المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني

‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

تأليف الإمام المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني

بسم الله الرحمن الرحيم وهو المستعان

الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كل

الإفراد، من اتخاذ الأنداد، فلا يتخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحدًا، ولا يتَّكلون

إلا عليه، ولا يفزعون في كل حالٍ إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى،

ولا يتوصَّلون إليه بالشفاعة {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ،

وأشهد أن لا إله إلا الله ربًّا معبودًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول:

{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: 188) ، وكفى

بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له، في السلامة من العيوب،

وتطهير القلوب عن اعتقاد كل شيءٍ يشوب.

وبعد: فهذا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) وجب عليَّ تأليفه، وتعين

عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى

وجميع البلاد من اليمن والشام ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو

الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدَّعي العلم بالمغيبات والكاشفات، وهو من

أهل الفجور [1] لا يحضر للمسلمين مسجدًا، ولا يُرَى لله راكعًا ولا ساجدًا، ولا

يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب؛ فوجب عليَّ أن أنكر ما

أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره، فاعلم أن ههنا

أصولاً هي من قواعد الدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين:

(الأصل الأول) أنه قد عُلِمَ من الدين أن كل ما في القرآن فهو حقٌّ لا باطل،

وصدقٌ لا كذب، وهدىً لا ضلالة، وعلمٌ لا جهالة، ويقينٌ لا شك فيه، فهذا

الأصل أصل لا يتم إسلام أحد، ولا إيمانه إلا بالإقرار بهذا الأصل [2] ، وهذا

مجمع عليه لا خلاف فيه.

(الأصل الثاني) أن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بُعثوا لدعاء

العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله:

{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) ، {أَن لَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ

اللَّهَ} (هود: 26)، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: 3) ، وهذا الذي

تضمنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد

معناها، لا مجرد قولها باللسان، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة والنفي لما

يُعبد من دونه والبراءة منه، وهذا الأصل لا مِرْية في ما تضمنه، ولا شك فيه،

وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه.

(الأصل الثالث) أن التوحيد قسمان: القسم الأول توحيد الربوبية والخالقية

والرازِقية ونحوها، ومعناها أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم

والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكًا، بل هم

مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع، والقسم الثاني توحيد العبادة، ومعناها

إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه

الشركاء، ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى، فالرسل عليهم السلام بُعثوا

لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني مثل قولهم - في خطاب المشركين -:

{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (إبراهيم: 10)، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 3) ،

ونهيهم عن شرك العبادة؛ ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ

اعْبُدُوا اللَّهَ} (النحل: 36) أي قائلين لأُممهم: أن اعبدوا الله، فأفاد بقوله: {فِي

كُلِّ أُمَّةٍ} (النحل: 36) - أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد

العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السموات والأرض، فإنهم

مُقِرُّون بهذا؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو:

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 3)، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل:

17) ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) ، {أَغَيْرَ اللَّهِ

أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ

مِن دُونِهِ} (لقمان: 11)، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} (فاطر: 40)

استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقِرون، وبهذا نعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام

والأوثان، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاءَ لله

تعالى؛ لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم؛ لأنهم يقربونهم

إلى الله زُلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند

الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء

شركًا، ونزه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم،

لم يأذن الله لهم في شفاعةٍ، ولا هم أهلٌ لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئًا؟!

(الأصل الرابع) أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله

خالقهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87) ، وأنه الذي خلق

السموات والأرض {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ

الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9) ، وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت

من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع

الأبصار والأفئدة {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ

وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ

فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) - {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا

يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:

84-

89) وهذا فرعون مع غلوّه في كفره ودعواه أقبح دعوة ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله - في حقه حاكيًا عن موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ

رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الإسراء: 102) وقال إبليس: {إِنِّي

أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} (الحشر: 16)، وقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (الحجر: 39) وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي

} (الحجر: 36) وكل مشرك مقر بأن

الله خالقه، خالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم؛ ولهذا

احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل: 17) ، وبقولهم

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج: 73) ،

والمشركون مقرون بذلك لا ينكرون.

(الأصل الخامس) أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلُّل، ولم تُستعمل

إلا في الخضوع لله؛ لأنه مَوْلَي أعظم النعم، وكان [3] حقيقًا بأقصى غاية الخضوع

كما في الكشاف، ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها

دعت جميع الرسل، وهو قول (لا إله إلا الله) ، والمراد اعتقاد معناها لا مجرد

قولها باللسان، ومعناها إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي، والبراءة من كل معبودٍ

دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ

إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) .

***

فصل

إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعًا

(اعتقادية) وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق

والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه

وأنه لا معبود بحقٍّ غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية (ومنها اللفظية)

وهي النطق بكلمة التوحيد، فمَن اعتقد ما ذُكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه، ولا

ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقرُّ به كما أسلفناه عنه، إلا أنه لم

يمتثل أمر الله فكفر، ومَن نطق ولم يعتقد حقن ماله، ودمه، وحسابه إلى الله،

وحكمه حكم المنافقين (وبدنية) كالقيام، والركوع، والسجود في الصلاة (ومنها)

الصوم وأفعال الحج والطواف (ومالية) كإخراج جزءٍ من المال امتثالاً لما أمر الله

تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة،

لكن هذه أماتها.

وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم السلام

من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه

خلقهم ونحوه [4] ؛ إذ هم مقرون بذلك كما قررناه وكررناه؛ ولذا قالوا {أَجِئْتَنَا

لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} (الأعراف: 70) ، أي لنفرده بالعبادة، ويختص بها من دون

الأوثان، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى،

ولا أنه لا يُعبد، بل أقروا بأنه يُعبد، وأنكروا، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً

وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22) ، أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في

تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وكان يسمعهم

النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه جل

جلاله لو تركوا قولهم: (إلا شريكًا هو لك) . فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به

تعالى، قال تعالى:{أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 22) ،

{وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (البقرة: 23) ، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا

تُنظِرُونِ} (الأعراف: 195) ، فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا

الأصنام للخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم من الله

زلفى، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا

الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون

إلا لله وحده، وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرّين كما عرفت في الأصل

الرابع بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده، والرازق وحده، ومن هذا

تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم - وهو نوح عليه السلام إلى

آخرهم - وهو محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد العبادة؛ ولذا تقول لهم

الرسل: {أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} (هود: 2)، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) ، وقد كان المشركون منهم مَن يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد

ومن يعبد أحجارًا [5] ويهتف بها عند الشدائد فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه

وسلم - يدعوهم إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة، كما أفردوه بالربوبية،أي

بربوبية السموات والأرض، وأن يفردوه بكلمة (لا إله إلا الله) معتقدين لمعناها،

عاملين بمقتضاها، وألا يدعوا مع الله أحدًا، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ

يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} (الرعد: 14) وقال تعالى: {وَعَلَى

اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 23) أي من شرط الصدق بالله ألا

يتوكلوا إلا عليه، وأن يفردوه بالتوكل كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار،

وأمر الله عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

} (الفاتحة: 5) ولا يصدق قائل هذا

إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبًا منهيًّا عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ

معناها نخصك بالعبادة، ونفردك بها، وهو معنى قوله:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت: 56)، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41) ، كما عُرف من علم البيان

أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره، ولا

تتقوا غيره [6] كما في الكشاف، فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون

الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله

وحده، واللجأ إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع،

والقيام تذلُّلاً لله تعالى، والركوع، والسجود، والطواف،والتجرد عن الثياب،

والحلق، والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل، ومَن فعل ذلك لمخلوق حيٍّ أو

ميتٍ أو جمادٍ أو غيره، فهذا شرك في العبادة، وصار مَن تُفعل له هذه الأمور إلهًا

لعابديه، سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو وليًّا أو شجرًا أو قبرًا أو جنّيًّا أو حيًّا أو ميتًا،

وصار بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدًا لذلك المخلوق، وإن أقر بالله وعبده؛ فإن

إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه لم يُخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك

دمائهم، وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، قال [7] الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن

الشرك، لا يقبل الله عملاً شُورِكَ فيه غيره، ولا يؤمن به مَن عبد معه غيره) .

***

فصل

إذا تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم في

العبادة، ولا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون،

وينفعون، وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى؛

فنحروا لهم النحائر، وطافوا بهم، ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين

متواضعين في خدمتهم، وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية، وأنه

الخالق، ولكنهم كما أشركوا في عبادته جعلهم مشركين، ولم يعتد بإقرارهم هذا؛

لأنه نافاه فعلهم، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية، فمن شأن مَن أقر لله تعالى

بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة، فإذا لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل،

وقد عرفوا وهم في طبقات النار، وقالوا: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ

نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع أنهم لم يسوّوهم به مِن كل وجهٍ،

ولا جعلوهم خالقين، ولا رازقين، لكنهم علموا، وهم في قعر جهنم أن خلطهم

الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة -صيَّرهم كمَن سوى بين الأصنام،

وبين رب الأنام، قال الله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) أي ما يقر أكثرهم في إقراره بالله، وبأنه خلقه وخلق السموات

والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان [8] ، بل سمى الله الرياء في الطاعات شركًا،

مع أن فاعل الطاعة ما قصد بها إلا الله تعالى، وإنما أراد طلب المنزلة بالطاعة

في قلوب الناس، فالمرائي عبد الله لا غيره، لكنه خلط عبادته بطلب المنزلة في

قلوب الناس، فلم تُقبل له عبادة،وسماها شركًا، كما أخرجه مسلم من حديث أبي

هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك مَن عمل عملاً، وأشرك فيه معي

غيري تركته وشركه) ، بل سمى الله التسمية بعبد الحارث شركًا، كما قال تعالى:

{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: 190) فإنه أخرج

الإمام أحمد، والترمذي من حديث سمرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لما

حملت حواء - وكان لا يعيش لها ولد - طاف بها إبليس، وقال: لا يعيش لك ولد

حتى تسميه عبد الحارث فسمته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره،

فأنزل الله الآيات،وسمى هذه التسمية شركًا، وكان إبليس تَسَمَّى بالحارث)

والقصة في الدر المنثور وغيره [9] .

***

فصل

قد عرفت من هذا كله أن مَن اعتقد في شجرٍ أو حجرٍ أو قبرٍ أو

مَلَكٍ أو جنيٍّ أو حيٍّ أو ميتٍ أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده

في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل إلى الرب تعالى - إلا ما ورد

في حديث فيه مقال في حق نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك [10]-

فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في

الأوثان، فضلاً عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي، أو يطلب من ذلك ما لا يُطْلَب

إلا من الله تعالى من الحاجات من عافية مريضه، أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب

من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام، والنذور

بالمال على الميت ونحوه والنحر على القبر والتوسل به وطلب الحاجات منه هو

بعينه الذي كان تفعله الجاهلية، وإنما يفعلونه لما يسمونه وثنًا وصنمًا، وفعله

القبوريون لما يسمونه وليًّا وقبرًا ومشهدًا، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني

ضرورة لغوية وعقلية وشرعية؛ فإن مَن شرب الخمر وسماها ماءً ما شرب إلا

خمرًا، وعقابه عقاب شارب الخمر، ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية،

وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، وصدق

صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد أتى طوائف من الفسقة يشربون الخمر، ويسمونها

نبيذًا، وأول مَن سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين-

إبليس لعنه الله؛ فإنه قال لأبي البشر آدم عليه السلام: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى

شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَاّ يَبْلَى} (طه: 120) ، فسمى الشجرة التي نهى الله تعالى آدم

عن قربانها شجرة الخلد جذبًا لطبعه إليها، وهزًّا لنشاطه إلى قربانها، وتدلّيا عليه

بالاسم الذي اخترعه لها، كما يسمي إخوانه المقلدون الحشيشة بلقمة الراحة، وكما

يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلمًا وعدوانًا أدبًا، فيقولون: أدب

القتل، أدب السرقة، أدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب، كما

يحرفونه في بعض المقبوضات إلى اسم النفاعة، وفي بعضها إلى اسم السباقة،

وفي بعضها أدب المكاييل والموازين وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما

يعرفه مَن شم رائحة الكتاب والسنة، وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى

الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.

وكذلك تسمية القبر مشهدًا، ومَن يعتقدون فيه وليًّا - لا يُخرجه [11] عن اسم

الصنم والوثن؛ إذ هم معاملون لها [12] معاملةَ المشركين للأصنام، ويطوفون بهم

طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون

الميت بالكلمات الكفرية من قولهم: على الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد

ونحوها، وكل قوم لهم رجل ينادونه؛ فأهل العراق، والهند يدعون عبد القادر

الجيلي، وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي

يا ابن العجيل، وأهل مكة، وأهل الطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر يا رفاعي-

يا بدوي - والسادة البكرية: وأهل الجبال يا أبا طير: وأهل اليمن يا ابن علوان.

وفي كل قرية أموات يهتفون بهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير،ودفع

الضر، وهو [13] بعينه فعل المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية:

أعادوا بها معنى سواع ومثله

يغوث ووَدّ ليس ذلك من ودي

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها

كما يهتف المضطر بالصمد الفردِ

وكم نحروا في سوحها من نحيرة

أُهِلَّتْ لغير الله جهلاً على عمدِ

وكم طائف حول القبور مقبلاً

ويلتمس الأركان منهن بالأيدي

فإن قال: إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله،

فلأي شيءٍ قرَّبت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك

تعظيمه؟ إن [14] قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله

تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد، وتنجيس

الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينًا أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول،

ولا خرجت من بيتك إلا لقصده، ثم كذلك دعاؤهم له، فهذا الذي عليه هؤلاء شرك

بلا ريبٍ.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هذه صفة كاشفة؛ فإن هؤلاء الأدعياء كلهم أو جُلهم كذلك؛ لأن التقي الصالح لا يدَّعي هذه الدعوى، ولو ادعاها لخرج بها عن الصلاح؛ فهي دعوى لا تُقبل من أحد، وإن كان ما يسمونه المكاشفة يقع أحيانًا، وهو من فراسة المؤمن الثابتة في الحديث.

(2)

الظاهر هنا الإضمار، وهو أن يقول: إلا به.

(3)

المنار: الظاهر أن يقال: فكان.

(4)

أي فقط؛ فإنه تحصيل حاصل.

(5)

المنار: الأحجار لم تُعبد لذاتها، وإنما كانت تماثيل لبعض الصالحين، ومذكِّرات بهم أو منسوبة إليهم كأحد أعمدة الرخام في المسجد الحسيني بمصر يُتمسَّح به للبركة والاستشفاء؛ لأنه منسوب إلى السيد البدوي؛ فهو يعرف بعمود السيد.

(6)

المنار: الحصر جامع بين الإثبات والنفي، والمعنى: اعبدوا الله، ولا تعبدوا غيره، واتقوه ولا تتقوا غيره؛ فإيراد صيغتي النفي إما تحريف من النُّسَّاخ، وهو الأرجح، وإما سَبْق قلم من المؤلف.

(7)

قوله: (قال الله تعالى) : أي في الحديث القدسي، ولفظه:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِركَه) رواه مسلم، كتبه محمد محمد فاضل.

(8)

المنار: أي بعبادة غيره تعالى معه؛ إذ لا فرق بين الأوثان وغيرها في ذلك.

(9)

الحديث معلول من وجوه، كما بيَّنه ابن كثير في تفسيره، ولكن المعنى الذي قصده المؤلف صحيح.

(10)

المراد: حديث توسل الأعمى، والرواية القوية ليس فيها ما يخل بالتوحيد، كما بيَّنه شيخ الإسلام في كتاب (التوسل والوسيلة) ، وهو كتاب لا يستغني عن قراءته أو سماعه مسلمٌ في هذا العصر.

(11)

وفي نسخة: وهذا لا يُخرجه.

(12)

وفي نسخة: (بها) ، هذا، وإن القرآن قد يخبر عن تلك المعبودات بالأولياء، ونهى عن اتخاذ الأولياء من دونه.

(13)

وفي نسخة: وهذا بعينه.

(14)

أم لا؟ ، فإن قال:.

ص: 273

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(4)

فصل

شرح حديث الحارث الأشعري

أما طاعة الخليفة في السنّة فقد تضافرت الأحاديث الصحيحة في وجوبها،

واشتهرت اشتهارًا عظيمًا، حتى إنه لم يصل حكم بعد عقيدة التوحيد والرسالة إلى

هذه الشهرة والتواتر.

وها أنا ذا ذاكر ههنا أولاً حديثًا من مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي يوضح

نظام الإسلام الاجتماعي توضيحًا حسنًا، فأقول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا آمُرُكم بخمس، الله أمرني

بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه مَن

خرج من الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومَن دعا

بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم، قالوا: يا رسول الله! ، وإن صام وصلى؟ ! ،

قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم) أخرجه الترمذي، وأحمد، والحاكم

من حديث الأشعري على شرط الصحيحين، قال ابن كثير: هذا حديث حسن، وله

شواهد.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخمس:

أولهن - (الجماعة) أي يجب على الأمة أن تجتمع على الإمام، وتعيش

مرتبطة بمركزها الاجتماعي، وسترى كثيرًا من الأحاديث التي تحذر من الوحدة

والفُرقة، وتعدّها حياة جاهلية شيطانية؛ إذ الإسلام لا يحسب الحياة الفردية حياة،

وإنما الحياة عنده (الحياة الاجتماعية) .

ما (الجماعة) ؟ ، كتلة من الآحاد، تربط بعضهم ببعض رابطة (الاتحاد) ،

و (الائتلاف) ، ويكون فيهم (الامتزاج) و (النظام) .

هاتيكم الجماعة ولوازمها الأربعة: الاتحاد والائتلاف والامتزاج والنظام:

أما (الاتحاد) فهو أن يكون الأفراد متصلاً بعضهم ببعض، فلا عوامل

التفرقة تفرقهم، ولا التشتت يبددهم، بل يكونوا جميعًا متقاربين، وأن تكون

أعمالهم كذلك متوافقة غير متخالفة، وجهتها واحدة، وغايتها واحدة.

وأما (الائتلاف) فهو أخص من (الاتحاد) ؛ إذ الاتحاد مجرد الاتصال،

و (الائتلاف) هو الاجتماع والاتصال بتناسُب صحيح، وترتيب حسن، فيقدم فيه ما

حقه أن يقدَّم، ويؤخر فيه ما حقه أن يؤخَّر، ويوضع الفرد في الجماعة بالمكان

الذي يؤهله له استعداده وقوته، فلا يُستخدم في الشرطة مَن هو أهل للسيادة والقيادة،

ولا يُرفع - إلى رياسة السياسة - مَن لا يصلح إلا للشرطية.

وأما (الامتزاج) فهو أخص منهما، ويُراعَى فيه اتحاد الكيف أكثر من اتحاد

الكم، أي يُنظر في طبائع الأفراد حيث استعدادهم الاجتماعي، فيلحق كل واحد

بالذي يكون أكثر موافقةً لطبعه؛ ليتحدا تمام الاتحاد؛ إذ لو لم يراعَ ذلك لا يتأتى

الاتحاد بين أفراد مختلفة الأمزجة والطبائع، كما لا يتحد الزيت والماء، وإن الله

سبحانه كما خلق العناصر ليتكون باجتماعها المناسب مركب مخصوص - كذلك

خلق الأفراد ليكونوا باجتماعهم (جماعة) ، فالأفراد (عناصر) ، والجماعة

(مركب) ، وكما أن العناصر لا تكوّن (مركبًا) إلا إذا امتزجت امتزاجًا تامًّا، كذلك

الأفراد لا تكون (جماعة) إلا بهذا الامتزاج، فإذن يجب أن يتمازج الأفراد بعضهم

ببعض، ويفنوا وجودهم في سبيل تكوين الجماعة، بحيث يحسبهم مَن يراهم شيئًا

واحدًا، ولا يكون ذلك إلا بعد الامتزاج التام.

وأما (النظام) فهو أن يحل كل فرد في الجماعة محله، يدور في دائرته،

ويسعى في داخل حدوده، ويعمل عمله الاجتماعي فيه.

ولا تتحقق هذه الأمور إذا لم تكن قوة مسيطرة على الاجتماع، ويد مدبّرة

للجماعة، فتوحد الآحاد المنتشرة، وتؤلف بينهم، وتمزج بعضهم ببعض،

وتخرطهم في نظام الجماعة، فلا بد إذًا من (إمامٍ وخليفةٍ) ولا مفر للأفراد من

طاعته والخضوع، إذا كانوا يريدون أن يحيوا حياة اجتماعية طيبة، فمقام

الإمام أو الخليفة في الهيئة الاجتماعية مقام النقطة من الدائرة، وعماله بمنزلة

الدائرة نفسها، فآحاد الأمة يدورون حول هذه الدائرة، وهي تدور حول تلك النقطة،

وبهذه الصورة تتكون من اجتماع الأفراد (الجماعة) ويصيرون كتلة واحدة

وجسمًا واحدًا حيًّا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، وبهذا أُمر

المسلمون ومُنعوا من الوحدة والفرقة، وأوجب عليهم أن لا يعيشوا بدون إمام،

سواء كثروا أم قلوا، حتى لو كانوا ثلاثة وجب عليهم أن يؤمِّروا أحدهم لقوله -

صلى الله عليه وسلم: (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) .

وقد جعل الله سبحانه صلاة الجماعة - التي هي عماد الدين ومثال كامل

للعقائد والأعمال - نموذجًا ليهتدي بها المسلمون إلى تنظيم حياتهم الاجتماعية،

فانظر كيف يجتمع مئات وألوف أوطانهم متنائية، وجهاتهم متباعدة، وألوانهم

متغايرة، وألبستهم متخالفة، فبينما هم في هذه الحالة، إذ تقرع سمعهم التكبيرة،

فيتحول الانتشار إلى الاجتماع، والتفرق إلى الائتلاف، فهم وقوف في صفٍّ واحدٍ،

أجسامهم متلامسةٌ، أكتافهم متلاصقةٌ، أقدامهم متقاربةٌ، ووجوههم متوجهةٌ إلى

جهةٍ واحدةٍ، إذا كانوا قيامًا، فكلهم قيام، كأنهم بنيان مرصوص، وإذا كانوا قعودًا

فكلهم قعود، باطنهم كظاهرهم متحد ومؤتلف، قلوبهم بذكر واحدٍ مشغولة،

وألسنتهم للفظ واحد مرددة، ثم انظر أمامهم فلا ترى هنالك إلا رجلاً واحدًا يؤمهم

ويقودهم، متى شاء أقامهم، ومتى شاء أقعدهم، كلهم طوْع أمره، وسمَّاعون لكلمته،

لا يخالفونه، ولا ينازعونه، بل يتبعونه، ويقتدون به، ويطيعون له [1] .

هذه هي (الجماعة) التي يطالب بها الإسلام، ويأمر المسلمين أن يجعلوا

هيئتهم الاجتماعية على أسلوبها، لا كما يزدحم الهمج في الأسواق.

هذا، وكل ما ذكرناه من أوصاف الجماعة وخصائصها مأخوذة من الكتاب

والسنة، وقد أغفلنا ذكر الشواهد عمدًا لضيق المقام وعدم الحاجة إليها.

ثانيهن - (السمع) وهو أن تستمع الأمة أوامر الإمام، وتستهدي به؛ فكلمة

(السمع) توضح أن مقام الإمام في الأمة مقام المعلم والمرشد؛ فعليها أن تتلقى

أوامره بالقبول، وتسترشد به في مهماتها.

ثالثهن - (الطاعة) وهي أن يطاع الإمام طاعة تامة، ويفوَّض إليه جميع

القوى العاملة تفويضًا كليًّا [2] ، ويعمل كل فرد من الأمة بأمره بدون أدنى عذر، ولا

ضجر، ومعلوم أن الطاعة في المعروف لا في المنكر.

رابعهن - (الهجرة) وهي من (الهجر) ومعناه (الترك) ففي المفردات:

(الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب،

والمهاجرة: مصارمة الغير ومتاركته) (صفحة 558)، وأما في الشريعة فهي:

أن يترك رجل أو جماعة الملاذّ الدنيوية، والرغائب النفسية في سبيل الحق

والسعادة [3] ، فمثلاً إذا ترك أحد لغرض سامٍ وقصد عالٍ - مالَه وراحته، وأهله،

وأقاربه، وعشيرته، وبيته، ووطنه، يسمى عمله هذا في الشريعة (الهجرة إلى

الله والذهاب إلى الله) وقد غلب استعمال (الهجرة) في ترك الوطن؛ لأن تركه

يستلزم ترك المال، والأهل، والأصدقاء، وكل ما يُحَبّ ويُؤْلَف في الوطن؛ ولذا

إذا أُطلقت يكون معناها (ترك الوطن) وإذا أضيفت إلى شيء يُفهم معناها حسب

الإضافة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى، فمَن

كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا

يصيبها، أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (البخاري عن عمر رضي

الله عنه) فالهجرة أنواع وأقسام تجدها مبينة في الكتاب والسنة، وليس هنا محل

تفصيلها.

خامسهن - (الجهاد في سبيل الله) وهو من (الجهد) ومعناه: (استفراغ

الوسع في مدافعة العدو ظاهرًا أو باطنًا) (مفردات) ، فالجهاد هو السعي البليغ

لدفع الأعداء، والذود عن الأمة، ويكون باللسان، والمال، والنفس، فكل ما يبذله

الرجل في سبيل الله - حسب الحاجة والضرورة - فهو جهاد في سبيل الله، كما

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم

وألسنتكم (رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، وابن حبان عن أنس رضي الله

عنه) .

ولسنا في حاجة إلى أن نُثْبت أن على هذه الخمسة تتوقف حياة الأمم وقيامها

وبقاؤها؛ إذ كل مَن له ذرة من العقل يعلم حق العلم أنه لا تستطيع أمة أن تفوز في

معترك الحياة بدونها، أو تنجح في أعمالها - صغيرة كانت أو كبيرة - بغيرها،

فسواء عليها أن تسعى لحصول خبز من البر، أو تذهب لكشف القطب الشمالي،

فهي على كل حال تحتاج إلى هذه الأصول الخمسة، والتي تعرض عنها تخسر،

ثم تسقط حتمًا، وإن كل ما نراه الآن في هذه المعمورة العظيمة من الحضارة

والرقي والصناعة، نتيجة لهذه الخمسة: (الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة،

والجهاد) .

إن النزاع والخلاف الذي ملأ الخافقين إنما هو ناتج عن شيءٍ واحدٍ، وهو

تعدد الأسماء لمسمى واحد، وكثرة المصطلحات لحقيقة واحدة، فإنك إن دققت

النظر في جدال الناس ترى معظمهم متشاجرين في الأسماء والألفاظ والمصطلحات،

مع أنهم لو جردوا الحقيقة عن الظواهر لعلموا أنها واحدة، وعند الجميع سواء،

لكنهم لسوء الحظ لا يفعلون ذلك، فيتخبَّطون طول عمرهم في تيهاء الألفاظ

والمصطلحات، ويتناطحون عليها.

وقد كثر مثل هذا النزاع في العلوم والمعارف، والموفق مَن لا تخدعه

الظواهر، فلا يرى الحقيقة بمنظاره الخاص المصنوع من الألفاظ والمصطلحات،

بل يراها مجردة كما هي، وهذا المقام مقام الرسوخ في العلم، ويسميه الشيخ أحمد

ولي الله صاحب (حجة الله البالغة) بعلم الجمع بين المختلفات، وعامة أصحاب

السلوك والإشارات يسمونه (بمشهد الوحدة) ، ويقصدون به نفس هذا المقام الذي

يصله السالك بعد زوال الحجب والأستار عن عينيه.

فإذا بحثت بعد هذا تعلم أن الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد - من

تلك الحقائق العامة المسلَّمة التي لا ينكرها أحد من البشر - والأمم بأجمعها سائرة

عليها من أول خلقها، ومتمسكة بها أشد التمسك، وإنما النزاع فيها والإنكار عليها

جاء من تلك البلية التي ذكرناها آنفًا، أي التشبُّث بالأسماء والمصطلحات، فلأجل

هذا أنكرها كثير من الناس لأسمائها الإسلامية، ولكنهم يقبلونها، ويعملون بها بغير

هذه الأسماء، والذي يَرُدّ هذه الحقائق نفسها يحرم من الحياة، ولا يرى في دنياه إلا

الخيبة والخسران.

وها أنا ذا أسوقها إليك واحدةً واحدةً مع بيان وجيز لِتَفْهَم ما مر حق الفهم،

فانظر إلى أولهن، وهي (الجماعة) التي علمت معناها وخصائصها، فقل أي

شيء يتم بدون الجماعة والاجتماع؟ ، دع ما قالت فيها الفلاسفة والحكماء؛ فإنه

دقيق يخفى على كثير من الناس، وألقِ عليها نظرة عامة ترى أن الغرض من

البيئات والأحزاب، والجمعيات والمنتديات، والمجالس، والمحافل، والبرلمان،

بل من الأمة، والوطن، والجيش (الجماعة والتزام الجماعة) أيمكن لأحدٍ أن

يستغني عن الجماعة؟ ، حتى إن أولئك الذين يعيشون في الغابات عراة متوحشين-

يضطرون إلى الاجتماع إذا أهمَّهم أمر، أو وقع فيهم شقاق؟ ، يجتمعون للبحث

في شئونهم، وإصلاح ذات بينهم، ولو تحت شجرة على التراب، فتلك (الجماعة) .

ولكن ماذا تُغني الجماعة إذا لم يوجد مَن يرأسها ويرشدها؟ ؛ ولذا إذا اجتمع

بضعة رجالٍ لأمر جامع بينهم تبادروا إلى انتخاب الرئيس، وقالوا: إذا لم يرأس

الجلسة أحد لا تكون قانونية ونظامية، وكذلك إذا أرادوا تنظيم جيش قسَّموه فِرَقًا من

ألف ومائة وعشرة، وجعلوا على كل منها رؤساء (أي تابعين لرئيس واحد وهو

القائد العام) وقالوا: بدون هذا لا يكون الجيش جيشًا، ولا يستطيع أن يعمل عملاً، فإذا كان قولهم هذا عن جماعة من عشرة أو خمسة، فماذا يقال عن أمة مكونة من

ألوف وملايين من الرجال والنساء، أفلا تحتاج إلى قائد يقودها، ورئيس يرأسها؟!

وهل نقدر على عمل اجتماعي بدون الأمير؟ ثم أي فائدة من الأمير إذا لم يُطَعْ؟

خذ لك أقرب مثال إليك وهو بيتك الذي تسكنه مع زوجتك وولدك - فإن عصت

الزوجة أمرك، وتنمَّر عليك أولادك، أفلا تغضب عليهم وتقول - والناس معك -:

هذا بيت لا يفلح أهله أبدًا؛ لأنه لا نظام فيه ولا راحة، بل هو مُبتلًى بحرب

أهلية! وهل هذا الذي تقول غير (الجماعة والسمع والطاعة) ؟ فكما أن هذا

البيت لا يفلح كذلك لا تفلح الأمة التي لا جماعة فيها ولا سمع ولا طاعة.

وأما (الهجرة) فينفر منها كثير من الناس؛ لأنهم يحسبونها من بقايا ذلك

العهد الذي كان فيه الإنسان في جهل، ووحشية، وهمجية ومصابًا بالجنون الديني،

فكان يهلك نفسه، ويقتل عواطفه، ويترك راحته لأجل الدين، ولكنهم ينسون أن

ما يفرون منه تدعو إليه البشر مدنيتهم أيضًا، وإنك قد علمت معنى (الهجرة) ،

وهو أن يُؤْثِر الإنسان المقاصد العليا الدنيا، وإن اضطر في هذه السبيل إلى

هجران أهله، وماله، ووطنه، وأمته، ومَلَاذِّهِ هجرها فرحًا مطمئنًّا، فقل أي

نجاح يصادفه الإنسان في العلم والعمل إن لم يكن صدره مملوءًا بهذه العاطفة العالية؟

وما هذا التقدم المدني والعلمي، وما هذه الاختراعات العجيبة والاكتشافات

المدهشة، والأموال الكثيرة، والتجارة الواسعة، والمستعمرات العظيمة، ووسائل

المعيشة المتنوعة، ورقي البلاد، وعلو الأمم، وسعة المدنية؟ أليست نتائج

(الهجرة) وثمراتها؟ وذلك لأن الإنسان - أفراده وجماعاته - لو لم يؤثر المقاصد

العالية والعزائم الكبيرة على راحته وأهله ووطنه ولم يهجر كل شيء في سبيلها -

لما رأينا اليوم ما نراه في الدنيا، بل لرأينا الجهل مقام العلم، والوحشية مقام المدنية،

والخراب مقام العمران، وما قولك في علم الطب وتقويم البلدان وعلم الحياة

الإنساني؟ أكان يمكن أن تصل هذه العلوم إلى ما وصلت إليه لو لم يهاجر كثير من

البشر في سبيلها لأجل معرفة تفاصيلها واستقراء جزئياتها؟ ، لو لم يهاجر

كولمبوس لما علمنا عن نصف الدنيا شيئًا، ولو لم يهاجر الغربيون لما شاهدنا في

واشنطون، ونيويورك المباني الفخمة والقصور العالية، ولو لم تهاجر الأمم

الأوربية لما أصبحت أغنى الأمم، عجبًا! ، إذ رأوا المهاجرين زرافات ووحدانًا

يقصدون إلى منطقة القطب الشمالي قالوا: هؤلاء عظماء الرجال حقًّا، كمل العلم

فيهم، وحلت الوطنية الصادقة في قلوبهم، ثم إذا علموا أنهم هلكوا على بكرة أبيهم

دون أن ينالوا بغيتهم - أقاموا عليهم المآتم ورثَوْهم، وبكوا عليهم وقالوا: مات

النجباء! ، ولكن إذا سمعوا الشريعة الإلهية تسمي مثل هذا العمل (بالهجرة) ،

وتدعو الناس إليه - نفروا منه، وأنكروا واسودت وجوههم - تراهم يمجدون أولئك

الرجال الذين هجروا أوطانهم لكشف منبع النيل وهلكوا في مجاهيل إفريقية، ولكن

إذا علموا برجال هاجروا في سبيل الحق، وإعلاء كلمة الله - ذمّوهم أشد الذم،

وسموهم (مجانين وهمجًا) ! ، ثم إذا رأوا نيوتن يهجر نومه، ويسهر الليالي

الطويلة ليحقق (ناموس الشغل) أعظموه، وسموه بأسماء كريمة، ولكن إن رأوا

رجلاً يُجهد نفسه مثل نيوتن - لا لناموس الشغل - بل لناموس نجاة العالم،

وسعادته، وهدايته أنكروا عليه عمله وعدّوه من الوحوش! ، فما هذا الجنون؟

وما هذا التناقض يا تُرى؟ !

نرى اليوم الأمم الغربية تعتقد أن فَلاحها وحياتها في الاستعمار (كانونيل

سستم) وتتصادم وتتناطح، ويهلك بعضها بعضًا؛ لأجل المستعمرات، ولكن ما

الاستعمار؟ أليس الغرض منه ترك الوطن والهجرة من أرض إلى أخرى

وتعميرها، واستحصال الثروة منها، وتكثير غنى الأمة بها؟ فما رأيك بعد هذا؟

أليست الدنيا كلها متمسكة بنظام (الجماعة والسمع والطاعة والهجرة) ؟ نعم،

هي متمسكة بها إلا أنها لا تسميها بأسمائها الإسلامية!

وأما (الجهاد) فما أكثر استفظاع بعض الناس له، وما أشد إنكارهم عليه! ،

إذا سمعوه جعلوا أصابعهم في آذانهم، واضطربوا منه اضطرابًا شديدًا، وقالوا

الإسلام يستحل الدماء البريئة، ويدعو البشر إلى القساوة والبربرية، والمجزرة

الإنسانية، فهو دينُ وحشيةٍ وهمجيةٍ، ولكن ما أشد استماعهم لقول دارون، ورسل،

وويلس: (إن من الحقائق الثابتة ناموس تنازع البقاء، وناموس انتخاب الطبيعة،

وناموس بقاء الأصلح) ، فإذا سمعوا هذه الكلمات أصغوا إليها هادئين، ساكنين،

وآمنوا بها مصدقين، موقنين، ولم ينزعجوا من هذه النواميس القتَّالة، والداعية

إلى سفك الدماء، بل قالوا: إنها كلها حق، ومؤيدة بالبراهين القوية، والمشاهد

العينية؛ لأنَّا نرى الحياة كلها عراكًا ومزاحمةً، الإنسان وما دونه من الأحياء - كله

يزاحم معارضه في الحياة، ويدافع غيره، ويُهلكه ويحل محله، وهذا طبيعي، ولا

بقاء لحي بدونه! ، ثم إذا أخبرهم بأن النواميس التي يخضع لها سائر الموجودات

يخضع لها الجنس البشري، وأن الأمة التي تُثبت أنها أصلح للقيام بالحق والهداية-

تعيش وتحيا، والأمة الفاسدة وغير الصالحة تهلك وتفنى! وتحل محلها الأولى

{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) - لم يقبلوا هذا، وتولوا عنه مدبرين!

ولو رجعوا إلى رشدهم لضحكوا على أنفسهم؛ إذ الذي يردونه باسم (الجهاد)[4]

يقبلونه بأسماء أخرى ناقصة الدلالة على مسماها! ، والله يهدي مَن يشاء إلى

سواء السبيل!

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: وظاهر أن هذا الاتِّباع يتقيد به الإمام كالمأموم بنصوص الشرع، فمشيئته فيه لإقامة المأمومين وأفعالهم ليست مطلقة، فإذا خرج عن الشرع فارقوه وأدبوه، وكذلك الإمام الأعظم وهو الخليفة، وقد أشار الكاتب إلى ذلك في الكلام على الطاعة.

(2)

المنار: الحق أن الخليفة مقيد في الإسلام بمشاورة أهل الحل والعقد، كما أنه مقيد بالشرع؛ فتفويضه ليس مطلقًا.

(3)

الهجرة الشرعية هي ترك دار الكفر إلى دار الإسلام، وكذا كل مكان لا يستطيع فيه أن يقيم دينه بحرية، وليس هو المعنى الشرعي الأصلي، ويحتجون له بحديث:(والمهاجر مَن هجر السوء) ، وهو وصف للمهاجر الكامل، كحديث:(المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده) ، فإن لم يهجر السوء لا يكون صادقًا في هجرة وطنه لأجل الحق الذي يُرضي الله تعالى، كما يؤخذ من حديث النية.

(4)

المنار: أوجز الكاتب واختصر في بيان هذه المسألة، وأسهب فيما عداها، وأطنب، صواب القول في الجهاد الإسلامي أنه:(بذل الجهد في حفظ الحق ودفع الباطل) ، لتقرير المصالح وإزالة المفاسد، وأما الجهاد العام - غير المقيد بهداية الإسلام - فهو: بذل الجهد من كل حي لحفظ حياته ومنافعه، شخصًا كان أو جماعة بالحق أو بالباطل، ولكن قصروا في بيان حقيقة الإسلام حتى لأهله، وأعداؤهم جدُّوا وشمروا في تصويره بضد حقيقته، فنفَّروا منه حتى الكثير من اللابسين للباسه.

ص: 282

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(3)

تشنيع الكاتب على جمال باشا بالآستانة:

وما وصلتُ إلى الآستانة حتى بدأت بشرح ما جرى في سورية من أفعال

الشدة والقسوة وإرهاف الحد، وذكرت ذلك في جميع المراكز بدون استثناء، ولا

يوجد تقريبًا واحد من كبار رجال الدولة القدماء أو الجدد إلا وهو يعلم أنني كنت

منتقدًا إدارةَ جمال في سورية مشددًا النكير على الدولة في إرخائها العِنان لهذا

الرجل إلى هذا الحد. ويصعب عليَّ الآن استقصاء شهودي على ذلك، سواء من

الفئة المعارضة للاتحاديين أو الفئة الموافقة لهم؛ فإن ذلك يطول جدًّا، وإنما أجتزئ

بالاستشهاد بجلالة السلطان وحيد الدين نفسه، الذي بقيت بين يديه أكثر من ساعتين

أبسط له ما حدث في سورية من الأمور، وأبيِّن له وجه الظلم والخطأ فيها، وكذلك

بولي عهد السلطنة الأمير عبد المجيد أفندي الذي تكلمت معه في هذا الشأن مرارًا،

وكان كل منهما يتنفَّس الصعداء، ويتأوه، ويعِد ببذل جهده بإصلاح الأمور، وإيتاء

العرب حقوقَهم، وإنصافهم من ظالميهم، وذلك عندما تضع الحرب أوزارها،

وينتصب الميزان، ويبدأ بالحساب. وبقيت في الآستانة من أوائل سنة 1917 إلى

نهاية الحرب، واستحضرت عائلتي إليها، وتحملت نفقات الغربة؛ حتى لا أعود

إلى سورية وجمال باشا فيها، مع أنني كنت أصرح أمام الجميع أنني من جهتي

الشخصية لا أقدر أن أشتكي منه بشيء، بل يجب عليَّ الشكر له لمزيد الرعاية

وبالغ العناية اللتين كنت أراهما منه نحوي، وإنما أشكو بطشه وعنفه وسفكه للدماء

وشدة استبداده، وما يعود بذلك من الضرر بالدولة وبالجامعة العثمانية.

ولما حضرت إلى ألمانيا أول مرة سنة 1917 سعيت بإقناع الألمان في طلب

صرفه عن سورية، وكان لهم بذلك يد، وأرسلوا الجنرال (فالنكنهاين) قائدًا

لفلسطين، وقطعوا علاقة جمال بالجيش المرابط فيها، وما زال نفوذ جمال يقل

ودائرة اختصاصه تضيق، إلى أن طلب هو الرجوع إلى الآستانة، وذلك قبل

دخول الإنكليز بقليل، ولما جاء إلى الآستانة، ووجد النكير عليه عامًّا - كان كمَن

استيقظ من منام، وتبدَّل مرارة الحقائق بحلاوة الأحلام، وربما تذكَّر ما كنت أنحله

إياه من النصيحة، وأنهاه به عن الشدة والبطش، ولا سيما عن القتل؛ لأنه غير

قابل التلافي، وما شعرت يومًا إلا وأحد أصحابي وأصحابه يتكلم معي في الذهاب

إلى نظارة البحرية للسلام على جمال باشا، ويلح جدًّا بذلك، فقلت: ليس بيننا

أدنى شيء يوجب النفور شخصيًّا، وإنما كان النفور منبعثًا عن اختلاف في الرأي،

وإنه كان يرى الشدة ضرورية لحفظ سلامة المملكة، وأنا كنت أرى الذي أتاه

معجِّلاً في تجزئتها، وذهبت، وسلمت عليه، وتصالحت معه، وعاتبني على

حملاتي عليه، وقال لي: إن رفقاءه كانوا يقولون له إن شكيب أرسلان بك هو

أيضًا في مقدمة الناقدين الناقمين، وهو ممن لا شك في صدقهم، وأنه هو كان

يجاوبهم: نعم إنه مخلص، ولكنه رقيق القلب، ويريد أخذ الأمور كلها بالعفو،

فدار بيني وبينه جدال طويل، أتذكر منه أنني قلت له: يا مولانا عندما أتيتم

بالزهراوي من باريز، وجعلتموه في مجلس الأعيان - كنت أنا منتقدًا هذا العمل،

ولكن بعد أن عفوتم عنه، ومضى على ذلك ثلاث سنين - تأخذونه من مجلس

الأعيان، وتشنقونه! ، هذا انتقدته أكثر؛ لأنه خطأ أعظم من الأول، ثم لا يكفي

شنق الزهراوي بتلك الصورة حتى يُنفَى إلى الأناضول والده البالغ من العمر نحو

90 سنة، فكيف تريد أن لا أنتقد هذه الأعمال، وقد دافع عن نفسه ببعض أجوبة لا

تخرج عن التدابير العسكرية التي يعملها كل قائد في أثناء الحرب، وأنا لا أنكر أن

جمالاً تصرف تصرف أي قائد أوربي أُودِع إليه أمر مستعمرة آسيوية أو إفريقية،

وليس في قواد فرنسا ولا إنكلترة كثير يقدرون أن يرموا جمالاً بحجر كما يقال، أو

أن يعيبوا مظالمه؛ لأنهم جميعًا تقريبًا يسلكون هذا المسلك، وأفظع منه، وهذا

تاريخ استعمارهم في الهند وفي مصر وفي الجزائر وفي تونس وفي الكونغو

إلخ أصدق شاهد على ما نقول، وفي الحرب العامة قد جرت من فريقَيْ الدول

المتحاربة كلما علت يد فريق على آخر من المناكير والموبقات وغرائب القسوة

والوحشية - ما يزيد على أعمال جمال، ولكن جمالاً تركي، عيبه ظاهر، ولا

يوجد له ساتر، وأما القائد الإنكليزي أو الفرنساوي فهذا مسموح له عند بعض أبناء

وطننا بأن يفعل ما يشاء، فلا يتعرض بذلك لانتقاد أحد منهم، ولو فات

الوحوش في أعماله؛ لأنه كما ورد في المثل العامي: (من بيت الفُرفُور ذنبه

مغفور) .

على أن وجه انتقادنا على جمال هو كوْن سورية ليست مستعمرة ولا الدولة

العثمانية هي دولة أوربية؛ فإن الدول المعهودة إذا قدمن عملاً بين يدي العار كان

لهن من القوة المادية ومن الثروة ومن البسطة ما يغطيه [1] ، وأما الدولة فليس

عندها من القوة ما يغطي عيوبها، ولو فازت ألمانيا وتركيا بهذه الحرب لما وجدت

أحدًا انتقد جمالاً من هؤلاء الذين يملئون الدنيا صخبًا عليه اليوم! ، بل يقحمون في

زمرته أناسًا أيديهم طاهرة من جميع ما عمله، ولكانوا اليوم ينوهون بمتانة جمال

وإقدامه وحزمه!

والناس من يلقَ خيرًا قائلون له

ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ

مسألة محاولة جعْل سورية تركية:

قال لي بديع بك المؤيد مبعوث الشام -عقب عودتي إلى الآستانة - إنه يوجد

قانون مراد الحكومة إلقاؤه إلى المجلس للمناقشة فيه وتصديقه، وهو يتضمن جواز

تبديل أملاك المبعدين بدون تعيين، وأنه بعد تصديق هذا القانون يمكن الحكومة

نزع أملاك المبعدين من سورية، وإعطاؤهم عوضًا عنها في الأناضول! ، وكان

شاع أن جمالاً ينوي هذه النية، وأنه أسس (قومسيون التهجير) لهذه الغاية،

وأخذوا بإحصاء أملاك المبعدين، فذهبت إلى نجم الدين بك ملا رئيس الشعبة

الخامسة في مجلس الأمة، وحكيت له القصة، فلم يعتقد أن المراد بهذا القانون

منفيو سورية، ولكنه أشار عليَّ بمذاكرة طلعت، ثم ذهبت إلى الحاج عادل بك

رئيس مجلس الأمة، فأشار عليَّ بمراجعة الحكومة، وصرفها عن هذا المشروع

قبل طرحه في المجلس، فصادف أنني مرضت بهاتيك الأمة [2] ، ولزمت

محلي، فجاءني سعد الله بك الملا مبعوث طرابلس، وأخبرني أن القانون عند

حامد بك مبعوث حلب وقد روجع في تأخيره إلى أن أكون شُفيت من وعكتي،

وذهبت إلى المجلس، فأبى، وإنه إن طرح القانون في المجلس خِيفَ تصديقه

بالأكثرية، فاضطُرِرْت أن أقوم من فراش مرضي، وأذهب إلى الباب العالي،

وكان طلعت تولى الصدارة جديدًا، فلما حكيت له القصة أجابني فورًا: هذا قانون لن

يذهب إلى المجلس أبدًا، كن مستريحًا، ثم سحبوه، وانطوت هذه المسألة، التي

كنت أنا السبب الوحيد في دفعها، كما يعلم كثير من الزملاء، وما كنت لأتعرض

لذكر هذه الخدمة ونشر مكنونات لم يكن في البال إظهارها خوف نسبة التبجُّح

لولا تشدُّق بعض الأعداء بما يتشدَّقون به من الافتراء والافتئات، وإذا أراد الله

نشر فضيلة طُويت أتاح لها ألسنة أمثالهم.

إعادة السوريين المَنفيين:

كذلك القرار الأول بإعادة مَنفيي سورية إلى أوطانهم حصلت عليه بواسطة

طلعت وخليل ونسيمي وجاويد، ولم يكن لي فيه شريك مطلقًا، وقدمت تقريرًا

بواسطة جاويد، أقول فيه إنه لا يوجد أدنى محذور من إعادة هؤلاء المنفيين إلى

سورية، وإنني أكفلهم بنفسي كفالة عامة، وأقدم عن كل شخص منهم بمفرده كفالة

خاصة من رجل مأمون، فرد جمال هذا القرار، وكان يومئذ لم يزل في سورية،

وكان انكسار الإنكليز عن فلسطين في واقعتي غزة الأوليين قد كسب جمالاً جمالاً

ورونقًا، فلم يريدوا أن يكسروا كلمته، وقد أنذرهم بالاستعفاء إذا أصر مجلس

النظار على هذا القرار، وذهب أنور بنفسه ثاني نوبة إلى سورية ومدحت شكري

ناموس جمعية الاتحاد والترقي، ولم يقدرا على إقناعه، فعادا بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغني

الخبر، فذهبت إلى طلعت، وقلت له: صح أن جمالاً لم يقبل قراركم فرجاني أن

أصبر عليه شهرين فقط، وأنه بعد ذلك ينفذه، ثم أخذ يأذن لأناس من المنفيين

بالتنقُّل من مكان إلى آخر، كلما راجعناه في قضية واحد أجاب الطلب.

كذلك أنور صار يتعاهد المنفيين بالإحسان والعطاء، وكانت سنين عسيرة أثناء

الحرب كما لا يخفى، فأضفت زيادات كثيرة على مرتبات قسم من المنفيين من

جبل لبنان كانوا بأسكي شهر وآخرين من المدينة المنورة، كانوا بكوتاهية وعشاق

وأزمير وغيرها، وكانت هذه العلاوات كلها من دائرة التشكيلات التي كانت تابعة

نظارة الحربية، وكنت في آخر كل شهر أطالب بها، وأرسلها، كما أنني كنت

أتردد دائمًا إلى لجنة المهاجرين في الباب العالي أستنجز دفع شهريات

المنفيين بأجمعهم، فكانت الدولة تنقدهم كل شهر 150 ألف ليرة، وكنت أقول

لرجال الدولة: ما سمعت أن دولة في الدنيا تشتري عداوة قسم من تبعتها بمائة

وخمسين ألف ليرة شهريًّا، اصرفوا هؤلاء الناس إلى أوطانهم يصيروا شاكرين

داعين لكم، وتوفّروا على خزانة الدولة أكثر من مليون ونصف مليون ليرة في

السنة، ولم يكن أحد يهتم بأمر المنفيين، ويخاطبهم سِوَاي؛ لأن الآخرين يخافون

مغبَّة العلاقة معهم، فكنت أقضي ليلي ونهاري في تحرير الأجوبة والبرقيات بقضاء

حاجاتهم، وكانت ترِد عليَّ منهم مئات من الرسائل ممن بأزمير ومغنيسية

وبروسة وبأليكسر وقره شهر وأسكي شهر وكوتاهية وعشاق وسيواس وتوقات

وكنغري وأدرنة. وما زلنا نكافح بلاءهم، ونخفف من مضض غربتهم، إلى أن

تحول جمال من سورية إلى الآستانة؛ فأخذ طلعت بتسريح المنفيين تدريجًا.

وحدث أن الحكومة احتاجت إلى أصواتنا (أي مبعوثي العرب) في مسألة

تتعلق بتحديد مدة الامتياز لشركة حصر الدخان، فاشترطت أنا والمرحوم فقيد الشام

محمد باشا العظم أن يطلقوا لنا سراح المنفيين لنعطيهم أصواتنا، وصرنا نعقد بعد

ذلك اجتماعات يحضرها جميع مبعوثي سورية، وفي إحدى الجلسات قرر

المبعوثون تفويض ثلاثة بمفاوضة الحكومة في شأن المنفيين، وهم المرحوم محمد

باشا العظم مبعوث الشام وأبو علي سلَاّم مبعوث بيروت، وهذا العاجز.

***

(4)

المجاعة في سورية أثناء الحرب

ومَنْ هم المسؤولون الحقيقيون عنها؟

لا جرم أن من أعظم حوادث هذه الحرب ونتائجها على الإنسانية هي المجاعة

التي عضَّت بأنيابها كثيرًا من الأمم، وأتلفت مئات ألوف، بل ملايين من النسم،

وكان لسورية منها نصيبٌ وافٍ لم يحدِّث التاريخ منذ قرون عديدة بأن سورية

أُصيبت بمثله. فقد وصل الأمر إلى أن بعض الناس أكلوا الميتة، وبعضهم فتكوا

بالأطفال، وطعموا من لحمهم، وبعضهم اختلط عقله، فذبح ابنته، وأكلها! ، كما

حصل لرجل من معلقة الدامور، ولما كان وقوع هذه المسغبة في أواخر دور الدولة

العثمانية بسورية كان بديهيًّا أن ينقم الناس أمر هذه المصيبة على هذه الدولة؛ لأن

الناس متى حلَّت بهم المصائب ينهالون بالقذف والطعن قبل كل شيء على حكومتهم

الحاضرة؛ ولأن سحر الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من الحلفاء كان لا يزال ماشيًا

إلى ذلك الوقت على السوريين، وكان لهم في البلاد سُعَاة يستثمرون جهالة العامة

وأغراض الخاصة في تحويل تبعة هذه الفادحة على الدولة العثمانية خاصة دون

سواها، ولما كان المصاب - كما يقال - يغيب عن الصواب كان السواد الأعظم

من المصابين ميَّالين إلى تصديق ذلك الحديث المفترى، ثم لما انتهت الحرب

بانتصار الحلفاء، وصار الناس في سورية يتزاحمون بالمناكب في مواكب إجلالهم،

ويتسابقون على جِيَاد القرائح في ميدان التزلُّف إليهم - كانت في مقدمة أسباب

الزلفى قضية هذه المجاعة، يذكرون أهوالها للحلفاء بكرةً وأصيلاً؛ ليُفْضوا منها

إلى التنظير بينهم وبين الأتراك بأن هؤلاء أماتوهم جوعًا قصدًا وعمدًا، وقطعوا

عنهم الميرة لإتلاف خضرائهم تصوُّرًا وتصميمًا، وأن الحلفاء جاؤوا بعد الفتح

والظفر فأغنوهم من فقر، وأسمنوهم من جوع، وآمنوهم من خوف، واندفعت

جرائد سورية - إلا ما ندر - تضرب على هذا الوتر، وانبرى كل مَنْ أراد إظهار

المودة للحلفاء يسرد قصص المصائب التي صبَّها الأتراك على نصارى لبنان؛

نظرًا لتعلُّقهم بفرنسا، وكيف أنهم جوَّعوهم، وأزهقوا من أرواحهم نحوًا من 200

ألف نسمة، كلها ذهبت في حب فرنسا، ولا عجب - فأوله سقم، وآخره قتل -

وأنه لولا حب هذه الفئة لفرنسا لكان الأتراك أشبعوها، ولم يهملوها؛ إذ كان الخير

والميرة فائضين لديهم، وإنما قتروا على اللبنانيين ليستأصلوهم، أو لينقصوا

عددهم نقصًا عظيمًا، يستريحون بعده من وجودهم. وبالاختصار فمائتا ألف

(شهيد) هذه كلها تكللت بالشهادة في حب فرنسا لا غير!

وقد سرت هذه الأوهام

إلى أناس من أنفس الأوربيين ولا سيما من الفرنسيس، حتى قرأت لهم في هذا

الموضوع كلامًا كثيرًا، وردد صداه مجلس البرلمان الفرنساوي. فاللبناني من هذه

الفئة كلما أراد أن يعتد بخدمة لقومه في هذه الحرب قال: ولقد أمات منا الأتراك

200 ألف نسمة أثناء الحرب من أجل استمساكنا بعروة الحلفاء ولا سيما فرنسا،

ولعدم انحرافنا عن سبيلها، والفرنساوي كلما أراد ادعاء حق في سورية، وحاول

تسويغ احتلاله إياها نادَى: ولنا نحن الفرنسيس هناك أصدقاء مرتبطون بنا منذ

أحقاب متطاولة، وطالما سِيموا الخسف والهوان من أجلنا، وتحملوا الانتقام

والاضطهاد، وناهيك أنه في أثناء هذه الحرب قد أهلك منهم الأتراك مائتي ألف

جوعًا من أجل محبتهم لفرنسا!

وهكذا تتواتر هذه الكلمات، وَتَتَكَرَّرُ وتُعاد وتصقل وتخمس وتشطر، وكلما

جرى ذِكر الحرب العامة، وما أصاب السوريين فيها كانت هذه الدعوى، ويسمونها

(التجويع) أول ما يستفتح به الخطاب، ويعتد به من المنن على الحلفاء، حتى إن

كثيرين ممن لا يحبون فرنسا ولا إنكلترا إذا طالبوهما بتحرير سورية وتركها لأهلها

وذكروا سابقة السوريين في خدمتهما ومناصحتهم للحلفاء في الحرب العامة - جعلوا

من جملة هذه الخدمات الجلى والمناصحات المثلى هذا (التجويع) الذي أجراه

الأتراك على سورية انتقامًا من أهلها.

ولقد آن لكل إنسان يحترم نفسه ويحاسب وجدانه، ولا يرضى أن يكون ذليلاً

للباطل وهو يعلمه، ولا أن يقارّ على البهتان وهو يشهده - أن يثور في وجه هذه

الأكذوبة التي طال أمرها، وتمادى أجلها، ويعصي سلطة هذه الأغراض مهما كان

وراءها من دول وملل، وسيف وقلم، فإن القليل بالحق كثير، وإن العزيز مع

الباطل ذليل، وإن الحق أولى أن يُتَّبع، ولو انهزم أتباعه، وإن الضلال لأجدرُ

بأن يُتنكَّب، ولو انتصر أشياعه، ولا سيما وإن صولة الباطل ساعة، وجولة الحق

إلى قيام الساعة، فإلى متى نداهن الحلفاء بأن الأتراك هم الذين أماتونا، وأنهم هم

الذين أحيونا، ونتبصبص إليهم بقولنا إن الأتراك كان بوسعهم أن يميرونا، لولا

تعمُّدهم تنقيص أعدادنا، وتقليل سوادنا، وإنهم إنما أماتونا على بيّنة، وأهلكونا،

وهم قادرون على استحيائنا، كل ذلك من أجل محبتنا لفرنسا وإنكلترا، والله لقد

أصبحنا أُمثولة في العالمين، وأضحوكة في الأولين والآخرين، وجعلنا لسورية في

التذلُّل والتملُّق تاريخًا، تضرب به أمثال المتمثِّلين، فكفانا - يا قوم - حربًا

لضمائرنا، ومكابرة لحواسنا، إنه ليس المقصود هنا الدفاع عن الترك الذين خسروا

من الأمور ما هو أهم من عطفنا ومودَّتنا، وأصبح لا يهمهم حبنا لهم، أو كرهنا

إياهم، وإنما المقصود هو تقرير حقيقة، وتحرير واقع، وإبطال نغمة ملَّتها

الأسماع، وعافتها الطباع، لا سيما مع شدة إعراقها في الباطل، ومحض صدورها

عن الهوى، فإن المجاعة أثناء الحرب كانت عامة شاملة طامَّة غير خاصة محلاًّ

دون آخر، وإنما كانت شدَّتها على درجات متفارقة، وذلك على مقدار تحمُّل البلدان

وقابليتها، وقد عمت السلطنة العثمانية بأجمعها شرقيها وغربيها، وشماليها

وجنوبيها، فلم ينجُ من مخلبها مكان، ولا سلم سكان، إلا أنه مما لا مِرية فيه أن

السهول والبقاع التي تكثر فيها البسائط لزرع الحبوب - كانت أوفر تحملاً، وأقل

بلاءً من الجبال والبقاع القاحلة التي هي عيال على البحر من جهة، وعلى السهل

من جهة أخرى لأجل ميرتها؛ لذلك لا يمكن أن يتصور العقل أن بلدة من الشام أو

حلب مثلاً تجوع بقدر جبل لبنان الذي كان ما ينبت من الحبوب يكفي أهله شهرين

من السنة فقط، ويضطر لمؤونة العشرة الأشهر الباقية إلى الجلب من البحر، أو

من داخل البلاد، أما البحر فإن دول الحلفاء قد سدت أبوابه على الأهالي سدًّا مُحكمًا،

فلم تسمح حتى للإعانات الخيرية أن تدخل إلى سورية، لا يقدر أن يكابر في ذلك

أحد. وأما الداخل فإن الحبوب التي عاش منها أهل بيروت ولبنان وسكان

السواحل عمومًا أثناء الحرب كانت ترد منه وحده، وإن قيل إنه لم يرد من الداخل

إلا القليل؛ ولذلك مات ألوف من أهل السواحل جوعًا، فالجواب: مَن قال لكم إن

الداخل لم يشتد به الغلاء، ولم يخف أهله من الموت جوعًا! ، وأي عقل يصدق أن

أهل الداخل يسمحون بحبوبهم أن تُرسَل إلى السواحل وبغلالهم أن تؤخذ من بين

أيديهم، ويكونون هم أنفسهم تحت خطر المجاعة، فقد عالجنا هذه المسألة جيدًا،

وتعاركنا مع أهل الشام وحماة وحلب مرارًا أثناء الحرب؛ لأجل المقدار الذي

نحتاجه من الحبوب من بلادهم، وكانوا دائمًا يعارضون أشد المعارضة في فتح

الباب على مصراعيه، وبعد اللتيا والتي يسمحون بشاحنتين من الحبوب يوميًّا،

ويرون ذلك كثيرًا، وكم مرة أصدرت الحكومة التركية الأوامر المشددة المؤكدة

بشحن كذا وكذا من الحنطة إلى بيروت ولبنان، وكان مجلس إدارة الشام ومجلس

إدارة حلب يملآن الدنيا صراخًا بكوْن بلادهما لا تتحمَّلان إخراج هذه الكميات منها،

وإنهم لا يرضون أن يجوعوا هم لأجل أن يشبع أهل لبنان وبيروت والمثل يقول:

ابدأ بنفسك، ثم بأخيك، وكانوا يحتجون بأن البلاد الداخلية قد تلقَّت قسمًا عظيمًا

من سكان الجبل والسواحل، وآوتهم، وأطعمتهم، ولم تقصر في رِفدهم.

فنقول: إن مجالس الشام وحلب وحماة وحمص الإدارية التي هي مركبة من

أعيان البلاد من مسلمين ومسيحيين ويهود، هل كانوا يقصدون (التجويع) ،

وينوون به استئصال نصارى لبنان؟ وهل سكان السواحل كلهم نصارى؟ لا،

إن الإحصاء يثبت أن المسلمين في السواحل إذا اعتبرت كلها منضمَّة مع لبنان

يزيدون على النصارى في العدد [3]، أفنقول: إن مسلمي الداخل أرادوا إهلاك

مسلمي السواحل جوعًا؟ وقد يرد بأن أهالي حلب والشام وحماة وحمص لم يكونوا

بمانعين إخراجَ الحبوب، وإنما هم الأتراك الذين كانوا يضعون العوائق. والحقيقة

التي لا مرية فيها أن الأتراك كانوا يأمرون بإصدار الحبوب المرة تلو المرة،

وكانت المعارضة تقع من أهل تلك الولايات بحجة أن مواسمها لا تكفيها، وأن

أهلها أولى بها، فلا يموتون هم جوعًا لأجل شبع غيرهم، وهو كلام معقول لا

غبار عليه، وكم من مرة ذهب علي منيف بك متصرف لبنان بنفسه، وعزمي بك

والي بيروت بذاته وغيرهما إلى الشام وإلى حماة وإلى حلب، وأقاموا الأيام الطوال

يتنازعون مع المجالس الإدارية في تلك الجهات، فأحيانًا يظفرون بشيء، وأحيانًا

يعودون بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغ الأمر في الآخر أن صاروا يطوفون بأنفسهم على القرى

في تلك البلاد، ومعهم القوة العسكرية لأخذ ما يجدونه من الحنطة قسرًا، فكان

الفلاحون يطمرونها في الأرض، ويخفونها بكل وسيلة، وينكرون وجودها، وهذا

جمال باشا نفسه - على ما كان عليه من القسوة والغلظة - أصدر أوامر لا تعد ولا

تُحصى بإرسال المقادير اللازمة إلى لبنان، وتولى هو بنفسه إرسال كميات عظيمة

عدة مِرَار، ولكن تشديد الأوامر وصدورها - ولو ممن اشتهر بقطّ الرقاب - لا

يكفيان في إيجاد القمح من العدم، حينما المجاعة تكشر للجميع عن أنيابها، والموت

الأبيض واقف على الأبواب.

ومن جملة اعتراضات بعضهم قولهم: يا للعجب كيف أن سورية التي كانت

تمير أهلها - وتصدر منها حبوب إلى الخارج - تعجز فيما بعد عن ميرة أهلها،

ويموت منهم الألوف المؤلّفة جوعًا! ، وهذا الاعتراض يكاد يكون من السخف

بحيث لا يستحق الجواب، فإن الذين يقولون مثل هذا القول ينسَوْن الحرب الكبرى،

ويغفلون، أو يتغافلون عما كان من نتائجها في كل الدنيا لا في سورية فقط، ولقد

أعطت سورية وحدها خمسمائة ألف جندي إلى الدولة هم لُباب الأمة وقوتها،

وأصحاب الأيدي العاملة فيها، وأكثر الباقي كان من الشيوخ والنساء والأطفال،

وقد يقال: إن قسمًا كبيرًا من هؤلاء الخمسمائة ألف فرّوا من خدمة الأتراك،

والجواب أن الفارين كانوا يختبئون فلا يقدرون أن يظهروا، ولا أن يتعاطوا

الأشغال الزراعية فلا فائدة منهم، على أن الحرث والزرع لا يقومان بالأيدي العاملة

فقط، فلا يقال: ها قد حضر الزارع فحسب، فإن البلاد أعوزها البذر والبقر، وكل

ما به قوام الغلة لكون الحرب جرفت أكثر المواشي بما ساقت منها العسكرية لأجل

جرّ المدافع وحمل الأثقال؛ ولأجل أكل الجنود على مدة أربع سنوات، واستأصلت

حرب ترعة السويس وحدها 30 ألف جمل، كنت أراها بنفسي تموت بالعشرات

على الطريق، وأنا عائد من قلعة النخل إلى معان، مع المتطوعين الذين سرت بهم

إلى تلك الحملة، ولماذا نعني أنفسنا بسرد هذه الأسباب التي كل أهل سورية

يعرفونها، ويعرفون أنها هي السبب الأصلي في المجاعة، وأن الجوع عَمَّ البلاد

كلها، فالسهول التي مثل حوران وحمص وحماة وحلب والبقاع والغور ومرج

ابن عامر، كان الخَطْب فيها أيسر من الجبال التي كلبنان وجبل القدس، ومن

المدن التي كبيروت وصيدا

إلخ، ولا ننسَ أنه في سنة 1915 جاء جراد سد

الآفاق، وعمّ البلاد كلها، وأهلك الزرع والضرع، ولم يبقَ من بعد بذر كافٍ

للمستقبل، فكان من أقوى عوامل الجوع في السنين التي بعدها.

إذًا، فالجوع الذي أُصيبت به سورية لم يكن سببه سوء نية الأتراك كما

يقولون، بل سببه حالة الحرب العامة والحصر البحري، وذلك الجراد الذي لم

يسبق له مثيل، فامتصَّ خير البلاد من أول سنة، وأعثرها عثرة صعبت من بعدها

إقالتها، ولقد اشتد الغلاء في جميع القطر الشامي، حتى في دمشق الشام التي كانت

منذ وُجدت أزهى بلاد الله عيشًا، وأرخصها أسعارًا، ومات فيها وفي توابعها ألوف

من الجوع، ومن الأمراض التي قواها سوء الغذاء، ولكن ليس كما حصل في

الساحل؛ لأن درجات الشدة كانت بحسب درجات قابلية الأراضي لزرع الحبوب

كما قلنا، وقد بلغ ثمن رطل الحنطة في حوران، وهي أم الحنطة نحو 18 و 20

غرشًا ذهبًا، وذلك على البيادر، فماذا تقول في البلاد التي ليست تُقاس بحوران في

قليل ولا كثير.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: نسي الكاتب هنا الإفك وقلب الحقائق فيما تذيعه البرقيات والجرائد، فهذا لا يغطي مظالمهم فقط، بل يحيل السيئات حسنات، يمنُّون بها على المظلومين المقهورين.

(2)

كذا في الأصل، فهل هو محرف عن الآونة أم استعمل الكاتب الأمة بمعنى الحين، كما قال

بعضهم - في تفسير قوله تعالى -: [وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ](هود: 8)، وقوله:[وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ](يوسف: 45) ، والصواب عندنا في تفسيره ما جرى عليه البيضاوي من أنه بمعنى الطائفة من الزمن، فهو استعمال للأمة في غير الأحياء، فتفسيرها بالحين تفسير بالمعنى في الجملة لا لغوي، قال الراغب: وحقيقة ذلك - أي في الآية الأولى -: بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين اهـ، ولكن هذ الوجه لا يظهر في الآية الأخرى.

(3)

المنار: إن قرية القلمون في ساحل لبنان بقرب طرابلس الشام، وأهلها كلهم مسلمون، وأكثرهم شرفاء من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وروى لنا الثقات عمن رأى اسمها في دركنار الدولة بالباب العالي - أنها سُميت فيه بسيدة القرى والمزارع، ولقد مات ثلثا أهلها جوعًا، ووجد فيها مَن أكل الجيف، وامرأة أكلت من لحم أولادها، على أنهم كانوا - قبل شدة المجاعة - يفيضون على جيران قريتهم النصارى فضل قوتهم! .

ص: 290