(11)
بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها بريطانيا العظمى، وبالنظر
للحالة القائمة في الجيش المصري، والمصالح العمومية - تتعهد الحكومة المصرية
بأن لا تعين ضبّاطًا أو موظفين أجانب في أية مصلحةٍ منها قبل موافقة القوميسير.
خامسًا - الإدارة المالية
(12)
تعين الحكومة المصرية - بعد استشارة حكومة جلالة ملك بريطانيا
العظمى - قوميسيرًا ماليًّا توكل إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن
أعضاء صندوق الدَّيْن، ويكون هذا القوميسير المالي مسؤولاً بوجهٍ أخص عن دفع
المطلوبات الآتية في مواعيدها وهي:
(1)
المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة.
(2)
جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين
على المعاش وورثتهم.
(3)
ميزانيتا القوميسيريين المالي، والقضائي، والموظفين التابعين لهما.
(13)
لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي - يجب أن
يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له - في
كل وقتٍ - التمتع بحق الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية.
(14)
ليس للحكومة المصرية عقد قرضٍ خارجيٍّ، أو تخصيص
إيرادات مصلحةٍ عموميةٍ بدون موافقة القوميسير المالي.
سادسًا - الإدارة القضائية
(15)
تُعيِّن الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا
العظمى - قوميسيرًا قضائيًّا، يكلَّف بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا
العظمى للقيام بمراقبة تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب.
(16)
لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي - يجب أن
يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص
وزارة الحقانية والداخلية، ويكون له في كل وقتٍ التمتع بحق الدخول على
وزيري الحقانية والداخلية.
سابعًا - السودان
(17)
حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر
ولدوام مورد المياه لها - تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس
المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلاً من ذلك
لحكومة السودان إعانةً ماليةً تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين، تكون كل القوات
المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام.
وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه
النيل؛ ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تُقام أعمال ريٍّ جديدةٍ على النيل أو روافده
جنوبيّ وادي حلفا بدون موافقة لجنةٍ مؤلَّفةٍ من ثلاثة أعضاءٍ، يمثل أحدهم مصر،
والثاني السودان، والثالث أوغندا.
ثامنًا - قروض الجزية
(18)
المبالغ التي تعهد خديوي مصر في أوقاتٍ مختلفةٍ بدفعها للبيوت
المالية التي أصدرت القروض التركية المضمونة بالجزية المصرية - تستمر
الحكومة المصرية على تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد، والاستهلاك
لقرضي سنة 1894، وسنة 1891، إلى أن يتم استهلاك هذين القرضين.
تستمر الحكومة المصرية أيضًا في دفع المبالغ التي كان جاريًا دفعها لسداد
فوائد قرض سنة 1855 المضمون.
عندما يتم استهلاك قروض سنة 1894، وسنة 1891، وسنة 1855 تنتهي
مسؤولية الحكومة المصرية فيما يتعلق بأي تعهدٍ ناشئٍ عن الجزية التي كانت تدفعها
مصر لتركيا سابقًا.
تاسعًا - اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم
(19)
للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين
البريطانيين في أي وقتٍ كان بعد نفاذ هذه المعاهدة، بشرط أن يُمنح هؤلاء
الموظفون تعويضًا ماليًّا كما سيأتي بيانه، وذلك زيادة على المعاش، أو المكافأة
التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم.
ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذا الشرط في الاستعفاء من الخدمة
في أي وقتٍ بعد نفاذ هذه المعاهدة.
تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين
ليس لهم الحق في المعاش، وأيضًا على موظفي البلديات، ومجالس المديريات،
والهيئات المحلية الأخرى.
(20)
الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش - طبقًا لنص المادة
السابقة - تُعطى لهم زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم، تكون كافية لسد
نفقات ترحيل الموظف نفسه، وعائلته، ومتاعه المنزلي إلى لوندره.
(21)
تُدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعرٍ ثابتٍ
قدره 97،5 قرشًا للجنيه الإنجليزي.
(22)
يوضع جدول عن التعويضات:
(1)
للموظفين الدائمين.
(2)
للموظفين المؤقتين.
بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات التأمين arles Societiofuact.
عاشرًا - حماية الأقليات
(23)
تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين
أساسية، وألا يتضارب معها، أو يؤثر عليها أي قانون، أو لائحة، أو عمل
رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون، أو لائحة، أو عمل رسمي.
(24)
تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة
لأرواحهم، وحريتهم، مِن غير تمييزٍ، بسبب مولدهم أو تبعيتهم الدولية، أو لغتهم،
أو جنسهم، أو دينهم.
يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحريةٍ تامةٍ علانيةً أو غير
علانيةٍ بشعائر أية ملةٍ، أو دينٍ، أو عقيدةٍ ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام
العام أو الآداب العمومية.
(25)
جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون،
ويكون لكل منهم التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية، مِن
غيرِ تمييزٍ بسببِ الجنسِ أو اللُّغةِ أو الدينِ.
اختلاف الأديان، والعقائد، والمذاهب لا يؤثر على أي شخصٍ حائزٍ للرعوية
المصرية في المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية مثل: الدخول في
الخدمات العمومية، والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف، أو مزاولة المهن،
أو الصناعات.
لا يسوغ فرض أي قيدٍ على أي شخصٍ متمتعٍ بالرعوية المصرية في حرية
استعماله لأية لغةٍ في معاملاته الخصوصية، أو التجارية، أو في الدين، أو في
الصحف، أو في المطبوعات مِن أي نوعٍ كانت، أو الاجتماعات العمومية.
(26)
الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية،
أو الدينية، أو اللغوية يكون لهم الحق في القانون، وفي الواقع في نفس المعاملة،
والضمانات التي يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى
الخصوص يكون لهم حقٌّ مساوٍ لحق الآخرين في أن يُنشئوا أو يُدِيروا أو يراقبوا
على نفقتهم معاهد خيرية، أو دينية، أو اجتماعية ومدارس، أو غيرها من دور
التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها لغتهم الخاصة، وأن يقوموا بشعائر
دينهم بحريةٍ فيها. اهـ.
***
ترجمة رد الوفد المصري الرسمي
(على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر)
اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى
رئيس الوفد بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1921.
ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها
مناقشاتنا، والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهورٍ - نفس النصوص، والصيغ
التي عُرِضت علينا عند بدء المفاوضات، ولم نقبلها حينئذٍ.
فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهميةٍ كبرى - استبقى المشروع الحل
الذي قاومناه أشد مقاومةٍ، ولم يقتصر على ذلك، بل توسع في مرماه بما جعله أشد
وطأةً على أن حماية المواصلات الإمبراطورية (وهي التي قيل في مفاوضات العام
الماضي: إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية في القطر المصري) لا تبرر هذا
الحل.
ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطةٍ في منطقة القنال تنحصر فيها طرق
ووسائل المواصلات الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى حمايتها - نص
المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوات عسكرية في كل زمانٍ،
وفي أي مكانٍ بالأراضي المصرية، وضع أيضًا تحت تصرفها كل ما لدى القطر
من وسائل المواصلات وطرقها. وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم
كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية، على أن
الاحتلال العسكري في الماضي - ولو لم تكن له إلا صفةٌ مؤقتةٌ - قد كفى لأن
يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي
نصٍّ في معاهدةٍ أو تقويةٍ لأية سلطةٍ.
أما مسألة العلاقات الخارجية - وهي المسألة الوحيدة التي عُدلت فيها
الصيغة الأولى التي كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ
التمثيل - فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به - بقيودٍ كثيرةٍ، أصبح
معها بمثابة حقٍّ وهميٍّ؛ إذ لا يتصور أن تتوفر لدى وزير الخارجية الحرية التي
يقتضيها القيام بأعباء منصبه، وتحمل مسئوليته إذا كان ملزمًا بنصٍّ صريحٍ بأن
يَبْقَي على اتصالٍ وثيقٍ بالمندوب السامي؛ فإن ذلك معناه أن يكون خاضعًا في
الواقع لمراقبته مباشرة في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك، فإن الالتزام
بالحصول على موافقة بريطانيا العظمى على جميع الاتفاقات السياسية (حتى ما لا
يتناقض منها مع روح التحالف) - فيه إخلالٌ خطيرٌ بمبدإ السيادة الخارجية،
وأخيرًا فإن استبقاء لقب المندوب السامي (وهو لقب لم تجرِ العادة بمنحه إلى الممثلين
السياسيين لدى البلاد المستقلة) - لهو أوضح في الدلالة على طبيعة النظام
السياسي المقترح لمصر.
ومِن جهةٍ أخرى، فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم
تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة، وأن المفاوضة بشأنها في المستقبل تكون
موكولةً إلى مصر صاحبة الشأن الأول مع معاونتها في ذلك سياسيًّا من جانب
حليفتها. ولكنّ المسألة منظورٌ إليها اليوم كأنها تعني على الأخص بريطانيا العظمى
التي تتولى من الآن حماية المصالح الأجنبية. وتريد أن تباشر وحدها عند الاقتضاء
المفاوضات بشأن إلغاء الامتيازات.
أما فيما يتعلق بالمندوبين (القوميسرين) المالي، والقضائي، وبتداخلهما
في إدارة الشؤون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تداخلاً قد يصل في
بعض الأحوال فيما يختص بالمندوب (القوميسير) المالي إلى شل سلطة الحكومة،
والبرلمان - فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه مِن الاعتراضات في
مذكراتنا.
على أنه يتحتم علينا القول بأن المناقشات التي تلت تأجيل مسألة الامتيازات
بعثت في نفوسنا الشعور بأن الاتفاق فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية - سيقوم
على قواعد أكثر ملاءمةً للسيادة المصرية.
أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه
النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه
النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على هذه البلاد من حق السيادة الذي لا
نزاع فيه، وحق السيطرة على مياه النيل.
إن الملاحظات المتقدمة لا تجعل ثَمةَ حاجة إلى مناقشة المشروع تفصيلاً؛ إذ
فيها ما يكفي للدلالة على روحه، ومرماه، وغير هذا، فقد التزم تكرار ذكر
تعهدات بريطانيا العظمى، و (المسؤوليات الخصوصية) الواقعة على المندوب
السامي، وكذلك الغرض الجديد - وهو قصد صيانة المصالح الحيوية لمصر -
الذي اتُّخِذ سببًا لوجود القوة العسكرية؛ وبهذا تتم للمشروع صبغة الوصاية الفعلية.
إنا لما قبلنا المهمة التي عهد بها إلينا عظمة السلطان، كنا نؤمل الوصول إلى
إبرام معاهدة تحالف مؤيدة لاستقلال مصر تأييدًا حقيقيًّا وكفيلة في الوقت نفسه
بصيانة المصالح البريطانية، وعندئذٍ فإن مصر حليفة بريطانيا العظمى كانت تعد
من واجبات كرامتها الوفاء بإخلاص بما تقطعه على نفسها من العهود، ولكن
التحالف بين أمتين لا يمكن أن يتحقق إلا على شريطة أن لا يقضي على إحداهما
بالخضوع الدائم.
وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح
المفاوضات. ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق هذا الأمل، فهو بحالته لا يجعل
محلاًّ للأمل في الوصول إلى اتفاقٍ يحقق أماني مصر الوطنية.
…
...
…
...
…
... لوندره في 15 نوفمبر سنة 1921
***
ترجمة تبليغ
من نائب جلالة الملك إلى حضرة صاحب العظمة سلطان مصر
في 3 ديسمبر سنة 1921
يا صاحب العظمة
إنه بموجب التعليمات التي وصلتني من حكومة جلالة الملك، لي الشرف أن
أرفع إلى مقام عظمتكم البيان الآتي، المتضمن آراءَ حكومة جلالته فيما يتعلق
بالمفاوضات التي جرت حديثًا مع الوفد المرسل من قِبَل عظمتكم تحت رئاسة
صاحب الدولة عدلي باشا.
إن حكومة جلالته قدمت إلى عدلي باشا مشروع اتفاقٍ لعقد معاهدةٍ بين
الإمبراطورية البريطانية، ومصر، كانت حكومة جلالته على استعدادٍ لأن توصي
جلالة الملك، ومجلس النواب بقبوله، ولكنها علمت بمزيد الأسف أن ذلك المشروع
لم يحز قبولاً لديه، ومما زاد أسفها أنها تعتبر اقتراحاتها هذه سخيةً في جوهرها،
واسعةَ النطاق في نتائجها، وأنها لا يمكنها أن تبقى محلاًّ لأي أملٍ في إعادة النظر
في المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات.
إن هناك حقيقةً جليةً سادت العلاقات بين بريطانية العظمى، ومصر مدة
أربعين سنة، ويجب أن تبقى هذه الحقيقة سائدةً هذه العلاقات على الدوام، وهي
التوافق التام بين مصالح بريطانيا العظمى في مصر، وبين مصالح مصر نفسها.
إن استقلال الأمة المصرية، وسيادتها كليهما عظيم الأهمية للإمبراطورية
البريطانية، إن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا العظمى،
وممتلكات جلالة الملك في الشرق، وجميع الأراضي المصرية هي - في الواقع -
ضروريةٌ لهذه المواصلات؛ لأن مصير مصر لا يمكن فصله عن سلامة منطقة
قنال السويس؛ لذلك فإن حفظ مصر سالمةً مِن تسلط أية دولةٍ عظيمةٍ أخرى عليها-
هو في الدرجة الأولى من الأهمية للهند، وأستراليا، ونيوزيلاند، ولجميع
مستعمرات، وولايات جلالته في الشرق، ويؤثر في سعادة وسلامة نحو ثلاثمائة
وخمسين مليونًا من رعايا جلالته. ثم إن نجاح مصر يهم هذه البلاد ليس لأن كلاًّ
من بريطانيا العظمى ومصر هي أفضل عميلةٍ للأخرى فقط، بل لأن كل خطرٍ
جسيمٍ على مصلحة مصر التجارية أو المالية يدعو إلى مداخلة الدول الأخرى فيها،
ويهدد استقلالها. هذه كانت البواعث الرئيسية للعلاقات بين بريطانيا العظمى
ومصر، وهي لا تزال الآن على ما كانت عليه من القوة في الماضي.
قد اعترف الجميع بما أصاب هذا الائتلاف من النجاح بوجهٍ عامٍّ أثناء العهد
السابق للحرب العظمى. ولما بدأت بريطانيا العظمى تهتم بمصر اهتمامًا فعليًّا كان
المصريون فريسةً للاختلال المالي، والفوضى الإدارية، وكانوا تحت رحمة أي
قادمٍ، ولم يكن في طاقتهم مقاومة ضروب الوسائل القتَّالةِ للاستغلال الأجنبي، تلك
الوسائل التي تستأصل من نفوس الأمة كرامتها، وتمحو قواها الحيوية. فإذا كانت
الأمة المصرية الآن أمةً نشيطةً ذات كرامةٍ، فإنها مدينةٌ بهذه النهضة على
الخصوص لمعونة بريطانيا العظمى ومشورتها! إن المصريين سلِموا من المداخلة
الأجنبية، وأُعينوا على إنشاء نظام إداري وافٍ، وقد تدرب عددٌ كبيرٌ منهم على
إدارة الأمور والحكم، واطَّرد نمو مقدرتهم، ونجحت ماليتهم نجاحًا فوق المنتظر،
وقد قامت سعادة جميع الطبقات على أسسٍ ثابتةٍ. وفي هذا التقدم السريع لم يكن
هناك ظل للاستقلال، إن بريطانيا العظمى لم تطلب لنفسها ربحًا ماليًّا أو امتيازًا
تجاريًّا، والأمة المصرية قد جنَت كل ثمار مشورة بريطانيا العظمى ومساعدتها لها!
إن شبوب نار الحرب بين الدول الأوروبية سنة 1914 زاد بالضرورة عُرى
الائتلاف توثيقًا بين الإمبراطورية البريطانية ومصر. ولما انضمت الدولة العثمانية
إلى جانب ألمانيا في الحرب - لم يكن أثر ذلك قاصرًا على تهديد المواصلات
البريطانية وحدها، بل كان مهدِّدًا لها، ولاستقلال مصر على السواء تهديدًا عاجلاً،
فكان إعلان الحماية على مصر اعترافًا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا يمكن دفع
الخطر عن الإمبراطورية البريطانية ومصر معًا إلا بعملٍ مشتركٍ تحت قيادةٍ واحدةٍ.
كان اتساع نطاق الحرب بدخول تركيا فيها السبب في قتل وتشويه آلاف من
رعايا جلالة الملك من الهند وأستراليا ونيوزيلاندا ومن رجال بريطانيا العظمى
أيضًا وقبورهم في غاليبولي وفلسطين والعراق شاهدة على الجهد العظيم الذي
كابدته شعوب الإمبراطورية البريطانية بسبب دخول تركيا. قد اجتازت مصر هذه
المحنة دون أن يمسها ضررٌ بفضل جهود مَن بعثت بهم تلك الشعوب من الجنود.
فكانت خسائر مصر طفيفةً، ولم يزد دَينُها، وثروتها الآن أعظم مما كانت قبل
الحرب، في حين أن الكساد الاقتصادي قد اشتدت وطأته على أكثر البلدان الأخرى.
فليس من الحكمة أن الشعب المصري يتغاضى عن هذه الحقائق أو ينسى لمَن هو
مدين بذلك كله، ولولا القوة التي أبدتها الإمبراطورية البريطانية في الحرب
لأصبحت مصر ميدان حربٍ بين القوات المتحاربة، ولوطئت هذه القوات حقوق
مصر بأقدامها وأفنت ثروتها، ولولا نصر الحلفاء لم تكن الآن في مصر أمةٌ تطالب
بحقوق السيادة الوطنية بدلاً عن حمايةٍ أجنبيةٍ. فالحرية التي تتمتع بها مصر الآن،
وما تتطلع إليه من حريةٍ أوسع - إنما هي مَدِينةٌ بهما للسياسة البريطانية، والقوة
البريطانية!
إن حكومة جلالة الملك مقتنعةٌ بأن الاتفاق التام في المصالح بين بريطانيا
العظمى ومصر - الذي جعل ائتلافهما نافعًا لكلتيهما في الماضي - هو دعامة
العلاقة التي يجب على كلتيهما استمرار المحافظة عليها. وعلى الإمبراطورية
البريطانية الآن - كما كان في الماضي - أن تحمل على عاتقها في آخر الأمر
مسئولية الدفاع عن أراضي عظمتكم ضد أي تهديدٍ خارجيٍّ. وكذلك عليها تقديم
المعونة التي قد تطلبها في أي وقتٍ حكومة عظمتكم لحفظ سلطتكم في البلاد، ثم إن
حكومة جلالة الملك تطلب فوق ذلك أن يكون لها دون غيرها - الحق في تقديم ما
قد تحتاج إليه حكومة عظمتكم من المشورة في إدارة البلاد، وتدبير ماليتها، وترقية
نظامها القضائي، ومواصلة علاقاتها مع الحكومة الأجنبية. على أن حكومة جلالته
لا ترمي من وراء هذه المطالب إلى منع مصر من تمتعها بكامل حقوقها في حكومةٍ
ذاتيةٍ وطنيةٍ، بل هي ترمي بذلك إلى التمسك بها قبل الدول الأجنبية الأخرى،
وهذه المطالب قوامها تلك الحقيقة وهي أن استقلال مصر، واستتباب النظام فيها،
وسعادتها - ركنٌ أساسيٌّ لسلامة الإمبراطورية البريطانية، وحكومة جلالة الملك
تأسف على أن مندوبي عظمتكم لم يتقدموا أثناء المفاوضات تقدمًا يُذكر في سبيل
الاعتراف بما للإمبراطورية البريطانية دون سواها من الأسباب الصحيحة للتمسك
بهذه الحقوق والمسئوليات.
إن شروط المعاهدة التي تعتبرها حكومة جلالة الملك ضروريةً لحفظ هذه
الحقوق، وكفالة هذه المسؤوليات - قد أُدرجت في موادَّ للشروع الذي سيرفعه إلى
عظمتكم صاحب الدولة عدلي باشا. وأهم هذه الشروط هو ما يتعلق بالجنود
البريطانية؛ فإن حكومة جلالة الملك قد عنيت أتم عناية ببحث الأدلة التي قدمها
الوفد المصري في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع أن تقبلها؛ لأن حالة العالم
الحاضرة، ومجرى الأحوال في مصر منذ عقد الهدنة - لا يسمحان بأي تعديلٍ كان
في توزيع القوات البريطانية في الوقت الحاضر ومِن الواجب إعادة القول بأن
مصر هي جزءٌ من مواصلات الإمبراطورية. ولم يكد يمضي جيلٌ على مصر منذ
أُنقذت من الفوضى، وهناك علاماتٌ على أنه لا يبعد على المتطرفين في الحركة
الوطنية أن يزجُّوا بمصر ثانيةً في الهوة التي لم يطل العهد على إنقاذها منها. وقد
زاد اهتمام حكومة جلالة الملك بهذا الشأن لما رأته من وفد عظمتكم في الاعتراف
بأن الإمبراطورية البريطانية يجب أن يكون عندها ضمانٌ قويٌّ ضد أي تهديدٍ مثل
هذا لمصالحها، وإلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه سلوك مصر مدعاةً إلى الثقة
بالضمانات، وأول هذه الضمانات، ورأسها هو وجود جنود بريطانية في مصر،
وحكومة جلالة الملك لا يمكنها أن تتخلى عن هذا الضمان، ولا أن تنقص منه.
على أنها تعيد القول، وتؤكده بأن مطالبها في هذا الصدد لا يقصد بها
استمرار الحماية، لا فعلاً، ولا حكمًا، بل العكس إن أمنيتها القلبية الخالصة هي
أن تتمتع مصر بحقوق وطنية، ويكون لها بين الأمم مقام دولةٍ متمتعةٍ بحق السيادة
على أن تكون مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالإمبراطورية البريطانية بمعاهدة تكفل
للفريقين مصالحهما، وأغراضهما المشتركة؛ ولهذه الغاية التي جعلتها حكومة
جلالته نصب عينها - اقترحت رفع الحماية فورًا، والاعتراف بمصر (دولةٌ
متمتعةٌ بحقوق السيادة تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ) والاستعاضة عن العلاقات
القائمة الآن بين الإمبراطورية البريطانية، ومصر بمعاهدةٍ دائمةٍ، ورابطة سلامٍ،
وودادٍ وتحالُفٍ وكانت حكومة جلالته تأمل أن مصر بإعادة وزارة الخارجية ترسل
ممثليها في الحال إلى الممالك الأجنبية. كما أنها كانت على استعداد لتعضيد مصر
في انضمامها إلى جمعية الأمم إذا طلبت ذلك؛ وبذلك كان يتحقق لمصر في الحال
ما للدول المتمتعة بحقوق السيادة من السلطة والميزات.
ولكن رفض حكومة عظمتكم الحاضرة لهذه الاقتراحات أوجد حالةً جديدةً،
وهذه الحالة لا تؤثر في مبدإ السياسة البريطانية، ولكنها بالضرورة تقلل من
التدابير التي يمكن تنفيذها الآن؛ فلذلك ترغب حكومة جلالة الملك أن تبدي
بوضوحٍ حالة موقفها الآن.
ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء
الأمة المصرية، واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت
لديها على الدوام، وهي العمل على إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين
منهم في كل فرعٍ، ولا سيما في الفروع الإدارية العالية التي كثر فيها عدد
الموظفين الأوروبيين. حكومة جلالته مستعدةٌ لأن تواصل بمشاورة حكومة عظمتكم-
المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي
جَلِيًّا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات،
وكذلك ترجو حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون
العسكري - تباشرها الحكومة المصرية وحدَها بمقتضى القوانين المدنية المصرية،
وهي تُسَرّ برفع الأحكام العسكرية حالما يصدر (قانون التضمينات) (Actol
Indemniti) ويعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر، وهو قانون
لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر.
وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارةٍ
جليَّةٍ السياسة التي تنوي اتباعها. فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد
عظمتكم - قد رُفض بحجة أن الضمانات التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح
البريطانية والأجنبية تقضي على التمتع بالحكومة الذاتية تمتعًا صحيحًا، وهي
تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر، واشتراك
الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يُساء فهم المراد منها إلى هذا
الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية مهما كانت هذه الأماني
صحيحةً ومشروعةً في ذاتها دون أن يكترث اكتراثًا كافيًا بالحقائق التي تستحكم في
الحياة الدولية - فإن تقدمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخر فقط،
بل يتعرض للخطر تعرضًا تامًّا؛ إذ ليس مِن فائدةٍ تُرجى من وراء التصغير من
شأن ما على الأمة من واجباتٍ، وتعظيم ما لها من الحقوق. وإن الزعماء
المتطرفين الذين يدعون إلى هذا العمل لا يعملون على نهوض مصر بل يهددون
رُقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرةً بعد مرةٍ الدولة
الأجنبية في مصالحها، وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على
التأثير في مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم،
وإن حكومة جلالة الملك لا تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج مِن
هذا القبيل، ولن يمكن مصر أن تسير في سبيل الرقي إلا متى أظهر قادتها
المسؤولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا التهييج، فإن العالم يتألم الآن
في جهاتٍ عديدةٍ من الاندفاع في نوعٍ من الوطنية المتعصبة المضطربة. وحكومة
جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة، سواء في مصر أو في غيرها،
وإن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعْل القيود الأجنبية
التي يطلبون الخلاص منها أشد لزومًا، وبذلك يطيلون أجلها!
وإذ الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاةً لمصلحة مصر، ومصلحتها
الخاصة أيضًا ستستمر بلا تردُّدٍ على مواصلة غرضها كمرشدةٍ لمصر، وأمينةٍ على
مصالحها. ولا يكفيها أن تعلم أن في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر
بعد أن تركت لنفسها بغير معونةٍ قد عادت إلى عهد التبذير، والاضطراب الذي
لازمها في القرن الماضي؛ فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل العمل الذي بُدِئ
به في عهد اللورد كرومر، لا أن تبدأه من جديدٍ، وهي لا تنوي أن تبقي مصر
تحت وصايتها، بل العكس ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية،
وتوسيع مجال العمل أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح
الوطني تحقيقًا تامًّا، ولكنها ترى من الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق
والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة على السواء، وذلك
إلى أن يُظْهِر الشعب المصري أنه قادرٌ على صيانةِ بلاده من الاضطراب الداخلي،
وما يترتب عليه حتمًا من تدخل الدول الأجنبية.
وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية
البريطانية، لا على تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما
يتعلق بها إلى البحث في أية طريقةٍ قد تعرض عليها؛ لأجل تنفيذ اقتراحاتها في
جوهرها، وذلك في أي وقتٍ تريده حكومة عظمتكم، على أنها مع هذا لا يسعها
تعديل المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف تلك الضمانات
الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل
مصر في أيدي الشعب المصري نفسه. فكلما زاد اعتراف شعبكم بوَحدة المصالح
البريطانية ومصالحه كلما قلَّت الحاجة إلى هذه الضمانات، وقادة مصر المسؤولون
هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني مِن اشتراكهم مع بريطانيا العظمى - أن يُثبِتوا
بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن، وبالتزام جانب الحكمة في العمل به
أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن تُوكل لعنايتهم
بالتدريج. اهـ.
(المنار)
قد صدَّقت الأحداث جميع ما قررناه في المسألة المصرية في الجزء السابع،
وجاءت الوقائع بما توقعناه من فشل مفاوضة الوفد الرسمي للحكومة البريطانية،
واستعفاء وزارة عدلي باشا، فكان ما أحدثه اختلافها مع الوفد - أو سعد - من
الشقاق سبب حرمانها مما تبغي من الاتفاق، وكان فشلها خيرًا لمصر من نجاحها؛
فإنه أزال غرور جميع مُحسِني الظن بالدولة البريطانية، وأبطل تغرير الانتفاعيين
الذين كانوا يخدعون بها الأمة، فمشروع كرزون الصادع خيرٌ من مشروع ملنر
الخادع؛ إذ أظهر للعالِم والجاهل والذكي والغبي أن بريطانيا لا تبغي من المصريين
إلا الاعتراف لها بأنها سيدة مصر والسودان، والمالكة لهما، ولأهلهما، ولئن كان
لورد كرومر هو المسترق، فكرزون هو المحرر؛ بحفزه الأمة إلى الخروج من
هذا الرِّق، وإنما الفضل للسلطة العسكرية التي أرهقت البلاد، وأجبرت وزراء
لندن على إماطة حجاب الرياء.
ونكتفي بأن نقول في هذه التعليقة العجلى على هذه الوثائق الرسمية: إن
بريطانية كانت تظن أن هذا الطغيان، والجبروت، والعظموت، والتهديد بقوة
السعير العسكري - لا بد أن يرهب مصر الفتاة العزلى، فتخر ساجدةً بين يدي
القائد اللِّنبِي فاتح القدس قائلةً: غفرانك غفرانك؛ نحن عبيد بريطانيا العظمى
صاحبة الحق في أموالنا، ودمائنا، وأرضنا، وسمائنا، فمهما تمنحنا في حكم
بلادنا من وظيفةٍ أو منصبٍ، أو حق مأكلٍ أو مشربٍ - فهو فضلٌ وسخاءٌ منها
نقابله بالحمد والشكر، ومهما تستأثر به من الحكم، والتصرف، والمنافع ومن رقبة
الأرض - فهو من تصرف المالك في ملكه، وإن سُمِّي في العُرف العام والخاص
مصادرةً وظلمًا!
كذب ظن بريطانية؛ فإن الأمة قد هبت كلها للإنكار الشديد على المذكرتين،
ورفضهما أشد الرفض، وفي مقدمتها زعيمها الأكبر سعد باشا، وأعضاء الوفد
داعية إلى الاتحاد على ذلك، وعلى الإصرار على الاستقلال التام المطلق بلسان
جميع أحزابها، وصحفها، فأمر القائد اللنبي سعدًا، ومَن معه باعتزال السياسة،
والخروج من القاهرة إلى الريف، فردوا الأمر فاعتقلوا، ونفوا من مصر؛ فثارت
البلاد ثورةً اجتماعيةً عامةً، لم يصدها عنه الخوف من الجند البريطاني الذي ملأ
العاصمة، وغيرها من المدن معززًا بالسيارات المدرعة، والطيارات المهددة،
وعاد أعضاء الوفد المشاقّون فاتحدوا مع الباقين يعملون في بيت الأمة، وبرزت
إلى ميدان السياسة عقيلة الزعيم التي أبت مرافقته لتحل محله في خدمته، فألقت
على أعضاء الوفد خطابًا من وراء حجابٍ، ذرفت منه العيون، واضطربت
الألباب، ثم جمعت شمل النساء على مقاومة الخصم بمقاطعة تجارته، وتربية
الأولاد على بغضه وعداوته، وعم التظاهر بالاستياء، والاحتجاج على المذكرتين،
ونفي الزعيم، وأعضاء الوفد في الجرائد، وغيرها من جميع الأحزاب،
والجماعات الرسمية، وغير الرسمية من دينية، ومدنية، حتى إن رؤساء الكنيسة
القبطية قرروا ترك الزيارات، والتهاني بعيدي الميلاد، ورأس السنة، وألحت
الوزارة العدلية بقبول استقالتها، وتعذر تأليف وزارةٍ جديدةٍ تنفذ للسلطة البريطانية
ما تريد لشدة الاحتجاج من الرأي العام للأمة، حتى الذين كانوا يسمون العدليين أو
الحكوميين والوزاريين.
وتواترت الوفود من جميع أرجاء القطر رافعةً احتجاجها إلى القصر السلطاني
على المذكرتين، ونفي الزعيم، ومَن معه إلخ، واستقر رأي السواد الأعظم
على مقاطعة التجارة الإنكليزية، ورجال الإنكليز، وأخيرًا أصدر الوفد قرارًا شديدًا
في هذا المعنى، نُشِر في بعض الجرائد؛ فعطلتها السلطة العسكرية، واعتقلت
أعضاء الوفد الذي وقَّعُوه؛ فحل محلهم أفراد آخرون بلا خوفٍ ولا وجلٍ، ولا غَرْوَ؛
فإن كل ما حصل فهو خيرٌ لمصر؛ إذ لا تتربى الأمم إلا بالشدائد، وشرٌّ للإنكليز؛
لأنه وضْع للقوة العسكرية القاهرة في موضع سياسة الحكمة، والدهاء الساحرة،
فإذا أصروا على ذلك كانوا هم الخاسرين، وإذا أصررنا على طلب حقنا كنا نحن
الفائزين، والعاقبة للمتقين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(باحثة البادية)
بحث انتقادي بقلم الآنسة مي
قد اشتهر هذا الكتاب بين الناطقين بالضاد في كل قطرٍ تُنشَر فيه، أو تُقرَأ
الصحف العربية، فقد قرَّظته صحف القطر المصري، فالقطر السوري، فسائر
الجرائد العربية في سائر الأقطار، فكان له في صفحاتها أجمل الذكر والثناء؛ إذ
كان غريبًا في بابه، عديم النظير في الكتب العربية في نفسه، وفي كون منشئته
فتاة عربية تترجم عقليةً عربيةً بأسلوبٍ عربيٍّ جمع بين تأثير الشعر ودقة الفلسفة
وتحقيق التاريخ.
وقد عرف قراء هذه الصحف أن (باحثة البادية) لقبٌ أدبيٌّ مُنْتَحَلٌ للأديبة
المصرية الشهيرة فقيدة الإصلاح (مَلَك ناصف) عقيلة عبد الستار بك الباسل
(رحمها الله تعالى) كانت تتنكر عليّ به على عادة ربات الحِجال المسلمات
في عصرنا، وإن (ميًّا) لقبٌ أدبيٌّ منتحلٌ للأديبة المصرية النشأة السورية الأصل
الآنسة (ماري زيادة) أمتع الله الآداب العربية بطول حياتها، وأن هاتين النابغتين
العربيتين قد فاقتا جميع بنات جنسهما في هذا العصر، بل تفاخر مصرُ العربية بهما
بنات كل شعبٍ وكل مصرٍ.
نشر هذا الكتاب مطبوعًا منذ سنتين، وأهدته إليَّ المؤلفة، وأنا في دمشق
فكانت مطالعته مروِّحةً لنفسي مما أُكابد من أعمال رياسة المؤتمر، وسياسة الوطن،
وتبريح المرض، والبعد عن الأهل والولد، فتوجهت الإرادة إلى العناية بتقريظه،
والاستقصاء لوصْفه، والبحث في نقده على إِثْر التأثُّر بقراءته، فحالت دون ذلك
كارثة زحف الجند الفرنسي على الشام، وإسقاطه لحكومتها المبنية على أساس
الاستقلال، واشتداد المرض، ومنع المعتمد البريطاني إياي من العودة إلى وطن
السكن، فأحلت أمر تقريظه إلى مَن كان يقرظ غيره من المطبوعات التي تُهدى إلى
المنار، على ما كان من تقصيره في حقوق المهدين والقراء، فجرى فيه وفي كثيرٍ
من الكتب على مذاهب الإرجاء، وحسبي من قضاء حقه هذا التنويه الآن، وأرجو
أن أعود إليه في وقتٍ أُطيل فيه البحث في شئون تربية النساء.
***
(كتاب المسألة الشرقية)
المسألة الشرقية في علم السياسة أهم من مسألة التحسين والتقبيح العقليين في
علم الكلام، وأعقد من مسألة تربيع الدائرة في علم الهندسة، ونحن الشرقيين أحوج
إلى الإحاطة بها، والوقوف على عللها ومعلولاتها منا إلى العلم بسائر مسائل
السياسة، ومستمدها من علم التاريخ.
وقد كان أكثر أهل الشرق غافلين عن هذه المسألة لعدم المنبهات، الموقظة
من ذلك السُّبات؛ ولهذا افترضنا مسألة تألم العالم الإسلامي من مسألة طرابلس
الغرب، وبرقة؛ فكتبنا عشر مقالاتٍ بعنوان (المسألة الشرقية) نشرناها في
المؤيد، ثم في المنار، فكان لها تأثيرٌ عظيمٌ ذكرناه في محله من قبل. ثم جاءت
الحرب الكبرى - وما تلاها من الهدنة، وبناء قواعد الصلح بين الدول الغربية على
حل المسألة الشرقية حلاًّ نهائيًّا - فتم تنبه أذهان الشرقيين عامةً، والمسلمين خاصةً
للبحث في هذه المسألة، فبعث ذلك حسين لبيب أفندي أستاذ التاريخ في مدرسة
القضاء الشرعي على وضع كتابٍ وجيزٍ في المسألة نشرتْهُ مجلة الهلال المصرية،
ثم طبعته على حِدَته في جزءٍ بلغت صفحاته 120 ص من قطع المنار، وهو
خاصٌّ بطور المسألة الشرقية العثمانية التركية، وقد استمد مسائله من كتب التاريخ
العربية، والإفرنجية والجرائد. وهو مؤَلَّفٌ من مقدمة في التعريف بالمسألة، وستة
فصول، بيَّن فيها معنى المسألة، وأسباب ضعف الدولة، وما كان من نهضة الدولة
الروسية وقتالها إياها لحل المسألة الشرقية، والانقلاب العثماني الأخير، ومسألة
استقلال العناصر، وخاتمةٍ في حال الدولة العثمانية في الحرب العظمى، ومعاهدة
سيفر المقررة للقضاء على سلطنتها (ونحمد الله تعالى أن أماتها عقب ولادتها) ،
والكتاب مزين بصور عظماء رجال الدولة مِن المتقدمين، والمتأخرين، ويتصل به
خريطةٌ تاريخيةٌ لأملاك الدولة في القرن الماضي. فنحُثُّ كل مَن يهمه أمر الشرق،
والدولة العثمانية من قراء العربية - أن يطالع هذا الكتاب المختصر المفيد.
***
(مفاوضات الإنكليز بشأن المسألة المصرية)
نشر أمين بك الرافعي مدير جريدة الأخبار في العام الماضي مقالات في
الأخبار في تاريخ اعتداء الدولة البريطانية على البلاد المصرية واحتلالها إياها،
وما تبع ذلك من الوقائع، والأحداث، والمفاوضات السياسية الدولية في شؤون هذه
البلاد، كشف فيها القناع عن الدهاء، والرياء، والخداع الإنكليزي، الذي يجب
على كل مصريٍّ، وكل عربيٍّ، بل كل شرقيٍّ - أن يعرفه ويعتبر به، وكنا كلما
قرأنا مقالةً من تلك المقالات نرى وجوب حفظ الجريدة؛ لأجل الرجوع إليها، ثم
نتمنى لو تُجمع تلك المقالات في كتابٍ خاصٍّ. وكان يتمنى ذلك مثلنا كل مَن يعرف
قيمتها وشدة الحاجة إليها، وما كان من تعب الكاتب في جمع تلك الحقائق،
وإبرازها في الصيغة النافعة المؤثرة، وقد كاشف الكاتب بذلك كثيرون منهم
واقترحوه عليه فأجابهم إليه، وطُبعت المقالات على ورقٍ جيدٍ فكانت كتابًا تاريخيًّا
سياسيًّا جليلاً، بلغت صفحاته 270 من قطع المنار، فنحُثُّ كل مَن يُعنى بالسياسة
من قراء العربية على قراءة هذا الكتاب مرارًا، ونتمنى لو ينتشر في جميع الأقطار
العربية، ولا سيما المخدوعة منها إلى اليوم بالسياسة الإنكليزية، وثمن النسخة منه
25 قرشًا مصريًّا تضاف إليها أجرة البريد.
***
(كتاب الإرشادات الصحية والإسعافات الوقتية)
الأطباء أنفع العلماء بسنن هذا الكون للبشر، وأكثرهم قد قصر نفعه على
معالجة المرضَى التي هي حرفتهم، ومنهم أفرادٌ ينفعون الناس بعلمهم هذا، وبما
ينشرون من الكتب النافعة، وهم قليلون، وأقل منهم مَن لا تقف همته عند هاتين
الخدمتين العملية والعلمية، بل تتجاوزها إلى السعي لإنشاء المستشفيات، والملاجئ
للفقراء وغير ذلك من الأعمال الاجتماعية التي ترتقي بها الأمم؛ والدكتور عبد
العزيز بك نظمي من هؤلاء الأفراد، الذين تفتخر بهمتهم هذه البلاد، فهو على
كثرة عمله في عيادته الذي هو حق الحرفة، وعمله في مستشفيات الأوقاف بما
توجب عليه الوظيفة (حكمباشي مستشفيات الوزارة) ، وعمله في ملجأ الحرية
الذي أُسِّس بسعيه الحميد - يجد سعةً فيما يقتصد من وقته للتأليف، فله عدة كتبٍ
باللغة العربية، أكثرها في تربية الأطفال ومعالجتهم، وهو أخصائي في ذلك،
وأخرى باللغة الفرنسية. وآخر ما كتبه هذا الكتاب الذي نحن بصدد تقريظه، فقد
نشره بالطبع في أول هذا العام، واسمه يدل على مسماه، وهو يتألف من مقدمةٍ
وأربعة أقسامٍ.
فالمقدمة في التعريف بقانون الصحة، والقسم الأول: في الإرشادات الصحية
المتعلقة بالأغذية، والأشربة، والماء، والهواء، والنور، والنوم، والملابس،
والرياضة، ومضار المُسكِرات، والمُخَدِّرات، والثاني: في التمريض، وفيه 3
فصول، والثالث: في الأمراض الكثيرة الانتشار في الظاهر والباطن، وطرق
اتقائها، والرابع: في الإسعافات الطبية بأنواعها، ويتلوها بيان الصيدلية المنزلية،
أي ما ينبغي أن يكون في كل دارٍ من العلاجات، والمطهرات، والأدوات التي
تشتد الحاجة إليها، لا سيما للإسعاف عند حدوث مرضٍ، أو حرقٍ، أو جرحٍ، أو
لدغٍ، أو لسعٍ، وعبارة الكتاب سلسةٌ، يفهمها كل متعلمٍ ومتعلمةٍ، وإن لم يخلُ -
كأكثر المطبوعات العصرية - من أغلاط لفظيةٍ، يحسن تصحيحها في الطبعة
الثانية، وفيه عدة صورٍ ورسومٍ لإيضاح بعض المسائل. وجملة القول فيه أنه
ينبغي أن لا يخلو منه بيتٌ من البيوت، ولا أن يجهل ما أودعه رجلٌ ولا امرأةٌ؛
فكل ذلك مِن الضروريات التي لا يُستغنَى عنها. وصفحاته 170 من قطع كتاب
(الإسلام والنصرانية) . وثمن النسخة منه 10 قروش صحيحة، وأجرة البريد،
وهو يُطلب من مكتبة المنار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنبيه
ضاق هذا الجزء عن سائر المواد الموعود بها، ومنها البدء بالرحلة الأوربية.
_________