المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حرية الدين وقتل المرتد

وانتفاع الوالدين بعمل أولادهم

(س8، 9) من الشيخ محمد نصر الوكيل طالب العلم بالقسم الثانوي

النظامي للأزهر من (أسطنها) .

سيدي الرشيد، ذو الرأي السديد، خليفة الأستاذ الإمام، وحامي ذمار الإسلام

سلام عليكم من فتى معجب بالمنار، ومتأثر بدعوة صاحبه الذي وقف محياه ومماته

لله رب العالمين، ونصب للناس في ديجور الشرك صوى ومنارًا به يهتدون

ويهدون، وأطلع لهم في ليالي السرار نجم الحقيقة في سماء الدين.

وبعد: فلديَّ سؤالان أتقدم بهما إلى موائد علمكم الشريف؛ رجاء أن تحسنوا

إلى محبكم بتضحية بضع دقائق من وقتكم المبارك تكتبون فيها جوابًا على صفحات

المنار الأغر أو في كتاب خاص، يكون ذخرًا لديه من حكيم الإسلام، وخادمه،

ومقر عين النبي ووارثه.

(1)

أن شريعتنا السمحة قد امتازت بالتسامح مع المخالفين في الاعتقاد

والتساهل مع ذوي المذاهب والأديان، وفي ذلك قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي

الدِّينِ} (البقرة: 256) إلخ، وهذه الآية هي مفخرتنا على الغربيين في أن

ديننا أتى بمبدأ حرية الاعتقاد، ووسع صدره - في الأيام التي كان فيها قابضًا على

ناصية الأرض ومتقلدًا صولجان العزة والملك - كلَّ مخالف من غير أن يتعرض

لعقيدته، بل كان يستعين بالنصارى النسطوريين على نشر العلم، وإقامة المدارس

في ربوع المملكة، ولكني أعرض على نور معلوماتكم الدينية، ومشكاة معارفكم

القدسية الربانية - مسألة المرتد؛ فإنها تعارضت عندي مع هذا الأصل الكريم،

وهذا هو السؤال: هل في القرآن الشريف أو في السنة الصحيحة أمرٌ بقتل المرتد؟

وإذا كان فكيف التوفيق بينه وبين النهي عن الإكراه في الدين؟ ، وإذا لم يكن فما

مراد الشارع من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدَّل دينه فاقتلوه)، وقوله:

(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) إلخ، وقوله تعالى:

{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: 5) إلى أن قال: {فَإِن تَابُوا

وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 5) .

وإذا لم يكن المراد من ذلك إكراه المرتد، وكل مخالف على الدين، فعلى أي

أصلٍ استند الفقهاء في وجوب قتل المرتد؟ وإذا قلتم إنه من باب سد الذريعة،

واستئصال جذور الفتنة أفلا يصدق ذلك على الفلاسفة والعلماء الأحرار الأفكار

الذين قد يكتشفون نظريات علمية تخالف ظاهر الدين؟ وإذا كان لا يصدق، أفلا

يعد - على كل حالٍ - عملاً منافيًا لحرية الاعتقاد، وماسًّا بمبدأ التسامح،

والتساهل الذي امتاز به الإسلام؟

(2)

جاء في الجزء الأخير - من المنار الأغر صفحة 24 - قولكم: ومما

ينتفع به الإنسان من عمل غيره - بعد موته - صوم ولده أو حجه عنه مستدلين

بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن مات وعليه صيام فليصم عنه وليه) ، أفلا يعد

ذلك نسخًا لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) بحديث

الآحاد؛ لأنكم قلتم إن الحديث لا يصح إلا من طريق عائشة رضي الله عنها

وإذا لم يكن نسخًا، وقلتم إنه تخصيص أفلا يعد التخصيص نسخًا لبعض المفهوم

الكلي الشامل في الآية؟ ، وإذا كان لا يعد نسخًا، فلِمَ خصصتم في هذه الآية، ولم

تخصصوا في آية الطعام: {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (الأنعام:

145) إلخ، وإذا قلتم إنه ينتفع بذلك من حيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان

سببًا فيه، فلِمَ لا تعد الصلاة كذلك، وينتفع بها من هذه الحيثية؟ وإذا قلتم ذلك

مخالف للنص القطعي فكذلك انتفاعه بصوم الولد وحجه مخالف للنص القطعي،

وهو قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، ويعجبني في ذلك

مبدإ السيدة عائشة، حيث كانت ترد كل ما تراه مخالفًا للقرآن، وتحمل رواية

الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم، ولكن كيف كان هذا مبدأَها، وقد روت

هي ما خالف القرآن، وهو حديث:(مَن مات وعليه صيام فليصُمْ عنه وليه) ،

على أن ذلك لا يمنعنا من أن نقول فيها ما قالتْه هي في ابن عمر: (لقد حدثتموني

عن غير كاذبٍ ولا متهمٍ، ولكن خانه سمعه) ، أجيبوا، لا زلتم هاديين مهديين

والسلام.

...

...

...

...

محبكم المخلص

...

...

...

...

محمد نصر الوكيل

الجواب عن مسألة حرية الدين وقتل المرتد:

ذكرت هذه المسالة في مواضع من المنار كالتفسير والفتاوى، فنقول فيها هنا

قولاً نلخص به ما تقدم نشره. فنقول:

أولاً إنه ليس في القرآن أمرٌ بقتل المرتد، بل فيه ما يدل على عدم قتل

المرتدين المسالمين الذين لا يحاربون المسلمين، ولا يخرجون عن طاعة الحكومة،

فقد جاء في تفسيرنا لقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا

جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء: 90) من سورة النساء ما نصه:

(وفي الآية من الأحكام - على قول مَن قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مُظهرين

للإسلام، ثم ارتدوا - أن المرتدين لا يُقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا

يوجد في القرآن نصٌّ بقتل المرتد، فيجعل ناسخًا لقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ

يُقَاتِلُوكُمْ

} (النساء: 90) إلخ.

نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل مَن بدل دينه، وعليه الجمهور،

وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور، ويؤيد الحديث عمل الصحابة، وقد يقال

إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد، فإنهم قاتلوا مَن تركوا

الدين بالمرة كطَيِّئ وأسد، وقاتلوا مَن منع الزكاة من تميم وهوازن؛ لأن الذين

ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربًا لكل أحدٍ لم يعاهدوه على ترك الحرب،

والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد

إذا ترك الزكاة لا يُقتل عند الجمهور) اهـ. والتحقيق أن القرآن لا يُنسخ بالسنة

كما قال الشافعي ومَن تبعه، وخالفهم الكثيرون في السنة المتواترة.

ويؤيد الحكم في هؤلاء الحكم فيمن ذُكروا في الآية التالية لهذه الآية، وهي:

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا

فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ

ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: 91) .

روى ابن جرير عن مجاهد أن هؤلاء الناس كانوا يأتون النبي - صلى الله

عليه وسلم - فيُسلمون رياءً، فيرجعون إلى قريشٍ، فيرتكسون في الأوثان،

يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا، ويصلحوا.

ورُوي عن ابن عباس أنه قال: (كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنةٍ أركسوا

فيها؛ وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرب إلى العود،

والحجر، وإلى العقرب، والخنفساء، فيقول له المشركون قل: هذا ربي للخنفساء

والعقرب) وقد جعل حكمهم حكم مَن سبقهم، وهو أنهم إذا لزموا الحياد - وهو ما

عبر عنه باعتزال المسلمين، وإلقاء السلم، وكف الأيدي عن القتال - فلا سبيل

إلى قتلهم، وإلا قُتلوا حيث ثُقفوا؛ لأنهم محاربون، لا لأنهم مرتدون فقط، وقال:

{وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: 91) أي دون غيرهم من

المسالمين والمحايدين.

ونقلنا في تفسيرها عن الرازي أنه عزا القول بعدم قتال هؤلاء إلى الأكثرين،

ونظَّر له بآيات سورة الممتحنة وآية البقرة في أنه لا يُقاتَل إلا المقاتلون، وقلنا -

والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين مَن يقول إن في الآيات نسخًا - ولا يظهر فيها

النسخ إلا بتكلُّفٍ، فما وجه الحرص على هذا التكلف؟ .

وقد استفتينا في هذه المسألة قبل كتابة هذا التفسير بسنين، فتجد في فتاوى

المجلد العاشر من المنار (ص 287، ج4، م10) من أحد علماء تونس منها

السؤال عن حديث: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

) إلخ،

ألا يعارض كوْن الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف كما يعتقد الجهلاء؟ ، والسؤال

عن حديث: (مَن بدل دينه فاقتلوه) ألا ينافي كوْن الإسلام لا يضطهد أحدًا

لعقيدته؟ ! .

وقد أجبنا عن الأول بأن الحديث ليس لبيان أصل مشروعية القتال؛ فإن هذا

مبيَّنٌ في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا

} (الحج: 39)

الآيات وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا

} (البقرة:

190) الآيات، بل هو لبيان غايته؛ إذ الغرض منه بيان أن قول:(لا إله إلا الله)

كافٍ في حقن الدم، حتى في أثناء القتال، وإن لم يكن القائل من المشركين

معتقدًا في الباطن؛ لأن الأمر في ذلك مبنيّ على الظاهر إلخ.

وأجبنا عن الثاني بأن المرتد من مشركي العرب كان يعود إلى محاربة

المسلمين، وأن بعض اليهود كان يصدّ الناس عن الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم

بإظهار الارتداد عنه ليُقبَلَ قوله بالطعن فيه، وذكرنا ما حكاه الله عنهم في هذا،

وقلنا: فالظاهر أن الأمر في الحديث بقتل المرتد كان لمنع المشركين وكيد الماكرين

من اليهود، فهو لأسبابٍ قضت بها سياسة ذلك العصر التي تسمى في عرف أهل

عصرنا سياسة عُرفية عسكرية لا لاضطهاد بعض الناس في دينهم، ألم تَرَ أن

بعض المسلمين أرادوا أن يكرهوا أولادهم المتهوِّدين على الإسلام، فمنعهم النبي -

صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير،

والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:

256) ، وأزيد هنا ما كنت ذكرته في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - أمر بتخيير أولئك المتهودين، فمَن اختار الإسلام بقي مع أهله

المسلمين، وكان منهم ومَن اختار اليهودية جلا مع أهل دينه من اليهود وهو منهم،

وراجع تفسير الآية وكلام الأستاذ الإمام فيها (ص 36، ج 3 تفسير) .

وقد أعدت ذكر هذه المسألة في تفسير {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا

بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل

عمران: 72) .

فمما ذكر يعلم السائل جواب سؤاله، ومأخذ الفقهاء في قتل المرتد - وهو

الحديث الذي أخذوه على إطلاقه - والجمع بين الحديثين اللذين ذكرهما وبين قاعدة

التسامح والحرية في الإسلام.

وأما قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ

} (التوبة: 5)

إلخ، فهو يعلم أنه نزل في نبذ عهود الذين نكثوا العهد من المشركين، وأنهم

أعطوا في الآية الأولى مِن هذه السورة (التوبة) مهلة الأربعة الأشهر الحرم وهي:

شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثم قال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ

} (التوبة: 5) إلخ، ومن الضروري أن يُستثنى من

ذلك مَن يتوب منهم عن الشرك، ويدخل في الإسلام، ألا تراه استثنى مَن حافظوا

على عهدهم من المشركين، فقال: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا

اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7) ، ثم ألا ترى كيف علل قتال الناكثين

بقوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً

} (التوبة: 8)

إلخ، وفيها التصريح بأنهم هم المعتدون، وأنهم لا أَيْمانَ لهم، أي لا عهود لهم

تُحفظ، بل يجعلونها خداعًا في وقت الضعف، ثم قال - في هذا التعليل -: {أَلَا

تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة:

13) .

والفقهاء الذين يقولون بقتل المرتد اختلفوا في بعض مسائله، كالمرتد ذي

المَنَعَة في قومه وغيره، وقال أبو حنيفة:(لا تُقتل المرأة) ، وقد قال الشيخ

صالح اليافعي في رده على الدكتور محمد توفيق صدقي (رحمه الله تعالى) ما

نصه:

(قال الفاضل - حفظه الله -: أوجبوا القتل مطلقًا على مَن ارتد عن

الإسلام للحديث، والقرآن يقول:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ،

{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، وأقول:) قوله أوجبوا

القتل مطلقًا

(ليس بصحيح على إطلاقه، بل لو منع الإمام عن قتل المرتد

لمصلحةٍ - كمهادنةٍ ومعاهدةٍ ومأمنةٍ بشروط ألجئ إليها - لا يجوز قتله، فقتل

المرتد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات

) إلخ (وهو في ص 449م، 12

من المنار) .

وقد نقلنا في المجلد التاسع عن جريدة (اللواء) مقالةً مترجمةً عن جريدة

(ريج) الروسية عنوانها (تسامُح الدين الإسلامي) موضوعها أسئلة أُلقيت على

شيخ الإسلام في الآستانة منها هذه المسألة، وأجاب عنها - مما قاله بعد تشبيهه

المرتد عندنا بالفارّ من العسكرية في الاستياء منه -: (وليس أمرنا هذا مخالفًا

للحرية الدينية المبنية على أساس أن كل الناس مختارون في أمر الدين، ولا نطلب

بأي حالٍ من الحكومة أن تعاقب الخارجين عن الدين إلا بالحكم المعنوي، ولا يمكن

إجبار الناس لقبول الإسلام أو المسيحية، وإذا كان لشخصٍ اختيار في الارتداد فلا

يمنعنا مانعٌ من إظهار كراهتنا له ونفورنا منه) اهـ المراد منه.

وقد ألمَّ السائل في سؤاله باكتشاف أحرار العلماء لنظرياتٍ علميةٍ تخالف

ظاهر الدين هل يكونون بها مرتدين أم لا؟ ، ونقول: إن مخالفة بعض ظواهر

النصوص الدينية، وهي ما كان مدلوله غير قطعي فيها تفصيل، فمَن كان يعتقد أن

كلام الله كله حق، وكلام رسوله فيما يبلغه عنه حقٌّ، وقام عنده دليلٌ على أن

بعض ظواهرهما غير صحيح، فصرف الكلام عنه إلى معنًى آخر رجح عنده

بالدليل أنه هو الصحيح المراد، فلا يعد مرتدًا، بل لا إثم عليه، ولا حرج، وإنما

الردة تكذيب كلام الله، وتكذيب رسوله فيما جاء به من أمر الدين بنظرياتٍ فلسفيةٍ

أو بغير ذلك، ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه ليس في أصول الإسلام القطعية فيه

شيءٌ يمكن نقضه، وقد بينا حقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر والردة في المجلد الثاني

والعشرين الذي قبل هذا، وفي غيره، وهو أقرب ما يُراجَع في المسألة. ومن أهم

الأحكام المتعلقة بالمسألة أن المجاهر - بما يُعَدُّ في الإسلام كفرًا صريحًا - لا

تجري عليه أحكام الإسلام في موتٍ، ولا حياةٍ، ولا زواجٍ، ولا إرثٍ.

جواب السؤال المتعلق بعدم انتفاع المرء بعمل غيره:

لعل الاستدراك على هذه المسألة الذي نشرناه في الجزء الذي قبل هذا قد

أغنى السائل عن جواب سؤاله هذا، وعلم منه كوْن عمل الولد ملحقًا بعمل الوالد،

فإن لم يكن أغناه فليكتبْ إلينا ثانية بما بقي عنده من إشكال، وليراجع - في تفسير

آية محرمات الطعام - مسألة امتناع نسخ الآيات المؤكدة.

***

شرب الدخان (التبغ)

والتذكير في المنائر

(س10) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين

إلى حضرة الأستاذ العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار

بعد رفع جزيل السلام اللائق لمقامكم العالي، ورحمة الله وبركاته على الدوام..

لا يخفى عند جميع الناس اشتغالك بالعلوم، والمعارف الدينية النافعة،

وإرشاداتك المفيدة المنشورة بمجلتك لأبناء جلدتك في جميع البلدان؛ لذا كلفني

بعض أصحابي - الذين هم من أهل السنة والجماعة - أن أوجه إليك هذا السؤال

وهو: ضمَّني وجماعة من الأصحاب مجلسٌ جرى فيه البحث في التذكير على

المنائر قبل العشاء، وقبل صلاة الفجر، وفي شرب الدخان (التتن) واستمر

الجدال ساعاتٍ، ولم يقدر أحد الفريقين أن يقنع الآخر برأيه

ولا عجب لسؤالنا؛

لأن علماءنا وتعصبهم لا يقفون عند حدٍّ، واحد يجوّز، والثاني يحرم، ولا ندري

أي الصواب لنأخذ به، واسترضى الجميع أن نرسل إليك هذا السؤال؛ لترشدنا من

فنون علومك، وآرائك الحرة الناضجة، وتبين لنا الخطأ من الصواب؛ لنعتمد

عليه، والله يحفظك.

...

...

...

...

...

... علي إبراهيم كانو

الجواب عن مسألة شرب الدخان:

اعلم أولاً أن التحريم والتحليل تشريعٌ، وهو حق الله تعالى وحده، فمَن

استباح لنفسه أن يحرم على عباد الله تعالى شيئًا بغير حجة شرعية عن الله ورسوله-

فقد افترى على الله، وادعى الربوبية معه، ومن أطاعه وتبعه في ذلك يكون قد

اتخذه ربًّا؛ كما ورد في الحديث تفسيرًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ

أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) وقد بينا هذه المسائل مِرَارًا، وآخر

تفصيل لنا فيها تفسير آية محرمات الطعام.

وثانيًا: أن الأصل في الانتفاع بما خلقه الله لنا في هذه الأرض الحل كما

تدل عليه الآيات القرآنية؛ فلا يحرم شيءٌ منها إلا بنصٍّ عن الله ورسوله صحيح

الدلالة باللفظ أو الفحوى، ولا نص في هذا الدخان المسئول عنه بعينه، بل هو

داخلٌ في الإباحة العامة لكل ما خلقه الله لنا من هذه الأرض، إلا إذا ثبت ضرره

في الجسم أو العقل كالحشيشة والأفيون، والحقن بالمورفين؛ فحينئذ يظهر القول

بتحريمه كما أفتينا من قبل، وفاقًا لبعض الفقهاء، وفي الحديث الصحيح: (لا

ضرر ولا ضرار) فإذا ثبت بشهادة الأطباء أنه يضر كل مَن شربه ضررًا ذا شأنٍ

فالقول بتحريمه على الإطلاق وجيهٌ، وإذا كان يضر بعض الناس المصدورين دون

بعضٍ فهو محرمٌ على مَن يضره، سواء عُلم ذلك بقول الطبيب أو بالتجرِبة والاختبار،

وإلا فلا، ويستدل بعض الناس على تحريمه بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) بناءً على تفسير الخبيث بالطبَعي، وهو ما تعافه

الطباع السليمة، وقيل العرب. والصواب أنه الخبث المعنوي الشرعي

كالربا، والخيانة، والغلول كما فصلناه في تفسير آية محرمات الطعام أيضًا، وإلا فإن

الثوم والبصل من الخبائث قطعًا، وهما غير محرمين، ونحمد الله أن حمانا من هذا

الدخان، وننصح لكل مَن لم يُبتلَ به أن يجتنب تقليد الناس بشربه، ولكل

مَن ابتُلي به أن يتركه إذا قدر إن كان يرى بالتجربة أنه لا يضره، ولعله ولا يخلو

من مظنة الضرر التي تقتضي كراهة التنزيه بما فيه من السم المسمى بالنيكوتين،

وهذا الضرر ظاهر - لا محالة - في أصحاب الأمراض الصدرية، وربما كان

سببًا لها في المستعدين والله أعلم.

التذكير على المنائر:

إن كل ما زاده الناس قبل الأذان المأثور وبعده من الأذكار والصلاة على النبي -

صلى الله عليه وسلم بدعة اشتبهت على العامة بالمشروع، بل صارت عندهم

من شعائر الدين، فيجب تركها؛ لأن الزيادة في الدين كالنقص منه؛ كلاهما شرع

لم يأذن به الله، وإن كانت الزيادة في نفسها حسنة، ولو أُبيح في الإسلام أن يُزاد

في كل ما شرعه الله تعالى من العبادات زيادات حسنة - من ركوع وسجود وأذكار-

لتغيرت الشرائع والشعائر في هذه الملة كالملل السابقة، وقد بينا هذا من قبل

مرارًا.

_________

ص: 185

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(3)

فصل

طاعة الخليفة والتزام الجماعة

بعد هذه التوطئة الضرورية للبحث نقول: إن الشريعة الغراء فرضت على

المسلمين طاعة الخليفة ما لم يأمر بمعصية، كما فرضت طاعة الله وطاعة رسوله،

ولا عجب؛ فإن نظام الشريعة الاجتماعي يقتضي ذلك، وهو مطابقٌ لناموس

الفطرة تمام المطابقة، بل هو حلقةٌ من سلسلة هذا الناموس الإلهي الذي يخضع له

كل ما في السموات والأرض؛ وذلك لأنَّا نرى كل شيءٍ من هذا الكون البديع على

نظامٍ طبَعيٍّ مخصوصٍ، وهو الذي يسمونه (بناموس المركزية) أو (بناموس

الدوائر) ؛ ففي كل جهة من هذا الكون مركز تحيط به الأجسام والذوات على شكل

الدائرة، وعلى هذا المركز تتوقف حياتها، وبقاؤها، ونماؤها، فلو تحولت عنه

هذه الدائرة أو انحرف عن طاعتها - تنحلّ حالاً، ويعتريها الخراب والدمار في

طرفة عين، وعن هذه الحقيقة عبر بعض الصوفية بقوله:(إن الحقيقة كالكرة) ،

وعنها قال صاحب الفتوحات: (بأنها دائرة قاب قوسين) .

(ناموس المركزية) هذا نافذ في الكائنات كلها، فما هذا النظام الشمسي

الذي فوقنا، وهذه السيارات العظيمة، والنجوم المتلألئة، والكرات النيِّرة المتبعثرة

على بساط السماء، وهذه الحياة العجيبة والحركة المدهشة للعقول؟ ، إن هي إلا

مظهر من مظاهر هذا الناموس، فالنجوم لها دوائر، وكل دائرةٍ منها قائمة على

نقطة في الشمس، حولها حركتها ودورانها، وعليها حياتها، وبقاؤها، وبها قيامها

ودوامها، وستبقى هكذا ما دامت مرتبطةً بمركزه، ومنقادةً له {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ

الْعَلِيمِ} (الأنعام: 96) وكذلك أرضنا حلْقةٌ من تلك الدائرة خاضعة لمركزها

كل آنٍ، فكل من الأرض والسموات يدور في محوره، ويسبح في فَلَكه، ويطيع

مركزه، ولا يخرج عن دائرته أبدًا حسب قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ} (آل عمران: 83)، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي

السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ

} (الحج: 18) إلخ،

وقال: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ

يَسْبَحُونَ} (يس: 40) .

ليست الكائنات العظيمة وحدها هي الخاضعة لناموس المركزية، بل الكائنات

الحقيرة المنحطَّة مثلها، فخُذ لك العالم النباتي مثلاً، ففي كل شجرة ترى الأوراق،

والفروع، والأزهار، والأثمار كلها مرتكزة على مركزها الذي هو أصل الشجرة،

ومهما انفصلت ورقة أو غصن من الأصل - حل به الموت والفناء.

هذا في عالم الآفاق، ثم انظر في عالم الأنفس، أفلا ترى أعضاءك الخارجية

الداخلية، ومشاعرك الظاهرة والباطنة كلها تتحرك، وتعمل عملها، حتى كأنك

مدينة مزدحمة بالأحياء، لكل واحدٍ منها حياةٌ قائمةٌ بذاته، ووظيفةٌ خاصةٌ به،

ولكنها كلها خاضعةٌ لمركزها الذي هو القلب، به صلاحها وفسادها، وعليه مدار

حياتها وبقائها، إذا صلح صلحت كلها، وإذا فسد فسدت كلها.

وكما جعل الله سبحانه للكائنات ناموسًا ونظامًا، كذلك جعل لسيادة النوع

الإنساني وهدايته ناموسًا ونظامًا، وهو الإسلام {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) ، ولا بد أن يكون هذا الناموس المعنوي موافقًا لذلك الناموس

الصوري غير متعارض معه؛ لأنهما صنع يدٍ واحدةٍ، وتقدير العزيز العليم الذي لا

ترى في خلقه من تفاوت، فارجع البصر هل ترى فيه من فطور؟ ، ولعمري إنهما

لكذلك، فكما ترى نظام الكون قائمًا على ناموس المركزية كذلك نظام الإسلام قائم

على ناموس المركزية سواء بسواء، وقد نبه القرآن الحكيم على هذه الحقيقة مرارًا،

وهي أن النوع الإنساني - جماعاته وآحاده، وحياتهم الأدبية والمادية - قائمة

بناموس المركزية كسائر أنواع الأجسام، فكما أن الشمس مركز لنجوم سيارة في

محيطها جعل الله الأنبياء مركزًا لسعادة البشر، وجعل حياتهم المعنوية، وخلاص

أرواحهم، موقوفة على ارتباطهم بهذا المركز، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن

رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64)، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًَ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا

تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) ، ثم جعل الله تعالى تحت هذا المركز الأعظم دوائر مختلفة،

ومراكز متعددة، فجعل عقيدة التوحيد مركزًا لسائر العقائد، فهي تحوم حولها، قال

تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:

48) ، وجعل الصلاة مركزًا للعبادات عليها مدارها، وبضياعها ضياعها،

وبطلانها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (

فمَن أقامها أقام الدين،

ومَن تركها فقد هدم الدين) ، وفي حديث الترمذي: (كان أصحاب رسول الله -

صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) ، وقد

جعل الكعبة مركزًا أرضيًّا لسائر الأمم، والشعوب، والبلاد، فقال تعالى: {جَعَلَ

اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) ؛ ولذا أوجب أن تتوجه إلى

هذا المركز دوائر الناس ووجوههم، فقال:{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 144) .

ثم لما كان للأجسام، والأشخاص، والمعتقدات، والأعمال مراكز - وجب

أن يكون للحياة الاجتماعية مركز، فجعل الله لها مركزًا، وجعل الأمة حوله

كالدائرة، وأوجب عليها مرافقته وموافقته وطاعته. فإذا نادى لبَّت، وإذا تحرك

تحركت، وإذا وقف وقفت، وإذا نهض نهضت بخيلها ورَجِلها، وسائر قواها،

وجعل عصيانه من الجاهلية التي لا مخرج منها إلا بطاعته، والرجوع إليه، وقد

سمى المسلمون هذا المركز الاجتماعي (بالخليفة والإمام) ، وفرض على المسلمين

قاطبة أن يعينوه، وينصروه، ويطيعوه كما يطيعون الله ورسوله، فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي

شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ

تَأْوِيلاً} (النساء: 59) .

***

فصل

أولو الأمر

أمر الله سبحانه في هذه الآية بثلاث طاعاتٍ: طاعة الله، وطاعة الرسول

وطاعة أُولِي الأمر، وقد علمنا أن طاعة الله تكون بطاعة كتابه، وطاعة الرسول

بطاعة سننه القولية والفعلية، ومَن أولو الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم؟ ، لقد

تضافرت الأدلة القطعية، والبراهين النيرة على أن المراد بأولي الأمر (الخليفة

والإمام) الذي ينفذ أحكام كتاب الله وسنة رسول الله، ويقوم بمصالح الأمة، ويحكم،

ويستنبط الأحكام من الشريعة عند النوازل برأيه واجتهاده، وإنما ذهبنا إلى هذا

القول لوجوهٍ:

(1)

قاعدة: (القرآن يفسر بعضه بعضًا) فإذا رجعنا إليه نجد في نفس

هذه السورة قول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ

رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:

83) ، ذكر الله سبحانه في هذه الآية تلك الآونة التي كانت تروج فيها أخبار الأمن

والخوف، والفتح والهزيمة، فيسمعها الناس، فيضطربون من أجلها اضطرابًا

شديدًا. وقد أشاع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض المنافقين مثل هذه

الأخبار، فهلع منها بعض ضَعَفَة الإيمان من المسلمين، فأمرهم الله أن إذا سمعتم

هذه الإشاعات فلا تأخذوها على عِلَاّتها، ولا تصدقوها، بل ردوها إلى الرسول،

وإلى (أولي الأمر) ؛ ليحققوها، ويمحصوها، ويستنبطوا منها ما يجب استنباطه.

فالحالة التي ذُكرت في هذه الآية: حالة الحرب والصلح، والأمن والخوف،

ولا يخفى على أحدٍ أن النظر في هذه الحالة، والاهتمام لها، واتخاذ التدابير

اللازمة لها من وظائف الأمراء والحكام، لا من وظائف العلماء والفقهاء؛ لأن

المسألة مسألة نظام البلاد، وقيام الأمن، ونشوب الحرب، لا مسألة الحلال

والحرام التي ينظر فيها العلماء، فإذن لا مناصَ من أن نسلِّم بأن المراد (بأولي

الأمر) هم الذين بيدهم الحرب والصلح، وتنظيم البلاد، وسياسة العباد، والذين

من شأنهم أن يحققوا مثل هذه الأخبار المؤثرة على السياسة العامة، وما هم إلا

الأمراء والحكام [1] .

(2)

إذا تتبعنا الكتاب، والسنة، واللغة نجد أن كلمة (الأمر) إذا

استعملت هذا الاستعمال، يكون معناها الحكومة والسلطان [2] ، وقد كثر استعمالها

في هذا المعنى في الأحاديث النبوية كثرة زائدة لا يبقى معها محل للريب والشك،

وفي اللغة أيضًا معنى (الأمر) : (الحكم) ؛ ولذا قال الإمام البخاري: (أولو

الأمر هم ذوو الأمر) ، ومعلوم أن صاحب الحكم لا يكون إلا صاحب الحكومة.

(3)

لقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن هذه الآية إنما نزلت في طاعة أمير

الجماعة؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس: (أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن

قيس بن عدي؛ إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية

) وروى

ابن جرير الطبري في تفسيره: (بأنها نزلت في قصةٍ جرت لعمَّارٍ مع خالد،

وكان خالد أميرًا، فأجار عمَّار رجلاً بغير أمره، فتخاصما) ، فعُلم من هاتين

الروايتين أن الآية إنما أُنزلت في طاعة الأمراء لا غير [3] .

(4)

روينا هذا التفسير عن كثيرٍ من الصحابة والتابعين، ولم يؤثر عنهم

غيره، وأما ما قيل في الآية فإنما هو من عند المفسرين المتأخرين، فقد نقل الحافظ

ابن حجر عن ابن عيينة أنه قال: (سألت زيد بن أسلم عنها، ولم يكن بالمدينة

أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ

اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فقال: هذه في الولاة) (فتح الباري 13: 99) فانظر كيف استدل زيد بن أسلم على أن المراد من (أولي الأمر) الحكام، والولاة بالآية التي قبلها، والتي ذكر فيها الأمراء والحكام [4] ، وقد روى الطبري بسندٍ صحيحٍ عن

ميمون بن مهران وأبي هريرة، وغيرهما:(أولو الأمر هم الأمراء) وعدَّ ابن حزم

الصحابة والتابعين الذين نقل عنهم هذا التفسير فبلغوا ثلاثة عشر رجلاً.

نعم قد رُوِيَ عن بعض الصحابة والتابعين أن المراد من أولي الأمر العلماء

فقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (إنهم أهل العلم والخير) ، وقال

مجاهد وعطاء وأبو العالية: (إنهم العلماء) ، ولكن لا تعارض بين التفسيرين؛ وذلك

لأن الشريعة جعلت الحكومة والولاية مركزًا لسائر شؤون الأمة الدينية، والسياسية،

والعلمية، ولم تكن المناصب والوظائف قد انقسمت إلى ذاك الحين، فأمير المؤمنين

كما كان حاكمًا وسائسًا كذلك كان عالمًا وفقيهًا أيضًا، فالصحابة والتابعون الذين

فسروا أولي الأمر (بأهل العلم والخير) - قد أحسنوا التفسير، إذ أثبتوا به أن أمراء

المسلمين يجب أن يكونوا من أهل العلم والخير، لا ما فهمه المتأخرون من هذا القول

بأنهم قصدوا به تلك الفئة التي عرفت (بالعلماء والفقهاء) بعد انقراض ذلك العهد،

وانهدام نظام الجماعة الشرعي؛ لأن هذه الفئة لم تخطر على بال أحدٍ من الصحابة

والتابعين في الصدر الأول، ومن هذا القبيل ما نقله ابن جرير أيضًا عن عكرمة أنه

قال: (أولو الأمر هم أبو بكر وعمر) أي أن المراد من أولي الأمر الخلفاء،

والأئمة مثل أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما [5] .

وهذا التفسير مطابق لحالة البلاد الاجتماعية إذ ذاك، لأن بلاد الحجاز كانت

في الفوضى قبل الإسلام، ولا سيما قريش مكة، فإنهم لم يكونوا يعرفون الإمارة،

ولا ينقادون لأحدٍ من الناس، فجاءهم الإسلام (بنظام الجماعة) و (نظام الإمارة)

وأوجب على كل الناس أن يطيعوا الأمراء، ويلتزموا الجماعة، وإلى هذا

ذهب الإمام الشافعي - رضى الله عنه - كما نقل عنه العسقلاني في الفتح، حيث

يقول: (ورجح الشافعي الأول واحتج بأن قريشًا كانوا لا يعرفون الإمارة، ولا

ينقادون لأمير، فأُمِروا بالطاعة لمن ولي الأمر) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

(مَن أطاع أميري فقد أطاعني)(فتح الباري 8: 191)[6] .

(5)

هذا هو قول أكبر فقيه قام في الأمة الإسلامية، ألا وهو الإمام محمد بن

إسماعيل البخاري رضي الله عنه، فقد بوب في كتاب الأحكام من صحيحه

بابًا على هذه الآية، فقال:(باب أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)

وروى تحته حديث أبي هريرة: (مَن أطاع أميري فقد أطاعني) ، فأثبت بهذا أن

أولي الأمر في مذهبه أيضًا هم الأمراء والأئمة لا الفقهاء والعلماء كما قال ابن حجر

في شرح هذا الحديث (في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى

أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافًا لمَن قال نزلت في العلماء) (فتح الباري

13: 99) .

(6)

إن أقدم التفاسير عهدًا وأغزرها مادةً تفسير ابن جرير الطبري،

ومكانة صاحبه في معرفة تفسير الصحابة، والتابعين، واستقصائه معلومة، وهو

قد رجح هذا القول بعد أن ذكر سائر الأقوال [7] .

(7)

لا يذهبن عن بالك أن الأقاويل الكثيرة في تفسير القرآن إنما جاءت

من المتأخرين الذين سحرت ألبابهم الفلسفة اليونانية في زمنٍ كانت العجمية المعوجة

قد اندست في الفكر والنظر، واستولت على العلوم والمعارف، وتقهقرت العربية

الخالصة الصالحة، وهُجرت علوم السنة، وعشق الناس (التعمق) في كل شيءٍ،

حتى في العلوم الدينية، ذلك التعمق الذي ورد فيه:(هلك المتعمقون) .

وأما السلف الصالح فلم تكن في عصرهم منازعات، ولا مشاجرات، ولا قيل،

ولا قال، بل كانوا يفهمون كتاب الله بملكتهم اللغوية، بدون أن يتكلفوا أو يتعمقوا،

أو يجهدوا أفكارهم في نحت المعاني البعيدة، واختراع الاحتمالات الباردة، فإذا

سمعوا كلمة (أولي الأمر) - التي نحن بصددها - فهموا منها بلا أدنى تكلف

معناها المتبادر إلى الذهن، مثل ما يفهم الأعراب والرعاع.

ولكن الدهر كان خبأ أمثال فخر الدين الرازي - الذين لا ترضيهم هذه

السماحة والسذاجة - فجاؤوا من بعدهم يخترعون لكل كلمة معانيَ عديدةً،

واحتمالاتٍ كثيرةً، ويُظهرون بذلك براعتهم وجودة ذهنهم، فلا تروعنَّك أقاويل

المتأخرين واختلافهم؛ لأنهم إنما اتخذوا العلم صنعة لهم، ومماراة بينهم، بل إن

كنت تنشد الحق فعليك بالسنة النبوية الصحيحة، والآثار الثابتة عن الصحابة

والتابعين لهم بإحسان، فما وافقهما فخذه، وما خالفهما فاضرب به عُرض الحائط؛

إذ صاحب القرآن صلى الله عليه وسلم أعلم به، وكذلك أصحابه الذين شهد الله

العليم بعلمهم وعملهم - رضي الله عنهم ورضوا عنه [8]-.

وما لي لا أعجب من هؤلاء الناس الذين يُعرضون عن السلف الصالح، ولا

يقيمون لهم وزنًا في تلك العلوم التي اخترعوها اختراعًا؛ لأجل أنهم لم يكونوا

يعلمون أصول الفقه، وعلم الكلام اليوناني اللذين ما أنزل الله بهما من سلطان!

فلِمَ لا يسلمون لهم في علم الكتاب الإلهي؟ ! أليس عجيبًا أن يؤمنوا بأن القرآن

نزل على محمد العربي صلى الله عليه وسلم، ثم يستشهدوا في فهم معانيه

بأرسطاطاليس اليوناني؟ نعم، إن هذا لشيء عُجاب!

وأما الذي حيَّر الرازي وغيره في فهم الآية فإنما هو ذكر الطاعة لأولي الأمر

معطوفة على طاعة الله ورسوله، فقالوا: كيف تكون طاعتهم مثل طاعة الله

ورسوله؟ ، وأين الملوك والسلاطين من هذا المقام الرفيع؟ ، فاخترعوا لذلك معنًى

يوافق فلسفتهم، وقالوا هم:(العلماء والفقهاء)[9] ولقد تعبوا سدى؛ لأن المسألة

واضحة جلية لا تحتاج في حلها وظهورها إلى التفلسف البارد؛ وذلك لأن القرآن

والسنة شريعة وقانون، وماذا يجدي القانون إذا لم تكن وراءه قوةٌ منفذةٌ، فطاعة

هذه القوة طاعة القانون نفسه، وطاعة واضعه، ولا يخفى على أحدٍ من الناس حتى

السوقة والأعراب أن طاعة والي البلد طاعة لذلك الذي أرسله وعينه، وعصيانه

عصيان لذلك بلا ريبٍ، حتى إن الذي يعارض الشرطي في عمله الرسمي يعد

مخالفًا للقانون، وللقوة التي سنَّتْه، وإنما تخبط الناس في فهم الآية؛ لأنهم لم

يتأملوا النظام الشرعي الاجتماعي؛ إذ إنهم لو أمعنوا النظر فيه لما تحيروا هذا

التحير ولعلموا حق العلم بأن لا بد لقيام الشريعة، وبقاء الأمة من قوة مركزية، وما

هي تلك القوة إلا الخليفة والإمام، والأمراء ونوابه، ولو أنهم فعلوا ذلك لما خفي

عليهم معنى (أولي الأمر)[10] .

وقد علمنا أيضًا من آية: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

} (النساء: 59)

إلخ أن بين الخليفة الإسلامي والبابا المسيحي بونًا شاسعًا؛ إذ البابا ليس بيده

الخلافة الأرضية، بل هو صاحب السلطة في ملكوت السماء، وقد عَدَّ الإسلام هذه

العقيدة كفرًا وشركًا؛ فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) ، وأما الخليفة الإسلامي فهو الحاكم والسلطان في الأرض فقط،

يذود عن حوض الأمة، وينفذ أحكام الشريعة، ولا يملك أدنى سلطة في السماء،

ولا بيده القوة التشريعية، فهو لا يستطيع أن يغير من الشريعة شيئًا، ولا أن يزيد

فيها أو ينقص، بل عليه أيضًا مثل سائر آحاد الأمة أن يخضع لها خضوعًا تامًّا،

وإذا تنازع في شيءٍ مع المسلمين فلا حق له بأن يحملهم على حكمه ورأيه الخاص،

بل يجب عليه وعليهم جميعًا أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله،

فيحكموها بينهم ويسلموا لها تسليمًا؛ قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ، ففي هذه الحالة لا حكم للخليفة، وإنما الحكم

لله وللرسول، وكذلك طاعته طاعة لله ولرسوله، ولأجل هذا كرر الفعل في الآية

فقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول

} (النساء: 59) ، ولم يكرره في

(أولي الأمر) ليعلم أن طاعتهما مطلوبة أصلاً وطاعة أولي الأمر ليست كذلك، بل

إنما جُعلت ليُطاع الله ورسوله (قاله الطيبي في الشرح) .

ولذلك لما أراد أمراء بني أمية أن يحملوا المسلمين على طاعتهم في المنكر،

والبدعة، والظلم، قائلين: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ

مِنكُمْ} (النساء: 59) - رد عليهم بعض الأئمة من التابعين أحسن ردٍّ فقال:

أليس قد نُزع عنكم بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} (النساء: 59) ؟ !

والحاصل أن الله سبحانه فرض على الأمة الإسلامية بهذه الآية طاعة الخليفة

والإمام؛ إذ به قيام الجماعة، وبقاء الهيئة الاجتماعية [11] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هذا الوجه حُجَّةٌ على الكاتب لا له؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند نزول الآية هو الإمام الأعظم، وصاحب الأمر في السياسة وغيرها، ولم يكن معه أمراء، ولا حكام؛ فتعين أن يكون المراد بأولي الأمر أهل الشورى من زعماء الأمة، وأهل الرأي فيها؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يأخذ برأيهم واستنباطهم في أمر الأمن والخوف وسياسة الحرب، وغيرها؛ لقوله تعالى:[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران: 159) ، وهذا نص في موضع النزاع.

(2)

هذا الحكم غير صحيح، وإنما الأمر: الشأن، ومقابل النهي، ويدخل فيها معنى الحكم، والقرينة تعين المراد كما تقدم، فالأمر في الآيتين هنا عين الأمر، آية:[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران: 159) وآية: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ](الشورى: 38) ، فأُولو الأمر في لغة القرآن أهل الشورى الذي اصطلح العلماء على التعبير عنهم بأهل الحل والعقد، وهم الذين لا يكون الخليفة إمامًا للمسلمين إلا بمبايعتهم له.

(3)

هذا الحصر - بل هذا الوجه - غير صحيح كما علم من الحاشيتين اللتين قبل هذه، وكانوا كثيرًا ما يعنون بقولهم إن هذه الآية نزلت في كذا أنها مبينة للحكم في مثله، وذلك بحسب فهم القائل.

(4)

ليس في الآية التي قبلها ذكر للحكام والأمراء، وإنما هي خطاب للأمة أنه يجب على مَن اؤْتُمِنَ منهم على شيء أن يؤديه إلى أهله، وعلى مَن حكم بين الناس بولاية عامة، أو خاصة أو تحكيم من بعضهم - أن يحكم بالعدل.

(5)

ليس هذا معنى قوله، بل معناه هم أهل الشورى عند الرسول صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر؛ لأنه كان يستشيرهما في كل أمر.

(6)

إن طاعة الأئمة والأمراء واجبة (في المعروف) بإجماع المسلمين، والنصوص فيها معروفة، ومنها هذا الحديث، ولكن هذا ليس دليلاً على تفسير الآية بما ذُكر.

(7)

قد صرح الكاتب - من قبل كغيره - بأن المسألة خلافية، فترجيح بعض كبار العلماء لأحد الوجوه التي يحتملها اللفظ ليس حجة على غيرهم، وإنما العبرة بقوة الدليل.

(8)

هذا الكلام حق ولكنه وضع هنا في غير موضعه؛ إذ ليست هذه المسألة مما خالف الخلف فيها السلف، ولا مما أكثروا فيها الأقوال.

(9)

قد نقل الكاتب هذا القول عن بعض السلف، وجمع بينه وبين القول الأول، الذي اختاره، وأطال فيه، فعزوه إلى الرازي خطأ وَهْبه صوابًا، فلماذا أنحى عليه بهذه اللائمة في قول سبقه إليه مَن ذكر من السلف؟ ، على أن الرازي على تفلسفه وكثرة غلطه - قد اهتدى في تفسير (أولي الأمر) إلى الصواب في الجملة، كما بيناه في تفسير الآية في موضعها من التفسير.

(10)

الحق أنهم عرفوا ما رماهم بجهله كما تقدم.

(11)

المنار: مَن أراد الوقوف على ملخص أقوال السلف والخلف في (أولي الأمر) ، وتحقيق الحق فيه وفهم الآية حق الفهم ومعرفة مصلحة المسلمين في ذلك اليوم - فليراجع تفسيرها في الجزء الرابع من تفسيرنا (من صفحة 180-222) .

ص: 193

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(2)

ثم نعود إلى حوادث سورية التي كنا في صددها، فنقول:

عهدنا بالبيكباشي شكري بك رئيس الديوان العرفي الذي كان في عاليه أنه

(حي يُرزق) ، وكان تقرر بيننا وبينه أن نفتح بعد نهاية الحرب مسألة سورية في

مجلس المبعوثين في الآستانة ونطلب شهادته وأنه يشهد بكل ما جرى معه، على

أن شكري هذا - وإن استظهر جمال عليه بما في ديوان الحرب من مستنطق ومدَّعٍ

عمومي، وأكثر الأعضاء - قد أمكنه إنقاذ بضعة عشر شخصًا من الموت؛ لأن

جمالاً طلب الحكم على أربعين كما تقدم، فلما بالغ في المعارضة نزل معه جمال

إلى عدد 27، ووقف هناك ولكن شكري بك تمكن من تخليص ستة من هؤلاء

أيضًا، وتقدم ذكر رأيه فيهم، ولما نفذ الحكم استعفى حالاً، وذهب إلى الآستانة

مُغاضِبًا لجمال باشا.

مسألة نفي السوريين إلى الأناضول:

قبل أن أُنفذ الحكم بالقتل على الواحد والعشرين رجلاً - الذين صُلبوا في

ساحة المرجة بالشام وساحة البرج في بيروت - أخذ جمال ينفي العائلات مئاتٍ

وألوفًا إلى الأناضول من كل مدن سورية، وكان يعتمد في ذلك على جداول يقدمها

له مديرو البوليس وغيرهم من جواسيسه وشكل لجنة سماها (قومسيون التهجير [1]

تحت رئاسة رجل اسمه نوري بك كان (مكتوبجيًّا) بالشام وكان من أشد الناس

ضراوة بالضرر والفساد، وكان يكره في الباطن جمالاً وطلعت وكل رجال جمعية

الاتحاد والترقي، ولكنه يغري جمالاً بالنفي أو التغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه

الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر،

وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس، وأعلمناه أنهم لا يخبرونه إلا

بما يرون أنه يقربهم إليه زلفى من السعايات والوشايات، فلم يكن يعبأ بكلامنا،

وكان يعتقد أنه لا تخفى عليه خافية، حتى لو قلت إنه كان يظن نفسه ملهمًا

ومعصومًا من الخطأ لما كنت مبالغًا! ومن جملة مَن بدأ (بتهجيرهم) أسرة

المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري، ولما راجعته في ذلك قال لي: إن عنده أدلة

ووثائق خطية تُثبت خيانتهم وخدمتهم لفرنسا في سورية، فقلت له: الذي أعلمه أن

الأمير سعيدًا الجزائري كان لا شغل له إلا شتم فرنسا فقال هذا من باب الاحتيال؛

لأجل أن تُسكته فرنسا بالمال، فقلت له: مهما يكن من الأمر فإن مراعاة هذا البيت

واجبة لكون الأمير عبد القادر له منزلة سامية في العالم، فأجابني (بكأنه) ،

ومعناها هنا: ماذا ينالني من ذلك؟ .

(المنار)

وقد أطال الكاتب هنا في ذكر وقائع جزئية:

(منها) أنه لما بلغه أمر جمال باشا بنفي بعض وجهاء لبنان - وكان الأمير

توفيق أرسلان والأمير فؤاد أرسلان ابنا عمه منهم - كلمه وكتب إليه محاولاً صرفه

عن هذا العزم فلم يأبَهْ له، فتوسل إليه بعزمي بك والي الشام كما ذكر أولاً،

فغضب، وأنذره أن لا يراجعه في شيء من أمر المنفيين، ونشر في الجريدة

الرسمية أنه لا يسمح لأحد بالافتيات عليه في ذلك. وقد كاشف رئيس لجنة النفي

(قومسيون التهجير) محمد فوزي باشا العظم بأن المراد بإنذار الجريدة هو الأمير

شكيب، فنصح له الباشا بأن يقف عند ذلك الحد خوفًا على حياته. وعلل ذلك بأنه

يفعل ما يشاء بلا معارض، وهو - على علمه بأن هذا الكلام حق - لم ينثنِ عن

عزمه.

(ومنها) أنه على تعرُّضه للخطر بهذا السعي لهؤلاء - كان بعضهم يتهمه

بأنه هو الذي أغرى جمالاً بهم، ويستدلون على ذلك بأنه ليس في المنفيين أحد من

حزبهم الأرسلاني، وإن الجواب على ذلك سهل، وهو (أن الحزب الأرسلاني

معروف قديمًا وحديثًا بأنه الحزب المناوئ للأجانب على الإطلاق، وأنه الحزب

العثماني الوحيد في الجبل، وسواء كان ذلك حسنة أو سيئة فهو حقيقة يعرفها كل

أحد، فغير معقول أن تعمد الدولة إلى رؤساء هذا الحزب فتنفيهم مهما بلغ من

خوفها) .

(ومنها) أن جمال باشا كان يعتمد في اختيار مَن ينفيهم على بلاغات

الجواسيس الموظفين والمتطوعين، وأن علي منيف بك متصرف لبنان كان

معارضًا له في خطة النفي، وكلَّمه في ترك نفي أحد من الجبل، فلما لم يقبل

انتخب له مَن تواتر عنهم الميل إلى الأجانب، ومنهم مَن وجد في أوراق قنصلية

فرنسا ببيروت وثائق تجرح صداقتهم للدولة، ومن تقدمت عليهم شهادات أخرى.

وذكر الكاتب عنا تقارير الشرطة السرية وعيون الحكومات وأنه كان للدولة منها

بعض ما للمحتالين في سورية وفلسطين الآن.

(ومنها) أنه لو كان للكاتب أدنى مشاركة أو مساعدة لجمال باشا على أفعاله

لما أمكنه أن يشنِّع عليه في الآستانة ويسعى لمحاكمته، ولكان جمال باشا يقول: إنه

كان قد أغراني بذلك وحسَّنه لي فأخذت بقوله وقول أمثاله لثقتي بعلمهم بحال البلاد.

ثم قال الكاتب:

هذا، ولما صدر الأمر بنفي حبيب باشا السعد من جملة مَن صدر الأمر بنفيهم

من لبنان جاء دمشق وزارني في محلي، وقال لي: إنه سمع من إسبر أفندي شقير

وغيره عن الجفوة التي جرت بيني وبين جمال باشا من أجل مسألة النفي والقتل

فهو لذلك لا يكلفني الكلام معه في أمره، بل الكتابة إلى علي منيف متصرف الجبل

الذي هو صديقي؛ لعله يتمكن من إقناعه، فحكيت له كل ما جرى وحررت لعلي

منيف كتابًا بأن يبذل جهده في صرف جمال عن نفيه، فإن لم يمكن فليكن النفي إلى

أطنة لا إلى داخل الأناضول، ثم توجهت إلى الجبل وبيروت وسألت علي منيف

بك عن مسألة حبيب باشا وغيره، فأجابني أنه لم يدخر وسعًا في صرف جمال باشا

عن فكرة النفي فلم يفلح، ولكنه خلص أناسًا كثيرين وأما حبيب السعد فقد كتب إلى

والي أطنة جودت بك بأن لا يشخصه إلى أبعد منها متى وصل إليها، وهكذا تم،

وبقي حبيب في أطنة، وتحابَّ مع جودت بك. ولقد صادف وصولي إلى لبنان بقاء

بعض المنفيين على أهبة السفر مثل رشيد بك نخلة فأقنعت علي منيف بإبقائه

لانحراف صحته، فخلصه بالرغم من إلحاح جمال باشا بتسفيره، وكان أخي عادل

خلص عدة أشخاص بحجة المرض مثل أمين بك عبد الملك وخليل بك عقل شديد

وغيرهما.

وأما إسبر أفندي شقير فكان جمال باشا نفاه إلى القدس ثم سمح له بالمجيء

إلى الشام وعندما صار في الشام تعبت كثيرًا في إعادته إلى بيته؛ لأنه كان بيني

وبينه جفوة مزمنة، وكنت أترقب فرصة لأجل أن أسدي إليه هذه اليد على ما بيننا

من النفور. ولما كان جمال علق له رخصة الرجوع إلى البيت على رضى

متصرف لبنان ووالي بيروت - راجعت بذلك كلاًّ من علي منيف وعزمي بك،

وبالرغم مما أبداه عزمي من التصعيب أقنعتهما بالقبول على أن أكون كفيلاً لإسبر

أفندي فلما جاء جمال إحدى جيئاته إلى بيروت تكلم معه الواليان المشار إليهما أمام

أناس من بيت سرسق بشأن إسبر شقير، وأنني أنا الذي يلح في هذا الأمر،

فغضب جمال وبدرت منه كلمات بحقي وأشاع أبناء سرسق ثاني يوم أن جمال باشا

غضب عليَّ بسبب إسبر أفندي، وخاف عليَّ أصحابي، بل جاءني فوزي بك ابن

إسبر أفندي ورجاني أن لا أعرِّض نفسي للضرر من أجلهم وأنهم هم قد عرفوا

صديقهم من عدوهم، ونجاحي في تخليص والدهم وعدمه لا يقدمان ولا يؤخران

شيئًا في امتنانهم مما جرى، ثم ذهبت بعدها إلى الشام، فكان كلام إسبر أفندي معي

طبق كلام ولده فوزي. نعم، إنه تخلص - فيما بعد - بقرار حصلنا عليه بمساعدة

طلعت بشأنٍ عَمَّ جميع المنفيين الذين فوق الستين، ومع هذا كان يعد حسن نيتي

وإخلاصي السعيَ له جميلاً وينوه به ويلوم مَن أساءوا الظن بي من المنكوبين

ويزيل ما لصق بأذهانهم من الشبهات، على حين كان الذين نفعتهم فعلاً ودفعت

عنهم شرورًا عظيمة وعاركت من أجلهم في مواقف عديدة - قد نسي أكثرهم

الجميل وأنكروه ومنهم من قابلوا الإحسان بالإساءة والود بالشماتة.

ووجدت رجلاً آخر، بلغت به الجرأة الأدبية أن دافع عني بقلمه بعد الحرب

ألا وهو المرحوم سليم بك المعوشي قائمقام جزين فقد كنت أيام الصفاء مع جمال

لأول الحرب - استرجعت أمر جمال بنفيه إلى القدس ثم وجدت أوراقًا في قنصلية

فرنسا أوجبت القبض عليه، وحبسه في عاليه، فتمكنت - بواسطة رئيس الديوان

العرفي وأعضائه وبإقناعهم بكون هذه الأوراق لا بال لها وليس فيها خيانة للدولة -

أن أطلق سراحه بدون أن يعلم بذلك جمال، فكان هو الرجل الوحيد الذي نشر عند

نهاية الحرب في إحدى الجرائد ما معناه: أنني أعلم أن كلامي لا يُرضي الكثيرين

ولكن الحق أولى أن يُتَّبع، وهو أن الأمير شكيب أرسلان لم يشترك في شيء من

أعمال جمال باشا، بل خاصمه وعانده من أجلها إلخ.

هذا، ولو كانت الحرب انتهت بغير ما انتهت به لم أكن عرضة الآن لافتراء

بعض المفسدين المتملقين للحلفاء! ، ويا ليت الواقفين على أقاويلهم اليوم سمعوا

نغْمة الرؤساء والزعماء في لبنان أيام الحرب وهم يقولون في هذا العاجز على

ضعفه وقصوره: هذا أمير البلاد وأبوها وأمها وإن لم يحافظ عليها هو فمَن يا تُرَاه

يحافظ عليها إلخ؟ ! ، ولكن لما دارت الدائرة على ألمانيا وتركيا انقلبت

الحقيقة لديهم وصار الأبيض أسود في نظرهم؛ إذ أكثر الناس ينظرون من وراء

لون الأحوال الحاضرة وكأن الحقائق - ويا لَلأسف! - هي أيضًا رهائن الأقوياء

موقوفة لخدمتهم.

حال جمال باشا بعد ثورة الحجاز:

هذا، ولما ثار الشريف بالحجاز وسرت الحركة إلى سورية خاف جمال

العواقب، فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، واستدعاني أنا وكامل بك الأسعد

وسليم باشا الأطرش ونسيب بك الأطرش وكنج أبا صالح شيخ مجدل شمس

وغيرنا من الزعماء وتكلم معنا في اتحاد العرب والترك وفي مقاصد الدولة العلية

الحقيقية وأفاض بكلام بعضه صحيح وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على

الأمانة للدولة. وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية -

لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة وتصديقه

لمعاهداتها

وقلت - قبل الحرب وكررت في أثناء الحرب وبعد الحرب ولا أزال

أقول -: إن كل عربي يصدق أن دول الحلفاء يسعين في استقلال العرب - لا بل

يقبلن باستقلال العرب - يكون في عقله خبال! ، وأنهن ما أردن إلا فصل العرب

عن الترك؛ ليتسهل لهن ابتلاع الأمتين، هذه هي غايتهن. ولي - بذلك قبل

الحرب - نظْم من جملة قصيدة في سيرة صلاح الدين الأيوبي:

وكيد على الأتراك قيل مدبر

ولكن لصيد الأمتين حبائله

إذا غالت الجلى أخاك فإنه

لقد غالك الأمر الذي هو غائله

وطلب مني جمال أن أرافقه في سياحة إلى حوران وجبل الدروز واستصحب

أيضًا المرحوم عبد الرحمن باشا اليوسف وسامي باشا مردم بك وبعض العلماء

والمعمّمين، وأراد أن يجلو ما كان أظلم بيني وبينه، فلما كنا في مقعد السويداء

بجبل الدروز، وكان قبض قبل ذلك على شكري باشا الأيوبي وعدة رجال منهم

فارس أفندي الخوري أحد المشار إليهم بالبنان في سورية علمًا وفضلاً، واتهمهم

بمؤامرات سبقت لهم مع الأمير فيصل، فانتهزت تلك الفرصة وتكلمت معه بشأن

هذه القافلة الثالثة على مسمع من عبد الرحمن باشا اليوسف ووجيه أفندي الأيوبي

وحيدر بك ابن سامي باشا مردم بك وما زلت ألحّ عليه بشأنهم، حتى وعد بأن

يطلعني على أوراق وُجدت معهم وأنها تثبت خيانتهم، ولما نزلنا الشام قال لي: إن

التحقيقات لم تتم فصرنا نراوحه الشفاعة ونغاديه، ولا سيما بفارس أفندي الخوري،

والشيخ خضر حسين التونسي الأديب العالم الفاضل، والمرحوم الشيخ صالح

الرافعي وأناس من وجوه راشيا وآخرين من وجوه زحلة - أوصلتهم إلى السجن

تقريرات شاب طرابلسي، ولعب في هذه المسألة دورًا مهمًّا المسمى توفيق بك الذي

جعله جمال باشا وكيلاً لولاية الشام، فاجتهد هذا التوفيق - لا وفقه الله - كل

الاجتهاد في إثبات أن هناك مؤامرة على قتل جمال وخلع طاعة الدولة. وكانوا

يضربون الناس ضربًا مبرّحًا ويعذبون الشهود؛ ليقرروا ما يريدونه هم. وقيل: إن

هذا الجهد البالغ لإثبات وجود المؤامرة هو لأجل إقناع رجال الدولة والرأي العام -

الذي كان بدأ يقيم النكير على جمال في الآستانة - بأن جمالاً لم يعتدِ على أحد،

وأنه لا تزال المؤامرات وحركات الثورة في سورية متصلة، ولكن جمالاً اضطر

في هذه المرة إلى الاكتفاء بالحبس ولم يتجاوز إلى القتل، فقيل: إن شريف مكة

أرسل ينذرهم أنهم إن قتلوا في هذه المرة أحدًا قتل هو جميع الأسرى الذين عنده من

الأتراك وفي مقدمتهم الوالي غالب باشا. وقيل: إن الآستانة أنذرته هذه النوبة إنذارًا

شديدًا بأن يعدل عن خطته المعهودة؛ لأنه قد طفح الكيل وقد كفى ما جرى، فلذلك

رأينا هذه الدعوى أخرجت في يوم من الأيام من يد توفيق وكيل الولاية وتحولت

إلى ديوان عرفي في الشام أخذ ينظر فيها مجددًا ويطرح الشهادات المأخوذة بقوة

الضرب والتعذيب ويسلك مسلك العدالة وأمكننا يومئذ إطلاق سبيل أناس من مشايخ

راشيا وآخرين من زحلة وواحد من عرمون الغرب. ثم أطلق سبيل الشيخ صالح

الرافعي والشيخ محمد خضر حسين التونسي اللذين كان ذنبهما أنهما استُفتِيا في أحد

المجالس في جواز الخروج على الدولة فلم يفتيا بذلك ولكن لم يبادرا بإخبار جمال

باشا بوقوع هذا الاستفتاء ولو كان هذا الاستفتاء مجرد كلام فارغ من أناس لا شأن

لهم. أما شكري الأيوبي فكانت قضيته شديدة؛ لأنه اعترف بالاتصال بفيصل

وكونه اشترك معه في انتقاد الأحوال. وأما فارس الخوري فذنبه الوحيد أنه سأله

الشاب الطرابلسي رأيه في عمل ثورة فأنكر هذا الأمر ونهاه عن الخوض فيه، لكن

جمالاً يقول: لو كان فارس الخوري أخبرني يومئذ بما سئل عنه لعلمت بنية فيصل

وقبضت عليه، ولم أدعه يذهب إلى الحجاز، ولم تكن حصلت ثورة الحجاز؛

ففارس الخوري هو سبب هذه الثورة بسكوته، والحال أن فارسًا الخوري قرر -

ونحن طالما أكدنا لجمال باشا - أن ذهاب فيصل إلى الحجاز كان قبل المسألة التي

سئل عنها فارس أفندي ومع هذا بقي فارس نحو أربعة أشهر بين أربعة حيطان.

(وهنا ذكر الكاتب مجيء وفد الآستانة إلى سورية وقول مبعوثها صلاح بك

جيمجوز الشهير بجرأته: إن موعد افتتاح المجلس قد حان ولا يرضون أن يكون

أحد المبعوثين محبوسًا، وإن هذا كان سببًا لقبول جمال إطلاقَ فارس الخوري

بكفالة الكاتب بشرط استقالته من المجلس) .

مصادرة جمال باشا لغلال سورية:

ثم إنه خطر لجمال باشا خاطر غريب من جهة تأمين الجيش على ميرته -

وهو جمع حبوب البلاد كلها موسم سنة 1916 وادخارها في أنبار العسكرية

وإعطاء الأهالي والعساكر جميعًا حاجتهم من المنازل والأنابير بموجب وثائق، وقد

اقتدح هذا الرأي ولم يجرؤ أحد - لا من أعيان البلاد ولا من كبار المأمورين - أن

يبين له ضرر هذا التدبير إلا أنا، فراودته كثيرًا أن يرجع عن هذا الفكر لأسباب

عديدة: (منها) أن الأهالي - ولا سيما الفلاحين - لا يمكن أن يقدموا جميع غلات

أراضيهم ويصيروا عالة على المنزل، كلما أرادوا أخذ مقدار من الحبّ لقوت

عيالهم وعلف دوابّهم - اضطر الواحد إلى تقديم وثيقة والإنظار أيامًا وليالي أمام

باب المنزل، فهذا الفلاح سيطمر في الأرض كل ما يقدر عليه من محصوله، فيقل

مجموع الموسم عما هو، (ومنها) أنه إن كان المقصود هو تأمين الجيش على

قُوتِهِ فيمكنكم عمل حساب ما يلزم الجيش كل يوم، ومن ثمة ما يلزمه طول السنة

الواحدة، وقسم من العام القابل وبعد معرفة مجموع اللازم طرحه على الولايات

والألوية بحسب درجات غلاتها وإقبال مواسمها، وأما أخذكم الجميع - سواء احتاج

الجيش إلى كل هذا المقدار أم لا - فإنه يوهم الناس أن مقصودكم إماتتهم جوعًا

والآن يذيع كثير من المفسدين بين العامة أنكم ترسلون بجانب من الحبوب إلى

ألمانيا وعقول الساذجين تصدق هذه الفِرْية، فلم يقبل النصيحة، وحصل كل ما

كنت تكهنت به؛ لأن الذي أعطى جميع حاصلاته احتاج الحَبّ، فكان يذهب إلى

المنزل فلا يأخذ مُد القمح إلا بعد اللتيا، والتي، وإن الأكثرين طمروا في الأرض

أكثر حاصلاتهم، فتصور جمال أنه بإنذاره الأهالي أن مَن يخفي منهم شيئًا من

الحبوب يُجزَى بالقتل - يخاف الأهالي فيقدمون كل ما عندهم من الغلة والحال أن

هذا الإنذار لم يزدهم إلا تكتمًا في العمل، فصار الواحد يطمر الحب في جوف الليل

تحت الأرض ويأخذ منه حاجته لعياله ودوابه، وإذا جاءه أيٌّ كان وطلب منه حفنة

من الحب بحجة أن أولاده يموتون جوعًا - أنكر أن يكون عنده شيء؛ خوفًا من أن

يكون ذلك الطالب جاسوسًا يقصد استكشاف سره، أو يذهب فيقول: إن هذا القمح هو

من عند فلان جزاه الله خيرًا، فيصل الخبر إلى الحكومة المحلية ويُجزَى بالشنق!

وجمال باشا إذا قال فعل، فأصبح أناس يدورون في البراري في طلب القوت ولا

يجدونه، وآخرون عندهم أكداس الحب مخبوءة تحت الأرض، ولا أقصد بذلك أن

هذا هو السبب الأصلي في مجاعة سورية، كلا، بل إن هذا التدبير السيئ المبني

على الاستبداد والغرور بالنفس - كان من جملة أسباب المجاعة، ولكن السبب

الأهم هو الحرب من حيث هي، وقلة الأيدي العاملة وفقد البذار والأبقار والحصر

البحري وأعظم المسئولية في شدة المسغبة وموت الألوف جوعًا بسببها - تعود على

الحلفاء الذي رفضوا إغاثة سورية من جهة البحر، وإيصال إعانات أميركا

وأسبانيا والبابا، وأحبوا أن يلصقوا ذنب التجويع بالحكومة العثمانية ظلمًا وزورًا،

كما سيأتي في كلامنا على المجاعة.

على أننا لما كنا نذكر كلاًّ بفعله نقول: إن هذا التدبير الذي قرره جمال باشا

لتلافي تخبئة الغلال كان تدبيرًا قاتلاً، وأتى بعكس المقصود، ومن جملة نتائجه أن

أهل حوران ثاروا على الحكومة؛ وذلك أنه فرض على لواء حوران 80 مليون

كيلو وجعلها تحت التزام ميشيل إبراهيم سرسق مبعوث بيروت ووضع تحت طلب

ميشيل القوة العسكرية فجمع هذا 20 مليون كيلو ووقف حمار الشيخ في العقبة

فأخذوا حينئذ بالعسف والتضييق، وأحرجوا الأهالي فثاروا وضربوا الجندرمة،

فساقوا عليهم العسكر فتضاربوا والعسكر وقطعوا أسلاك البرق وخربوا سكة الحديد

واستفحل الأمر وكان جمال في حلب، فخاف أن تمتد الفتنة، ويشترك فيها العربان

والدروز فأبرق إليَّ - وكنت في لبنان - أن أذهب إلى حوران وأن أشترك مع

حافظ جمال باشا في تسكين الثورة فلم أستطع إلا الذهاب وإن لم أذهب لم يبعد عليه

أن يجعلني مسئولاً عما وقع. ولما وصلت إلى درعا (أذرعات) استدعيت مشايخ

الدروز، فحضروا في ألف وخمسمائة فارس، وأكدوا طاعتهم للدولة، وأبرقت إلى

جمال بالخبر فورد إليَّ جوابه بالشكر والسرور، ثم راسلت مسلمي حوران،

فحضر مشايخهم، وقالوا لي: نحن كنا أخبرنا الحكومة أنه لا يقدر على تسكين هذه

الثورة إلا الأمير شكيب، فالحمد لله على قدومك وإن أكثر الثائرين متجمعون في

قرية نوى، فبعثت إلى جمال برقية أعرض فيها عليه رأي العفو عن الثائرين

وإعادة الأمن إلى نصابه وأنني أتعهد في مقابلة ذلك بإدخالهم جميعًا في الطاعة،

فأجابني ببرقية صريحة بأن مَن أطاع إلى نهاية أربعة أيام وحضر إلى مركز

الحكومة - فهو معفو عنه، فأسرعت بكتابة خطاب إلى الثائرين المحتشدين في

نوى أدعوهم فيه إلى الطاعة وأعظهم، وأبين لهم عواقب العصيان، فأجابوني إلى

ما أردت، وطلبوا أن نتلاقى أولاً في قرية الرمثاء.

وبينما نريد تعيين يوم للاجتماع هناك إذ ورد إليَّ خبر بكون حافظ جمال باشا

القائد العسكري في حوران - المأمور بقمع الثورة - قد ساق عدة توابير على نوى،

فكبسوها بياتًا وضربوها بالمدافع، وقتلوا نحو ثمانين نفسًا، فلم أصدق هذا الخبر،

ولم يهضم عقلي أن جمال باشا يأذن لي بتأمين الثائرين على نيل العفو ويضرب

لي لذلك موعدًا أربعة أيام وقبل انقضاء الموعد يسوق عليهم العساكر ويضربهم وإذا

بالوالي تحسين بك وبحافظ جمال باشا (وكانوا يقولون له جمال باشا الثالث؛ لأنه

كان في سورية أحمد جمال باشا القائد العام وجمال باشا المرسيني الذي صار بعد

الحرب العامة ناظرًا للحربية في الآستانة ونفاه الإنكليز إلى مالطة وجمال باشا هذا)

قد حضرا إلى أذرعات، وعلمنا أن واقعة نوى هذه قد حصلت، فكان بيني

وبينهما في دار الحكومة في أذرعات خصام عظيم، ارتفعت فيه الأصوات، وبلغت

الحدة أقصاها على مسمع الجمهور، وإنما ظهر أن جمال باشا الثالث هذا في يده

أمر بَرْقي بالضرب خلافًا للأمر الذي بيدي بالتأمين. فعند ذلك أبرقت إلى جمال

باشا القائد العام أبين له مزيد استغرابي من هذه الواقعة التي وقعت ضمن المدة التي

أعطاني إياها لتأمين الثائرين ومقدار الفظاعة في قتل نحو 80 شخصًا، منهم بعض

نساء وهدم بيوت في بلدة الإمام النووي رضي الله عنه.

وتلغرافي هذا مسجل - ولا شك - في بيت التلغراف بأذرعات. فغضب

جمال من هذا الخطاب، وزاده غضبا أن الشيخ أسعد شقير -الذي كان أرسله مراقبًا

له على حركات الجميع في حوران - حضر الخصومة بيني وبين الوالي وجمال

باشا الثالث (كان ممن اجتهد في كف النزاع) ولكنه ثاني يوم برح حوران إلى عكا

ويقال إنه أبرق إلى جمال بما حصل بيني وبين ممثلي الحكومة الملكية والعسكرية،

وأنني أغلظت لهم القول، وقلت إنني لا بد أن أفتح هذه المسائل في المجلس

بالآستانة، وأشرح كل ما جرى إلخ، فأبرق جمال إليَّ بالحضور إلى صوفر،

وكان قدم إليها من حلب، وهناك أرغى وأزبد وأشرف عليَّ من سماء عَظَمُوته،

فلم أجاوبه لا نفيًا ولا إقرارًا، وقمت منصرفًا، فكأنه وجد في سكوتي دليلاً على

إضمار السوء، فقام، وتبعني، وحاول استرضائي، وعدل عن المخاشنة إلى

الملاينة، وبقيت ساكتًا، وصممت أن أذهب إلى الآستانة، وأن لا أعود إلى سورية

ما دام جمال فيها

[2] .

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: المراد بالتهجير: الحمل والإكراه على الهجرة أي الخروج من الوطن إلى غيره، وهو استعمال جديد لم تنطق به العرب ولا المولدون؛ لأن الإكراه على الخروج من الوطن يسمى في اللغة إجلاءً وجلاءً، يقال: أجلاهم وجلاهم، ويقال: جلوا أيضًا، وأما التهجير - في اللغة - فهو الخروج في وقت الهجير، أي: الحَرّ والتُّرْكُ يتصرفون في أبنية الأفعال العربية بحسب حاجتهم، فيخطئون السماع والقياس تارة، ويصيبون تارة.

(2)

حُذف من هذا الموضع ذكر الوسائل التي توسل بها الكاتب إلى الذهاب إلى الآستانة، مع منع جمال للسفر بدون إذنه.

ص: 202