الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرحلة الأوربية
(4)
أحمد عزت باشا العابد:
لما وصلنا إلى جنيف كان قد جاءها من باريس أحمد عزت باشا العابد من
كبار وجهاء وأغنياء سورية والذي كان الكاتب الثاني عند السلطان عبد الحميد،
فاجتمعنا به زائرين، ودعوناه إلى حضور المؤتمر، فاعتذر بأنه مضطر إلى السفر
إلى باريس لأعمال مالية يضره تأخيرها، وقال: إنه يشرح لنا رأيه فيما ينبغي أن
نطلبه من تخفيف وطأة الوصاية على سورية، وهو ما كان طلبه بنفسه من وزراء
فرنسة. فرددت عليه بأننا نحن طلاب استقلالٍ مطلقٍ من قيود الوصاية لا طلاب
وصاية خفيفة، وأكبر عار على السوريين أن يقبلوا الوصاية، أو يسكتوا عن
رفضها، ويقعدوا عن السعي لدرء نائبتها.
ثم قلت له سرًّا: إنني أعلم أنك تخاف الفرنسيس أن يضروك إذا اتحدت معنا،
وانتظمت في مؤتمرنا، ويمكنك أن تتلافى هذا الضرر بأن تمنَّ عليهم بأنك
حاولت أن تخدمهم بالتوسط بيننا وبينهم، وجعْل دخول المؤتمر وسيلة إلى ذلك،
ويمكنك أن تذكر ذلك لمَن تلقاه منهم في باريس، حتى الرئيس موسيو بريان،
فلعلهم يأذنون لك بالعودة إلى هنا، ومساعدتنا على هذه الخدمة الوطنية، وأنت
بمأمن من الضرر والاعتداء على أملاكك في الشام.
قال: وفي الباطن أكون مع مَن؟ قلت: أنت بالطبع منا ومعنا في خدمة
وطنك، وكُلٌّ يسلك طريقًا، والغاية واحدة، فأعجبه هذا الرأي فيما ظهر لي من
وجهه وقوله؛ إذ قال: إنه يجتهد أن يعود من باريس إذا تمكن من إتمام عمله قبل
انفضاض المؤتمر.
كان هذا الحديث في يوم السبت (20 أغسطس) ، وفي اليوم التالي زارنا
قبل ذهابه إلى المحطة للسفر إلى باريس، فأعدت الحديث معه في وجوب مساعدة
المؤتمر بنفسه وماله، وأتيته بدلائل وآيات، دينيات، وعقليات، وأدبيات، حتى
حلف لي بالطلاق بأنه سيجتهد في العودة إلينا! وإن أدري أيجتهد في إقناع
الحكومة الفرنسية، وإرضائها بذلك، أم في غير ذلك، وأما المساعدة المالية فقال:
إنه مستعد لها، ولكن مثل هذا العمل يجب أن يشترك فيه جميع أغنياء البلاد، ومَن
هو أكبر منهم كالملك حسين. قلت: نعم، إن ذلك واجب على الجميع، وعلى
الملك حسين، وأولاده الذين كانوا من أسباب وقوع البلاء في هذه البلاد، ولكن
تقصير بعض الناس فيما يجب عليهم لا يكون عذرًا لغيرهم، وعلى كل أحد أن
يطالب نفسه بالواجب قبل أن ينظر إلى غيره
…
وما أشبه هذا الكلام، الذي قابله
بالتسليم، والاستحسان، ثم سافر إلى باريس، ومنها إلى الآستانة لأجل تعاهد
أملاكه فيها، ومطالبة الدولة بصرف ما يستحقه من المعاش (التقاعد) على ما هي
عليه من الفقر، وما منيت به من المصائب، والنوائب، ومنها فقد البلاد العربية
كلها، على أن معظم ثروته العظيمة من خيرها وفضلها.
زيارة رئيس لجنة الوصايات في جمعية الأمم:
وفي أصيل يوم الأربعاء (24 أغسطس) زُرنا رئيس لجنة الوصايات
لجمعية الأمم موسيو (رابار) ، وهو من علماء سويسرة وأغنيائها، مستقل الفكر،
مهذب الأخلاق، وكان توفيق أفندي اليازجي أخذ لنا موعدًا منه بهذه الزيارة؛ لأنه
عرفه من قبل، وذهب معنا رفيقانا وهبي أفندي العيسى، ويوسف أفندي سالم،
وأما الأمير ميشيل، فكان قد خرج من جنيف لزيارة شقيقته في مصطافها. وبعد
التعارف دار الحديث بيني وبينه في مسألتنا، وكان المترجم بيننا زميلنا وهبي
أفندي العيسى، وشاركه في ذلك الرفيقان الآخران.
بدأت الكلام ببيان نظرية الرئيس ويلسون في مشروع جمعية الأمم التي
اقترحها، ومكيدة الدولتين الاستعماريتين وخداعهما له بإدخال مسألة الوصاية
(الانتداب) في عهدها؛ ليكون منفذًا لهما إلى ما تعاهدتا عليه من استعمار البلاد،
واقتسامها بينهما، وأن هذا منافٍ للغرض الأول منها، وهو السلم الدائم بحرية
الأقوام. ثم انتقلت من ذلك إلى سعي هاتين الدولتين إلى إبطال ثقة الشعوب
المعتدَى عليها، وغيرها بجمعية الأمم، وإقناعهم بأنها آلة في أيدي رجالهما، وأننا
مع ذلك لم نيأس من فائدتها ونفعها، ولا نجزم بأنه يسهل عليهما تسخير هذا العدد
العظيم من مندوبي الدول الكثيرة لتحقيق مطامع دولتين، لولا مطامعهما لما وقعت
أكثر الحروب في أوربة بجعْلهم استعبادهما للأقوام قانونيًّا مؤيدًا من العالم المدني
كله.
ثم انتقلتُ من هذه المقدمات إلى أن آمالنا في جمعية الأمم هي التي حملتنا
على المجيء إلى جنيف؛ لأجل بيان حقيقة الحال في سورية وفلسطين لها، ثم
شرحت له خلاصة تصرُّف الدولتين في سورية وفلسطين، وأنه من قبيل تصرف
المالك في ملكه، على أن وجودهما هنالك بحسب القانون الدولي احتلال مؤقت في
بلاد الأعداء لأجل حفظ النظام إلى أن يتم الصلح بينهما وبين الدولة صاحبة البلاد
(ولا حاجة إلى ذِكْر ما قيل هنا؛ لأنه مما أودع بعد في النداء الذي وضعه المؤتمر،
وقُدِّمَ للعُصبة) .
ومما سألني عنه موسيو رابار في أثناء الحديث: أرأيت إذا خرج الجيش
المحتل من بلادكم، وترك أمرها إليكم، أتقدرون على حفظ الأمن فيها، والقيام
بشئون الإدارة؟ ، قلت: نعم، وأستدل على قولي بالحق الواقع لا بدعاوي تحتمل
المناقشة، ذلك بأن الترك قد جلوا عن سورية، وتركوها لأهلها قبل وصول الحلفاء
إليها، ولم يبقَ فيها أحد من ضباطهم، ولا من رجال الإدارة والقضاء منهم، وقد
قام الأهالي السوريون بحفظ الأمن وسائر أعمال الحكومة عدة أيام، إلى أن احتلها
الجيش العربي المؤلف من السوريين وغيرهم، وكانت جُل الأعمال الإدارية في
أيديهم إلى أن شاركهم الجيشان البريطاني والفرنسي في احتلال البلاد، ولم يقع في
هذين العهدين خلل، ولا تعدٍّ على أحد، كما صار يقع كثيرًا بعد احتلال الحلفاء،
وذلك أن الحكومة كانت في عهد الترك بيد الأهالي، ولم يكن فيها إلا عدد قليل من
موظفيهم يوجد فيها من أهلها مَن هم مثلهم، وأرقى منهم كما يوجد في ولاياتهم من
موظفينا مثلهم، فقال: إن هذا شيء لم نكن نعرفه.. وبعد انتهاء الحديث شكرنا له
عنايته بسماع حديثنا، وحسن لقائه لنا، وودعنا - كما ودعناه - ببشاشة الإخلاص،
وكنا - كلما تلاقينا بعد ذلك - يسلم بعضنا على بعض سلام الأصدقاء.
المؤتمر السوري الفلسطيني:
لم نكد نلقي عصا التسيار في جنيف حتى بحثنا عن مكان لائق لنعقد فيه
المؤتمر الذي دعونا إليه، وجئنا هذا البلد لأجله، فاهتدينا إلى بهوٍ عظيمٍ في دار
كبيرة لبلدية المدينة معدة للاحتفالات، والمراقص، والمقاصف وغير ذلك من
الاجتماعات العامة، فطلبناه، فأُجيب طلبنا، وبادرنا إلى عقد الجلسة الأولى في
الموعد الذي ضربناه لعقده في الدعوة العامة إليه (27 أغسطس) ، ولكن لم نلبث
أن تلقينا برقية من تريستة بإمضاء (رياض الصلح) يُنْبِئ فيها بأنه سيصل إلينا
غدًا حاملاً وثائق التوكيل من بعض الأحزاب السورية لنفسه ولمندوبين آخرين،
وبرقية أخرى من الوفد العربي الفلسطيني المقيم بلندن، يُنْبِئُ فيها بأن شطر الوفد
قد سافر إلى جنيف لمشاركتنا في المؤتمر، وبقي الشطر الآخر في لندن لمتابعة
السعي في المسألة الفلسطينية من الوجهة البريطانية، وكنت قد كتبت إلى الأمير
شكيب أرسلان عقب وصولي إلى جنيف كتابًا إلى برلين أنبئه فيه بوصولنا،
وأسأله عن موعد مجيئه، وكان على علم بالمشروع، وبأنه من المختارين لحضوره،
فجاءني منه كتاب باستعداده للسفر، وموافاتنا على جناح الطائر (وبعد ذلك بأيام
جاءت برقية من طعان بك العماد - مندوب حزب الاستقلال العربي في الأرجنتين-
تنبئ بأنه قادم لحضور المؤتمر، وكان قد وصل إلى إيطالية) .
لأجل ذلك جعلنا الجلسة الأولى بالفعل جلسة تحضيرية، بحثنا فيها في النظام
الإداري التمهيدي للعمل، وقررنا انتظار الوفود الجائية، والنظر فيما تحمله من
أوراق اعتمادها، وانتدابها لحضور المؤتمر من قِبَل أحزابها، ثم تأليف المؤتمر من
جميع المندوبين المعتمدين، وجعل الجلسة الأولى للتعارف، فانتخاب الرئيس،
ونائب الرئيس، والكاتب العام (السكرتير) ومساعديه.
ثم لم تلبث الوفود أن حضرت في المواعيد التي أنبأت بها، وكان وفد
فلسطين مؤلَّفًا من الحاج توفيق حماد وأمين بك التميمي وشبلي أفندي الجمل،
ولما أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا علمنا أن وفدهم يرجح التفاؤل على التشاؤم في
قضيتهم، وأنه يرجو رجاءً قويًّا أن تكون فلسطين أسبق البلاد العربية إلى نيل
الاستقلال، وهذا خلاف ما أعتقد أو نقيضه، وقد كثُر - بعد ذلك - البحث فيه.
استطراد في مكانة فلسطين عند الإنكليز:
ولما صرح لي بعضهم بذلك قلت: إنني أتمنى ذلك إلا أنه لا يعقل أن يقع إلا
بعد وقوع الإنكليز في هوة العجز؛ فإن الدولة البريطانية الطامعة في البلاد العربية
من مصر إلى منتهى ساحل خليج فارس تهتم بأرض البلاد المقدسة (فلسطين) ما
لا تهتم ببقعة أخرى من البلاد العربية لأسباب دينية، وأدبية، وتاريخية، ومالية،
وجغرافية وحربية؛ فإنها مهد المسيحية، وميدان الحروب الصليبية الإسلامية،
وحيث قهر ملكها ريكارد قلب الأسد في حربه مع السلطان صلاح الدين، وبها
استمالت إليها اليهود، وتمتَّعت بالملايين من أموالهم، واجتذبوا بسعيهم الولايات
المتحدة إلى إنقاذها من ألمانية وبكيدهم وقعت الثورة الاشتراكية في الأسطول
الألماني الذي كان مستعدًّا لتدمير الأسطول البريطاني، ثم في العمال الذين ألجئوا
الحكومة الألمانية إلى طلب الصلح، على حين كانت ظافرة في الحرب، وهي مع
ذلك متصلة بمصر وبالبحر الأحمر، فإذا كان لهذه البلاد كل هذه المزايا، وترى
بريطانية العظمى أنها قد فتحتها فتحًا، أخذت به ثأر قلب الأسد والصليب،
واستخدمت في فتحها من المسلمين المحاربين الهنود، ومن العمال المصريين في مد
السكك الحديدية، وأنابيب المياه وسائر الأعمال الحربية أضعاف مَن استخدمت من
البريطانيين المسيحيين، كما أنها استعانت على هذا الفتح بنفوذ شريف مكة وأولاده
وأنصارهم من الحجازيين، والعراقيين، والسوريين، وإذا كانت جميع الكنائس
البريطانية قد احتفلت بهذا الفتح الديني، وافتخرت به، وإذا كان وزير بريطانية
الأكبر قد صرح في مجلس أمتهم الأعظم - بأن هذا الفتح خاتمة الحروب الصليبية،
أي لا يُرجَى أن يكون بعده للمسلمين دولة قوية عزيزة تحارب في هذه البلاد، بل
ولا في غيرها، أرأيت مع هذا كله تسمح بريطانية العظمى مختارة بأن تكون هذه
البلاد مستقلة تابعة لدولة عربية ذات أكثرية إسلامية ساحقة، فتترك هذه المزايا
راغبة عنها، وتغضب النصرانية في بلادها وسائر أوربا وأمريكا، وتنفر اليهود،
وهي في أشد الحاجة إليهم في تعزيز ماليتها، والثقة بها! ، ولماذا تفعل هذا؟ ،
أَلِأَجْلِ فضيلة الوفاء للعرب؟ ، أم لأجل ما يعتمد عليه ملك الحجاز من (الحسيات
النجيبة البريطانية) ؟ !
الإنكليز أقدر مَن خلق الله من الإنس والجن على الخداع، فكيف وقد عززهم
فيه خداع اليهود وكيدهم، ومن العجيب أن قد فضحت عواقب هذه الحرب كيدهم
وخداعهم، ومع هذا نرى أجدر الناس بالحذر من هذا الخداع لا يزال الكثير منهم
مخدوعين!
ومن أساليب الخداع الإنكليزي الخفية ما سبق موقظ الشرق وحكيمه السيد
جمال الدين إلى بيانه منذ عشرات من السنين، إذ قال: لا يظلم الإنكليز قومًا إلا
ويقوم أفراد منهم يرفعون أصواتهم في الصحف، وعلى مقاعد مجلسي النواب
والأعيان باستنكار ذلك الظلم، وعذل حكومتهم عليه، ومطالبتهم إياها برفعه؛
لأجل أن تظل آمال المظلوم معلقة بهم، لا يطلب العدل والرحمة إلا من قبلهم،
ومن آفات هذه الخدعة أنها تصرف المظلومين عن مقاومة الظلم بما آتاهم الله من
القوى الذاتية، وبسائر الوسائل التي تهديهم إليها سنن الله في الاجتماع البشري،
وتدَعهم متَّكلين على خصمهم متوهمين أنهم يجدون من قومه عونًا لهم عليه،
ويحذرون أن يغضبوا ذلك العون الموهوم؛ لئلا يخسروا عطفه، وكل مقاومة
لحكومته لا بد أن تغضبه.
هذا ما كان من رأي السيد الحكيم في انتصار بعض رجال الإنكليز لمَن
تظلمهم حكومتهم، وهو واقع، ولكنه غير مطَّرد، وغرضه منه التحذير من
الانخداع، ولم يبق ذو بصيرة ينخدع بعهودهم ووعودهم الرسمية بعد ما أظهرت
عاقبة هذه الحرب من نكثهم وإخلافهم فيها، فكيف تنخدع بقول بعض الأفراد،
وكُتاب الصحف غير المسئولين، وإن قالوا ما قالوا لمخالفتهم للحكومة في الرأي،
أو انتصارًا لبعض الأحزاب على بعض؟ ! ، ولكن من الناس مَن [لا] تنفتح عين
بصيرته إلا بعد طول التجربة بنفسه، وقد أطلنا في هذا الاستطراد لشدة الحاجة إليه
في هذا الوقت، ولا نحسب إلا أن الوفد العربي الفلسطيني قد انتهى - أو ينتهي -
في جهاده في لندن إلى معرفة كُنه هذا الأمر، وأنه أفاد في إطلاع كثير من خواص
الشعب البريطاني على خطأ حكومته في المسألة الصهيونية.
اختلاف نظريتي الاتحاد السوري والوفد الفلسطيني:
دارت المذكرات بيننا وبين أعضاء الوفد الفلسطيني على مقاصد المؤتمر
وغايته واسمه، فذكَّرناهم بأن دعوة حزب الاتحاد السوري إلى عقد المؤتمر مبنية
على قواعده الأساسية في استقلال البلاد السورية، ووحدتها وشكل حكومتها، وأن
لا مندوحة عن تسميته بالمؤتمر السوري الأول، فقالوا: إن الدول قد فصلت بعض
مناطق البلاد من بعض، ووضعت لكل منها اسمًا، فإذا أُطلق اسم سورية الآن لا
تدخل فلسطين في مسماه، فنقترح أن يسمى (المؤتمر السوري الفلسطيني) ، بل
نشترط ذلك، فقَبِلنا بعد جدال طويل.
وقالوا: إن الوحدة السورية قد تتعارض مع الوحدة العربية التي يطلبها أهل
فلسطين، وإذا استقلت فلسطين دون سورية - أو قبلها كما ينتظر - فإن ارتباطها
بالوحدة السورية يكون ارتباطًا ببلاد غير مستقلة فينا في استقلالها، فلا بد إذًا من
طلب الوحدة العربية، أو طلب الاستقلال لكل من سورية وفلسطين على حِدَتها،
فعزَّ هذا الطلب على الأمير ميشيل لطف الله؛ لأنه رآه هادمًا لأساس حزب الاتحاد
السوري، فلم يقبله، فوقع الخلاف، وطال فيه الجدال، وكان الأمير شكيب في
مقام التوفيق والجمع بين الرأيين، وذكر في هذا المقام مسألة لبنان، وأن من أهله
مَن سبقوا الفلسطينيين في رفض الاتحاد مع سائر سورية، وكنت أنا حريصًا على
إرضاء كل من السوريين واللبنانيين، وجعْل المقصد الأهم جمْع كلمة الجميع على
الحرية، والاستقلال التام الناجز، وتفويض أمر الوحدة إلى الرأي العام في الشعب
بعد أن يصير أمره بيده، وأرى أن هذا ليس ناقضًا لأساس حزب الاتحاد السوري؛
لأن له أن يظل يسعى إلى إقناع الشعب برأيه في وجوب الوحدة، والشعب هو
صاحب الرأي الأخير في شكل حكومته، ووحدة البلاد وعدمها، وأن مطالب
الأحزاب والمؤتمرات لا تقيده بما لا يقتنع به.
وبعد طول البحث والمناقشة اتفقنا على الأساس الذي بنينا عليه أركان مطالب
المؤتمر التي وضعناها بعد ذلك في النداء الذي وجهناه إلى جمعية الأمم، ومنها
رفض الانتداب على كل من سورية، وفلسطين، ولبنان، وما يلزمه من إخراج
الجيوش المحتلة لها منها. وكنا نخشى أن يعارض الفلسطينيون في هذا، لا لأنهم
يقبلون الانتداب، ويرضَوْنه - حاشاهم الله من ذلك بصدق وطنيتهم، وإخلاص
عقيدتهم - وإنما قيل: إن من سياسة وفدهم في أوربة السكوت عن الانتداب،
والحملة على وعد بلفور بالوطن القومي لليهود؛ عسى أن يستميلوا إليهم كثيرًا من
البريطانيين الذين يكرهون أن يكون لليهود نفوذ ممتاز في مهد النصرانية، ولكن
موضع هذه السياسة لندن لا جنيف، وقد رضي أعضاء الوفد كلهم برفض الانتداب،
ولله الحمد.
أقول: (كلهم) تسجيلاً لهذه الفضيلة لكل فرد منهم؛ إذ من المعلوم المعهود أن
ما تقرره الجماعات بالبحث والتشاور لا يكون كله بإجماع منهم، بل بعضه يكون
باتفاق الرأي، وبعضه بترجيح رأي الأكثرين على الأقلين، وإن كان يُنسب إلى
الجميع؛ لأنهم بتضامنهم يُعَدون كالشخص الواحد، وههنا أقول: إن المطالب المدونة
في نداء المؤتمر الآتي كلها متفق عليها بين الأحزاب وأفرادها، وإنما كان الخلاف-
الذي هو ضروري في أمثال هذه المجامع - محصورًا في بعض المسائل الجزئية، أو
في العبارة التي تؤدَّى بها في لغتنا العربية، أو تُنقل بها إلى اللغة الفرنسية،
مثال ذلك في الجزئيات القول بأن لبنانًا كان مستقلاًّ منذ أربعة عشر قرنًا، هو قول
أُخذ من مذكرة زميلنا سليمان بك كنعان عضو مجلس إدارة لبنان، والموكل من قِبَل
ألوف من أهله، وأنا أول منكر لهذه الدعوى على التاريخ، ولكن الأكثرين رأوا
العضو اللبناني - الذي نعده ركنًا من الأركان - متمسكًا بهذه الدعوى، فوافقوه
عليها؛ لأنها لا تنقض شيئًا من مقاصدنا.
الجلسة الأولى للمؤتمر وانتخاب الرئيس:
بعد الاتفاق على أساس مقاصد المؤتمر واسمه عقدنا الجلسة الرسمية الأولى
(في 27 أغسطس) ، وكان في أول ما وُضع من برنامجها في الجلسة التمهيدية أو
التحضيرية انتخاب الرئيس ونائبين له
…
إلخ، وكنا قد تحدثنا قبل الجلسة في
مسألة الرياسة، واتفق المسلمون منا على انتخاب الأمير ميشيل لطف الله لعدة
أسباب:
(أهمها) : إثبات التكافل والتضامن الوطني بيننا في المسائل الوطنية العامة،
بحيث يتفق على ذلك جماعة منهم، يكبرونه في السن، منهم الأمير العريق في
مجد الإمارة التليد، المزيّن بمجد البراعة في السياسة والأدب الطريف - كالأمير
شكيب أرسلان - والوجيه الزعيم في وطنه بصفاته الذاتية، ومجد أسرته - كالحاج
توفيق بك حماد - وكذلك إحسان بك الجابري، ومكانته في أسرته من وجهاء حلب،
وفي شخصه ومناصبه معروفة، والعالم الديني ذو النسب النبوي كصاحب المنار.
ومنها أننا كلنا نعترف بأن الأمير ميشيل ليس له من المنافع في استقلال
سوريا مثل ما لنا ولأمثالنا، ممن لهم في البلاد أهل وأملاك وأوقاف، ولا عليه من
المضار في عدم استقلالها مثل الذي علينا وعلى أمثالنا، فكان فضله في إجهاد
النفس، وبذل الوقت، والمال في سبيل استقلالها أكبر من فضل غيره من الساعين
إلى ذلك، وناهيك بأكثر أغنياء البلاد الأشحَّة البخلاء الأنذال، الذين لا يعملون،
ولا يساعدون العاملين ببذل قليل من المال! .
هذا الاتفاق على الرياسة منعنا أن نجعل الانتخاب سريًّا بورق يُكتب، ولما
صرح بعضنا به وافق الآخرون بالإجماع، ثم اقترح بعضهم أن يكون كل من
صاحب المنار، والحاج توفيق بك حماد نائبي رئيس، والأمير شكيب الكاتب العام
(السكرتير) ، فوافق الأعضاء على ذلك بالإجماع، واختير توفيق أفندي اليازجي
مساعدًا للسكرتير، ثم وقف الرئيس، فشكر للأعضاء ثقتهم به، وانتخابهم إياه
بعبارة يزينها ما عُهد فيه من الأدب والتواضع، ثم انعقدت الجلسة، وانتُخِبت
اللجان للعمل، وتوالت بعدها الجلسات.
ولما كان المؤتمر قد قرر أن تدوَّن أعماله في كتاب خاص يُطبع، نكتفي بهذه
الخلاصة من خبر تكوينه، ونقفِّي عليها بنشر النداء الذي وضعه في عدة جلسات،
ووزَّعه على رئيس جميع الأمة وأعضائها، وأرسله إلى وزارات دولها، والدول
غير الممثلة فيها، وإلى جرائد سويسرة، وأشهر جرائد العالم؛ ليحفظ أثرًا تاريخيًّا
في مجلتنا، وهذا نصه:
نص النداء الذي قدمه المؤتمر إلى المجمع الثاني العام لجمعية الأمم:
جنيف في 21 سبتمبر 1921
إلى سعادة هـ. ا. فان كارنبك رئيس المجمع الثاني العام لجمعية الأمم
وإلى حضرات مندوبي الدول في هذا المجمع
يا حضرة الرئيس ويا حضرات الأعضاء
إننا نحن الموقعين أدناه - ممثلي الأحزاب، والفرق السياسية في سورية
ولبنان ومعتمدي أهالي فلسطين من المسلمين، والمسيحيين الناطقين بلسان أهالي
هذه البلاد - نتشرف بأن نلجأ إلى سلطة جمعيتكم العليا باسم المؤتمر السوري
الفلسطيني المنعقد الآن في جنيف في بسط الحالة السيئة التي آلت إليها أمتنا،
واستمداد معونتكم لها بجعْل حقوقها محترمة ومعترفًا بها.
نقرع باب جمعيتكم واثقين بالمبادئ التي كانت أساسًا لبناء جمعية الأمم،
والتي أنعشت في جميع القطار آمالاً مشروعة، ألا وهي احترام القوميات، وحق
الأمم في تقرير مصيرها، وإقامة العدل، ومراعاة الشرف في العلاقات الدولية،
ونبْذ سياسة الفتح، والدقة في رعاية العهود في الصلات المتبادلة بين الشعوب
المنظمة.
نلجأ إلى جمعيتكم عالِمين أنها بموجب الخصائص التي خوَّلها إياها عهد
جمعية الأمم الموقع عليه في فرسايل في 28 يونيو سنة 1919 مرجع لقضيتنا هذه،
ولها فيها حق النظر والحكم وفقًا لروح هذه العهد.
إن سورية وفلسطين ولبنان تسألكم بادئ ذي بدء الالتفات إليها، والاعتراف
بحقها في طلب الاستقلال التام المطلق بمقتضى القواعد العامة لحقوق الشعوب،
والعهود الخاصة المقطوعة لها في السنوات الأخيرة.
إن الحرب الطويلة التي وضعت أوزارها، وأنجبت جمعية الأمم كانت
صراعا بين فكرتين: فكرة القوة والغصب، وفكرة الحق والحرية، فالأمم التي
كانت تقاتل تحت لواء الحق وضعت مبدأ استقلال الشعوب في طليعة مقاصدها من
الحرب، وكان كُبَراء رجال الأمم المتحالفة يعلنون واحدًا بعد آخر - على منابر
مجالسهم النيابية - أن الحرب لن تؤدي إلى فتوحاتٍ جديدةٍ، أو إلى ضم أقطار
جديدة، وإنما يجب أن تسفر عن ظفر الحضارة واستقلال الشعوب.
ولقد سمع الشعب السوري هذه التصريحات؛ فتقبَّلها بثقة تامة، وخاصة ما
يضمن منها للشعوب الخاضعة للسلطة التركية السلامة التامة لحياتها، وحرية
الارتقاء بدون عائق (مواد الرئيس ولسون الأربع عشرة) .
فالشعب السوري المؤيَّد بهذه التصريحات يمتُّ إلى الأمم بتاريخ، ومقومات
تؤهله أن يطالب بالاستفادة من تلك التصريحات، وبالاعتراف بسيادته وفقًا
للمبادئ التي كان لها الفوز.
وإذا كان تعريف الأمة - هو كما قرر كثير من كبار المشترعين - (مجموع
أفراد من عنصر واحد ولغة واحدة وحضارة واحدة أُولي إرث تاريخي شامل عام
وشعور بإرادة تأليف جماعة سياسية واحدة) - فإن سورية إذًا أمة، وإذا كان تحديد
القومية هو الشعور بأخوَّة متينة، واشجة العروق، وحب متوارد لمسقط الرأس،
فالأمة السورية هي ذات شعور قومي.
إن وحدتي السلالة واللغة مؤكَّدتان بكوْن السحنة واحدة في جميع البلاد،
وبكون اللسان العربي لسان الجميع، والغرباء الذين في البلاد لا يتجاوزون واحدًا
في المائة، كما أن الحضارة العربية هي السائدة في البلاد، وهي أحد فروع شجرة
المدنية الذي كان - مع الفرعين اليوناني والروماني - أصل الهيئة الاجتماعية
الحاضرة، وسبب ازدهارها، ثم إنها لم تقف في سيرها؛ فالتعليم العربي منتشر
في جميع البلاد بعشرات من المدارس العليا، ومئات من المدارس الثانوية، وألوف
من المدارس الابتدائية، وهناك مدرستان جامعتان، و620 مدرسة مختلفة الدرجة
من مؤسسات الأجانب، تضم مجهوداتها إلى عمل المدارس الوطنية، وكان نحو
من مائة جريدة تصدر في أنحاء سورية إلى حين انفجار الحرب العامة، ويقدر عدد
القارئين والكاتبين في أكثر المقاطعات بستين في المائة، وأما الطبقة المستنيرة -من
أدباء وشعراء ومؤلفين، وحقوقيين، وأطباء، ومهندسين - فعدد رجالها عظيم،
وكثيرون منهم نالوا شهاداتهم من أوربة، ولهم في البلاد مركز رفيع، كما أن في
البلاد جمًّا غفيرًا من الضباط المتخرجين من مدارس الحربية في الآستانة وفي
أوروبا - قد أثبتوا كفاءتهم في تنظيم مصالح الأمن العام، ولما جلا الترك فجأة عن
البلاد قام أهالي سورية بمهمة تنظيم بلادهم المحررة، وتشكلت في الحال لجان
إدارية في كل ناحية، فوطدت أركان النظام والأمن العام، إلى أن احتلت جنود
الحلفاء البلاد، ولما أُلقيت - بعد ذلك - مقاليد الإدارة في المنطقة الداخلية إلى
حكومة وطنية كان الأمن والنظام فيها أثبت، وأتم منه في المناطق المحتلة، كما
شهد بذلك الأجانب الذين زاروا البلاد في تلك الأثناء.
إن تراث مجد السوريين المشترك لَغنِيّ عن الإشارة إليه، أية مدنية كانت
أبهى وأبهر من حضارة عصر عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وصلاح
الدين الأيوبي، وخلفائهم. ومَن ذا الذي لا يتذكر تألق أنوارها على سواحل بحر
الروم، ولا يشهد تأثيرها العالق بناصية الحمراء، وبقباب كنائس بلرم (صقلية)
إلى اليوم، ولا يمكن إنكار ما في شعبنا من الكفاءة السياسية، والإدراك السياسي،
حتى إن حياتنا الإقليمية وتقاليدنا المحلية ظلت باقية لنا في عهد الحكم التركي نفسه.
وفي سنة 1908 أُعلن الانتخاب العام (في السلطنة العثمانية) ، فتمتع
السوريون بجميع حقوقه، فكان عدد نواب العرب في الندوة العثمانية يتجاوز ثلث
أعضائها، وكان لهم دور مهم في جلساتها وفي لجانها، وكانت سورية قبل الحرب
تقوم بنفقات إدارتها، بل كانت الضرائب التي تدفعها تزيد عنها، فتفيض على
ميزانية السلطنة العامة.
إن شعور سورية القومي لم يزل ينمو منذ أوائل هذا العصر، وكانت الدعوة
إليه تُبَثُّ بنشاط من قِبَل الصحف، والجمعيات الوطنية، وقد جاد فريق كبير من
كبراء البلاد بأرواحهم على مشانق الترك تكفيرًا عن جرم التفكر في استقلال وطنهم.
وإن القومية السورية متجلِّية فيما وراء الحدود والبحار أيضًا، فهناك جاليات
سورية عديدة منتشرة في جميع القارات، ولا سيما في العالم الجديد، ولها صحفها
وجمعياتها وأنديتها.
وعند نشوب الحرب أعلن الملك حسين الأول استقلال العرب بالاتفاق مع
معظم الجمعيات السياسية في سورية، ومنذ سنة 1916 قامت القوات العربية
بمساعدة الإنكليز على هدم السلطنة التركية! ! !
وكان المقاتلة من العرب واثقين بأنهم يسعون لاستقلالهم؛ لأن الحلفاء كانوا
يعلنون أنهم يكافحون دفاعًا عن حقوق الشعوب، ولم تكن آمال هؤلاء المقاتلة مبنية
على تصريحات رجال السياسة فقط، بل على الوعود الصريحة التي قطعها للملك
حسينٍ السر هنري مكماهون العميد البريطاني في مصر باسم إنكلترة، إحدى دول
الحلفاء سنة 1915، وقد ضمنت هذه الوعود الاعتراف باستقلال بلادنا، فكل تلك
الوعود والدماء التي أُهرقت في سبيل الغاية المشتركة كانت تعزز الآمال بإنشاء
دولة سورية قائمة على النظام والحرية والسلام.
ولكن لم يتم لسوء الحظ شيء مما كنا نؤمله، حتى إن لبنانًا - الذي كان
يتمتع باستقلال ذاتي تام تضمنه الدول العظام - قد سُلب منه استقلاله؛ فطفق
الشعب السوري ينظر إلى ماضيه، والخيبة ملء فؤاده!
ولم تمر بضعة شهور على اليوم الذي ضمن فيه السر هنري مكماهون للعرب
استقلالهم السياسي، حتى عُقد اتفاق سري بين مسيو جورج بيكو المندوب الفرنسي،
والسر مارك سايكس ممثل الحكومة البريطانية، ظل أصحابه ينكرونه على ما
كان من تثبيته في 9 مايو سنة 1916 برسائل تُبودِلت بين مسيو بول كامبون
والسير إدوارد غراي، هذا الاتفاق قضى على وحدة سورية وشطرها إلى منطقتي
نفوذ، إحداهما فرنسية والأخرى إنكليزية، وهو يسلب الحكومة العربية حريتها
الاقتصادية؛ بما أعطى للدولتين المتعاقدتين من حق الأولوية في المشروعات،
والقروض، والسكك الحديدية، وشرع لأهم مناطق الساحل إدارات فرنسية
وإنكليزية، تتولى الأمور مباشرة، أو بشكل حماية حقيقية على الأقل.
وفي 2 نوفمبر سنة 1917 صدر تصريح من الحكومة البريطانية بوعد اليهود
في فلسطين بامتيازات لا تتفق مع حقوق أصحاب البلاد.
ثم إنه بعد التوقيع على معاهدة فرسايل وعهد جمعية الأمم في شهر سبتمبر
سنة 1919 - وقع التواطؤ بين المستر لويد جورج والمسيو كليمانصو على ما يؤيد
اتفاق سايكس - بيكو، وعلى قسمة سورية نهائيًّا إلى مناطق، غريب بعضها عن
بعض (انظر الملحق رقم 2) .
وإن الأمور التي جرت على أثر هذا الاتفاق، والتي سنأتي على ذكرها فيما
بعد قد حققت - وللأسف - كل المخاوف التي أحدثها هذا الاتفاق.
على أننا نريد أن نوجه نظركم - قبل كل شيء - إلى كوْن سورية التي هي
أمة حقيقية، وقد وُعدت بالاستقلال تستحق بأن تطالبكم بالاعتراف بسلطانها القومي
واستقلالها.
إن المادة الثامنة والعشرين من عهد جمعية الأمم تنص على: (أن بعض
الجماعات التي كانت من السلطنة العثمانية في ما سبق قد بلغت درجة من الارتقاء
يمكن أن يعترف معها موقتًا بكونها أمة مستقلة، على شرط أن تسترشد إدارتها
بنصائح ومساعدة تستمدها من دولة منتدبة، إلى أن تصير أهلاً للسير وحدها) !
فبهذا النص قد وضع بعض الجماعات تحت الانتداب، وأما الجماعات
الأخرى - كالحجاز وأرمينية مثلاً - فقد اعتُبرت بالغة درجة كافية من الارتقاء،
تُغنيها عن دولة منتدبة.
إلا أن سورية - أيها السادة - تقيم لكم الدليل على رشدها السياسي، وحقها
في السيادة تجنُّبًا للانتداب كأرمينية والحجاز، فهي بما أهرقته من دماء خيرة أبنائها،
وبمظاهر مدنيتها الموروثة خلفًا عن سلف، وبارتقاء تنظيماتها السياسية المحلية
والإيالية، وبانتشار تجارتها وصناعتها - قد أثبتت أنها أمة رشيدة، قد بلغت أشُدَّها،
وأهليتها للحرية، فنطلب منكم أن تعلنوا في جمعيتكم - بمقتضى الحق الذي لا
يمكن أن يماريكم فيه أحد - تحرير أمة حقيقية من انتداب لا فائدة منه.
***
(2)
نوجه إليكم هذه العريضة بأصدق عزيمةٍ، وأرسخ إيمان بأنكم سترون من
الوقائع التي نبسطها لكم ما يجعلكم تعرفون إلى أي حد قضى الانتداب - الذي
ينفذون حكمه فينا - على استقلالنا، وكيف أصبح يهوي بنا إلى دركة مستعمرة من
مستعمرات المنتدبين علينا.
جاء في الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين التي تعين حدود الانتداب
المختص بالجماعات العثمانية ما يأتي:
(1)
أن هذه الجماعات قد بلغت درجة من الارتقاء يصح معها الاعتراف
بكونها أمة مستقلة.
(2)
أن مهمة المنتدب قاصرة على المساعدة والنصح.
(3)
أن رغائب الجماعات يجب أن توضع أولاً موضع الاعتبار عند
اختيار الدولة المنتدبة.
وسترون - كما نرى - أن هذه القيود المعينة في الانتداب لم يُحترم شيء
منها، وأن استقلالنا ليس سوى لغو من القول.
لقد قسمت بلادنا إلى مناطق كما ذكر آنفًا عملاً بمعاهدة سايكس - بيكو المؤيدة
باتفاق لويد جورج، وكليمانسو في سنة 1919، فأخذ الإنكليز فلسطين، والساحل
الفلسطيني، وأخذ الفرنسيس ساحل سورية الشمالية، واحتفظ الأمير فيصل
بالمنطقة الداخلية؛ فأسفرت هذه الوقائع عن إحراج صدور الأهلين، والْتَأَمَ في
دمشق مؤتمر سوري عام في شكل مجلس مؤسس، يتألف من مندوبين انتخبوا من
المناطق الثلاث، وقد عَقَدَ هذا المؤتمر برغبة الرأي العام الشديدة جلسة عامة،
وأعلن بالاتفاق مع الزعماء السياسيين، والرؤساء الروحيين من جميع الملل
والنِّحَل - في 8 مارس سنة 1920 - استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية
أي مع فلسطين، ولبنان، ونادى بالأمير فيصل ملكًا دستوريًّا على البلاد،
وانصرف إلى سنّ القوانين، وتنظيم الحكومة الوطنية التي كان لديها ممثلون
للحكومات الأجنبية، على أن هذه السيادة على المنطقة الداخلية ما لبثت أن
انتُزِعت في صيف سنة 1920 كما تعلمون.
بعث الجنرال غورو بإنذار نهائي إلى الملك فيصل في 14 يوليه سنة
1920، طلب منه فيه حل جيشه، وقبول سلطته بلا قيد، ولا شرط، فلرغبة
الملك في اجتناب سفك الدماء قَبِل شروط الإنذار على شدة المعارضة من المؤتمر
والشعب، ولكن الجنرال غورو انتحل لنفسه حجة تافهة للزحف بجيوشه على
دمشق، واحتلالها، ففعل، ولم يلبث أن عقد محاكم عسكرية حكمت حكمًا غيابيًّا
بالإعدام على ستة وثلاثين شخصًا من الوطنيين بدعوى التواطؤ مع العدو، وفرض
على البلد غرامة حربية تُدفع ذهبًا، وطفق يتصرف في البلاد - بعد ذلك -
تصرف الفاتح.
وفي 10 يوليه سنة 1920 اعتقلت السلطة العسكرية الفرنسية أعضاء مجلس
لبنان الإداري المنتخب من الشعب اللبناني، ودفعتهم إلى مجلس حربي فرنساوي،
حكم عليهم بالنفي بسبب قرار أصدره ذلك المجلس اللبناني في 9 يوليه سنة 1920،
طلب فيه المحافظة على استقلال لبنان، وحياده العسكري، وضمان الدول له،
وعلاوة على ذلك أصدرت السلطة الفرنسية أمرها بإلغاء هذا المجلس؛ فقضت بذلك
على نظام التمثيل النيابي في جبل لبنان.
وقد قُسم الشعب السوري الآن إلى قسمين تحت سلطة سيدين مختلفين، تتولاه
إدارة عسكرية أشد وطأة من أية إدارة في أي بلاد مغلوبة في الحرب، وقد زال كل
ما كان يتمتع به الأهلون من الحرية في الولايات والألوية في زمن الترك.
مُنع العلم السوري، ورُفع على الأبنية الرسمية علم وضعته السلطة الفرنسية
لكل من الدول التي أحدثتها، ونقشت فيه العلم المثلث الألوان، ورفع العلم
البريطاني في فلسطين، واشتدت وطأة القسوة والإرهاب عقابًا على أبسط الأحداث،
وترون في الملحقات المربوطة بهذا مثالاً من المعاملات الجائرة التي يُعامَل بها
أهالي بلادنا.
يُخيَّل إلى الإنسان أنه في حُلم عندما يسمع الجنرال غورو يصرح بأنه يوطد
الوصاية بالدم، وعندما يرى ست قرى و17 مزرعة تُدمَّر بسبب اعتداء شخصي
(انظر الملحق الأول) .
وأما ما كان في الأمور التجارية والمالية فخيرات البلاد تُستنزف بدون وازع،
وثمة جيش من الموظفين يغلب في رجاله أنهم أقل كفاءة ودراية من سكان البلاد،
يسومون الأهالي أنواع الخسف (انظر الملحق الثالث) ، والمندوب السامي كحاكم
بأمره، بيده أوسع سلطة، والذي أرادوا القدوم إلى أوروبا من أهل وطننا - طلبًا
للعدل - حُرِموا حرية السفر.
نذكر لكم بمنتهى الحزن هذه الوقائع التي أنتجها إرخاء العِنَان لإدارة عسكرية
مطلقة اليد، ونغتنم هذه الفرصة لتوجيه نظر مندوبي الدولتين المحتلتين إليها.
إن لنا من عظيم الثقة بالشعبين الفرنسي والإنكليزي - اللذين دافعا عن حرية
الشعوب في اليونان، وإيطاليا، وبلجيكا، والبلقان - ما لا يجعل لنا سبيلاً إلى
الظن بأن الرأي العام فيهما لا يعطف علينا نفس ذلك العطف، عندما يقف على
الحقيقة.
نبسط هذه الوقائع لعصبة الأمم؛ فهي تُقترف باسمها، ولا شك أنكم تأبون -
أيها السادة المندوبون - أن يُستعبَد شعب بأَسْره باسم مقاصدكم السامية، وباسم
أوطانكم وباسم انتدابكم، العهد ناطق بأن مهمة المنتدب قاصرة على المساعدة
والمشورة، ولم يكن في التصور أن يدخل في معناه إكراه أمة مستقلة على الخضوع
لمثل نظام المفوضية السامية المطلقة في التصرف بسلطةٍ مماثلةٍ لسلطة حاكم في
مستعمرة.
إن أحد المؤلفين - المرتابين في عاقبة عملكم - قد عرَّف الانتداب في كتاب
حديث وضعه في حقوق الدول (مارسل موان - سراي - باريز 1921، صفحة
72) ، فقال: (هو مظهر من أخاديع السياسة الدولية يُقصَد به التلبيس في
الاستيلاء على مستعمرة مشتهاة) ! .
ولكن في نفوسنا من الاحترام لسمو الغاية - التي تتوخاها جمعية الأمم - ما
لا يفسح لنا مجالاً للاعتقاد بأنكم لا تفندون هذا التعريف المعيب، الذي طالما تشدَّق
به شر خصوم جمعية الأمم.
إن السلطة التي تستمدونها - من المواد 3 و 11 و 22 من عصبة الأمم -
تخولكم أن تأخذوا قضية بلادنا هذه في أيديكم، وتسيروا بها في سبيل الحق.
نتشرف بأن نلجأ إلى سلطتكم العليا؛ لنطلب منكم أن تجعلوا الدفاع عن حقوق
لبنان، واستقلاله تحت حمايتكم؛ فهو مهدد بنظام الوصايات المذكور في المادة
الثانية والعشرين من عهد جمعية الأمم، ومهدد أيضًا بالأسلوب الجائر الذي تفسر به
الدولة المنتدَبة نصوص الانتداب.
لقد كان لبنان - منذ 14 قرنًا - ذا وحدة سياسية مستقلة، متمتعًا بسيادته
التامة، وكانت الحكومة العثمانية كلما حاولت تحديد حقوقه تبوء بالفشل المبين.
ففي سنة 1842 جربت تركيا وضع عمر باشا مندوبًا ساميًا، فاضطر إلى
الرجوع بعد قدومه ببضعة أشهر، وهو الموظف الوحيد الذي رآه لبنان حتى سنة
1861.
وتجنُّبًا لانفراد إحدى الدول العظمى في التحكم في لبنان وضع المجمع
الأوربي الدولي سنة 1861 نظامًا أساسيًّا له، تقرر فيه مبدأ سيادته وحكمه الذاتي،
وهذا النظام مؤسَّس على النقط الآتية:
(أ) الاستقلال الإداري والاقتصادي.
(ب) الحياد السياسي.
(ج) ضمان الدول له.
(د) سيادة تركيا الاسمية.
ثم إن سيادة تركيا زالت بعد الحرب، فلم يبق بُدٌّ من أن تكون للبنان سيادته
التامة مؤسسة على المبادئ الثلاثة الأولى المذكورة آنفًا، ولكن لم يكن شيءٌ من
هذا القبيل ويا للأسف، إن استقلال لبنان قد خُرق باحتلال الجنود الفرنسية البلاد
احتلالاً عسكريًّا، وخرق بتحكم الإدارة الفرنسية في جميع شئون البلاد، وهذان
الخرقان من الأعمال القاضية على نظم لبنان الأساسية المحترمة من جميع الدول
إلى هذا العهد.
***
(3)
ثم إننا نوجه نظركم إلى إعطاء الحكومة البريطانية عهدًا لليهود في 2 نوفمبر
سنة 1917 بمنحهم وطنًا قوميًّا في فلسطين، وهذا العهد قد تكرر في المادة 95 من
معاهدة سيفر المعقودة في 10 أغسطس سنة 1921.
إن هذا العهد مخالف لحقوق الأمم، ولا يتفق مع الوعود التي نالها الشعب
العربي من السير هنري مكماهون المندوب البريطاني باسم الحلفاء.
كان الشعب السوري مستعدًّا دائما لمقابلة الأجانب بحسن الوفادة، ولكن لا
يجوز إكراه العرب أصحاب البلاد منذ أجيال على إعطاء اليهود وطنًا قوميًّا في
فلسطين (انظر الملحق الثالث) .
كان اليهود - قبل عشرين قرنًا - قد ملكوا بين غيرهم من الشعوب قِسمًا من
فلسطين، فمهما يكن قدر ما نالته الحضارة من اليهود فليس ثمَّت مشترع ضليع
يجرؤ على الادعاء أن تملُّكًا زال منذ عهد الإمبراطور تيطس يخول سلائل أصحابه
الأقدمين حقوقًا ضد الوطنيين أصحاب البلاد الشرعيين الآن، فإذا فُتح الباب لمثل
هذه الدعوى، فإلى أين المنتهى؟ ألا يجب عندئذ أن يسمح للعرب باسترجاع
الأندلس ولليونان باستعادة سيراقوسه المدينة اليونانية في عهد أرخميدس.
***
(4)
فالمؤتمر السوري الفلسطيني يطلب إذًا منكم - أيها الرئيس والأعضاء الكرام-
ما يأتي:
(1)
الاعتراف بالاستقلال، والسلطان القومي لسورية وللبنان ولفلسطين.
(2)
الاعتراف بحق هذه البلاد في أن تتَّحد معًا بحكومة مدنية مسئولة أمام
مجلس نيابي ينتخبه الشعب، وأن تتحد مع باقي البلاد العربية المستقلة في شكل
ولايات متحدة (فيدراسيون) .
(3)
إعلان إلغاء الانتداب حالاً.
(4)
جلاء الجنود الفرنسية والإنجليزية عن سورية ولبنان وفلسطين.
(5)
إلغاء تصريح بلفور المتعلق بوطن قومي لليهود في فلسطين.
فإذا لم يكن لدى عصبة الأمم الاستنارة الكافية، وأرادت أن توقن أن ما
بسطناه هو رغائب الشعب الحقيقية، فنحن نرجوها أن ترسل إلى سورية، ولبنان،
وفلسطين لجنة تحقيق ذات سلطة كافية؛ لتتمكن من إجراء تحقيق نزيه، وأن
يُعطَى أهالي سورية من جمعية الأمم ضمانًا بأن يكونوا آمنين من انتقام المحتلين،
واضطهادهم إذا أبدوا آراءهم بحرية، وذلك بأن تأمر بجلاء الجنود التي تضغط
على الأهالي، وتفضلوا - أيها السادة - الرئيس والأعضاء بقبول فائق احترامنا.
الأمير ميشيل لطف الله (رئيس)
…
رئيس اللجنة المركزية لحزب
…
...
…
...
…
الاتحاد السوري.
السيد رشيد رضا (نائب رئيس)
…
رئيس المؤتمر السوري العام في دمشق،
…
...
…
...
…
ونائب رئيس الاتحاد السوري ومندوبه
الحاج توفيق حماد (نائب رئيس)
…
مبعوث سابق - رئيس الجمعية
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الإسلامية المسيحية في نابلس (فلسطين) ،
…
...
…
...
…
...
…
... مندوب المؤتمرالفلسطيني الممثل للأهالي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المسلمين والمسيحيين.
الأمير شكيب أرسلان (سكرتير عام) مبعوث سورية سابقًا، مندوب حزب
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الاستقلال العربي.
سليمان كنعان
…
... (عضو) عضو مجلس لبنان الإداري.
إحسان الجابري (عضو) سكرتير سابق لسلطان تركية - رئيس
…
...
…
...
…
...
…
... سابق لبلدية حلب ولتشريفات البلاط السوري - مندوب
…
...
…
...
…
...
…
حزب الاستقلال العربي.
أمين التميمي
…
(عضو) في الوفد العربي الفلسطيني ومندوبه-
…
...
…
... مستشار رئيس الوزارة في دمشق سابقًا-مفتش
…
...
…
...
…
...
…
ملكي في السلطنة العثمانية سابقًا.
وهبة العيسى
…
...
…
(عضو) رئيس اللجنة الفلسطينية بمصر ومندوبها.
شبلي الجمل
…
...
…
(عضو) مندوب الوفد العربي الفلسطيني وسكرتيره
…
...
…
...
…
... وأحد أعضائه.
رياض الصلح
…
... (عضو) مندوب حزب الاستقلال العربي.
نجيب شقير
…
...
…
(عضو) مندوب حزب الاستقلال العربي.
صلاح عز الدين
…
... (عضو) مندوب الجمعية السورية الوطنية في
…
...
…
...
…
...
…
بوسطن.
طعان العماد
…
... (عضو) مندوب الحزب الوطني في الأرجنتين.
جورج يوسف سالم
…
... (عضو) مندوب حزب تحرير سورية في
…
...
…
...
…
...
…
نيويورك.
توفيق اليازجي
…
...
…
(عضو) مندوب حزب استقلال سورية ووحدتها
…
...
…
...
…
... في سانتياغو (شيلي) .
(المنار)
صرفنا النظر عن نشر ملحقات هذا النداء في الرحلة، وقد طُبعت معه على
حدة، ووُزِّعَتْ مجانًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
كوارث سورية في سنوات الحرب
من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي
مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان
(7)
ولنَعُدْ الآن إلى إكمال حديث المجاعة، لا يسعني أن أحصي المساعي التي
سعيناها لأجل جلْب الأقوات اللازمة من الداخل إلى لبنان والساحل، وفي هذا
المعنى لا بد أن تكون برقياتي أيضًا مسجلة في دفاتر التلغراف.
ثم لما جاء بطريرك الموارنة إلى صوفر للسلام على جمال باشا، وهذا أبدى
له مزيد الحفاوة، وكان معه المطران بولس عواد ورهط من أعوانه، تكلمت مع
جمال أمامهم بما يتهدد البلاد من الجوع، وكان الشيء على أوله، وكان كلامي
بصراحة تامة، فشكر لي البطريرك - فيما بعد - هذه الهمة كثيرًا، ثم إنني لما
رأيت علي منيف بك متصرف لبنان قد أسس في الجبل عدة ملاجئ لطعام الأولاد،
وهيأ لها لوازمها، وكانت كلها في كسروان والمتن - طلبت منه المساعدة في
تأسيس مثلها في الشوف، وأسست ملجأً في عين عنوب، وآخر في مغوايا بقرب
شرتون، وآخر في بريح، وجمعت لها جميع الثياب، والأغطية، والأكسية
اللازمة من بيوت أرباب الحمية من ذوي اليسار، وأجرى عليها المتصرف
الأرزاق الكافية من إدارة الإعاشة، وعاش بها مئات من الأحداث ممن لا ملجأ لهم،
وكان نحو 90 في المائة من الأولاد - الذين عاشوا في هذه الملاجئ - مسيحيين،
مع أن الألبسة والمفروشات جِيءَ بأكثرها من بيوت الدروز، ولكن لم نكن نشعر
بهذا الفرق أصلاً، ولا سيما أيام الحرب، ثم لما وجدنا الأمر اشتد عن ذي قبل،
وأنه لا مناص من شر هذه المسغبة إلا بالاتفاق مع الحلفاء على الإذن بتسريب
الإعانات من طريق البحر - راجعنا متصرف لبنان ووالي بيروت، وهما راجعا
الباب العالي، وجرت مساعٍ من الباب العالي؛ لكي يُغاث أهل سورية كما أُغيث
أهل بلجيكا، وغيرها بواسطة الحلفاء، فذهبت جميع مساعي الباب العالي سُدًى،
وإذا بأميركا قد أرسلت باخرة، وقيل باخرتين مشحونتين أقواتًا وألبسة بناءً على
إلحاح السوريين في أميركا، ووصلت هاتان إلى ميناء الإسكندرية، وذلك في
أواخر سنة 1916، وانعقدت الآمال بهما، لا بل نزلت أسعار الدقيق قليلاً في
بيروت بمجرد إشاعة وصولهما إلى ثغر الإسكندرية.
وتألَّفت في بيروت لجنة من مسلمين ومسيحيين؛ لأجل استقبال هذه الأرزاق،
وتوزيعها على المعوزين من جميع الطوائف، وبات الناس يرقبون وصولها،
والأعناق مُشرئبَّة، والعيون محدقة نحو البحر، وهذه الأرزاق لا تصل، وكان
مجلس النواب العثماني قد افتتح، وتأخرتُ عن ميعاد الافتتاح نحو شهر بسبب
اشتغالي بتأسيس الملاجئ، ثم ذهبت إلى الآستانة، فأول شيء عملته - وقبل أن
أرى أحدًا من رجال الدولة - هو أنني قابلت سفير الولايات المتحدة، وسألته عن
سبب تأخر هذه الأرزاق في الإسكندرية، فأجابني بكوْن حكومته تأبى تسليم هذه
الأرزاق إلا على شريطة توزيعها بمعرفة قنصل أميركا في بيروت، والحكومة
العثمانية تستنكف من ذلك، فصدقت كلامه، ولكنني قلت له: إن كان مرادكم عمل
الخير، وإجابة طلب السوريين الذين في أميركا - فلا يجوز أن تتوقفوا بعلل كهذه،
ثم ذهبت إلى طلعت باشا أعاتبه على مثل هذه التصعيبات، والعلات التي لا
طائل تحتها عند ما يكون الناس يموتون جوعًا، فأجابني: هذا طلب كنا طلبناه في
الأول، ثم بناءً على إلحاح سفارة أميركا رجعنا عنه، وها أنا ذا أفوِّض إليك أن
تتفق مع سفير أمريكا على الشرط الذي يريده، وأنا أنفذه، فذهبت إلى السفير،
وأخبرته بما جرى، فقال: إنه يريد مكاتبة بذلك من نظارة الخارجية، فذهبت إلى
أحمد نسيمي بك ناظر الخارجية، وهو أخ حميم لي، فاستكتبته الذي أراده السفير،
ثم عدت إلى السفير، وقلت له: هل بقي شيء الآن؟ ! ، فقد أجبناك إلى طلبك،
فلم يبق إلا أن تأمر بإرسال البواخر إلى بيروت فقال: لكن أمامنا عقبة ثانية! ،
قلت: ما هي؟ قال: نخاف من أن غواصات الألمان المنتشرة في البحر
المتوسط تُغرق السفن المذكورة، قلت: نأتي بأمر من ألمانيا إلى الغواصات،
فذهبت إلى سفير ألمانيا فون كولمان، وحكيت له القصة، فأخذني بنفسه إلى
الملحق البحري بالسفارة فون هومان (وهو الآن المحرر السياسي الأول في جريدة
دوتش الغماين تسايتونغ) ، وقال له: اكتب له ما يشاء، فأخبرته بطلب سفير
أميركا، واستكتبته الإنهاء المعجل بعدم تعرض الغواصات للبواخر المحمّلة أرزاقًا
لسورية، وبعد أيام ذهبت أسال عن الجواب، فتأخر الجواب نحو 20 يومًا؛ لأن
البرقيات اللاسلكية إذا أُرسلت إلى الغواصات - وهي في البحر جائلة - قد يقع فيها
غلط، فلا بد من انتظارها حتى ترفأ إلى مراسيها، فلما ورد الجواب أبلغته السفارة
الألمانية إلى السفارة الأميركية، وجئت أنا أستنجز سفير أميركا وعده، فبدلاً من
أن يفرح بانحلال العقدة رأيته ضجر وتبرَّم! ، وقال: لكن بقيت الغواصات
النمساوية! ، فقلت له: لا يوجد للنمسا غواصات إلا في بحر الإدرياتيك لحماية
أسطولها، ولم يبق ثمة من خطر، فقال: لا بد من الأمر لها أيضًا، فحصلنا على
الأمر من النمسا بواسطة سفارة ألمانيا، ورجعنا إليه، ولكن كنت بدأت أصدق ما
كان قاله لي طلعت من كون المانع الحقيقي ليس من الدولة العثمانية، بل من
الإنكليز! ، فلما أخبرناه بأن العقدة الأخيرة هذه قد انحلت، قال: لكننا أصبحنا لا
نقدر على إرسال هذه البواخر؛ لأن الولايات المتحدة قررت إعلان الحرب على
ألمانيا، فقلنا له: هذه مسألة سبقت إعلان الحرب بأشهر، على أن الحرب لما تُعلنْ
فيمكنك أن تأمر بإرسال البواخر من الإسكندرية إلى بيروت، وكل ذلك يتم في
يومين قبل شهر الحرب منكم على الألمان، فلم يقتنع، فقلنا له: أنتم ستعلنون
الحرب على ألمانيا لا على تركيا، فلا معنى لحبس هذه الأرزاق عنا بهذه العلة،
ونحن من المملكة العثمانية لا من ألمانيا، فبقي يراوغ، فقلت له: حوِّلوا هذه
المسألة إلى دولة متحايدة كأسبانيا، أو هولاندا؛ فإنها مسألة إنسانية، لا مدخل لها
في السياسة، فلم يجاوب بالإيجاب، وعندها صرحت له بقولي: قد تحققت كون
طلعت باشا هو الذي قال الحقيقة، وأن تركيا ليست هي المانعة لوصول الأرزاق،
بل أنتم لا تريدون إيصالها، وتحبون أن تعتذروا للسوريين - الذين في أميركا -
بكونكم عملتم الذي عليكم، وإنما تركيا وقفت سدًّا في وجه هذا الخير! ولكن
الحقيقة لن تخفى، وكنت في جميع هذه المساعي وحدي من المبعوثين السوريين،
لم يشاركني أحد من زملائي لا لنقص في حميتهم ومروءتهم، بل لاعتمادهم عليَّ،
واعتقادهم بنفاذ كلامي، ثم لما قطعنا الأمل من جهة أميركا، حولناه نحو أسبانيا،
وأشرنا على ناظر الخارجية بمفاتحة سفير هذه الدولة، فلم يمكن عمل شيء، ثم
دفعت أنور باشا أن يراجع البابا بواسطة القاصد البابوي في الآستانة، فاستدعاه،
وقال له: إن قلة الأقوات في البلاد - بسبب تطاول الحرب - قد أعجزتنا عن ميرة
جيشنا والأهالي معًا، وقد بدأ الجوع في سورية لا سيما في لبنان، وغدًا إذا مات
جماعات من المسيحيين تجعلون اللائمة علينا، فها نحن أولاء نخبركم بالواقع، ولا
يصعب على الحضرة البابوية أن تنال من الحلفاء الإذن بإرسال باخرة مشحونة
أرزاقًا كل شهر مرة؛ لأجل نصارى سورية، ولا سيما لبنان، وإن احتج الحلفاء
بكون المقصود هو توزيع أكثرها على المسلمين - فنحن نتعهد بترك التوزيع إلى
قاصد البابا في بيروت، وإلى البطاركة، ولا ندخل في هذه المسألة أصلاً! ، وإن
ظهر من أول بعثة تأتي أننا مددنا يدنا إلى شيء منها فعليكم أن لا تعيدوا التجرِبة،
ثم إن كان البابا لا يريد - أو لا يقدر - أن يؤدي ثمن هذه الأرزاق فأنا أؤديها إليك
أيها القاصد من صندوق الحربية، فشكره القاصد كثيرًا، وذهب، وكتب إلى
الفاتيكان، فلم يَرِدْ شيء، فراجعت أنور، فقال لي: إنه فاوض القاصد، ولا يزال
منتظرًا الجواب، ثم استدعاه ثانية، فقال له القاصد: قد بلغت مرجعي كل ما
ذكرتم، ولكن إلى اليوم ما جاءني جوابٌ، وسترون - فيما يأتي - السبب في عدم
الجواب.
عندما ذهبت إلى ألمانيا سنة 1917 دعتني الحكومة الألمانية أن أعمل سياحة
في عواصمها الشهيرة مثل هامبورغ، وفرانكفورت، وكولونيه، ولايبسيغ،
ومونيخ وغيرها، وأرسلتْ معي رفيقًا خاصًّا من نظارة الخارجية، وأبرقوا إلى كل
الأماكن بالاحتفاء بنا، كما يعملون للضيوف الأعزاء، ولما وصلنا إلى مونيخ أدبت
لنا البلدية مأدبة عظيمة، حضرها نحو 30 رجلاً من وزراء الحكومة البافارية،
ورجال السيف والقلم، ثم طلب منا المسيو كمريخ قنصل تركيا، وهو من أعيان
مونيخ أن نلقي محاضرة بحضور ملك البافيار، وجمع من أعيانها، وذلك في الليلة
الثانية، فألقينا محاضرة في فندق (بايريشرهوف) ، حضرها الملك، وكثير من
رجال تلك الدولة، ومن الوجوه وأرباب الأقلام، وكان موضوعها (سورية في
أثناء الحرب) ، وقد اخترت أنا هذا الموضوع قصدًا؛ لأذكر ما جرى فيها من
أهوال المجاعة، بحيث ذكرت الجرائد ثاني يوم أن الملك رَقَّ جدًّا لسماع هذه
المحاضرة، ثم جاءني المسيو كمريخ فيما بعد، وقال لي: إنه قد حادث قاصد البابا
في مونيخ - وهو من مشهوري الكرادلة - وقص عليه ما ذكرته من كون الحكومة
العثمانية سعت بواسطة بعض الدول المتحايدة لدى الحلفاء في جلب أقوات من
طريق البحر إلى سواحل سورية، وكون أنور باشا استدعى القاصد البابوي في
الآستانة، وكلفه أن يعرض الأمر إلى حضرة البابا، وأنه إلى هذه الساعة لم
تحصل أدنى نتيجة، فطلب قاصد مونيخ من المسيو كمريخ تقريرًا بذلك، فجاءني،
وأعطيته التقرير اللازم مفصلاً بإمضائي، وذكرت فيه أنني أتعهد بالنيابة عن
الحكومة العثمانية أنه مهما ورد من الأرزاق بواسطة الحاضرة البابوية إلى سورية-
فلا تتعرض له الدولة لا في قليل، ولا في كثير، ولا يتناول منه أحد من
المسلمين حبة واحدة! ! !
نعم، لنا - من ذلك - فائدتان: الأولى: وقاية إخواننا وأبناء وطننا
المسيحيين من المجاعة، والثانية: كون القليل الوارد إلينا من الداخل - والذي
نتقاسمه وإياهم الآن، ولا يسد حاجتنا ولا حاجتهم - يصير فيه كفاية نوعًا، ثم
ذكرت في هذا التقرير جملة مؤثرة، وهي أن الحضرة البابوية إن لم تُغِثْ نصارى
الشرق في أزمة كهذه الأزمة فمتى يرجون إذًا مساعدتها؟ !
وبعد نحو 15 يومًا من كتابة هذا التقرير - بينما أنا في فندق آدلون الشهير
في برلين - إذ جاءني تلغراف من المسيو كمريخ ينبئ فيه بورود جواب الفاتيكان،
وأن مآله سيرد عليَّ في كتاب مضمون، ثم لم يلبث أن ورد الكتاب، وهو من
المسيو كمريخ نفسه، يذكر فيه ملخص ما ورد من الفاتيكان على قاصد مونيخ من
الجواب على تقريري، حتى إنه يضع بعض العبارات بين قوسين إشارة إلى أنها
هي الواردة بعينها من الكرسي البابوي، ومآل الكتاب أن البابا سعى من قبل مرارًا،
وكرر السعي هذه المرة، ولكن دولة
…
- وأشار إلى إحدى دول الحلفاء - لا
تزال تعارض في إرسال هذه الأقوات إلى سورية؛ لذلك (
…
فؤاد الأب الأقدس
مجروح من خطة هذه الدولة) ! ، ثم يقول: (
…
وسيعلم مسيحيو الشرق - فيما
بعد - أن الحَبْر الأعظم لم يهملهم في أزمتهم هذه، ولكن
…
) إلخ.
ولقد اطَّلع بعض صحافيي الألمان على هذا الكتاب، فأحبوا أن ينشروه، فلم
أُجِبْهم إلى ذلك؛ خشية أن أثير مسألة، وأجعل قيلاً وقالاً بين البابا وتلك الدولة،
ولكن هذا الكتاب لا يزال عندي، والمسيو كمريخ لا يزال حيًّا، وبعد إيابي إلى
الآستانة حررت الخبر إلى لبنان، وأتذكر أنني كتبته إلى الشيخ بان الخازن من
وجوه الموارنة، وكلفته أن يُطْلع عليه غبطة البطريرك.
وبالاختصار، إن المسئولية الحقيقية تقع في مجاعة سورية على أولئك الذين
أبَوْا إدخال الإعانات إلى سورية، وهم معروفون
…
، وكان جُلّ مقصدهم بذلك أن
يبغِّضوا الدولة العثمانية إلى الأهالي، ويجعلوهم منتظرين زوالها، ومجيئهم هم،
وأن يقتلوا الناس جوعًا؛ ليقولوا: إن الأتراك هم الذين قتلوهم! ، وأغرب من عملهم
هذا أن أناسًا يعتذرون عنهم بأعذار واهية [1] ، ويزعمون أنهم لم يكونوا يقدرون
على إغاثة جياع سورية، وقد لقيت - منذ سنتين في برن - رجلاً سوريًّا مقيمًا
بالقطر المصري، يقول: إن سبب عدم إرسال الأرزاق إلى سورية هو كوْن
البواخر لا تقدر أن ترفأ إلى سواحل سورية من الألغام
…
! ، فليسمع الإنسان هذه
الأضاحيك، وليتأمل، وأغرب من هذا الأغرب أن أناسًا يعرفون الحقيقة،
ويكتمونها، ويستمرون على نغْمة أن الأتراك هم سبب المجاعة، وأن الحلفاء
أرادوا رفْد سورية، والأتراك رفضوا! ، وقد بلغ الأمر من تضييق الحصر
البحري على سورية أن بعض السوريين بمصر جمعوا إعانات نقدية لإرسالها إلى
سورية، وحِيلَ بينهم وبين مشروعهم، وهذا أيضًا معروف بمصر
…
مع أنها نقود
لا حبوب. ويقال: إن الفرنسيس كانوا يرسلون دراهم خفية إلى الموارنة من
جزيرة أرواد، ولكن الذي كان يعوزهم هو القوت بعينه لا الدرهم؛ فإن الدولة
كانت تتعهد بدفع أثمان جميع الأقوات بشرط وجودها، فكان على الفرنسيس أن
يفرغوا باخرة مشحونة طعامًا؛ ذلك خير من إرسال حجارة رنانة لا تؤكل!
هذا ما عندنا من الأدلة والبراهين على كون المجاعة هي ناشئة عن الحالة
الحربية، وعلى كون استمرارها نشأ عن الحصر البحري، ورفض بعض الدول
إيصال شيء من القوت إلى الجياع، فإن كان عند غيرنا أدلة على العكس فليأتوا
بها، بدلاً من أن يتشدَّقوا بالأقوال الفارغة، إن كانوا يقدرون أن يثبتوا أن الدولة
كان عندها في الحرب الأرزاق الكافية، وأن المجاعة لم تشتد إلا في لبنان فقط،
وأنه لم يمُت مسلمون من الجوع كما مات من النصارى، بل أكثر، وأن مئات
ألوف من أتراك الأناضول لم يموتوا، فليدلوا على ذلك بحجتهم.
إن كانوا يقدرون أن ينكروا كون العسكر العثماني نفسه قَلَّ في الآخر غذاؤه،
وصار الجنود يفرون بالألوف من قلة الطعام مع الجهد والقتال؛ مما لا يبقى معه
محل للشك بكون المجاعة مجاعة لا تجويعًا، فليأتوا ببرهانهم.
إن كانوا يقدرون أن يجحدوا كون الأرزاق - التي أُرسلت من أميركا لأجل
سورية - وقفت في الإسكندرية، ولم يكن السبب في وقفها هناك الترك، بل
غيرهم، وكذلك النقود التي جُمعت بمصر - لأجل الفقراء من السوريين - لم
يرخص في إرسالها إلى سورية، فليعطونا على ذلك بينة واحدة.
إن كانوا في شك مما ذكرناه من مساعي أنور باشا مع قاصد البابا في الآستانة
ومساعينا مع قاصده في مونيخ لأجل إغاثة مسيحيي لبنان خاصة، وكيف فشلت،
وبسبب مَن فشلت تلك المساعي؟ ! - فليسألوا الفاتيكان نفسه.
نحن عملنا الذي عملناه - أثناء الحرب من خدمة وطننا ومعاونة أبناء وطننا-
قيامًا بواجب الإنسانية والوطنية، لا نريد من أحد جزاءً ولا شُكورًا، ولم نكن
نتصور أن نُساق في يوم من الأيام إلى التلويح أو الإلماع بخدماتنا هذه؛ لأنه لا
يوجد شيء أسمج من عمل الخير والمنّ به، ولكن أبى حسد الحُسَّاد، وبُغض الذين
في قلوبهم مرض إلا أن يحملونا بافترائهم ومباهتاتهم على نشر حقائق، كنا نود لو
بقيت مطوية، ولقد حررنا منها ما اقتضاه المقام الآن، وسنستوفي الباقي في كتاب
عن ذكريات الحرب، وإننا نراهن - ونخاطر كل أحد يقصد الإنكار - أن يأتي
بدليل واحد على كوننا اشتركنا أثناء الحرب بأذى أقل مخلوق من أبناء وطننا أيًّا
كان، في أي موضوع كان، بل نراهن ونخاطر - كل مَن شاء - أن يأتي بحجة
تبطل دَعوانا بما بذلناه من المساعدات، وقدمنا من الخدمات {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
برلين في 4 يناير سنة 1922.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أنى له عن دمي المسفوك معتذرٌ
…
أقول حمَّلته في سفكه تعبًا.
الكاتب: محيي الدين آزاد
الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
فصل
إذا بويع الخليفتان فاقتلوا آخرهما
أي إذا قامت خلافة خليفة، وتمكنت حكومته في الأرض - فلا يجوز لأحد
الخروج عليه، ومَن يخرج يجب قتله؛ لأنه غادر، وفتنة، ومَهلكة للهيئة
الاجتماعية، يريد أن يفرق بين المسلمين، ويهدم النظام القائم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ
الْقَتْلِ} (البقرة: 191)[1] .
وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجل واحد - يريد أن يشق عصاكم، أو
يفرق جماعتكم - فاقتلوه) (أحمد ومسلم) .
ولذا اتفقت كلمة المسلمين [2] أن الخليفة - سواء كان أهلاً أو غير أهل - إذا
قامت خلافته - لا يخرج عليه، ومَن يخرج يُقتل بعد إتمام الحجة عليه، والدعوة
إلى الصلح {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي} (الحجرات: 9) .
وفي نيل الأوطار: قد حكى في البحر عن العترة جميعًا أن جهادهم أفضل من
جهاد الكفار في ديارهم؛ إذ فِعْلهم في دار الإسلام كفعل الفاحشة في المسجد (ج7،
ص80) .
وحكمة هذا الحكم ظاهرة؛ لأنه لو لم يسد باب الخروج بتاتًا لا تسلم الحكومة
الإسلامية من الخارجين والثائرين مهما كانت صالحة وحسنة، ومهما كان صاحبها
أهلاً وجامعًا للشروط؛ إذ كل ذي عصبية يدَّعي لنفسه الحق والفضيلة أكثر منه،
والناس لا يستطيعون التفاضل بينهما، فيتفرقون حزبين، حزب مع هذا، وحزب
مع ذاك، ثم يخوضون غمار حروب لا تنتهي أبدًا، فوجب أن يُمنع الخروج منعًا
تامًّا، ويُعاقب الخارج عقابًا شديدًا؛ ليكون عبرةً لغيره، فقتْل نفس واحدة خيرٌ من
قتل الألوف، وقد أُشير على هذه الحكمة في الحديث:(يريد أن يشق عصاكم) .
وقد وردت في هذا الباب أحاديث كثيرة مَن يرد الاطلاع عليها فليراجع كتب
الصحاح.
***
فصل
إجماع الأمة وجمهور الفقهاء
قد قامت حكومة أمراء بني أمية على القهر والاستبداد في زمنٍ كان أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة أهل بيته موجودين فيه بكثرة زائدة، ثم تلتها
الخلافة العباسية، وظلت خمسة قرون، وفي عصرها دُوِّنت العلوم الشرعية،
وأُلفت الكتب الدينية، ووجدت أئمة المذاهب، بَيْد أنه لم يختلف طوَل هذا الزمن
أحد من الصحابة والعترة، والأئمة والفقهاء في هذه المسألة، بل كلهم أجمعوا على
قول واحد، وعمل واحد، ولعله لا يوجد بعد العقائد الأساسية وأركان الإسلام
الأربعة إجماع على شيءٍ غير هذا.
فعمل الصحابة معلوم ومشهور، كان مروان بن الحكم واليًا على المدينة،
وأبو هريرة صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنًا في المسجد النبوي،
وكان مروان يستعجل في الصلاة إلى درجة لا يقول (التأمين) استثقالاً، ولا يقف
بعد الفاتحة وقفة ليقوله المأمومون، بل يُسرع ويبدأ - بعد أم الكتاب - بسورة
أخرى، مع أن فضل التأمين ثابت في السنة، كما في حديث: (فمَن وافق تأمينُهُ
تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) (بخاري) ، ولكن مع هذا لم يتخلف أبو
هريرة عن الصلاة وراءه، ولم يخرج من طاعته، إلا أنه كان يأخذ عليه العهد
فيقول: (لا تفتني بآمين)[3] .
وكذلك كان الناس في عهد بني أمية يكرهون سماع خُطبهم الخرافية، فكانوا
يتفرقون بعد صلاة العيد، ولا ينتظرون الخطبة، فأراد مروان أن يخطب قبل
الصلاة؛ ليضطر الناس إلى سماعها - فقام رجل في وجهه، وأنكر عليه عمله،
فروى إذ ذاك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حديث: (مَن رأى منكم منكرًا
فليغيره
…
) إلخ [4] .
وهكذا كان أمراء بني أمية يخالفون صريح السنة كل يوم، وينكر عليهم
الصحابة بكل جرأة وشجاعة، ولا يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولكن مع كل هذا لا ينزعون اليد عن طاعتهم، ولا يخرجون عليهم، ولا ينكرون
خلافتهم لأجل أن خالفوا النظام الشرعي، وتسلطوا على الخلافة بغير حق، وحادوا
على الصراط السويّ.
وكان سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول في بني مروان: (يُجيعون الناس،
ويُشبعون الكلاب) (تذكرة الحفاظ للذهبي ج1، ص47) ، ويُعاقَبُ بأنواع من
العذاب، ولكن يطيعهم، ولا ينكر خلافتهم (؟) .
وقد قامت فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، والمعتصم، وابتُلِيَ بها
علماء السنة ابتلاءً شديدًا، فجُلد الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ثمانين
جلدة، وحُبس في السجن سنين عديدة، ولكن لا داهن المأمون والمعتصم في
بدعتهما، ولا خرج عن طاعتهما، بل كتب في وصيته: (والدعاء لأئمة المسلمين
بالصلاح، ولا تخرج عليهم بالسيف، ولا تقاتلهم في الفتنة) ، كذا نقل عنه ابن
الجوزي في سيرته.
وقد نقل ابن حجر العسقلاني قولاً لابن التين يخالف ما قلناه من الإجماع،
فقال: (وقد أجمعوا أنه - أي الخليفة - إذا دعا إلى كفر، أو بدعة أنه يقام عليه) ،
ثم رد عليه قائلاً: ما ادعاه من الإجماع على القيام - فيما إذا دعا إلى البدعة -
مردود، إلا إذا حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون،
والمعتصم، والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها
بالقتل، والضرب، والحبس، وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج
عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة، حتى ولي المتوكل الخلافة،
فأبطل المحنة. (فتح، ج 13: 103) .
والحقيقة التي لا مراء فيها أن كل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر
به من طاعة الخلفاء، وما ينبغي أن يُعامَلوا به - فسَّره السلف الصالح بعملهم الحق،
وقد علمت في الفصول الماضية الأحاديث التي تبين أدوار الخلافة الإسلامية،
وما لكل دور من الأحكام، فدور الخلافة الراشدة كان دور رحمة واسعة للأمة، وأما
دور الملك العَضوض فكانت خصائصه المتضادة، وأحواله المتناقضة - ابتلاءً
عظيمًا لها، فكان ذا وجهين مختلفين، اجتمع فيه البياض والسواد، والنور والظلمة،
والحق والباطل، ويستلزم الحب والبغض، والترك والطلب، والقطع والوصل،
والطاعة والخلاف، وطُولِبت الأمة بالقيام بكل منهما في وقته ومحله، فتطيع
هؤلاء الملوك، وتسمع لهم؛ لأنهم أولياء الأمور والقائمون بالحكومة الإسلامية،
فلا تخرج عليهم، ولا تقوم في وجههم، ونُهيت من جهة أخرى أن تتبعهم، وتقتدي
بهم؛ لأن أعمالهم لا تكون مرضية، فتطيعهم، ولكن لا تستنُّ بسُنَّتهم، وإن دعوا
إلى المنكر ردت دعوتهم، وخالفتهم في ذلك باليد، واللسان، والقلب، ولا تزيغ
عن الحق ابتغاءً لمرضاتهم.
فما أصعب هذا المقام! ، ولعمري، إن الإنسان ليزلُّ قدمه دون أن يبلغ هذا،
فكيف السبيل إلى القيام فيه؟ ! ؛ لأن الإنسان طوع عواطفه، فلا يستطيع أن يجمع
بين عاطفتين متناقضتين، فإنه إما أن يحب ويطيع، وإما أن يبغض ويعصي،
فمَن يحسبه أهلاً لحبه وطاعته يحلو منه كل شيءٍ في عينه، فيطيعه بكل قلبه، ولا
يعصي له أمرًا، ومَن يبغضه يبغضه بكل قلبه فلا يطيعه ألبتة، نعم، لا سبيل إلى
النجاح إلا أن يدركه الله بتوفيقه، فيجعل كل عاطفة في محلها، ولا يدع بعضها
يغلب بعضها الآخر، فيهلك، ويضل ضلالاً بعيدًا؛ لأنه لو تجاوز الحد في الطاعة
دخل في الاقتداء، والتأسِّي الذي يجرُّ إلى الغلو في الباطل، والانحراف عن الحق،
ثم إنه لو تصلَّب في المخالفة، وغلا في الأمر بالمعروف خُشي عليه الخروج من
الطاعة، ومن ثَمَّ الولوج في الحروب، وقتل النفوس، والفوضى، وهذه هي علة
تلك الفتن التي لا تزال تنزل بهذه الأمة من ثلاثة عشر قرنًا؛ لأن الناس لا
يستطيعون التوازن بين العواطف، فكم من أُناس غلوا في التمسك بالحق، والأمر
بالمعروف - فخرجوا على السلاطين والخلفاء، وأضعفوا بعملهم هذا الخلافة والأمة
معًا، وكم مثلهم مَن غلوا في الطاعة - فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقًّا، مداراةً
للأمراء والملوك؛ فأفسدوا بذلك نظام الأمة!
ولقد ابيضَّت عين الدهر، ولم ترَ أمة سارت على مثل هذا الطريق
الاجتماعي المحفوف بالمصائب والمصاعب سالمة آمنة إلا الأمة الإسلامية؛ فإنها -
ولا شك - سارت عليه بكل فوز ونجاح وسلامة، مراعيةً كل جوانبه، متجنِّبةً
جميع مزالقه، فعملت في آنٍ واحدٍ عملين متناقضين، فأطاعت الخليفة وخالفته،
أطاعت فيما تجب فيه طاعته، وخالفت فيما تجب فيه مخالفته، وقد شرحت بعملها
مسألة (الاقتداء والطاعة) ، والفرق بينهما بكل وضاحة، تحير منها علماء
الأخلاق؛ إذ لم يكونوا وُفِّقوا إلى حلها من قبل.
وأي طاعة للحكومة القومية تكون أكمل من طاعة الصحابة والتابعين للأمراء
الجائرين المستبدين من بني أمية، ثم من بعدهم من طاعة علماء السلف لدعاة
البدعة من الخلفاء العباسيين؟ ! ، فقد عُذِّبوا بأنواع من الظلم والعسف، وحُبسوا
في السجون، وقُتلوا، وأُوذُوا بكل ما كان يمكن أن يؤذوا به، ولكنهم تحملوا كل
ذلك، ولم يخرجوا عن الطاعة قيد شبر، بل إذا حرضهم أحد على العصيان
قالوا: (يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ونحن بايعناهم) .
هكذا كانت حالهم في الطاعة، أما التمسُّك بالحق، والأمر بالمعروف،
والعمل بالسنة - فكانوا فيه كالجبال راسخين، فلم يهابوا سيف عبد الملك ولا قهر
الحجاج، ولا تنمُّر المأمون والمعتصم، فإذا نطقوا نطقوا بالحق، وإذا عملوا عملوا
بالحق، ولم يكن في قلبهم سعة لشيء إلا لكتاب الله، وسنة رسول الله، فهم عملوا
بكل دقة على أمر: (تسمع وتطيع، وإن ضُرب ظهرك، وأُخذ مالك فاسمع وأَطِعْ)
(مسلم)، وعلى أمر: (
…
فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ، وأمر:
(مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه،
وذلك أضعف الإيمان) (مسلم) .
وحسبنا محنة الإمام أحمد بن حنبل عبرة، فقد كان يجلد ظهره تسعة رجال،
والمعتصم واقف على رأسه، ينظر إلى دمه الطاهر الذي يفور من جسمه فورًا،
ويأمره بأن يقول كلمة في القرآن، ما قالها الله ولا رسوله، ولا أمر بها، فكان
يتحمَّل كل هذا العقاب الشديد، ولكن لا يفوه بشيءٍ إلا قوله: (أعطوني شيئًا من
كتاب الله وسُنة رسوله حتى أقول) [5] .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: الفتنة المرادة من الآية هي ما كان من إكراه المشركين للمسلمين على الرجوع عن الإسلام بالتعذيب والنفي من الوطن؛ فاللام فيها للعهد لا الجنس.
(2)
المسألة خلافية فيما ذكره، وهو أعم مما ورد في الحديث.
(3)
استدل على دعوى الإجماع بسكوت الأفراد وسكونهم، ومن الضروري أن الفرد لا يقاوم الدولة لعجزه، وقد روى البخاري وغيره أن أبا هريرة كان يكنِّي ويُعرِّض بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في إفساد أُغَيلمة من قريش لأمر هذه الأمة - وهم هم - ويقول إنه لو صرح لقُطع بلعومه، ولا شك في أنه لو كان له قوة من الأمة لأسقط بها إمارتهم، كما فعل المسلمون بعد ذلك عندما أسسوا العصبية، والمراد أن المسلمين لم يجمعوا على الخضوع لأهل الجور والباطل، وتقدم نقل الخلاف في حاشية سابقة.
(4)
المنار: تتمة الحديث: (بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .
(5)
المنار: قد سدد الكاتب في آخر هذا الفصل وقارب، ولا شك في أن عمل علماء الصدر الأول من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار - كالإمام أحمد - خير قدوة في كل محنة، ولا شك في أن أفراد الأمة لا يجوز لهم الخروج على أمرائهم، وإن ظلموا، ولا يجوز لهم طاعتهم في معصية الله إلا مَن أُكره بالتعذيب أو القتل على الشيء، وحكمه وشروطه معروفة، وأما جماعة أهل الحل والعقد من زعماء الأمة - الذين لا تنعقد الخلافة إلا ببيعتهم، ويتقيد الخليفة بمشورتهم - فحكمهم غير حكم الأفراد، هؤلاء هم الجماعة [الذين] يمثلون الأمة صاحبة السلطة في الإجماع الواجب الاتباع، الذي عناهم الخليفة الأول بقوله في خُطبته الأولى بعد البيعة:(فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زُغت فقوِّمُوني) ، فعليهم أن يقوِّموا الخليفة، فإن لم يستقم بتقويمهم خلعوه، وولوا غيره، فإذا غلبهم المستبد المتغلب على أمرهم، أو فقدوا من الأمة شدة الجور والقهر - فقد زالت الجماعة، وصار أمر الأفراد أمر ضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها، ويجب السعي الدائم لإزالتها.