الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة
(6)
تابع لمقالة الطور الأول للإسلام
في الجزئين الثاني والرابع
(38)
الصفح عن الهفوات، وإقالة العثرات، وغضّ النظر عن الزلات،
كانت قاعدتهم المثلى في المعاملات، قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي
الهيئات عثراتهم إلا الحدود) [1] .
(39)
كانوا ينفرون من القيل والقال، ويحتقرون الخصام والجدال؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن ساء خلقه عذب نفسه، ومَن كثر همه
سقم بدنه، ومَن لاحى الرجال ذهبت كرامته، وسقطت مروءته) [2] ، وكان الناس
في تلك الأيام السعيدة لا ينحرفون قيد شعرة عن أوامره الجليلة.
(40)
كانوا يرشدون الجاهلين، ويمقتون الفاسقين، ويصدقون صابرين
مُصابرين، ويعدون هذا من الجهاد في الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
(الجهاد أربع: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في مواطن الصبر،
وشنآن الفاسق) [3] .
فيظهر من هذا أن عمل الخير، واجتناب الشر، والثبات على الحق، لا يتم
إلا ببُغض أهل الشر والفسق.
(41)
الاعتدال كان محور المعاملات، حتى في العبادات؛ لأنه جاء في
الحديث: (أيها الناس! عليكم بالقصد، عليكم بالقصد؛ فإن الله تعالى لا يملّ
حتى تملوا) [4] .
(42)
لم يكن من سيرة السلف الصالح في أعمالهم ولا أقوالهم ما يبعث ظنًّا
لجاهل، أو شبهةً لعاقل، على أن في القرآن وأحكامه حرجًا أو عسرًا لا يدخل
في وسع المهتدي به، بل كانت أعمالهم وأقوالهم متجهةً نحو إفهام الناس أن القرآن
الكريم كتاب أُنزل لإفهام الناس الحقائق، وتأمين سعادتهم من أقصر الطرق وأسهلها،
وقد جاء في الكتاب القديم: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَاّ تَذْكِرَةً لِّمَن
يَخْشَى} (طه: 2-3) .
(43)
مَن يتأمل في أعمالهم يجد غايتها تزكية النفس بالفضائل ومكارم
الأخلاق وسعادة الأمة، لا مجرد التلبُّس بأعمالها البدنية في صلاة المصلين،
وصيام الصائمين، ويرون أن المصرّين على إتيان المنكرات والفواحش وسائر
الجرائم التي تنافي المقاصد الإسلامية، الدينية والاجتماعية، لم ينتفعوا من صلاتهم
ولا من صيامهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامه
السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) [5] .
(44)
كانوا يتحامون الغلو في الدين؛ لأن الله تعالى حذر منه بقوله: {لَا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171)، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه بقوله:
(إن هذا الدين متين؛ فأَوْغِلُوا فيه برفق)[6] .
(45)
كانوا يرجحون السعي للربح، والكسب الحلال؛ لينفع الرجل عياله
وأمته على خطة أولئك الكسالى الذين ينكمشون في زوايا المساجد بدعوى العبادة؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (رُبَّ طاعمٍ شاكرٍ أعظمُ أجرًا من صابرٍ
صائمٍ) [7] .
ليتأمل هذا الحديث وأمثاله أبناء قومنا لعلهم يدركون معنى الدين الذي طالما
ضربناه الضربات المؤلمات، من حيث لا نشعر، ونحن نظن بأننا ننصره،
ونمتثل أوامره.
(46)
التجارة مع الصدق والأمانة كانت في نظرهم من أسمى المواقع؛ فقد
جاء في الحديث: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)[8] .
فهل من صراحة أقوى من هذه الصراحة التي تفقأ عين كل مَن يزعم أن
الدين الإسلامي لا يأمر بالسعي، وتكذب القائلين بأن الدنيا ليست للمسلمين؟ ،
وهل يوجد أفصح من هذا الهَدْي النبوي الكريم المكذب لزعم الزاعمين أن الدنيا
والآخرة لا تجتمعان في قلب مؤمن؟ ، إن هؤلاء الكسالى الذين يسترون العجز،
والبله والعته بأمثال هذه الأكاذيب على الدين لأضر على الإسلام من أعدائه،
وحبذا لو أن الجمعيات كتبت هذا الحديث الشريف على ألواح تضعها على مفترقات
الطرق التي يكثر مرور الناس فيها؛ ليعلم الضالون والمضلون أن الدين الحنيف
ليس كما يعرفون، لكن أولئك الكسالى وبعض المتعممين - الذين عشش ميكروب
الكسل في أدمغتهم - يكتمون أمثال هذه الأحاديث عن العوام، ويحببون إليهم الفقر
والذلة والمسكنة، يكذبون على الله ورسوله ودينه بتبغيض العوام - جنود الإسلام
وساعده المفتول - في الدنيا، ويعلمونهم الحسرة للموت، وكأني بهم يمدون بهذه
الأعمال خطوط الحديد لتسير عليها قُطُر أهل الملل الأخرى في بلادهم، ولا يشك
عاقل في أن هؤلاء أضر بالإسلام والمسلمين مما لدى أعدائهم من جيوش،
وطيارات، ودبابات وأساطيل، وذهب وحديد، فأين مَن يُسكت هؤلاء؟ ، وأين
شجعان العلماء؟
إيه أيها الغافلون المغفلون! الدنيا لنا، وهكذا أمر ديننا الذي جعل التاجر
في زمرة الأنبياء [9] كفى تضليلاً وتمويهًا، إن كنتم تحبون الموت ولا تريدون
الدنيا فدَعوها لغيركم من المسلمين، أما خطتكم فغايتها إلقاء أَزِمَّة الدنيا لغير
المسلمين، لو كنتم تفقهون نتائج ما تعملون.
أيها الشبان المحمديون، رفع نبينا منزلة التاجر إلى مجاورة الأنبياء، فتأملوا
قدر ترغيبه في الاتِّجار، والعمل للدنيا لتقوية الملة والأمة.
أيها العقلاء! إن تضييع الدنيا هو تضييع للآخرة، هل ضاع دين مسلمي
الأندلس قبل ضياع دنياهم - أي حكومتهم - أم بعده؟ ! تأملوا واحكموا.
(47)
كانوا لا يتمنَّوْن الموت كما يفعل بعض أهل هذا الزمان العجز؛ لأنه -
صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ إذ قال: (لا تتمنوا الموت)[10] .
(48)
كان أقبح الأشياء عند المسلمين غضّ النظر عن عواقب حفظ
الصحة والابتلاء بكثرة الأكل، ثم كثرة النوم المفضية إلى الاستكانة والكسل،
وضعف اليقين والميل إلى التقليد لقوله صلى الله عليه وسلم: (أخشى ما خشيت
على أمتي كبر البطن، ومداومة النوم، والكسل، وضعف اليقين) [11] .
(49)
إضلال الناس وسَوْقهم إلى الطرق المظلمة كان من أقبح الأعمال،
سواء كان هذا الإضلال في السياسة أو الدين أو الاجتماع، وقد جاء في الحديث:
(أيُّما راعٍ غش رعيته فهو في النار)[12] .
(50)
الطاعة؛ إذ قال: (إنما الطاعة في المعروف)[13] ؛ لأن نصيب
كل أمة تطيع رؤساءها طاعة عمياء، وتصدق كل ما تسمع -الانقراض، أي محو
اسمها من خريطة العالم، أوَّاه! متى ينتبه المسلمون؟ !
(51)
كان الواحد دائمًا طموحًا بنظره إلى العلاء للاستفادة ممن كان فوقه؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (جَالِسُوا الكُبَراء، وسائِلوا العلماء، وخالِطوا
الحكماء) [14] أين هذا الأمر من القناعة التي يتشدَّقون بها بدون أن يفهموا معناها؟
إن الدين يأمر بالإكثار دائمًا من كل حسن.
(52)
كانوا ينظرون دائمًا إلى غايات الأمور ومقاصدها، ولا يُثنيهم عنها
صعوبة وسائلها، وبُعد طرقها، ولا سيما العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
(اطلبوا العلم ولو بالصين)[15] فلو صح أن قصد الوسيلة غير الشريفة عن
المقصد الشريف لما أمر بأخْذ العلم من مشركي الصين، وهذا الحديث الشريف من
جملة أسباب احتقارهم للصعوبات في سبيل نيل المرام من الكمال.
(53)
للتعليم مَزِيَّة كبرى في دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه
قال: (أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علمًا، ثم يعلِّمه أخاه المسلم)[16]
لأن تربية الدماغ التربية الصالحة ترقِّي شؤون الإنسان المعنوية.
(54)
كان المسلمون يحترمون أنفسهم فلا يعملون إلا بما تطمئن إليه قلوبهم،
وترتاح إليه ضمائرهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حاك نفسك
شيء فدَعْهُ) [17] فكانوا يعلّمون دينهم ومصالحهم بالإقناع، فلا يُساقون إليها،
ولا يُكرهون عليها.
(55)
كانوا يعتقدون أن أصدق مفتٍ للإنسان وجدانه؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (استفتِ نفسك، وإن أفتاك المفتون)[18] ، وبما أن صحة حكم
الوجدان متوقّفة على كون ذلك الوجدان نُقي وطُهر بصابون التربية، وماء العلم،
وتحلى بحلى الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:(الإسلام حسن الخلق) .
(56)
كان المسلمون يتجنَّبون كل عمل بالسر، إن كان يكرهه الناس
بالعَلَن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما كرهت أن يراه الناس منك، فلا
تفعلْه بنفسك خلوة) [19] .
(57)
بما أن صحة إفتاء النفس تتوقَّف على تهذيب العقل، وصحة العقل
منوطة بسلامة الجسد - كانوا يعتنون كل الاعتناء بقواعد حفظ الصحة؛ لأن من
وصايا النبي صلى الله عليه وسلم بها قوله: (تخللوا؛ فإنه نظافة، والنظافة تدعو
إلى الإيمان) [20] .
(58)
نظافة اليدين والفم كانت من أهم أعمالهم اليومية؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (مَن بات وفي يده غمر- فإن أصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه [21] .
أين الذين يعترضون على قواعد حفظ الصحة، ويقولون: المرض من الله،
ولا دَخْلَ للعبد فيه؟ أين هم؟ ! أين هم؟ !
(59)
كانوا لا يخرجون من بيوتهم إلا بألبِسة لطيفة ومنشطة؛ لأنه -
صلى الله عليه وسلم هذَّبهم بقوله: (أصلحوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم حتى
تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس) ، وما قول الذين يخرجون إلى السوق بلا جبة وبلا
جوارب أو بلا طربوش؟ ، إن الأوروبي يصوّر أمثال هؤلاء، ويضع صورهم في
معرض الصور المتحركة؛ ليقول لقومه: ها هم أولاء المسلمون! ، ومَن لي بمَن
يُفهِم الأوروبيين أن هؤلاء مسلمون اسمًا لا فعلاً.
(60)
لم تكن النظافة التي أمر بها الإسلام خاصة بالأجسام، بل كانت
تشمل باب البيت وساحة الدار أيضًا، جاء في الحديث أن:(طَيِّبُوا ساحاتكم [22] ) .
(61)
ومن جملة أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون مدن المسلمين
مزينة بالأبنية العالية، وبالمساجد العامرة؛ لأنه قال: (ابنوا مساجدكم جمًّا، وابنوا
مدائنكم مشرفة) [23] .
إيه! يا أيها الذين يسكنون تحت الأرض! والذين يدعون غيرهم لهذا
العمل ما قولكم بهذا الحديث؟ !
(62)
نظافة الطرق وتوسيعها مما كان يوصي به صلى الله عليه وسلم
كقوله: (اعزل الأذى عن طريق المسلمين)[24] .
إن الإنسان عندما يرى هذه الأحاديث النبوية - المبنية على أدق الأسس
الاجتماعية - يكاد يذوب ألمًا، عندما يرى مدن المسلمين اليوم وطرقهم وبيوتهم.
(63)
شدَّد النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيف الطرقات، حتى
قال: (مَن آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)[25] .
ومع كل هذه الصراحة فإن أكثر طرقات المسلمين كأنها مستودع لقاذورات
البيوت التي يلقونها على الطريق، كأن ذلك أمر عادي، فهل لنا بعد هذه المخالفات
لأوامر نبينا أن ندَّعي الإسلام؟ ، قال سيدنا عيسى عليه السلام لأمته: (مَن
ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له الخد الأيسر، وأعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ،
ومع ذلك ترى كل عيسوي يبذل جهده؛ لأن يكون هو القيصر، ولأن يعمر ملكه
وملك غيره، بينما نرى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر بما تقدم آنفًا
ترى المسلمين ينكمشون، ولا يتوسعون على سطح الأرض، بيوتهم صغيرة،
بلادهم غير منظمة، يعطون ما لقيصر لقيصر، ويضيفون على ذلك ما لهم الخاص
أيضًا، ويعطونه لقيصر، يفتخرون بالذل، عجبًا! ، هل من علاقة بين أوامر نبي
المسلمين وحالهم الحاضر؟ ، لا، ثم لا، ذكرنا آنفًا ستين حديثًا ونيِّفًا عن نبينا -
صلى الله عليه وسلم نرى مدلولها عند أمة عيسى فعلاً، ولفظها في كتبنا فقط،
أأقول إنهم مسلمون فعلاً، ونحن مسلمون اسمًا؟ ! لنقايس حال أجدادنا بحالنا، لعلنا
نعتبر أو نخجل أن نكون أولاد أولئك الليوث؛ لأننا أصبحنا عارًا على الإسلامية
الحقيقية.
(64)
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يحبهم ربك عز
وجل: رجل نزل بيتًا خربًا، ورجل نزل على طريق السبيل، ورجل أرسل دابته،
ثم جعل يدعو الله أن يحبسها) [26] .
فما قول ساداتنا الذين يظنون أن الدعاء وحده سبب الانتصار في الحروب
العسكرية، والسياسية، والاقتصادية.
(65)
كانوا يعملون، ثم يتوكلون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (قيد
وتوكل) [27] ، أما اليوم فبحجة التوكل ترى المسلمين فرشوا فراش الراحة،
وناموا ينتظرون أن يعمل الناس لهم؛ ليأكلوا، وإن احتاجوا شيئًا طفقوا يدعون،
ولا قيمة للعمل عندهم، وقد فاتهم أنه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق حمل
المجرفة بيده الشريفة، واشتغل مع العَمَلَة بحفر الخندق حول المدينة لأجل دفع
العدو، فعمله هذا دليل على أن للمجرفة وللخندق في الحروب تأثيرًا لا يغني عنه
الدعاء، ولو كان للدعاء ذلك التأثير - كما يزعم المسلمون اسمًا - لاكتفى صلى الله
عليه وسلم بالدعاء، ولما أتعب نفسه بحمل المجرفة وحفر الخندق، ولكن أين مَن
يدقق في التاريخ، وأين مَن إذا درس استطاع أن يستنتج؟ .
(66)
عَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الذين يشتغلون لإعاشة عيالهم
بالصناعات أو التجارة أو الزراعة أفضل الأمة بقوله: (أَحَبُّ العباد إلى الله تعالى
أنفعهم لعياله) [28] .
(67)
كانوا يتبايعون، ويتقاضون الحقوق بكل بشاشة وسماحة، وكلام
حلو؛ ليصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين رجل سمح البيع،
سمح الشراء، سمح القضاء) [29] .
ونحن اليوم بين حالتين: إما بائع وجد قوت يومه؛ فبغى، وطغى، وعامل
المشتري معاملة الآمر المستبد، وإما طمَّاع كذوب محتال مداهن، فأين نحن من
السماحة التي أمرنا بها سيدنا؟ !
(68)
كانوا يعدون التضييق على العيال من أشد الأمور كراهةً، وشرّها
معاملةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (شر الناس المضيِّق على أهله)[30] .
واليوم ترى بعض مَن يدعي الإسلام يعد الكسل تديُّنًا، والفقر وضيق المعيشة
سببًا للفوز والنجاة، والاشتغال بالكسب مانعًا للعبادة، فيالله ما أبعد هؤلاء عن دين
محمد صلى الله عليه وسلم.
(69)
السياحة في أقطار الأرض كانت أمرًا محبوبًا؛ لأنها توسع دائرة
المعارف، وتزيد الثروة، وتقوي البنية، وتعلم الإنسان المقايسة؛ لذلك أمر صلى
الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)[31] ، (السائحون هم
الصائمون) [32] ، و (وسافروا تصحوا وترزقوا)[33] .
على هذه الأسس بُنيت المدنية الإسلامية، أما مسلمو اليوم فهم منكمشون في
بيوتهم حتى لا يعرفون أطراف مدينتهم، فهل المسلم مَن يخالف أوامر نبي
الإسلام؟ ! .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المترجم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسني عبد الهادي
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود عن عائشة وحسنوه.
(2)
رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة.
(3)
أبو نعيم في حلية الأولياء عن علي وحسنوه.
(4)
ابن ماجه وأبو يَعْلَى وابن حبان من حديث جابر بسند صحيح، وفسروا (لا يملَّ حتى تملُّوا) في هذا الحديث وغيره أنه تعالى لا يترك إثابتكم حتى تتركوا العمل الصالح، وهو من باب المشاكلة.
(5)
الطبراني من حديث ابن عمر وأحمد والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وثَمَّ أحاديث أصرح منه في المسألة.
(6)
رواه أحمد من حديث أنس يسند صحيح.
(7)
رواه القضاعي عن أبي هريرة بسند ضعيف، وهناك شواهد صحيحة أصرح منه.
(8)
الترمذي والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري بسند حسن، وفي معناه حديث صحيح عن ابن
عمر: (قد اتَّجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر وأكثر المهاجرين من الصحابة تُجارًا) .
(9)
إن في الكتاب والسنة نصوصًا في كوْن الأصل في سيادة الدنيا وطيباتها أن تكون للمسلمين أصح وأصرح من هذا الحديث في التجارة، وحسبك منها قوله تعالى:[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة] (الأعراف:
32) ، وطالما نوهنا بهذا في المنار.
(10)
رواه ابن ماجه من حديث خباب بسند صحيح، ويا ليت شعري أين هؤلاء الذين ينكر عليهم الكاتب تمني الموت؟ ! ، وما أراه إلا واهمًا.
(11)
الدارقطني في الأفراد عن جابر.
(12)
ابن عساكر عن معقل بن يسار بسند حسن.
(13)
رواه البخاري وغيره.
(14)
الطبراني في معجمه الكبير من حديث أبي جحيفة بسند صحيح.
(15)
ابن عبد البر من حديث أنس، وفيه زيادة:(فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع) .
(16)
ابن ماجه من حديث أبي هريرة.
(17)
أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أمامة.
(18)
رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن، وحديث (الإسلام حسن الخلق) في مسند الفردوس للديلمي.
(19)
لفظ الحديث في الجامع الصغير الذي نقل عنه الكاتب (إذا خلوت) بدل (خلوة) رواه ابن حبان والترمذي عن ابن شريك بسند صحيح.
(20)
تتمته: (والإيمان مع صاحبه في الجنة) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، عظَّم عليه السلام أمر تنظيف الأسنان بهذا الحديث، والناس يتهاونون بها حتى يأكلها السوس، فيقاسون
آلامها، ثم يُحرمون منها، فيسوء هضمهم، ويُحرمون لذة الطعام، أو يضطرون إلى وضع أسنان صناعية غالية الثمن، وهي دونها.
(21)
البخاري في التاريخ والترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنوه، والغمر فيه بالتحريك، وهو ريح اللحم، فهو حثّ على تنظيم الأيدي بعد الطعام، ولا سيما الدسم كاللحم والدهن.
(22)
تتمته: (فإن أنتن الساحات ساحات اليهود) رواه الطبراني في الأوسط عن سعد وحسنوه، ومن العجيب أن هذا الأمر لا يزال معروفًا في بيوت فقراء اليهود الذين لم يتربوا تربية إفرنجية.
(23)
ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
(24)
مسلم في صحيحه وابن ماجه عن أبي برزة.
(25)
الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد، وحسنوه.
(26)
الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن عائذ الثمالي بسند حسن.
(27)
البيهقي في شُعب الإيمان عن عبد الله بن عمرو بسند صحيح.
(28)
عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن الحسن البصري مرسلاً، والنفع فيه أعم مما ذكره المؤلف؛ فكل من الدليل والمدلول ضعيف.
(29)
رواه الطبراني في الكبير عن أبي سعيد.
(30)
رواه في الأوسط عن أبي أمامة، وهو حسن.
(31)
أبو داود والحاكم والبيهقي عنه.
(32)
الحاكم عن أبي هريرة، وصححوه.
(33)
رواه كثيرون بألفاظ متقاربة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدنية القوانين
أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية
(2)
السعي لإلغاء المحاكم الشرعية
تمهيد
الإفرنج الطامعون في استعباد المسلمين وأعوانهم من المتفرنجين قد يشتركان
في عملٍ واحدٍ، ونيتهما فيه مختلفة اختلاف التضاد، فكلاهما يحاربان الشريعة
الإسلامية، ويحاولان القضاء عليها، ومنع الحكم بها، والتقاضي إلى رجالها،
فنية الفريق الأول وغرضه من ذلك حل رابطة من أقوى روابط هذه الأمة، وإزالة
فصل من أقوى الفصول المنطقية المقوّمة لهذه الملة، والفاصلة بينها وبين الملل
الأخرى؛ لأجل إضعافها، وتمهيد السبيل لإدغامها في غيرها، أو جعْلها غذاءً له،
ونية الفريق الآخر إما إرضاء الفريق الأول لتحصيل قوتهم وغير ذلك بأن يكون
اقتنع أن البلاد صارت له، ولا يرتقي أحد في حكومتها إلا إذا واتاه ووافقه في
سياستها وإدارتها، وإما مساعدته على عمل يظن أنه يخدم وطنه به لاقتناعه
بشبهاته التي يتوسل بها إليه، كتوحيد القضاء أو الفصل بين الحكومة والدين،
والاقتصاد في نفقات المحاكم، أو جمود هذه الشريعة، وخلوّها من المرونة التي
تليق بالقرن العشرين، وإما إرضاء الأقليات غير المسلمة، ولا سيما النصارى،
وإما كسر قيد الدين، والخروج من حكم سلطانه تقليد الملاحدة الإفرنج، أو لأنه
يحُول دون التمتع باللذات، أو لاعتقادهم أن الأمة والحكومة لا يمكن أن ترتقي مع
التزام أحكام الشرع، وأن القوانين الإفرنجية خير لهما منه.
فالمتفرنجون ليسوا على رأي واحد ولا نية واحدة في حربهم للشريعة، ولكن
أكثرهم يتبع هوى نفسه ومنفعة شخصه، وأقلهم يقصد خدمة أمته ووطنه، ولكنه
حفظ شيئًا وغابت عنه أشياءُ، وسيأتي بيان ذلك.
على أثر هجرتي إلى هذه البلاد - من زهاء ربعِ قرنٍ - أخبرني الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى يومًا، وهو يتنفَّس الصعداء أن المستشار القضائي لوزارة
الحقانية (مستر سكوت) اقترح على الحكومة إلغاء المحاكم الشرعية، وجعْل
التقاضي في الأحوال الشخصية من اختصاص المحاكم الأهلية؛ بناء ذلك على أن
المحاكم الشرعية مختلة النظام، قد كثرت شكوى الناس منها، ومطالبة الحكومة
بإصلاحها، وأن قضاة المحاكم الأهلية -المتخرجون في مدرسة الحقوق الخديوية -
قد تعلموا فيها أحكام الأحوال الشخصية، فيمكن أن يجعل في هذه المحاكم جلسات
للقضايا الشخصية خاصة، كما أن للقضايا المدنية جلسات خاصة، وللقضايا
الجنائية كذلك، وبذلك يتوحَّد القضاء، وينتظم، ويتوفَّر للحكومة المال الكثير الذي
تنفقه على المحاكم الشرعية المختلة المعتلة!
سألت الأستاذ: هل المحاكم الشرعية مختلة النظام معتلة الأحكام كما يزعم
المستشار الإنكليزي، أم دعواه هذه كما نعهد من دعاوي السياسة، التي تجعل الحق
باطلاً، والباطل حقًا؟ ! ، قال: إن هذه الدعوى (كلمة حق أُريد بها باطل) ؛
فالمحاكم مختلة، وفيها عيوب كثيرة، كما أن في غيرها من مصالح الحكومة خللاً
وعيوبًا، والباعث الحقيقي على هذا الاقتراح إزالة أهم ما بقي للمسلمين في هذه
الحكومة من الحقوق أو المشخّصات المِلِّيَّة، ومن عجيب أمر هؤلاء الشيوخ،
شيوخ الأزهر - أن هذا الاقتراح لم يستثِرْ غيرتهم، ولم يبعثهم على ما يجب من
الإجماع على إنكاره، والاحتجاج عليه، وهو يمس رزقهم وجاههم!
وقد تعبت في إقناع شيخ الجامع بتأليف وفد من كبار العلماء للاحتجاج عليه
مع بذل جهدي في مقاومته، ومحاولة إقناع المستشار بضرره، وسوء مغبَّته،
وقلت للشيخ: لا يكفي أن أسعى وحدي لإبطال هذا، وأنا من رجال القضاء الأهلي
وأنتم ساكنون، ولكن الخديو اهتم به يومئذ، وكذلك قاضي مصر التركي؛ لأن
النفوذ في المحاكم الشرعية كان لهما وحدهما، وإبطال هذا النفوذ كان من المقاصد
أيضًا.
ولما لم يمكن قبول هذا المشروع اخترعت وزارة الحقانية وسيلة أخرى لما
كانت تدَّعيه من الاهتمام بإصلاح المحاكم الشرعية - اقترحها بطرس غالي باشا،
فقررت أن يبدأ بتعيين قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، يحضران
الدعاوي المهمة في المحكمة الشرعية الكبرى، بل العليا، فقُوبل هذا المشروع
بالسخط العام من المسلمين، واندفع الكُتَّاب ينشرون المقالات الضافية في جريدة
المؤيد في انتقاده، ومنهم بعض الأزهريين، وكان للشيخ علي يوسف رحمه الله
جولة، وأي جولة في هذا الميدان، وقد ساعدته على ذلك ببعض المقالات التي لم
أوقّعها باسمي الصريح، ولا بحَرْفَيْ (م. ر.) ، كما كنت أوقع أكثر ما أكتب في
المؤيد، ثم فشلت الحكومة في هذا الاقتراح برفض مجلس شورى القوانين له
مستندًا إلى فتوى شرعية صدرت من قاضي القضاة ومفتي الديار المصرية شيخ
الجامع الأزهر في ذلك العهد (هو الشيخ حسونة النواوي) ، وكان رأي الأستاذ
الإمام في هذا المشروع أن الغرض الخفي منه للإنكليز وأعوانهم - أن يتعوَّد
المسلمون حكم لابِسي الزي الإفرنجي في القضايا الشرعية؛ فيكون ممهِّدًا للعودة
إلى المشروع الأول.
هذه النازلة حملتنا يومئذ على كتابة مقال في جزء المنار الذي صدر في
أواخر ذي الحجة سنة 1316 عنوانه (التعليم القضائي) ، اقترحنا فيه على شيخ
الجامع الأزهر، ومجلس إدارته إنشاء قسم في الأزهر، يعلِّم الشريعة تعليمًا قضائيًّا
عمليًّا، يعدون فيه خرِّيجيه لمنصب القضاء الشرعي، ومما اقترحناه فيه أن تؤلف
من طلابه هيئة للمحاكمات كهيئة المحكمة، وبينَّا فيه عيوب كتب الفقه التي تدرس
في الأزهر، وبحثنا في تطبيق الأحكام على حاجات الناس في كل عصر، وبينا
فيه تقصير العلماء في هذا وذاك، واضطرار الأمراء والحكام إلى مجاراة العصر
في تطوُّراته العامة، مع ما يجب على العلماء في ذلك.
وعلى إِثْرِ هذه النازلة عزل الخديو الشيخ حسونة من مشيخة الأزهر وإفتاء
الديار المصرية ملجأً لا مختارًا، وولى الأستاذ الإمام منصب الإفتاء، وتوسل إليه
بأكرم أصدقائه ليقبله، فقبل، وكلفته الحكومة تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع
تقرير فيما يراه مِن وسائل إصلاحها، فأجمعت الأمة على استحسان ذلك، كما
نوَّهت به الجرائد.
وقد قام - رحمه الله تعالى - بالأمر خير قيام، ووضع تقريره الذي سارت
بذِكْره الرُّكبان، فشخَّص فيه الداء، ووصف الدواء، ولكن الحكومة لم تنفذه حق
التنفيذ، وكان مما بيَّنه فيه - من خلل هذه المحاكم - ما يعود الذنب فيه على
الحكومة وحدها، وقد نشرناه في المجلد الثاني من المنار، ثم في كتاب على حدته،
ووضعنا له مقدمة بيَّنا فيها الأصول التي يدور عليها الإصلاح بالدليل الواضح،
ولو قدر علماء الأزهر ذلك التقرير قدره، وعملوا بما أرشدهم إليه - لضعفت أو
دُحضت حجة الطاعنين في أحكام الشريعة، الذين يطلبون نسخها بالقوانين
الوضعية، على أن هذه المحاكم قد انتظم سيرها بعض الانتظام منذ ذلك العهد على
تقصير العلماء والحكومة جميعًا في تنفيذ ما اقترح من الإصلاح فيها، ولكن تعليم
الفقه في الأزهر بقي مختلاً، فوضع الأستاذ مشروع مدرسة القضاء الشرعي
للاستغناء بها عنه.
***
قانون الأحوال الشخصية
ثم إن الحكومة المصرية قد جاءت - في عهد الحماية البريطانية - بمشروع
جديد، وهو وضْع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج، وما يتعلق به
(كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة) ، وألفت لذلك لجنة يرأسها وزير الحقانية، ومن
أعضائها مفتي الديار المصرية السابق (الشيخ محمد بخيت) ، وبعض المدرسين
في مدرستي القضاء الشرعي والحقوق، على أن تُستمد مواد هذا القانون من كتاب
قدري باشا المشهور، مع أخذ بعض مواده المناسبة لمصلحة هذا العصر من فقه
المذاهب الأربعة المشهورة، وأن لا تتقيد بمذهب الحنفية في كل حكم، وإن اتخذته
أصلاً؛ لأن ارتباط الحكومة بالدولة العثمانية - التي قيدت القضاء بهذا المذهب -
قد زال.
وهذا الإطلاق ركن من أركان الإصلاح الذي طالما فكر فيه وتمناه عقلاء
العلماء وغيرهم من طلاب الإصلاح، وهو مما اشتمل عليه تقرير الأستاذ الإمام في
إصلاح المحاكم الشرعية، وبينا في مقدمة طبعهِ مُسْتَنَدَهُ من أقوال الفقهاء، ولكن
هذا الشكل لتنفيذه منتقَد من وجوه، كنت قد بينتها في مقال طويل لم يمكن نشره في
أيام ظهور المشروع، وقد كان وزير الحقانية أرسل إليَّ الجزء الأول الذي تم منه؛
لأجل بيان رأيي فيه، كما أرسله إلى كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين،
فانتقده بعضهم، ولم أكتب للوزير فيه شيئًا؛ لأنني لست مقرًّا له، وقد كاشفته
يومئذ بذلك، وإبداء الرأي في مواده يتضمن الرضا بأصله.
ثم إنني بينت أهم ما انتقدته على جعْل الأحكام الشرعية قانونًا في المقالة
الثانية من المقالات التي عنوانها (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ، وسيأتي
بيان سببها وموضوعها، وهو جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، فإن القانون إذا أُطلق
في هذا المقام يختص معناه بما يقابل الشرع الإلهي من الأحكام، وما يترتب على
ذلك من توقف الحكم به على إقرار مجلس الوزراء له، وصدور أمر الحاكم العام
بتنفيذه، وكوْنه تشريعًا من هذه الحكومة الواقعة تحت سيادة غير إسلامية، وكون
المنفِّذ له وزيرًا من وزرائها، لا يشترط أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يحكمون
بما يفهمون من نصوصه، وإن لم تدل لضعفها وركاكتها - على ما قصدته اللجنة،
وكونه سيشرح على أنه قانون، فلا يتقيد الشارحون له بمآخذ أحكامه من الشرع،
وربما لا يعرفونها، وقد يفضي ذلك إلى مخالفة نصوص الشارع، وإجماع الأمة،
وكونه سيُدمج بعد ذلك في القانون المدني، وتزول منه كل صبغة، وكل صيغة تدل
على استمداده من الشرع الإسلامي، كما صرح بذلك بعض المجاهرين بالإلحاد من
هؤلاء المتفرنجين.
وجملة القول: إنني رأيت هذا الوضع أدنى إلى إزالة ما بقي للمسلمين من
المقوّمات والمشخّصات في هذه الحكومة الإسلامية بكل معنى تسمى به حكومة
إسلامية أو مسيحية وزيادة، ولكنني لم أسمع ولم أقرأ لأحدٍ من علماء الأزهر -كلمة
قِيلت، ولا كُتبت في إنكاره، فهل كان سبب ذلك أنهم لا يرون مانعًا من جعْل
أحكام الشرع - في مثل النكاح والطلاق - قانونًا، وهي من قبيل العبادات؛ في
أنها يدان بها الله تعالى بما أحل وحرم في أغلظ ما نزلت فيه من النصوص من
الحقوق البشرية، من استحلال الأبضاع، وثبوت الأنساب، وتكوين بناء البيوت
(العائلات) ، إن كان هذا سبب إقرارهم لهذا القانون فقد قربت المسافة بينهم وبين
غلاة المتفرنجين في إزالة كل صبغة أو مسحة إسلامية من الحكومة؛ لأن أكثر
الأحكام المدنية، وأحكام العقوبات والسياسة في الفقه من اجتهاد العلماء التي لم يرد
فيها نص في القرآن، ولا سُنة من قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم أو فتاواه،
والمدار فيها على حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة العدل، لا على التعبد
كما نبينه بعد.
وقد كنت راجعت في المسألة الأستاذ الشيخ محمد بخيت - وهو أكبر الفقهاء
مقامًا في اللجنة - ورغبت إليه أن يعترض على تسمية ما يجمعونه من هذه الأحكام
قانونًا، ويقترح تسميتها (المجلة الشرعية في الأحكام الشخصية)، فقال: وأي
مانع يمنع من تسميتها قانونًا؟ ! ، والقانون هو القاعدة الكلية المنطبقة على
جزئياتها، وهو يصدق على هذه الأحكام، قلت: هذا عُرف ذكروه في تفسير قول
مَن عرَّف المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) ،
وهو - في عرف أهل الموسيقى - (اسم لآلة من آلات الطرب) ، ولكنه إذا أُطلق
- في عُرف الحقوق والحكومات - ينصرف إلى ما يضعه البشر من الأحكام التي
تجري عليها الحكومة، ويكون مقابلاً للشريعة التي هي وضع إلهي لا بشري،
حتى إن ما يستنبطه البشر بآرائهم الاجتهادية من هذه الأحكام ينسبونه إلى الوضع
الإلهي؛ لأن الأصل في الصحيح منه أن يكون راجعًا إلى نص من الكتاب أو السنة
(وإن كان الكثير منها ليس كذلك، بل بعضها مخالف للنصوص) ، وذكرت له
بعض ما ظهر لي من لوازم هذه التسمية، وظننت أنه سيفعل شيئًا، ولم يفعل!
ومن نوادر الاتفاق أن حكومة الترك الاتحادية قد فعلت في أثناء الحرب
الأخيرة - على انهماكها فيها، وجعْلها أكبر همهًا - نحوًا مما شرعت فيه الحكومة
المصرية، ولكن توسعوا في مخالفة مذهب الحنفية، ما لم يتوسع المصريون،
على أنهم هم حماته، ومقيدو القضاء به، ولولاهم لما انتشر في مصر؛ وذلك أن
الاتحاديين أجرأ مَن تولى زمام الأحكام في بلاد إسلامية - على التغيير والتبديل
بغير مبالاة بالمخالفين، وسيأتي البحث فيما وضعوه، وأصدروا به إرادة سلطانية.
افترص المتفرنجون إقدام الحكومة على وضع هذا المشروع، فاقترح بعضهم
على وزير الحقانية أن يدمج فيه إبطال تعدد الزوجات، وتقييد أحكام الطلاق،
وحرية المتعاقدين - الرجل والمرأة - في عقد النكاح، وتساويهما فيما يلزم العقد،
وجعْل العقدين رسميين، بل صرح بعضهم بوجوب عدم تناقض أحكام النكاح مع
الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات، أي المتضمنة لإباحة الزنا.
فظهر لنا مما قرأنا لهم، وسمعنا منهم أنهم يعدون هذا المشروع أقرب الوسائل
إلى نبذ الشريعة الإسلامية بجملتها، لا إلى إلغاء المحاكم الشرعية، وما يلزمه من
القضاء على المعاهد الدينية فقط، وهذا أكبر مما انتقدناه منه بادي الرأي.
***
دعوة المتفرنجين إلى هدم أصول الشريعة كلها
تهوَّك أحد وكلاء النيابة - من رجال القضاء الأهلي - فكتب رسالةً في هذا
المشروع، دعا فيها إلى جعْل هذا القانون مطابقًا لآراء مَن يسمون أنفسهم الفئة
الراقية أو المتنوِّرة في البلاد - وهم هؤلاء المتفرنجون؛ إذ لا يكون الإصلاح
عندهم إلا بذلك - ولكنه خرج فيه عن موضوع الإصلاح الخاص بالأحكام الزوجية
إلى القول بهدْم أصول الشريعة الأربعة المشهورة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس، فأباح باسم الإسلام عدم التقيُّد بنصوص القرآن في الأحكام، ولكنه سمح
بأن تُراعَى في محرماته مرماها والغرض منها، وفي واجباته الحكمة المقصودة بها،
وأما ما جوَّزه وأحله فلكل حاكم عنده أن يحرمه! ، وأما السنة فكل ما ثبت فيها
من أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم وقضاياه ومن حلال وحرام - فلا يجب
اتباع شيء منه على مَن بعده! ، خلافًا لقوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) ، وإنما يجب على المسلمين عنده أن يتبعوا في كل زمان ومكان
مَن يتولى أمر حكومتهم فيما يسنّه لهم، ويحله ويحرمه عليهم، وإن خالف صريح
سُنة نبيهم، ورسول ربهم إليهم - مخالفة صريحة! ، وكذا إن خالف نصوص
القرآن فيما تدل عليه عباراتها؛ إذ لا يجب عليهم عنده إلا مراعاة ما يفهمون من
حكمتها ومغزاها، فإذا أمكن مراعاة هذه الحكمة وموافقة هذا المغزى من طريق
آخر غير اتباع منطوق الآيات فلا بأس، أو كما قال: (فلا حرج في أن نصل إلى
الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) ، ومثَّل له بإغناء جعْل العقد رسميًّا
عن الإشهاد على عقد الزواج، وبإغناء مرور أكثر مدة الحمل على الطلاق عن
العدة المنصوصة! ، أي ومثل هذا بالأولى ما إذا علمنا بالاطلاع على باطن الرحم
بأشعة (رونتجن) أنه لا حمل فيه، فحينئذ نبيح للمرأة أن تتزوج في اليوم الذي
تطلق فيه، وللمطلق أن يمنع النفقة عنها، وإن لم تتزوج، وبهذه القاعدة لا يبقى
محرم إلا ويباح ارتكابه لمَن يدَّعي أنه يمكنه مراعاة مغزى القرآن من تحريمه
كشرب الخمر وتحريم نكاح البنت والأخت وغير ذلك.
وأما الإجماع والقياس فقد صار مجاله واسعًا في هدمهما، وجعل إجماع أمثاله
وأقيستهم أوْلى بالاعتبار والاتباع من إجماع الصحابة والتابعين، وأقيسة الأئمة
المجتهدين! فمَن يقول في القرآن ما قال ويصرح على أثره بقوله: (وبذلك
ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية القانونية الواردة في القرآن) .
ومَن يجعل قضاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وأحكامه في
زمانه كأقضية الإفرنج والمتفرنجين بقوانينهم، والأحكام التي يضعها لهذه البلاد
المستشارون القضائيون من الإنكليز في زماننا، بل يجعل هذه ناسخة لها، وواجبة
الاتباع من دونها، هل يحترم إجماع سلف الأمة الصالح ومجتهديها؟ ، كيف،
وهؤلاء المستشارون ومقلِّدتهم المتفرنجون من أبناء القرن العشرين؟ ! ، وأولئك
كانوا في زمن القرون الوسطى المسيحية التي يسميها أساتذته الإفرنج (القرون
المظلمة) ، وإن سماها قومه المسلمون غير المتنوِّرين بعصر النور أو عصر
السعادة، كما يقول إخواننا الترك؟ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
65) .
هذا ما كتبه وخطب به مصري من طائفة المسلمين الجغرافيين باسم الإسلام
ونشر رأيه هذا في طول البلاد وعرضها، ودعا إليه باسم الإسلام، فوضع به
للمسلمين دينًا جديدًا وشرعًا محدثًا لم يتجرأ على مثله أحد من فرق الباطنية الذين
تعبوا في محاولة إبطال دين الإسلام بالتأويل، فضلُّوا كثيرًا، وأضلوا عن سواء
السبيل، ولكن الإسلام بقي ثابتًا، وظل حكمه نافذًا، حتى جنى عليه المقلِّدون
الجامدون، ما لم يجنِ عليه الملاحدة والمرتدون، وأجرأ منه أناس من هؤلاء
المتفرنجين، يصرحون اليوم بأن حكومتهم يجب أن تكون غير مقيدة بدين، وأن
تكون جميع قوانينها مدنية لا شائبة للدين فيها، فهذا ينبذ الشرع بشبهة السياسة
المدنية، وذاك ينبذه بشبهة النظريات القانونية.
أما هذا السياسي فهو محمود أفندي عزمي أحد محرري جريدة (الاستقلال) ،
وأما ذلك القانوني فهو (أحمد أفندي صفوت) الذي كان وكيل نيابة (الدلنجات) ،
فاستخدمته السلطة البريطانية بما ظهر من جرأته على الشريعة لإصلاح القضاء في
بلاد فلسطين بعد هدنة الحرب، وكان ألقى ما كتبه على جمهور كبير بقاعة
المحامين في الإسكندرية (في 15 أكتوبر سنة 1917) تحت رئاسة المحامي
أنطون بك سلامة، وطبعه ووزعه على الناس في هذا القطر كله، ولم يصمد أحد
من علماء الأزهر، ولا غيره من المعاهد العلمية - وفي مقدمتها معهد الإسكندرية -
للرد عليه، حتى أطلعنا عليه أحد قضاة المحاكم الأهلية، فرددنا عليه بأربع مقالات
نُشرت في المجلدين العشرين والحادي والعشرين من المنار.
مهما يكن من سبب سكوت علماء المعاهد الدينية في ذلك الوقت، فهاهم أولاء
يتصدون في هذا الوقت للرد على مقترح جعْل القوانين كلها مدنية، وإذا رُفعت
الأحكام العرفية - عند الشروع في انتخاب أعضاء المجلس النيابي - فسيكون مجال
النزاع والخصام في هذه المسالة أقوى، ولكل من الخَصمين أنصار، فالسواد
الأعظم من الأمة المصرية يخالف رأي هؤلاء الغلاة من المتفرنجين، ولا سيما إذا
صرحوا بمقاصدهم، كما يصرح مقترح مدنية القوانين، وهؤلاء المتفرنجون ليسوا
بالقليلين، وتؤيدهم الأقليات غير المسلمة، ونفوذ الإنكليز والإفرنج كافة، ولا يخلو
التصادم بين الفريقين في عهد تكوين الحكومة النيابية، وفي أوائل العهد بها من
خطر عليها، فليس من مصلحة مصر في هذا الوقت أن تثار فيها هذه النزعات
المهيجة التي طرق بابها بعض المتفرنجين، فقابلهم بعض علماء الشرع بمطالبة
الحكومة وواضعي القانون الأساسي بما يفيد وجوب تطبيق جميع مواده على الشرع
الإسلامي، الذي يجب أن تلتزمه الحكومة من حيث هو دينها الرسمي، حتى في
علاقتها بحكومة الخلافة أو بالخليفة.
وهذا المقام يحتاج إلى بسط من وجوه أهمها: ما لا يسع المسلم قبوله
لمنافاته للإسلام، وما هو في سعة منه، وما يضر ذِكْره دون السكوت عنه، وما
تتعارض فيه المصالح ودرء المفاسد، ومن المهم الآن اجتناب الغلو من الجانبين؛
فقد علمنا ما جنى الخلاف والشقاق على أشبه البلاد ببلادنا، وهي (أرلندة) .
وإذا فُتح هذا الباب فلا بد لنا من بيان نظريات الأزهريين، ونظريات
المتفرنجين في الشريعة والقوانين، وما يراه حزب الإصلاح، وهو الوسط الجامع
بين هداية الدين النقية، والترقي في معارج المدنية الصحيحة، وهو حزب
الأستاذ الإمام الذي افتقدته البلاد في ظل مشكلات هذا العصر، كما يفتقد في
الليلة الظلماء مطلع البدر، فاتفق رجال الدين ورجال المدنية على الاحتفال
بإحياء ذكره، والرجوع إلى تعاليمه وهدْيه.
فإذا نظم حزب الإمام عمله، وجمع كلمته، وتعارف أفراده الكثيرون من
الأزهريين وغيرهم - فيوشك أن يؤدي لهذا القطر أفضل خدمة كان من شأن
الإمام - رحمه الله تعالى - أن يؤديها له في هذا الطور المخيف، طور الانتقال
من سيطرة الحكومة الفردية إلى بحبوحة حكومة الأمة النيابية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كوارث سورية في سنوات الحرب
تعليق المنار على مقالات الأمير شكيب
الأمير شكيب كاتب سياسي بارع ومؤرخ، وقد كتب هذه المقالات للتاريخ،
فأثبت فيها ما رأى بعينيه، وما سمع بأذنيه، وما سعى إليه فأصابه، وما سعى
إليه ولم يُصبه، وليس الأمير بالرجل الظَّنون، وما هو على سياسة الاتحاديين
بظَنين، بل كان متهمًا بمشايعتهم؛ لأنه كان في السياسة الخارجية من شيعتهم.
كل مَن قرأ مقاله بإنصاف يجزم معنا أن الحكومة التركية لم تكن تريد في تلك
السنوات إماتة السوريين بالجوع، ولا اللبنانيين منهم، ولم تفضل المسلمين على
النصارى في التموين ولا في غيره من المعاملات، بل كانت وطأتها عليهم أشد،
ولم تبطل امتياز لبنان كما أبطلت الامتيازات الأجنبية كلها، ولكن هذه المقالات
أيدت الآراء المهمة التي كنا نعتقدها، ونصرح بها، قولاً وكتابةً، وإن حكمت
المراقبة على الصحف بمنْعنا من بعض ما كنا نكتب:
1-
كنا نعتقد أن جمعية الاتحاد والترقي قد افترصت ما أعطتها الحرب من
التصرف في سلطنة آل عثمان بالحكم العرفي العسكري للقضاء على الشعب العربي
فيها، وجعْل سورية والعراق ولايات تركية، وأن النهضة العلمية والوطنية لما كانت
في سورية أقوى منها في العراق - عجل جمال باشا بتتريكها بالقوة القاهرة، متوسلاً
إلى ذلك بتعريض الضباط والجنود منها للقتل في المعارك الخطرة، وبتقتيل رجال
النهضة الفكرية والقلمية، وبنفي البيوت ذات الثروة والمُلك الواسع إلى الأناضول؛
لأجل إدغامهم في الشعب التركي هنالك، ثم بالإتيان ببيوت تركية تَخلُفهم في بيوتهم، وأملاكهم في سورية، فجمال باشا كان منفذًا لقرار جمعيته الاتحادية الطورانية، لا
مبتكر لهذا الفساد.
راجع قول جمال باشا للأمير شكيب معاتبًا له على التوسل إليه بطلعت باشا
أن يكف عن القتل والصلب: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورة رفقائي؟ !
(آخر ص 130) ، ثم ما بعد هذا من خيبة الأمل بالتوسل بأنور باشا، ثم راجع
كلامه في (ص 202) ، وما بعدها عن إجلاء السوريين عن وطنهم الذي وُضع له
اسم (التهجير) ، ثم راجع في (ص 292) مسألة محاولة جعْل سورية تركية
بمشروع قانون وُضع لذلك، كانوا يريدون تقريره في مجلس المبعوثين.
2-
كنا نعتقد أن محاكمة جمال باشا - لمَن يريد قتْلهم - محاكمة صورية لا
يُراد بها إحقاق الحق ليُتَّبَع، ولا تمييز ما يشوبه من الباطل ليُجتَنَب، وإنما هو
رياء السياسة العصرية المعهود من سائر الدول في معاملة مَن يعده أهلها عدوًّا لهم،
يحاكمونه لأجل إدانته، والحكم عليه، ولا يعدمون ما يُثْبتون به التهمة من الإفك
والتأويل، وليس لإحكامهم معقِّب من استئناف أو نقض وإبرام، فيفند ما يأفكون!
راجع قول الكاتب عن جمال باشا: إنه لما صمم على شنق الجماعة (استدعى
إليه شكري بك رئيس الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما
علمت من شكري بك نفسه - أسماء أربعين شخصًا يجب أن يحكم عليهم بالموت! ،
فراوده شكري بك كثيرًا، ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل! إلخ (آخر ص 131،
وأول ص 132) .
3-
كنا نعتقد أن هذه الخطة خطة جهل وغرور؛ لأنها تكون سببًا طبيعيًّا
ليأس العرب من هذه الدولة، وحمْلهم على الخروج عليها، في الوقت الذي يجب
فيه من توثيق روابط الإخاء والولاء - ما لا يجب مثله في غيره؛ لأنه أرجى
الأسباب لانتصارها، ففوته من أعظم الأسباب لانكسارها، وعندما بلغتنا أنباء
فعائِله، بل فظائعه - قلت لبعض إخواننا: إنني أتمنى لو أمكنني أن أصل إلى
جمال باشا؛ لأبين له خطأه، والخطر على الدولة منه، فكانوا يقولون لي: إذًا يبدأ
بقتلك، وصلبك، ولا يرجع عن ضلاله!
وقد ظهر أن الحق كان معهم؛ فإن الكاتب بذل له هذا النصح فلم يسمع له،
بل لولا صداقته لأنور وطلعت لفتك به؛ فإن هؤلاء المغرورين كانوا يظنون أن
البلاد العربية - التي جندوا منها خمسمائة ألف مقاتل - تظل خاضعة لهم، حتى
بعد اليأس من إمكان حفظ لغة شعبها ودينها، والأمن على وطنها في ظل دولتهم! ،
وأن الخضوع بقوة الإرهاب خير من الخضوع بوازع الإخلاص! وكانت الحرب
خير الفرص لاستمالة مَن نفرهم الاتحاديون من الدولة، وأيأسوهم من حفظ حقوقهم
أو حياتهم معها، فعند الشدائد تذهب الأحقاد، ولكنهم زادوهم نفورًا، وتأمل كيف
كانت إنكلترة تبالغ في مدح أهل الهند ومصر، وفرنسة تبالغ في مدح أهل تونس
والجزائر.
راجع (في ص 203) قول الكاتب في رئيس (قومسيون التهجير) نوري
بك المفسد: إنه كان يكره في الباطن جمالاً وطلعت، وكل رجال جمعية الاتحاد
والترقي، ولكنه كان يغري جمالاً بالنفي والتغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه
الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر،
وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس إلخ.
4-
كنا نعتقد أن ثورة الحجاز توقف بغي جمال عند حد، وأنه هو الذي
جعلها ضربة لازِب لا مناص منها ولا مفر، وذلك أن الفارّين من بغي جمال باشا
هم الذين جرّؤوا الشريف حسينًا على ما كان يهواه من الثورة، وهم الذين قاموا مع
الضباط العراقيين بأثقل أعبائها.
وقد كان الأمر كذلك كما بيَّنه الأمير شكيب في فصل خاص من مقاله،
فراجِعْه في (ص207) وما بعدها، فقد صرح في أوله بأن جمالاً خاف العواقب،
فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، وبأنه استدعاه هو وبعض زعماء العشائر -
وسماهم - وتكلم معهم في اتحاد العرب والترك، وفي مقاصد الدولة العلية الحقيقية،
(قال) وأفاض بكلام بعضه صحيح، وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على
الأمانة للدولة، وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية -
لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة، وتصديقه
لمعاهداتها إلخ.
ثم ذكر أن توفيق بك - الذي جعله جمال باشا وكيلاً لولاية الشام - اجتهد في
إقناعه بوجود مؤامرة على قتله، وخلع طاعة الدولة، وأنه مع ذلك اضطر إلى
الاكتفاء بالحبس، ولم يتجاوزه إلى القتل، أي بعد أن كان يقتل بغير ذنب، وذكر
ما قيل من أن الآستانة أنذرته في هذه الكَرَّة إنذارًا شديدًا بأن يعدل عن خطته
المعهودة؛ لأنه قد طفح الكيل إلخ.
وقد كنت صرحت بما يُرجَى من هذا التأثير في مقالة (المسألة العربية)
التاريخية التي نُشرت في الجزء الأول في المجلد الأول من المجلد العشرين - الذي
صدر في شوال سنة 1335 (يوليو سنة 1917) - بعد أن حذفت المراقبة
البريطانية منها ما حذفت، وكانت كُتبت في السنة التي قبل هذه السنة، ثم صرحت
في الفصل السابع من الرحلة الحجازية: (بأن الثورة الحجازية قد أدت وظيفتها،
وأفادت ما رجوناه منها، فأنقذت الحجاز، وأوقفت بغي البغاة) ، ولكن خاب
سعيي في إيقافها عند هذا الحد؛ حتى لا تكون من أسباب انكسار الدولة في الحرب،
كما بينته في مواضع متعددة بالتلميح عند العجز عن التصريح، ثم بالتصريح
عقب زوال المراقبة.
5-
كنت أعتقد أن المصلحة العامة للبشر عامة - وللشعوب المستضعفة
خاصة - أن تنتهي الحرب الكبرى بهدّ قوى الحلفين القائمين بها جميعًا، وعَوْد
التوازن بين دولهما في عهد الضعف إلى ما كان عليه في عهد القوة، وإلا فبانتصار
الحلف الذي فيه الدولة العثمانية، وكان يخالفني في هذا بعض مَن أكاشفهم به،
حتى من المسلمين، قائلين إن الاتحاديين إذا انتصروا لا يقف بغيهم عند حد، فهم
سيقضون على الأمة العربية قضاءً مبرمًا، ويستعبدونها استعبادًا لا تقوم لها بعدها
قائمة، وسيقضون أيضًا على الدين الإسلامي متممين ما بدؤوا به، وكنت أجيب
بأنني أعلم من سوء نية زعماء الاتحاديين فوق ما تعلمون، ولكنني أعتقد أن
الألمان لا يمكِّنونهم من مثل هذا الإفساد، الذي يضطرون إلى السكوت لهم عليه في
زمن الحرب اتقاءً للفشل فيها، وأنه لا بد أن يقدر الألمان من قدر الأمة العربية ما
لا يقدره هؤلاء الاتحاديون المتطرفون، وأن الشعب التركي -الذي يغلب عليه
التدين بالإسلام - سيكون عونًا لنا وللألمان عليهم.
وقد ذكر الأمير شكيب في مقالته ما يؤيد هذا الرأي، ما سبق له في هذه
السبيل من السعي، وهو ما ذكره في (ص 132) من سعيه لدى قنصل ألمانية في
الشام؛ ليتوسل بنفوذ حكومته لدى حليفتها بمنع فظائع جمال باشا؛ لأن الضرر
يعود عليها من ذلك، وقوله: (إن قتل هؤلاء الجماعة سيُحدث بين العرب والترك
فنتة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدولة الائتلافية قوة أمة جديدة هي الأمة العربية) ،
وقول القنصل - بعد إخباره إياه بعجز سفارتهم في الآستانة عن عمل شيء في
هذا الباب -: (إن الأتراك سيندمون على هذا العمل) ، ثم ما ذكره في (ص
133) من سعيه لدى فون كولمان - الذي كان سفير الدوة الألمانية في الآستانة -
لجعْل الترك والعرب كالنمسة والمجر ثم لدى خلَفه الكونت برنستورف، الذي
كان يصرح بأنه على هذا الرأي إلخ.
فثبت بهذا أن آراءنا كانت صحيحة؛ لأنها مبنية على الروية والتدقيق في
البحث عن الحق، ولكنني لم أكن آمنًا من عاقبة غرور الاتحاديين وتهورهم إذا
انتصروا، ولا يائسًا من رحمة الله بهذه الأمة إذا انكسرت الدولة بسوء تصرفهم،
ولا محل لشرح هذا هنا.
هذا، وإننا سنعود إلى شيء من هذا البحث في الرحلة الأوروبية، ونبين فيها
ما كان من شدة نفور السواد الأعظم من الترك من أعمال الاتحاديين، وإضمارهم
للثورة عليهم بعد الحرب، ومن منع الغازي مصطفى كمال باشا لزعمائهم من
دخول الأناضول مدة الحرب لكراهة الأمة لهم، وحذرًا من وقوع الشقاق بوجودهم،
وما علمناه مما لقينا من الاتحاديين أنفسهم من اعترافهم بخطئهم في المسألتين
العربية والإسلامية، ومن سعيهم الآن لتكوين الجامعة الإسلامية، مع عدم الرجوع
عن الجنسية الطورانية، وقد تولى جمال باشا أفضل عمل يمكن عمله للجامعة
الإسلامية، وهو تنظيم الجيش الأفغاني الباسل، ولكن وردت الأنباء بأن بعض
أشقياء الأرمن قد اغتاله في القوقاس منصرفًا من أوربة إلى الأفغان، ولا شك أن
فقده الآن خسارة كبيرة؛ لأنه كان قائمًا بعمل عظيم، ولكن رجال الثورات قلما
يموتون حتف أنوفهم.
_________