المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [ - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني

‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

1]

وقد يعتقدون في بعض فَسقة الأحياء، وينادونهم في الشدة والرخاء،

وهو عاكفٌ على القبائح [2] ، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور

هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة، ولا يعود مريضًا، ولا يشيع جنازة، ولا

يكتسب حلالاً، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل، وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس

جماعة قد عشَّش في قلوبهم، وباض فيها، وفرَّخ، يصدقون بهتانه، ويعظمون

شأنه، ويجعلون هذا ندًّا لرب العالمين ومثلاً، فيا للعقول أين ذهبت، ويا للشرائع

كيف جهلت، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) .

فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلفاء

مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ ! ، قلت: نعم، قد حصل منهم [3] ما حصل

من أولئك، وساوَوْهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد، والانقياد، والاستعباد، فلا

فرق بينهم.

فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل

له ندًّا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركًا، قلت: نعم {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ

فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 167) ، لكن هذا جهلٌ منهم بمعنى الشرك؛ فإن

تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك، والله تعالى يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ

وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) ، أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف، ويقول تعالى:

{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقد عرفت - بما قدمنا قريبًا - أنه

سمى الرياء شركًا، فكيف بما ذكرناه؟ ! فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما

فعله المشركون، وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا؛

لأن فعلهم أكذب قولهم.

فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلت: قد خرَّج الفقهاء في

كتب الفقه في باب الردة: أن مَن تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها،

وهذا دال [4] على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا

حيئنذٍ كفارًا كفرًا أصليًّا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة: {أَن لَاّ

تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} (هود: 26)، وإخلاصها: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5) الآية، ومَن نادى الله ليلاً ونهارًا وسرًّا وجهارًا

وخوفًا وطمعًا، ثم نادَى معه غيره - فقد أشرك في العبادة؛ فإن الدعاء من العبادة،

وقد سماه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى: {

إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ

عِبَادَتِي} (غافر: 60) بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ

} (غافر: 60) .

فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم، والسلوك فيهم ما سلك رسول

الله صلى الله عليه وسلم في المشركين، قلت: إلى هذا ذهب طائفة من أئمة

العلم، فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر

لا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأنهم أمثالهم، وأن هذا الاعتقاد منهم فيهم شركٌ، لا

يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه، والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقادًا

وعملاً لله وحده. وهذا واجب على العلماء، (أي) بيان أن ذلك الاعتقاد الذي

تفرعت عنه النذور، والنحائر، والطواف بالقبور شرك محرم، وأنه عين ما كان

يفعله المشركون لأصنامهم، فإذا أبانت العلماء (ذلك) للأئمة والملوك وجب على

الأئمة والملوك بعْث دعاة إلى إخلاص التوحيد، فمَن رجع وأقر حُقن عليه دمه

وماله وذراريه، ومَن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم

من المشركين.

(فإن قلت) : الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث؛ فإنه قد صح أن العباد يوم

القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى،

وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء،

فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكرٍ، قلت: هذا تلبيس؛ فإن

الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء - فيما يقدرون عليه - لا ينكرها أحد؛ وقد قال الله

تعالى - في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي -: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ

عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: 15) ، وإنما الكلام في استغاثة القبوريين

وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أمورًا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية

المريض وغيرها، بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء ومن أتباع

مَن يعتقدون فيه - يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في

بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكراتٍ ما بلغ إليها المشركون، ولقد أخبرني بعض مَن

يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية

نسائه، وقال (هذه لسيِّده فلان) - يريد صاحب القبر - نصف مهر ابنتي؛ لأني

زوَّجتها، وكنت ملَّكت نصفها فلانًا - يريد صاحب القبر -[5] ، وهذا شيء ما بلغ

إليه عُبَّاد الأصنام، وهو داخل تحت قول الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ

نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (النحل: 56) بلا شك ولا ريب، نعم استغاثة العباد يوم

القيامة، وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى يفصل بين العباد بالحساب حتى

يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه (أعني) طلب الدعاء لله تعالى

من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما

خرج معتمرًا: (لا تنسنا - يا أخي - من دعائك) وأمرنا سبحانه أن ندعو

للمؤمنين، ونستغفر لهم، يعني قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ

سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) وقد قالت أم سليم رضي الله عنها:

(يا رسول الله، خادمك أنس ادعُ الله له) ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم

يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه،

والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا

ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياة ولا نشورًا - أن يشفوا مرضاهم، ويردوا غائبهم،

وينفّسوا على حُبْلاهم، وأن يسقوا زرعهم، ويدرّوا ضروع مواشيهم، ويحفظوها

من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى! - هؤلاء

الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ

يَنصُرُونَ} (الأعراف: 197)، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) ، فكيف يُطلب من الجماد أو من حي، الجماد خير منه؛ لأنه

لا تكليف عليه، وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله

تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ

وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (الأنعام: 136) الآية، وقال {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً

مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: 56) فهؤلاء القبوريون،

والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم - سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقذة،

فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يُعتقد إلا في الله، وجعلوا لهم جزءًا من المال،

وقصدوا قبورهم من ديارهم للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند

قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقربًا إليهم، وهذه هي أنواع العبادات

التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ ! ، لا أستبعد أن فيهم مَن يفعل

ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنه رأى مَن يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي

يقصده؛ تعظيمًا له وعبادة ويقسمون بأسمائهم! ، بل إذا حلف مَن عليه حق باسم

الله تعالى لم يُقبل منه! ، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا

كانت عباد الأصنام! ؛ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) وفي

الحديث الصحيح: (مَن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع رسول الله -

صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف باللات فأمره أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا

يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامه؛ فإنه قد كفر بذلك، كما

قررنا في (سبل السلام شرح بلوغ المرام)، وفي (منحة الغفار) :

فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال النبي -

صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا

قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، وقال لأسامة بن زيد: (قتلتَه بعد

ما قال لا إله إلا الله؟ !) ، وهؤلاء يصلُّون، ويصومون، ويزكّون، ويحجون

بخلاف المشركين، (قلت:) قد قال صلى الله عليه وسلم (إلا بحقها) ، وحقها

إفراد الألوهية، والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة، فلم تنفعهم

كلمة الشهادة؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم

بعض الأنبياء، وكذلك مَن جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة؛ ألا

ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون،

ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فقاتلهم الصحابة، وسَبوهم، فكيف بمَن يجعل

للولي خاصة الإلهية، ويناديه للمهمات، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -

رضي الله عنه حرَّق أصحاب عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: لا إله إلا الله

محمد رسول الله، ولكن غلَوْا في علي رضي الله عنه واعتقدوا فيه ما يعتقد

القبوريون، وأشباههم، بل عاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدًا من العصاة؛ فإنه حفر

لهم الحفائر، وأجَّج لهم نارًا، وألقاهم فيها، وقال:

إني إذا رأيتُ أمرًا منكرًا

أججت ناري ودعوت قنبرَا

وقال الشاعر في عصره:

لترمِ بي المنيةُ حيث شاءت

إذا لم ترمِ بي في الحفرتين

إذا ما أججوا فيهن نارًا

رأيت الموت نقدًا غير دين

والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير، وقد وقع إجماع

الأمة على أن مَن أنكر البعث كفر، وقُتل، ولو قال لا إله إلا الله، فكيف (مَن)

يجعل لله ندًّا، فإن قلت: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمَن

قال لا إله إلا الله، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة، قلت: لا شك أن

مَن قال: لا إله إلا الله من الكفار حقن دمه وماله، حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛

ولذا أنزل الله في قصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: 94) الآية، فأمرهم الله تعالى بالتثبُّت في شأن مَن قال: كلمة التوحيد،

فإن التزم لمعناها كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبين خلافه لم يحقن

دمه وماله بمجرد التلفظ، وهكذا كل مَن أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن

يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبين لم تنفع هذه الكلمة بمجردها؛ ولذلك لم تنفع

اليهود، ولا نفعت الخوارج، مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة

عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: (لئن أدركتهم

لأقتلنَّهم قتل عاد) وذلك لما خالفوا بعض الشريعة، وكانوا شر القتلى تحت أديم

السماء كما ثبتت به الأحاديث، فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت

شرك مَن قالها لارتكابه ما يخالفها من عبادة غير الله.

(فإن قلت) القبوريون وغيرهم من الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم

من الأحياء يقولون: نحن لا نعبد هؤلاء، ولا نعبد إلا الله وحده، ولا نصلي لهم،

ولا نصوم، ولا نحج، (قلت) هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة فيما

ذكرت، بل رأسها، وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه

معتقدًا، ويصنعون له ما سمعته مما تفرَّع عن الاعتقاد من دعائهم، وندائهم

والتوسل بهم والاستغاثة، والاستعانة، والحلف والنذر وغير ذلك، وقد ذكر العلماء

أن مَن تزيَّى بزيّ الكفار صار كافرًا، ومَن تكلم بكلمة الكفر صار كافرًا، فكيف

بمَن بلغ هذه الرتبة اعتقادًا، وقولاً، وفعلاً؟ ! (فإن قلت) هذه النذور والنحائر

ما حكمها؟ (قلت) قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في

جمعها ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والأقاصي،

فلا يبذل أحد من ماله شيئًا إلا معتقِدًا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر، فالناذر

للقبر ما أخرج من ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما

أراده ما أخرج درهمًا؛ فإن الأموال عزيزة عند أهلها، قال تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ

أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} (محمد: 36-37) ،

فالواجب تعريف مَن أخرج النذر بأنه إضاعة لماله، وأنه لا ينفعه ما يُخرجه، ولا

يدفع عنه ضررًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما

يستخرج به من البخيل) ويجب رده إليه، وأما القابض للنذر فإنه حرام عليه

قبضه؛ لأنه أكل لمال الناذر بالباطل لا في مقابلة شيء، وقد قال تعالى: {وَلَا

تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) ؛ ولأنه تقرير للناذر على شِرْكه

وقبح اعتقاده ورضاه بذلك، ولا يخفى حكم الراضي بالشرك {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن

يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) الآية، فهو مثل حلوان الكاهن ومهر البغي؛ ولأنه

تدليس على الناذر، وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره، فأي تقرير لمنكر أعظم من

قبض النذر على الميت؟ وأي تدليس أعظم، وأي رضاء بالمعصية العظمى أبلغ

من هذا؟ وأي تصيير لمنكر معروفًا أعجب من هذا، وما كانت النذور للأصنام

والأوثان إلا على هذا الأسلوب، يعتقد الناذر جلب النفع في الصنم ودفع الضرر،

فينذر له جَزورًا من ماله، ويقاسمه في غلات أطيانه، ويأتي به إلى سَدَنَة الأصنام،

فيقبضونه منه، ويوهمونه حقيقة عقيدته، وكذلك يأتي ببَحِيرته، فينحرها بباب

الصنم، وهذه الأفعال هي التي بعث الله الرسل لإزالتها، وامِّحائها، وإتلافها

والنهي عنها.

فإن قلت: إن الناذر قد يدرك النفع، ودفع الضرر بسبب إخراجه للنذر،

وبذله، قلت: كذلك الأصنام قد يدرك منها ما هو أبلغ من هذا، وهو الخطاب من

جوفها، والإخبار ببعض ما يكتمه الإنسان، فإن كان هذا دليلاً على حقِّية القبور

وصحة الاعتقاد فيها - فليكُن دليلاً على حقيقة الأصنام، وهذا هدم للإسلام،

وتشييد لأركان الأصنام. والتحقيق أن لإبليس - وجنوده من الجن والإنس - أعظم

العناية في إضلال العباد، وقد مكن الله إبليس من الدخول في الأبدان، والوسوسة

في الصدور، والتقام القلب بخُرطومه، فكذلك يدخل أجواف الأصنام، ويلقي الكلام

أسماع الأقوام ومثله يصنعه في عقائد القبوريين، فإن الله تعالى قد أذن له أن يجلب

بخيله ورَجِله على بني آدم، وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وثبت في

الأحاديث أن الشيطان يسترق السمع بالأمر الذي يُحدثه الله، فيلقيه إلى الكهان،

وهم الذين يخبرون بالمغيبات، ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم مائة

كذبة، ويقصد شياطين الجن شياطين الإنس من سدنة القبور وغيرهم، فيقولون: إن

الولي فعل وفعل يرغِّبونهم فيه، ويحذرونهم منه، وترى العامة ملوك الأقطار وولاة

الأمصار معزِّزين لذلك، ويولون العمال لقبض النذور، وقد يتولاها مَن يحسنون

فيه الظن من عالم أو قاضٍ أو مفتٍ أو شيخ صوفي، فيتم التدليس لإبليس وتقرعينه

بهذا التلبيس، (فإن قلت) هذا أمر عَمَّ البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار

والأنجاد وطبق الأرض شرقًا وغربًا، ويمنًا وشامًا، وجنوبًا وعدنًا [6] ، بحيث لا

بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور، ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها، ويعظمونها،

وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور،

ويسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلْبِسُونَها الثياب، ويصنعون كل

أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها، والتعظيم، والخضوع،

والخشوع، والتذلُّل، والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين، غالبها لا يخلو عن

قبر، أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة يصنعون فيه ما

ذُكر أو بعض ما ذكر، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من

الشفاعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا،

(قلت) إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت أن الحق ما قام

عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيلٍ، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أن هذه

الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة الذين

إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل، ينشأ

الواحد فيهم، فيجد أهل قريته، وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولية أن يهتف باسم

مَن يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه، ويعظمونه، ويرحلون به على محل قبره،

ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفًا على قبره، فينشأ وقد قَرَّ في قلبه عظمة ما

يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير،

وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير، بل ترى مَن يتسم بالعلم،

ويدَّعي الفضل، وينتصب للقضاء، والفُتيا والتدريس، أو الولاية، أو المعرفة،

أو الإمارة والحكومة معظمًا لما يعظمونه مكرمًا لما يكرمونه، قابضًا للنذور، آكلاً

ما ينحر على القبور، فيظن أن هذا دين الإسلام، وأنه رأس الدين والسنام، ولا

يخفى على أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن

سكوت العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر.

ولنضربْ لك مثلاً من ذلك، وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من

ضرورة الدين تحريمها قد ملأت الديار والبقاع، وصارت أمرًا مأنوسًا لا يلج

إنكارها إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المَكَّاسين في أشرف البقاع في مكة

أم القرى يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل

فعل حرام، وسُكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام، ساكتون عن الإنكار،

مُعْرضون عن إيراده والإصدار، أفيكون السكوت دليلاً على أخْذها وإحرازها؟ ،

هذا لا يقوله مَن له أدنى إدراك.

بل أضرب لك مثلاً آخر هذا حَرَم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق،

وإجماع العلماء أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات

الأربعة التي فرقت لعبادات العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل

من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين، بدعة

قرَّت بها عين إبليس اللعين، وصيَّرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت

الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها، وشاهدها كل ذي عينين،

وسمع بها كل ذي أذنين، أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله مَن

له إلمام بشيءٍ من المعارف كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.

(فإن قلت) يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة، حيث سكتت

عن إنكارها لأعظم جهالة، (قلت) الإجماع حقيقته اتفاق مجتهدي أمة محمد -

صلى الله عليه وسلم على أمر بعد عصره، وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون

الاجتهاد من بعد الأربعة، وإن كان هذا قولاً باطلاً، وكلامًا لا يقوله إلا مَن كان

للحقائق جاهلاً، فعلى زعمهم لا إجماع أبدًا من بعد الأئمة الربعة، فلا يرد السؤال،

فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لم يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة، وعلى ما

نحققه، فالإجماع وقوعه مُحال؛ فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق، وصارت في

كل أرض وتحت كل نجم، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون، ولا يتم لأحد معرفة

أحوالهم، فمَن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين، وكثرة علماء المسلمين؛ فإنها

دعوى كاذبة كما قاله أئمة التحقيق.

ثم لو فرض أنهم علموا بالمنكر، وما أنكروه - بل سكتوا عن إنكاره - لما

دل سكوتهم على جوازه، فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاث:

(أولها) الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته، (ثانيها) الإنكار

باللسان مع عدم استطاعة التغيير، (ثالثها) الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة

التغيير باليد واللسان، فإن انتفى أحدهما لم ينتفِ الآخر، ومثاله مرور فرد من

أفراد علماء الدين بأحد المكاسين، وهو يأخذ أموال المظلومين، فهذا الفرد من

علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين باليد ولا باللسان؛

لأنه إنما يكون سخرة لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين، ولم يبقَ

إلا الإنكار بالقلب الذي هو أضعف الإيمان، فيجب على مَن رأى ذلك العالم ساكتًا

على الإنكار، مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد

واللسان، وأنه قد أنكر بقلبه، فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب،

والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب، فالداخلون إلى الحرم الشريف والمشاهدون

لتلك الأبنية الشيطانية - التي فرقت كلمة الدين، وشتتت صلوات المسلمين -

معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين.

ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما

يستدلون عليه: إنه وقع، ولم يُنكَر، فكان إجماعًا. ووجه اختلاله أن قولهم: ولم

ينكر رجم بالغيب؛ فإنه قد يكون أنكرته قلوبٌ كثيرةٌ تعذر عليها الإنكار باليد

واللسان، وأنت تشاهد في زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك، ولا بيدك،

وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار

بقوله إما لائمًا أو متأسّيًا بسكوته، فالسكوت لا يستدل به عارف، وكذا يعلم اختلال

قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا، وسكت الباقون فكان إجماعًا، مختل من

جهتين: (الأولى) دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان؛ لما عرفت من عدم

دلالة السكوت على التقرير، (الثانية) قولهم: فكان إجماعًا؛ فإن الإجماع اتفاق

أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والساكت لا يُنسب إليه وفاق، ولا

خلاف حتى يُعرب عنه لسانه، قال بعض الملوك - وقد أثنى الحاضرون على

شخصٍ من عماله، وفيهم رجل ساكت -: ما لك لا تقول كما يقولون؟ ! ، فقال:

إن تكلمت خالفتهم، فما كل سكوت رضى، فإن هذه منكرات أَسَّسها مَن بيده السيف

والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه،

فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟ ! فإن هذه القباب والمشاهد التي

صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد وأكبر وسيلة على هدم الإسلام وخراب

بنيانه غالب [7] ، بل كل مَن يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما

على قريب لهم، أو على مَن يحسنون الظن فيه من فاضل، أو عالم، أو صوفي،

أو فقير، أو شيخ، أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون

توسُّل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له، ويستغفرون حتى ينقرض مَن يعرفه

أو أكثرهم، فيأتي مَن بعدهم فيجد قبرًا قد شُيد عليه البناء، وسُرجت عليه الشموع،

وفُرش بالفراش الفاخر، وأُرخيت عليه الستور، وأُلقيت عليه الأوراد والزهور،

فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل

وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع؛ حتى يغرسوا في جِبلَّته كل باطل؛ ولهذا

الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على مَن سرج على القبور، وكتب عليها،

وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة؛ فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو

ذريعة إلى مفسدة عظيمة.

(فإن قلت) هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عمرت عليه

قبة عظيمة أُنفقت فيها الأموال، (قلت) هذا جهل عظيم بحقيقة الحال؛ فإن هذه القبة

ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم، وتبع

التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره - صلى

الله عليه وسلم - من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي

المعروف بالملك المنصور في سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة، ذكره في (تحقيق النصرة

بتلخيص معالم دار الهجرة) ، فهذه أمور دولية لا دليلية يتبع فيها الآخر

الأول.

وهذا آخر ما أردناه مما أوردناه لما عمت البلوى، واتبعت الأهواء،

وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم، ومالوا إلى ما مالت العامة إليه،

وصار المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ولم نجد من الأعيان ناهيًا عن ذلك ولا

زاجِرًا.

(فإن قلت) قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق

من الأفعال، يتسمَّوْن بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون من تلك الأمور؛ فإنها مما

جبلت القلوب [8] إلى الاعتقاد بها، (قلت) أما المتسمّون بالمجاذيب - الذين

يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويُخرجونها عن لفظها العربي-

فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حُمُر [9] الكون الذين ألبستهم [10] حلل

التلبيس والتزيين، لما إن إطلاق الجلالة مفردًا عن إخبار عنهم بقولهم: الله الله

ليس بكلامٍ، ولا توحيدٍ، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه

العربي، ثم إخلاؤها عن معنى من المعاني، ولو أن رجلاً عظيمًا صالحًا يسمى

بزيدٍ، وصار جماعة يقولون: زيد زيد لعُدَّ ذلك استهزاءً، وإهانة وسخرية، ولا

سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ، ثم انظر هل أتى في لفظة من الكتاب

والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؛ إذ الذي فيهما هو طلب الذكر، والتوحيد،

والتسبيح، والتهليل وهذه أذكار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدعيته

وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده مَن هو عن

الله، وعن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم وسَمته ودِله في مكانٍ سحيقٍ، ثم قد

يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى مثل: ابن علوان، وأحمد بن

الحسين، وعبد القادر، والعيدروس، بل قد انتهى الحال إلى أنهم يفرون إلى

أهل القبور من الظلم والجراءة كعلي رومان، وعلي الأحمر وأشباههما وقد صان

الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الكساء، وأعيان

الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الجهلة الضُّلال، فيجمعون أنواعًا من الجهل

والشرك والكفر، (فإن قلت) إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة،

ويضيفون إليها أهل الخلاعة والبطالة -خوارق عادات وأمور تُظنّ كرامات: كطعن

أنفسهم وحمْلهم لمثل الحنش والحية والعقرب، وأكلهم النار ومسّهم إياهم بالأيدي

وتقلّبهم فيها بالأجسام، (قلت) هذه أحوال شيطانية وإنك لملبوس [11]

عليك إن ظننتها كرامات للأموات أو حسنات للأحياء لما هتف هذا الضال بأسمائهم

جعلهم أندادًا وشركاء له في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء

الله تعالى، فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكًا له

تعالى وندًّا؟ ! إن زعمت ذلك فقد جئت شيئًا إدًّا، وصيَّرت هؤلاء الأموات

مشركين، وأخرجتهم - وحاشاهم عن ذلك - عن دائرة الإسلام والدين؛ حيث جعلتهم

بجعْلهم أنداد الله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال

المشركين، التابعين لكل باطل، المنغمسين بين بحار الرذائل، الذين لا يسجدون لله

سجدة، ولا يذكرون الله وحده، فإن زعمت هذا فقد أثبتَّ الكرامات للمشركين

الكافرين المجانين، وهدمت بذلك ضوابط الإسلام، وقواعد الدين المبين والشرع

المتين.

وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين علمت أن هذه أحوال وأفعال طاغوتية،

وأعمال إبليسية، يفعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين معاونة من الفريقين،

وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان،

وهذا أمر مقطوع بوقوعه؛ فهم الثعابين التي يشاهدها في أيدي المجاذيب الإنسانُ،

وقد يكون ذلك من باب السحر، وهو أنواع، وتعلُّمه ليس بالعسير، بل بابه

الأعظم الكفر بالله، وإهانة ما عظَّمه الله من جعْل مصحف في كَنيفٍ ونحوه، فلا

يغتر مَن يشاهد ما يعظم في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها

خوارق؛ فإن للسحر تأثيرًا عظيمًا في الأفعال، وهكذا الذين يقلبون الأعيان

بالأسحار وغيرها، وقد ملأ سَحَرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات [12] ؛ حتى

أوجس في نفسه خيفةً موسى عليه السلام، وقد [13] وصفه الله بأنه سحر عظيم،

والسحر يفعل أعظم من هذا؛ فإنه قد ذكر ابن بطوطة وغيره أنه شاهد في بلاد

الهند قومًا توقد لهم النار العظيمة، فيلبَسون [14] الثياب الرقيقة [15] ، ويخوضون في

تلك النار، ويخرجون وثيابهم كأنها لم يمسها شيء! ، بل ذكر أنه رأى إنسانًا عند

بعض ملوك الهند - أتى بولديه معه، ثم قطعهما عضوًا عضوًا، ثم رمى بكل

عضو إلى جهة فرقًا، حتى لم يَرَ أحد شيئًا من تلك الأعضاء، ثم صاح، وبكى،

فلم يشعر الحاضرون إلا وقد نزل كل عضو على انفراده، وانضم إلى الآخر،

حتى قام كل واحد منهما على عادته حيًّا سويًّا، ذكر هذا في رحلته، وهي رحلةٌ

بسيطةٌ، وقد اختصرت - طالعتها بمكة عام ست وثلاثين ومائة وألف، أملاها

علينا العلامة مفتي الحنفية في المدينة السيد محمد بن أسعد رحمه الله.

وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بسنده أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة

فجعل يدخل في جوف بقرة، ويخرج فرآه جندب رضي الله عنه،

فذهب إلى بيته، فاشتمل على سيفه، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب:

{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: 3) ثم ضرب وسط البقرة،

فقطعها، وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد، وكتب بذلك إلى

عثمان رضي الله عنه وكان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جنديًّا يقوم

الليل، ويصبح صائمًا، قال النصراني: والله، إن قومًا هذا شرهم لَقوم صدق،

فوكل بالسجن رجلاً، ودخل الكوفة، فسأل عن أفضل أهلها، فقالوا الأشعث بن

قيس، فاستضافه فرأى أبا محمدٍ يعني الأشعث، ينام الليل، ويصبح فيدعو بغذائه،

فخرج من عنده وسأل، أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا جرير بن عبد الله، فوجده ينام

الليل، ثم يصبح، فيدعو بغذائه، فاستقبل القبلة فقال: ربي رب جندب،

وديني دين جندب وأسلم، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى بمغايرة في

القصة، فذكر بسنده إلى الأسود أن الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه

ساحر، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به، فيقوم صارخًا، فيرد إليه رأسه،

فقال الناس: سبحان الله يحيي (الموت) ، ورآه رجل من صالحي المهاجرين،

فلما كان من الغد اشتمل على سيفه، فذهب [16] يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل

سيفه، فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقًا فليحي نفسه، فأمر به الوليد دينارًا [17]

صاحب السجن، فسجنه انتهى، بل أعجب من هذا ما أخرجه الحافظ البيهقي

بإسناده في قصة طويلة، وفيها أن امرأة تعلمت السحر من المَلَكين ببابل هاروت،

وماروت وأنها أخذت قمحًا، فقالت له - بعد أن ألقته في الأرض -: اطلع فطلع،

فقالت: أحقل فأحقل، ثم تركته، ثم قالت: أيبس فيبس، ثم قالت له: اطحن

فأطحن، ثم قالت له: اختبز فاختبز، وكانت لا تريد شيئًا إلا كان.

والأحوال الشيطانية لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدجال والميعاد، اتباع

الكتاب والسنة ومخالفتهما انتهى ما أوردناه، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخرًا،

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تذييل للمنار وتقريظه للرسالة:

إن هذه الأعمال الغريبة التي تسمى بالسحر حيل صناعية تُتَلَقَّى بالتعليم

والتمرين، وليست من خوارق العادات حقيقة، بل صورة، فهي كما قال تعالى في

سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (الأعراف: 116) بأن أروها أشياء

على غير حقيقتها، لتخييل الحبال والعِصِيّ متحركةً بإرادتها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن

سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) ، والخوارق لا تكون صناعة تعليمية. وإنما

يكثر هذا السحر في البلاد التي يغلب على أهلها الجهل بعلوم الكون، وسنن الله في

الخلق، كبلاد الزنوج في إفريقية والشعوب المشابهة لها في الغباوة والجهل، وتقل

في غيرها أو تنعدم، وما يبقى منها يكون حرفة لبعض المشعوذين، يعرضون ما

يتقنونه من أعمالها على الناس، فيرضخون لهم بقليلٍ من النقد، فمنهم مَن يلحس

حديدة محماة بالنار حتى تبرد، وذلك أنه يتمرن على إدنائها من لسانه، وإصابتها

بلعابه، من غير أن تمس اللسان، ولكنهم يفعلون ذلك بسرعة تخيل للرائي أن

اللسان يمسها، ومنه اقتحام النار كما بيناه في بعض فتاوى المجلد الثاني والعشرين،

وأكثر هذه الشعوذة صناعية يدوية.

ومن فنون السحر ما يستعان عليه بعلوم خواص الأشياء، ولو ذهب الآن

بعض علماء الكيمياء - وغيرها كخواص الكهرباء - إلى بعض تلك البلاد التي

تجهل هذه العلوم جهلاً مطلقًا لفتنوهم واستعبدوهم، ولا سيما إذا كان معهم من

الآلات والأدوات ما يمكِّنهم من أعمالها المعروفة، المشهور منها كالتلغراف

والتليفون اللاسلكي، وغير المشهور. وقد صار جميع العارفين بأمور الكون

يعلمون أن جميع هذه الأعمال الغربية صناعة لها أسباب، يعرفون بعضها،

ويقيسون ما لم يعرفوا على ما عرفوا.

هذا، وإن الإسلام - ولله الحمد - مبني على الحقائق، ورفض الخرافات

والخزعبلات التي عبر عنها بالجبت وبالسحر، وإبطال كل ما يُطغي الناس بإفساد

أخلاقهم وآدابهم وحمْلهم على الأعمال المنكرة، وهو ما عبر عنه بالطاغوت،

فالمؤمن التقي هو السليم العقل والأخلاق، القائم بالأعمال الصالحة التي يُصلح بها

حاله وحال الناس الذين يعيشون معه على منهاج الكتاب والسنة، وما كان عليه

سلف الأمة الصالح، وكل ما زاد على ذلك باسم الدين فهو بدعة ضلالة، إما فسق،

وإما كفر.

وأما أمور الدنيا المحضة فقد قال لنا الرسول عليه الصلاة والسلام:

(أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فلا ينكر العارف بالإسلام على أحد من أفراد المسلمين،

ولا من جماعاتهم - ما استحدثوا فيها من طعام وشراب ولباس وآنية وماعون وأثاث

ومراكب برية، وبحرية، وهوائية، وآلات صناعة، وأعمال زراعة، وطرق

تجارة وأسلحة حرب، وغير ذلك، مع المحافظة على حدود الشريعة في الحلال

والحرام، وحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعِرْض والمال.

وقد ابتُلي الإسلام بجهالٍ لبِسوه مقلوبًا كالفرو، فأكثروا من الابتداع في الدين،

وشوهوه بالخرافات، وزادوا فيه ما لم يرد في سنة، ولا كتاب، ولا عرفه

الرسول، ولا أصحابه ولا غيرهم من أئمة السلف، حتى صار البله والسخف

والخروج عن المعقول، والوساخة، والخرافات، والبدع - من علامات الصالحين

التي لا تُنكر! ، وما أباحه الله وفوّض الأمر فيه رسولُه للناس فقد أنكروه، وضللوا

أهله باسم الدين!

ولله دَرُّ مؤلف هذه الرسالة الإمام المحقق؛ فقد أتى فيها بما لم يأتِ به مَن

ألفوا المختصرات والمطولات في موضوعها، وهو كشف شبهة الذين يزعمون أن

علماء المسلمين قد أجازوا ضلالات القبوريين منذ قرون، فصار ذلك إجماعًا عليها،

فبين أنه لا يمكن الحكم بأنهم سكتوا جميعًا، فكم منهم مَن أنكر ذلك قولاً وكتابةً،

ولئن سكتوا فلا حجة في سكوتهم، ولا سيما مع العلم بأن هنالك منكرات أخرى لا

يقول هؤلاء القبوريون ولا غيرهم بجوازها، وهي مسكوت عنها، إما للعجز عن

إنكارها، وإما للجهل والتهاون في أمر الدين؛ لأن المعروف صار منكرًا، والمنكر

صار معروفًا، كما ورد في أعلام النبوة. وهذه الحجة أظهر في زماننا وبلادنا منها

في غيرهما من زمان ومكان؛ فإن العلماء الذين لا ينكرون ما وردت الأحاديث

الصحيحة بحظره من تشييد القبور وكسوتها وإيقاد السرج والشموع عليها وعبادتها

بدعاء أصحابها والطواف بها والنذر لهم - لا ينكرون أيضا ما فشا في البلاد من

البدع والفواحش، والمنكرات التي لا خلاف في شيء منها، بل لا ينكرون ما

يرون، ويسمعون من الكفر البواح، والإلحاد الصُّراح، بل يعظمون مَن يعتقدون

كفرهم وإلحادهم، ويعلِّمون أولادهم القوانين التي يعتقدون أنها مشتملة على ما هو

محرم بالإجماع، وأن استحلاله ردة، وخروج من الملة؛ لأجل أن يحكموا بها،

وهو حكم بغير ما أنزل الله، وهم يتلون في ذلك آيات الله، فهل يُحتَج بسكوت

أمثال هؤلاء قلوا أو كثروا؟ ! ولا حجة في سكوت المجتهدين، وهم ليسوا منهم،

ولا في أقوالهم على القول المشهور في الأصول إلا إذا أمكن حصرهم، وإجماعهم

على حكم من الأحكام، لا يشذ منهم عن القول به أحد، على ما في حجيته إذا أمكن

وقوعه، والعلم به من النظر!

اللهم، إِنَّا نبرأ إليك من كل قولٍ، وعملٍ، وإقرارٍ في أمر ما من أمور الدين،

لم يكن مما أنزلتَه على رسولك محمدٍ خاتم النبيين والمرسلين، ومن كل فهمٍ

وعملٍ فيه مخالف لسلف الأمة الصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب

العالمين.

_________

(1)

تابع لما نُشر في ص273 من الجزء الرابع.

(2)

وفي نسخة: (الفضائح) .

(3)

وفي نسخة: (فيهم ما حصل في) .

(4)

وفي نسخة: (دَلّ) .

(5)

وهذه النذور بالأموال، وجعل قسط منها للقبر، كما يجعلون شيئًا من الزرع يسمونه تلمًا في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيء إلخ.

(6)

كان المناسب أن يقول: وجنوبًا وشمالاً.

(7)

قوله (غالب) خبر قوله: (فإن هذه القباب) ، أي أن أكثر مَن يعمر هذه القباب - بل كل مَن يعمرها - هم الملوك والأمراء، والأضراب مبالغة؛ فإن الذين اقتدوا بهم كثروا أيضًا، ولعله كذلك في بلاد المؤلف.

(8)

إما أن يكون الأصل (جلبت القلوب) بتقديم اللام على الباء، وإما يكون (جلبت القلوب على الاعتقاد) .

(9)

الحُمُر: بوزن كتب: جمع حمار.

(10)

وفي نسخة: (ألبستهم)، ولعل الأصل: ألبستهم ألسنتهم.

(11)

لملبَّس.

(12)

والحنشان.

(13)

وحتى وصفه إلخ.

(14)

ويلبَسون.

(15)

الرفيعة.

(16)

وفي نسخة: (فذهب الساحر يلعب) إلخ.

(17)

دمار السجن.

ص: 345

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(5)

فصل

الجماعة والتزام الجماعة

وفي هذا الحديث - الذي نحن بصدده - أمر مهم يستحق أن نتأمل فيه،

وهو أن الشريعة نصَّت على أن الحياة الإسلامية إنما هي في التزام الجماعة وطاعة

الخليفة، والحياة الجاهلية في الانحراف عنها، ولقد أوضح القرآن أن الجاهلية هي

التفرق والتشتت، وانتشار الكلمة، وعدم الاجتماع على مركزٍ واحدٍ، وأن الحياة

الإسلامية هي الحياة الاجتماعية، والاتحاد، والائتلاف بين الأمة، واجتماع الآحاد

المنتشرة؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ

قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل

عمران: 103) إلخ.

فالجاهلية الفرقة، والإسلام الجماعة؛ ولذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام

مرة بعد مرة أن مَن يحيد عن الجماعة، وينزع يده عن طاعة الخليفة، يكاد

يخرج من الإسلام، وتكون ميتته على الجاهلية لا على الإسلام، وإن صلى وصام،

وزعم أنه مسلم.

وها هي ذي بعض الأحاديث الصحيحة المشهورة في هذا الباب:

قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن أطاع أميري

فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني) رواه البخاري، ومسلم عن أبي

هريرة، وفي رواية أخرى لمسلمٍ:(مَن أطاع الأمير) أي أطاع إمام المسلمين،

وقال: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة)

(البخاري ومسلم عن أنس) .

يظهر أن هذه الجملة كثيرًا ما كان يكررها صلى الله عليه وسلم، ولا سيما

في خطبه؛ ولذا تجدها مرويةً بألفاظٍ مختلفةٍ، ونُسبت إلى مواقع مختلفة، وقد قال

يوم الحج الأكبر - في حجة الوداع التي كانت مشهدًا عظيمًا للمسلمين، والتي لم

يعش صلى الله عليه وسلم بعدها إلا بضعة أشهر -: (ولو استعمل عليكم عبد

يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا) (مسلم) .

وقال: (مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات مِيتة جاهلية)

وفي لفظ: (فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات

ميتة جاهلية) (متفق عليه) ، ومعلوم أن الجاهلية كانت قبل الإسلام، فمعنى

الحديث: أنه مات على ضلالة عرب الجاهلية - والعياذ بالله! - وفي رواية عبد

الله بن عمر رضي الله عنه : (مَن خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا

حجة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية) .

وقال: (مَن فارق الجماعة شبرًا فكأنما خلع رِبْقة الإسلام من عنقه)

(الترمذي)، وفي رواية:(دخل النار)(أخرجها الحاكم على شرط الصحيحين) .

وقال: (كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هلك نبي خلفه نبي،

وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاءُ، فيكثُرون، قالوا: فما تأمرنا؟ ، قال: فُوا

ببيعة الأول فالأول، وأَعطوهم حقَّهم، فإن الله يسألهم عما استرعاهم) (متفق عليه) .

وغير هذا كثير من الأحاديث التي لا تُحصى، وشواهد الإجماع ونصوص

كتب العقائد والفقه لسنا في حاجة إليها بعد الحديث.

***

فصل

في شروط الإمام والخلافة

إذا استقصيت نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة - تعلم أن الشريعة

الإسلامية اعتبرت الإمامة والخلافة على شكلين متضادين، واحد منهما أصلي

ومطلوب، والثاني اضطراري.

وبيان هذا أن الشكل الأصلي المطلوب هو انتخاب الأمة خليفتَها بحيث

تجتمع آحادها، وأهل الحل والعقد والرأي والبصيرة منها، فيتباحثون ويتشاورون

طبقاً للآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، ثم ينتخبون الخليفة

مراعين فيه شروط الخلافة الشرعية، ومقاصدها الأساسية، غير ناظرين إلى

الوجاهة الذاتية والجنسية النسبية [1] ؛ إذ الشريعة تعتبر في الانتخاب شورى الأمة،

لا جنسية الخليفة وعشيرته ونسبه، وقد تأسست الخلافة الراشدة على هذا الأساس

الجمهوري، فالخليفة الأول انتخبته الأمة مباشرة، والخليفة الثاني انتخبه الخليفة

الأول [2] ، ورضي به أهل الحل والعقد من الأمة، والخليفة الثالث انتخبته جماعة

الشورى، والرابع بايعته الجماعة بأسرها، فانتخاب هؤلاء الخلفاء الأربعة كان

انتخابًا شرعيًّا وجمهوريًّا، ولم تُراعَ فيه الجنسية، والقبيلة، والعهد البتَّة، ولو

رُوعي فيه شيء من هذا القبيل لَبقيت الخلافة في بيت الخليفة الأول، ولم تخرج

منه إلى آخر الدهر، ولكن لم يكن شيء من ذلك، بل لم يدَع الخليفة الثاني مجالاً

للأمة في أن تنتخب ابنه خليفة؛ لأنه منع، وأوصى بذلك وصيةً حين احتضاره -

رضي الله عنه وعنهم أجمعين -.

فإذا كان الأمر على هذا النهج الجمهوري، واستطاعت الأمة انتخاب خليفتها-

فقد شرطت الشريعة فيه شروطًا تُراعَى عند الانتخاب:

وأما الشكل الثاني: وهو إذا تغلب متغلب بقوته وعصبيته على الخلافة، ولم

يترك مجالاً للانتخاب؛ فحينئذٍ ماذا يجب على الأمة إذا كان المتغلب غير أهل لها

وظالمًا، وفاقدًا لشروطها؟ ، فهل يجب عليها أن تخرج عليه وتقاتله؟ ، أم يجب

عليها أن تطيعه، وتنقاد له، وتؤدي إليه الزكاة، وتقيم وراءه الجمعة والجماعة،

وتعمل تحت سيطرته سائر الأعمال التي لا تتم إلا بوجود الخليفة والإمام؟

لما كانت هذه المسألة أهم المسائل الحيوية، وأساس حياة الأمة الاجتماعية -

لم تكن الشريعة لتغفل عنها، وتترك الأمة بلا هداية، ولا بصيرة فيها؛ ولذا تجدها

قد اهتمت بها أشد الاهتمام، وبينتها بيانًا وافيًا بعبارات واضحة ونصوص صريحة؛

ومن أجل ذا لم يتردد الصحابة - رضوان الله عليهم - في تعيين خطتهم لما قامت

الخلافة الأموية الاستبدادية بعد انقراض الخلافة الراشدة، فعاملوها معاملة واحدة،

كأنهم كانوا عينوها من قبل، وصارت تلك المعاملة سُنَّة لمَن بعدهم، وأجمعت

الأمة على استحسانها، واتخذتها خطة اجتماعية لها، نعم، قد اختلف بعض الفرق

الإسلامية في الشكل الأول للخلافة، ولكن لم يختلف أحد منهم في الشكل الثاني لا

قولاً ولا عملاً [3] .

وقد شرطت الشريعة في الشكل الأول الجمهوري شروطًا بالغة في الكمال

منتهاه، وأوجبت على الأمة أن تنظر في الخليفة كل الأمور التي تلزم لهذا المنصب

الرفيع، ولهذه المسئولية العظيمة، وقد اشتهرت شروط الخلافة هذه اشتهارًا عظيمًا،

حتى إنك تجدها في عامة كتب العقائد والفقه التي يتداولها طلبة العلم في المدارس

الدينية، فترى فيها:(ويُشترط أن يكون) الخليفة (من أهل الولاية المطلقة

الكاملة، بأن يكون مسلمًا، حرًّا، ذكرًا، عاقلاً، بالغًا، سائسًا بقوة رأيه، ورويَّته،

ومعونة بأسه وشوكته، قادرًا بعلمه وعدالته وكفايته وشجاعته على تنفيذ الأحكام،

وحفظ حدود الإسلام، وإنصاف المظلوم من الظالم، عند حدوث المظالم

) إلخ،

راجع شرح المواقف، والنسفي، والتمهيد، وشرح الفقه الأكبر للقارئ، وشرح

المقاصد، ومن كتب المحدثين شرح عقيدة ابن عقيل، وفتح الباري، وشرح

منظومة الآداب، وخلاصة ابن مفلح، ونيل الأوطار ووبل المرام للشوكاني،

والإقناع وشرحه وغيرها من الكتب.

وأما شرط القرشية ففيه اختلاف [4] ، وقد كان يقول به أكثر العلماء والفقهاء

إلى زمن الدولة العباسية، وبعدها بيسير (سنة 640 هـ سنة 1243م) لقوله

صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر في قريش) ولذا ذهبت الإمامية إلى أن

الخليفة يجب أن يكون من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ونقول على

هذه القاعدة إن الخلافة لعلي عليه السلام، ثم لأئمة العِتْرَة - رضوان الله

عليهم أجمعين - وذهبت الزيدية إلى أن الخلافة في بني فاطمة كلهم، ولا خصوصية

فيها لأئمة أهل البيت، فالإمامية تَشْترط في الخليفة - مع سائر الشروط المذكورة

آنفًا - أن يكون من أهل البيت النبوي، والزيدية توسع فيها وتقول كل بني

فاطمة أهل للخلافة، وهم يستحقونها دون غيرهم.

ولا تنسينَّ أن هذا الاختلاف في الشكل الأول، أما في الشكل الثاني - أي

إذا لم تقدر الأمة على انتخاب الخليفة لتغلُّب المتغلِّبين - فلا خلاف فيه بين

المسلمين لكثرة الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة، وأئمة أهل البيت في هذا

الباب؛ ولذا ترى الأمة قد اتفقت كلمتها على أنه إذا استولى مسلم بقوته وشوكته

وعصبيته على الخلافة - وتمكن فيها، وقامت حكومته، وقوي أمره - وجب على

الأمة أن تطيعه، وتسمع له، وتخضع لخلافته مثل ما لو كان أصابها بحق، ولا

يجوز لأحد الخروج عليه، والقيام على وجهه، ومَن يفعل ذلك يقاتله المسلمون،

ويعينون الخليفة عليه، مهما كان الخارج ذا فضل وصلاح وأهلية؛ لأنه مفارق

للجماعة، وخارج على السلطان [5] .

هذا هو حكم الشريعة في هذه الصورة، وحكمته واضحة جليَّة، وهي أن

قيام الشريعة وبقاء الأمة يتوقف على الحكومة القوية؛ إذ هي أساس للحياة

الاجتماعية، وقد جعلت لها الشريعة نظامًا في غاية من الكمال والجودة، فخولت

للأمة حق انتخاب الأمير، وجعلت الشورى أساسًا للانتخاب، وشرطت شروطًا في

الأمير، ولم تعتمد في الإمارة على امتيازات الجنس والعصبية والملوكية، بل

جعلتها حرة وجمهورية محضة لا يشوبها الاستبداد والضغط أبدًا، ثم حذرت الناس

من أن يتصدوا لها، ويرشحوا أنفسهم لأجلها، وينافسوا فيها، ويتطلعوا إليها،

فيقاتلوا، ويحاربوا عليها، ويسفكوا الدماء في سبيلها، وقد كان رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - يبايع الناس على هذا، فيقول:(لا ينازع الأمر أهله)[6] هذه

كلمة صغيرة في ظاهرها، كبيرة في ذاتها، وكافية لإبطال الحروب والمنازعات

بأسرها، وقد بوَّب البخاري في صحيحه عليها بابًا فقال: (باب ما يُكره من

الحرص على الإمارة) ، وروى فيه حديث أبي موسى الأشعري قال: قال النبي -

صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لا نولي هذا الأمر مَن سأله، ولا مَن حرص عليه) ،

وكان الغرض من هذا التحذير والمنع؛ لأن الناس إذا لم يحرصوا عليها سهل

للأمة انتخاب الأصلح والأهل لها.

هذا هو النظام الحقيقي الذي جعلته الشريعة للخلافة الإسلامية، ولو بقي

معمولاً به لصلحت الدنيا كلها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه لا

يدوم أكثر من ثلاثين سنة، فبيَّن للأمة ما يجب عليها عندما ينهدم ذلك، ويحل

محله الاستبداد والقهر.

لنفحص المسألة فحصًا جيدًا؛ لنرى أية خطة أحسن عند تغلب المتغلبين على

الخلافة؛ فإن هنا خطتين:

(إحداهما) أن يقبل الاستبداد، ويخضع له صيانةً للجماعة، وحفظًا لنفوس

الأمة، وذَوْدًا عن البلاد الإسلامية من الأعداء، وصونًا لأوامر الشريعة من

التعطيل وغيرها كثير من المصالح العامة، ولا تنسَ أن هذه الحكومة، وإن كانت

مستبدة قاهرة إلا أنها إسلامية تغار على الدين، وترفع شأن الأمة في نظر الأعداء،

نعم تنتقل الحكومة الإسلامية في هذه الصورة إلى مستبد تغلَّب عليها، ولم يبالِ

بالنظام الشرعي لها، ولا ريب في أنه تنشأ عن هذا مفاسد كثيرة [7] .

وأما الخطة الثانية: فهي أن يقاتل المتغلب، ويخرج عليه، وترد الخلافة

على مَن هو أصلح لها منه، ولكن إذا فعل ذلك جرت الدماء أنهارًا في حروب

تشيب من هولها الولدان، واختلَّت المصالح العامة، وتزلزلت الهيئة الاجتماعية،

وبطل الأمن، وعمت الفوضى، وتعطَّلت أوامر الشريعة، وهُدمت الجوامع،

ونهبت البيوت، وخربت البلاد، وانصبت على رأس الأمة المصائب، وأصابها

كل ما يصيب الأمم في مثل هذه الحروب التي تثيرها الأهواء والشهوات، ومع هذا

لا يُعرف متى يستتب الأمن وتعود الراحة؟ إذ كل صاحب عصبية وذي مطامع

كبيرة ينهض قائلاً: أنا أحق بالخلافة من صاحبها، فعلى الناس أن يبايعوني،

ويقاتلوا في صفي، وينصروني على عدُوي) ! [8] ، فماذا تكون حال الأمة إذ ذاك؟،

ألا تكون كالريشة في مهب العواصف، تقلبها الرياح كيف ما شاءت؟ أَوَلا

تصبح كسفينة في بحر محيط لا ربان عليها، تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة، فتعلو

تارة، وتسفل أخرى، ويُخشى عليها الغرق كل آن؟ ولا ينكر أن مع هذه

المخاوف والأهوال يُحتمل أن ترد الخلافة إلى الأصلح لها، فأي صورة أحق أن

ترجحها الشريعة الغرَّاء؟ أتلك التي مصالح الأمة فيها مصونة مضمونة،

والمفاسد محتملة؟ أم هذه التي الخراب والدمار فيها محقَّق، ورَدّ الحق إلى أهله

محتمل؟

كل مَن له أدنى حظ من العقل الصحيح لا يتردد في الجواب بأن الصورة

الأولى أحق أن تُقبل، وتعوَّل عليها في مثل هذه الحالات، وقد فعلت الشريعة ذلك

جَرْيًا على قاعدة (المنافع تُجلَب، والمضار تُدفَع) ، وإذا اختلطت المصالح

والمفاسد تختار الشريعة طريقًا أقل مضرة، وأكثر مصلحة، وترجح أهون الشرّين؛

إذ لو لم تفعل ذلك، وفَرَضَتْ على الأمة عدم الخضوع لأحدٍ سِوَى جامع شروط

الخلافة والمنتخب على الطريقة الجمهورية الصحيحة لقام - كما قلنا - كل مَن اتخذ

إلهه هواه لنيل الخلافة، وقال: هذا الخليفة ليس بأهلٍ، وأنا أحق منه، وأجمع

للشروط، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ : القتل والسلب، وإهراق الدماء، وزهق النفوس،

وانهدام الهيئة الاجتماعية، وتزعزع أركان الأمة، فمَن كان يحافظ على البلاد،

ويحكم بين العباد، ويعاقب المجرمين، ويحد السُّرَّاق، وقُطَّاع الطريق، ويأخذ

الزكاة، ويقيم الجمعة والعيدين، ويدافع عن الثغور، ويرابط على الحدود؟ .

وايم الله، لو كان كذلك لتداعت الأمم الأكالة على المسلمين، ولاحتلت

بلادهم، وخضدت شوكتهم، واستعبدتهم، وأذلتهم، وفعلت بهم ما فعلت! ، فقبول

خلافة المتغلب أحسن وأهون، أم هذا الخراب والدمار الذي ليس فوقه خراب ولا

دمار؟ ؛ ولذا أمرت الشريعة بطاعة الخليفة المسلم مهما كان ظالمًا ومستبدًا، وكيفما

كانت سيرته وسريرته ما لم يأمر بمعصية الله، وما أقام الصلاة - والله تعالى أعلم

بما يأمر، وهو بصير بمصالح العباد! [*] .

***

فصل

نصوص السنة وإجماع الأمة

مَن يلقِ نظرة سطحية على الأحاديث النبوية يَرَ أن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - كان يخبر بما سيكون في المستقبل من انقلاب الحال، وتغير الناس،

ويبين لكل حالة وكل دور علائم وآيات، ويرسم للأمة خطة تناسب كل وقت

وزمان، وإن هذا لَمن أكبر الأدلة على صدقه، وصدق نبوته؛ إذ كل ما أخبر جاء

كفلق الصبح، وإن كان الناس لا يصدقون بذلك، فبأي دليلٍ يثبتون ما جرى في

الزمان الغابر، فكل أحد يستطيع أن ينكر حينئذٍ وجود الإسكندر المقدوني، والدولة

الرومانية، بل نابليون، وحرب واترلو.

والحاصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم بما يقع بعده؛

ولذا جعل لكل حالةٍ ووقت أمرًا وحكمًا، وأمر الأمة بامتثال أمره، فيجب على

الباحث أن لا يخلط بين الأوامر والأحوال خلْطًا، بل يضع كلاًّ منها في موضعه،

والذين لم يفعلوا ذلك أخطئوا، وغلطوا في فهم الأحاديث، ولم يستطيعوا التوفيق

والتطبيق بينها.

يرى الناظر أولاً الأحاديث التي ذُكرت فيها الخلافة الراشدة، ولكوْنها كانت

معلومة لديه بأنها ستقوم على منهاج النبوة تمامًا - أوصى الأمة بطاعتها، واتخاذ

أعمالها قدوة وسُنَّة كسنته نفسه صلى الله عليه وسلم ففيها روى العرباض بن

سارية حديثه المشهور، قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم،

فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل يا رسول

الله، وعظتنا موعظة مودِّع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع

والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنتي

وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ) (ابن ماجه والترمذي) ،

وحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم

) إلخ، وحديث: (أما طبقتي

وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان

) إلخ (رواه البغوي عن أنس) ، وحديث

عبد الله بن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا وكان له حواريون

وأصحاب يأخذون بسُنته، ويقتدون بأمره) إلخ (مسلم) ، وغيرها كثير.

ففي هذا الدور أمرت الأمة بأمرين: الطاعة والاقتداء بالخلفاء، ثم تأتي بعده

أحاديث الدور الثاني، فيبقى حكم الطاعة على حاله، فتطيع الأمة خلفاء هذا الدور

أيضًا مثل طاعتها لخلفاء الدور الأول، ولكن يتغير الحكم الثاني، أي حكم الاقتداء،

فلا يُقتدَى بهم، ولا تتخذ أعمالهم سُنة متبعة؛ لأنه كان معلومًا من قبل أنهم لا

ينالون الخلافة على النظام الشرعي، ولا يكون سيرهم طبقًا للكتاب والسنة، فيكون

فيهم الصالح، والطالح، والقبيح، والحسن؛ فلذا أُمرت بطاعتهم، ونُهيت عن

اتباعهم، والاقتداء بهم، بل إذا قاموا لنشر بدعتهم، وترويج فسادهم - وجب على

كل أحد السعي لسد فسادهم، ومنع منكرهم بيده ولسانه، وإن لم يستطع فبقلبه

يبغض أعمالهم، (وذلك أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ،

فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويُسرنا،

وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله

برهان) (متفق عليه) ، أي يطاع الإمام في كل حال إلا أن يظهر منه كفر صريح.

وقال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون

عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم، قال:

قلنا أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا مَن ولي عليه والٍ

فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من

طاعة) ، (رواه أحمد ومسلم) .

وعن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يكون بعدي أئمة، لا يهتدون

بهدْيِي، ولا يستنُّون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في

جثمان إنس، قال: قلت: كيف يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع

وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمعْ وأطعْ) (أحمد ومسلم) .

وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها، قالوا: فما

تأمرنا؟ ، قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم (متفق عليه عن

ابن مسعود، وأخرجه أيضًا الحارث بن وهب وأورده الحافظ في التلخيص) .

وعن جابر بن عتيك مرفوعًا عند أبي داود بلفظ: (سيأتيكم ركب مبغضون،

فإذا أتَوْكم فرحِّبوا بهم، وخلّوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن

ظلموا فعليهم) .

وعن وائل بن حجر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل

يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ ، قال:

اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُملتم) (مسلم والترمذي

وصححه) .

قال صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم، السمع والطاعة فيما أحب

وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (أخرجه

الشيخان وغيرهما عن ابن عمر) ؛ إذ لا يُعصَى اللهُ خالقُ السموات والأرض في

شيء مهما صغر وقل لمخلوق مهما كبر وعظم وارتفع شأنه، وإن هذا ما قاله

الإسلام، وجميع الأديان، وكل العقلاء والحكماء.

ولذا أمرت الشريعة بأداء الصدقات والزكاة إلى العاملين عليها، مهما كانوا

ظلمة وفسقة وخونة، ولا يجوز منْعها عنهم لأجل ذلك، نعم يجوز السعي عند

الإمام في عزلهم، ولكن ما داموا على عملهم لا يجوز منع الزكاة عنهم؛ لئلا يختل

نظام الأمة - كما في رواية بشير بن خصاصة أنه قال: (قلنا: إن قومًا من

أصحاب الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)

(قال أبو داود رفعه عبد الرزَّاق عن معمر) ، وفي رواية سعد بن أبي وقاص،

قال: (ادفعوا إليهم ما صلُّوا)، وروى ابن أبي شيبة أنه (قال رجل لابن عمر:

إلى مَن نؤدي الزكاة؟ قال إلى الأمراء، فقال الرجل: إذًا يتخذون بها ثيابًا وطِيبًا،

قال: وإن فعلوا ذلك أَدِّ إليهم الزكاة!) ؛ ولذا ترجم أصحاب الحديث (باب براءة

رب المال بالدفع إلى السلطان مع العدل والجور) (كما في المنتقى) ، وبه قال

جمهور الفقهاء وأئمة أهل البيت، كما نُقل عن الإمام الباقر عليه السلام في

الأصول وإلى هذا ذهب المحققون من الإمامية والزيدية [9] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أي لم يُراعَ فيه الأشرف نسبًا من بيوت قريش التي حصر الرسول الخلافة في جملتها، بل يرجحون كفاءته من أي بيت منهم كان، وسيعلله بعد بأنها لو جُعلت وراثية في بيت معين لبقيت في بيت الخليفة الأول - كما هو الشأن في بيوت الملوك - إلى عهدنا هذا، وضرب له المثل بالخلفاء الراشدين.

(2)

يعني أنه رشحه، والأمة رضيته، فبايعته.

(3)

إطلاق النفي خطأ؛ فالخلاف وقع قولاً وعملاً، ذهب كثيرون إلى مقاومة السلطة الجائرة وغير الشرعية، وكثيرون إلى طاعتها، وسيأتي تحقيقه، ومازالوا يستعدون لإسقاط خلافة الأمويين حتى أسقطوها، وهي في رِيق شبابها.

(4)

يظهر أن للكاتب - عفا الله عنه - ميلاً إلى إضعاف هذا الشرط الذي أجمع عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الشقاق في الأمم، وهم أهل الإجماع دون غيرهم، والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة متفق عليها، وقد ذكر حديثًا واحدًا منها لم يقرنه بذكر مَن خرجه من رواة الصحيح، وقد صرحت الكتب التي ذكرها كلها بشرط القرشية ولما ذكروا أن الخوارج وبعض المعتزلة خالفوا سائر المسلمين في اشتراط القرشية - ردوا عليهم بأن الإجماع كان قد انعقد على ذلك من عهد الصحابة مستندًا إلى النص، فلا عبرة بخلافه قال السعد التفتازاني في شرح المقاصد:(ويُشترط أن يكون مكلفًا مسلمًا عدلاً حرًّا ذكرًا مجتهدًا شجاعًا ذا رأي وكفاية سميعًا بصيرًا ناطقًا قرشيًّا، فإن لم يوجد من قريش مَن يستجمع الصفات المعتبرة وُلِّيَ كناني، فإن لم يوجد فرجل من بني إسماعيل فإن لم يوجد فرجل من العجم) إلخ (ص 271، ج2، طبع الآستانة) وقال الحافظ في شرح البخاري - بعد إيراد الأحاديث في حصر الإمامة في قريش المؤيدة لما رواه البخاري منها - ما نصه: (ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر خلافًا لمَن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيًّا) ، ثم ذكر مَن قيده ببعض قريش، كالشيعة ورأي الخوارج وبعض المعتزلة بعدم اشتراط القرشية، وتعقبه بقوله:(قال أبو بكر بن الطيب: لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوتِ حديث:) الأئمة من قريش) ، وعملِ المسلمين به قرنًا بعد قرن، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف (ص 581، ج29 طبعة الهند) ثم ذكر الحافظ ما رواه أحمد عن عمر من ميله إلى استخلاف أبي عبيدة وهو غير قريشي، أو معاذ بن جبل وهو أنصاري، وجمع بينه وبين نقلهم للإجماع باحتمال أن يكون رجع عن ذلك، أو يكون الإجماع قد انعقد بعده والصواب أن أبا بكر قد احتج على الأنصار - وعمر بظاهره - بحديث حصر الأئمة في قريش؛ فأذعنوا، ولم يعارض فيه أحد منهم ولا من غيرهم؛ فانعقد الإجماع من ذلك اليوم، ويكفي هذا إعلالاً لرواية قول عمر إنه كان يحب أن يستخلف أحد الرجلين، وهل يوجد شيء يُرَدُّ به أثر آحادي أقوى من هذا الإجماع، وهذه النصوص المتفق عليها؟ ! وذكر الحافظ قبل ذلك ما أورد على حديث:(لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) - على القول بأنه خبر محض من أنه تولى أمرَ السلمين كثيرٌ من غير قريش، وأجاب عنه أولاً بأن تولي هؤلاء لم يمنع وجود أئمة من قريش في اليمن، والمغرب وغيرهما، وأن بعض أولئك كان يدَّعي القرشية كبني عبيد، ثم قال:(وأما سائر مَن ذُكر ومن لم يُذكر فهم من المتغلبين، وحكمهم حكم البغاة، فلا عبرة بهم)، (قال) : وقال القرطبي: هذا الحديث خبر عن المشروعية، أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وُجد منهم أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، وقد ورد الأمر بذلك في حديث:(قدِّموا قريشًا، ولا تَقْدموها) أخرجه البيهقي، وذكر له شواهد من الصحاح وغيرها (ص581، ج 29 أيضًا) .

(5)

حكاية الإجماع باطلة كما أشرنا إليه في حاشية سابقة، وإن الحافظ ابن حجر قال إنهم يعدون المتغلبين على الخلافة من البُغاة الخارجين عن السلطة الإسلامية، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

(6)

بتأمل كلمة (أهله) - وما يراد بها شرعًا - هل يمكن أن يكون منها الظالمون المستبدون؟ ! .

(7)

أكثر هذه المفاسد على جرثومتها أن الأمر يجري على القوة لا على الشريعة، وأي حاكم تخضع له الأمة خضوعًا أعمى، ثم يقف عند حدود الحق والعدل فلا يتعداها على علم ولا عن جهل.

(8)

الصواب أن هذا من لوازم الخضوع لكل قوي يتغلب؛ إذ لو كان أصحاب هذه المطامع يعلمون أن الأمة إنما تخضع للحق لا للقوة، وأنها لا تزال تقاتل المستبد الخارج حتى يهلك أو تهلك - لما خرج عليها خارج، ولا تغلَّب مستبد ظالم، وكلام الأستاذ أبي الكلام هنا متعارض متدافع، وبعض ما فرضه من صور المسالة غير متعين الوقوع بل نادر، ومقاومة الظلم والاستبداد، وتغيير المنكر فرض لازم، ولكن يُراعَى في تنفيذه ارتكاب أخف الضررين عند التعارض.

(*) الكاتب فرض صورة للتعارض بين الحق والتغلب لا تطَّرِد، بل قلما تقع، وجعلها قاعدة للترجيح، إن مجموع الأحاديث الواردة في الإمامة والإمارة تدل على أمور يعزّ أن تجدها مجموعة في مكانٍ واحدٍ، فتجمع بها بين ما يتراءى لك فيها من التعارض:

(أ) أن الإمام الأعظم (الخليفة) يجب أن يكون من قريش،

(ب) أن طاعة الإمام واجبة شرعًا ما دام مسلمًا، يقيم الصلاة بالناس، ويقودهم بكتاب الله، وإنما الطاعة بالمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،

(ج) أن طاعة الأمراء والولاة والعمال - الذين يوليهم الإمام قيادة الجيوش والإدارة والقضاة والجباية- يطاعون، وتؤدَّى إليهم الحقوقُ بالشرط الذي يطاع فيه الإمام بالأولى، وفي حديث يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين بنت إسحق الأحمسية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول:(ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا) رواه مسلم وفي أحاديث أخرى: (ولو كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف) ، ومنه حديث علي عند الحاكم مرفوعًا بإسناد جيد، ورجح الدارقطني وقفه، قال في آخره:(وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيَّا مجدعًا فاسمعوا له وأطيعوا) ،

(د) أن ظلم الأئمة والأمراء وفسقهم وأثَرَتهم لا تبيح لأفراد الأمة عصيانهم فيما يأمرون به من المعروف؛ لأن ذلك يستلزم ما هو شر منه، وهو الفوضى وفساد جميع الأمور العامة، فكل ما ورد في كتب الكلام والفقه وشروح الأحاديث من وجود الطاعة فالمراد به ما ذكرنا لما عللناه به،

(هـ) أن ذلك كله لا يدل على وجوب رِضَى الأمة بالظلم والبغي والأثرة، ولو من قريش، ولا على الخضوع لكل قوي مستبد، ويستحيل أن يكون هذا حكم الدين وهو يهدم الحق والعدل والفضيلة ويفسد على الأمة دِينها ودُنياها، ولا يمكن ترجيح أحاديث الطاعة المطلقة على الأحاديث المقيدة لها بالمعروف والشرع وعلى سائر النصوص المعلومة من الدين بالضرورة، وإنما يظهر الجمْع بينها بأن على الأفراد السمع والطاعة وعلى أهل الحل والعقد من زعماء الأمة التي هي صاحبة السلطان، وهم أهل الشورى والزعامة فيها أن يوقفوا الأئمة والأمراء عند ما أوجب الله من الحق والعدل والتزام الشرع بما دون الخلع لغير الكافر إن أمكن، وأن يستعدوا لذلك بما تترجَّح به المصلحة على المفسدة، وكذلك فعلت كل الأمم التي استقام أمر حكومتها، ولم توطن أمة نفسها على الخضوع إلا كانت من الهالكين، وإطلاق القول بالخضوع للمستبدين الجائرين لأجل قوتهم خطأ عظيم، وأية حكومة قامت بالقوة، ثم قاومتها الأمة برأي زعمائها ولم تسقط؟ وسيأتي ما يقرب من هذا الجمع من النووي.

(9)

قال الحافظ - في شرح حديث البخاري في المبايعة على السمع والطاعة الذي تقدَّم في الأصل عند قوله فيه من كتاب الفتن: (وأن لا ننازع الأمر أهله) ، أي المُلك والإمارة، ثم ذكر زيادات في الحديث من روايات أخرى، منها:(وأن نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم) وذكر - في شرح قوله -: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد والطبراني والحاكم من روايته عن أبيه عن أُبَيّ عن عبادة: (سيلي أمورَكم من بعدي رجالٌ يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمَن عصى الله)، وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفْعه:(سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة) وقال - في شرح قوله -: (عندكم من الله فيه برهان) ، أي من نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تُنازِعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم اهـ، وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر والذي يظهر حمْل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصَّل إلى تثبيت الحق بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم ونقل ابن التين عن الداودي، قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً، فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه اهـ (ص524، ج 29 طبعة الهند) .

ص: 361

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(6)

ثم لا ينبغي أن ننسى أن لجبل لبنان علةً ثانيةً زادته وبالاً على وبال، وهي

ولوع أهله بتربية التوت، وترفيههم هذه الشجرة ما استطاعوا إليه سبيلاً، وهم

معذورون في ذلك؛ لأن الجبل بضيق أراضيه ووعورتها لا يُلام أهله في اعتمادهم

على التوت الذي منه الحرير، وهذا القليل منه يغني عن الكثير من غيره، ولكن

حال الحرب ليست كحال السلم، فلما نشبت الحرب العامة نسوا أن البحر سيصبح

مسدودًا في وجههم، وأن البر من الداخل ستقل فيه المزروعات بسبب ذهاب الشبان

كلهم إلى العسكرية، وأخذ الجيش للبقر والجِمال، وربما لم ينتظروا أن يكون أمد

الحرب سنوات متعددة، بل ظنوه بضعة أشهر، فلم يعملوا شيئًا من الحيطة لأنفسهم،

وبقوا يعاملون التوت كالأول، وكما لو لم تكن حرب، ويأبون أن يزرعوا ببر

شجره قمحًا أو شعيرًا؛ لئلا يلحق من ذلك ضعف بالشجر، وكذلك بين شجر

الزيتون وغيره من الأشجار، وظنوا في أنفسهم أن الدولة لا بد أن تميرهم من

حوران والشام وحلب وغيرها. وكانوا يقولون: إن السلطان بلاده واسعة؛ فلا

يعجز أن يبعث إلينا بحاجتنا من الحبوب، وفاتهم أن أكثر بلاد السلطان بعيدة عنهم،

وأنه لا يربطها بهم سوى خط حديدي واحد، لا يقدر أن يقوم بنقل مئات الألوف

من العساكر مع مدافعها وأثقالها، وبشحن جميع لوازم الأهالي، وأن رجال

العسكرية في الحرب لا يقدمون شغلاً على شغل الحرب، غفلوا عن هذه الأمور،

وتوهَّموا أحوال الحرب كأحوال السلم، فقتلهم الجهل، وعندي ألوف من الشهود من

أهل الجبل أنني من أول الحرب، حتى من قبل خوض الدولة غمراتها، كنت

أطوف على اللبنانيين وأعظهم وأبصرهم العواقب قائلاً لهم: ازرعوا جميع

أراضيكم، ولا تعفوا، ولا على ما يتخلل منها التوت أو الزيتون، فإن الأهم يتقدم

على المهم، وإني أخشى بشدة ترفيهكم لأشجاركم أن تموتوا جوعًا، والشجر ليس

بأغلى من البشر، فلم يستبينوا النصح إلا ثالث سنة، عندما مستهم اللأْواء،

ورأوا أنفسهم هالكين إن لم يفعلوا، ولكن كان الضعف يومئذٍ قد استولى على كل

شيء، ونضبت أكثر موارد الإنفاق فلم يبقَ من قوة لزرع جميع تلك الأراضي التي

لو زرعوها من أول سنة مع ما ينالها من الري الوافي لجاءت بغلال تحجب عين

الشمس، ولكانت قوة لهم للسنين الشديدة التي جاءت فيما بعد، فأنت ترى أن

الجهل بأحوال الحروب وبعواقبها، والاعتقاد بكوْن الدولة تقدر على كل شيء -

كانا من أسباب هذه المصيبة الكبرى، وكيف تقدر الدولة أن تطعمهم كفايتهم، وقد

عجزت في الآخر عن إطعام جيشها، وكان الجوع من أفعل الأسباب في فشل الدولة

بالحرب، ولقد علم القاصي والداني كيف كانت الألوف تفرُّ من الجيش العثماني في

فلسطين من قلة القوت، وكيف كانوا فيه يقتاتون الحشائش، ويموتون ألوفًا من

سوء التغذية، وكيف كان الولاة بأنفسهم يذهبون إلى جبل الدروز بأيديهم الذهب

الرنَّان الأصفر، يعرضونه على أهله؛ ليأخذوا بدله ما يميرون به العسكر، وكثيرًا

ما كانوا يخفقون في سعيهم، وبقيت الأقوات مدة مديدة ترد على جيش فلسطين من

قونيه من قلب الأناضول، وذلك لخُلُوّ سورية ثم حلب ثم أطنه نفسها مما يكفي

الجيش والأهالي معًا، فالذي يقصد (التجويع) لا بد أن يكون هو شبعان لا جائعًا،

وإلا فلا يكون قصد التجويع، بل يكون أُصيب هو بالجوع، وعجز عن الميرة،

ومَن عجز عن كفاية نفسه فهو عن كفاية غيره أعجز، وربما قيل ما دامت

الأناضول فيها أرزاق، فلماذا بخلت بها الدولة على أهل سورية، والجواب لم يكن

في الأناضول أرزاق تفيض عن حاجة أهلها، بل اشتد الغلاء في كثير من ديار

الأناضول، ووقعت المجاعة في القسم الشرقي منه، ومات مئات ألوف من أهله

جوعًا، وكثير من السوريين الذين كانوا منفيين في الأناضول، ولا سيما في جهات

سيواس وطوقات يشهدون بذلك، فإن قلنا: إن الأتراك أماتوا نصارى لبنان تجويعًا

لمحبتهم فرنسا، فقد مات ألوف مؤلفة من مسلمي سورية من الجوع، أو من

الأمراض الناشئة من فقد الغذاء والدواء (وأكثر الموت الذي وقع في لبنان هو

أيضًا بالأمراض الناشئة عن ذلك، ومات بعض بالجوع رأسًا) ، فهل قتلت الدولة

هؤلاء المسلمين أيضًا لحبهم لفرنسا؟ ، وإن رد بأنها تعمدت قتل هؤلاء لكونهم

عربًا، فهل تتعمد قتل أتراك الأناضول ومهاجري أرضروم ووان وبتليس

إلخ

وهم أتراك وأكراد وجميع ارتكانها هو عليهم؟ وهل كان هؤلاء الأتراك والأكراد

إلى تلك الدرجة ذائبين في حب فرنسا، حتى قتلتهم الدولة؟ ! وإذا كانت

الموصل - التي هي من أخصب بلاد الله وأوفرها زرعًا وأدرّها ضرعًا - بلغ من

شدتها أثناء الحرب أن أكل الناس فيها لحوم البشر! ، فهل يعجب الإنسان من أن

تمس المجاعة أهل جبل لبنان، الذي أكثره صخور صمَّاء، وأتربة جرداء؟ !

كنا في الآستانة سنة 1917 و 1918، وكان كثير من الفقراء فيها يموتون

جوعًا، وهي عاصمة الملك، وكان الأغنياء يوزَّع عليهم الخبز الأسود المجهول

الماهية بمقادير قليلة! ، ولولا فتح ألمانيا وحلفائها بلادَ رومانيا الغنية بالحنطة

والذرة، وجلب الأتراك منها ما نفَّس قليلاً من خناق الآستانة - لم يكن أحد يعلم ماذا

كانت تئول إليه حالة الإعاشة في نفس العاصمة.

مع هذا كله يوجد كثيرون ممن يقرؤون كلامي هذا سيتميَّزون من الغيظ

لاجتهادي في إثبات كون المجاعة في سورية حصلت من حالة الحرب الطبيعية

وبتواليها بضع سنين، وبالحصر البحري المحكم، وأن مثلها وأشد منها قد أصاب

بلادًا أخرى من ممالك الدولة العثمانية ومن غير الممالك العثمانية، مثل: مكدونية

والصرب أو بولونية وروسية، ولولا كثرة الخطوط الحديدية لقلنا النمسا وألمانيا..

إلخ، ويقولون: لماذا أحاول أن أنفي كون الأتراك جوَّعوا أهل لبنان عمدًا

وتصميمًا لمجرد حبهم لفرنسا، ولكون أكثرهم نصارى، فهذه الإشاعة يحبون أن

تبقى سارية ماشية رائجة، وهذا الحجاب يودون لو يبقى دائمًا - على حقيقة الحال-

مسدولاً كُرهًا بالدولة السابقة في سورية، وتحببًا وتقربًا إلى الدول المحتلة.

والجواب أن الحق يجب أن يعلو ولا يُعلَى، وإذا كانوا هم يبغضون الأتراك

فليبغضوهم ما شاءوا، ولكن ليحبوا الحق الذي لا يجوز أن يُجحد بغضًا بزيد، ولا

حبًّا بعمرو. والأتراك لهم سيئات كثيرة، وجمال باشا أتى أعمالاً ذكرناها،

وقبَّحناها، ولكن ذنب التجويع هذا هم أبرياء منه، فإن كان لبعض الناس أغراض

سياسية في ديمومة هذه الإشاعة إما تزلُّفًا إلى الحلفاء، وإما تمهيدًا للعُذر من النفور

من كل حكومة إسلامية

بدعواهم كون الحكومة العثمانية قتلت بالجوع ألوفًا من

مسيحيي لبنان

فهذه الأغراض السياسية ليست عندنا، لا بل يجب علينا أن

نبينها، ونشرحها، وننبه إلى خطرها، وما يترتب عليها من مضار التفرقة بين

الأمتين اللتين يجب أن تكونا متحدتين إن أرادتا عمران هذا الوطن، فقد طالعت

مرة مجلة (مراسلات الشرق) - المحررة بالفرنسوية التي ينشرها بباريز هذا

المسمى بالسمنة - فوجدت من جملة تُرَّهاتها أن باخرة مشحونة أرزاقًا جاءت إلى

سورية أثناء الحرب، فأفرغت مشحونها، ووزعه جمال باشا على المسلمين،

وحرم النصارى!

فالذي تبلغ به قحة الافتراء وهوس التفرقة بين المسلمين

والنصارى - أن يزعم كوْن الباخرة التي وردت من أميركا بأرزاق لأهل السواحل،

ووقفها الإنكليز في الإسكندرية، ولم يسمحوا بوصولها إلى بيروت قد وصلت،

وأفرغت، واستفاد منها المسلمون دون المسيحيين، لا عجب أن يكون هو

وأضرابه مروِّجين لحديث (التجويع) المقصود، ولا غرو أن نكون نحن ممن

يتوخى فضيحة تلك الأضاليل، حتى يزول أثرها السيئ من الأذهان.

إنه سيظهر لك - أيها القارئ مما سيأتي بالدليل القاطع والبرهان الساطع -

أنه لو شاء الحلفاء لأوصلوا الإعانات إلى سواحل سورية، كما أوصلوها إلى ممالك

أخرى عضَّها الجوع بنابه أثناء الحرب، ولوَقوا من الموت أولئك الألوف الذين

ماتوا من مسلمين ونصارى، إن الحلفاء - مع كونهم في حال حرب مع ألمانيا -

أمكنهم أن يتفقوا معها على إعاشة بلجيكا، وتعينت لذلك لجنة مؤلَّفة من متحايدين

أسبانيين وهولنديين، كانت تأتي بالحبوب والأرزاق من أميركا، وتوزعها على

المعوزين في بلجيكا، وعلى كل مَن ينقصه شيء، فلم يمنع وجودهم محاربين

للألمان من أن يتفقوا معهم على إغاثة أمة، أشفقوا أن يمسها الجوع، ولقد ثبت أنهم

أرسلوا إلى البولونيين بإمدادات وافرة وإلى الصربيين وإلى غيرهم، فلو كانوا

يحبون أهل لبنان - كما يدَّعون - لاتفقوا مع الدولة العثمانية وقتئذ، وأغاثوهم ولو

بسداد من عوز، ولأنقذوا تلك الخلائق من الموت، أو لسمحوا على الأقل بتسريب

الإعانة التي أرسلتها أميركا لأجل سورية، والإعانة التي كان البابا ينوي إرسالها

إلى المسيحيين وهم كانوا الحائلين من دونها، أفتكون هذه هي الحقيقة، وتكون

التبعة العظمى في عدم دفع هذه المجاعة عليهم، ونأتي نحن لأغراض في الأنفس،

فنبرِّئهم من جناية هم أنفسهم أدرى بأنهم كانوا فاعليها لأسباب حربية وسياسية قامت

في نفوسهم، ونقول لهم: كلا، إنما أجاعنا الأتراك وأنتم أولاء أحييتمونا، ولكثرة

ما نردد أمامهم هذه الكلمة يبلغ بهم الأمر أن يظنوا كونهم صاروا أحق بالبلاد من

أهلها، وأن يصارحونا بقولهم: لولانا لكنتم جميعًا هلكتم جوعًا، كما رددوا ذلك

مرارًا، وآخر مرة أعلنها الجنرال غورو على مائدة غبطة البطريرك الماروني في

الديمان بدون محاباة.

هذا، ولقد آن لنا أن نستشهد على أسباب هذه المجاعة بكلامِ عظيمٍ، هو

بطريرك الطائفة المارونية من تقرير أرسل به إلى جمال باشا سنة 1916، وبعث

هذا بصورته مع صور الكتب التي وردته من سائر البطاركة إلى الفاتيكان؛ ليطلع

حضرة البابا عليها، فالبطريرك الحويك يطري الدولة العثمانية إطراءً عظيمًا في

مراحمها ومكارمها، وشخص جمال باشا في إدارته، ويدافع عن أعماله، ويبرِّرها،

ثم يقول ما تعريبه: (لأن أصل التقرير باللغة الفرنساوية) بالحرف.

شهادة بطرك الموارنة للترك وجمال باشا:

(أما ما يوجهونه من التهم بشأن وسائل الضغط والتضييق التي بزعمهم قد

استعملتها الحكومة بحق السوريين ولا سيما الموارنة اللبنانيين كالإجاعة والنفي -

فإننا نجد من العبث الاجتهاد في إبطالها، وإنما نأسف من كوْن هذه الأراجيف

المصطنعة هي عمل بعض ذوي المآرِب؛ ولذلك نعلن عدم موافقتنا لهم، وننتدب

من تلقاء أنفسنا وبكل حرية للدفاع عن الحقيقة المقدسة والعدالة السامية.

إنه كما حصل في جميع الممالك المحاربة قد وقعت عندنا أيضًا نوازل هامة

ومصائب بطبيعة الحال، وذلك مثل الجراد الذي أكل مواسم البلاد، والحصر

البحري، وحجز دول الائتلاف ما يرد باسم السوريين من الحوالات من أميركا،

وغلاء الأسعار، وقلة مواد الرزق الوطنية، وتعذّر إصدار محصول الحرير، فهذه

المحن جاءت كلها دفعة واحدة، وبدون اختيار الحكومة العثمانية، ووضعت البلاد

في مركز ضَنْك، ولكن لحسن الحظ قد تمهدت جميع هذه العقبات بعناية الدولة

الأبوية ومآتيها الخيرية، ولا سيما بالمساعي المتواصلة والتدابير المؤثرة التي كان

يأتيها حضرة صاحب الدولة أحمد جمال باشا قائدنا الشهير ناظر البحرية، وقائد

قواد الفيلق الرابع، الذي كَرَمُ سجيته منقوشٌ على صفحات القلوب، وصدى أعماله

الخيرية (سيرن) مدة أعصر طويلة من أعلى جبل لبنان الشهير، نعم إنه بحق

يعد أهل سورية - ولا سيما المسيحيون منهم - وجود دولته في بلادهم إحسانًا

عظيمًا، ونعمة من الله.

وأما الأسطورة التي معناها أن الموت جوعًا قد فشا في الشعب اللبناني بسبب

الحصر المقصود الذي تجريه الحكومة، فهذا افتراء فظيع، ولقد بينا أسباب ذلك،

كذلك لم تحشد جنود في الجبل لأجل التضييق على أحد من الأهالي، بل بالعكس قد

كان هذا الجند المرابط لأجل الدفاع عن البلاد - ذا فائدة عظيمة في توطيد الأمن

العام، الذي لم يوجد قط في لبنان قبل الحرب كما وُجد الآن، وكانت سيرة هذا

الجند - التي هي مثال الأدب - فوق مدح كل مادح؛ مما اقتضى عرفان الجميل.

كذلك يعزون إلى الحكومة كوْنها تصرفت بشدة بحق أشخاص اتُّهِموا بالخيانة

وقد ثبتت جريمتهم، وتوضَّحت بوثائق رسمية، والذي لا بد من الاعتراف به هو

أن مثل هذه التدابير الشديدة التي لا مناص منها في هذه الأحوال - هي مما يجريه

جميع الممالك المتمدنة (هنا مَثَل لاتيني مذكور بنصه ومعناه:) إن أسمى عدالة

هي سلامة الوطن.

كذلك نرد صريحًا هذه الإشاعة الغريبة، وهي أننا قد أُشْخِصْنا بذاتنا إلى

الديوان الحربي في حلب، نحن الذين لا نزال موضوع الكرامة العظيمة والبر من

قِبَل حكومتنا العزيزة وممثلها قائدنا العظيم.

وبالنهاية بجميع قوة عواطفنا ومن صميم فؤادنا نعلن أنه ليس لنا إلا أمنية

واحدة ودعاء واحد، وهي أن القادر على كل شيء يحرس السلطنة السنية،

ويقودها من نصر إلى نصر إلى الظفر النهائي، ونضم إلى هذا الدعاء التأكيد

باسمنا وباسم جميع الموارنة بالتخصيص - أنه إن كانت فرنسا يومًا من الأيام أو

عدوة أخرى أية كانت تجسر أن تتعرض لهذه البلاد من أجزاء سلطنتنا، فلتعلم أننا

بأجمعنا مستعدون للقتال في صفوف حكومتنا العزيزة، ولبذل جميع مجاهيدنا،

ولتحمل كل مناداة طوعًا واختيارًا، ولنسفك دماءنا إن مست الحاجة إلى آخر نقطة) .

...

...

إلياس بطرس الحويك البطريرك الماروني

وربما قيل إن هذا التقرير فيه استطراد إلى غير مسألة المجاعة، فما معنى

نشره كله، والجواب أننا لم ننشره كله لطوله، بل نشرنا القسم الأخير منه لما فيه

من جلاء الشبهات، ولكوْن الكلام آخِذًا بعضه برقاب بعض، فلا يحسن اقتضابه،

وإن شاء القراء ننشره من أوله إلى آخره بالحرف؛ لأنه وثيقة تاريخية عظيمة

القيمة، كما أننا بعد شهادة البطريرك الماروني هذه - ننشر الآن تقرير غبطة

بطريرك الروم الأرثوذكس المتقدم إلى جمال باشا أيضًا مع كتاب خاص، وهذا

نص الكتاب معرَّبًا بالحرف:

كتاب بطرك الأرثوذكس لجمال باشا:

يا صاحب الدولة إننا باسمنا وباسم الشعب الأرثوذكسي في سورية وفلسطين

نتشرف بأن نرفع إلى معارف معاليكم ما يأتي:

لقد أثَّرت بنا جدًّا العبارات الجارحة التي دارت بحق حكومتنا السنية في

البرلمان الفرنساوي، ورددتْها الصحافة الفرنسية، والتي صداها يجرح كرامتنا

نحن العثمانيين الصادقين؛ فلذلك جِئنا بالوثائق الملحقة محتجِّين علنًا على هذه

الأكاذيب الوقحة مفنِّدين هذه المزاعم الباطلة.

وهكذا فلأجل شرف الأمة العثمانية وبمقتضى الحرارة الوطنية المقدسة جئنا

نرجو من دولتكم - أنتم حامي سورية وفلسطين وأعظم المحسنين عليهما - أن

تأذنوا بنشر هذه الوثائق لأجل نُصرة الحقيقة.

وفي جميع الأحوال نبتهل إلى الله القادر على كل شيء بأن يحفظ شخص

دولتكم، ويرفعكم من مجد إلى مجد لأجل سعادة وطننا العزيز.

...

...

... دمشق: الرابع عشر من أكتوبر

...

...

...

...

السنة الألف والتسعمائة والسادسة عشرة

...

...

...

... غريغوريوس الرابع

...

...

...

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

أما التقرير التابع للكتاب فهو ما يأتي معربًا بالحرف:

(إلى دولة أحمد جمال باشا ناظر البحرية وقائد الفيلق الرابع)

في هذا اليوم لا يجهل أحد ما قيل في البرلمان الفرنساوي، وما رددته

الصحف الفرنسية بشأن المسيحيين عمومًا في سورية وفلسطين.

زعموا أن لفرنسا نفوذًا سائدًا في هذه البلاد الجميلة التاريخية، التي هي جزء

من السلطنة العثمانية، وادَّعوا أن الحكومة العثمانية تستعمل وسائل القهر والتضييق

على المسيحيين في هذه الديار قاصدة ملاشاتهم بطرق متنوِّعة كالتجويع والنفي

إلخ.

فنحن على ثقة بأن فرنسا تحاول أن تقف عنا موقف دفاع لا فائدة له من أجل

غرض في نفسها، وإننا نحن معاشر العثمانيين العائشين منذ قرون عديدة في هذه

السلطنة أدرى بأمورنا، وأوْلى بالدفاع عن حقوقنا.

نسأل الله أن لا يجعل مصيرنا أبدًا مرهونًا إلى رأفتهم.

فباسمنا نحن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في سورية، وفي كل المشرق

التي هي أقدم كنيسة في الشرق نحتج بكل قوتنا على ما قيل بغير حق عن

حكومتنا العثمانية العادلة.

لا يلزمنا أن نبحث في التاريخ، وأن نسأل الأعصر الماضية لأجل إبطال هذا

الحق التاريخي التي تدعيه فرنسا؛ فنصارى سورية لم يزالوا هم قَرَابين أولئك

الذين يزعمون أنهم حَمَلتهم.

أَيْ فرنسا، هل تقدرين أن تقولي لنا عما إذا كانت حرية الأديان محترمة

تحت ظل شرائعك كما هي محترمة عندنا؟ ، وهل الكنيسة والأكليروس متمتعان

في أرضك بالحماية التي تحوطنا بها نحن الأكليروس والشعب المسيحي حكومتنا

السنية؟ .

نحن إذًا مفتخرون بأن نعلن على الملأ أنه في ظل مكارم حكومتنا العثمانية

السلطانية وعنايتها الأبوية لا مسيحيو سورية وفلسطين فقط، بل الأكليروس

المنسوب إلى فرنسا الحرة نفسها يتمتعون في ظل هذه العناية بما هم محرومون منه

في بلادهم!

وبناءً على ما تقدم كان لنا الحق أن نرى فرنسا تدفعنا إلى تجديد شكرنا لدولتنا

العلية، بدلاً من أن نعزو إليها تهمًا باطلة، ونضيف إلى ذلك القول بأن مسيحيي

سورية وفلسطين هم من عناية حكومتهم الأبوية في غِنًى عن كل عضد آخر.

أيصح أن يكون لنا ضلع إلى حكومة أجنبية عندما نكون عارفين يقينًا أن

دولتنا هي أعدل وأفضل من الحكومة التي نريد أن نختارها؟ ، إذًا يكون ذلك منا

فداء السعادة.

ونسأل - من صميم القلب - الإله القادر على كل شيء أن يحرس إلى الأبد

حكومتنا المحبوبة، وأن يوفقها إلى تحقيق جميع مقاصدها الشريفة.

وأما الحالة الحاضرة - وما أوجدته من الأزمات - فنعترف بأن مثل هذه

الأزمات هي من شأن آونة كهذه، على أنها تلطَّفت كثيرًا بعناية حكومتنا، وليس

من حكومة يحق لها أن تفتخر بالاعتناء بمثل ذلك برعاياها.

وبوصولنا إلى هذه النقطة لا يسعنا أن نضرب صفحًا عن ذكر علة سعادتنا

والمحسن العظيم على النصرانية في هذه البلاد صاحب الدولة أحمد جمال باشا ناظر

البحرية وقائد الفيلق الرابع، الذي صورته السامية تبقى مرسومة أبدًا في قلوب

المسيحيين، ومآثره مكتوبة بأحرف من ذهب في تاريخ بلادنا) .

غريغوريوس الرابع بطريرك إنطاكية وسائر المشرق.

وهناك تقرير ثالث مصحوب بكتاب أيضًا إلى أحمد جمال باشا من (نيافة)

المطران ديمتريوس القاضي قائم المقام البطريركي للروم الكاثوليك، لا حاجة إلى

تعريبه ونشره؛ لأنه طويل وأشبه بأخوَيْه السابقيْن، ويزيد بكونه لا يعرف

للكاثوليك الشرقيين علاقة لا بفرنسا، ولا بدولة أخرى أجنبية، بل بالبابا فقط.

وهذه العلاقة مع الكرسي البابوي هي دينية محضة، وربما قيل إن تقارير البطاركة

هذه لا عبرة بها؛ لأنها استُكتِبت تحت الضغط والإكراه في زمان كان السيف فيه

ينطف دمًا!

والجواب أن أمثال هؤلاء الرؤساء المبجلين يُجَلُّونَ عن أن يكتبوا خلاف

اعتقادهم، ولم نسمع قط يومئذ أن أحدًا أجبرهم على هذه الكتابة، أو أنذرهم بشرّ

إن تأبَّوْا أن يعطوا هذه الشهادات، وكانت كرامتهم دائمًا محفوظة أيام الحرب

وتوقيرهم تامًّا.

ومرة تكلم أمامي أنا جمال باشا مع بطريرك الأرثوذكس في أن يحرر شيئًا في

جريدة الشرق، فلم يجاوبه البطريرك أصلاً، وكنت أراه معه في غاية المتانة،

فرجل كهذا لا يصرح بهذه الشهادة الطويلة العريضة إن خالفت وجدانه، وقصارى

ما في الأمر أن يكون جمال باشا أرسل إليهم بأنه في مجلس البرلمان الفرنساوي

قيل كذا وكذا - فماذا يقولون هم؟ ! ثم إن قيل إن هذه الكتابة من غبطة البطاركة

وقعت يومئذ بالإكراه والإجبار - وهو ما لم يقع - فلماذا لا يقال إن إنكار بطريركي

الأرثوذكس والموارنة للمؤتمر السوري الفلسطيني المنعقد في جنيف - هو واقع

أيضًا تحت مثل هذا الضغط من الجنرال غورو، ولماذا تتبجح بذلك فرنسا وأذنابها،

ويعدونه حجة علينا؟ !

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 373