المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة الأوربية

(1)

مقدمة:

كادت أوربة تسود العالم الأرضي، وتستعبد جميع شعوب البشر، وتسخرها

لخدمتها، ولولا أن تفلَّت جل العالم الجديد في غربي الكرة (أميركة) من قبضة

يدها، وتلاه الشعب الياباني في شرقيها، فساوى الشعوب الأوروبية في العلم،

والصناعة، والنظام، وإتقان فنون الحرب وآلات القتال، ووسائل الثروة وتدبير

المال، وأما سائر بلاد المشرق من آسيوية وإفريقية، فكانت خاضعة خانعة لدول

الاستعمار الأوروبية على تفاوت بينها في هذا الخضوع، فمنها ما يعد مُلكًا خالصًا

لهن، ومنها ما يسمى التصرف فيه حمايةً أو احتلالاً، ومنها ما يسمى مناطق نفوذٍ

سياسية أو اقتصادية أو امتيازات دولية، دَعْ النفوذ العلمي الذي سيطروا فيه على

الأفكار بتأثير مدارسهم، وانتشار لغاتهم، وبثّ مطبوعاتهم، والنفوذ الديني الذي

سيطروا فيه على القلوب، والأرواح ببعثاتهم الدينية، وما أُنشِئ لها من المدارس،

والمستشفيات، والأندية، وما يطبع لها من الكتب، والصحف المنشرة، ولا تنس

في هذا المقام تأثير تجارهم وسيَّاحهم، ولا تأثير عاداتهم وأزيائهم، ولا أتحامى

ذكر تأثير بغاياهم، وفواجرهم في إفساد الأخلاق، وحاناتهم ومقامرهم،

واستنزاف الأموال.

فبهذه المزايا، والصفات، والمظاهر، والأفعال (حسنها وقبيحها) - تنجذب

قلوب الناس إلى رؤية بلاد هؤلاء الناس على اختلاف المقاصد، والنيات؛ فهي

كعبة طلاب العلوم والفنون والصناعات، كما أنها هيكل عُباد الشهوات، والتمتع

باللذات، فترى الناس يرحلون إليها من جميع أقطار الأرض، أفرادًا وثُبَاتٍ

وأكثرهم يبتغون بالرحلة إليها التمتع بمشاهد عمرانها، واحتساء كؤوس لذاتها،

ومنهم من يؤمها للاستشفاء بهوائها ومياهها المعدنية، أو لِعرْضِ نفسه على أطبائها

أُولِي الأخصاء في فروع الطب والجراحة، ومنهم مَن يلمّ بها لاستبضاع عروض

التجارة أو غير ذلك من الأعمال المالية، ومنهم من يهاجر إليها لطلب العلوم

الكونية والقانونية، والفنون والصناعات المختلفة، ومنهم من يتسلل إليها للقيام

بأعمال سياسيةٍ.

ولعل أقل زائريها مَن ينوي تكميل عقله، وتجارِبه بالاختبار، والاعتبار بما

يرى، ويسمع، وأرجو أن أكون من هذا القليل، وإن كان المحرك لهذه الرحلة

والداعي إلى جعْلها في الزمن الذي وقعت فيه، وإلى المكان الذي كان جلها فيه -

ليس إلا الخدمة السياسية لوطن المولد والتربية.

ذلك بأن حزب الاتحاد السوري - وهو أحد الأحزاب السياسية التي كنت من

مؤسسيها والعاملين فيها - قد قرر برأيي وموافقتي أن يدعو الأحزاب السورية

الاستقلالية إلى عقد مؤتمر سوري في مدينة (جنيف) من بلاد (سويسرة) ؛ حيث

تجتمع جمعية الأمم لأجل المطالبة بحق سورية في الحرية، والاستقلال الصحيح

المطلق من كل قيدٍ ينافيه؛ ولأجل جمع كلمة هذه الأحزاب، وتعاونها على العمل

دائمًا، وبناءً على هذا القرار نشر الحزب المنشور الآتي:

***

دعوة الحزب إلى عقد مؤتمر سوري:

(إن لجنة حزب الاتحاد السوري المركزية بمصر واثقة أنكم كنتم وما زلتم

مواظبين على مبادئكم القويمة الوطنية، ومساعيكم الشريفة إلى أن تكلل بالنجاح،

ويتحرر الوطن المحبوب، ويصبح كما يريد أبناؤه الأحرار العاملون وطنًا حرًّا

مستقلاً، زاهرًا برجاله، ناهضًا بهممهم، سائرًا كل يوم إلى الأمام، بفضل ما

يبذله الأحرار العاملون في سبيله مِن التضحيات العديدة، والمساعي الجليلة.

وبعد: فقد رأت لجنة حزب الاتحاد السوري التي كانت - وما زالت -

تجاهد بجميع الطرق المشروعة للحصول على استقلال البلاد التام الذي هو أمنية

كل سوري أَبِيّ النفس - أن تتآزر جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي تعمل

لغاية الاستقلال التام، ووحدة البلاد سواء في سورية نفسها، أو في المهاجر البعيدة

المتفرقة، وتتفاهم فيما بينها على أسس المبادئ والمساعي معًا، وترفع صوتها في

وقت واحدٍ للعالم المتمدن بأسره بجميع الطرق المشروعة، طالبة الحصول على

حقها الوطني الطبيعي المؤيد بكثير من العهود والوعود من أقطاب السياسة في العالم

المتمدن كله.

ولما كان مجلس عصبة الأمم سيجتمع قريبًا، وينظر في شروط الوصاية

المفروضة على سورية، وغيرها من البلاد المنفصلة عن تركيا - فقد قررت لجنة

حزب الاتحاد السوري أن تدعو الجمعيات، والأحزاب السورية إلى عقد مؤتمر

سوري عام في (جنيف) - مركز عصبة الأمم - في 10 حزيران (يونيو)

المقبل؛ لتبرهن بكل ما لديها من الوثائق، والحجج، والأدلة على ما لسورية من

الحق بالحرية، والاستقلال، وتتوصل بالوسائل المشروعة لدى مجلس عصبة الأمم -

لسماع رأي البلاد قبل إبرام الحكم عليها، فلجنة حزب الاتحاد السوري تدعوكم،

وتدعو سائر الجمعيات السورية للاشتراك في هذا المؤتمر، وترجو منكم إشعارها

بأسماء مندوبيكم، وبميعاد سفرهم، وبما ترغبون الاشتراك فيه مِن نفقات المؤتمر

العامة، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، والسلام) .

نائب الرئيس

...

...

... رئيس حزب الاتحاد السوري

محمد رشيد رضا

...

...

...

ميشيل لطف الله

***

المانع والمقتضي والتعارف والترجيح:

اتفق في أثناء نشرنا لهذه الدعوة أن مرض أولادي، واحد بعد آخر، ثم توفي

صغيرهم، وكنا أرجأنا السفر انتظارًا للعلم بموعد اجتماع عصبة الأمم الرسمي

الذي كان عُيِّنَ، ثم أُرجِئ، ثم قرر أن يكون في أواخر شهر أغسطس؛ فتقرر أن

يسافر وفد حزبنا من الإسكندرية في 12 أغسطس، ثم اتفق أن أصيب ولدي محمد

شفيع في أول أغسطس بحمى معدية، يحتاج علاجها إلى دقةٍ وعلمٍ؛ فكنت أتولى

معالجته، وتغذيته بنفسي، على أن والدته كانت نُفَسَاء، وقرب الموعد، ولما ينقه

من مرضه، فترددت في السفر، ثم رجحت أن أتربص ريثما يَنقَه الغلام، وأسافر،

فلما حل الموعد رأيت أن مصلحة خدمة الوطن ينبغي ترجيحها على الأهل والولد،

فعزمت، وتوكلت، وأزمعت الرحيل، تاركًا الأسرة تستقبل عيد الأضحى في

حزنٍ، ونفاسٍ، وتمريضٍ، كما تركت أعمال المطبعة التي هي مادة المعيشة،

وغادرت القاهرة في اليوم الثامن من ذي الحجة (الموافق لليوم الثاني عشر من

أغسطس) ، وهو يوم التروية، ويليه يوم عرفة، فعيد الأضحى، فشق عليَّ،

وعلى الأهل، والعيال، ولكن سفري لم يكن منه بدٌّ باتفاق الإخوان من أعضاء

الحزب وغيرهم، وقد زارني قبله بيومين رئيس الحزب، وبالغ في وصف ما يراه

من ضرورة سفري، وما في تأخيره عن هذا الوقت من الضرر.

سافرت في قطار الضحى السريع من القاهرة، فألفيت في المركبة - التي

ركبتها من الدرجة الأولى - ثلاثةً مِن أصحابي علماء الشرع الأذكياء المشهورين،

وهم الشيخ محمد حسنين العدوي مِن هيئة كبار العلماء بالأزهر، والشيخ محمد

المراغي مِن قضاة المحكمة الشرعية العليا، والشيخ محمد الضواهري شيخ الجامع

الأحمدي بطنطا، فجلست إليهم، وقطعنا المسافة في البحث، والمذاكرة في المسائل

العلمية، والاجتماعية، ولا سيما مسألة ضعف المسلمين، وأسبابه، ووسائل

معالجته، وأهمها الإصلاح الديني.

***

سفر البحر من الإسكندرية:

ولما بلغت الإسكندرية ذهبت إلى أحد فنادقها المجاورة للبحر؛ فتغديت فيه،

ثم سألت بالمسرّة (التليفون) عن الأمير ميشيل بك لطف الله [1] ، فعلمت أنه قد

ذهب إلى الباخرة التي اتفقنا على السفر فيها، وأنها تسافر من المرفأ عند انتهاء

الساعة الثالثة بعد الظهر، فيمَّمتها، فألفيته هو ورفيقنا جورج أفندي يوسف سالم

ينتظران، وكانا قد أرسلا رسولاً للبحث عني، فصادفني بالقرب من الميناء،

فساعدني على إنهاء العمل المعتاد في الجمرك، كالنظر في جواز السفر، ورؤية

الطبيب، وما دون ذلك. ثم ركبت الباخرة.

الباخرة طليانية اسمها (كليوبطرة) ، وهي من البواخر المتوسطة في الكبر

والإتقان، فهي أكبر مِن بواخر الشركة الخديوية، ودون الباخرة (عثمانية) منها

إتقانًا، ولكنها دون أكثر البواخر التي تنقل الركاب بين مصر وأوربة. وكانت

لدولة النمسة فأُخذت منها، فيما أخذته دول الأحلاف من غنائم الحرب، وكان

مجراها مِن مرساها في الموعد المضروب لها (الساعة 3 بعد الظهر) .

كان الرفيقان في شكٍّ من سفري معهما؛ لما علما مِن الموانع التي أهمها

تمريض ولدي، ولكنهما استأجرا مخدعين في الدرجة الأولى، في أحدهما سريران

لي، وليوسف سالم إن حضرْتُ، وإلا كان له وحده، وهو واسع يمكن أن ينام فيه

آخرون، وهذه الشركة في المخدع خيرٌ لي مِن الانفراد الذي كنت أفضِّله لو كنت

أعرف لغة أصحاب الباخرة؛ فرفيقي يتكلم بلغتهم كما يتكلم بالفرنسية، والإنجليزية

وإتقانه للأخيرة أتم.

كان الهواء عند سفرنا لطيفًا، لا يشكو منه الجالس على ظهرها، ولكنه لا

أثر له في مخادع النوم منها، فلم أطق النوم في سرير مخدعنا لشدة الحر، فنمت

على ظهر الباخرة، وفي مساء اليوم الثاني (السبت) برد الهواء قليلاً، وطفقت

أحشاء البحر تضطرب على ما كان من خفة الهواء، وضعف حركته، فارتأى

بعض الناس أن هذا أثر نوءٍ سابقٍ، وبعضهم أنه مبدأ نَوءٍ جديدٍ، وهو الصواب؛

فقد اشتدت الريح في ناشئة الليل، وكانت باردةً، وأنشأ البحر يعبث بالسفينة، فلما

شعرت بالنودان لزمت كرسي الاستلقاء على ظهرها، ولم أستطع العشاء مع

الركاب على المائدة، بل أكلت، وأنا مستلقٍ على الكرسي خشية الدوار الذي

أدركتني بوادره، ولكنها وقفت عند حدها ولله الحمد. على أن الريح اشتدت في

اليوم الثالث، وزاد بردها؛ فلزمت المُستلقَى عامة نهاره، وقد تكلفت طعام الغداء

والعشاء، وأنا عليه تكلفًا، وصليت الظهر والعصر قاعدًا، ولم أذهل من كونه يوم

العيد، فكبرت الله تعالى في أوقات متقطعةٍ، وتضرعت إليه داعيًا إياه أن يشفي

ولدي، ويخلفني في أهلي، ويلطف بنا، وبمَن معنا، وقيل لنا إن اضطراب البحر

في هذا المكان المحاذي لقندية (كريد) معتاد. وفي اليوم الرابع (الإثنين) هدأت

شدة الريح؛ فصارت أقرب إلى اللطف منها إلى العنف، وزالت مقدمات الدوار،

ولله الحمد، وجملة القول أن السفينة لم تضطرب من هذه الريح؛ لأنها شماليةٌ

غربيةٌ، تناطح رأسها مناطحةً، ولو صدمتها مِن أحد جانبيها لكان النودان شديدًا،

والدوار عتيدًا.

كنت شرعت في كتابة بعض المقالات للمنار، وكتاب مطوَّل لأهل البيت،

فلما اضطرب البحر، وكان مِن تأثيره ما ذكرت تركت الكتابة، ثم أتممت ذلك كله

في يوم الثلاثاء؛ إذ كان لطيف الحركة، معتدلاً بين البرد والحرارة، حتى كنا

كأننا في جزيرةٍ لا في سفينةٍ، فطاب لنا الطعام والكلام.

لم يكن معنا مِن وجهاء المصريين في الباخرة غير أمين باشا يحيى أحد

وجهاء الإسكندرية وهو أشد أنصار عدلي باشا ووفده الرسمي في الإسكندرية،

وكان قد اشتد سخطه على سعد باشا زغلول، وكثر تحامله عليه، فخالف في ذلك

والده أحمد يحيى باشا الذي ما زال أقوى أنصار سعد باشا في الإسكندرية، ومعه

السواد الأعظم من جميع الطبقات، وبيني وبين كل من أحمد باشا، وأمين باشا

مودة قديمة، فكنت أكلم أمين باشا في المسألة المصرية بلسان الصديق له المعتدل

في المسائل العامة، لا يطلب إلا الحق، وذكرت له أنني قد حررت القول في

المسألة المصرية تحرير مَن يرجح الحق والمصلحة العامة على كل شيءٍ كما يعهد،

وأنني وصفت كُلاًّ من سعد باشا، وعدلي باشا وصفًا لم أبخس فيه أحدًا منهما

شيئًا من حقه، وذكرت له بعض ما قلته فأَحَبَّ أن يرى جزء المنار الذي نُشر فيه

ذلك قبل عودته مِن أوربة إلى مصر، وقد اتفقنا على أن شدة التطاعن والتشاحن

بين الأحزاب والزعماء مما يزيد في الشقاق، وهو أفتك أسلحة الخصم، ويَذْهَبُ

بالوفاق، وهو أمنع معاقل الأمة.

وأما طعام الباخرة فقد كانت أنواعه كثيرةً، أجودها السمك الطري، والدجاج

وأردَؤُها وأقلها الخضر، وقد كان جورج يوسف سالم يقرأ لي جريدة الطعام عند

الجلوس على المائدة، ويبين لي ما يخالطه منها لحم الخِنزير لأَختار بدلاً منه؛

ليطلبه لي، فكان هذا خير ما أشكره له من آداب الصحبة والمساعدة على أعباء

السفر، وهو من أخبر الناس بها على ما أُوتي من النشاط والهمة والمروءة في

خدمة أصحابه.

قطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية وتريسته في خمسة أيامٍ بلياليها إلا

ثلاث ساعات، ويقطعها غيرها من البواخر الجيدة في ثلاثة أيام وثلاث ساعات،

فقد كانت بطيئة السير، والبحر رهوٌ، فلما اضطرب زاد بطؤها، حتى لم تكن

تقطع في الساعة إلا زهاء 12 ميلاً.

قلما يحتاج المسافر إلى أوربة في هذه البواخر إلى بذل شيءٍ من الجهد في

معرفة القبلة؛ فإن عامة سيرها إلى جهة الغرب الشمالي، فتكون مستدبرة للقبلة،

فالذاهب إلى أوربة يتجه إلى مؤخر السفينة، والعائد من أوربة إلى مصر يتجه إلى

مقدمتها، وقلما يتغير هذا الوضع.

***

تريسته وجمركها

وفي ضحوة يوم الأربعاء (13 ذي الحجة - 17 أغسطس) قابلنا ميناء

(تريسته، ثم أرست السفينة في مرساها مِن المرفأ في وقت الظهر، وكانوا قد هَيَّئُُوا

طعام الغداء للركاب قبل موعده، فتغدينا قبيل الظهر؛ لنتمكن من النزول عند

الوصول. فلم نلبث أن نزلنا، فدخلنا إدارة الجمرك، ففتح عماله بعض صناديقنا

وأسفاطنا دون بعض، وقد فُتح لي اثنان من خمسٍ، ولم يُفَتش منهما شيءٌ،

ولأولئك العمال فراسة في الناس، وفي متاعهم، وأهم ما يبحثون عنه - فيمَن

يجيء من مصر - (سجاير الدخان) ، وكان الأمير ميشيل حمل معه صندوقًا

كبيرًا فيه ألوفٌ من هذه السجاير المصرية، ربما يبلغ مكسها ألوفًا من الليرات

الطليانية لو كانت محمولة لتُستهلك في إيطالية، وإنما هي محمولة إلى سويسرة،

وما يمر من بلاد إلى أخرى يعطى المكس عنه في البلد المحمول إليه دون البلاد

التي يمر منها، وقد مكثنا في إدارة الجمرك زمنًا طويلاً لحل الرفيقين هذه المشكلة

كما وقفونا لأجلها عندما بلغنا نهاية حدود إيطالية، وأول حدود سويسرة، فقبَّح الله

هذا الدخان، ما أعظم ضرره، وأكثر غوائله.

(تريسته) حاضرة من أعظم حواضر البحر في سواحل أوربة، على

شاطئ الشمال الشرقي مِن بحر الأدرياتيك، مرفأ واسعٌ، وثغرٌ باسمٌ، في سَفْح

جبلٍ شامخٍ، فهي كبيروت أو جونية مِن سفح لبنان، وأين مرفأ بيروت الصغير

من مرفئها الكبير ذي الأرصفة الكثيرة، وكانت لدولة النمسة، فلما مزقتها الحرب

الأخيرة آلت فيما آل إلى إيطالية مع بواخرها، وهي - في الأصل - من حواضر

بلادها.

كان أول عملٍ عملناه بعد الخروج من المكس أن أودعنا متاعنا في فندق

سافواي من فنادقها الكبرى، وبادرنا إلى إرسال البرقيات إلى أهلينا بمصر للإعلام

بوصولنا سالمين، وقد طلبت في برقيتي أن يخبروني بحالة محمد شفيع ببرقية

يرسلونها إلى جنيف، وأودعنا في البريد ما كتبنا إليهم من تفصيل أخبار سفرنا،

وما كتبته من المقالات للمنار، ثم طوّفنا في البلد ساعةً مِن الزمان وعدنا إلى الفندق،

وقد عهدنا إلى يوسف بك سالم بأن يأخذ لنا تذاكر السفر في صبيحة اليوم التالي

في السكة الحديدية؛ لما له مِن الخبرة ومعرفة اللغة، ففعل.

وأقول في هذا المقام: إن الإنسان لا يعرف قدر معرفة اللغات الأجنبية كما

يجب إلا إذا سافر إلى بلاد يعرف لغات أهلها؛ فإن معرفته بذلك في بلاده بين قومه

لا تعدو النظريات الفكرية، وشهوة التكمل والتوسع في العلم، فإذا سافر وصار بين

قوم لا يعرف لغتهم شعر بنقص الجهل بتلك اللغة، ورأى أن ما كان يعده كماليًّا فقد

صار من الحاجيات أو الضروريات: من الحاجيات إذا كان معه من الرفاق مَن

يقضي له حاجة تارة، ويترجم له كلام القوم أخرى، ومن الضروريات إذا فقد مثل

هذا الرفيق، وإذا كفاه المترجم ما لا بد منه في شؤون طعامه وشرابه، وتنقله من

مكان إلى آخر في البر والبحر، فهو لا يكفيه كل ما يحتاج إليه من إفادة واستفادة،

وقلما يوجد مترجم بين متحاورين يستطيع أن يوصل إلى كل منهما ما في نفس

الآخر من علمٍ ورأيٍ وحجةٍ وشعورٍ، بل كان الأستاذ الإمام يخبرهم بأن المرء قلما

يستطيع أن يوصل إلى نفس غيره بالخطاب أكثر من 80 في المئة، وبالكتاب

تنعكس النسبة، فإذا كان تبليغ المترجم عنه وسطًا بين تعبيره عن نفسه بالخطاب

وتعبيره بالكتاب - فقد يؤدي النصف أو أقل من النصف من نظريات السياسة

والاجتماع، والفلسفة، والدين، وإنما يؤدي المراد كله في الأمور القطعية التي لا

تختلف فيها الأفكار كأثمان السلع وجهات الطرق ومواعيد السفر وما أشبه ذلك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

لقب (أمير) أنعم به ملك الحجاز على رجال بيت لطف الله، وهذا الإنعام اختراع له، فيه مباحث اجتماعية وأدبية ليس هذا محل بيانها.

ص: 114

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات

شاهد عيان وهو الأمير شكيب أرسلان

(مقدمة)

قد التقينا في أوربة بصديقنا القديم الأمير شكيب أرسلان الشهير بعد افتراق

بضع سنين، وكثر اجتماعنا به في جنيف (سويسرة) ؛ بسبب الاشتراك في

أعمال المؤتمر السوري الفلسطيني، وفي سياحتنا في سويسرة، وألمانيا، وفي

هذه الأثناء سمعنا منه أخبارًا تفصيليَّة لفظائع جمال باشا في سورية، وما كان من

معارضته له بالحسنى، ثم بالمغاضبة، فتمنينا لو تُنشر هذه الوقائع لبيان الحقيقة

التاريخية؛ فإن معرفة حقيقة تاريخ الأمة هو الوسيلة الأولى للنهوض بها،

والصعود في مراقي الحياة بين الأمم، وضرر الجهل به، والكذب فيه كضرر

الجهل والكذب في بيان أحوال المريض، وأعراض أمراضه للطبيب الذي يعالجه،

وقد كانت الحقائق التي سمعناها منه ومِن غيره في أوربة مؤيدة لرأينا في جمعية

الاتحاد والترقي، وفي تأثير سياستها في الأمة التركية، والدولة الألمانية كما سنبينه

في التعليق على هذا المقال بعد، ولرأينا في الأمير شكيب نفسه أيضًا، وهو ما

نبيِّنه في هذه المقدمة:

الأمير شكيب مِن أشهر كُتاب سورية وأدبائها، بل لا أبالغ إذا قلت إنه لا يُلزُّ

به قرينٌ منهم في مجموع مزاياه كجَوَلان قلمه في جميع ميادين المنظوم، والمنثور

والوقوف على دقائق السياسة، وشؤون الاجتماع، والعمران، وفصاحة اللسان في

الخطابة والمناظرة، وله في الكتابة السياسية والاجتماعية أسلوب خاص يشبه

أسلوب الحكيم ابن خلدون، وكانت سياسته الوطنية السورية محصورةً في وجوب

الإخلاص للدولة العثمانية، مهما يكن حال سلطانها ورجالها، في إدارتها وسياستها؛

لاعتقاده أنه إذا زالت سيادة الدولة العثمانية عن وطنه الخاص (لبنان) ، وسائر

سورية، وسقط تحت سلطة دولة أوربية فإنه يذل ويخزى، وكان له خصومٌ

كثيرون في سياسته هذه، أكثرهم مِن نصارى الجبل المشايعين لبعض الدول

الأوربية، ومبغضون آخرون لا مثير لبغضائهم إلا الحسد، أو التعصب الديني،

أو المذهبي. وهو من مريدي أستاذينا موقظ الشرق الأستاذ الإمام المصري،

والسيد جمال الدين الأفغاني، وله غيرةٌ على دينه الإسلامي، ودفاعٌ عنه لا يطيق

صبرًا على مَن نال منه بلسانه أو قلمه، على أنه لطيف التساهل فكِه المعاشرة،

وله أصدقاء كثيرون في بلاده السورية، وفي مصر والآستانة وأوربة مختلفو الملل

والأجناس، ولكنه حديد المزاج، ألد الخصام، فهو كما قال ابن دريد:

سهل إذا لوينتُ لَدْنٌ معطفي

أَلْوَى إذا خوشنتُ مرهوب الشَّذَى

ولهذا يبالغ في وده أصدقاؤه، ويغلو في عداوته خصماؤه، وإنما شذاه في

نضال الأعداء، هو ما يعهد في مجالدة الأدباء، ومجادلة العلماء، لا يكاد يعدو

كلوم الكلام، بوخز أسلات الألسنة، وأسنَّة الأقلام، فهو أديبٌ متديِّنٌ، ينفر من

الاعتداء على الأنفس والأموال، وشجاع يترفع عن دنيئة السعاية والإغراء.

وقد كان الكثيرون من الناس يزعمون أنه ليس له مبدأٌ أو مذهبٌ في السياسة

ثابتٌ، وإنما يدهن للدولة، ولكُبراء رجالها لأجل المنفعة، وأكثر هؤلاء من حُساده

أو مخالفيه في مذهبه السياسي، وبعضهم كانوا ينكرون عليه مشايعته للحميديين في

عهد عبد الحميد، الذي كان يطريه بالنظم والنثر، ثم مشايعته للاتحاديين عند ما

صاروا في الدولة أصحاب النهي والأمر، وأنه لم يكن من طلاب الإصلاح للدولة

في جملتها، ولا لبلاده السورية أو العربية في خاصتها، وعندي أن مثله في هذا

كمثل مسلمي مصر والهند وغيرهما من الأقطار البعيدة يريد من مشايعة مَن بيده

زمام الدولة تأييدها على الأجانب لا الرضى بسوء الإدارة أو السياسة، وقد كنت أنا

من هؤلاء المنكرين عليه تشيُّعه للاتحاديين، ودفاعه عنهم على علمي بما ذكرت

من مذهبه السياسي في تفضيل الدولة على جميع الأجانب، وإيثارهم عليها مهما

تكن حالها؛ لأنني كنت على هذا المذهب بحزب اللامركزية العثماني منذ عقلت

السياسة، ولا أزال عليه مثله. وقد كان سيئ الظن بحزب اللامركزية العثماني الذي

كنت أحد مؤسسيه، وطعن في الحزب، حتى نالني من طعنه بالباطل ما نالني، على

ما كان يُحمد من خدمتي للإسلام، وإخلاصي للدولة، حتى إنه أطراني بمقالٍ نشره

في المؤيد، بزعمه أنه إذا اختير من العالم الإسلامي مئةٌ، ثم من المئة عشرةٌ، ثم

من العشرة واحدٌ - لكنت ذلك الواحد، ولم أرد عليه لعِلمي بالشبهات التي مكنت

ذلك الظن السيئ في نفسه.

ولما علم ما كان من أنباء تنكيل جمال باشا بالسوريين في أثناء الحرب أشيع

أن الأمير شكيبًا معه، وأنه مساعدٌ له على سياسته الطورانية في سورية لشبهات

روّجها أعداؤه وحُسّاده، حتى صدق التهمة غيرهم، ولما علمنا منه أخيرًا أن الأمر

بضد ما قالوا اقترحنا عليه أن يكتب لنا مذكرةً بما سمعناه منه، أو مقالاً فيه لننشره

في المنار؛ إنصافًا له وللتاريخ، وقطعًا لألسنة المتقوِّلين، فأجاب طلبنا معتذرًا عما

استلزمه من تزكية المرء لنفسه، وقد نهى الله تعالى عنها، وقد جاء ما كتبه رسالةً

طويلةً، فجعلناها عدة فصولٍ، وضعنا لها عناوين من عندنا، واختصرنا قليلاً منها،

ومنه اعتذار الكاتب، وهضمه لنفسه في فاتحتها، وها نحن أولاء ننشرها تباعًا،

قال الكاتب:

1-

التأليف بين السوريين واستعطاف الدولة على النصارى منهم:

عند ما نشبت الحرب العامة، وقبل دخول تركية بها، بل أثناء تأهبها

للدخول كنت في الآستانة، وكان قائد الفيلق العثماني في سورية الفريق زكي باشا،

فأبرق إليَّ أنور باشا ناظر الحربية يطلب تعجيل مجيئي إلى سورية لاحتياج الحالة

إلى وجودي فيها يومئذٍ، فأشار عليَّ أنور باشا بسرعة السفر، وإفادته ما أراه

مناسبًا مِن التدابير، فسافرت إلى سورية، وبعد وصولي بمدة دخلت الدولة في

الحرب، وحصل تخوفٌ عظيمٌ، لا سيما عند إخواننا المسيحيين، فتكلم معي كثيرٌ

منهم في خطورة مركزهم، وما يخالج ضمائرهم، فسكَّنت خواطرهم، وأخذت

على نفسي أنه لا يصيبهم أدنى سوء ماداموا هم ملازمين السكون والطاعة للدولة.

ثم أخذت ألقي المواعظ على المسلمين، وعلى غيرهم مِن الفرق الإسلامية، ولا

سيما الدروز بوجوب مصافاة المسيحيين، وحسن معاملاتهم أكثر مما يجب في كل

وقتٍ، وأظن أن ألوفًا من أهل جبل لبنان مِن كل طائفة يشهدون بذلك، ثم أبرقت

إلى أنور باشا بما عليه بطريرك الموارنة من الإخلاص للدولة، وما لا يزال ينصح

به طائفته من وجوب التمسك بالتابعية العثمانية، ويأمر به كهنته مِن الدعاء بنصر

الجيش العثماني، وبرقيتي هذه لا بد أن تكون مسجلةً في سجلات بيت التلغراف

في بيروت، فلا أستشهد بشيءٍ إلا وشاهده حاضرٌ لأي مَن أراد التحقيق.

2-

مسألة جمع أسلحة النصارى:

استشارني زكي باشا القائد المشار إليه في جمع أسلحة النصارى بقوله: إن

عندهم في لبنان بنادق كثيرة، وربما تُنزل الأعداء عساكر في سواحل سورية،

فينضم النصارى إليهم، فحذَّرته من هذا العمل قائلاً: إنه لا لزوم له، ولا يكون له

نتيجة سوى قلق الخواطر، وسوء الظن بأن مقصد الدولة تجريدهم من السلاح

لأجل الغدر بهم، فلم يكتفِ بملاحظتي الشفوية التي قلتها له في دمشق، بل أمهلني

ريثما ذهبت إلى بيتي في جبل لبنان، وحرر إليَّ كتابًا رسميًّا طلب مني فيه إذا

كنت مُصِرًّا على عدم جمع سلاح النصارى أن أكفل عدم تحفزهم لقيام ما على

الدولة. فجاوبته بما يؤيد كلامي له قبلاً، وأكدت له أنني أكفل بنفسي المسيحيين أن

لا يأتوا بأدنى حركةٍ على الدولة، ولأجل أن يزداد طمأنينةً قلت له في جوابي على

سبيل الفرض: إن بدا منهم شيءٌ مِن هذا القبيل فإنني أمشي عليهم بالدروز قبل أن

يزحف العسكر العثماني، فسكت عن هذه المسألة مِن بعد هذا الجواب. وكتابه

محفوظ عندي، ولا شك أن جوابي محفوظٌ في أوراق الحربية العثمانية. ولم أخبر

بهذه المسألة سوى بكر سامي بك الذي كان والي بيروت وقتئذٍ، فصوَّب رأيي هذا،

وكذلك أسررت بها إلى صديق حميمٍ لي، وهو الطيب الذكر المطران باسيليوس

الحجار مطران الكاثوليك في صيدا، وأوصيته جدًّا بكتمان هذا السر؛ لأنه من

الأسرار التي يعاقَب على إفشائها بأشد العقوبة، فكتمه بالرغم منه لإقناعي إياه

بالخطر على حياتي إذا علمت الحكومة العسكرية بأنني أطلعت عليه أحدًا، وكان

يتلهف إلى ساعة وفاته على كونه لا يقدر أن يخبر النصارى بما كنت أسعى به

لأجل المحافظة عليهم، مع أن الكثيرين منهم يرمونني بخلاف ذلك تحاملاً وتعصبًا.

3-

حمل جمال باشا على احترام بطرك الموارنة:

ولما نقلت الدولة زكي باشا من قيادة جيوش سورية، وجعلت بدلاً عنه أحمد

جمال باشا، ورد عليَّ بواسطة بكر سامي بك والي بيروت تلغراف رقمي من أنور

باشا بأن جمال باشا عُيِّن قائدًا للحملة المصرية، وأنه هو - أي أنور - أوصاه بي،

فحضر جمال إلى الشام، وأول ما واجهته قال لي إنه سيستقدم بطريرك الموارنة

إلى دمشق، ويأمر بإقامته بها، فبقيت يومين أراجعه بكلامٍ يلين الجوامد، وأبين له

مقدار ما يكسر ذلك مِن خاطر الطائفة المارونية، على حين أن هذه الطائفة -

وسائر المسيحيين - لا يريدون شيئا سوى رضى الدولة عنهم، فنظرًا لكونه حديث

العهد بالمجيء، وموصى بي من الآستانة اقتنع بكلامي، وقال: ماذا يصنع إذًا أفلا

يأتي البطريرك للسلام عليَّ؟ ، قلت له: إن البطريرك لا يأبى أن يسلم عليك،

لكنه عدا علوّ سنه مريض، وسيرسل إليك أساقفة ينوبون عنه بالسلام عليك،

فقال: لا أقبل إلا إذا كانوا من الدرجة الأولى، فقلت له: يأتي أكبر الأساقفة،

ومتى نَقه البطريرك يقدم بنفسه. وهكذا حفظت شرف البطريرك مِن أن يعرض

للغض، وأخبرت عما جرى نجيب باشا الملحمة الذي كان يومئذ بالشام، وكان ذهب

معي إلى جمال باشا، ففرح نجيب كثيرًا بهذا الخبر، وقال لي: اكتب التلغراف الذي

تريده إلى البطريرك؛ لأجل أن أمضيه، فأبرق إلى البطريرك بإرسال المطارِين،

وبلغني أنه كتب عما فعلت مِن جهة منع استقدامه؛ لأنني بعد عودتي إلى الجبل

صرت أسمع الثناء والشكر مِن أكثر مَن ألقى من الموارنة، ومن جملتهم حبيب باشا

السعد الذي قال لي: لا ننسى محافظتك على بطركنا، والرجل حي يُرزق،

والبطريرك نفسه حيٌّ، فلست مستشهدًا بغائبٍ، ولا بميت والحمد لله.

ثم إن البطريرك، وحبيب باشا المشار إليه اقترحا عليَّ أن يكون ذهاب وجوه

النصارى من لبنان إلى الشام للسلام على جمال باشا وفدًا واحدًا مع وجوه الدروز،

هذا إذا وافق ذلك هواي، فاستحسنت ذلك، وانتخبوا هم الوفد المسيحي، وانتخبت

أنا الوفد المحمدي، وتلاقى الوفدان بدمشق، وكان المقصد مني - ومن البطريرك

ومن حبيب باشا - أن نعلن للحكومة العثمانية اتحادنا في لبنان، وأنه ليس بيننا

خلافٌ، فلا تمتد يدٌ بالتضريب فيما بيننا، وما أظن أحدًا يقدر أن ينكر كون مثل

هذه السياسة تدل على حسن النية وحب السلام.

4-

بدء جمال باشا بمؤاخذة بعض وجهاء لبنان:

ثم إن جمال باشا استقدم عدةً من وجوه الجبل الذين كان يبلغ الدولة منذ زمن

طويل - أنهم يحطبون في حبل الأجانب، هذا في حبل الفرنسيين، وذاك في حبل

الإنكليز

إلخ، وأمر بإقامتهم بدمشق، وكنت يومئذٍ في لبنان أجمع متطوعين

للذهاب إلى حرب الترعة، فلما ذهبت بالمتطوعين إلى دمشق تلاقيت مع حبيب

باشا السعد في محطة البرامكة، فقال لي: إن جمال باشا أمر بإقامتي بالشام مع

غيري، وإنما أذن لي بالذهاب إلى البيت لجلب ثيابي، فذهبت توًّا إلى جمال باشا،

وفتحت له هذه المسألة أمام خلوصي بك الذي كان واليًا بالشام، واعترضت بحدة،

فأجاب أنه لا يقبل مني تعرُّضًا لموضوع لم يسألني هو عنه، فقلت له: إنما

تكلمت لكوني أدرى بأمور بلادي، وبعد الآن لا أتكلم بشيءٍ، وخرجت مغاضِبًا.

وفي اليوم التالي ذهب جمال إلى زحلة لاستعراض الجند، فشاهد حبيب باشا، فأذن

له بالانصراف، وعاد إلى الشام، وطيَّب خاطري، وأنا سافرت إلى الترعة عن

طريق معان، وسافر جمال إلى القدس، وفي أثناء وجوده في القدس أبرق إليه

بعض الأساقفة المارونيين يلتمسون إطلاق سراح الذين كانوا مأمورين بالإقامة

بدمشق، فغضب مِن تدخل الأساقفة فيما لا يعنيهم، وأمر بنقل أولئك الجماعة إلى

القدس، ولما رجعنا من حملة الترعة أمر جمال بمجيئنا إلى القدس، فوجدت

الجماعة المذكورين هناك، فرجوته أن يطلقهم، مع أن بعضهم كانوا مِن ألد

خصومي، فلم يُجب سُؤْلي إلا في المرحومين خليل بك الخوري، وسليم بك

المعوشي، وكانا لم يصلا إلى القدس، فأمر برجوعهما، فطفق المفسدون يتقوَّلون

بكوْني أنا الذي أشار بنفي الآخرين.

5-

رد شبهة عن الكاتب واستبداد جمال باشا:

وطالما تشدقوا بهذا الاستدلال في مسائل أخرى قائلين إذا كان الأمير شكيب قد

أنقذ فلانًا من النفي، وفلانًا من القتل، وفلانًا وفلانًا، فهذا أوضح دليل على كون

ما وقع من أعمال جمال القاسية هو برأي الأمير شكيب. وكل مَن عنده ذرة من

المنطق يسلم بأنه إن كان أحدٌ من ذوي النفوذ تمكن بحظوته لدى حكومة أو حاكم أو

قائد أن يخلص فردًا أو أفرادًا مِن عقوبة - فلا يقتضي ذلك أنه كان يقدر أن يخلص

كل من يراد عقابه، وأن يستولي على الدولة، وأن يتصرف بالأحكام العرفية،

والمجالس العسكرية، وبإرادة القواد والولاة، وهم مئاتٌ وألوفٌ، ونحن نرى أن

أمورًا قد يأتيها أحد العمال خلافًا لرأي رئيسه أو رؤسائه، ولا يقدرون على منعه،

وأن جمال باشا بالتخصيص قد أتى أمورًا لم يكن يوافقه عليها طلعت الذي كان

روح السلطنة، ولا أنور الذي كان ناظر الحربية، وأنه لما شنق الذين شنقهم ثاني

مرة الزهراوي وشفيق المؤيد ورفقاءهما كان البرنس سعيد حليم الصدر الأعظم

نفسه خاليًا من علم هذه الحادثة، فأبرق إليه محتجًّا بشدَّةٍ، ويقال: إن قتل أولئك

الجماعة بدون قرار مجلس النظار كان سبب استعفاء خيري أفندي الأركوبي شيخ

الإسلام ، وكان السلطان محمد رشاد نفسه يبرئ نفسه من العلم بمقتل أولئك الجماعة.

وأغرب من ذلك أن شلبي أفندي شيخ المولوية (وهي أكبر طريقة في تركية،

وكان المرحوم السلطان محمد رشاد ينتمي إليها) - لما ذهب بألوفٍ من مريديه

مجاهدًا في سورية رأى من غطرسة جمال ما لم يعجبه، فاستأذن في المجيء إلى

الآستانة، فأذن له جمال على شرط الرجوع وكان من المقربين جدًّا إلى السلطان،

فشكا إليه الأمر، وظن أن السلطان يُصدر إرادته السنية ببقائه في الآستانة، فكان

من السلطان أن همس في أذنه همسًا قائلاً له: لا ترجعْ إلى سورية، لكن لا تقل

إنني أنا قلت لك ذلك، أفلم يروا كيف أن جمالاً شنق في إستامبول صالح باشا خير

الدين صِهر الأسرة السلطانية في دعوى قتل محمود شوكت، وجاءت امرأة صالح

باشا - وهي ابنة أخي السلطان - تشكو إليه، وتؤكد له براءة زوجها، فتكلم

السلطان مع جمال في استبقاء صالح باشا في الحياة على الأقل، فلم يقبلوا منه،

وكان التشديد من جمال، كما كان يروي ذلك هو عن نفسه. أفبعد هذا يقال: لماذا

لم يمنعه شكيب أرسلان عن قتل زيدٍ ونفي عمرٍو؟ !

ثم إنه لما أراد إعادة الذين كانوا في القدس إلى أوطانهم أبرق إلى رضا باشا

قائد لبنان أن يسألني رأيي في إطلاقهم، فأجبته أنه لا يوجد من ذلك أدنى محذورٍ،

وأنا كفيلٌ لهم (مع أن منهم خمسة أشخاص كان مقطوعًا بيني وبينهم حتى السلام

والكلام) ، وأبرقنا بذلك إلى القدس، فأطلق نصفهم، ثم قبل إطلاق النصف الآخر

ألقوا عليَّ السؤال نفسه، فأجبت كأول مرة، وأظن أن هذه التلغرافات مقيدة مسجلة،

فلا تصعب مراجعتها.

6-

الشفاعة في الثلة الأولى من ضحايا جمال:

عندما قبض جمال باشا على رضى بك الصلح، وعبد الكريم الخليل، وعدة

من المتهمين الذين شنق منهم 11 رجلاً، وهي القافلة الأولى، لم أترك وسيلة من

الوسائل إلا استعملتها؛ لأجل إقناعه بالعفو عنهم، وإفهامه ما يترتب على فتح هذه

المسألة من الضرر للدولة والملة، وفي إحدى المرار بينما كنت ألح عليه في

الرجاء - وكنا في صوفر -قال لي: كنت أحب أن أطلعك على المكاتيب التي من

بعضهم إلى بعضٍ بالحث على قتلك (يشير إلى مكاتيب واردة إلى سورية من حقي

بك العظم يحث فيها على ذلك) ، فقلت له: هذه كتابات لا ذنب لهم فيها، ومع هذا

فلسنا الآن في ضغائن شخصيةٍ، وإنما أنظر إلى المسألة من وجهة سياسة الدولة،

فلا أجد فتح هذا الباب في محله، ولكثرة مراجعتي إياه كتم عني نيته إلى أن أنفذ

فيهم ما أراد، ومن بعد ذلك ابتدأ الخلاف بيني وبينه تدريجيًّا بحسب تزايد شدته،

ومن جملة مَن راجعتهم في أمر نصحه بترك هذه الشدة - من ولاة الدولة - عزمي

بك والي بيروت وخلوصي بك والي الشام وعزمي بك الآخر والي الشام بعد

خلوصي، وتحسين بك والي الشام بعد عزمي، وعلي منيف بك متصرف لبنان،

وعلي فؤاد بك رئيس أركان حرب الفيلق الرابع، وكلهم أحياء لم يمُت منهم سوى

خلوصي بك.

ولما أرسلت الدولة سنة 1916 وفدًا تركيًّا إلى سورية مؤلفًا من بضعة عشر

شخصًا من نواب الأمة، وأركان الدولة منهم صلاح جيمجوز بك مبعوث الآستانة،

وعصمت بك مبعوثها أيضًا، ووالي الآستانة سابقًا - التمست منهم أن يتوسطوا

في أمر الرخصة لي بالذهاب إلى الآستانة؛ لأنه كان يمنعني إلى ذلك اليوم من

الذهاب إليها بحجة احتياج المصلحة إليَّ في سورية، والحقيقة - وقد صرح بها

أخيرًا - أنه كان يعلم أنني لو وصلت إلى الآستانة لأظهرت هناك كل ما جرى،

وحملت على سياسته حملةً شديدةً، ولا يقدر أن يتهمني هو بسوء النية؛ لأن الدولة

تعلم صداقتي لها؛ ولذلك أخذ هو يتكلم مع صلاح جيمجوز، وعصمت في أسباب

الجفاء الذي حصل، وأنه من أجل التدابير الشديدة التي يراها ضرورية لسلامة

المملكة، مع أني أنا غالبةٌ عليَّ صفات الشاعرية ورقة القلب، ويهمني أن أُرضي

أبناء وطني، وأجيب رجاءهم، ولو بخلاف المصلحة، حتى تشفَّع إليَّ لأناس

كانوا يعملون لقتله! ، وكاشفته بذلك، فقال: لا تعلم مقدار اللذة التي يجدها الإنسان

في استحياءِ مَن كان يريد قتله!

7-

الشفاعة في الثلة الثانية من ضحايا جمال باشا:

لما قبض جمال على الفرقة الثانية (العسلي والشمعة وشفيق المؤيد

والزهراوي ورفاقهم) ، واجتمع في عاليه نحو من 70 معتقلاً - أخذنا نستعطف

خاطره؛ لأجل إطلاقهم، ونبين له الفوائد السياسية في العفو عنهم، وما تصاب به

الدولة من الأضرار بالنكال بهم، وحملنا علي فؤاد بك رئيس أركان الحرب على

الكلام معه في هذا الموضوع لما كان له من نفاذ الكلمة لديه، وأكدنا الرجاء الشفوي

بالرجاء كتابةً أولاً، وثانيًا، فلم تكن تعجبه هذه المساعي مني، ولم تسؤْه إلا عند

ما كلمت عزمي بك والي الشام في ذلك، وكان تعيينه لتلك الولاية بدون علمه،

فاحتج على تعيينه وطلب صرفه، فاستمهلوه ثلاثة أشهر، بعدها عاد عزمي

المذكور إلى الآستانة، وقبل سفره من دمشق ذهبت إليه في دار الولاية، وطلبت

منه مقابلة سرية، وقلت له في مبدأ خطابي إنني مودع هذه الكلمات شرفك، وأرجو

أن لا تعيدها إلا إلى طلعت بك ناظر الداخلية، وهي أن تمادي جمال باشا في

إرهاف الحد سيكون منه خطر على سورية، وينشأ عنه شقاق طويل بين العرب

والترك لا نهاية له. ولما كان جمال باشا لا يسمع ما نسمعه نحن أبناء البلاد، ولا

يجْرُؤ أحدٌ أن يقول له الحقيقة - فهو يظن أن الناس راضون بأعماله، وليس هناك

من راضٍ، ولا من مستحسن، حتى أنفس الذين يمتدحون لديه أعماله، ويملؤون

مجالسه نظمًا ونثرًا - تراهم يتهامسون فيما بينهم بوخامة العاقبة، وأنا صدقت إلى

اليوم مع هذه الدولة، وأعتدّ عدم تحذيري، وإنذاري إياكم بما ينفث في روعي من

هذه الجهة خيانة، وأخشى أن تقولوا في يومٍ من الأيام لماذا لم تنبه أفكارنا وتجهر

بالحقيقة؟ ! ، فها أنا ذا آتٍ لأقول لك الحقيقة بكل صراحة؛ لتبلغ طلعت بك ما

قلته لك بتمامه. فتأمل قليلاً، وقال: لماذا لم تراجع أنت جمال باشا؟ ، فقلت: قد

تكلمت معه مرارًا، وكتبت إليه تقارير، واستعنت بعلي فؤاد بك، ولم أَرَ منه دليلاً

على الرضى، وأخاف أن يصيب هذه القافلة الثانية ما أصاب الأولى، فتكون

المصيبة أطم والعاقبة أوخم، فقال لي: أنا لا أقدر أن أشافه بذلك طلعت بك كما

تريد؛ لأنه كالطعن في سياسة جمال باشا، مع أنني أنا أحترم هذا الرجل، وإن

شئت أقول أنا لجمال باشا نفسه. فلم يسعني إلا أن أقول له حسنًا تفعل إذا نصحته

بشرط أن تجعل الكلام منك لا مني، وبعد يومين من هذه الجلسة جاءني أحد

الشرطة يدعوني إلى (القرار كاه العمومي) أي محلة القائد العام، وذلك بخلاف

العادة إلى ذاك الوقت؛ إذ كان قبلها يدعوني دائمًا بواسطة ياور من قِبَله، فلما

ذهبت وجدت لونه متغيرًا، وصكّ الباب، وقال لي: إنه لم يحترم الآن أحدًا في

سورية نظيري لا لسبب سوى حسن أخلاقي

إلخ، ولكن بدأت منذ مدة أتدخل

بما لا يعنيني، وأنتقد أعماله، مع أنه هو القائد، وهو المسؤول وهو وهو

إلخ،

فقلت له: إنني غير موافق على خطة إرهاف الحد، وأخشى إذا سكتُّ أن أكون

مسؤولاً تجاه دولتي وملتي، بل تجاه ضميري، فقال لي: قلت وكتبت وبينت

فكرك وأرحت وجدانك، وهذا كافٍ، ولكنك لا تزال مواصلاً مساعيَك، غير راجعٍ

عن إصرارك، حتى ذهبت تستنجد عزمي بك، وتقول له هكذا بالحرف: قل

لطلعت بك يكتب إلى هذا الرجل ليخفف من هذه الشدة! . فلم أنكر شيئًا من هذا

الحديث، وقلت له: نعم لما قطعت أملي منك رأسًا - ظننت أنني أقدر على

استعطاف خاطرك بواسطة طلعت، وأنت تعلم أنني شخصيًّا ممنون لك، وأنك لا

تعامل أحدًا في سورية بمثل ما تعاملني به من الرعاية؛ إذ لا يحملني على هذا

السعي سبب شخصي، بل مجرد إخلاصي لدولتي، ووطني، ولشخصك أنت؛

لأنني أخشى أن يحمِّلوك في يومٍ من الأيام جميع عبء هذه المسؤولية. فقال: كن

مستريحًا من جهتي، ولا تظن أنني مقيَّدٌ بخاطر طلعت ولا غيره، ثم سكت قليلاً،

وقال: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورةِ رفقاء لي؟ ! ، ثم أنهى كلامه قائلاً:

إنني أنذرك بأن لا تتدخل من بعدُ في هذه المسائل التي هي منوطة بي

وحدي إلخ.

8-

خيبة التوسل بأنور باشا وظهور خوفه من جمال باشا:

ولما جاء أنور باشا سورية، وكان السهم لما ينفذْ في القافلة الثانية -

افترصت زيارته لخلاصهم، فحرص جمال جد الحرص على منع المخالطة له

طول هذه السياحة من الآستانة إلى المدينة المنورة، حتى إنني لما طلبت منه

الاجتماع في جلسة سرية في (أوتل بترو) في دمشق لم أكد أبدأ معه بالحديث حتى

عرف جمال باشا بواسطة أحد عيونه - الذين كانوا محيطين بأنور ليلاً ونهاراً -

فجاء، ودخل علينا بغتةً بدون استئذان، وقال لأنور: نحن مدعوون عند فخري

باشا أفلم يحن الوقت للذهاب؟ فنظر إليَّ أنور، وقال: ألا يمكن إرجاء الحديث

إلى الغد؟ وكان صباح ذلك الغد موعد سفره، فقلت له: لي كُليمات لا يأخذن إلا

بضع دقائق؛ فاصفرَّ لون جمال حتى صار كالكهرباء، وخرج، وأنا أكملت حديثي

مع أنور بمعنى العفو عن المعتقلين الذين في عاليه، وجعل ذلك العفو إحدى نتائج

سياحته، بحيث تكون له هذه المنَّة على أبناء العرب. على أنه كان يرى أنه لا بد

من الحكم، فليكن بالنفي لا بالعدم؛ لأن النفي يلحقه العفو، وأما العدم فهو غير

قابل التلافِي، فلم يزد أنور في جوابه على قوله: سأوصي، وأبذل جهدي، ولكن

كان كلامه ضعيفًا، وكانت عليه علامة الحيرة. فعلمت أنه عاجز عن مقاومة جمال،

أو أن هذا نال من أكثرية الرفاق قرارًا أصبح مبرمًا لا يقدر أنور على نقضه. ثم

أسرع أنور بالخروج ليرى جمالاً أن الجلسة بيننا لم تطُل، وكان جمال واقفًا أمام

الباب ينتظر عمدًا لكيلا تطول الجلسة، فقال له أنور: يحكي لي شكيب بك في أمر

الذخيرة (وهي القمح في عرف الترك) ، فلم يجاوبه جمال؛ لعلمه أنني ما تكلمت

إلا في مسألة معتقلي عاليه. ورأيت أنا بعيني ساعتئذٍ من ضعف أنور بإزاء جمال

ما لا أنساه، وما أكد لي ما كان يقال من أنه كان يبرق إليه كثيرًا من الأحيان قائلاً:

أنا حر في مِنطقتي، مسؤولٌ عنها، وليس لك أن تعترضني بشيءٍ. على أنني

لم أكتفِ بهذه الكليمات مع أنور، بل ذهبت إلى رئيس رفقائه القائمقام كاظم بك،

وأطلت معه القول في العفو عن المعتقلين؛ ليبلغه إياه ثاني يوم حرفيًّا في أثناء

الطريق. وقد عرف كثير من أعيان سورية يومئذٍ بما وقع، وقالوا لي قد عملت

الذي عليك.

ثم عندما صمم جمال على شنق الجماعة استدعى إليه شكري بك رئيس

الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما علمت من شكري بك نفسه-

أسماء 40 شخصًا يجب أن يُحكم عليهم بالموت، فراوده شكري بك كثيرًا،

ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل (بحسب قوله)، ولما قال له: إن وجداني لا يرتاح

إلى الحكم بالموت على ثلاثة، وبالكثير على خمسة - استحضر جمال باشا أعضاء

الديوان، وكلمهم وهم ضباط شبان لا يخرجون عن أمره، فلم يبق مع شكري بك

إلا القائمقام ملحم بك حماده اللبناني البعقليني، وهو الذي كاشفني بذلك، إذ قلت له

مشجعًا: لا تعبأ بتهديده؛ لا يقدر على قتلك، ولا يريده، وإنما يريد إقناعك بالحكم،

فقال: إن الأمر خرج من يدي، وأكثرية المجلس صارت في يده، وليس معي

إلا ابن وطنكم ملحم بك. ولما فشلت هذه الرسائل بقي أمام ضميري وسيلة مراجعة

ألمانيا، فذهبت إلى (لوتفيد) قنصل ألمانيا، واستحلفته يمينًا بالشرف أن لا

يخونني؛ لأن مثل هذا الأمر فيه خطر على الحياة، فأقسم فأخبرته بما وقع مع

شكري بك من أوله إلى آخره، وأنه قد ظهر تصميم جمال على القتل، وأن هذه

المسألة - وإن كانت عثمانية داخلية لا حق لكم في التدخل بها - فإنها من جهة

أخرى تضر ألمانيا ضررًا بليغًا؛ إذ مما ينبغي أن تفهموه أن قتل هؤلاء الجماعة

سيُحدث بين العرب والترك فتنة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدول الائتلافية قوة

أمة جديدة هي الأمة العربية، فأبرق القنصل بالأرقام إلى السفارة بكل ما قلت له،

بعد ذلك بنحو جمعة وقع الشنق، وكان في ليلة السبت، وفي نهار الأحد، وزارني

القنصل في منزلي، وقال لي: قد تحقق لي الآن أنك كنت على بينة مما تقول،

ولم يرد جواب تلغرافي إلى اليوم. ثم لقيته بعد أيام، فقال لي: إن سفارتنا لم تقدر

أن تصنع شيئًا، ولكن الأتراك سيندمون على هذا العمل. وأخذ لوتفيد يُظهر أسفه

مما حصل أمام الكثيرين من أهل الشام؛ ليبرئوا ألمانيا من هذه الحادثة، ولعل

الحكومة الألمانية بعد رجوع العلاقات الدولية إلى ما كانت عليه - تنشر مثل هذه

المراسلات، فيظهر ما لعل المسيو كولمان - السفير الألماني الذي كان سنة 1917

في الآستانة - قد أخبر به حكومته، عما كنت قررته له من حقيقة هذه المسألة؛ فقد

قال لي: إن المسموع أن هؤلاء الناس الذين شُنقوا في سورية كانوا ممالئين لفرنسة

على احتلال سورية، فقلت له: لا صحة لذلك، ربما يوجد في سورية مَن يتمنى

باطنًا احتلال فرنسة، ولكن لا الزهراوي، ولا شفيق المؤيد، ولا العسلي، ولا

الشمعة إلخ - يريد احتلال فرنسة لسورية، بل هم وطنيون مثلنا، ويكرهون

احتلال الأجانب لبلادنا كما نكرهه نحن وزيادة، مع إن هؤلاء قاموا بحركة استقلال

إداري داخلي، وبطلب حقوق للعرب معلومة مع البقاء ضمن دائرة الدولة العثمانية،

وليس في ذلك خيانة تستحق العقوبة بالقتل، فضلاً عن الخطأ السياسي العظيم

الذي ارتُكب في هذه الواقعة، والذي أوجد هذا النفور بين العرب والترك، فسكت

السفير لكلامي هذا الذي عززته بقولي: إنني لم أكن على مشرب واحد في السياسة

أنا وأكثر مَن قُتلوا، ولكن حاشا أن أقول إنهم خونة، أو إنهم يبتغون احتلال

الأجانب لبلادهم. والمسيو فون كولمان لا يزال حيًّا، وهو شهير في ألمانيا، يمكن

أن يسأله مَن شاء عن ذلك، وعن سعي آخر لي لديه ولدى خلفه في السفارة (وهو) :

9-

السعي لجعل الترك والعرب كالنمسا والمجر:

لما نشبت الثورة الروسية، وخلعوا القيصر، وشاع أنه ربما ينعقد الصلح

على قاعدة تمتُّع الأمم بحريتها، ويعم ذلك الجميع - ذهبت إلى المسيو كولمان هذا،

وأفضت إليه بما يتمناه العرب من الحصول على الحرية التي سيحصل عليها

غيرهم، فأجابني: كل ما تقوله مفيد، وجدير بالاهتمام، إلا أننا لا نقدر أن نتدخل

في مسائل تركية الداخلية، وبعكس ذلك (الكونت برنستورف) الذي جاء خلفًا

لكولمان، عندما صار هذا ناظرًا للخارجية في برلين فقد حادثته مرارًا بمسألة

العرب، ووجوب تغيير نظام السلطنة بعد الحرب العامة؛ بحيث تكون البلاد

العربية مع البلاد التركية كما هي البافيار وبروسيا، أو المجر وأُستريا. وكان

يصرح لي بكونه هو على هذا الرأي، وأنه فاوض طلعت فيه، ووجده قابلاً لهذه

الفكرة، وكان يعدني بالصراحة بأن ألمانيا ستساعد العرب بعد انتهاء الحرب على

تحقيق أمنيتهم هذه، ومرة اجتمعت مع الكونت برنستورف في برلين قبل انتهاء

الحرب ببضعة أشهر، وكنا نازلين أنا وإياه في (أوتل آدلون) الشهير، وكذلك

طلعت باشا، وكنا نجتمع كثيرًا لتسوية خلاف كان وقع بين الدولة، وبين ألمانيا

يتعلق بالقافقاس ومدينة باكو. وبينما كنا نتحادث مرة أسرَّ إليَّ الكونت برنستورف

خبرًا، قال لي إنه خبر يسرك، وهو أنه وقعت مفاوضة بين الأمير فيصل، وبين

الدولة على الصلح بواسطة القواد الذين بسورية، فطلب الأمير فيصل أن يكون

مركز العرب في الدولة كمركز البافيار في ألمانيا، قال لي الكونت: وقد استشارني

طلعت في هذه المسألة فقلت له: أسرعوا إلى قبول هذا الوجه. وبهذا أراني قد

قمت بما طالما وعدتك به، والكونت برنستورف في ألمانيا أشهر من نارٍ على عَلَمٍ،

وهو الآن نائب في الرايستاغ، فما على المريد إلا أن يسأله كيف كان كلامنا معه

في المسألة العربية؟ !

ثم إنني كتبت في هذا تقريرًا طويلاً تقدم إلى نظارة الخارجية الألمانية

بواسطة أحد أصدقائنا الألمان المشتغلين بالأمور الشرقية في أثناء زيارتي لألمانيا

سنة 1917، وملخصه تشكيل إمارات خمس عربية مستقلة استقلالاً داخليًّا تامًّا

مرتبطة مع الدول العثمانية في الجيش، وفي الأمور الخارجية، وفي كل منها

مجلس أمة، ومجلس شيوخ. وفي الآستانة مجلس عام للسلطنة. والرجل الذي قدم

هذا التقرير هو أيضًا في قيد الحياة، وهو من أصدقاء الأستاذ صاحب المنار.

...

...

...

...

شكيب أر سلان

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 121

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

القياس في اللغة العربية

محمد الخضر

(3)

القياس في العوامل

مِن البيِّن أن الرافع والناصب للكلمة في الواقع إنما هو اللافظ بها، وما تسميه

بالعامل - كالفعل والحرف - إنما هي أداة يلاحظها المتكلم، ويأخذها بمنزلة

الوسيلة لتلك الآثار الخاصة مِن رفع ونصبٍ وخفضٍ وجزمٍ.

وحيث لم يكن تأثير هذه العوامل النحوية مِن قبيل تأثير الأسباب العقلية أو

الحسية، وإنما هو بقصد المتكلم إلى جعلها واسطةً جاز تأخيرها عن المعمول،

واستقام لكلٍّ مِن اللفظين أن يكون عاملاً في صاحبه كاسم الشرط، والفعل المجزوم

به نحو: (أيًّا مَّا تدعو) ولا يتوجه الاعتراض عليها بأن الأثر لا يوجد قبل علته

الفاعلة، وساغ لهذا المعنى الذي انكشف في بيان العامل أن يتوارد عاملان على

معمولٍ واحدٍ، ولكنهم ضعَّفوا قول المُبَرِّد: (إن الابتداء عاملٌ في المبتدإ، وهما

عاملان في الخبر) مِن جهة السماع، فقالوا: إن توجه عاملين إلى معمولٍ واحدٍ لا

يعهد له نظيرٌ في العربية، ولمثل هذا لم يأخذوا بما ذهب إليه القراء مِن أن زيدًا

في قولك: قام وقعد زيدٌ - مرفوع بالفعلين، واختاروا أن يكون فاعلاً بالثاني،

وجعلوا الفاعل في الأول ضميرًا مقررًا.

وأكثر اختلافهم في تحقيق العامل لا يظهر له أثرٌ في نظم الجملة، وقد ينبني

عليه الحكم بصحة بعض التراكيب كاختلاف الكوفيين والبصريين في الرافع لاسم

كان الناسخة، فمقتضى قول الكوفيين: (إن الاسم لم يزل مرفوعًا بالابتداء، وإن

كان إنما عملت في الخبر) أن لا يجوز نحو: كان زيدٌ كاتبًا وعمرُ شاعرًا، لما في

هذا المثال من العطف على معمولين عاملين مختلفين، وهما الابتداء وكان، ولكنه

بمقتضى مذهب البصريين يكون المثال عربيّ فصيحًا؛ المعطوف عليهما - وهما

(زيدٌ كاتبًا) - كلاهما معمول للفعل الناسخ وهو كان. وعطف اسمين على معمولَيْ

عاملٍ واحدٍ - وإن اختلف إعرابهما - لا مرية في صحته.

ولما كان تقرير العامل مما ينشأ عنه آثارٌ في هيئة التراكيب - ساغ لنا أن

نأتي في هذه المقالات على أهم الأصول التي يراعونها في تحقيق العوامل، فنقول:

ينقسم العامل إلى: قويّ، ووسط، وضعيف، فالقوي: ما يتصدى للعمل

مِن جهة صيغته، ويكون له تعلق بالمعمول مِن حيث المعنى، مثل: الأفعال،

والمصادر، وما يشتق منها، ولقوتها في العمل صح لهم أن يسندوا إليها عملين

مختلفين مثل: كان وأخواتها، أو ثلاثة آثار كالأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل.

والوسط: مثل الحروف، وما يعمل مِن جهة موقعه من الأسماء كالمضاف

يعمل في المضاف إليه، والمبتدأ يعمل في الخبر، والمميز المفرد يعمل في التمييز

والضعيف: مثل الابتداء، والتجرد، والإضافة في رأي بعض النحاة، ثم ما

يسميه الكوفيون بالصَّرف، ومِن هذا القبيل ما شابه الفعل في طلب العمل بمعناه

كاسم الإشارة، وحرف التنبيه في رأي مَن يجعلهما عاملين في الحال، وحرف

النداء، و (ما) النافية عند مَن يعلق بهما الظرف، أو الجار والمجرور.

ونبني على هذا التقسيم أنه متى أمكن أن يكون العامل مِن الصنف الأول فلا

نعدل عنه إلى القول بعمل الصنف الثاني، وإذا ساغ أن يكون من الصنف الثاني

فهو أحق مِن الصنف الثالث وأولى، وبمراعاة هذا الترتيب يترجح قول البصريين:

إن العامل في المفعول معه هو الفعل، لا واو المعية، وأضعف من القول إن

العامل هو الواو نفسها مذهب الكوفيين؛ حيث أسندوا العمل إلى ما هو مِن الصنف

الثالث، فقالوا هو منصوب على الخلاف، ومن هذا النمط قول سيبويه: (العامل

في التابع هو العامل في المتبوع) ، فإنه أقوى مِن قول الأخفش: (إن العامل في

التابع معنويٌّ، وهو كونه تابعًا) .

واختار سيبويه في باب النداء أن يكون العامل مِن الصنف الأول، ولو مقدَّرًا

ورجحه على الصنف الثاني، وإن كان ملفوظًا به؛ حيث قال: إن العامل في

المنادَى فعلٌ مُضمرٌ تقديره: (ادعوا) . والتحقيق فيما نرى أن الموازنة بين

الصنف الأول مقدرًا، والصنف الثاني مذكورًا ترجع إلى قوة النظر في المعنى،

وسرعة انتقال الخاطر إلى المقدر، فإذا كان المدَّعَى تقريره لا ينتقل إليه الذهن

بسرعةٍ أو لا يلتئم بنظم الكلام لو صرح به، فالراجح نسبة العمل إلى الملفوظ به،

ولو كان مِن الصنف الثاني، وهذا ما دعا المُبرِّد إلى أن قال: (العامل في المنادى

حرف النداء نفسه) .

والملفوظ مِن أي صنفٍ يقدَّم على المضمر الذي هو في رتبته بلا مِرْيةٍ،

وهذا الوجه مما يتقوى به قول سيبويه العامل في عطف النسق هو العامل في

المتبوع خلافًا لقول ابن جني في (سر الصناعة) : العامل مضمر ويقدر مِن جنس

العامل في المعطوف عليه، ويترجح به قول الجمهور إن المفعول لأجله منصوبٌ

بالفعل المذكور قبله خلافًا للزَّجَّاج؛ حيث أرجعه إلى المفعول المطلق، وقدر له

فعلاً مِن نوعه.

ومما يجري على هذا النسق أن الجمهور يرون عامل الجزم في الفعل الواقع

في جواب الطلب شرطًا مقدرًا، وذهب فريقٌ إلى أن العامل هو الطلب نفسه،

وأنت إذا أقمت موازنة بين المذهبين فربما دفعتك قوة المعنى إلى ترجيح قول

الجمهور؛ فإن إكرامك للمخاطَب في مثل قولك: (زرني أُكرمْك) معلق على

حصول الزيارة، وهذا المعنى لا يستقل بإفادته الأمر أو الاستفهام وحده، فلا بد من

ملاحظة شرط يستقيم به نظم الكلام، ويطابق به المعنى الذي قصدت التعبير عنه،

وللفريق الذي عزا عمل الجزم إلى الصيغة الملفوظ بها، وشذَّ مذهبه بقول سيبويه

في هذا المبحث مِن الكتاب: (انجزم بالأمر) ، (انجزم بالاستفهام) ، (انجزم

بالتمني) - أن يجيب أن ترتب الإكرام على الزيارة في ذلك المثال ودلالة الجملة

على توقفه عليها - يؤخذ بقرينة الجزم، فيكون الجزم بمنزلةِ الفاء في مثل قولك:

(كن شريف الهمة فيكبر عملك) ، فكبر العمل موقوف على شرف الهمة، وليس

ههنا شرطٌ مقدرٌ، وإنما هي الفاء تُنْبِيء عن هذا الارتباط الذي سميت مِن أجله فاء

السببية.

والأصل في الحروف المشتركة بين الأسماء والأفعال أن تكون معزولةً عن

العمل، وخرج عن هذا الأصل: ما، ولا، وأن النافيات؛ فإنها مِن قبيل ما

يَشْترك فيه النوعان، وقد أعطاها بعض العرب عمل (ليس) الناسخة، فإذا وقع

نزاع في نسبة العمل إلى حرفٍ مشتركٍ فالأصل في جانب مَن ينفي عنه العمل،

ويظهر بهذا ضعف القول بأن العامل في عطف النسق هو حرف العطف؛ فإن

العاطف لا يختص بأحد القبيلين، وعلى هذا الأصل ينبني خلافهم في (أن

وأخواتها) إذا اتصلت بها (ما) الزائدة، فقد سمع العمل في (ليتما) فقط، فاتفقوا

على جوازه في هذا الحرف، واختلفوا في بقية الحروف، فمنعه سيبويه، وأجازه

الزجاج، وابن سراج، والكسائي، ومذهب سيبويه قائمٌ على أن (ليتما) لم تزل

على اختصاصها بالأسماء، فساغ إعمالها، ولا يسوغ قياس الأحرف الباقية عليها؛

لأن (ما) أزالت اختصاصها بالأسماء، وهيأتها للدخول على الأفعال.

ومن أصولهم أن الحرف لا يعمل عملين مختلفين، وإنما يعمل عملاً واحدًا

كالحروف الخافضة للأسماء، والناصبة للأفعال، أو عملين متماثلين كأكثر الجوازم،

والحروف العاملة في المتبوع وتابعه، وخرج عن هذا الأصل عند البصريين

(إن وأخواتها) ، وحافظ عليه الكوفيون، فطرَّدوه في كل موضع، وقالوا إن

الناسخ عمل في الاسم وحده، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بما ارتفع به قبل أن يرد عليه

الناسخ، وهو المبتدأ، ومثل هذا قول سيبويه إن (لا) النافية للجنس إنما عملت

في الاسم، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بكونه خبرًا للمبتدأ.

والأصل فيما يُسند إليه العمل أن لا يتخلف عنه أثره أينما وُجد، فإذا احتمل

وجه الإعراب أن يُنسب إلى ما يدور معه العمل حيثما تحقق، أو يضاف إلى ما لا

يطّرد في جميع مواقعه - ترجح جانب المحمل الأول، ومِن أمثلة هذا أن الكوفيين

ومن تبعهم مِن البغداديين - يقولون إن الفعل الواقع بعد واو المعية المسبوقة بطلبٍ

أو نفيٍّ منصوبٍ بالخلاف المسمى عندهم بالصَّرف، وبيانه أن معنى (وتأتي) في

مثل قول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

لما كان مخالفًا لمعنى ما قبله في الإيجاب والسلب خُولف بينهما في الإعراب،

وهذا المذهب مردودٌ بأن الخلاف قد ثبت في مواضع لم يظهر له فيها عمل

كالأفعال الواردة بعد (لا) و (لكن) العاطفتين.

وإذا دلت الصيغة على معنى وتقرر لها عملٌ خاصٌّ، ثم جاءت صيغة أخرى

توافقها في الدلالة على ذلك المعنى - فليس لنا أن نلحقها بالأولى في إعطائها ذلك

العمل؛ إذ لا يلزم من الاتحاد في المعنى التماثل في العمل، فإنك ترى كثيرًا مِن

الكلم تتحد معنى، وهي تختلف في التعدي واللزوم نحو: صلى عليه ورحمه،

ومما يوضح هذا الغرض أن صيغة مفعول تعمل في الاسم الظاهر نحو: مقتولٌ

غلامه، ومذبوحٌ جزوره، ويوافق هذه الصيغة في الدلالة على معناها صيغة

(فعيل) نحو: قتيل، وجريح، وقد أبى الجمهور أن يلحقوه بشبيهه، ويرفعوا به

الظاهر وقالوا: لا يصح أن يقال: مررت برجلٍ كحيل عينه أو قتيل أبوه، وأجاز

ذلك ابن عصفور، قال أبو حيان: وهو محتاجٌ إلى نقلٍ صحيحٍ عن العرب.

ونحن نقول: إن كان مستند ابن عصفور في هذه المسألة قياس (فعيل) على

(مفعول) فقد عرفت فساده؛ إذ لا يلزم مِن الاتحاد في المعنى التوافق في العمل،

فيكون الأصل بيد المانع حتى يأتي المجيز بشاهده، وقد يقرر القياس في مذهب ابن

عصفور على وجهٍ آخر، وهو أن يقال قد اتفقوا على أن صيغة (فعيل) ترفع

الضمير، فألحق ابن عصفور به الأسماء الظاهرة، وقياس الاسم الظاهر على

الضمير في مثل هذا الحكم أيسر من قياس فعيل على مفعول.

وينتظم في هذا السلك صيغة (فَعِل) نحو: حَذِر، فسيبويه يذهب إلى أنه

يعمل عمل الصيغة المحول عنها، وهي اسم الفاعل، وخالفه الجمهور في ذلك،

وهم الواثقون بالأصل الذي كنا بصدد إيضاحه، وسيبويه هو المطالَب بإقامة شاهدٍ

على مذهبه، وحيث تلا عليهم قول الشاعرِ:

حذِرًا أمورًا ما تُخاف وآمن

ما ليس ينجيه من الأقدار

ردوه بأن البيت مصنوعٌ، وحكوا على اللاحقي أنه قال: إن سيبويه سألني

عن شاهدٍ في تعدِّي (فَعِل) ، فعملت له هذا البيت.

***

القياس في شرط العمل

قد يكون العمل مقارنًا لوصفٍ، ولفظٍ خاصٍّ؛ فيسمون ذلك الوصف أو

مقارنة اللفظ شرطًا له، وهذا له حالان:

(أحدهما) ما إذا فقد ذلك الشرط بظل العمل، وبقي العامل مهملاً، كما

شرطوا في نصب (إذن) للمضارع أن تكون في صدر الجملة، فإذا فقدت الصدارة

بطل النصب مع بقاء (إذن) في نظم الكلام مهملة، ومثل هذا النوع مِن الشروط

لا تنبغي المخالفة فيه إلا مِمَّن لم تبلغه الشواهد التي خليت من الشرط؛ فانعزل

العامل عن العمل.

(ثانيهما) ما إذا فقد الشرط لم يصح أن يُؤتَى بالعامل في نظم الكلام ألبتة،

وهذا كما شرطوا لعمل (إن وأخواتها) الترتيب بين اسمها وخبرها؛ فإن المتكلم

إذا لم يُوفِ لها هذا الشرط لا يسوغ أن يدخلها في التركيب، ولو مع إهمالها، وهذا

النوع من الشروط هو الذي يختلفون فيه كثيرًا؛ فإن للمخالف في الشرطية أن

يدَّعي أن مقارنة ذلك الوصف إنما كانت على سبيل الاتفاق لا على وجه اللزوم،

وبناء العمل عليه؛ إذ لا يوجب ههنا صورة تبين كيف عزل العامل عن العمل مِن

أجل تخلف ذلك الوصف مِثلَما عرفت في القسم الأول.

ولمدَّعي الشرطية أن يقول: إني لم أَرَ هذه الأداةَ عاملةً إلا مع هذا الوصف

الخاص، فأعده شرطًا للعمل، ومَن ينفي الشرطية فعليه إقامة الدليل، ولا مقال

لمنكِر الشرطية في هذا المقام إلا أن يسوق شاهدًا على عملها، مع عدم ذلك

الوصف، أو يمنع أن يكون لارتباط العمل بذلك الوصف وجه مناسب.

فإن سلك الطريقة الأولى - وهي إقامة الشاهد على العمل مع تخلف الوصف-

فقد رمى بسهمٍ صائبٍ، وأصبح مذهبه في حرزٍ حارزٍ من الصحة، وهذا كأن

يقول الكوفي: إن خبر (كان) لا يأتي فعلاً ماضيًا إلا أن يقترن بقد، فيعارضه

البصري في هذا الشرط، ويتلو عليه مثل قوله تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن

قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (يوسف: 26)، وقول زفر بن الحارث:

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً

وقد يستمر مدعي الشرطية ماسكًا برأيه، ولو بعد أن تُلقى عليه الشواهد البينة

في إلغاء الشرط، وقيام الحكم بدونه ذاهبًا إلى حمل الشواهد على غير ظاهرها،

كما زعم الكوفيون في هذه المسألة أن (قد) في تلك الشواهد مضمرةٌ، ومتى سقط

مقال المناظر إلى هذا الدرك مِن التعسف كان الإعراض عنه أبلغ جوابًا وأحسن

جدلاً.

وإذا عجز المخالف في الشرطية عن الطريقة الأولى - حيث أعوزته الشواهد،

وجنح إلى الطريقة الثانية؛ وهي المطالبة بالوجه المناسب - لجعل ذلك الوصف

شرطًا، فإن أبدى القائل بالشرطية وجهًا صحيحًا لارتباط الحكم بالوصف المقارن

انقطع المخالف، واستقر الشرط في محله، وهذا كما يقول البصري: إن الفعل

الناسخ المقرون بما النافية لا يجوز تقديم خبره على ما. وهذا القول في معنى أن

شرط عمل الناسخ المنفي بما أن يكون خبره مؤخرًا عنها، وقد نازع الكوفيون في

هذا الشرط مع اعترافهم بأن الخبر لم يرد في السماع إلا مؤخرًا، فما وسع

البصري سوى أن قال في علة ربط العمل بهذا الشرط، واختصاصه به: إن (ما)

النافية مِن الأدوات المستحقة للصدارة، فلا يتمكن ما بعدها مِن العمل فيما قبلها،

ولو عجز القائل بالشرطية في أمثال هذه القضية عن بيان وجه الاشتراط لأمكن

للمخالف أن يولي وجهه شطر القياس، فإذا وجده قريب المأخذة حسن

الموقع جاز له أن يهدم به ذلك الشرط، ويستمر الحكم على إطلاقه، ومثال هذا أن

يذكر الجمهور في شرط إعطاء (ما) النافية عمل (ليس) تقدم اسمها على خبرها،

فينازعهم ابن عصفور في ذلك، ويستثني الظرف والجار والمجرور الواقعين

خبرًا، ويجيز تقديمها على الاسم. وإذا عدم الجمهور أمثلةً مِن كلام العرب تشهد

ببطلان عمل (ما) إذا قدم خبرها على الظرف أو الجار والمجرور، ثم لم يُبْدِ

وجهًا يقتضي التزام الترتيب اتسع في وجه ابن عصفور مدخل القياس، فألحق (ما)

النافية بباب (إن وأخواتها) حيث يجوز تقديم خبرها على اسمها متى كان

ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا.

ومن الأمثلة الجارية على هذا الوجه قولهم إن الفعل لا ينصب الضمير العائد

إلى نفس الفاعل إلا إذا كان مِن النواسخ، فيجوز: أظنني كاتبًا، وتحسبك شاعرًا،

ولا يجوز (أعاتبتني) ، أو تحسن إليك، فإن قام مخالفٌ في اشتراط كون الفعل مِن

النواسخ، ولم يسُق شاهدًا على ما يدَّعي، بل ذهب إلى قياس نحو عاتَبَ، وأَحْسَنَ

على ما سمع في باب النواسخ - تعيَّن على سيبويه ومَنِ اقتدى على أثره في هذه

المسألة أن يتعرضوا للطعن في هذا القياس ببيان الفارق بين البابين، وكذلك فعلوا

فقالوا: إن حسبت وأخواتها دخلت على مبتدإ وخبر لتجعل الحديث شكًّا أو علمًا

فصارت بمنزلة (إن وأخواتها) في إفادة معانٍ زائدةٍ على أصل المعنى الخبري،

وكما جاز: إنني شاعرٌ، ولعلِّي كاتبٌ، جاز: حسبتني شاعرًا، وعلمتني كاتبًا،

وأما الأفعال غير الناسخة فلم تحرز هذا المعنى؛ إذ هي المقصودة بالحديث،

ومنزلتها مِن الأسماء المنصوبة بها منزلة المبتدإ مِن الخبر، وإذا تحقق الفارق بين

المسألتين امتنع إلحاق إحداهما بالأخرى.

***

القياس في الأعلام

المعروف في الأعلام أن أمرها موكولٌ إلى واضعها، فيركبها في أي وزنٍ

شاء، بدون أن يراعي فيها قانونًا، أو يجري فيها على سنة قياس، قال الشيخ ابن

عرفة - في تفسير قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} (النجم: 14) -: انتقد

القرافي على الفخر بن الخطيب تسمية كتابه باسم (المحصول)، قائلاً: إن فعل

(حصل) لا يتعدى إلا بحرف الجر، ومثل هذا لا يُبنَى منه اسم المفعول إلا

مصحوبًا بالمجرور، فكان حق التسمية:(المحصول فيه) ، والجواب أن ذلك

واجبٌ في نظم الكلام، وأما في التسمية فيجوز؛ لأنه يصح تسمية الإنسان ببعض

الاسم، فأحرى أن يسمى باسم (المفعول) غير مصحوبٍ بحرف الجر كما سميت

الشجرة بسدرة المنتهى إليها، وبمثل هذا يجاب مِن المعترض تسمية القاضي

عياض كتابه بالشفا، وقال: إن ما ورد ممدودًا كالشفاء لا يجوز قصره إلا في

ضرورة الشعر، والتحقيق أن إنكار تسمية بعض المؤلَّفات برد المحتار أو المقتطف،

إنما يتوجه على واضع الاسم، متى اعتقد صحة أخذ (افتعل) مِن مادة (حار)

أو (قطف) ، ولو علم أنه لا يقال محتار ومقتطف، ثم عمد إلى وضع أحدهما

اسمًا لتأليف بعينه لم يكن مخالفًا لقانون اللغة، وعلى أي حالٍ فالناطق بهما - بعد

أن صارا علمين - لا يتوجه إليه اعتراض، ولا يوصف بالخطأ الذي يوصف به

القائل: اقتطفت الثمرة، واحترت في أمر كذا.

ولا أدري إلى هذا اليوم ماذا أراد صاحب القاموس بالقياس في قوله: (فقعس

علم مرتجل قياسي) ؛ إذ لا نعلم فارقًا يميز فقعسًا عن بقية الأعلام المرتجلة سوى

أن مادته لم تُستعمل إلا في صيغة هذا العلم بخلاف غيره مِن المرتجلات كسعاد وأُدَد؛

فإنها مرتجلة نظرًا إلى صيغتها، وأما مادة حروفها فإنها مستعملةٌ في معانٍ أخرى

بصورٍ مختلفةٍ.

(يتبع)

محمد الخضر

_________

ص: 134