المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

(س 25) من صاحب الإمضاء (في كندا) يا صاحب الفضيلة: لي

الشرف أني أعرض على مسامعكم، ونأخذ لنا قاعدة من فضيلتكم، وأنتم أهل لها؛

لكي يستقيم الحق، ويزهق الباطل، وتنشرح الصدور، ولكم الأجر والثواب،

رفعكم العزيز الوَهَّاب.

يا صاحب الفضيلة: سؤالي لمقامكم العالي عن الأتراك والأعاجم: ما هم؟ ! ،

هل هم إسلام كما يزعمون؟ ! ، وهل هم صادقون سرًّا وجهرًا؟ ! ، أم هم كما

يزعم البعض في هذه الأيام أن الأتراك خصوصًا غير إسلام لا سمح الله بذلك؟ ! ،

وهذا خلاف ما نعهد بهم، وكيف نسمع في هذه الأيام عنهم مثل هذا من رجال كنا

نَعُدُّهم قوامًا للأمة، ومنهم الفاضل

قال - في كتاب مخصوص لي - بهذا الأمر:

إن القوم هم أعداء الإسلام، وإنه يجب أن لا يهتم بهم، ولا مصطفى باشا،

وقوله عنه: هذا التتاري، وإنهم - أي الأتراك - هم سبب انحطاط الإسلام إلى

هذه الحالة، وإن السلطان الفاتح عقد محالفة مع فرديناند على قتل عرب الأندلس،

وإنه ربط البحور، وسدّ المنافذ بوجه مَن ينجدهم من إخوانهم حتى قُتلوا جميعًا

إلخ، وقوله عن السلطان عبد المجيد، ومحمود أطلقوا يد الإباحة فيما يخالف الدين

بدل أن يمنعوا، وتغييرهم الزي إلى الإفرنجي الذي يعيق المسلم عن الوضوء من

ضيق اللباس - الله أكبر لذلك - وقوله عن السلطان سليم السلطان الأحمر الأول،

واغتياله للخلافة من العباسي الفاطمي بمصر، وبقْره بطون الأمهات لقتل الجنين

لأجل أن لا يعود يطالبه بالخلافة الوهمية، نعوذ بالله من هذه الفعال التي كانت عنا

بطي الغيب إن كانت صدقًا، وكيف يدعوه المسلمون أمير المؤمنين وخليفة الله في

أرضه؟ !

ويزعم في الطورانيين أن باكورة أعمالهم قتل العرب، وتبديل القرآن، وأنهم

نزلوا في الحرب لأجل هذا، ويحلف اليمين على ذلك، وأن علماء الإسلام يعرفون

هذا كله، كما يعرفون دينهم الشريف، وسكتوا عن المرض حتى وصلنا لما نحن

عليه، ومثل هذا كثير من أعمالهم، وحيث إني على غير علم بشيءٍ من هذا كله -

قبل الآن - أتيت لكي أستنير من مناركم الشريف؛ لكي يهدأ روعي من وخز

الضمير لهذه الأخبار، عسى أن تلبّوا تلميذكم من كرمكم الذي وهبكم إياه رب

العالمين، وصلى الله وسلم على محمد النبي الكريم وآله وصحبه الطاهرين.

نرجوكم أن تفتنونا عن سؤالنا إما خصوصيًّا، وإما بنشرها بالمنار؛ لكي

يكون واضحًا، ونكسب إيمانًا بإيمانكم إن شاء الله، وتكونوا قدمتم خدمة يرضى بها

عنكم الله ورسوله والمؤمنون مع الثواب، وبإفتاكم نحصل على الحكمة، وفصل

الخطاب.

حسين عبد الرحمن دسوقي

(المنار)

اعلم - أيها المسلم المخلص الغيور - أن إسلام شعوب الأعاجم من الترك،

والفرس، والأفغان، والتتار والهند، والصين، والملاو وغيرهم كإسلام الشعب

العربي، وأن العرب في هذا العصر لا يستطيعون أن يفضلوا أنفسهم على الترك،

ولا على غيرهم من العجم في علم من علوم الإسلام، ولا عمل يعتز به المسلمون،

بل يعتقد أكثر المسلمين من العرب والعجم أن الأمر بالعكس؛ حتى إنني سمعت أحد

أمراء الفرس وفي أوربة يقول: لولا مصطفى كمال باشا لكان كل مسلم في الأرض

ذليلاً، ولكن العرب يفضلون جميع الأعاجم بما يعترف لهم به كل مسلم منهم، وهو

كوْن خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم والسواد الأعظم من أصحابه (رضي

الله عنهم) من صميم العرب، وهم الذين أقاموا دين الله كما أنزله، وهدى الله بهم

وبتابعيهم وتابعي تابعيهم مَن هدى من الأعاجم، الذين شاركوا العرب - بعد ذلك -

في تدوين علوم الإسلام وفنون لغته، ثم في إقامة مُلكه، وإعلاء كلمته.

وأما فتنة التنازع على المُلك والخلافة - وما تبعها من سفك الدماء - فقد كان

العرب هم الذين أوقدوا نارها أولاً، وزلوا بالإمامة الكبرى عن صراطها الذي

وضعها فيه كتاب الله تعالى وهَدي رسوله صلى الله عليه وسلم وهو اختيار

أهل الحل والعقد لمَن يرون فيه الكفاءة والكفاية بالعلم والعمل من زعماء قريش،

وجعلوها ملكًا عَضوضًا، مدارُهُ على قوة العصبية، ثم أهملوا وقصروا في إحكام

قوة العصبية، واتَّكل بعض الخلفاء من العباسيين على عصبية الفرس، ثم تحولوا

عنهم إلى عصبية الترك، حتى آل أمرُهم إلى إضاعة الخلافة والملك، فإذا كان

لبعض سلاطين الترك سيئات - فيما رأوه خطأً أو صوابًا معززًا لملكهم - فقد

سبقهم العرب إلى مثل ذلك في حصار الأمويين لمكة وهدْمهم للكعبة المشرفة،

واستباحتهم للمدينة المنورة، وفي ظلمهم وظلم العباسيين من بعدهم لآل بيت

الرسول صلى الله عليه وسلم وسفْك دماء الكثير منهم ومن غيرهم بالشبهة،

وتهم السياسة.

وأما البدع في الدين والفسق عنه فقد فشيا في جميع الشعوب الإسلامية في

القديم والحديث؛ حتى صار المتشدد في ترْكها، وإنكارها على أصحابها يُرمَى

بالابتداع، كما يفعل أهل مكة، وأهل الشام وغيرهم؛ إذ يسمون أهل نجد مبتدعة،

ويسمون أنفسهم سُنِّيَّة!

ثم اعلم - أيها السائل المخلص - أن سبب طعن بعض العرب في الترك في

هذه السنين الأخيرة هو السياسة، وأن الذي أثار هذه الفتنة جمعية الاتحاد والترقي

التي فُتنت بالعصبية الجنسية الطورانية أشد فتنة، ولا شك عندي في أن بعض

زعمائها من الملاحدة، ولا في أنهم حاربوا الإسلام، وأرادوا إضعاف سلطانه

الروحي؛ تمهيدًا لإزالة سلطانه السياسي، ولا في أنهم هم الذين نشروا تلك الكتب

الكثيرة المشتملة على الطعن فيه، وصد الترك عنه، وأن في متفرنجي الترك كثيرًا

من المرتدين، الذين راجت هذه الدعوة فيهم، وقد بينا هذا من قبل لإنكار المنكر،

والأمر بالمعروف، والتحذير من عواقب هذه الفتنة؛ لئلا تكون هي القاضية على

الدولة، التي هي على ضعفها أقوى سياج لهذه الملة (الإسلامية) ، وقد وقع ما

توقعناه من شرها، وحذَّرْنا التركَ منه مشافهةً لكبرائهم في الآستانة وكتابةً في

جرائدها وفي المنار. ولولا هذه الفتنة التي اصطلى بنارها ألوف من شبان العرب،

وكهولهم في الآستانة، ثم في غيرها، وما كان من فظائع جمال باشا في سورية

بسببها - لما وقعت الثورة الحجازية، وكانت أحد أسباب ما وقع من المصائب على

الأمة الإسلامية، التي كان ضررها على العرب أشد من ضررها على الترك.

ثم أخبرك مع هذا بأن في شبان العرب - الذين ناهضوا الترك، وعادوهم -

ملاحدة كمَن ذكرنا من الترك؛ لأنهم تعلموا، وتربوا في مدارس واحدة، ولما

نصحنا لمَن لجأ منهم إلى الحجاز في أثناء الثورة بأن يحترموا بيت الله، ولا

يُظهروا شيئًا من إلحادهم فيه - غضب علينا ملك الحجاز، ومنع المنار من الحجاز،

كما بينا ذلك من قبل.

ثم أخبرك أن الاتحاديين قد عرفوا بعد الانكسار في الحرب العامة خطأهم،

واعترف لي مَن لَقِيتُ في أوربة منهم بذلك، وهم يجتهدون الآن في إحياء الجامعة

الإسلامية لا يختلف في ذلك المتدين منهم بالفعل مع غيره، حتى إن جمال باشا -

وهو أشدهم إجرامًا، وعصبية طورانية -قد خدم الدولة الأفغانية الإسلامية الفتاة

أجلّ خدمة، كما أخبرك أن جمهور الترك كانوا قد سخطوا عليهم في أثناء الحرب،

وأظهروا الطعن فيهم، وعزموا على الثورة عليهم، والتنكيل بهم، وأكد لي بعض

المؤمنين منهم في أوربة أن الدولة لو انتصرت لقامت فيها ثورة داخلية بسبب حنق

السواد الأعظم من الترك عليهم.

وجملة القول أن الترك كالعرب، السواد الأعظم منهما مسلمون مقلدون، وفي

كُلٍّ منهما علماء مستقلون ومتمذهبون، وفي كل منهما ملاحدة ومبتدعون،

وصالحون وفاسقون، وإن الترك خير من العرب استمساكًا بما يجب من المحافظة

على الاستقلال والسلطان القومي والعمل للجامعة الإسلامية، وإنه لا فائدة لأحد من

الفريقين في الطعن بالآخر، والبحث عن عيوبه القديمة والجديدة الآن، بل ذلك

ضارّ بهما، ومفيد لأعدائهما، فلا حاجة إذًا إلى البحث فيما كان من تقصير

السلطان محمد الفاتح في إغاثة مسلمي الأندلس، والدفاع عنهم، أو مساعدته على

القضاء عليهم، ولا في قسوة حَجَّاج الترك السلطان سليم، وإسرافه في سفك الدماء،

على أنه أعز دولة الإسلام، وأذل أعداءها؛ فكان خيرًا من حَجَّاجنا، وأما الطعن

في دين السلطان محمود بتغييره للزي العثماني الرسمي، واستبداله الزي الإفرنجي

به فهو ظلم مبين؛ فإن الزي العثماني السابق لم يكن زيًّا دينيًّا، والدين لم يأمر

بالتزام زي خاص، وما صَحَّ من نهينا عن التشبه بغيرنا يُراد به أن الإسلام قد

جعلنا أئمة متبوعين لا تابعين لغيرنا، ولو في المباح كالزي، ولكن التشبه لا

يتحقق إلا بالقصد والمحاكاة التي يشتبه فيها المتشبه بالمتشبَّه به فيما فيه التشبه،

ولا يسهل تطبيق ذلك على عمل السلطان محمود، الذي أدخل به الإصلاح

العسكري الجديد في الدولة، فأنقذها من فوضى الإنكشارية التي كادت تقضي عليها،

ولم يكن الزي الذي اختاره عائقًا عن الصلاة، وإنما يعوق عنها ما أُحدث بعد ذلك

من السراويلات الحازقة (الضاغطة) كالتي يلبَسها ضباط الشرطة (البوليس)

بمصر، وقد فصلنا القول في اللباس والتشبه من قبلُ.

وأما ادعاء أن السلطان محمود والسلطان عبد المجيد أباحا مخالفة الدين، فلا

ندري من أين جاء بها ذلك الذي كتبها إليكم، وكان ينبغي لكم أن تسألوه عن حجته

عليها، فالمشهور عنهما خلاف ذلك، حتى إن الترك يضربون المثل بشدة تديُّن

عبد المجيد بكل ما يفهم به الدين جماهير المسلمين من الترك والعرب، على أن

هذا الوقت لا يفيدنا فيه أن نبعثر القبور، ونحصِّل ما في الصدور، ولا لأجل

تمحيص التاريخ في هذا الموضوع، فكيف إذا كان الغرض من البحث إثارة العداوة

بين أكبر شعوب المسلمين، وهو أقرب الطرق لاستذلال الأجنبي لهما جميعًا، فهذا

ما نراه من الجواب موافقًا لمقتضى الحال، والسلام على مَنِ اتبع الهُدى، ورجح

الحق على الهوى.

_________

ص: 431

الكاتب: محمد رشيد رضا

مدنية القوانين

أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية

(1)

مقدمة تمهيدية

قررت الدولة البريطانية إلغاء الحماية التي كانت ضربتها على مصر،

واعترفت لها بأنها دولة دستورية ذات سيادة، واعترف لها بذلك الدول الكبرى

وغيرها، وألفت الحكومة المصرية لجنة لوضع قانون أساسي للدولة المصرية،

وكان مما وضعته هذه اللجنة من مواد الدستور الأساسية أن دين الدولة المصرية

الرسمي هو دين الإسلام، وأنه يُشترط في ملكها أن يكون مسلمًا ثابت النسب في

بيت الملك العلوي بزواجٍ شرعيٍّ، فساءت هذه المواد بعض ملاحدة المتفرنجين

المقلدين لأعداء الأديان من الإفرنج في الدعوة إلى التفصِّي من روابط الدين، ولا

سيما السياسية والاجتماعية منها، وهي التي يبدءون بها؛ لعِلمهم بأن الروابط

الروحية لا سبيل إلى إبطالها، ومَحْوها من الأمة، ولكنها تضعف، ويتركها أهلها

بالتدريج، إذا لم يكن لهم - ولا لها - شأن في الحكومة، ولا في الروابط

الاجتماعية العامة.

قام كاتب منهم في هذه الأيام يقترح من الإصلاح لمصر في عهد الاستقلال

والدستور أن توحد قوانينها؛ لتُجعل كلها مدنية بوضع قانون مدني للأحوال الشخصية

من زواج وطلاق وغير ذلك، ويعنون بالمدني ما يقابل الديني، واحتج هذا المقترِح

على رأيه بأن الشريعة الإسلامية غير عادلة؛ لأنها تبيح للمسلم أن يتزوج يهودية

أو نصرانية، ولا تبيح أن يتزوج غير المسلم امرأة مسلمة!

ساء المسلمين هذا الاقتراحُ، وأنه صادر عن كاتب يُعَدُّ منهم، ورد عليه

كثيرون في جريدة الأهرام التي نشر فيها وفي غيرها من الجرائد، ونزل بعض

علماء الأزهر هذه المرة في الميدان، فكتب أفراد منهم مقالات في الرد، منها

اللطيف اللين في القول الذي لم يَسُؤْ المردود عليه، ومنها الشديد الوطأة الذي ساءه

وعدَّه ذمًّا وطعنًا، لا تخطئةً ونقدًا، وقد تبارت الأقلام في بيان حكمة الشرع

الإسلامي في إباحة التزوج بالكتابية دون تزويج الكتابي مسلمة، فأجادت، على أن

كل واحد مما اطلعنا عليه منها ترك لغير صاحبه في ذلك مقالاً.

وقد ذاكرني بعض علماء الدين وطلبة الأزهر وغيرهم في ذلك، ورغبوا إليَّ

أن أكتب في الرد ما يرجون أن يكون حزًّا في المفصل، وضربًا على الأكحل،

وأنا أعلم أن جميع قراء المنار ينتظرون ذلك مني، ولا يرون أنهم في حاجة إلى

الطلب والاقتراح لما تعوَّدوه من تتبُّع المنار لأمثال هذه المطاعن في دين الإسلام

الحق، وشرعه العدل، والرد عليها بما كانوا يعدونه القول الفصل، ولكنني لم

أبادر إلى الرد لعِلمي بأنه من فروض الكفاية التي تسقط بقيام بعض المسلمين بها،

وكنت أنتظر لأرى هل يتناول ما يكتبون جميع ما أرى أنه ينبغي أن يُكتَب، فأكون

في حِلٍّ من ترك الكتابة، فرأيت كل ما اطلعت عليه خِلْوًا من أهم ما أرى وجوب

البحث فيه، ورأى مثل هذا أفضل مَن كلمني في المسألة من أهل العلم والرأي،

ولا سيما بعد أن ذكرت له بعضه، فأعاد عليَّ ما بدأ من الاقتراح والرغبة، فوعدته

كما وعدت غيره.

***

مسألة التزوج بالكتابية وعدم تزويج الكتابي

إن أهون ما في مطالبة الحكومة المصرية بجعْل قانون الأحوال الشخصية

مدنيًّا لا دينيًّا - ذلك الاستدلال الضعيف على الحاجة إلى ذلك بدعوى عدم عدل

الشريعة في مسألة أو مسألتين من النكاح، فلو لم تُعرف حكمة للشريعة في الفرق

بين المسألتين تقتضي عدم تساوي الحكم فيهما - لما جاز للعاقل أن يعترض عليها،

ويَعُدَّها غير عادلة، ولا مساوية بين المسلم وغيره؛ لأن المساواة إنما تُطلب في

الأحكام المفروضة على متَّبِعي الشريعة والمتقاضين إلى حكامها، وهذه المسألة

خاصة بما يباح للمسلم، وما يحرم عليه في النكاح دينًا، وغير المسلم لا يُخاطَب

بالعمل بفروع الشريعة فيما يباح له، ويحظر عليه مما هو خاص به، لِتَساوٍ بينه

وبين المسلم فيه، وهي لا توجب على المسلم أن يتزوج كتابية، ولا تُلزم الكتابي

أن يزوجه ابنته إذا طلبها، ففي استطاعة الكتابي أن يكون مساويًا للمسلم إذا رأى

ذلك خيرًا له، بأن لا يزوجه.

على أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات

وإنكاح المشركين، وبحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب، ولم يصرح بتحريم

إنكاحهم، ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أن المشركين والمشركات في آية البقرة

يشمل أهل الكتاب، ثم جاءت آيه المائدة بحل نكاح الكتابيات، فكانت ناسخة أو

مخصصة لآية البقرة، والشيعة يحرمون نكاح الكتابية، والتحقيق أن المراد

بالمشركين والمشركات في الآية خاص بالعرب منهم، كما رُوي عن قتادة وغيره،

واختاره ابن جرير، وأن أهل الكتاب - وإن أُسند إليهم الشرك - فعنوان المشركين

عند إطلاقه لا يعمهم، ومن الفقهاء مَن يقول: إن العمدة في تحريم إنكاح غير

المسلمين أن الأصل في النكاح التحريم حتى يرد النص، ولم يرد إلا بالمؤمنة

والكتابية، ويمكن النزاع في هذا الأصل وأن يقال: إن الأصل في جميع عقود الناس

الصحة والحل حتى يرد شرع بخلاف ذلك، وأن يُستدل على ذلك بإقرار مَن يدخل

في الإسلام على نكاحه قبله، وبإقرار أهل الذمة على أنكحتهم، والحكم بمقتضى

ذلك عند تحاكُمهم إلينا وبقوله تعالى - بعد بيان محرمات النكاح من سورة النساء -:

{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) ، وغرضنا من هذا أنه لو لم يكن

لدينا من الدلائل والحكم ما نؤيد به المسألة المعترَض عليها لكان لنا أن نقول: إن

الاعتراض لا يرد على أصل الشرع القطعي، بل على مسألة فرعية من مسائله،

اتفقت فيها المذاهب لسد ذريعة الفساد الذي سنبينه، وهو ما عُلل به النهي عن

مناكحة المشركين في النص، على ما بينهم وبين غيرهم من الفرق.

بل نقول: إن هؤلاء المتفرنجين - ولا سيما علماء القانون منهم - لو عرفوا

جميع ما يتعلق بهذه المسألة من الأحكام والحِكَم لعدّوها مما يفاخر به المسلمون جميع

أهل الملل والأديان بحرية الدين، وترغيبه في مودة غير المسلمين؛ فإن الإسلام قد

جاء لإصلاح ما أفسد البشر من دين الرسل ولتكميله وإتمامه، وقد كانت جميع الأمم

عند بعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم تحقر النساء، وتهضم حقوقهن،

فجاء الإسلام بالقاعدة العليا التي لا تعلوها - ولن تعلوها - قاعدة، وهي قوله:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) ، أي

درجة الولاية ورياسة الأسرة، وكانت حرية الدين مفقودة عند جميع الملل، فجاء

بالقاعدة العليا فيها، وهي قوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) .

فالشريعة تفرض على المسلم - الذي يتزوج امرأة غير مسلمة - أن يسمح لها

بأداء عبادات دينها في الدار وفي المعبد كما تشاء، ولا يخشى أن تسمع منه تكذيبًا

لأصل كتابها، ولا للرسل الذين تؤمن بهم وتحبهم؛ لأنه يؤمن بذلك، فهو إذا

تزوجها، وأقام أحكام الشريعة، وحكَّمها فيها يكون ذلك الزواج من أكبر أسباب

التآلف والمودة بين الزوجين؛ لأن روح الزواج وسره الأدبي هو ما بيَّنه تعالى

بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً

وَرَحْمَةً} (الروم: 21) ، وقد يسري التآلف من الزوجين إلى عشائرهما وإلى

أقوامهما.

ولو تزوج غير المسلم بالمسلمة - وهو لا يَدين الله كالمسلم بحُرية الدين التي

توجب عليه أن يسمح لها بأداء واجبات دينها، وإقامة شعائره، ولا يدين الله

كالمسلم بمساواة النساء للرجال بالمعروف، فيما عدا تلك الدرجة فقط، ولا يُؤْمَن

أن يفتنها، وينطق أمامها بتكذيب كتابها ورسولها - لكان ذلك ظلمًا لها في دينها

ودنياها، وسببًا للضغائن والعداوة بين العشيرتين، وإذا تعدد يكون سببًا لانتشار

العداوة في أهل الملتين.

ولا يُعترض على هذا باختلاف أحوال الأمم، وكوْن الكثيرين من مسلمي

زماننا يظلمون النساء في دينهن ودنياهن، وكثير من غيرهم لا يظلمنهن ظلمهم،

بل يعاملوهن بما يرضيهن، فإن أحكام الدين موضوعة لمَن يتبعون الدين عن إيمان

وإذعان نفسي، وإلا فإن من الدعاة إلى هدم شريعة الإسلام مَن يسمون بأسماء

المسلمين، ويشاركونهم في جميع حقوق المسلم على المسلم من إرثٍ ووقف وزواج

وغير ذلك.

لا نطيل القول في هذه المسألة لما علم القارئ من أنها فرعية وثانوية في

موضوع البحث، ولما سبق لنا من القول فيها في التفسير والفتاوى؛ ولأن العلماء

الكرام الذين ردوا على مقترح مدنية القوانين - أحسنوا فيما كتبوا فيها، بل نكتفي

بهذه الكلمة، ونطيل بعض الإطالة في الأمر الأهم، والبلاء الأعظم، وهو الدعوة

إلى ترك الشريعة الإسلامية، ونبذها وراء الظهور، حتى في الأحكام الشخصية

التي تتعلق بما يدين المسلمون ربَّهم به، فيما يُحِلّ لهم، ويُحَرِّم عليهم في أمر

النساء والنسل والإرث، بحيث تكون حكومتهم مكرِهة لهم على ما يعتقدون أنه

محرم عليهم، وأنهم يعاقَبون عليه في الآخرة، وأن استحلاله كفر بالله وبكُتُبه

ورسله، وما في ذلك من الضرر على الأمة في دنياها التي هي أكبر هَمِّ هؤلاء

المتفرنجين.

غرض المتفرنجين والإفرنج من إبطال الشريعة:

هذا الفريق من المتفرنجين ربيب بعض ساسة الإفرنج الذين سَعَوْا لتحويل

حكومة مصر وغيرها عن أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية،

والعقوبات وغيرها، واستبدال قوانينهم بها، فكان لنجاحهم تأثير عظيم في إضعاف

مقوماتنا المِلِّية بإعراضنا عن أصول التشريع الذي قامت به مدنيتنا العربية الزاهرة،

وعن تاريخ هذه المدنية، وعظماء رجال الشرع من أئمة مجتهدين وحكام عادلين،

فأصبحت الأمة بذلك مهينة في نفسها؛ لأنها لا تعرف لها سلفًا صالحًا تفخر به،

وتهتدي بهَدْيه في أشرف مقومات الأمم المدنية، وهو الشرع العادل، والحكومات

المعمرة، وحل محل احتقارها لنفسها تعظيم الأجانب الطامعين فيها، الساعين

لتقطيع جميع روابطها؛ ليسهل عليهم استعبادها.

وإن هؤلاء التلاميذ لَيعملون لأساتذتهم ما لا يستطيع أولئك الأساتذة أن يعملوه

بأنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم يخدمون الأجانب، بل يحسبون أنهم يخدمون بلادهم

وأمتهم بالصعود إلى مستوى أولئك الأجانب في الحضارة، فإنهم لا يُتَّهمون كما يتهم

الأجنبي؛ لأن المسلمين يعدونهم منهم، وقلما يدعو أجنبي دعوة صريحة - في بلاد

إسلامية - إلى ترك أحكام الشريعة، بل هم يسيرون في حل الرابطة الإسلامية في

شعوب المسلمين من طريقين: (أحدهما) : تعليم المدارس الخاصة بهم كمدارس

دعاة النصرانية (المبشرين) في بلاد الإسلام، ومدارس بلادهم التي يرحل إليها

الطلاب المسلمون، ومدارس الحكومة التي يسيطرون عليها، ولهم في كل نوع

منها أسلوب خاص، (والطريق الثاني) : إقناع المتفرنجين من الأمراء والحكام

والكُتَّاب بوجوب الفصل بين الدين والحكومة، وبأن الشرع المبني على أصول

الدين لا يصلح لترقي البشر الدنيوي. وبأن الشرع الإسلامي قد وُضع لأمة بدوية

أو قريبة من البداوة؛ فلا ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، وبوجوب

توحيد قوانين الأمة، وجَعْلها موافِقةً لجميع أهل الأديان في الوطن الواحد ومساوية

بينهم.

وطالما كشفنا هذه الشبهات في المنار، وبيَّنَّا الحق فيها، وأنه لا يرد على

الشريعة الإسلامية شيء منها، وأنها شريعة مدنية عادلة مرنة تنطبق على مصالح

البشر في كل زمان ومكان، وأن ذنب إضاعتها على أهلها، ولا سيما علماء

أصولها وفروعها، وأنهم إذا ظلوا على جمودهم التقليدي فلا بد أن يضيعوا البقية

المعمول بها منها.

ونبدأ كلامنا هنا فيما كان من السعي لهذا الأمر من عهد السير سكوت المستشار

القضائي الإنجليزي المشهور، الذي اقترح إلغاء المحاكم الشرعية من مصر، إلى

هذا العهد الذي اقترح فيه بعض المصريين (مدنية القوانين) ، وقد كان فيما بينهما

صيحة منكرة لأحد وكلاء النيابة من المصريين هي شر من هذا الاقتراح،

للتصريح فيها بهدم جميع أصول الإسلام، وعمل هادئ قَبِله الرأي العام، ولم ينكره

غير المنار، وهو ما تشتغل به الحكومة بمساعدة العلماء من وضع قانون للأحكام

الشخصية مستمد من الكتب الفقهية، ثم نعود إلى تلك النظريات، فنبين الحق

فيها، وما يجب على المسلمين - ولا سيما علماء الدين -: من السعي له، ومن

مقاومة تيار الإلحاد بالوسائل التي يُرجَى نفعُها، والاجتهاد في إقناع الملاحدة

بحقِّية الدين من أقرب طريق إلى تربيتهم وأفكارهم، وإلا فبإقناعهم بأن الشريعة

الإسلامية عادلة، وأن من أصولها الثابتة دفع المفاسد، وحفظ المصالح العامة في

كل زمن بحسبه، وأنها تعين على الحضارة وعزة الأمة، ولا تعارضها، وبما في

المحافظة عليها من المنافع والمصالح السياسية والاجتماعية والأدبية، وبما في

إهمالها من المفاسد المقابِلة لهذه المصالح.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 435