المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌الشفاعة الشرعية

والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية

تابع لما قبله

وسُئل أيضًا - رحمه الله تعالى - هل يجوز للإنسان أن يتشفَّع بالنبي صلى

الله عليه وسلم في طلب حاجة أم لا؟

(فأجاب) :

الحمد لله، أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق

يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.

ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة، واستفاضت به

السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضًا لعموم الخلق.

وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين

خاصة في رفْع الدرجات، ومنهم مَنْ أنكر الشفاعة مطلقًا.

وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون

بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: (أن عمر بن الخطاب كان إذا

قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل

إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون) .

وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ربما ذكرت قول الشاعر،

وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يَستسقي، فما ينزل حتى يجيش

كل ميزاب:

وأبيضَ يُستسقَى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فالاستسقاء هو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة،

ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما

أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه،

وقال: اللهم إِنَّا نستشفع، ونتوسَّل إليك بخيارنا، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع

(يديه) ، ودعا الناس حتى سقوا؛ ولهذا قال العلماء يُستحب أن يُستسقََى بأهل الدين

والصلاح، وإذا كانوا بهذه المثابة - وهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه

وسلم - كان أحسن، وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلاً قال: (إنا نستشفع بك

على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رُئِيَ

ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله؟ ! ، إن الله لا يُستشفع به

على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك) ، فأنكر عليه قوله: (إِنَّا نستشفع بالله

عليك) ، ولم ينكر عليه قوله:(نستشفع بك على الله) ؛ لأن الشفيع يسأل

المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن

يقضي حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله:

شفيعي إليك الله لا رب غيره

وليس إلى رد الشفيع سبيل

فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالِم، وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله

إلى رسوله، وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي {يَسْأَلُهُ

مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: 29) ، والرسول صلى الله عليه وسلم

يُستشفع به إلى الله، أي يُطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله

بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض

مَن يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها [1] أن يخرج منها، ولا نزاع

بين جماهير الأمة أن يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، وعند

الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر؛ لأن الكبائر عندهم لا تغفر، ولا

يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها، ومذهب أهل السنة

والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، ولا يُخلَّد أحد في النار من أهل الإيمان، بل

يخرج من النار مَن في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة.

والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله،

والسؤال بذاته بحضوره، فأما في مغيبه أو بعد موته - فالإقسام به على الله

والسؤال بذاته لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين [2] ، بل عمر بن الخطاب

ومعاوية ومَن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمَن كان

حيًّا كالعباس وكيزيد بن الأسود رضي الله عنهما ولم يُنقل عنهم أنهم في هذه

الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره، فلم يقسموا

بالمخلوق على الله عز وجل، ولا سألوه بمخلوقٍ، نبيٍّ ولا غيره، بل عدلوا إلى

خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم، روي عن

عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك

لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.

وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا [3] في دعائهم في

الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك ، ولا نُقل

عنهم [4] أنهم تشفَّعوا عند قبره، ولا في دعائهم في الصحراء، وقد قال صلى الله

عليه وسلم: (اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا، اشتد غضبُ اللهِ على قوم اتخذوا قبورَ

أنبيائهِم مساجدَ) رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره، وفي سنن أبي داود أنه قال:

(لا تتخذوا قبري عيدًا)، وقال:(لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ،

قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى

عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله.

وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم

رجلاً أن يدعو، فيقول: (اللهم إني أسالك، وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة،

يا محمد، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي؛ لتُقضَى لي، اللهم

فشفِّعْهُ فِيَّ) ، وروى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجه عن

عثمان بن حنيف رضي الله عنه: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله

عليه وسلم، فقال: ادعُ الله أن يعافيَني، فقال: (إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ

صبرتَ؛ فهو خير لك) ، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، فيُحْسن الوضوء،

ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسالك، وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله

إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفعه فيَّ) قال الترمذي:

حديث حسن صحيح [5]، ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال:

يا رسول الله، ادعُ الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلقْ، فتوضأْ،

ثم صَلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري،

اللهم فشفعه فيّ، قال: فدعا، وقد كشف الله عن بصره، فهذا الحديث فيه التوسل

إلى الله به في الدعاء.

ومن الناس مَن يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقًا حيًّا وميتًا،

ومنهم مَن يقول: هذه قضية عين، وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته، لا

التوسل بذاته، كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم

إنهم - بعد موته - إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلاً عنه، فلو كان التوسل به

(حيًّا وميتًا) مشروعًا لم يميلوا عنه، وهو أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه، إلى

غيره ممن ليس مثله، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم

أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء، وما ينفع،

وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة

يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث، بكل طريق - دليل على

أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه؛ ولهذا ذكر الفقهاء - في كتبهم في الاستسقاء-

ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًّا هو الطلب لدعائه وشفاعته،

وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته،

وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك، لا عند قبره ولا عند غيره، كما

يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين [6] ، وإن كان قد روي في ذلك حكايات

مكذوبة عن بعض المتأخرين، بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن،

فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - لما استأذنه في العمرة -:

(لا تنسَنَا - يا أخي - من دعائك) ، حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس

القرني أن يستغفر له، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير، وقد

أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة، وأن يصلُّوا عليه.

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو

لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكًا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكَّل

به: آمين، ولك مثل ذلك) [7]، فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما أن

يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه، فهذا بمنزلة أن يسال الناس قضاء حوائجه،

والثاني أنه يطلب منه الدعاء؛ لينتفع الداعي بدعائه له، وينتفع هو، فينفع الله هذا

وهذا بذلك الدعاء، كمَن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر

على دعاء الله ومسألته، فطلَبُ الدعاء منه جائز، كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر

(عليه) ، فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يُطلب إلا من الله، لا من

الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر

لي، واسقنا الغيث، ونحو ذلك؛ ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن

النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصدِّيق رضي الله عنه:

قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاؤوا إليه،

فقال: (إنه لا يُستغاث بي، إنما يُستغاث بالله) ، وهذا في الاستعانة مثل ذلك.

فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى: {إِذْ

تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) ، وفي دعاء موسى عليه الصلاة

والسلام: وبك المُستغاث، وقال أبو يزيد البسطامي: (استغاثة المخلوق بالمخلوق

كاستغاثة المسجون بالمسجون) ، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن

دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56)، وقال تعالى:

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

} (آل عمران: 79)[8]

الآية، فبيَّن أن مَن اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أربابًا فهو كافر، وقال تعالى:

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي

الأَرْضِ

} (سبأ: 22) إلى قوله: {

وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ

لَهُ} (سبأ: 23)، وقال: {

مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة:

255) ، وقال تعالى:{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَليٍّ وَلَا شَفِيعٍ} (السجدة: 4) ،

وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ

شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية، وقال تعالى - عن صاحب ياسين -:

{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ

الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلَا يُنقِذُونِ} (يس: 22-23) الآية،

وقال تعالى: {

وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23) ، وقال

تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَاّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:

109) ، وقال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28) .

فالشفاعة نوعان:

أحدهما: الشفاعة التي أثبتها المشركون، ومَن ضاهاهم من جُهال هذه الأمة

وضُلالهم، وهي شرك.

والثانية أن يشفع الشفيع بأن المشفِّع الله التي أثبتها الله [9] لعباده الصالحين؛

ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي، ويسجد

تحت العرش، قال: (

فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليَّ، لا أحسنها الآن، فيقال:

أيْ محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطه، واشفعْ تُشفَّع) ، فإذا أذن الله

في الشفاعة شفع لمَن أراد الله أن يشفع فيه، قال أصحاب هذا القول فلا يجوز أن

يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته، وهو معنى الإقسام به على الله، والسؤال بذاته؛

فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فرقوا بين الأمرين، فإن في حياته صلى الله عليه

وسلم ليس في ذلك محذور ولا مفسدة؛ فإن أحدًا من الأنبياء لم يُعبد في حياته

بحضوره، فإنه ينهى أن يشرك به، ولو كان شركًا أصغر، كما أن مَن سجد له

نهاه عن السجود له، وكما قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا:

ما شاء الله ثم شاء محمد) وأمثال ذلك.

وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به، كما أُشرك بالمسيح والعزير

وغيرهما؛ ولهذا كانت الصلاة في حياته مشروعة عند قبره منهيًّا عنها، والصلاة

خلفه في المسجد مشروعة، إن لم يكن المصلي ملاقاته، والصلاة إلى قبره منهيًّا

عنها [10] .

فمَعَنَا أصلان عظيمان: (أحدهما) أنه لا يُعبد إلا الله، (والثاني) أن لا

يُعبد إلا بما شرع، لا بعبادة مبتدَعة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه

يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل

لأحدٍ فيه شيئًا.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) ، فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما

مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف

الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه؛ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) ، ولا تقُل على الله ما لا تعلمه.

وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله، ولو حلف بالكعبة أو

بالملائكة أو بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام - لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك،

بل يُنهى عنه إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه؛ فإن للعلماء في ذلك قولين،

والصحيح أنه نهي تحريم؛ ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن

كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمتْ) ، وفي الترمذي عنه أنه قال: (مَن حلف

بغير الله فقد أشرك) .

ولم يقل أحد من العلماء إنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة

والسلام؛ فإن عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتين، لكن

الذي عليه الجمهور - كمالك والشافعي وأبي حنيفة - أنه لا ينعقد اليمين به

كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح، ولا يُستعاذ أيضًا بالمخلوقات، بل

إنما يُستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتج على أن كلام الله غير

مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛

فقد استعاذ بها، والمخلوق لا يستعاذ به، وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه

وسلم أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم يكن شركًا) ، كالتي فيها استعانة بالجن، كما

قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوَهُمْ رَهَقاً} (الجن: 6) ، وهذا مثل العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن، وقد نهى عن

كل قسم وعزيمة لا يُعرف معناهما، بحيث أن يكون فيهما ما لا يجوز من سؤال

غيره.

فسائلُ الله بغير الله إما أن يكون مقسمًا عليه، وإما أن يكون طالبًا بذلك

السبب، كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء

والصالحين، فإن كان إقسامًا على الله بغيره فهذا لا يجوز، وإن كان طالبًا من الله

بذلك السبب - كالطلب منه بدعاء الصالحين والأعمال الصالحة - فهذا يصح؛ لأن

دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة

سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا بذلك كنا متوسلين إليه بوسيلة تبقى عنده، وأما إذا

لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة

[11] ، ولا ريب أن لهم عند الله من

المنازل أمرًا يعود نفعُهُ عليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا لهم،

وبدعائهم لنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته ونحو

ذلك - فهذا من أعظم الوسائل، وأما نفس ذاته مع عدم الإيمان به، و (عدم)

طاعته وعدم دعائه لنا - فلا يجوز، فالمتوسل إذا لم يتوسل لا بما من المتوسَّل به

ولا بما منه، ولا بما من الله فبأي شيء يتوسل؟ ! [12] ، والإنسان إذا توسل إلى

غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي

الرجل أو صديقه أو مَن يكرم عليه: اشفعْ لنا عند فلان، (وإما) أن يسأل - كما

يقال -: بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك.

وقد عُلم أن الإقسام على الله بغير الله لا يجوز، بل لا يجوز أن يقسم بمخلوق

على الله أصلاً، وأما حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له، كما طلب

الصحابة رضي الله عنهم الاستسقاء منه صلى الله عليه وسلم، وقوله: (أتوجه

إليك بنبيك محمد) أي بدعائه وشفاعته لي؛ ولهذا في تمام الحديث: (فشفعه فيّ) ،

فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو ما نحن فيه، وقد قال تعالى:

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النساء: 1) ، فعلى قراءة الجمهور [13] ،

إنما يتساءلون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله متضمن إقسام بعضهم على

بعض بالله وتعاهدهم بالله، وأما على قراءة الخفض فقد قالت طائفة من السلف:

هو قولك: أسال بالله وبالرحم، فمعنى قولك: أسألك بالرحم - ليس إقسامًا عليك

بالرحم؛ فإن القسم بها لا يشرع، لكن بسبب الرحم، أي أن الرحم توجب

لأصحابها - بعضهم على بعض - حقوقًا كسؤال (أصحاب الغار) الثلاثة لله عز

وجل بأعمالهم الصالحة.

ومن هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسالك

بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً

ولا سمعةً، ولكن خرجت اتقاءَ سخطك، وابتغاءَ مرضاتك - أن تنقذني من النار،

وأن تدخلني الجنة) ، فهذا الحديث (عن) عطية العوفي، وفيه ضعف [14] ؛ فإن

كان هذا كلام النبي الله عليه سلم فهو من هذا الباب لوجهين: أحدهما أن فيه السؤال

لله بحق السائلين عليه، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم،

وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أحقه على نفسه سبحانه، وتفضل به، وليس

للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئًا، ومنه قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ

الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54)، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) ،

{وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} (التوبة: 111) ، وفي

الصحيح - من حديث معاذ -: (حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به

شيئًا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبَهم) ، فحق السائلين، والعابدين له هو

الإثابة والإجابة، فذلك سؤال له في أفعاله كالاستعاذة، وقوله: (أعوذ برضاك من

سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك) ، فالاستعاذة بالمعافاة - التي هي فعله-

كالسؤال بإثابته التي هي فعله، وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي

صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: (يا عبادي، إنما هي أربع: واحدة لي،

وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي:

تعبدني، لا تشرك بي شيئًا، والتي هي لك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي

بيني وبينك - منك الدعاء، وعليَّ الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فأتِ إلى الناس

ما تحب أن يأتوه إليك) .

وتقسيمه في الحديث إلى قوله: (واحدة لي، وواحدة لك) - هو مثل تقسيمه

في حديث الفاتحة، بحيث يقول الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي

نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل) ، والعبد يعود عليه

نفع النصفين، والله تعالى يحب النصفين، لكن هو سبحانه يحب أن يُعبد، وما

يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك؛ فإنما يحبه لكونه طريقًا إلى

عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة،

والهداية إلى الصراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة، إلى غير ذلك مما يطول

الكلام فيما يتعلق بذلك، وليس هذا موضعه، وإن كنا خرجنا عن المراد.

(للفتوى بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أي من المؤمنين.

(2)

عبارته في كتابه (التوسل والوسيلة) - الذي اختصرت منه هذه الفتوى - هكذا: (فأما التوسل بذاته في حضوره أو في مغيبه أو بعد موته (مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم - فليس هذا مشهورًا عند الصحابة والتابعين) .

(3)

كذا في النسخة التي طبعنا عنها، ولعل الأصل:(أو يقولوا) إلخ، أي في حال البُعد عن القبر.

(4)

هكذا ذُكر النفي هنا (بلا) معطوفًا، وهو يقتضي المقابل، ولعل الأصل:(ولكن لم يُنقل عنهم أنهم توسلوا بذاته، ولا نُقل عنهم) إلخ، وهذا الواقع الذي صرح به في عدة مواضع من كتبه ورسائله.

(5)

هو حديث غريب كما صرح الترمذي، انفرد به أبو جعفر، قال: هو غير الخطمي، وظاهر صنيع (تهذيب التهذيب) - تبعًا لأصله - أنه مجهول؛ فإنه وضع له عددًا خاصًّا، ولم يزد على ما قاله فيه الترمذي إنه غير الخطمي، وإلا فهو عيسى بن الرازي التيمي، ولكن هذا ضعيف، حتى قال ابن حبان: ينفرد عن المشاهير بالمناكير، أو محمد بن إبراهيم المؤذن وليس بالقوي، وللترمذي تساهل في التصحيح، ومتن الحديث شاذ أيضًا، إلا أن يفسر التوجه به بدعائه، وهو متعين كما يُعلم مما فصَّله المؤلف.

(6)

يزعم بعض الناس في زماننا أنه لا فرق في طلب الدعاء والشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بين حالي الحياة والممات؛ لأنه حي في قبره، وكأنهم يدَّعون أنهم أعلم من الصحابة وسائر أئمة السلف بذلك؛ فالصحابة رضي الله عنهم فرقوا بين الحالين، وإن شئت قلت (بين الحياتين) ، والأمور التعبدية لا تُشرع بالعقل ولا بالقياس.

(7)

الحديث في صحيح مسلم بمعنى ما ذُكر من حديث أبي الدرداء بثلاثة ألفاظ، ليس هذا منها، فهو مذكور بالمعنى، ورواه أبو داود أيضًا.

(8)

بل هما آيتان، والشاهد في الثانية أظهر، وهو قوله تعالى:[وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ](آل عمران: 80) .

(9)

لعل أصل العبارة: (والثانية أن يشفع الشفيع بإذن المشفِّع (بكسر الفاء) ، وهو الله تعالى، وهي الشفاعة التي أثبتها الله) إلخ.

(10)

هذه العبارة كلها قد حرفها الناسخ، ولم نجد لها أصلاً في كتاب (التوسل والوسيلة) نصححها عليه، والذي يعلم من القرائن - بمعونة الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في القبور وإليها، والنهي عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد، واتخاذه عيدًا - أن الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم، أو بالقرب منه في حياته، لم يكن يخشى أن يقصد بها تعظيمه بها، فتكون إشراكًا؛ لأنها غير خالصة لله

تعالى، وأما الصلاة إلى قبره وتعظيمه بعد وفاته واتخاذه عيدًا - فيخشى منه ذلك؛ ولذلك نهى عنه.

(11)

سقط من هذا الموضع جواب (أما) من نسختنا مع شيء من شرطها، والمعنى ظاهر، ومثله في كتبه الأخرى، ولعل الأصل: وأما إذا لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة التي نفعلها اقتداءً بهم، بل توسلنا إليه، وسألناه بذواتهم أو جاههم عنده - كنا متوسلين إليه بأمر أجنبي، ليس سببًا لإجابة سؤالنا إلخ.

(12)

أي إذا لم يتوسل بما هو من المتوسل به كدعائه له، ولا بما هو منه هو كعمله الصالح وإيمانه، ولا بما هو من الله تعالى كسؤاله بفضله ورحمته، وما أوجبه على نفسه، فبأي شيء يتوسل، والوسيلة - وهي القُربة إلى الله - محصورة في هذه الثلاث، التي هي أسباب إجابة السؤال والعطاء دون ذوات الأنبياء والصالحين وصفاتهم وجاههم؛ إذ هي ليست من أعمالنا، ولا من أعمالهم لنا.

(13)

هي نصب (الأرحام) .

(14)

بل قال - في مجمع الزوائد -: (إن إسناده مسلسل بالضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق؛ فهو صحيح عنده.

ص: 681

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

فصل

واقعة الإمام الحسين عليه السلام

ولمعترضٍ أن يقول: لو كانت طاعة الخليفة واجبة في كل حالة - كما ذكرتَ-

لما خرج الإمام الحسين على خلافة يزيد بن معاوية، ولما عدته الأمة محقًّا

وشهيدًا مظلومًا!

والجواب على هذا أن الإمام لم يحارب أهل الشام في ذلك الحين الذين كان

يدَّعي الإمامة لنفسه، ولطلب الخلافة دون يزيد، والذي يعتقد غير هذا فكأنه لم

يطَّلع على واقعة كربلاء كما ينبغي، ويجب أن يفرق الناس بين الحالتين: حالة

خروجه من المدينة، وحالة قتله بكربلاء؛ فإنهما مختلفتان اختلافًا كليًّا، ولهما

حكمان مختلفان في الشريعة.

فالحالة - التي كانت عند خروجه من المدينة - أن حكومة يزيد لم تكن

تمكَّنت بعد، ولم تتم بيعته بالخلافة في المراكز الإسلامية المهمة والعواصم

والقصبات، ولا اجتمع عليه أهل الحل والعقد من المسلمين؛ لأن صوت أهل

المدينة كان من الأول أقوى الأصوات في مسألة الخلافة؛ لكونهم كانوا في العاصمة

الإسلامية، وفيهم أهل الحل العقد، ثم لما انتقلت العاصمة في زمن علي عليه

السلام إلى الكوفة - أصبح للكوفة شأن عظيم في السياسة، فلما خرج الإمام كانت

المدينة غير متفقة على يزيد، أما الكوفة فجميع أهلها كانوا ضده، وكانوا يلحون

على الإمام أن يقوم للخلافة، ويأخذ بيعتهم عليها، فالحسين عليه السلام لا حرص

على الخلافة، ولا خرج على الإمام، بل قام في الحين الذي تُوفي خليفة المسلمين

فيه، وخلا محله، ولم يتمكن أحد في مقامه تمام التمكن، مجيبًا لطلب الجم الغفير

من المسلمين الذين كانوا في المراكز المهمة - مثل أهل الكوفة والعراق - ولا

ريب أنه كان يراعي في قيامه مصلحة كبيرة أخرى أيضًا، وهي صَوْنُ الأمة من

مثل يزيد وخلافته.

وإن قيل: إن معاوية كان عهد بالولاية إليه، فما كان يجوز للإمام أن يخرج

عليه؟ ، فجوابه أن الشريعة لا تعتبر عهد الأب إلى ابنه بالخلافة شيئًا؛ ولذلك لما

ألح معاوية على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بأن يبايع يزيد - قال: (لا

أبايع لأميرين) (رواه ابن حبان ونقله في الفتح) .

وإن سلمنا جدلاً أن هذا العهد معتبر وصحيح فلا يُعتد به ما لم تتمكن الحكومة؛

إذ الشرط الجوهري للخلافة - كما علمت - انعقاد الحكومة، فمَن انعقدت حكومته

فقد صحَّت خلافته، وإلا فلا.

فهذه الحالة كانت عند خروجه من المدينة، ولكن تغيَّرت عند وصوله الكوفة؛

لأن أهلها بايعوا يزيد على يد ابن زياد، وقلبوا للإمام ظهر المِجن، كما فعلوا مع

أبيه من قبل، فلما رأى عليه السلام أن الناس دخلوا في طاعة يزيد، وتمكنت

حكومته - أقلع عن المطالبة بالخلافة، وعزم على أن يعود إلى المدينة، إلا أن ابن

سعد وجيشه لم يسمح له بذلك، بل حاصره، وحاول أسره وأهلَه وحرمَه، فقال لهم

الإمام: (خلُّوا سبيلي؛ لأذهب إلى دمشق، فأخاطب يزيد في شأني) ، ولكن

الظالمين أَبَوْا إلا أسره.

فلم يكن للإمام حينئذٍ إلا طريقان: إما أن يسلِّم نفسه وأهله إلى هؤلاء الطغاة،

وإما أن يستشهد بطلاً مِغْوارًا، والشريعة لم تجبر أحدًا على أن لا يدافع عن نفسه،

ويدَعها أكلة للآكلين، فاختار عليه السلام الطريق الثاني بالشجاعة الهاشمية،

وكمال العزيمة، واستشهد مظلومًا!

فتأمل في هذه الحالة؛ فإنها غير ما كانت عند خروجه من المدينة؛ فإنه إذ

ذاك كان مطالِبًا بالخلافة، أما في كربلاء فلم يكن مدَّعيًا لها، ولا محاربًا لأجلها،

بل كان معصومًا، طاهرًا زكيًّا، وقع في مخالب الظلمة الأشقياء، الذين لا يعرفون

الحق ولا الإنسانية، فأبت نفسه الأبيَّة أن تخضع لهم، وتذل أمامهم، فقام وجهًا

لوجه يدافع عن شرفه وناموسه؛ فقُتل ظلمًا وعدوانًا وبغير حق، ومن العجيب أن

الناس من قرون يُخْطئون في فهم هذه الواقعة، مع أنها واضحة، ومَن أراد التوسع

فعليه (بمنهاج السنة، ج 2) لشيخ الإسلام ابن تيمية.

***

فصل

شرط القرشية

قد علمت - مما مَرَّ - أن الخليفة إذا انتُخب فله شروط، وقد ظل العلماء إلى

زمن طويل يحسبون منها القرشية أيضًا، أي إن الخليفة مع سائر الشروط يجب أن

يكون قرشيًّا، وإلا لا تصح خلافته، هذا في صورة الانتخاب، أما إذا استولى

عليها مستولٍ فلا يُنظر فيه إلى شرطٍ ما إلا الإسلام وانعقاد حكومته، ولا خلاف في

أنه لم توجد بعد الخلافة الراشدة خلافة جامعة لسائر الشروط؛ فخلافة بني أمية

وبني العباس إن كانت قرشية فقد كانت فاقدة لشروط أخرى كثيرة، سيما الشرط

الأساسي لها، وهو أن تكون بانتخاب الأمة، لا بالسيف والدم، وهذا الشرط لم

يوجد في أي خلافة بعد الخلافة الراشدة [1] ، ثم بعد هذا الشرط يُشترط أن يكون

الخليفة عادلاً، غير مستبد، يحكم برأيه بالشورى، ويسير على كتاب الله وسنة

رسول الله وسنة الخلفاء الراشدين، ومعلوم أنه لم يكن أحد من الخلفاء هكذا غير

عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه [2] ، وقد استولى الأعاجم على الحكومة بعد

العباسيين، ثم انتقلت الخلافة من العباسيين - الذين كانوا بمصر - إلى الترك

والعثمانيين، فهي فيهم من ذلك الحين إلى الآن بلا نزاع، وقد أجمعت الأمة

الإسلامية على طاعة هذه الخلافة العثمانية [3] ، وتحسب السلاطين العثمانيين خلفاء

من قرون عديدة، فإن كان خلفاء بني أمية وبني العباس فاقدين لخمسة شروط مثلاً،

فنفرض الخلفاء العثمانيين فاقدين لسبعة شروط، فإذا لم يضر بالأولين فقدان هذه

الشروط فكيف يضر بالآخرين؟ ! ، فإن كان العثمانيون ليسوا من العرب، ولا

قريش فلا يقدح به في خلافتهم؛ لأن المسألة هنا ليست مسألة انتخاب الخليفة حتى

يُنظر في شروطه، وإنما الذي يهم في هذه الصورة هو أن يقوم قائم بالخلافة

والحكومة الإسلامية؛ لئلا يضطرب أمر الأمة، ويصبح فوضى؛ فلذا لا أهمية

لشروط الخلافة ههنا، وُجدت أو لم تُوجَد.

ومن شروط الخلافة المتفق عليها (الحرية) ، أي يجب في الخليفة أن يكون

حرًّا لا عبدًا، ولكن العبد إذا تغلب بشوكته وقوته، وقامت حكومته - فلا خلاف

في أن طاعته واجبة، ولا يوجد مثال في تاريخ الأمم بأسرها إلا في الأمة الإسلامية-

أن العبيد صاروا فيها أئمةً وملوكًا وقوادًا! وخضع لهم المسلمون من العرب

والعجم بلا عذر ولا إنكار، والأحاديث النبوية أكبر شاهد على ذلك؛ فقال النبي

صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأن

رأسه زبيبة، وفي رواية مسلم عن أبي ذر: وإن كان عبدًا مجدع الأطراف) ،

وفي رواية ابن حصين: (ولو استعمل عليكم عبد - يقودكم بكتاب الله - اسمعوا

وأطيعوا له) ، والنواوي يقول في شرحه: والمراد أخس العبيد، اسمع وأطع،

وإن كان دنيء النسب، حتى لو كان عبدًا أسود مقطوع الأطراف، فطاعته واجبة،

ويتصور إمارة العبد إذا ولاه بعض الأئمة، أو تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه،

ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له مع الاختيار، بل شرطها الحرية (ج2: 125) ،

وفي فتح الباري: (لو تغلب حقيقةً - بطريق الشوكة - فإن طاعته تجب إخمادًا

للفتنة) (13: 109) .

فمادام هذا النواوي - الذي هو من أكبر أنصار القرشية - يقول بنص هذا

الحديث: إن إمارة العبد مهما كان دنيء النسب خسيس الحال - صحيحة في

صورة الاستيلاء والغلبة، فكيف يُعترض على الخليفة العثماني القائم المتمكن بكونه

ليس من قريش؟ ! ، إن سلمنا أن القرشية شرط ضروري للخلافة [4] .

والحقيقة أن البحث في شروط الخلافة لا علاقة له بالمسألة التي نحن بصددها،

إلا أننا لا نرى بأسًا في أن نتكلم على شرط القرشية؛ إذ هو مزلَّة لأقدام كثير من

الناس.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا مبالغة، والواقع أن بدء خلافتهما كان بالقوة، لا خلافة كل فرد منهما.

(2)

هذا الحصر غير صحيح على إطلاقه.

(3)

دعوى الإجماع ممنوعة.

(4)

لا شك في أن صديقنا - مؤلف هذه الرسالة - لا غرض له من تأليفها إلا تأييد الخليفة العثماني التركي، وإثبات صحة خلافته، ووجوب طاعته شرعًا، وهذا الغرض لم يوضع موضع خلاف جديد لأجل القرشية، فيحتاج في تأييده إلى التحريف والإيهام، الذي ارتكبه في نقل نصوص العلماء، والتصرف فيها، وهو غافل عن الحقائق الواقعة في هذا العصر، وأهمها أن الخليفة العثماني في حكم الأسير المحجور عليه من سلطة أجنبية غير إسلامية، وأن القوة المتغلبة في الأمة التركية خصم له، وإنما يمثلها مصطفى كمال باشا؛ فهو الذي تجب طاعته إذا أمر أو نهى بحسب القاعدة التي ذكرها، وإن لم يتحلَّ بلقب الخلافة! ! ! ، وهذا اللقب ليس بواجب شرعًا، وبمقتضى هذه القاعدة يجب طاعة كل متغلب بالقوة أينما كان، ومهما يكن لقبه، وإن تعدد، وعليه الحكومات الإسلامية في الشرق كالفرس والأفغان، وفي الجنوب كاليمن ونجد، وفي الغرب كمصر ومراكش، فالخليفة العثماني غير متغلب عليها، ولا أمر له فيها ولا نهي فيُطاع أو يُعصَى، سواء منها ما سيطرت عليه دولة أجنبية، وما لا سيطرة عليه لأحد، والمعترف بهذه الخلافة وغيره والعمل بهذه القاعدة هو الذي أضاع الخلافة الصحيحة المستوفاة الشروط؛ إذ وُجد في كل عصر مَن يؤيد كل متغلب مهما تكن

حاله، وجعلوا الضرورة العارضة أمرًا شرعيًّا ثابتًا، والذنب الأكبر في هذه السُّنَّّّّّة السيئة على معاوية الذي سَنَّها؛ فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة على أن أكثر خلفاء بني أمية وبني عباس كانوا قائمين بأهم واجبات الخلافة: من نشر الإسلام، وحماية دعوته، والجهاد في سبيلها، وإقامة الحدود، والحكم بالشرع في كل شيء وإنما كان أكثر ظلمهم في التصرف في أموال الأمة، وفي التنكيل بمَن يتصدون لنزع السلطة منهم، وأقله في أمور اجتهادية أخطأوا فيها، كحمْل الناس على القول بخلق القرآن وإذا مارى المؤلف في الإجماع على شرط القرشية فهل يماري في الإجماع على الحرية، وهل يجهل أن المتغلِّبين (حكمهم حكم البغاة وقُطَّاع الطرق؛ فلا يعتد بهم) كما صرح به الحافظ ابن حجر في شرح حديث ابن عمر:(لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) من شرحه للبخاري؟ ! ، إنه لا يجهل ذلك وإنا ندعو كل مسلم يستطيع أن ينصر الترك - على أعدائهم المعتدين على ملكهم، أو يساعدهم عليهم ولو بالمال - أن يفعل؛ لأنهم مسلمون معتدًى عليهم، وإذلالهم إذلال للإسلام، لا لأجل وجود الخليفة فيهم، وإلا فإن هذا الخليفة حكم - بفتوى من شيخ الإسلام عنده - بأن الكماليين خارجون عليه يجب قتالهم، فأنكر السواد الأعظم من المسلمين عليه ذلك، وكان عطفهم على الكماليين عامًّا، ومساعدتهم لهم بالمال ترد من كل قطر، وقد كان لانتصارهم على اليونان من السرور والابتهاج في الشرق والغرب ما لم يسبق لمثله نظير، ولو أطاعوا هذا الخليفة - كما يوجب عليهم المؤلف - لاستأصلوا الكماليين؛ ذلك بأن قاعدة السياسة العامة هي ترجيح المصلحة العامة، ولا نحتاج فيها إلى الخروج عن الأحكام الشرعية الإجماعية، أو القريبة من الإجماعية بقوة أدلتها، وضعف الخلاف فيها.

ص: 691