المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة الأوربية

(3)

الفنادق في سويسرة:

كان الأمير ميشيل بك لطف الله أوصى توفيق أفندي اليازجي بأن يحجز لنا

حجرات في فندق من أرقى فنادق (جنيف) وأحسنها؛ إذ كان بلغنا أن هذه الفنادق

ستكتظ على كثرتها بالمسافرين عند اجتماع عصبة الأمم، وأن يستأجرها إذا توقف

حجزها على استئجارها، وصح ما قيل من تسابق الناس إلى مثل ذلك. فلما وصلنا

إلى جنيف ذهب بنا إلى فندق إنكلترة، وهو من الفنادق الوسطى، وموقعه أمام

البحيرة جميل، فلم يعجب الأمير ميشيل بك، وعاتب توفيقًا على إنزالنا فيه،

فاعتذر بأن الخديوِ كان ينزل فيه، فقلنا لعله كان يراه أعون له على التنكر، وقد

نزل فيه في وقتنا الأمير عزيز حسن. ثم عهد الأمير ميشيل إلى جورج أفندي

يوسف سالم بأن يبحث لنا عن 4 حجرات في فندق من الدرجة الأولى، يكثر فيه

كبار أعضاء جمعية الأمم؛ ليسهل التعرف بهم، ويكون وجودنا معهم مذكِّرًا لهم

دائمًا بوجود وفد سوري يطالب باستقلال بلاده، وبعد جهد في البحث والتجوال وجد

لنا مطلوبنا في فندق (دي برك) ، وكان الأمير ميشيل قد أوصاه بأن يساوم

صاحب الفندق في أجرة الحجرات، وثمن الطعام وأجرة غسل الثياب، فلم يُعنَ

بالتدقيق في ذلك بل رضي بأن نعاملهم بالتعريفة التي يطلبونها؛ لظنه أن ذلك

محدود كما يقولون، ثم تبين أن الأمير ميشيل هو المصيب، وأنه أعلم بشئون

البلاد من سالم الذي هو أكثر منه أسفارًا وتجوالاً في الممالك كما قلنا من قبل، وأنه

كان يمكن أن يقتصد بالمساومة مبلغًا من الجنيهات، لا ينبغي التسامح في مثله!

وقبل أن أبيِّن الفائدة التي أقصد إليها من ذكر هذه المسألة أذكر دقيقة أخرى

للأمير ميشيل هي دونها في باب الاقتصاد، ولكنها تدل على حذقٍ، وذكاءٍ،

واختبارٍ، وهي أن أصحاب فندق فيكتوريا في مدينة لوزان لما قدموا لنا جريدة

الطعام - وهي مطبوعة - ألفينا فيها الأثمان المطبوعة مرمجة، وبجانبها أثمان

مكتوبة بالحبر هي أكثر منها، فلم ينتبه أحد منا إلى سبب ذلك غيره فقد قال: إن

هذه الأثمان المطبوعة هي أثمان الطعام لأهل البلد، وإنهم إنما زادوا فيها لأجلنا؛

فإن لأهل سويسرة حِذقًا في اجتلاب الأموال من السياح، لا يضارعهم فيه غيرهم،

وسبب ذلك أن ما يربحونه من الأجانب معظمه من الذين يقصدون بلادهم من جميع

أقطار العالم المدني للتمتع بمناظر جبالها، ومروجها الخضراء، وبحيراتها الزرقاء،

واستنشاق نسيمها العليل، وتفيُّؤ ظل حدائقها الظليل، فما ينفقه فيها السائحون

والسائحات هو عند أهلها من قبيل دخل الصادرات، وأما الصادرات التي تخرج

منها إلى غيرها - فهي قليلة، أهمها الساعات من المصنوعات المعدِنية، فهي

أشهر بلاد أوربة إتقانًا لها، والزبدة والجبن والفاكهة من نتائج الزراعة.

هذا، وإن جميع الأسعار في بلاد سويسرة محدودة لجميع أنواع البضائع،

وأهلها يغلب عليهم الصدق والأمانة، وقد قيل لنا: إن أكثر بلاد أوربة، ولا سيما

العواصم والثغور العظيمة كباريس ومارسيلية يبيعون الغرباء بأسعار أعلى من

الأسعار التي يبيعون بها الوطنيين، وأما سويسرة فقلما تجد هذه المعاملة فيها

للغرباء في غير الفنادق، ومن أسباب ذلك أن أكثر أصحابها من اليهود.

أما بعد: فإن غرضنا من الإلمام بهذا البحث تنبيه القراء إلى ما يجب على

المسافر من بلاده إلى أوربة وغيرها من الدقة والاقتصاد في النفقة، وحفظ ماله أن

يضيع فيما لا يفيد صاحبه حمدًا في الدنيا، ولا ثوابًا في الآخرة، بل هو من

إسراف الغباوة الذي يحتقر فاعله كل عاقلٍ وقف على حاله.

إن مَن لا يعرف ميشيل لطف الله إذا سمع أنه يساوم في أثمان طعام الفنادق،

وينبه مَن يوليه أمر نفقته إلى أمثال هذه الدقائق - يظن أنه ممن يصح أن تُكتب

أخبارهم في نوادر البخلاء، أو أن الدافع له إلى مثل هذا التوفير الفقر والإملاق،

أما وكُلُّ مَن يعرف الرجل يعلم أنه من أكبر أهل النعمة والثراء، ومن أشهر

الأجواد والأسخياء، وأنه مُقري الضيوف، ووهَّاب الألوف، فكيف يفهمون بعد

هذا منه، ما روينا من هذه الدقة في التوفير عنه؟ !

لا شك أن سفهاء الوارثين المعروفين في هذه البلاد - وهم لا يعقلون معنى

لكلمتي التوفير والاقتصاد، الذي عليه مدار ثروة الأمم والأفراد - يعدون ذلك من

الهنَّات المستهجَنَات، ويكثرون التنادُر بها، واختراع النكات لها، وأما أهل العلم

والبصيرة فهم الذين يقدرونه قدره، ويعلمون أنه من العقل والحكمة، والشكر الذي

تدوم به النعمة، وإنني - قبل التثريب على أولئك السفهاء المسرفين - أذكر لهم

مثلاً من قصد الأجواد المتقدمين والمتأخرين.

روي في مناقب الإمام الحسن السبط عليه السلام أنه جاء المدينة المنورة

تاجر من العراق بأحمال من أجود الثياب، فاشتراها منه الحسن بعد أن بالغ في

المساومة معه، ولم يترك له من الربح إلا القليل، ثم أخذ منها ثوبًا أو ثوبين،

ووزع الباقي على الحاضرين، فقال له التاجر: يا ابن رسول الله، لقد بالغت في

مساومتي حتى لم يكن لي من الربح على تعبي إلا القليل، وقد كنت أحق من هؤلاء

الناس بمثل ما أعطيتهم - أو ما هذا معناه - فقال له الحسن: (المغبون لا محمود

ولا مأجور) ، أي لا هو مهدي هدية فيُحمد، ولا متصدق فيُؤجر، وهذا حديث

مرفوع رواه الخطيب عن أبيه والطبراني عنه وأبو يعلى عن أخيه الحسين -

عليهم السلام.

وما رأيت أحدًا من الأغنياء العقلاء أشبه بالأمير ميشيل في إنفاقه وتوفيره،

من الشيخ قاسم آل إبراهيم التاجر العربي الشهير في بومبي (الهند) ؛ فقد عهدناه

ينفق من سَعَته في الأعمال العامة كالمدارس، والإعانات للدولة العثمانية، فيهب

المئات والألوف من الجنيهات، ولا يطمع أهل الكدية والاستجداء منه بدينارٍ، ولا

درهم، وإن وقف على بابه طول النهار، وأطراه بالبليغ من الأشعار، على أن

ميشيل لطف الله كثيرًا ما يعطي الشعراء والأدباء، ولكن دون ما يهب للمدارس

والجمعيات الخيرية والأعمال السياسية.

فأمثال هؤلاء الأغنياء هم الذين يعرفون كيف يحفظون نعمة الله عليهم بالثروة،

ويكونون أهلاً للمزيد، والزكاء فيها على كثرة النفقة.

هذا، وإن ما يمكن توفيره من نفقات السفر في أوربة من غير إزراء بصاحبه،

ولا نقص في تمتُّعه - ليس بالشيء التافه الذي لا يُعتَد به، وناهيك باختيار

المواقع، ومساومة أصحاب المنازل والفنادق، وقد علمنا أن أهم سبب غلاء المواد

الغذائية في سويسرة وغيرها وارتفاع أجور الفنادق - هو جعْل ورقها النقدي (بنك

نوت) بسعر الذهب لا ينقص شيئًا، وقد كان هذا سببًا لقلة قصد السائحين إليها بعد

الحرب، كما كان يعهد قبلها، حتى سائحي الإنكليز والأميركيين الذين هم أكثر

الشعوب سياحةً وأوسعهم فيها نفقةً، فقد تجولنا بعد فضّ مؤتمرنا في أشهر بلادها،

ورأينا أشهر فنادقها، فلم نجد إلا القليل من السائحين فيها، ولما ذهبنا إلى ألمانية

وجدنا الفنادق غاصَّة بالناس من أهل سويسرة وغيرهم، حتى إنك لَتطوف على

الكثير منها، فلا تجد لك حجرة فيها، كما سيأتي في محله، وإنما كثر الغرباء في

مدينة جنيف وحدها لما ذكرنا من اجتماع جمعية الأمم فيها، وكثرة قصد المشتغلين

بالسياسة إليها.

الفرنك السويسري كالفرنك الفرنسي، والليرة الإيطالية وغيرهما من نقد دول

الاتحاد اللاتيني، كلها متساوية في وزنها الفضي وسعرها الذهبي، ولكن التعامل

العام قد انحصر منذ اشتعلت نار الحرب في الورق، وهو مختلف السعر الآن،

حتى في البلاد التي يُطبع فيها بحسب الثقة المالية قوةً وضعفًا، والمعيار العام في

أوربة لهذا الورق (البون) الإنكليزي؛ لأن مالية إنكلترة أثبتُ من غيرها من

الدول الأوربية التي اشتركت في الحرب، ولا يعلوها في ذلك إلا الولايات المتحدة

وسويسرة؛ فإنها كالولايات المتحدة في سعر القطع، ففرنكها لا يقل عن أربعة

قروش مصرية صحيحة.

وإن شئت مثالاً من أمثلة غلاء الفنادق الغريب في سويسرة، فاعلم أن ثمن

البيضة في السوق قرشان مصريان، كما أخبرنا توفيق أفندي اليازجي، وهي في

الفندق أغلى، وأن أجرة غسل بعض الثياب في شهر واحد قد يزيد على ثمنها

ضعفًا أو ضعفين أو أكثر؛ فإن أجرة غسل كل من المنديل والجورب وكيّه لا يقل

عن فرنكين سويسريين كأجرة القميص واللباس، وقد يكون في بعضها أكثر،

أفليس شراء جديد بدلاً من المتَّسخ هنالك خيرًا من غسله، كلما استعمل كما هي

العادة؟ ، وقد هال رياض بك صلح أنه دفع جنيهين أجرة لغسل ثيابه في الفندق

الذي نقيم فيه (أوتيل دي برج) ، ومتوسط نفقة الطعام في سويسرة جنيه إنكليزي

أو مصري في اليوم وفي فندقنا وما ماثله أكثر، وفي بعض مطاعم السوق أقل.

وهذا الفندق من أغلى الفنادق أجرةً وطعامًا إن لم يكن أغلاها، والطعام فيه

أجود وأكثر منه في فندق فيكتوريا الذي نزلنا فيه أولاً (وكتب أولاً فندق إنكلترة

سهوًا وطُبع) ، فالألوان هنالك قليلة، وهنا كثيرة جدًّا، ولكن لكل يوم بل كل وجبة-

ألوانًا معدودة لها ثمن معين، ومن طلب غيرها مما يوجد دائمًا رهن الطلب

كالفراخ والسمك والطير وسائر اللحوم بأنواعها فعليه أن يدفع ثمنه، ومن عاف

شيئًا من طعام الوجبة فله أن يطلب بدلاً منه بغير ثمن جديد، وكنت دائمًا أطلب

بدلاً من الألوان التي يدخل فيها لحم الخِنزير، والجبنُ من متممات الطعام يجوز أن

يستبدل به بعض الفاكهة، وهي كثيرة وجيدة الا التين؛ فإنه قليل ورديء، وقيل لنا

إنه يأتي من أسبانية وأكثر العنب غير جيد أيضًا.

***

استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين:

هؤلاء الأغنياء المسرفون هم الذين يبذرون الأموال في سبيل الشهوات

المحرمة والفخفخة، الجديرون بأن يُسلبوا ما وُهبوا من النعمة، يتوهم الجاهل

المغرور منهم أن الشرف والفخار، في استمالة الفواجر والفجار، وتملق سماسرة

الفسق من قواد وخُمار، وشخوص الأبصار على موائد القمار، وإطراء المخادعين

من الطامعين والشطار، وتغرير السماسرة الأشرار، فتراه بينهم يعطي باليمين

واليسار، ويشتري سلعة الدرهم بالدينار.

إلا أن هؤلاء الأغنياء الأغبياء، والمبذرين السفهاء، هم أعداء الله تعالى

وأعداء دينه، وأعداء أوليائه من فضلاء الناس وخيارهم، وأولياء أعدائه من

أشرارهم، وأعداء أمتهم ووطنهم، وأعداء ذوي قُرباهم، ولا سيما أزواجهم

وأولادهم، فهم إذًا أعدى أعداء أنفسهم.

أما كونهم أعداء الله وأعداء دينه، فهو أنهم يكفرون نِعَمه عليهم بالمال

وبالجوارح، والمشاعر، والحواس باستعمالها فيما يخالف شرعه الحكيم، ويضل

عن صراطه المستقيم، وقد وصفهم في كتابه بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ

الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27) ، ويدخلون في عموم

قوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر: 43) ، ولا نطيل في

تذكيرهم بآيات ربهم؛ فهم عن ذكره معرضون.

وأما كونهم أعداء أولياء الله أهل الفضائل، فهو أن الإسراف قد هبط بهم إلى

أسفل دركات الرذائل، وإنما يحب الإنسان شبيهه، ويكره بمقتضى الطبع

مخالفه وضده؛ ولهذا وصفهم الله بأنهم إخوان الشياطين، وهو يصدق

بشياطين الإنس والجن؛ ولذلك جمع، فأما شياطين الجن فهي ما يجدون أثره

في خواطرهم، ووساوس أنفسهم، التي تزين لهم الفسق وتلبِّس عليهم

الحقائق، بتسمية الرذائل بأسماء الفضائل، كتسمية الإسراف جودًا وكرمًا،

وتملق المنافقين (النصابين) جاهًا ومجدًا، وتهافت العواهر وخدمة الحانات

والمواخير عِزًّا وشرفًا، وأما شياطين الإنس فهم قرناء السوء المنافقون

المتملقون الذي يتهافتون على الأغنياء المسرفين، ولا سيما الشبان الوارثين،

فيزينون لهم في الظاهر، ما يوسوس به الشيطان في الباطن، فهم شر منه

وأقدر على الإغواء؛ لأن التناسب بين شيطان الجن والشرير من الناس نفساني

فقط، وأما التناسب بينه وبين شيطان الإنس فهو نفساني وجسداني، ذاك

يشغل قلبه وخاطره، وهذا يملك باطنه وظاهره، فيشغل سمعه وبصره،

وذوقه ولمسه، ويكون قدوة سيئة له في جميع الرذائل، وشاغلاً، بل منفِّرًا له

عن معاشرة الأفاضل.

وأما كوْنهم أعداء وطنهم وأمتهم فله مظاهر كثيرة أدبية: كسوء

القدوة في إفساد الأخلاق، وشرحه يطول، واقتصادية كتحويل ثروة البلاد إلى

الأجانب، أنبأني نخلة باشا المطران في القسطنطينية سنة 1329، قال:

أنبأني رجل من كبار الماليين في باريس أن متوسط ما تربحه باريس وحدها

من المصريين في كل صيفٍ ثلاثون مليون فرنك (وهو مليون ونصف مليون

دينار (بنتو) إفرنسي من الذهب) ، ومثل هذا الإحصاء خاص بما يمكن العلم به،

ويتناوله الإحصاء عادة كأجور الفنادق، والملاهي، والملاعب، والحانات،

وربما كان منه مواخير البغاء الرسمية دون ما يُعطَى للأخدان، ويقال: إنه قلما يوجد

رجل من الذين اعتادوا الاصطياف في أوربة من المصريين؛ لأجل التمتع

بالشهوات، ليس له خِدن يكثر الاختلاف إليها في بيتها، أو تختلف إليه في

البيت الذي يقيم فيه من الفنادق العامة أو الدور الخاصة التي يُعرف واحدها

(بالبنسيون) .

وللقمار مَقامِر عامة يمكن إحصاء ربحها وخسائر الشعوب فيها، ولكن

المبتلين به لا يحصرون مقامرتهم فيها، بل يقامرون أصدقاءهم وأخدانهم من

النساء والرجال في البيوت والملاهي والمنتزهات، وقد بلغنا أن عمر باشا

سلطان قد خسر بالمقامرة في صيف سنة واحدة (لعلها السنة التي مات فيها،

أو السنة التي قبلها) ثلاثين ألف جنيه مصري.

إن أكثر الأغنياء الأغبياء - ولا سيما الشبان الوارثين منهم - يخوضون

بحار هذه الموبقات بغير عقلٍ، ولا حساب، ولا تقدير؛ فهم ليسوا كالإفرنج

الذين لهم من العلم والتربية ما يقف بهم عند حدود من الاقتصاد فيها كغيرها من النفقات المشروعة، بلغني أن المقامرين منهم يضعون في ميزانية نفقاتهم

السنوية مبلغًا معينًا من الدخل، يوزعونه على الشهر، لا يتجاوزون

قسط الشهر ربحوا أم خسروا. والمقامرون - ولا سيما المسلمين الجغرافيين

أو الرسميين من أهل بلادنا - قلما يقف أحد منهم عند حد، أو يتقيد بنظام،

وإن خسر دخل السنة كلها في أسابيع أو أيام، بل يقترض بعد ذلك بالربا

الفاحش، ويرهن أملاكه لعدم قدرته على كبح جماح نفسه، والوقوف بها عند حد

من شهواته، ولو أن الجرائد تنشر أخبار هؤلاء السفهاء، وما يخسرون في القمار

وسائر طرق الفسق والفجور - لكان لها تأثير عظيم في ردعهم، واعتبار الناس

بسوء حالهم.

إن آخر ما سمعت من أخبار هؤلاء المسرفين خبر شاب من الوارثين كان قد

أنفق مبلغًا عظيمًا في سبيل العلم، فظننت أنه سيكون كالشيخ قاسم إبراهيم

في جده وعقله في بذله، وبُعده عن اللهو الباطل وأهله، أو كالأمير لطف الله في

جمْعه بين منتهى أبهة التمتع بزينة الدنيا وطيباتها، وبين أعمال البر

والمعروف مع النظام والتدبير فيهما، ولكن خاب الأمل فيه؛ إذ علمت أنه غلا في

الإسراف والتبذير غلوًّا كبيرًا، لعله لا يدَع له فتيلاً ولا نقيرًا ولا قِطْمِيرًا، فهو

ينفق أضعاف ما ترك له والده الحريص من الدخل الكبير، وطفق يقترض بالربا

الفاحش، ويرهن ويبيع، فحزنت وأنا لا أعرفه عليه، وتمنيت لو تخلُص مثل هذه

النصيحة إليه، وأن لا يكون إن نصح ممن قال الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} (الفرقان: 44)، ومَن قال فيهم: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً

لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 23) .

وكذلك ما ينفقه هؤلاء في وطنهم يتسرب أكثره إلى جيوب الأجانب أيضًا؛

فإنه إنما يذهب في الفجور، وأكثر الفواجر منهم، والخمور وجميعها من صادرات

بلادهم، والقمار وهم أصحاب القدح المعلى فيه، أَوْ رِبا الديون وهم أصحاب

المصارف ورؤوس الأموال له.

أي عداوة للوطن وجناية عليه أكبر من نزح ثروته منه وإعطائها للأجانب؟ ،

ولو أن هؤلاء السفهاء يجعلون ما ينفقون في غير الضارّ لهم من شهواتهم، وفيما

ينفع الوطن من المشروعات العلمية والعملية لأمكن لمصر أن تضارع أوربة،

وتباريها في زمن قصير، سواء كان هذا البذل تبرُّعًا في سبيل المصالح العامة، أو

استغلالاً للمال فيما يرقي الزراعة، والصناعة، والتجارة، ويحفظ ثروة البلاد من

الضياع، ولو أنهم يشترون به سندات دَيْن الحكومة وسهام الشركات والمصارف

العقارية وغيرها - لأمكنهم إعتاق حكومتهم وأمتهم من استرقاق الإفرنج الاقتصادي

لها، وجعْلها حرة مستقلة في إدارة ثروتها، والاستقلال الاقتصادي أنجح ذرائع

الاستقلال السياسي إذا كان مفقودًا، وأقوى دعائمه إذا كان موجودًا.

وأما عداوة هؤلاء الأغنياء الأغبياء لأهلهم وأولادهم فهي أنهم أسوأ الناس

قدوةً لهم في الفساد الذي أشرنا إليه، وأقلهم عنايةً بتربيتهم الصالحة، فكثيرًا ما

يفنون ثروتهم كلها في حياتهم، فلا يتركون لأولادهم ما يعيشون به كما اعتادوا،

فيكونون أشقى الناس، ونتيجة ما ذُكر أنهم أعدى أعداء أنفسهم، والجناة عليها في

دنياها وآخرتها.

إننا بالتجوال في أوربة ورؤية مناظرها الجميلة والتمتع بهوائها المعتدل في

فصل الصيف، ووجدان جميع أسباب الراحة - عرفنا تجربة ذوق، واختبار عذر

أغنيائنا في إقبالهم على الاصطياف فيها هربًا من حر قطرهم وغباره، ولكننا لا

نرى لأحد منهم عذرًا ما في إنفاق شيء من ثروة الوطن في غير أثمان ما يتمتعون

به من طيبات الرزق، وأجور السكن، والتنقل في البر والبحر، إلا أن يكون فيما

فيه منفعة معنوية لهم أو لأمتهم ووطنهم في علم، أو ثروة، أو سياسة؛ فإن في

أوربة من ينابيع العلم، ومصادر المعارف، ومجال الأعمال السياسية ما ليس في

مصر ولا في غيرها من البلاد، ولكن لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من اللذات الجسدية

لا يوجد مثله في مصر، وسيأتي بيان ما تمتاز به في مكان آخر.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 383

الكاتب: محمد رشيد رضا

الرحلة السورية الثانية

(10)

المؤتمر السوري العام

انتخب أعضاء هذا المؤتمر في أوائل سنة 1919 من جميع الولايات

والمتصرِّفيات السورية في المناطق الثلاث التي قسمها الحلفاء إليها، وكان انتخابهم

فيما عدا متصرفية جبل لبنان التي كانت مستقلة في إدارتها الداخلية على طريقة

انتخاب مجلس المبعوثين العثماني، بل انتخبهم المنتخبون الأولون، الذي انتخبوا

المبعوثين في الدورة الأخيرة، وأما جبل لبنان - الذي لم يكن يُنتخب منه أعضاء

لمجلس المبعوثين - فقد انتُخب من بعض بلاده - لا كلها - أعضاء للمؤتمر،

انتخبهم الوجهاء وشيوخ الصلح الذين ينتخبون أعضاء مجلس إدارة لبنان.

وكان الغرض من تأليف هذا المؤتمر - المنتخب بطريقة نيابية عن الشعب

السوري كله - أن يبين رأي الشعب السوري في مصير البلاد، وشكل حكومتها،

وما يفرضه عليها دول الأحلاف من المساعدة، وقد اجتمع المؤتمر لأول مرة في

دمشق عند مجيء اللجنة الأمريكانية من أوربة في تلك السنة لاستفتاء الشعب

السوري في ذلك، وخبر هذه اللجنة في تأليفها وامتناع دولتي فرنسا، وإنكلترة من

الاشتراك فيها، بعد أن كان قد تقرر جعْلها مشتركة، وطوافها مناطق البلاد،

واطِّلاعها على رأي جميع الطبقات والجماعات فيها بالمشافهة، وقرار المؤتمر العام

الذي قدمه لها في دمشق، وإجماع الرأي العام في هذه المناطق كلها على طلب

الاستقلال التام للبلاد كلها، واتحادها ورفض كل مساعدة تنافي هذا الاستقلال - كل

ذلك معروف مشهور، قد نُشر في جميع الجرائد السورية في ذلك الوقت، ونقلته

عنها الجرائد العربية بمصر وأمريكة وغيرها، ونوَّه به كثير من الجرائد

الإفرنجية في البلاد المختلفة، وسبق له ذِكْر في المنار، وليس هو ما يعنينا هنا،

وإنما الذي نريد أن نقوله هو أن الجماعات والأفراد أولي الشأن - الذين قابلوا

اللجنة الأمريكية في جميع المناطق - قد أيدوا المؤتمر السوري العام؛ فكان ذلك من

الشهادات المتواترة على ثقة الشعب كله بالمؤتمر، وكوْنه ينطق باسمه، ويعبر عن

رأيه.

لأجل هذا قرر حزب الاستقلال العربي عند البحث في طريقة إعلان استقلال

البلاد أن يكون المؤتمر السوري العام هو الذي يقوم به في العاصمة (دمشق)

مستظهرًا بعلمائها، ورؤسائها الروحيين وكبار رجالها من جميع الطبقات والأحزاب،

وأنه لا حاجة إلى انتخاب جديد - كما اقترح بعضهم - وكذلك كان، وقد نشرنا

خبره مفصلاً في وقته.

ولما اجتمع المؤتمر، وأعلن الاستقلال أيده الشعب في جميع المناطق

السورية، وصارت له - بمظاهرة الشعب له - صفة الجمعية الوطنية التأسيسية،

وقد كان من رأي الأمير فيصل أن ينفض بعد إعلان الاستقلال، وكاشف الذين

كانوا يتولون مراجعته ومذاكرته في الأمر من كبار أعضاء الحزب بذلك، فلم

يوافقه أحدٌ، وكاد يصر لولا أن قيل له: إن هذا الأمر لا يمكن البت فيه إلا بعد

اجتماع المؤتمر، والاتفاق مع الأكثر من أعضائه، وهم من حزبنا على ما يحسن

في ذلك، ثم كثر البحث في ذلك بعد اجتماعه، وقبل الاتفاق على وضع صيغة

إعلان الاستقلال، حتى تم الاتفاق على الصيغة التي وُضعت في قرار المؤتمر

التاريخي الذي أُعلن به الاستقلال؛ وقد نشرناه في المجلد الحادي والعشرين من

المنار (ص 441)، وهذا نصها - بعد ذكر اختيار فيصل ملكًا -:

(وأعلنَّا انتهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث،

على أن يقوم مقامها حكومة ملكية نيابية مسئولة تجاه هذا المجلس - أي المؤتمر -

في كل ما يتعلق بأساس استقلال البلاد التام، إلى أن تتمكن الحكومة من جمع

مجلسها النيابي، على أن تُدار هذه البلاد على طريقة اللامركزية) .

فإن جعْل الحكومة مسئولة تجاه المجلس كان يراد وضعه مطلقًا، فلم يقبل

الأمير فيصل بذلك، وبعد المراجعة والإصغاء رضي بأن يكون ذلك مقيدًا بما يتعلق

بأساس استقلال البلاد التام، ورضي أكثر الأعضاء بذلك.

وبعد أن تألفت الحكومة وانتظمت جلسات المؤتمر - اقترح بعض أعضائه

وضع قرار بطلب تقديم الوزارة بيان خطتها للمؤتمر طلبًا لاعتماده إياها - من

حيث هي حكومة نيابية بمقتضى قراره، فقبل الاقتراح، وتقرر بأغلبية كادت

تكون اتفاقًا.

ولما بُلّغ رئيس الوزراء قرار المؤتمر عرضه على الملك، فأنكره، وأبى أن

تجيب الوزارة الطلب، حتى أقنعته بذلك بعد مناظرة حادة، حضرها إحسان بك

الجابري رئيس أمنائه - وكان فيها ميَّالاً لرأيي - وسمع بعضها الأمير زيد.

ذلك أنني زرته صباحًا كالعادة، فذكر لي قرار المؤتمر، وقال: إنه ليس له

هذا الحق؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، وأنني أمرت الوزارة بعدم إجابة طلبه، فقلت

له: يا مولاي، إن هذا الاقتراح عُرض فجأة في المؤتمر، ولم يبحث حزبنا فيه،

ولا علم به قبل عرضه، وإنني لم أكن من المقرين له، ولا المعارضين فيه؛

لأنني لا أزال مترددًا في الترجيح بين كفاءة الوزارة وكفاءة المؤتمر، وناظر إليهما

بعين النقد والتجربة، ولكن يجب أن ينفَّذ قرار المؤتمر بعد أن قرره وبلّغه، ولا

يجوز ردّه ألبتة.

قال: إنه لا حق في هذا الطلب؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، قلت: بل له هذا

الحق؛ لأنه أعظم سلطة من المجلس النيابي، إنه جمعية وطنية تأسيسية، قال:

إنني أنا الذي أوجدته؛ فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة! قلت:

بل هو الذي أوجدك؛ فقد كنتَ قائدًا من قواد الحلفاء تحت قيادة الجنرال اللنبي؛

فجعلك ملكًا لسورية، نعم، إن لك فضلاً بالسماح بجمعه؛ إذ كنت تحكم هذه البلاد

حكومة عسكرية باسم الحلفاء، أما وقد اجتمع باسم الأمة - وهي صاحبة السلطان

الأعلى بمقتضى أصول الشرع الإسلامي الذي تَدين الله به، وبمقتضى جميع

أصول القوانين العصرية الراقية، وقد اشترط في تأسيسه لهذه الحكومة التي

اختارك ملكًا لها أن تكون مسئولة تجاهه في كل ما يتعلق بأساس الاستقلال،

وبرنامج الوزارة السياسي يتعلق بأساس الاستقلال مباشرة، وبرنامجها الإداري

يتعلق بحفظ الاستقلال بالتبع أيضًا، فأرجو أن لا تحدث لنا أزمة في أول طريقنا،

وما تخشاه - من عرقلة الحكومة بتدخل المؤتمر وسيطرته عليها - فأمره سهل؛

فإن أكثرية المجلس من حزبنا وأعضاء الوزارة من حزبنا أيضًا، ونحن نضمن

التوفيق بينهما، وعدم فتح هذا الباب الآن، وبعد التأمل في هذا الكلام الذي يعتقد

إخلاص قائله وصدقه وعلمه بأن المؤتمر لا يسكت عن تنفيذ قراره رضي، ثم

قدمت الوزارة بيانها على الوجه الذي يتفق مع رأي الحزب، ونالت الاعتماد

المطلوب، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما ذكرناه من قبل.

والغرض من ذكر هذه الحادثة بيان صفة المؤتمر لا التعريض بميل الملك

فيصل إلى الاستبداد، بل أقول: إنني كنت أخاف ما يخاف هو من تحكُّم المؤتمر في

الحكومة وعرقلته لأعمالها، وهي في طور التكوُّن؛ فإن استبداد الجماعة قد يكون

أشد ضررًا من استبداد الأفراد، والشواهد على هذا معروفة في التاريخ القديم

والحديث، وحسبنا من الحديث استبداد الاتحاديين بالحكومة العثمانية، الذي أدى

إلى هدم سلطنتها (إمبراطوريتها) العظيمة، وحب الاستبداد فطري في نفوس

البشر، خيارهم وشرارهم، وربما كان بعض الأخيار أمضى فيه، وأثبت قدمًا من

غيرهم؛ لعذرهم أنفسهم فيه بما يجدون فيها من حسن النية، والشرير قد يلوم نفسه

عليه إذا كان فيه بقية من الخير، ولا يصرف الناس عن الاستبداد إلا التقيد بشرع

أو قانون وراءه قوة تحافظ على تنفيذه، وتراقب المنفذين له، وهذا معروف لا

يحتاج إلى شرح، ولما كانت مراقبة الملوك وإيقافهم عند حدود الشرائع والقوانين

مع الاعتراف لهم بالسلطة العليا من أشق الأمور، بل تكاد تكون متعذرة - سلبت

الأمم الراقية السلطتين منهم، وجعلتهما للمجالس النيابية وجماعة الوزراء

قلت

مرة لمستر متشل إنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر: إنكم قد ظلمتم الخديوِ،

وقيدتم سلطته، حتى لم تتركوا له من النفوذ الفعلي في الحكومة شيئًا، فقال: لكننا

تركنا له جميع مظاهر الملك وعظمته، وهل تريد أن نعطيه ما ليس لمَلِكنا مثله؛

فيستبد في الأعمال؟ ! فوالله لو أن ملكنا استطاع أن يستبد في أمر من الأمور في

يومه لما أخَّره إلى الغد!

ومعقول أن يكون الملك فيصل أجدر من غيره بحب الاستبداد، وقد صرح

بأنه ندم أن لم يكن استبد في سورية، ولكن من غرائزه وأخلاقه ما يصده عنه إذا

كان طريقه غير معبَّد له، وآية لي على ذلك أنه سمع مني ما ذكرت من معارضته،

فرجع إلى قولي، ولم يَنْقُص ذلك شيئًا من مودته، واحترامه لي، ولو كان

الاستبداد راسخًا فيه - كرسوخه في كثير ممن نعرف من الأمراء، وكان قوي

الشكيمة فيه - لما استطعت معاشرته، والعمل معه بعد ذلك، ولكان حقد عليَّ بهذه

المعارضة، وكاد لي كيدًا إذا لم يستطع إيذائي جهرًا، على أنه رأى مني - بعد

ذلك - معارضة أشد وأخشن، ولم يكن ذلك بصارف له عن مكاشفتي - عند توديعه

ليلة خروجه من دمشق - بأعمق أسراره، التي أكد لي أنه لم يذكرها لأخيه كما

ذكرت ذلك من قبل، ولعله لولا يقينه الصحيح بإخلاصي للأمة وله، وأنني ليس

لي أدنى هوىً نفسيٍّ في ذلك - لما بقيت لي عنده هذه المودة، وقلما تجد هذا عند

غيره من الملوك والأمراء، بل عند الأفراد والنظراء، بل عند مَن دونهم! ،

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الكلام عن المؤتمر.

المؤتمر والحكومة في سورية:

قلت إنني كنت أخاف ما يخاف الملك فيصل من تحكم المؤتمر في الحكومة

وعرقلته لأعمالها، وإنني كنت أراقب كلاًّ منهما مراقبة المختبر الشاكّ في كفاءة

الفريقين، وفي الترجيح بينهما، وقد تكون وجهة النظر عندي في ذلك مخالِفة

لوجهة النظر عند الملك فيصل، وقد بينت بالإجمال ما ظهر لي من كفاءة الحكومة

والانتقاد عليها بالاعتدال البريء من التحامل والمحاباة.

وأما المؤتمر فقد ظهر أنه ليس أدنى من المستوى الذي فيه الشعب، بل هو

مثال مطابق له؛ فقد كان الرأي العام فيه في مسألة الاستقلال التام الناجز، ورفض

كل سيطرة أجنبية - هو رأي الشعب بعينه، بل لم يكن فيه أدنى مظهر للفئة القليلة

في الأمة التي تميل إلى قبول الوصاية الأجنبية المؤقتة، وهل لدى الدول الطامحة

إلى ذلك سيطرة مؤقتة إلا عند العجز عن الدائمة؟ وقد يلطفونها بتسميتها مساعدة،

نعم قد اتُّهِم أفراد من الأعضاء بأنهم من الحزب الوطني الذي ألفه بعض الأغنياء،

ولكن بعض وزراء الحكومة - على قلتهم - كانوا يصرحون لبعض الناس بأن

رأيهم قبول الوصاية، ومنهم ساطع بك الحصري وزير المعارف الذي كان أحد

رسل الملك فيصل إلى الجنرال غورو، وعلاء الدين الدروبي قتيل خربة الغزالة،

وتقدم ذكر ذلك، بل كانت وطأة المؤتمر شديدة في مقاومة الانتداب في كل من

سورية الجنوبية والشمالية، ولم يكن هذا محل خلاف بين حزبيه، ولا بين أحد من

أفرادهما، وكان فيه العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن

ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية، ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية

أو بعض المدارس الأجنبية، فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد، وأهلاً

لوضع غيرها من القوانين، أو تنقيح القوانين العثمانية.

وكان فيه طائفة من المحافظين على القديم من أمور الأمة وتقاليدها، وطائفة

من المولعين بالجديد الأوربي، وطائفة من المعتدلين بين جمود أولئك وخفة هؤلاء،

ومن المولعين بالجديد مَن يودُّون السير من وراء حدود الدين، وأن يستظهروا في

ذلك بالقانون، بل قاوم كثيرون منهم تقييد الحرية الشخصية بشرط المحافظة على

الآداب العامة، وكان رأي بعضهم أنه شرط لا حاجة إليه؛ لئلا يتوسل به إلى منع

السُّكر في المقاهي والملاهي، واختلاط النساء بالرجال فيها، ورأي آخرين أنه

شرط حسن، ولكن لا ينبغي ذكره في القانون الأساسي، فكان رأي الفريقين أفلج،

فرجح على رأي المخالفين لهم؛ لأن أكثر هؤلاء كان ضعيف الفهم قليل الحزم.

أشرت آنفًا إلى أنه كان في المؤتمر حزبان، وهما حزب التقدم الذي يمثل

حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وحزب الاعتدال، ثم انفرد أفراد سموا أنفسهم

حزب الاستقلال - أي الاستقلال في الرأي - ولكن الذين لا يتقيدون ببرنامج حزب

يؤيدون رأي الأكثر من أفراده إذا قرروه لا يمكن أن يؤلفوا حزبًا من أنفسهم، ولو

أمكن أن يكوّن هؤلاء حزبًا لكنت منهم قبل أن أكون رئيس المؤتمر؛ فإنني من أشد

الناس استمساكا باستقلالي فيما أراه هو الصواب، ولكن لم يكن لي مندوحة عن

الاشتراك في تأليف حزب التقدم، الذي يمثل الجماعة التي أنا مرتبط بمذهبها

السياسي، وهو استقلال البلاد العربية، وقد انتُخِبت رئيسًا لهذا الحزب عند تأسيسه،

وكنت أستعين به على تنفيذ رأيي في المسائل الخلافية في اجتماعاته الخاصة،

فإن لم يتيسر لي إقناع الأكثرين في بعض المسائل، ولم يتيسر لهم إقناعي - فإنني

أنفذ قرارهم عملاً بالنظام، ولكنني لا أنصره بالاحتجاج له، والدفاع عنه على مِنبر

المؤتمر، ولا في مناقشة الأفراد، بل كنت أصرح لهم بما أعتقد أنه الصواب،

وأقول هذا رأيي، وذاك قرار الحزب، وقد استطعت - بما لي من المكانة

الشخصية عند الإخوان - أن أقنعهم بإرجاء البتّ في بعض المسائل الخلافية إلى

أجل ساعدتنا فيه الأيام على الاتفاق فيها.

ولقد دُعيت إلى المساعدة على تأليف الحزب الآخر عند الشروع فيه، على

أن أكون رئيسًا له، فلم أقبل، وقد كان الداعي الأول إلى تأليفه كتب أسماء أكثر

الذين لا ينتمون إلى حزب الاستقلال العربي؛ ليدعوهم إلى تأليف حزب مخالف له

في المؤتمر؛ لئلا ينفرد بالنفوذ فيه، كما انفرد بالنفوذ في الحكومة، وفي بلاط

الملك، على أن يتقاسموا ليكوننَّ إلبًا واحدًا، وكلمةً واحدةً على كل ما يقررونه فيما

بينهم، لا يشذ أحد عن رفع صوته به، ولم أكن أعرف لهم رأيًا جامعًا غير ما

ذكرت، وهو ما يتعذر عليَّ، على أنه قد دخل في حزبهم بعض أعضاء جماعتنا

برِضًى من حزبها بقصد الإصلاح، وتفاديًا من توسيع مسافة الخلاف، وقد كان

أفراد هذا الحزب - وهم الأقلون عددًا - أكثر اتفاقًا وتناصُرًا من الآخرين، وهم

الأكثرون عددًا وعلمًا، إلا في المسائل المهمة، ومنهم أكثر أهل العلم والرأي

والخطباء.

سيرتي في المؤتمر:

ولما صرت رئيسًا للمؤتمر وجب عليَّ أن أساوي بين الحزبين في كل شيءٍ

يتعلق به، وفي احترام أفرادهما، حتى في خارجه، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه،

وإيتاء كل ذي فضل فضلَه، بل تركت رئاسة حزب التقدم مع المحافظة على نصر

الجماعة التي ينتمي إليها، وقد كان الذين استاءوا من تشديدي عليهم في حفظ نظام

الجلسات، أو في المنع في بعض الأحيان من الكلام والخطابة - أكثرهم من أفراد

جماعتنا، وأقلهم من الحزب الآخر، بل ربما كان أكثرهم من أصدقائي، وما كلهم

من أفراد جماعتنا، ولا كل أفراد جماعتنا منهم، ومن العادات الراسخة في نفسي

أن أشتد مع الأصدقاء أيهم أشد حبًّا وإخلاصًا في الصداقة، ما لا أشتد مع غيرهم

في الإقناع بالحق، والمطالبة بالوقوف عنده؛ لأنهم أقرب إلى حسن الظن، وأبعد

عن الظنة (التهمة) التي قد تبعث على مكابرة الحق، وكم أغضب عليَّ هذا الخلق

من صديق ساءني إغضابه، وسرَّني استعتابه، وكم وجه إليَّ من عتب محب لم

يتعذر عليَّ إعتابه، وربما فاتني من ذلك ما أجهله، أو أعذر نفسي بحسن النية فيه،

وإن لم تعلم، وقد اتهمني بعض مَن صاحبت وواددت من أعضاء المؤتمر وغيرهم

بالمحاباة في تنفيذ وظيفة الرئاسة فيهم، وكانت هذه التهمة باطلة، فوايم الحق،

إنني كنت دائمًا محافظًا على تحري الحق والعدل، ولكنني لا أبِّرئُ نفسي من التساهل

أحيانًا مداراةً لبعض شديدي الانفعال والغضب، أو محبي المشاغبة كراهةَ أن

تكسر، فتسوء سمعة المؤتمر، ومنهم مَنْ أغراه ذلك باللجاج بالتمادي؛ حتى

اضطررت إلى ما كنت أكره من الإنذار وراء الإنذار، الذي لا يبيح القانون

فيه للرئيس إخراج المنذَر من الجلسة بقوة الشرطة.

(للكلام بقية)

_________

ص: 390