المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: ‌شوال - 1340ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك اللهم على ما أسبغت علينا من نِعَمك الظاهرة في السراء، والباطنة

في الضراء، وأريتنا من آياتك في الآفاق بتنازُع الباغين الطاغين وفشلهم، وفي

أنفسنا بالتأليف بين المستضعفين المُؤذَن بظفرهم، وأتممت النعمة بما أكملت لنا قبلُ

من الدين، واستخلفتنا في الأرض، فجعلتنا أئمةً وارثين؛ إذ جعلت إرثها لأهل

العدل من عبادك الصالحين، ونصلي ونسلم على مَن بعثتَه خاتمًا للنبيين، محمد

نبي الرحمة الأمي، المعلم للكتاب والحكمة، وآله وعِتْرته، وكل مَن فاز بصحبته،

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} (الأنفال:

74) ، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا وصبروا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ

بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ

لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .

أما بعد: فإن المنار يبشر قُراءه في فاتحة المجلد الثالث والعشرين، وخاتمة

ربع قرن من جهاد مُنشئه في خدمة الشرق بإصلاح حال المسلمين، وبعد انقضاء

جيلٍ مِن صيحة أستاذَيْه الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين، بأن ليل الذل

والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس، فقد ذهب طور الترف

والفسوق المهلك للأمم، والمفسد للحكومات والدول، وصرنا إلى طور الشدائد

الممحِّصة للقلوب، المُذْكية لمصابيح العقول، الموقدة لنار الهمم،المظهرة لاستعداد

الأمم، بإزالة الأحقاد، وجمع الكلمة على الجهاد {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن

يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا

وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا

يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214) .

جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوَحدةِ، وجمع كلمة الأمة،

بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن، وما هدى إليه من سننه المُطَّردة في أطوار

الإنسان، عالمين أن هداية القلم واللسان، لا يغيران ما رسخ في القلوب والأذهان،

إلا بقدر تربية كوارث أحداث الزمان، وإنما تتغير أحوال الأمم بتغيُّر الأعمال،

التي تنبعث عما ثبت في الأنفس من الأفكار وملكات الأخلاق {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا

بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً

أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) .

ألا وإنه قد أتى الأوان، للعمل بما أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان

أهل هذا الزمان، من أهل مصر والسودان، وسائر العرب والهند والترك

والفرس والأفغان، فهاؤم اقرؤوا بعض قواعدهما التي نشرناها في الشرق، في

مثل هذا الشهر من السنة الأولى بعد ثلاثمائة وألف:

(خفيت مذاهب الطامعين أزمانًا ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما لا

تنكرها الأنفس ثم التوتْ، أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء، حتى

تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم، وخرجوا بهم عن

محيط النظر، وبلغوا بهم من الضيم حدًّا لا تحتمله النفوس البشرية.

ذهب أقوامٌ إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطان الخيال، فظنوا أن القوة

الآلية وإن قل عمالها - يدوم لها السلطان على الكثرة العددية وإن اتفقت آحادها،

بل زعموا أنه يمكن استهلاك الجم الغفير، في النزر اليسير، وهو زعم يأباه

القياس، بل يبطله البرهان، فإن تقلبت الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقة

بأنه إن ساغ أن عشيرةً قليلة العدد فنيت في سواد أمةٍ عظيمةٍ ونسيت تلك العشيرة

اسمها ونسبتها فلم يجز في زمن من الأزمان امِّحاءُ أمةٍ أو مِلَّةٍ كبيرةٍ بقوة أمة تماثلها

في العدد أو تكون منها على نسبة متقاربة وإن بلغت القوة أقصى ما يمثله الخيال،

والذي يحكم به العقل الصريح، ويشهد به سير الاجتماع الإنساني من يوم عُلِمَ

تاريخُهُ إلى اليوم - أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف الافتراق في الكلمة، أو غفلة

عن عافية لا تُحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيمٍ يزول، ثم صالت

عليها قوة أجنبية أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالت عليها وخزات الحوادث

وأقلقتها آلامها فزعت إلى استبقاء الموجود، ورد المفقود، ولم تجد بُدًّا من طلب

النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهى ما تكون بالتئام

أفرادها، والتحام آحادها، وإن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي -

ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد وهو أيسر شيءٍ عليها.

إن النفوس الإنسانية - وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت - إذا كثر

عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه

الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمَّر

ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادًا.

ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها

تدارُك ما فرط، والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لها الظفر

والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يطاق إذا قام بتدبيرها القَيِّم عليها

ومدبر لسيرها - لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها قهر ذلك القيم،

وإهلاك ذلك المدبر؛ فإن العلة مادامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن

ذهب قَيِّمٌ خلفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة. نعم، يمكن تخفيف الأثر أو

إزالته بإزالة علته ورفع أسبابه.

جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمَن يباينها في الأخلاق والعادات

والمشارب وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمَن هو على شاكلتها، فكيف بها

إذا حمَّلها ما لا طاقة لها به؟ ، لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما

أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما تباعدت منه لجهة كونه غريبًا - تقرب بعضها

من بعض، فعند ذلك تستصغره، فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب!

إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تُنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في

الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمّها من الخطر ألزم من التحزب

للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من

دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.

أَبَعْدَ هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركة فكرية في أغلب أنحاء المشرق في

هذه الأيام؟ ! كُلٌّ يطلب خلاصًا ويبتغي نجاةً وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب

ما يصل إليه فكره على درجته من الجودة والأَفَن، وإن العقلاء في كثير من

أصقاعه يتفكرون في جعْل القُوى المتفرقة قوة واحدة يمكن لها القيام بحقوق الكل.

بلى كان هذا أمرًا ينتظره المستبصر، وإن عمي عنه الطامع، وليس في

الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه،

بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه - سيكشف لهم وَهْمَهُم فيما

كانوا يظنون! .

بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب

منهم نكايته، خصوصًا في المسلمين منهم، فمنهم ملوك أُنْزِلوا عن عروشهم جورًا،

وذَوُو حقوق في الإمرة حُرِموا حقوقهم ظلمًا، وأَعِزَّاء باتوا أَذِلاّء، وَأَجِلاّء

أصبحوا حُقَراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصِحَّاءُ أضحوا سِقامًا، وأُسُود تحولت

أَنعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسَّها الضُّرُّ من إفراط الطامعين في

أطماعهم خصوصًا من جرَّاء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي

المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها: حملوا إلى البلاد ما لا

تعرفه فدهشت عقولها، وشَدُوا عليها بما لا تَأْلفُهُ فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس

في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضَّدُوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة

ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع، فكانت الحركة العرابية العشواء، فاتخذوها

ذريعة لما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب بل طوفان المصائب على

تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب ولكن أخطأ الظن وهَمُّوا بما لم ينالوا - إلى

أن قال -:

(ولو أنهم تركوا الأمر من ذلك الوقت لأربابه، وفوضوا تدارك كل

حادث للخبراء به، والقادرين عليه، العارفين بطريق مدافعته، واقْتِنَاء فائدته -

لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة، بدون أن تزل

لهم قدم، أو يُنَكَّسَ لهم عَلَمٌ.

غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرق الكلمة، وتشتت الأهواء

وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب،

وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلب المعتدين؛

فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعُوفي منه باقيها كانت سلامةً لبعضٍ،

تعزيةً للمصابين وحجابَ غفلة للسالمين، يحُول بينهم وبين الإحساس بما أصاب

إخوانهم، أما إذا عَمَّ الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر،

فيندفعون إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.

إن الفجيعة بمصر حركت أشجانًا كانت كامنة، وجددت أحزانًا لم تكن في

الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من

تذْكارِ الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس

زفيرًا، بل.. بل يكون صاخَّة تمزق مسامع مَن أصمه الطمع.

إن أَوْلَى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في

فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أَسِنَّة يحفظ

بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان، متقاربة الأشكال،

كحافظ عروش الملوك والمُدافع عن ممالكهم، ومثبت مراكز الأمراء، ومسكن الفتن،

ومخلّص الحكومات من غوائل العصيان، وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما

يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق

الذي يكفي لتمزيقه رَجْعُ البصر، وكَرُّ النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد

تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مُكنتهم وهو يعلم أن الكلمة

إذا اتحدت لا تُعْوِزها الوسائط، ولا يعدم المتحدون قويًّا شديد البأس ويساعدهم

بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب،

فهو يَضُرُّ ليضرَّ، وإن مسه الضر.

إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين

الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار

العقلاء وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت

بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى

معالجة علل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومُؤَمِّلين أن

تمهد لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر

منها لَنُهزةً تُغتنَمُ، وإليها بسطوا أَكُفَّهُم، ولا يخالونها تَفُوتُهم، ولئن فاتت فكم في

الغيب من مثلها وإلى الله عاقبة الأمور!

تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار

خصوصا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجهٍ،

ويوحدون كلمة الحق في كل صقعٍ، لا ينون في السعي ولا يقصرون في الجهد،

ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حيٌّ على حياته) إلخ.

هذا بعض ما نشره يومئذ ذانكم الإمامان الحكيمان، ولو كان الشرق مستعِدًّا له

في زمنهما كاستعدادِه في هذا الزمان - لما رسخ قدم الاحتلال في مصر والسودان،

ولكان الشرق على غير ما هو عليه الآن، وحسبهما أنهما هما السابقان، والموقظان

المرشدان، وإن زعيم مصر اليوم ليفتخر بأنهما هما المربيان لعقله وآرائه، ويشهد

بأنهما هما النافخان لروح الوطنية في قومه وأمته، كما يفتخر المنار بأنه المحيي

لذِكْرهما، والناشر لدعوتهما، والمقفي على آثارهما، ونسأله تعالى أن يتم لهذه

الأمة ما ظهرت أوائل فضله به من جمع الكلمة، ويكمل لخَلَفها ما صدق به وعد

سلفها، بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم بجعْلهم من الصالحين.

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

والنصيحة له

نُذكِّرُ قُرَّاء المنار في جميع الأقطار بما جرينا على مطالبتهم به في رأس كل عام

أن يُذكِّرونا بما عسى أن يروه من الخطأ فيه، سواء كان ذلك في المسائل الدينية

والعلمية أو في مصلحة الأمة، ونعِدُهم بنشر ما يتفضلون بكتابته إلينا ملتزمين فيه

لشروطنا، فإننا لا نكتب إلا ما نرى أنه الحق، وأن فيه المصلحة، وكل أَحدٍ يؤخذ

من كلامه ويُردُّ عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

_________

ص: 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سؤال

عن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

(س1) من أحد القراء في سنغافورة نشرناه بنصه وغلطه:

ما قول علماء الإسلام أدام الله بهم النفع للخاص والعام فيما يتعاطاه أهالي

بعض الجهات، وذلك أن أحدهم يأخذ من أحد الشِّيَنَةِ - وهم مشركون - بِنته

الصغيرة بثمنٍ، فيربيها، ثم يتسرَّاها، أو يبيعها إلى آخر مثلاً، ويستولدها، فهل

يجوز ذلك؟ ، والحال أن حكومة تلك الجهة كافرة تمنع ذلك، وتعاقب عليه بفرض

ثبوته لديها لمنعها بيع الرقيق والفاعل لذلك إنما يفعله بخفية وبصورة استخدام،

ومتى خرجت تلك البنت من عنده وامتنعت منه لا يقدر هو ولا غيره على ردها

بحال أو لا يجوز ذلك أو يكون مجرد شراها من والدها أو والدتها استيلاء تُملَكُ به

فيجوز تَسَرِّيها وبيعها؟ وإن كان الحال ما ذُكر وإذا قلتم بالملك فهل يختص بها

المشتري أو يسلك بها مسلك الفَيءِ؟ ، أفيدوا فإن المسألة واقعة ولا يخفى ما يترتب

عليها من هتك الأَبضاعِ وضياع الأنساب وقد استشكل ذلك بعض طلبة العلم وفهم

بدِيهةً أن مجرد الشراء - والحال ما ذكر - لا يملك به لأن المِلْكَ هو الاستيلاء لا

الشراء كما نُصَّ عليه ومَن لا يقدِرُ على قهرِهِ ليس مستولى عليه، فالمسئول مِن

أهل العلم توضيح هذه المسألة بما فيها من خلافٍ وأقوالٍ بما يطلع الكاتب مذهبِيًّا

كان أو غيره وفي أنه هل يختص بها المشتري فلا يجبُ عليه تَخمِيسُها أو لا يجب؟

فلعل شيئًا من الأقوال يحمل مَن وقع في شيء من ذلك، أفيدونا وأوضحوا وبيِّنوا؛

فإن المسألة وقع فيها كثير من الناس وحرجت منها الصدور وماذا يكون الحكم في

الأولاد من هذا الوطءِ لو قيل بفساد وجه التملك، لا عدمكم المسلمون.

(ج) ليعلم المسلمون في سنغافورة وفي سائر بلاد الإسلام أن الله تعالى خلق

البشر أحرارًا وأن الحرية حقٌّ لكل فردٍ ولكل جماعةٍ أو شعبٍ منهم بفطرة الله

وشرعه، كما كتب الفاروق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص لما بلغه أن ابنه

ضرب غلامًا قبطيًّا: (يا عمرو، منذ كم تَعَبَّدتُمُ الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم

أحرارًا؟ !) ، وإن الرق كان عادة اجتماعية عمت بها البلوى، حتى كانت

تكون في بعض الأحيان من الضروريات التي تختل بدونها بعض المصالح

العامة، وكان العُرفُ بين الأمم والدول أن الدولة الظافرة في الحرب تملك

الرقاب، كما تملك الأعيان مما تستولي عليه.

فلما جاء الإصلاح الإسلامي فتح أبوابًا كثيرةً لتحرير الرقيق ولم يحرم

الاسترقاق من أول الأمر تحريما قطعِيًّا؛ لئلا يكون المسلمون وحدهم عرضة

للاسترقاق إذا غُلِبُوا في الحرب وهذه علة صحيحة كنا غافلين عنها، فهذا أمر لا

يمكن إبطاله إلا بتواطؤ بين الأمم، ولا سِيَّما الحربية منها، كما جرى أهل هذا

العصر ووافقتهم عليه الدولة العثمانية؛ لأنه من مقاصد الشرع لا من محظوراته،

ولأن البشر يشق عليهم إبطال العادات الراسخة دفعةً واحدةً ولا سِيَّما إذا كانت

مصالحهم مشتبكةً بها ولأن بعض الرِّق كان يكون لمصلحة الأرِقَّاء في بعض

الأحوال كأَنْ يُقْتَلَ رجال قبيلةٍ ويبقى النساء والأطفال لا ملجأَ لهم ولا عائلَ، وقلما

يقع مثل هذا في زماننا؛ لأن شئون العمران فيه قد تبدلت، والذي عليه فقهاء

المذاهب المعروفة كلها أن الاسترقاق للسَّبْيِ والأسرى جائزٌ لا واجبٌ ولا مندوبٌ

لذاته؛ لأنه ضرورة كالحرب نفسها وأنه مفوضٌ إلى الإمام الأعظم يعمل فيه وفيما

يقابله بما يرى فيه المصلحة بمشاورة أهل الحَلِّ والعَقْدِ ويشترط فيه أن يكون في

حربٍ شرعِيَّةٍ مبنِيَّةٍ على تبليغ دعوة الإسلام وحمايتها وحفظ بلاد المسلمين

بالشروط المعروفة في كتب الفقه، ويقابله المَنُّ على مَن ذكر أي إطلاقهم بدون

مقابلٍ أو فداءُ أسرى المسلمين عند قومهم بهم، وهذا مقدمٌ على غيره عند التعارض

بالضرورة على خلافٍ فيه وفي قتل الأسرى. وقد خيَّر الله رسوله - صلى الله

عليه وسلم - في هذين الأمرين الأخيرين بسورة القتال ولم يذكر الاسترقاق، فقال:

{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) .

وقد فصَّلْنا هذه المسائل في مواضع من مجلدات المنار السابقة كالرد على

خطبة لورد كرومر الشهيرة وغيره.

فعلم من هذا أن ما يجري عليه الناس من اغتصاب بعض أولاد الزنوج أو

الشِّينة (الصينيين) أو الجركس أو شرائهم من آبائهم وأوليائهم - لا يعد

استرقاقًا شرعيًّا؛ فلا تملك به الأعيان ولا الأبضاع وإن التسري بالمغصوبة أو

المشتراة مِن والدها أو غيره - حرامٌ، وأهونُ ما يقال في فاعله جاهلًا حكمَ

الشرع فيه أن وَطأَهُ وَطءُ شُبهةٍ وولَده منها ولَدُ شبهة، وإلا فهو زنا ظاهرٌ، لا

يستحله أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر.

وما ذُكِرَ في السؤال عن بعض طلبة العلم من أن سبب الملك هو الاستيلاء

دون مجرد الشراء لا محلَّ له في النوازل المسئول عنها؛ فإن شرط كوْن الاستيلاء

الصحيح مملكًا - قابليةُ المَحَلِّ للمِلْكِ، وهو الحَرْبيُّ المُشرِكُ الذي يُسبَى بالحرب

الدينية بعد إباء الإسلام، والجزية، وبعد ترجيح إمام المسلمين لاسترقاقه،

كما تقدم، فههُنا يختلف الفقهاء في حقيقة الاستيلاء المملك، هل يشترط

فيه دار الإسلام أم يحصل بالحيازة في دار الحرب؟ ، وقد صرح الفقهاء بعدم

جواز بيع الكافر لأولاده في دار الحرب ولا في دار الإسلام.

وإنا لنعجب ممن يهتم بأمر الأبضاع والأنساب والحلال والحرام ثم يُصِرُّ على

اتباع شهوته في الاستمتاع بهؤلاء الحرائر من السُّود أو الصفر أو البيض؛

ويسأل عن نوادر الخلاف بين الفقهاء، وشواذ الأقوال لِيَجدَ لنفسه عُذرًا

لبقائه على ضلاله؟ ، ألا فليتوبوا إلى الله تعالى وليتركوا هذه الرذيلة وما

يتبعها من الفواحش والمنكرات، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

_________

ص: 31

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسيح الهند

(س2) من أحد القراء في زنجبار

نكتب ملخص هذا السؤال لكثرة الغلط في عبارته لُغةً وإملاءً وإعرابًا، وهو

أن الدعوة إلى مسيح الهند غلام أحمد القادياني قد بثت في زنجبار بأنه (النبي

المسيح المهدي) وأن مذهب أتباعه ودعاته هو مذهب خوجة كمال الدين الذي في

لندن والإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويقول السائل: إنهم قد غشُّوا

الناس بهذه الأسماء وصار الناس بالمجادلات حزبين، أحدهما مُصدِّقٌ والآخر مُكذِّبٌ،

وسألنا هل عندنا كتابٌ في الرد عليهم فنرسله إليه؟ ، وقد أرسل إلينا صورة

القادياني التي يوزعونها هنالك.

(ج) إن غلام أحمد القادياني قد ادعى أنه هو المسيح عيسى ابن مريم وأن

الله تعالى قد أوحى إليه بذلك وأن البسملة تدل بلفظ الرحمن الرحيم على أن محمدًا

صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله وأن غلام أحمد القادياني هو المسيح عيسى ابن

مريم، وقد نسخ من أحكام الشريعة الجهاد، وكان يستدِلُّ على صدق دعوته بقصيدةٍ

نظمها وادعى أنها معجزة كالقرآن، على أنها كثيرة السخف والغلط والهذيان،

وبكتابٍ في تفسير الفاتحة سماه (إعجاز أحمدي) ، وأكثره لغوٌ لا يفهم واستنباط

معانٍ لا تدل عليها الألفاظ بحقيقتها ولا بضرب من ضروب المجاز ولا الكناية، بل

هي دعاوٍ باطلةٌ كادعاء دَلالةِ البسملة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم

ومسيحيَّتِهِ، وكان يتأوَّل الأحاديث الواردة في نزول المسيح عيسى ابن مريم من

السماء في الشام وبكونه يقتل الدجال ويفعل كيت وكيت، أو يردها بزعم أنها

مخالفةٌ للقرآن، والقرآن لا يدل عليه، بل ولا على نزول المسيح عيسى ابن مريم

أيضًا كما بيناه في المنار مِن قبل. والآيتان اللتان استدَلَّ بهما بعضهم على ذلك

ليستا نصًّا ولا ظاهرًا فيه.

فأما قوله تعالى في المسيح: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) - فإنه لا يدل على ما ذهب إليه بعضهم في تأويل الآية إلا

بتكلُّفٍ بعيدٍ لا مُسَوِّغَ له، كما بيناه في تفسيرها [1] وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ

لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 61) بعد قوله

عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا

خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 57-58) ،

ففي مرجع الضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} (الزخرف: 61) وجهان،

ذكرهما المفسرون: (أحدهما) أنه القرآن، فإنه ذَكَرَ أوّلاً رسالةَ موسى، ثم رسالة

عيسى لأجل الاستدلال بهما على رسالة محمدٍ (عليهم الصلاة والسلام) وصدق

القرآن، (ثانيهما) أنه عيسى عليه السلام، وقد ذكروا لكونِهِ عِلمًا للساعة وجوهًا:

أظهرها أنه إحياؤُهُ لبعض الموتى وحياة صورة الطير من الطين بنفخه فيها، فإنه

دليلٌ يعلم به أن البعث مُمكِنٌ تتعلق به قدرة الله تعالى، وواقعٌ بتأييده تعالى لعيسى،

وجعل إحياء الميت وحياة الجماد من آياته الدالة على رسالته، وقد أوضحنا هذا في

المنار من قبل.

وقد ردَّ عليه كثيرٌ من علماء الهند، وناظروه، ففندوا دعوته، ورددنا عليه

في المجلد الثالث، والمجلد الخامس من المنار، وترجمت ردنا عليه الجرائد الهندية

في حياته؛ فساءه ذلك وآلمه حتى حمله على تأليف كتاب في شتمنا وتهديدنا يُضحك

الثَّكْلَى، سمَّاهُ (الهدى والتبصرة لمَن يرى) فإنه خلط فيه الهزل بالجد، وجمع

بين الذم والمدح، ولم يخلُ من المجُونِ، ووحي شياطين الجنون، ومما توعدني به

فيه زعمًا أنه قاله بالوحي قوله بعد كلامٍ: (وعمدَ أن يؤلمني ويفضحني في أعين

العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع، وألقى وجوده في الآلام، ووطئني

كالحصى، واستوقد نار الفتنة وحضى [2] وقال ما قال، وما أمعن كأولي النهى -

إلى أن قال - سيُهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر وأخفى) إلخ [3] .

ولو قدر الله تعالى جعْل وفاتنَا أو نكبة تقع بنا أو بالمنار بعد صدور كتابه هذا-

لادَّعى هو وأتباعُه أنها مصداقُ دعواه، ولكنَّ الله لم يزدنا إلا صحةً وقوَّةً وحُجَّةً،

ولم يزد المنار بفضلِهِ إلا تأييدًا، وانتشارًا، وقبول كلمة، إذ رددنا عليه بعد هذا

عدَّةَ مراتٍ، فكان هو المنهزمَ إلى أن مات.

ولكن كان من الغريب أن أتباعه قد مرنوا على المناظرة والجدل، فانصرف

أناس منهم إلى الدعوة إلى الإسلام في الهند وإنكلترة والولايات المتحدة الأميركية،

وما أعرف لهم بدعةً غير هذه الضلالة الوهمية، التي زاحموا بها البابية البهائية،

ولو تركوها للقي دعاتهم للإسلام مساعدةً وتعضيدًا من جميع المسلمين، وما أدري

أي فائدةٍ يطلبون بإصرارهم عليها؛ فإنهم ليسوا كالبهائية الذين اخترع دعاتهم دينًا

جديدًا ملفَّقًا، أصابوا به مجدًا وعظمةً بإقرار مَن أُشْرِبَتْ قلوبهم الوثنية بأن البهاء

إلههم وربهم، حتى إن خليفته وابنه، الذي فعل في تأسيس هذا الدين ما عجز قبله

أبوه عن مثله، قد لقب نفسه بعبد البهاء.

وكنت أظن أن هؤلاء القاديانية قد رجعوا عن هذه الدعوى الخرافية، حتى إذا

ما زرت الهند جاءني وفدٌ منهم للسلام عليَّ في (لكهنؤ) ودعوني إلى زيارة بلدهم،

فعلمت منهم أنهم لا يزالون على غرورهم، ولم يتسع الوقت لاختبارهم التام

بزيارة بلدتهم، ولا يبعد أن يكون خوجة كمال الدين منهم؛ فإنه ليس من كبار

العلماء الأعلام، وحاشا حكيم الإسلام والأستاذ الإمام، أن يكونا من أهل هذه

الأوهام.

_________

(1)

راجع ص 815 و 902، م 15، منار، وص 21، 95، ج 6 تفسير، وبيَّنَّا حقيقة المسيح الهند وبهاء البابية في ص 900-902، م 12، وص 42 و75، ج 6 تفسير.

(2)

حضأ النار بالهمز وحضاها يحضوها بالواو: إذا حركها لتشتعل، واستعملها هو بالياء.

(3)

يراجع ص 317-320 من مجلد المنار الخامس، وص900، م12.

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إشْكَال في بيت من الشعر

(س3) من صاحب الإمضاء في لنجة (في خليج فارس) في 10 ربيع

الأول 1340.

حضرة العلامة المِفضال الأستاذ الإمام المصلح الفهامة السيد محمد رشيد رضا

منشئ مجلة المنار لا زال مفيدًا للإسلام ومعينًا للأنام، المرجو بيان إعراب هذا

البيت، فقد وصلنا إليه في الأشموني في المدرسة الرحمانية، وعجزنا عنه؛ لأن

إعرابه ينافي معناه وبالعكس، فسألنا حضرة الوالد خليصكم عنه؛ فادعى أن فيه

تحريفًا، ولم نقتنع، فصدَّعنا حضرتكم؛ لتزيلوا الإشكال، ولم تزالوا كذلك:

وكائن في الأباطح من صديق

يراني لو أُصبت هو المصابا

وقد راجعنا المواد التي عندنا كالصبان وحاشية ابن سعيد وشرح شواهد

الرضي وشرح العيني وشرح شواهد المغني - فلم نجد ما يشفي العليل، ويطفئ

الغليل، والمرجو أن تشرفوني بالجواب، فنحن من المحسوبين، ولم يزل حضرة

الوالد يحثنا على ذلك.

...

...

...

... من أسير إحسانكم

...

...

...

... محمد بن عبد الرحمن

...

...

...

... سلطان العلماء بلنجة

(ج) إذا كنتم لم تطَّلعوا على ما قاله ابن هشام في روايتَيْ البيت، ووجوه

إعراب الرواية المشكلة من المغني، فالعجب منكم كيف راجعتم فيما عندكم من

الكتب شرح شواهد المغني، ولم تراجعوا المغني نفسه أوَّلاً، وإذا كنتم قد اطلعتم

على ما في المغني - ورأيتم فيه أن في البيت روايتين وما ذكره في إعراب الرواية

المشكلة - فالعجب منكم كيف لم تكتفوا بما فيه، وما بعده قولٌ لقائلٍ؟ ! .

والمختار عندنا في البيت أن الرواية التي عني بنقلها النحاة ليشحذوا قرائحهم

بإعرابها غير صحيحة، بل هي من تحريف بعض الرواة وفاقًا لذوق والدكم السليم

وأن الرواية الصحيحة:

وكائنٌ بالأباطح من صديقٍ

يراه إن أُصبت هو المصابا

أي إن أُصبت أنا يرى أنه هو المصاب؛ لأنه بصدق وُده أنزلني منه منزلة

نفسه، وما ينبغي لمن علم بنقل الروايتين أن يعرض عن الواضحة، ويضيع

الوقت النفيس في الرواية المشكلة، التي لا يمكن تطبيقها على القواعد، وفهم معنى

صحيح لها إلا بتكلف الاحتمالات البعيدة التي ذكرها مَن وقفوا أعمارهم لاستقصاء

أمثالها من الأغلاط أو الشواذ لأجل الإحاطة بفروع فن النحو ونوادره، وتقْيِيدِ

أوابده وشوارده.

وقد أورد صاحب المغني البيت في الكلام على (شرح حال الضمير المسمى

فصلاً وعمادًا) ، وهو في الباب الرابع (ص105، ج2) .

_________

ص: 36

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

1]

لسيدنا آية العصر، وسر حكمة الدهر، ودرة تاج الحكماء، وواسطة عِقد

البلغاء، مَن لا تستوعب وصفه الأقلام وما نسقت، والطروس وما وسقت، أستاذنا

الأكبر، الفيلسوف الأشهر، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله.

إن الممكن بالإمكان الخاص (وهو الذي لا يلزم مِن وجوده ولا مِن عدمه

محالٌ) يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها، ولا ريب في أن السعادة من

الماهيَّات الممكنة بالإمكان الخاص، وأنها العلة الغائية لحركة كل فردٍ من أفراد

الإنسان، حِسِّيَّةً كانت تلك الحركة أو معنويَّةً، إذ لو لوحظت مساعيه آناء الليل

وأطراف النهار، وأخذه بوسائل الحِرَفِ مِن زراعةٍ، وصناعةٍ، وتجارةٍ، وجدّه

في تحصيل العلوم والفنون، وارتكابه المصاعب، في نيل المراتب والمناصب -

ما وجد لها مِن باعثٍ أو داعٍ سوى طلب السعادة، مع أنك لا تجد مَن نالها أو دنا

منها، ولو تنقل في مراتب الشؤون وتقلب في درجات التطورات، وما ذلك إلا

لعدم تحقق علتها، فعلينا أن نبحث عن تلك العلة، وعن الأسباب التي أوجبت عدم

تحققها، حتى يتبين وجه ضلال طلاب السعادة عن أن يصيبوها، فنقول:

إن بين السعادة والصحة شبهًا كليًّا، فكما أن صحة الجسم هي نتيجةٌ ومعلولةٌ

للتناسب الطبيعي بين أعضاء ذلك الجسم وجوارحه، وكمال الاعتدال فيما تكونت

عنه تلك الأعضاء، وحسن قيام كل عضو منها بأداء وظيفته مع مراعاة اللوازم

والشروط الخارجية: من الزمان، والمكان، والمطعم، والمشرب، والملبس،

فيكون زوالها لزوال هذه الأمور كلها أو بعضها، كذلك سعادة الإنسان هي معلولةٌ

للتناسب الحقيقي في الاجتماعات المنزلية، وقيام كلٍّ مِن أركانِ المنزل بأداء

وظيفته، وللتعادل التام في الائتلافات المدنيَّةِ بأن تكون المدينة فيها من الحِرَفِ

والصنائع ما يكفيها مؤنة الافتقار من دون نقصٍ أو خروجٍ عند حد حاجتها مع حسن

التعامل بين أرباب تلك الصنائع، وأن تكون أحكامها تحت قانونِ عدلٍ تساوَى فيه

الصغير والكبير، والأمير والمأمور، وللارتباطات العادلة بين الدول بأن تقف كل

دولة عند حدها، ولا تتعدى على حقوق غيرها، وأن يمهد سبل التواصل بينها

وبين باقي الدول لكمال التعاون والتوازر بين نوع الإنسان، وانتفاع كلٍّ من الآخر،

فيكون حصولها على السعادة بحصول تلك الأمور وفقدها لفقد جميعها أو بعضها.

وهذه الأمور وإن كانت ممكنة الحصول وجدَّ الناس في التماسها ما استطاعوا-

إلا أن هناك مانعًا من الوصول إليها، وهو اعتقاد كلّ كمال نفسه، ونقص غيره،

ونظره إلى أفعاله بعين الرضى، وإلى أفعال غيره بعين السُّخط، وزعمه أنه ما

حاد عن حدِّ الاعتدال، ولا أخلَّ بشيءٍ من واجباته وشؤونه، ولا تقاعدت همته عن

أداء وظائفه في العالم الإنساني، ويتحمل لإثبات ذلك بما تسوله له نفسه من الحجج

والبراهين، وإن أصابه العناء، ونزل به الشقاء، حسبهما من تهاون الغير فيما

يلزمه وإهماله ما يجب عليه مبرئًا نفسه من أسباب ذلك، حتى لو أغفل شأنًا من

شؤونه، يزعم أن قد سُدَّتْ دونه أبواب الإمكان، وتعذَّر عليه القيام به، ولو انتهك

محظورًا من المحظورات لادَّعى أنه لا اختيار له فيه، وإنما الضرورة هي التي

ساقته إلى ارتكابه، فهو مجبورٌ لا مختارٌ، مع أنه لا يلتمس للغير عذرًا فيما يفوته

أو يقع منه، ولو كان في نفس الأمر مجبورًا. ومن ثَمَّ وقع التضارب في الآراء،

والتدافع في الأفعال والحركات، وعمل كلٌّ على نقيض الآخر، فارتفع التناسب

وانعدم العدل وذهب الارتباط.

انظر إلى حال الآباء مع الأبناء والسادات مع الخَدَمَة، كيف أن كلاًّ منهم مع

علمه بأن السعادة المنزلية إنما تُحَقَّقُ بأدائه ما يجب عليه، وجعْل حركته من

متممات حركات الآخر، يخالفه في أفعاله، ويضاده في آرائه، معتقدًا أنه لو لم

يقصر ذلك الآخر في أداء الحقوق المفروضة عليه لاستقرت الراحة المنزلية،

وارتفع العناء، وإلى حال المشتركين في المدينة؛ فإن كل واحد مع جزمه بأن

الراحة والنجاح إنما يكونان بإحكام الصنعة وتهذيبها، وحسن التعامل، وكف يد

الشَّرَه والخيانة، وضبط العهود والمواثيق، واجتناب الكذب والاعتصام بحبل

الصدق والوفاء - لا يرى نفسه مخلاًّ بشيءٍ من ذلك، وإن أخل بجميعه، ويزعم

أن زوال السعادة المدنية إنما جاء من تهاون الآخرين.

وتدبر حال الملوك مع رعاياها تَرَ كلاًّ منهما يرمي الآخر بالإغراق وعدم

الاعتدال، ويتهمه بانتهاك المحارم والحقوق، ويبرئ نفسه من نسبة شيء من ذلك

إليها.

فالملوك - فضلاً عما رسخ في نفوسهم من أن رتبتهم الملوكية إنما هي رتبةٌ

سماويةٌ ساقتها إليهم يد العناية الإلهية؛ بسبب طيب عنصرهم، وطهارة طينتهم -

يعتقدون أن لا قوام للرعية بدون وجودهم، وأن لا غنى لها عنهم؛ إذ هم يحفظون

أموالها، ويحقنون دماءها، ويوفون لكل ذي حق حقه، وينتقمون للمظلوم من

الظالم، ويحرسون الثغور لدفع ضرر المهاجمين، فيرون أن لهم بذلك حق

التصرف في أموال الرعية ودمائها، وأنه يجب عليها طاعتهم، والخضوع

لسطوتهم وسلطتهم، وامتثال أوامرهم، واجتناب نواهيهم، ويرمون الرعية

بالتقصير فيما يجب عليها.

والرعايا يخاطبونهم قائلين: لا مَزِيَّة لكم علينا كما زعمتم، ولستم أطهر

عنصرًا، ولا أطيب طينةً، بل نراكم أناسًا استولى عليكم حب الرئاسة، وأسرتكم

الشهوة واستعبدكم الهوى، فاستمالكم إلى سلب راحتكم، وراحة رعاياكم حرصًا

على التغلب، وطمعًا في توسيع دائرة السلطة، وكسب الافتخار مينًا، وأما

اعتقادكم أن لا قوام لنا إلا بكم فأَنَّى لكم صدق هذا الاعتقاد، وقد أصبحتم كَلاًّ على

كواهلنا: نحن نغرس ونحرث، ونغزل ونحوك، ونفصل ونخيط، ونبني ونشيد،

ونخترع الصنائع، ونتفنن في المعارف، وأنتم تأكلون وتشربون، وتلبَسون

وتسكنون، وتتمتعون بلذة الراحة. وأما ما تعللتم به من حفظ أموالنا، وحقن دمائنا-

إلى آخر ما ادَّعيتم - فذلك إنما نشأ عن العظمة والكبرياء اللذين ثبتت أصولهما

في نفوسكم، أفلا تعلمون أن الحارس والمرابط إنما هو منَّا، وأنَّ الحافظ والحاقن

والمنتقم، إنما هو القانون والشريعة الحقة، وما أنتم إلا مَنُوطُون بحفظها، والعمل

في الناس بها، فإن قمتم بذلك على وجه الاستقامة كان لكم علينا ما يُقَوِّمُ أَوَدَكم،

فكيف ساغ لكم أن تلعبوا بأموالنا، وتعبثوا بدمائنا، وتلقوا بنا في هاوية الشقاوة،

ثم تبتغوا طاعتنا وامتثالنا، وترمونا بالتقصير والتهاون فيما وجب علينا.

وذلك الذي ذكرناه فيما إذا لم يكن الملوك من المتغلبين المباينين للرعايا جنسًا

ومشربًا، وأما المتغلبون من الملوك والمتغلب عليهم، فكل منهما يزعم فوق ما ذكر

أنه الوسيلة لمنفعة الآخر، والواسطة لمصلحته، وأن الآخر قابل حسنته بالسيئة،

ومنفعته بالمضرة.

مثلاً إن الحكومة الإنكليزية المتغلبة على الهنود تخاطبهم بقولها: إني عمرت

لكم المدن (كبمباي) و (كلكتا) و (كراجي) وأمثالها وزيَّنتها بالأبنية الشاهقة،

والقصور الشائقة، ووطَّأت شوارعها، ووسعت مسالكها، ورقشتها بالأغصان

وزخرفتها بمروجٍ وبساتين، ومهَّدت لكم سُبُلَ التجارة، وسهلت لكم أسباب الزراعة،

وفتحت أبواب الثروة؛ بما مددت من الأسلاك البرقية في أرجاء بلادكم، وأنشأت

من الطرق الحديدية في أنحائها. وحفرت من الترع والأنهار، ووضعت من

القناطر، وكذلك أسست لكم المدارس، ورفعت عنكم ظلم النوابين وقهر الراجاوات.

وأنتم مع ذلك أبيتم إلا الشقاق والنفاق، ونبذ الطاعة وسلب الراحة

وإن الهنود يجيبونها متظلمين مستغيثين منها قائلين لها: إنك ما عمرت تلك

المدن إلا بعد أن خربت بلادًا كانت زينة الأرض وفخار الأبناء (شيو) و (وشنو)

و (كهكلي) و (مرشد آباد) و (عظيم آباد) و (أكبر آباد) و (الله آباد)

و (دهلي) و (رايبود) و (فيض آباد) و (لكهنؤ) و (حيدر آباد) وغيرها

من البلدان، وإنك ما مددت الأسلاك البرقية ولا أنشأت الطرق الحديدية، ولا

حفرت الترع والأنهار، ولا وضعت القناطر إلا لنزف مادة ثروتنا، وتسهيل سبل

التجارة لساكني جزيرة بريتانيا وتوسيع دائرة ثروتهم، وإلا فما بالنا أصبحنا على فقرٍ

وفاقةٍ وقد نفِدَت أموالنا، وذهبت ثروتنا، ومات الكثير منا يتضوَّر جوعًا؟ فإن

زعمت أن ذلك لنقصٍ في فطرتنا، وضيقٍ في مداركنا، فيا للعجب من أبناء

(بريتوس) الذين مضت عليهم أحقابٌ متطاولة يهيمون في أودية التوحش والتبربُر؛

إذ يعتقدون النقص، وعدم الاستعداد في أولاد (برهما) و (مهاديو) مؤسسي شرائع

الإنسانية وواضعي قوانين المدنية.

وأما المدارس التي تمُنِّين علينا بتأسيسها فلم تكن لمصلحةٍ تعود علينا؛ إذ لو

كانت لذلك لاحتوت على العلوم، والفنون، والصنائع، مع أنها لم تنشأ إلا لتعليم

اللغة الإنجليزية المتعجرفة الخشنة لأبناء اللغة (السنسكريتية) اللغة المقدسة

السماوية حتى تستعمليهم في إدارة مصالحك في تلك الممالك الشاسعة.

وأما دعواك رفع ظلم النوابين، وقهر الراجوات عنا، فمما يُضحك الثكلى

ويُبكي المستيئس الذي جاءته البشرى؛ فإن الظلم إذ ذاك كان قاصرًا على البعض،

وظلمكِ الآن قد عم وطم، وإن الثروة والأُبَّهَةَ والجلالة والشأن التي يزدهي بها الآن

أهالي بريتانيا كان المتمتع بها وقتئذٍ أبناء وطننا؛ إذ النوابون والراجوات وغيرهم

من الأمراء، والكبراء، وحاشيتهم، وخاصتهم كانوا من أبنائنا، ومشاركينا في

الجنسية وكنًَّا نَتِيهُ بهم فخارًا على سائر الممالك والأقطار، فكيف بكِ أن تُمَنِّي

علينا بما مننت زورًا ومَينًا، وإنا لا نراكِ أيتها المتغلّبة علينا إلا كالعلق مصصت

دماءنا، بل كالسَّلاخ سلخت جلودنا؛ لتتخذيها أحذية لنعال البريتانيين، على

أنك لم تكتفِ بهذا وذاك، بل تريدين أن تستعملي عظامنا النخرة لتصفية السكر في

معاملك.

وتبصَّر في شأن الملوك بعضها مع بعض، فإن كل واحدٍ منهم يرى بما أقيم

من الحجج القاطعة - أنه على صراط العدل، وحدِّ الاستقامة، لا يُقدم على محاربةٍ،

ولا يحجم عنها، ولا يضع غرامةً أو يأخذ مِن ممالِكِ الآخر شيئًا إلا وهو في ذلك

مُحِقٌّ عادلٌ، مثلاً ملك الروسيين يحتج لحرب العثمانيين بأن أنين النصارى من

رعاياهم قد ذهب براحته، وتجافى به عن مضجعه، وحرك فيه حاسة الشفقة،

حتى دعته الرحمة والإنسانية للأخذ بناصرهم، واستنقاذهم من أيديهم، وتحريرهم

من رِقِّ عبوديتهم، مِن

والعثمانيون يدحضون حجته قائلين: (أولاً) لو كنت

مِمَّن تحركهم الشفقة والرحمة لكان الأحق بنيلها رعاياك المتحدون معك في المذهب

من أهالي (لهستان) ، فما دعواك هذه إلا محض الرياء والمواربة، (وثانيًا) أننا

لا نعامل رعايانا إلا كمعاملة الآباء للأبناء بدون تفرقة بين مذهبٍ ومذهبٍ وجنسٍ

وجنسٍ، وأوضح دليلٍ على ذلك بقاؤهم على مذهبهم حافظين للغاتهم وجنسيتهم،

ولو أننا كنا نفرق بين المذاهب والأجناس - كما تدعي - لحملناهم على رفض

مذاهبهم وتغيير لغاتهم، وكنا قادرين على ذلك في وقتٍ لم يكن لك فيه اسمٌ ولا رَسمٌ،

بل لم تكن شيئًا مذكورًا.

وكذلك إمبراطور الفرنساويين - بما ثبت عنده من البراهين البيِّنةِ على طمع

الجرمانيين، وحرصهم، وشرههم - يرى لنفسه الحق في افتتاح الحرب عليهم،

وإمبراطور الألمانيين - بما تحقق لديه من كبر الفرنساويين، وعُجبهم، ومجاوزتهم

الحد في أطوارهم - يحسب أن من الواجب عليه أن يضع عليهم غرامةً باهظةً،

ويتسلط على قطعةٍ واسعةٍ من بلادهم لتذليل نفوسهم، وإضعاف قوتهم؛ ليدفع بذلك

شرهم، ويأمن على نفسه، وأمته من تعدِّيهم.

ودَقِّقِ النظر في شؤون العقلاء، والحكماء وذوي الآراء والمذاهب الذين

يعتقدون أن الحق واحدٌ في نفس الأمر، والواقع لا يتعدد - كيف أنهم بعد اتفاقهم

على أن القواعد المنطقية هي ميزان النظر، وبها يعرف صحيح الفكر من فاسده -

قد انتهج كل واحدٍ منهم منهجًا واتخذ مشربًا يناقض به الآخر، ويعتقد أن دلائله

المُؤَدِّية إليه هي المُنطبِقةُ على ذلك الميزان، وأن لا انطباق لدلائل غيره عليه.

وارجع البصر إلى أحوال السارقين، والقاتلين، ونحوهم من مرتكبي

الفواحش والشناعات في العالم الإنساني - ترَ أنه لا يصدر عملٌ من هذه الأعمال

المُجمَعِ على قبحها من فاعلها إلا بسبب هذه الخِلَّةِ الذاتية، أعني اعتقاده كمال نفسه،

والنظر إلى أعماله بعين الرضى - ضرورة أن الفعل إنما يكون بعد الإرادة التي

لا تكون إلا بعد ترجيح الفعل على الترك، ورؤيته خيرًا منه، وهو عين الرضى

به.

ومن غرائب آثار هذه الخِلَّةِ إبرازها لحقيقةٍ واحدةٍ بصورٍ مختلفةٍ في نظر

شخصٍ واحدٍ على اختلاف مراتبه وشؤونه، فإنك ترى زيدًا من الناس مثلاً، وهو

في رتبةٍ دانيةٍ رؤوفًا بالفقراء، رحيمًا بالضعفاء، شفيقًا على المظلومين، ذامًّا

للبُخلِ والشُّحِّ، مادحًا للكرم والسخاء، مهتمًّا بقضاء حوائج ذوي الحاجات، مدَّعيًا

للعِفَّةِ، كارهًا للانكباب على الشهوة، مستهزِئًا بذوي التكاثر والتفاخر، مُبغِضًا

للكبرياء مُتَنفِّرًا عن الارتشاء، مشمئِزًّا من الإهمال في المصالح العامة، والتهاون

في الواجبات، مستهينًا بالمستبدين بآرائِهم، المعجبين بأقوالهم وأفعالهم، مستقبِحًا

تقديم المفضول على الفاضل؛ لغرضٍ يعود على ذاته مستبشِعًا لإعطاء المراتب

لغير أهلها وحرمان مستحقيها منها، لائِمًا على الغضب، وإسراع العقوبة مستفحِشًا

للسفاهة والبذَاءِ، محبًّا للوطن، مُحاميًا عن الحرية، زاعمًا أنه لو آل الأمر إليه

لقام بصلاح العالم.

وإذا ارتقى إلى رتبةٍ ساميةٍ تجده قسِيَّ القلبِ على الفقراء زاعمًا أن التَّكفُّفَ

صناعة اتخذها أرباب السَّفالةِ والبَطالةِ هربًا من عناء الكسب، جافي الطبع على

المظلومين مستدِلاًّ بأن المتظلمين أولو مكرٍ ودهاءٍ (أو رِياءٍ) يعلنون خلاف ما

يسرون، ويستترون تحت حجاب المَسكنةِ، والالتجاء للتغلب على حقوق غيرهم

بخيلاً شحيحًا متمسكًا في ذلك بأن من مقتضيات الحزم أن تُحرَّز الأموال، وتُودَع

المخازن لوقت اللزوم أو (إن الكرم والسخاء قبيحان عند السويليين من الإفرنج)

مُتوانِيًا في الأخذ بيد المحتاجين متعلِّلاً بتراكم الأعمال عليه في وظيفتِه المهمةِ،

وعدم تمكُّنه من إسعافهم، شَرِهًا شَهَوِيًّا مُحتجًّا بأنه بشَرَهِهِ وانصبابِهِ إلى الشهوة

يؤدي حق الطبيعة، فخُورًا برتبٍ وشؤونٍ ساعَدَهُ على نيلها البخت والصُّدفة بدون

استحقاقٍ، مع أنه ما أدى حقها ساعةً من دهره مُرضِيًا نفسه في ذلك بكلمة العبد

العاجز أو (افتخار أولمسون)[2] ، متكبرًا، يظن أنه وَقُورٌ من الواجبات عليه

إقامة الحُجَّابِ على بابه، والذائدين عن أعتابه، قيامًا بحق رتبتِهِ، ولازم شأنِهِ،

مرتشيًا يقنع نفسه بأن ما يأخذه حقٌ تبيح له الشريعة أخذه، إما لأنه جُعَالةٌ على

عمله أو هديةٌ من صديقٍ، مهملاً في المصالح العامة متهاونًا فيها معتذرًا بأنه من

آحاد الناس ليس في طوعه تقويمها. وما من مساعد يعاضده عليها. وقد أدى

الواجب على شخصه، مستبدًّا برأيه، معتقدًا أنه قد بلغ من العقل والدراية إلى حدٍّ

تنحط دونه جميع أفكار العالم، ويقصر عن إدراك غايته مدى أنظارهم، مع أنه

أعمى البصر والبصيرة، لا يرى ما تحت قدميه، مُقدِّمًا للمفضول على الفاضل،

مستنِدًا إلى سلامة قلب ذلك المفضولِ ولين عَرِيكتِه وطلاقة وجهه، أي أنه (يهز له

القاووق) وفي رواية (يمسح له جوخ) ، وأنه (سطري لجنابه العالي)[3] رافعًا

إلى أسنى المراتب مَن لا يليق لأدناها حاسبًا نفسه طبيبًا، روحانيًّا، خبيرًا بأخلاق

العالم وطبائعهم، حكيمًا لا ينظر في أعماله إلا إلى المصالح العامة، غضوبًا،

سريع العقوبة، يحسبها سياسةً وتدبيرًا مدنيًّا، سفيهًا بذيئًا يرى أن الناس لا

يستحقون سوى قبيح فعله، وفحش قوله، ولا يدركون مزية الآداب، ولا يقدرون

الأديب حق قدره، خائنًا لوطنه، ساعيًا في خرابه وإذلال أهله (كأفيالتيس اليوناني)

ويعد نفسه في ذلك مجبورًا ملجأً طالبًا للاستعباد، متشبثًا بأن الحرية لا تليق

بالأهالي لعدم استعدادهم لها، بل إنها مما يوجب فسادهم لو نالوها! ، آيِسًا من

صلاح العالم؛ إذ يراهم لنقص قريحتِه ناقصي الاستعداد فاقدي القابلية، ويزعم أنه

لو كان لهم نوع من التهيؤ للإصلاح لأتمه لهم بسعيه واجتهاده.

ومن أغرب آثارها أن المتخلق بها مع كونه متصفًا بأرذل الأخلاق، وأشنع

الخصال - يعمى عن أنه متصفٌ بها، مثلاً يكون قسيَّ القلب، ويعتقد نفسه رحيمًا.

ومتكبرًا ويرى نفسه متواضعًا. وهكذا باقي الخصال مع أنه لو تلبس غيره بأدنى

رذيلة لأدركها وشد عليه النكير فيها، حتى إنك ترى كل واحد (كأنه) قد جعل

على إحدى عينيه نظارةً معظِّمةً (ميكرسكوب) ؛ ليقف على دقائق معايب معاشريه،

وعلى الأخرى نظارةً رَصدِيَّةً (تلسكوب) ؛ لئلا يفوته أعمال البُعداء عنه،

وعلى إحدى أذنيه موصلة الصوت (تليفون) ؛ لاستراق أخبار الناس كيلا يَعْزُب

عنه شيءٌ من نقائصهم، وعلى الأخرى حافظة الصوت (فنوكراف) ؛ ليستحفظ

قبائحهم؛ لئلا يغيب عنه شيءٌ منها، ويقتدر على استحضارها وقت الحاجة عند ما

يتحرك دولاب حقده وحسده، مع أن أقرب الأشياء إليه نفسه، وهو لا يرى شيئًا

من معايبها، فهو أعمى حديد البصر وأصم قوي السمع.

فتعسًا لها من خلة قضت على نوع الإنسان بالاختلال وسوء الحال، وآذنته

بالشقاء والعناء، وأوقعت الخبط في الأعمال، والخلط في الأقوال، ولبَّست الحق

بالباطل، والزائف بالصافي، والجيد بالرديء، وحسن القبيح، وقبحت الحسن،

وأبرزت المُعْوَجَّ مستقيمًا والمستقيم معوجًّا.

ومَن نظر بعين الحق، وسير الحقائق بنور البصيرة لا يجد لهذه الخِلَّةِ -

أعني اعتقاد كل كمالٍ لنفسه، ونظره إلى أعماله بعين الرضى - علةً وسببًا سوى

حب الذات الذي هو غشاوةٌ على عين العقل، تمنعه من استطلاع الحقائق على ما

هي عليه، ووقوفه عند حد الصواب في سير الأفكار، بل هو متغلِّبٌ على جميع

الإحساسات النفسانية، وحاكم على كلها بالتغيير، بل لا يختص حكمه بها؛ إذ

يتعدى إلى الإحساسات الطبيعية أيضًا، فإنك ترى مشوه الوجه مختل الخلقة رثّ

الثياب، الذي قد تجسدت عليه الأدران والأقذار - إذا نظر إلى صورته بهذه الصفة

الرديئة في مرآةٍ مثلاً، لا يشمئز، ولا يستنكر، وإذا وقع بصره على مَن بلواه في

ذلك أخف مِن بلواه - انفعلت نفسه، واستنفر واستبشع.

وهذا الوصف - أعني حب الذات الذي هو علة الشقاء والعناء - من

الأوصاف اللازمة لذات الإنسان ما دام موجودًا، فلا ينفك الإنسان عنه، ولا هو

يزايله، فإذن لا حيلة، ولا خلاص من بلاياه ونكباته إلا باستعمال الإنسان عقله

ورجوعه إليه في جميع أموره، والخروج من رِبقةِ عبوديةِ سلطانِ حب الذات،

ورفض أحكامه، وذلك أن يحكم على نفسه بما يراها عليه في مرآة غيره، لا في

مرآة نفسه، (ما أجملك أيها الإنسان المعجب في مرآة نفسك، وما أقبحك في مرآة

غيرك!) .

وهذا الذي ذكرناه هو العلاج الحقيقي، والوسيلة العظمى لوقوف كلٍّ عند حده،

وسعي كل لاستكمال نفسه، اللذين هما مدار السعادة.

ولسنا نذم حب الذات بجميع أنواعه؛ فإن منه ما قد يعود بسعادةٍ ما على

طائفةٍ من الطوائف، أو أمةٍ من الأمم، وهو حب الذات الداعي إلى طلب المحمدة

الحقة [3] وهو الذي يرتقي بصاحبه إلى توجيه أفكاره وأعماله نحو المصالح

العمومية، بدون أن يطلب في ذلك شيئًا سوى الحمد، وخلود الذكر، والسلام على

مَنِ اتبع الهدى، ورجَّح العقل على الهوى.

_________

(1)

هذا الأثر النفيس لأستاذنا موقظ الشرق رحمه الله تعالى كان فاتحة لكتاب (البيان في الانكليز والأفغان) الذي كان مما أملاه حكيمنا ونشر في جريدة (مصر) التي أصدرها بأمره الأديبان السوريان الشهيران سليم النقاش وأديب إسحق وكانت لسان حاله، ومظهر آرائه، وأقواله ثم طبع ذلك في كتاب مستقل بمطبعة جريدة مصر بالإسكندرية سنة1878، وكتب تحت الاسم هذه العبارة (لسيدنا آية الحكمة، مجلي الجمال والجلال، ومظهر محاسن الكمال، أستاذنا الفيلسوف الطاهر الأرومة، النسيب ابن النسيب، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله) وقد كان لمقالات (البيان) المذكورة تأثير في الأمة البريطانية، حتى ردت عليها جرائدها، فرد هو عليها ردًّا عرفت به عظيم شأنه وكان ذلك السبب الأول لمعرفة اسمه في أوروبا.

(2)

كان السيد رحمه الله يملي وقلما كتب بيده مقالاً وكان تلاميذه كاللقاني وأديب إسحق يكتبون كل ما يقوله في الكَلِم والأمثال العامية، التي يمزج بها الكلام عادة كهذه الجمل في الموضعين وكانت ذائعةً في معاشري الحكام من الترك، ولكن أكبرهم الأستاذ الإمام كان يتصرف في العبارة ويجيز له ذلك السيد.

(3)

الحق: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع.

ص: 37

الكاتب: محيي الدين آزاد

كتاب الخلافة الإسلامية

مُؤَلِّفُهُ باللغة الأوردية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

مُتَرْجِمُهُ بالعربية

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى

باب (الخلافة)

(الخلافة) : مصدرٌ من خلف يخلف خلافة، ومنها (الخليفة) من قولك

(خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده (ابن فارس) فالخليفة

(: هو الذي يخلف مَن قبله، ويقوم مقامه، إما بموته، أو عزله، أو غيبته، أو

نصبه إياه في منصبه وسلطته، وفي مفردات الإمام الراغب الأصفهاني:

(الخلافة: النيابة عن الغير، إما بغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه،

وإما لتشريف المستخلف) (ص155) .

وهذه الكلمة أيضًا من تلك المختارات اللغوية التي اختارها القرآن الحكيم،

فنقلها من معانيها اللغوية إلى المعاني المصطلحة الشرعية (كالإيمان والغيب

والتقدير والبعث والصلاة) وغيرها من الكلمات التي انتقاها من اللغة لمعنى

خاص به، فكلمة (الإيمان) مثلاً تُستعمل في اللغة لليقين، والطمأنينة، وزوال

الخوف، والشك، ولكن القرآن يستعملها في يقينٍ أخص من الأول، يصحبه إقرارٌ

باللسان، وعملٌ بالجوارح، فصارت اصطلاحًا خاصًّا، دالةً على معنى خاصٍّ به

دون دلالتها في اللغة.

وكذلك كلمة (الخلافة) كان معناها عامًّا في اللغة، فوضعها القرآن لمعنى

أخص من الأول، واستعملها (وكذلك الاستخلاف في الأرض، ووراثتها والتمكين

فيها) في العظمة القومية، والرئاسة المِلِّيَّة، والحكومة العامة، والسلطة التامة على

الأرض، ومَن فيها من الأمم والشعوب، ويعدها أكبر مِنَّةٍ، وجزاءٍ من الله سبحانه

تناله الأمم في هذه الحياة الدنيا على إيمانها وحُسن عملها.

أما المراد من هذه الخلافة: فهو أن تقوم في الأرض أمةٌ، وحكومةٌ تأخذ على

عاتقها هداية النوع البشري وسعادته، وتنشر لواءَ القسط الإلهي، وتمحق الظلم،

والجور، والضلال، والطغيان؛ حتى لا تذر له أثرًا على وجه البسيطة، وتمد

رواق الأمن والسكينة، والراحة، والطمأنينة على العالم بأسره، وتقيم ناموس

العدل الإلهي الذي يسميه القرآن (بالصراط المستقيم) الذي هو نافذ من الأرض

إلى السموات العلى، ومِن ذرات الرمل في الصحراء إلى الشمس، والقمر،

والنجوم، وما هو تحت الثرى، فتقيم ذلك الناموس في مشارق الأرض، ومغاربها،

وتنفذه في جميع بقاعها ونواحيها؛ حتى تصبح الكرة الأرضية جَنَّةً، ودارَ قرارٍ،

وتكون السعادة ضاربةً فيها بأطنابها، والأمنية باسطةً جناحيها من فوقها!

وإنما أُطلِقَ لفظُ الخلافة على هذه الخلافة المصطلحة؛ لأن أول أمةٍ، وأول

فردٍ لما قام في الأرض بأعباء الخلافة - كان نائبًا عن الله في إقامة عدله، ثم الذين

جاءوا بعد تلك الأمة، وذلك الفرد كانوا نائبين عنهم في هذا الأمر، حتى ظهر

الإسلام، وقامت الأمة الإسلامية، فانتقلت الخلافة الأرضية الإلهية إليها، فكان

أول خليفةٍ مِن هذه السلسلة المباركة صاحب الشرع المتين، ورسول رب العالمين،

محمد صلى الله عليه وسلم فكان خليفة الله العظيم مباشرة ثم الذين استووا بعده

على منصّة الحكومة الإسلامية المركزية، كانوا خلفاء هذا الخليفة الإلهي والنائبين

عنه في الدنيا؛ فلذا سُمُّوا الخلفاء، ولا يزالون يسمون به إلى الآن.

وقد تقلبت خلافة الأرض، ووراثتها في أمم كثيرة، قامت كلُّ واحدةٍ منها في

نوبتها بخدمة دين الله الحق، وقد ذكرت هذه الخلافة في الآيات الآتية:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) ، {وَيَسْتَخْلِفُ

رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود: 57) ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ

لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس: 14)، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: 69) ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: 26) .

وعبر عن هذه الخلافة (بوراثة الأرض)، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي

الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105)

وأيضًا (بالتمكِين في الأرض) وهو استفحال القوة، وكمال العظمة الذي ناله فتى

إسرائيل في أرض الفراعنة، بعد أن بِيعَ فيها عبدًا، ثم وصل إلى عرش الحكومة،

وتاج المُلك بعمله الحق وسيره القويم {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} (يوسف: 21) .

وقد وعد الله به سبحانه المسلمين فقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا

الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) .

وثبت أيضًا من هذه الآية أن الله تعالى إنما يريد من التمكين في الأرض أن

تقام عبادته فيها، ويعم الصلاح، والصدق، والهداية فيها، ويصد الإنسان العَنُود

عن غيِّه، وعمل المنكر.

وعبر في الآية الأخرى عن التمكين في الأرض (بالخلافة) فقال تعالى:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور:

55) .

نزلت هذه الآية العظيمة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأصحابه إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين من الكفار، ومحاطين بالأعداء من كل

جهة، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فضجر منهم رجلٌ من هذه

الحالة، وقال:(ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ !) ، فبشرهم

الله بهذه الآية أن لا يهنوا، ولا يحزنوا؛ فإنه لا يضيع أجر إيمانهم، وحسن

صنيعهم، فسينالونه بإذنه، ويأمنون أعداءهم، فيذهب الخوف ويحل محله الأمن،

ويصيرون ملوكًا وسلاطين، فيكون الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، وأكبر من ذلك

كله أن خلافة الله ستنتقل إليهم، فيرثونها، وتطمئن قلوبهم بها (ذكره الطبري

بالمعنى في تفسيره عن أبي العالية، ج 18 ص 109) .

وقد تضمن هذه الآية أن مراد القرآن الحكيم بالخلافة، إنما هو خلافة الأرض

أي الحكومة والسلطان فيها؛ فإذًا لا بد للخليفة الإسلامي من أن يكون صاحب الأمر

والنهي، والحكومة التامة؛ لأنه ليس كبابا المسيحيين، وبطاركتهم فأولئك سلطتهم

روحية، وهي خضوع القلوب، وانحناء الرُّءوس أمامهم، بل هو حاكمٌ وسلطانٌ

بالمعنى الحقيقي إلا أن سلطته يجب أن تكون تحت الشريعة الإلهية، وليس له حق

التشريع ألبتَّة [1] ، ولا أعطته الشريعة سلطةً دينيةً روحانيةً كما أعطت المسيحية

للبابوات؛ لأنها تُعِدُّ كل سلطةٍ لغير الله ورسوله شركًا به وكفرًا تمقته أشد المقت

وتمحقه من أول ظهوره [2] قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن

دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31)، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ

وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ

تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79) .

هذا، وقد وفى الله تعالى للمسلمين وعده بالخلافة، كما وفى جميع وعوده

وعهوده، فلم يمضِ بضع سنين - والرسول بين أظهرهم - إلا وأصبحت جزيرة

العرب في قبضة يدهم، وشوهدت جيوشهم خارجة من أسوار المدينة لمقاومة الروم

أعداء دينهم، وسبقت خلافة الأرض إليهم، بعد أن نزعت من غيرهم، فكان أول

خليفة منهم هو حامل الشريعة الغراء بنفسه صلى الله عليه وسلم، ثم الذين

قاموا في مقامه من بعده كانوا خلفاءه، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم

بتسميتهم (خلفاء) أنهم ينوبون عنه بعده، فقال للمسلمين: (عليكم بسُنتي وسنة

الخلفاء الراشدين من بعدي) (رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية) ؛ ولذا

سمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خلفه خليفة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم -.

***

الخلافة النبوية الخاصة والخلافة الملكية

انصبغت الخلافة الإسلامية بعد النبي عليه الصلاة والسلام بصبغتين

مختلفتين، وظهرت بمظهرين متباينين، وكان عليه السلام قد أخبر عنهما،

ورفع الستار عن خصائصهما، والأحاديث التي وردت في هذا الباب تكاد أن تكون

متواترةً لكثرةِ طرقِها، وشهرة متونها، فخلافة الخلفاء الراشدين المهديين كانت

مصبوغةً بصبغة الرسالة، وسائرةً على منهاج النبوة، فكانت خلافة الرسول حقًّا،

والخلفاء الراشدون خلفاءه حقًّا، لا في منصة الحكم والسلطان فقط، بل في جميع

أعماله وهدْيه، فكانوا مثله دعاة الدين، هداة الأمم، قضاة الشرع، قادة الشعوب،

ساسة البلاد، قواد الجيوش، إخوة الحروب، رايات الأمن، قد اجتمعت في

شخص كلِّ واحدٍ منهم صفاتٌ كثيرةٌ مما كان مجتمعًا في شخص سلفِهم وهاديهم

صلى الله عليه وسلم، فكانوا خلفاءه وحاملي شرعه، بل حلقةً من حلقات عهد

الرسالة، وبركةً من بركات زمن النبوة، حكومتهم حكومة إسلامية محضةٌ،

ونموذجٌ كاملٌ للنظام الإسلامي، فكانت (حكومة جمهورية) قائمةً على أساس

الشورى بالمعنى الصحيح غير أنها لم تدم كثيرًا، بل ماتت بموت علي - عليه

السلام - ودفنت معه في أرض الكوفة.

ثم ظهرت بعد هذه الخلافة الراشدة، خلافةٌ في حُلَّةٍ غير حُلَّةِ أختها منحرفةٌ

عن منهاج النبوة، منقطعةٌ عن مسلك الرسالةِ، فكانت حكومةً دنيويةً ومُلكًا

عَضَوضًا، وذلك عندما فشت البدع العجمية، وامتزجت بالمدنية الإسلامية العربية،

ولدت جراثيم الفساد في فضاء العالم الإسلامي، فهذه الخلافة - وإن كانت كل

حلقةٍ منها أشبه بالخلافة الراشدة من التي جاءت بعدها - لم تكن في مجموعها من

محاسن الخلافة الراشدة في شيءٍ؛ ولذا سميت الأولى على لسان النبي - صلى الله

عليه وسلم - بالخلافة لغلبة الهداية والصلاح عليها، والثانية بالمُلك العَضَوضِ

لظهور الاستبداد والقهر فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون

سنة، ثم ملك بعد ذلك) [3] وفي حديث أبي هريرة: (الخلافة بالمدينة، والملك

بالشام) [4]، وأخبر في حديث آخر بأن هنالك ثلاثة أدوارٍ: عهد نبوةٍ ورحمةٍ -

عهد خلافة ورحمة - عهد ملك وسلطان، فانتهى الدور الأول بالنبي - صلى الله

عليه وسلم - والثاني بعليٍّ عليه السلام كما مر وقد كان هذا الدور بالحقيقة

ذيلاً للأول وجزءًا لازمًا له، كما هو سنة الله في دعوة الأديان وتوثيق عرى

الشرائع، حيث يجعل الله لكل نبيٍّ خلفاء يقومون بعده بدعوته، ويوطِّدُون دعائم

شريعته، ثم جاء بعد هذا وذاك الدور الثالث، دور حكومة وملك عضوض، وهو

باقٍ على حاله إلى الآن، ولم يكن الصحابة يجهلون هذا الدور، ولا يستبعدونه،

بل كانوا يعرفونه، وينتظرون مجيئه لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياهم

به.

وقد كان هذا الدور أكبر مصيبةٍ ابتُلِيت بها الأمة، فبعد أن كانت ترتع في

رياض النبوة، وتجني ثمار الخلافة الراشدة آمنةً مطمئنةً، إذ نَعق ناعق الشر بينها،

وقُتِلَ الخليفة الثالث عثمان بن عفان بين يديها، فتقلص ظل هدي النبوة شيئًا

فشيئًا، وذهبت بركاتها واحدةً تلو واحدةٍ، وأخرجت البدع رءوسها، وزحفت الفتن

بخيلها ورَجلِها، فأحاطت بها من كل جوانبها، فكلما ابتعدت الأمة عن عهد الرسالة

حرمت نصيبًا من بركاته، وبركات الخلافة الراشدة، ولم يكن حرمانها محصورًا

في أمر الإمامة العظمى، والخلافة الكبرى فقط، بل تعداها إلى غيرها، فتغلغلت

جراثيم الفساد في هيكلها الاجتماعي، فزعزت نظامها وقوامها، ثم سرت إلى

حياتها الشخصية، فأفسدت عقائدها، وعواطفها ونفثت في أعمالها سمومها،

فغيرت من صغيرها وكبيرها، ولم تكن فتنة واحدة أو فتنًا قليلة محصورة فيسهل

اتقاؤها، بل سالت سيولٌ من الفتن، دهمت المسلمين بغتة، فماجت عليهم أمواجها،

وثقلت عليهم وطأتها، فكانت كما قال أعلم الصحابة بالفتن حذيفة - رضي الله

عنه -: (تموج كموج البحر) ، وبيَّن لهم أنه ليس بينها وبينهم سد إلا عمر بن

الخطاب رضي الله عنه -وأنه متى سقط هذا السد المنيع طغت تلك السيول

الجارفة، وبغت، فلم يقدر أحدٌ على صدّها، فما زالت حتى أخذت الخلافة النبوية

في تيارها، وحطمتها، وتركتها أثرًا بعد عين.

نعم، وقع ما وقع، إلا أن الأمة المسلمة قد بُشِّرت على لسان نبيها بأنها

سترى في آخر أيامها دور نجاحٍ وفلاحٍ، فتقر به عينها، وينشرح صدرها،

وتصلح أمورها، حتى (لا يدرى أولها خيرٌ أم آخرُها)[5] ، ويتم فيه نور الله

{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (الصف: 8)

إلخ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33)[6] ؛ ولذا لا يزال قلب المؤمن قويًّا برجاء الله،

مملوءًا باليقين، لم يخالطه ريبٌ، ولا دخله زيغٌ، ولا صادفه قُنُوطٌ ويأسٌ، حتى

في هذا الزمان الذي انصبَّت فيه على المسلمين المصائب، ونزلت بهم النوازل،

وزُلزِلُوا فيه زِلزَالاً شديدًا، بل كلما ازدادت العواصف شدَّةً، والليل ظُلمةً،

والأرض عداوةً - يزداد المؤمن رجاءً ويقينًا، ويبصر بعينيه نور الصبح الجميل

من بين هاتيك الظلمات، والغيوم والعواصف، ولسان حاله يقول: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ

الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 81) .

***

فصل

عهد الاجتماع والائتلاف ودور التشتُّت والانتشار

قبل أن نخوض في غمار هذا البحث نتكلَّمُ في هذا الفصل على كلمتين

مصطلحتين زيادةً في الإيضاح، وتفصيلاً للبيان، فنقول:

(الاجتماع والائتلاف) كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،

فيهما سر حياة الأمم ومماتها، نهوضها وهبوطها، سعادتها وشقوتها، (فالاجتماع)

من الجمع، وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض (مفردات ص95) ،

ويقرب منه (الائتلاف) من الإلف، اجتماع من التئام (والمؤلَّف ما جُمع من

أجزاء مختلفة، ورُتب ترتيبًا فقُدِّم فيه ما حقه أن يقدم وأُخِّر فيه ما حقه أن يُؤَخَّر)

(مفردات ص19) ، أما (عهد الاجتماع والائتلاف) فهو ذلك العهد الذي تجتمع

فيه القوى الاجتماعية الفعالة في مكانٍ واحدٍ، في نقطةٍ واحدةٍ في سلسلةٍ واحدةٍ، في

ذاتٍ واحدةٍ، وفي يدٍ واحدةٍ بترتيبٍ طبيعيٍّ لائقٍ بها، فتصبح كل المواد والقوى

والأعمال الاجتماعية، وأفراد الأمة مُتماسِكةًَ متشابِكةً؛ حتى لا نرى فيها خَلَلاً، ولا

خَرقًا ولا فَتْقًا، بل تجدها كلها كحلقات السلسلة التي التحم بعضها مع بعضٍ،

فأضحت شيئًا واحدًا.

فدور الاجتماع والائتلاف إذا جاء على المادة، ظهر فيها الخلق، واستعدت

للحياة ، وعبَّر القرآن عن هذا بالتخليق والخلق والتسوية (فقال: {الَّذِي خَلَقَ

فَسَوَّى} (الأعلى: 2) ، فالوجود والحياة ليس إلا اجتماع أجزاء المادة مؤتلفة،

وكذلك الموت والفناء ليس إلا تفرقها وتشتتها، وإذا جاء على الأعمال سماه علماء

الأخلاق) بالخير (وسمته الشريعة) بالعمل الصالح والحسنات (، وإذا جاء على

الجسم سماه علم الطب (بالصحة) ، وقال الطبيب هذه حياة، ثم إذا جاء على

القوى والأعمال الاجتماعية القومية سمي (بالحياة الملّية الاجتماعية) ، وكان

موجبًا لنبوغ الأمة ونفوذها وسلطانها، فالعبارات مختلفةٌ كثيرةٌ، والحقيقة واحدةٌ،

لا تتعدد ولا تتبدل، ولا غَرْوَ فإن الله الحكيم واحدٌ منفردٌ وحكمته واحدةٌ وناموسه

واحدٌ ولَنِعْمَ ما قيل:

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكلٌّ إلى ذلك الجمال يشيرُ

وضد الاجتماع والائتلاف (التشتت والانتشار) فالتشتت من (الشتات) ،

ومعناه في اللغة: التفرق، يُقال شتّ جمعهم شتًّا وشتاتًا وجاؤوا أشتاتًا أي متفرقي

النظام (مفردات ص 256) وفي القرآن: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} (الزلزلة: 6)، {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} (طه: 53) {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:

14) أي مختلفة، والانتشار من النشر، وهو أيضًا التفرق والبسط كما في القرآن

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10) .

وأما دور (التشتت والانتشار) : فهو أن تتفرق المواد، والقوى، والأعمال

والأفراد، فيصير كل شيء على ضد ما كان عليه في عهد الاجتماع، فإذا عرضت

هذه الحالة للمادة قيل (فسادٌ وانحلالٌ) ، وللجسم قيل (مرض وداء ثم موت) ،

وللأعمال قيل في تعبير القرآن (عمل السوء والعصيان والفسق والإجرام) ،

وللأمم قيل: (الموت الملي، والموت الاجتماعي) ، فتصبح الأمة في هذا الدور

في هبوطٍ بعد الصعود، وذلةٍ بعد العزة، وضعفٍ بعد القوة، وعبوديةٍ بعد الحرية

والسيادة، ثم تسير إلى الموت والهلاك بعد أن كانت صحيحة ًقويةً حيَّةً، فيا له من

بلاءٍ ليس فوقه بلاءٌ، والعياذ بالله!

ولذلك تجد القرآن ينبه مرة بعد مرة على أن (الاجتماع والائتلاف) الأساس

الأكبر لحياة الأمم، ويعده أكبر نعمة من الله سبحانه على البشر، ويعبر عنه

بالعبارات العظيمة الشأن (كالاعتصام بحبل الله) وغيره، ويقول للأمة:

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) ثم يخبر بعد هذا

بأن لا حياة مع التشتت والانتشار، فإنه نارٌ موقدةٌ تحرق كل شيءٍ يقربها، ولا

سيَّما شجرة الحياة الاجتماعية، فإنها إذا مستها لا تُبقِي عليها ولا تَذر، فقال تعالى:

{وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) ، ثم يخبر بأن الحياة الاجتماعية في الأمم ليست من تدبير

البشر [7] ، فمهما بلغ الإنسان من القوة، والعظمة والعقل - لا يقدر على أن يكون

أمةً، بل هو الله الواحد القادر، يجمع الأشتات فيؤلف بينها ويسلكها في نظام واحد،

فقال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ

إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) .

وأخبر القرآن أيضًا بأن أول ثمرةٍ تثمرها الشريعة الإلهية، وأعظم بركة

تجود بها على النوع الإنساني في الدنيا هي (الاجتماع والائتلاف) ، وكرر مرةً

بعد أخرى أن التفرق، والتشتت، والانتشار لا يجتمع مع الدين أبدًا، وأنه عاقبة

الإعراض عن الله، وعصيانه، والبغي عليه، فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ

أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى

جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (يونس: 93) {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ

بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: 17) .

ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام والحياة الإسلامية في

الجماعة، وعدَّ الخروج عنها من الجاهلية، والحياة الجاهلية، فقال: (مَن فارقَ

الجماعةَ فمات فمِيتَتُهُ جاهليَّةٌ) (كما ستراه مفصلاً إن شاء الله) ، وأمر المسلمين

أمرًا مؤكدًا بالتزام الجماعة في كل حال، وبطاعة الأمير سواءً كان برًّا أو فاجرًا،

أهلاً للإمارة أو غير أهل، عادلاً في حكمه أو ظالمًا، كيفما كانت سيرته، ومهما

فسدت طريقته يجب عليهم طاعته، ولا يجوز لهم الخروج عليه، إلا أن يَمرُقَ مِنَ

الدين جهارًا، أو يترك الصلاة؛ فحينئذٍ لا طاعة له عليهم [8] ، وأخبر أن كلَّ من

تَنَكَّبَ عن الجماعة شبرًا فقد كُبَّ على وجهه في النار، وجعل زمامه بيد الشيطان،

وقضى على نفسه بالخسران والهلاك؛ وذلك لأن الجماعة كالسلسلة الفولاذية التي

يعيي الأشداءَ كسرُها، وآحاد الأمة كالحلقات التي سلامة كل واحدةٍ منها في سلسلتها؛

فإنها إن انفصلت عنها صارت حلقةً واحدةً تُكسرُ أو تُلقى في الزُّبالةِ.

ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرًا ما يروي

في خُطبهِ: (عليكم بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الفَذِّ، وهو من الاثنين أبعد) ،

وفي رواية: (

فإن الشيطان مع الواحد) ، وقد ذكره في خطبته الشهيرة

بالجابية، التي رواها عبد العزيز بن دينار وعامر بن سعد وسليمان بن يسار

وغيرهم ونقل البيهقي أن الشافعي رضي الله عنه كان يستدل بهذا على صحة

الإجماع، وورد في الحديث المتواتر بالمعنى -:(عليكم بالسواد الأعظم) ،

وحديث: فإنه مَن شذَّ شذَّ في النار) وحديث: (يد الله على الجماعة) وحديث:

(لا يجمع الله أمتي على الضلالة) ، وكما قال عليٌّ عليه السلام في خطبة

له: (إياكم والفُرقة؛ فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب،

ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه) [9] ، وغير هذا

كثيرٌ من الأحاديث والآثار في هذا الباب.

فجملة القول أن المسلمين أُمِروا أمرًا مؤكدًا بأن يكونوا مع الجماعة أبدًا؛ لأن

مَنِ انقطع عنها انقطع في النار؛ ولأن الأفراد والآحاد المتفرقة لا حياة لهم، بل

إنما هم للموت، والفناء، والهلاك، وأما الأمة الصالحة فحياتها باقيةٌ على وجه

الدهر، ولن تهلك أبدًا؛ ولأن يد الله مع الجماعة، وهو لا يرضى أن تجتمع الأمة

بأسرها على الضلالة.

ولتعويد المسلمين على الحياة الاجتماعية [10] أمرتهم الشريعة بالتزام صلاة

الجماعة في كل حالٍ، حتى إنها لا تُترك لفقدان الإمام الأهل للجماعة، بل يداوم

عليها مع السعي في نصبِ الأهلِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا خلف كل

بَرٍّ وفاجِرٍ) [11] .

ولذلك نرى سورة الفاتحة التي هي دعاءٌ اجتماعيٌّ للمؤمنين عامَّةً يدعو بها

كلُّ واحدٍ منهم على حدته - استعملت فيها صيغ الجمع لا الواحد، فقال: {اهْدِنَا

الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6)، ولم يقل:(اهدني) ؛ وذلك لأن القرآن -

كما قلنا من قبل - لا يَرَى للفرد حياة قائمة بالذات، بل الحياة عنده للجماعة فقط،

وما الأفراد وأعمالهم - في نظره - إلا لأن تتكون منهم، ومنها الهيئة الاجتماعية؛

فلهذا عبر بصيغ الجمع في هذا الدعاء الذي هو حاصل الإيمان، وزبدة القرآن،

ومخ الإسلام - وكذلك جعل الدعاء الذي يدعو به كل مسلم لأخيه لما يلقاه: (السلام

عليكم) بالجمع، لا (السلام عليك) ، وكذلك السلام حين الخروج من الصلاة،

والعلة فيه أيضًا ما ذكرناه، لا ما فهمه كثيرٌ من الناس.

وإنك إذا أمعنت النظر ترى جميع أحكام الشريعة وأعمالها - مبنيةً على هذا

الأساس، أساس الاجتماع، والائتلاف، وقد علمت ما في صلاة الجماعة،

والجمعة والعيدين، ومثلها الحج، فليس هو إلا عبارةٌ عن اجتماع المسلمين (على

أحاديث شعائر الله) ، وكذلك الزكاة التي ما جُعلت إلا لقيام الهيئة الاجتماعية،

فيؤخذ مِن رءوس أموال الأفراد شيءٌ مُعَيَّنٌ؛ ليُصرَفَ على الجماعة، وطريقة

أدائها أيضًا اجتماعية، فليس لكل أحدٍ أن يصرف زكاته بمشيئتِه وإرادته، بل عليه

أن يؤديها إلى الإمام الذي له وحدَه أن ينفقها في الأمور العامة، ويعين لها مصرفًا

مِن المصارف المنصوصة في الكتاب، لا كما يفعله الناس في الهند فينفق كلُّ واحدٍ

زكاته بنفسه، نعم ليس في هذه البلاد التعسة إمامٌ، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نعمل

لها نظامًا مخصوصًا كما عملنا للجمعة والعيدين.

ولعمر الله إن هذه الحقيقةَ واضحةٌ لا غُبار عليها، تنجلي كالشمس لمَن دقق

النظر في الأحاديث النبوية التي تنص على أن المسلمين يجب أن يعيشوا عيشةً

واحدةً، ويحسبوا أنفسهم أبناء أمةٍ واحدةٍ؛ فانظر مثلاً حديث مُسلمٍ: (مَثَلُ

المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى

منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وحديث الصحيحين:

(المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشُد بعضه بعضًا، ثم شبّك بين أصابعه) ، فأوضح

صلى الله عليه وسلم أن المسلمين ليسوا آجُرًّا أو حجارةً متفرِّقةً، بل هم جِدارٌ، بل

حِصنٌ مُشيَّدٌ يشد بعضه بعضًا، ولا يذهبنَّ عن بالك أن الأمر بتسوية الصفوف في

الصلاة إنما هو لنفس هذه الحكمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو

ليخالفنَّ الله بين وجوهكم) (البخاري) وفي رواية السنن: (سوُّوا صفوفكم؛ فإن

تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) (البخاري) ، ومثلُهُ كثيرٌ من الآيات،

والأحاديث في هذا الباب، يحتاج في شرحها وبيان حقائقها إلى مجلدٍ ضخمٍ، وقد

وفينا البحث حقه في تفسيرنا (البيان في مقاصد القرآن) ، فليراجعْهُ مَن يشاءُ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الشارع في دين الإسلام هو الله تعالى ويطلق اللقب على النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار التبليغ وقال بعض العلماء. إن الله تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أن كل ما ثبت في السنة من الأحكام فهو إما استنباط من القرآن، وإما وحي غيره، فإن الوحي لا ينحصر فيه، والتحقيق أن هذا التفصيل خاص بالأحكام الدينية كالعبادات، وأما الأمور المدنية والسياسية والحربية فقد كان صلى الله عليه وسلم يحكم فيها ويسن برأيه واجتهاده، ومشاروة أولي الأمر من عقلاء المسلمين وزعمائهم بالمكانة، والرأي وجمهور الأمة، وقد أذن له تعالى بهذا، ولأولي الأمر بعده بالتبع له كما حققناه بالتفصيل في تفسير:[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ](النساء: 59) وهذا يسمى تشريعًا في عرف علماء الحقوق وواضعي القوانين، وبه يبطل قول الجاهلين بشرعنا إنه شرعٌ جامدٌ لا ينطبق على كل زمانٍ.

(2)

الكاثوليك من النصارى يقولون بأن من حق البابا أن يكون حاكمًا سياسيًّا مدنيًّا أيضًا.

(3)

رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن حبان بسند صحيح، وفي رواية:(ثم تكون ملكًا عَضُوضًا) .

(4)

رواه البخاري في تاريخه والحاكم بسند صحيح.

(5)

إشارة إلى حديث: (أمتي أمة مباركة لا يُدرَى أولها خير أو آخرها) رواه ابن عساكر عن عمر بن عثمان مرسلاً، وسنده حسن.

(6)

كان شيخنا الأستاذ الإمام يقول: (إن هذا الوعد لما يتم ولا بد من تمامه بظهور الإسلام على سائر الأديان في أوروبا وأمريكة والشرق الأقصى) .

(7)

ليس المراد أنه لا ينبغي لزعماء الشعوب والأقوام المتفرقة أن يسعوا إلى تكوينها وجعْلها أمةً عزيزةً لعجز البشر عن ذلك، بل المراد أن هذا التكوين للأمم قد جُعل بسنة الله تعالى في الاجتماع أثرًا وغاية لأعمال أطوار كثيرة، بعضها من كسب الأفراد، وبعضها ليس من كسبهم، فلا تقع بتدبيرهم، ولكن عليهم أن يعملوا ما في طاقتهم مِن وسائلها، ويَكِلوا إلى عناية الله تعالى - إنجاح سعيهم وإتمام عملهم.

(8)

(إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق) ، كما صح في الحديث، وأجمع عليه المسلمون وصرح الخلفاء الراشدون على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم بمطالبة المسلمين بتقويم زيغهم وعوجهم، وإنما يمتنع عند علماء أهل السنة الخروج على الإمام الجائر إذا كان يُخشَى مِن الخروج عليه فتنةٌ تفرق الأمة، وشق عصاها لضعف القائمين بذلك من الأمة وإذا كان المؤلف قد وعد بتفصيل القول في المسألة فإننا منتظرون ما يجيء به، فإما أن نقره، وإما أن نذيّله بحاشيةٍ، نبين فيها ما نرى أنه الحق، كما بيناه في المنار مرارًا.

(9)

رُوي هذا في الروايات الأخرى مرفوعًا اهـ من حواشي الأصل.

(10)

تقديم التعليل يفيد الحصر، ولا حصر، ففي صلاة الجماعة فوائد أخرى.

(11)

رواه البيهقي في سننه بسند ضعيف، وله تتمة.

ص: 45

الكاتب: حسني عبد الهادي

‌من الخرافات إلى الحقيقة

(2)

الضربة الأولى التي ضُرب الإسلام بها

كان الواجب أن نبدأ بالفصل الأول والثاني حسب ترتيب الكتاب الذي هو

مأخذنا، ولكن بعض الأسباب دعتنا إلى تأخير ذَيْنِكَ الفصلين، وتقديم هذا الفصل:

إن الضربة الأولى التي ضُرِبَ الإسلام بها كانت بيد رجلٍ اسمه (عبد الله بن

سبأ) ، كان هذا الرجل يهوديًّا، ثم أسلم ظاهرًا، وأعماله تدل على أنه كان يحمل

حقدًا شديدًا للمسلمين، وكان يرمي إلى غرضٍ واحدٍ هو تمزيق شمل (الوَحدةِ)

الإسلامية، وسلاحه القاطع نشر الخرافات الملائمة لطبائع المسلمين من غير

العرب.

ذهب هذا الرجل إلى البصرة؛ إذ كان عبد الله بن عامر عاملاً (واليًا) عليها،

وسمى نفسه باسم مستعار (ابن السوداء) ، وأخذ ينشر هناك آراءَ تلائم أهواء

الذين دخلوا في الإسلام حديثًا. وعند ما بلغ خبره العامل (الوالي) استقدمه إليه،

وسأله عن شخصه، وسبب مجيئه إلى البصرة فقال: (أنا رجل من أهل الكتاب

أحببت السكنى في دار الإسلام تحت رعايتك) ! ، وإذ لم يقنع الوالي هذا الجوابُ

طرده من البصرة. فتزيَّا بزي مسلمٍ مهتدٍ، وطَفِقَ يزرع بذور الفساد بين المسلمين

الذين دخلوا في الإسلام حديثا، ولم ينسلخوا من تقاليدهم القديمة، ذهب أولاً إلى

الكوفة ثم إلى مصر، وألف جمعيات سرية لأجل القيام على الخليفة بقصد إيقاع

الشقاق، والتفريق بين المسلمين.

لقيت البذور التي زرعها هذا اليهودي المُتزيِّي بزيِّ المسلمين تربةً خصبةً،

وكانت إدارة عثمان بن عفان كمساعد لنموها؛ فتمكن الرجل من تفريق المسلمين

في أمر الخليفة، وشق عصاهم، فإذا هم فريقان يختصمون.

ولم يكتفِ بذلك، بل تمسك بحبل الاستفادة من شعور الحب والاحترام في

القلوب لأهل البيت النبوي الشريف، واستفاد من استخدام هذا الشعور العالي

لمقاصده، واتخذ الفجيعة بعلي المرتضى، وولديه سبطي الرسول عليهم السلام

ذريعةً لدسِّ الدسائس، وتقسيم المسلمين إلى شِيَعٍ؛ لأنه كان يعلم أن العقائد

الراسخة، والتقاليد الموروثة، والعادات لا تتبدل في الناس بسرعةٍ بمجرد دخولهم

في دينٍ جديدٍ، مهما يكن واضحًا جليًّا ومنطقيًّا معقولاً، كما كان يعلم أن الدين إذا

دخل محيطًا غير محيطه الأصلي لا بد أن يضم إليه أشياءَ كثيرةً، ويكتسب لونًا

يوافق نظر أهل تلك البلاد؛ لذلك عزم على أن يستفيد من هذا الحال؛ ليضرب

الدين ضربةً قاضيةً، فأخذ ينشر قواعد الدين الحنيف صابغًا إياها بصباغ عادات

البلاد الموروثة، والناس كانت تستقبل ذلك بشوق وسرور.

انتشر الإسلام في فارس، ومصر، وسورية، واستولى عليها، وكان

لأهالي هذه البلاد عقائد وعادات قديمة راسخة في القلوب. ومع قبول هؤلاء الناس

للدين الإسلامي كانت عاداتهم لا تزال ذات السلطان الغالب عليهم، فسذاجة الدين

الإسلامي وبساطته لم تكن كافية لتسكين نيران شوق السكان الأصليين لحب الفخفخة

والعنجهية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؛ ولذلك كانوا يتلقَّوْن أقاويل عبد الله بن

سبأ كماءٍ زُلالٍ تسرَّب إلى قلوبهم المملوءة حرارةً وشوقًا إلى المظاهر الفارغة.

وكانوا يحرصون على إلباس الدين الحنيف كساءً جديدًا منسوجًا من خيوط عاداتهم

وأساطيرهم، وهذا الشوق من جملة أسباب دخول خرافات إيران، ومصر القديمة

والهند في الدين الحنيف.

أول مَن تصدى لهدم دين مجوس الفرس، وملكهم الكسروي أبو بكر الصديق

الأعظم، وتلاه الفاروق الأعظم، فقضى على ذلك الاستقلال، وجعل تلك الأمة

تابعة للعرب الذين كانت تحتقرهم، وتبع ذلك انتشار الإسلام فيهم، فساء هذا وذاك

الذين ظلوا مستمسكين بدينهم، ولا سيما أصحاب السلطتين الدينية والدنيوية منهم،

فكان منهم بالطبع مَن يندب استقلالهم، ويتربص الفرص لرفع السلطة العربية عنهم،

وكانون يمقتون الفاروق مقتًا شديدًا؛ لأنه هو الذي فتح بلادهم، وذهب بعِزِّهم

ومجدِهم. في ذلك الوقت استفاد عبد الله بن سبأ من مجرى الأحوال، كما استفاد

في زمان ذي النورين، وظهر بمظهر المدافع عن حقوق آل البيت، فخدع بعض

العرب، ومهَّد الطريق أمام سياسيي المجوس لأخذ الثأر، والانتقام من العرب،

وإعادة الاستقلال السياسي لبلادهم؛ بحجة الانتصار لآل البيت.

وأما مقصد عبد الله بن سبأ فلم يكن إلا تفريق المسلمين بجعْلهم شيعتين

متعاديتين، تقاتل كل منهما الأخرى، مستفيدًا من شعور المسلمين معتمدًا على

أهواء الفرس، فاستفاد من إحساس العرب ومن دهاء العجم.

بث أولاً دعوة حصر الخلافة والإمامة في عليٍّ وأولاده - رضوان الله

عليهم - ثم ادعى ألوهية عليٍّ، حتى قال له:(أنت الله) ! ، عندئذٍ نفاه - كرم

الله وجهه - إلى المدائن ولكنه ظل مثابرًا على نشر دعوته.

قلنا إن الذي بدأ بالمسألة الإيرانية أبو بكر الصديق، والذي ضرب الضربة

القاضية عمر الفاروق، وفي زمان ذي النورين عام 31 هجرية قُتل آخر ملوك

إيران (يزدجرد) ؛ فكان هذا من دواعي تشيع عبد الله بن سبأ لعلي - رضي الله

عنه - لأجل أن يشق عصا المسلمين، ويفرق شمل العرب؛ فيجعلهم فريقين

مُختصِمَين، ويوقع الشبهات في العقيدة الإسلامية الجامعة للكلمة، ويُجرِّئ المجوس

من الفرس على أخذ ثأرهم، ومحاولة استعادة ملكهم.

وبعد أن توفَّى الله أبا الحسنين طَفِقَ يقول: (لم يمُت عليٌّ وإن الذي قتله ابن

ملجم شيطانٌ، تمثل بصورة عليٍّ؛ لأن صهر النبي صعد إلى السماء، والرعد

صوته، والبرق لمعان سيفه، وسينزل يومًا إلى الأرض، ويَمْلَؤُها عدلاً) !

وقد صدَّقَ كثيرٌ من العوام الجاهلين أقوال هذا اليهوديِّ الماكر؛ لأن دأبهم

تصديق كل قائلٍ، واتباع كل ناعقٍ، ولا سيما إذا كانت هذه الأقوال قريبةً من

تقاليدهم، كما هو شأن أولئك الذين دخلوا الإسلام حديثًا من النصارى، واليهود،

والمجوس، فالقول بألوهية عليٍّ، وربوبيته كالقول بربوبية عيسى وألوهيته،

والقول بنزول عليٍّ إلى الأرض لأجل إصلاحها - يوافق اعتقاد النصارى (الذين

ينتظرون نزول عيسى من الملكوت إلى الأرض) ، ولا يبعد عن اعتقاد اليهود

ظهور مسيح آخر، وقد تلقاه الإيرانيون بأحسن قبولٍ؛ لأنه يشابه اعتقادهم أن

(هرموز) بموجب دين (زرادشت) - صعد إلى السماء، وسينزل يومًا ما إلى

الأرض؛ وبهذا الشكل جعل اليهود، والنصارى، والمجوس راضين مطمئنين؛

لأنه أتاهم بشيءٍ أَنِستْ به أرواحهم، ولَطَمَ الحنيفية لطمةً، لطَّخَ بها جسمها الناصع

البياض لطخةً مُبايِنَةً للونه الجميل، فكانت هذه أوَّل خرافةٍ سرت إلى أهل هذا

الدين الحنيف.

العوام غريبو الطبع، يتَّبِعون كل ناعقٍ، ويركضون خلف كل صوتٍ بسهولةٍ؛

لذلك تمكن هذا اليهوديُّ (عبد الله بن سبأ) من تكوين حزبٍ دينيٍّ، وشِيعةٍ

سُمِّيتْ (السبائية) . وإذ كان أفراد هذه الفرقة التي زالت، ولم تزل خرافاتها -

يعتقدون أن الرعد صوت علي عليه السلام صار من شعائرها أن يقولوا كلما

تألق البرق بالتقاء الكهربائية الإيجابية بالسلبية: (السلام عليك يا أمير المؤمنين) !

***

الأسباب التي مهدت لظهور هذه الفرقة ثلاثة:

السبب الأول: سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه:

في إرخاء العِنَان لمروان، وكثرة استعماله لأقاربه، ومحاباته لهم، خلافًا لما

جرى عليه الخليفتان قبله؛ فبذلك كثر الناقمون الطالبون لتغيير الحال، وقد قال الله

تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ، فلو اتُّبِعَتْ هذه الآية

الكريمة لما وجد عبد الله بن سبأ محلاًّ خصبًّا لبذر بذوره.

السبب الثاني: افتتح المسلمون بسيف الحق ومكارم الأخلاق بلاد الفرس

والروم (مستعمرات الرومان) .

وكانت هاتان الدولتان في ذلك الوقت على غايةٍ من الانحطاط، وفساد

الأخلاق، وكان أبو بكر الصديق، والفاروق رضي الله عنهما يبذلان الجهد

لحفظ كرامة الإسلام، ورفعته ونقائه، ويحذران عليه من سريان أمراض تَيْنك

الأمتين الروحية والاجتماعية إلى العرب، وناهيك بعناية الفاروق، وحرصه

على معالي الأخلاق والفضيلة والشرف، فمتانته في الدين، وصلابته في الحق،

وعدالته التامة بين الخلق كانت تجذب إلى الإسلام فضلاءَ الأمتين (الفرس

والروم) ، كما يجذب المغناطيس الحديد، ومن سوء حظ الأمم المنحطة أن

يكون أبناؤها المتحلون بالفضائل خصومًا لها، كما وقع في هاتين الأمتين،

وغيرهما من الأمم [1] .

وأول ما كان الفاروق يعتني به هو منع الامتزاج بين العنصرين الغالب

والمغلوب كما يفعل الإنكليز اليوم [2] .

ولكن عندما صار الأمر إلى عثمان ذي النورين، وحصل الشقاق بين بني

هاشم، وبين الأمويين - تمكنت عادات الفرس والروم (إيران وبيزانس) من

التسرب إلى المسلمين؛ وهذا مما جعل بذور عبد الله بن سبأ تنبت، ثم تثبت

في هذه القلوب، فبرجوع مروان إلى المدينة - وهو المطرود منها بأمرٍ نبويٍّ -

وجعْله على رأس رجال الحلِّ والعقد، وتعيين أكثر الأمويين ولاةً واشتداد

الخصام بين الأمويين وبني هاشم - أُهملت أحكام الشرع الأنور. وكانت

شكايات الناس، وتظلُّماتهم تصل إلى عثمان رضي الله عنه بصورةٍ

مقلوبةٍ، لا يعرف بها حقيقتها، إلى أن اشتد البأس، ونفد الصبر؛ فَسُفِكَ

الدَّمُ، أفكان صيِّبًا نافعًا يسقي بذور أعداء الإسلام؟ !

السبب الثالث: توسيد الأمور السياسية التامة إلى غير العرب من

المسلمين:

فلو حصرت الحقوق السياسية - أي حق التدخل بأمر الإدارة وتنفيذها -

بالعرب لما حصل ما حصل؛ فإن بعض الذين أسلموا لم يكن إسلامهم حقيقيًّا، بل

اتخذوا الإسلام سلاحًا لجرح الإسلام، ثم كانوا أمهر من العرب بالدسائس

السياسية، فاستفادوا من صفاء قلوب العرب، وكَدَّروها كما شاؤوا بكل

سهولةٍ.

ألم تر إلى الدول التي تغلب الشعوب على أمرها في هذا العصر، لا تعطي

مثل هذا الحق للمغلوبين ألبتة؟ ! أيتصور اليوم أن يدخل مجلس النواب

الإنكليزي أعضاءٌ من فلسطين أو الهند، ويكون لهم رأيٌ في أمور الإدارة

والسياسة؟ ! إن رجال دول الاستعمار في هذا العصر يبعدون المغلوبين عن

الوظائف العالية، إداريةً كانت أو سياسيَّةً أو عسكريَّةً؛ لأنهم درسوا

التاريخ، وعرفوا علَّة انحطاط مَن سبقهم مِن الأمم؛ فاعتبروا بخطيئات

المتقدمين [3] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هذه الكلمة منبعثة عن التعصب الجنسي من المؤلف، وهي ليست حقًّا باطراد؛ فما جرى عليه أهل الفضائل من تفضيل الصلاح، والإصلاح الإسلامي، وإن جاءهم من غير أبناء جنسهم على فساد أقوامهم - كان من حسن حظ أقوامهم؛ لأنهم استفادوا من العرب هدى وصلاحًا، ولم يخسروا شيئًا؛ لأن الإسلام لم يفضل العرب عليهم بشيء إلا بحصر الخلافة في قريش وقد تمنى بعض كُتاب فرنسة الأحرار لو بقي العرب في بلادهم عند ما فتحوا بعضها، وقال: إن إخراجهم منها قد كان لسوء حظهم، فلولاه لسبقوا سائر أوربة إلى المدنية ببضعة قرون وإنما تصح هذه الكلمة في حالة استيلاء شعبٍ على شعبٍ آخر؛ ليسخره في منافعه، ويستغل بلاده بأيدي أهلها، كما فعل الرومان بالأمس، ويفعل أخلافهم من الإفرنج اليوم، ولكن أهل الفضائل في هذه الحالة لا يفضلون الأجنبي على قومهم، وإن كان يفوقهم في كثير من المزايا، وإنما يفضله طلاب المنافع بخدمته، وهم من أهل الرذائل، وإن رفعتهم المناصب التي يخونون أمتهم بقبولها من الأجنبي ثمنًا لأوطانهم.

(2)

من أصح الشواهد على هذا ما رواه مسلم في صحيحه مختصرًا: (كتب عمر رضي الله عنه إلى قائد جيشه في بلاد العجم عتبة بن فرقد: يا عتبة إنه ليس من كدّك، ولا من كدِّ أبيك ولا من كد أمِّك، فأشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعمَ، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير) إلخ، وفي مسند أبي عوانة بسند صحيح أنه كتب إليه:(أما بعد: فاعتزوا، وارتَدُوا، وألفوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم بالشمس؛ فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشِنُوا واقطعوا الرَّكب، وابرزوا وارموا الأغراض)، قال النووي - في شرح صحيح مسلم -:(ومقصود عمر - رضي الله تعالى عنه - حثّهم على خشونة العيش، وصلابتهم في ذلك، ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك) اهـ، التمَعْدُدُ التشبه بمعد بن عدنان في ذلك.

(3)

المنار: يظهر أن مؤلف الكتاب - وهو من إخواننا الترك الذين ينظرون في تاريخ الإسلام بالعين التي ينظرون بها إلى دول أوربة وشعوبها، ولا يقدرون ما بينهما من الفارق حق قدره - أن أهل أوربة يقصدون من التغلب على الشعوب استخدامها؛ لتوفير لذَّاتهم، والاستعلاء عليها لمجرد التمتع بالعظمة، والسلطان، والكبرياء، والعلو في الأرض وأما الإسلام فإنه يحرم هذا كله، ولم يقصد أهله العارفون به من فتح البلاد إلا هداية أهلها إلى الحق، والعدل والفضيلة، وإنقاذهم من الشرك، والخرافات، والرذائل، لا لجعلهم عبيدًا للمسلمين، بل ليكونوا مثلهم، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ولو جرى العرب على الخطة التي يجري عليها الأوربيون اليوم - خلافًا لتعاليم الإسلام - لما أمكن أن يستولوا في قرنٍ واحدٍ على سلطنة أعظم من السلطنة الرومانية التي أسسوها في بضعة قرون، ولَمَا غلبوا أعظم دول الأرض - الفرس والروم - في بضع سنين، وقد كانت الدولة الأموية ذات عصبيةٍ عربيةٍ، فلم تقدر أن تثبت قرنًا واحدًا نعم، إن سياسة الفاروق كانت هي السياسة المثلى في محافظة العرب الفاتحين على آدابهم، وعاداتهم التي كانت على وفق هداية الإسلام؛ لئلا تفسدها التقاليد الأعجمية الفاسدة، وكان ينبغي أن تكون بيدهم مقاليد الأمور، وألا يشركوا فيها إلا مَن يوثق بصلاح حاله، وعدم الخوف من سوء مآله، ولم يعمل الأمويون، ولا العباسيون بهذه القاعدة الراشدة؛ فضاع الأمر بين التفريط والإفراط.

ص: 56

الكاتب: محمد رشيد رضا

العبر التاريخية

في أطوار المسألة المصرية

ذهب وفد وزارة عدلي باشا الرسمي إلى لندره؛ لأجل الاتفاق مع حكومتها

على رفع الحماية البريطانية عن مصر واستبدال علاقةٍ أخرى بين البلدين بعد أن

صَدَّعَ هذا الوفد بناءَ الوَحدةِ المصرية، وفرَّق كلمتها، فمن جرَّاءِ هذا كان نصيبه

الفشل، واغتر الإنكليز بتفريق الكلمة بقوة الوزارة المصرية، فوضع اللورد

كيرزون لمصر نظامًا جديدًا، حذف به كلمة (الحماية) ، وأبقى معناها، بل ما هو

أشد منه في استعباد البلاد، واستذلالها الأبديِّ، فلم يَسَعْ عدلي باشا، ووفده قبول

هذا النظام باسم مصر، بل عاد إليها، وبعد عودته بأيامٍ نشرت الحكومة الوثائق

الثلاث الآتية في المسألة المصرية، وها هي ذي بنصها:

بلاغٌ رسميٌّ

رفع حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا رئيس مجلس الوزراء، ورئيس

الوفد الرسمي المصري إلى حضرة صاحب العظمة السلطانية بطريق البريد -

مشروع المعاهدة الذي وضعته الحكومة البريطانية وجواب الوفد الرسمي المصري

عليه، وهذه ترجمة هاتين الوثيقتين:

ترجمة مذكرة

بخصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر

أولاً - انتهاء الحماية:

(1)

في مقابل المعاهدة الحالية، والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في 18 ديسمبر سنة

1914، والاعتراف بمصر من ذلك الحين دولةً متمتعةً بحقوق السيادة

STATE SOVEREING تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ، فبمقتضَى هذا قد

أُبرمَت، وتستمر باقيةً بين حكومةِ جلالة ملك بريطانيا من جهةٍ، وبين حكومة

مصر، والشعب المصري من الجهة الأخرى معاهدةٌ دائمةٌ ورابطة سلامٍ، وودادٍ

وتحالُفٍ.

ثانيًا- العلاقات الأجنبية:

(2)

تتولى الشؤون الخارجية لمصر وزارةُ الخارجية المصرية تحت إدارة

وزيرٍ معيَّنٍ لذلك.

(3)

يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عالٍ،

يكون له في جميع الأوقات - وبسبب مسؤولياته الخاصة - مركز استثنائي، ويكون

له حق التقدم على ممثلي الدول الأخرى.

(4)

يمثل الحكومة المصرية في لوندره، وفي أية عاصمةٍ أخرى ترى

الحكومة المصرية أن المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها

فيها معتمدون سياسيون، يكون لهم لقب ومرتبة وزيرٍ.

(5)

بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر،

وعلى الخصوص فيما يتعلق بالدول الأجنبية - يجب أن توجد أوثق الصلات بين

وزارة الخارجية المصرية، والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة

الممكنة للحكومة المصرية فيما يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية.

(6)

لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاقٍ سياسيٍّ مع دولةٍ أجنبيَّةٍ

بدون أن تستطلع رأي حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير

العالي البريطاني.

(7)

تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج

حسب مقتضياتها.

(8)

لأجل تولي الشؤون السياسية بوجهٍ عامٍ والقيام بالحماية القنصلية

للمصالح المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون، أو قناصل

مصريون - يضع ممثلو جلالة ملك بريطانيا العظمى تحت تصرف الحكومة

الحكومة المصرية لمصرية ويقدمون لهم كل مساعدة في قدرتهم.

(9)

تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة

لإلغاء الامتيازات الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسؤولية حماية

المصالح المشروعة للأجانب في مصر، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة

المصرية قبل البت في هذه المفاوضات رسميًّا.

ثالثًا - النصوص العسكرية

(10)

تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها

الحيوية، وعن سلامة أراضيها.

لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية

الحماية اللازمة - تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر

في أي مكانٍ في مصر، ولأية مدةٍ يحددان من وقتٍ لآخر. ويكون لها أيضًا في كل

وقتٍ ما لها الآن من التسهيلات لإجرائه، واستعمال الثكنات، وميادين التمرين،

والمطارات والترسانات الحربية والمين الحربية.

رابعًا - استخدام الموظفين الأجانب

(11)

بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها بريطانيا العظمى، وبالنظر

للحالة القائمة في الجيش المصري، والمصالح العمومية - تتعهد الحكومة المصرية

بأن لا تعين ضبّاطًا أو موظفين أجانب في أية مصلحةٍ منها قبل موافقة القوميسير.

خامسًا - الإدارة المالية

(12)

تعين الحكومة المصرية - بعد استشارة حكومة جلالة ملك بريطانيا

العظمى - قوميسيرًا ماليًّا توكل إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن

أعضاء صندوق الدَّيْن، ويكون هذا القوميسير المالي مسؤولاً بوجهٍ أخص عن دفع

المطلوبات الآتية في مواعيدها وهي:

(1)

المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة.

(2)

جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين

على المعاش وورثتهم.

(3)

ميزانيتا القوميسيريين المالي، والقضائي، والموظفين التابعين لهما.

(13)

لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي - يجب أن

يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له - في

كل وقتٍ - التمتع بحق الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية.

(14)

ليس للحكومة المصرية عقد قرضٍ خارجيٍّ، أو تخصيص

إيرادات مصلحةٍ عموميةٍ بدون موافقة القوميسير المالي.

سادسًا - الإدارة القضائية

(15)

تُعيِّن الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا

العظمى - قوميسيرًا قضائيًّا، يكلَّف بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا

العظمى للقيام بمراقبة تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب.

(16)

لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي - يجب أن

يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص

وزارة الحقانية والداخلية، ويكون له في كل وقتٍ التمتع بحق الدخول على

وزيري الحقانية والداخلية.

سابعًا - السودان

(17)

حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر

ولدوام مورد المياه لها - تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس

المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلاً من ذلك

لحكومة السودان إعانةً ماليةً تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين، تكون كل القوات

المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام.

وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه

النيل؛ ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تُقام أعمال ريٍّ جديدةٍ على النيل أو روافده

جنوبيّ وادي حلفا بدون موافقة لجنةٍ مؤلَّفةٍ من ثلاثة أعضاءٍ، يمثل أحدهم مصر،

والثاني السودان، والثالث أوغندا.

ثامنًا - قروض الجزية

(18)

المبالغ التي تعهد خديوي مصر في أوقاتٍ مختلفةٍ بدفعها للبيوت

المالية التي أصدرت القروض التركية المضمونة بالجزية المصرية - تستمر

الحكومة المصرية على تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد، والاستهلاك

لقرضي سنة 1894، وسنة 1891، إلى أن يتم استهلاك هذين القرضين.

تستمر الحكومة المصرية أيضًا في دفع المبالغ التي كان جاريًا دفعها لسداد

فوائد قرض سنة 1855 المضمون.

عندما يتم استهلاك قروض سنة 1894، وسنة 1891، وسنة 1855 تنتهي

مسؤولية الحكومة المصرية فيما يتعلق بأي تعهدٍ ناشئٍ عن الجزية التي كانت تدفعها

مصر لتركيا سابقًا.

تاسعًا - اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم

(19)

للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين

البريطانيين في أي وقتٍ كان بعد نفاذ هذه المعاهدة، بشرط أن يُمنح هؤلاء

الموظفون تعويضًا ماليًّا كما سيأتي بيانه، وذلك زيادة على المعاش، أو المكافأة

التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم.

ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذا الشرط في الاستعفاء من الخدمة

في أي وقتٍ بعد نفاذ هذه المعاهدة.

تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين

ليس لهم الحق في المعاش، وأيضًا على موظفي البلديات، ومجالس المديريات،

والهيئات المحلية الأخرى.

(20)

الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش - طبقًا لنص المادة

السابقة - تُعطى لهم زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم، تكون كافية لسد

نفقات ترحيل الموظف نفسه، وعائلته، ومتاعه المنزلي إلى لوندره.

(21)

تُدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعرٍ ثابتٍ

قدره 97،5 قرشًا للجنيه الإنجليزي.

(22)

يوضع جدول عن التعويضات:

(1)

للموظفين الدائمين.

(2)

للموظفين المؤقتين.

بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات التأمين arles Societiofuact.

عاشرًا - حماية الأقليات

(23)

تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين

أساسية، وألا يتضارب معها، أو يؤثر عليها أي قانون، أو لائحة، أو عمل

رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون، أو لائحة، أو عمل رسمي.

(24)

تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة

لأرواحهم، وحريتهم، مِن غير تمييزٍ، بسبب مولدهم أو تبعيتهم الدولية، أو لغتهم،

أو جنسهم، أو دينهم.

يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحريةٍ تامةٍ علانيةً أو غير

علانيةٍ بشعائر أية ملةٍ، أو دينٍ، أو عقيدةٍ ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام

العام أو الآداب العمومية.

(25)

جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون،

ويكون لكل منهم التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية، مِن

غيرِ تمييزٍ بسببِ الجنسِ أو اللُّغةِ أو الدينِ.

اختلاف الأديان، والعقائد، والمذاهب لا يؤثر على أي شخصٍ حائزٍ للرعوية

المصرية في المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية مثل: الدخول في

الخدمات العمومية، والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف، أو مزاولة المهن،

أو الصناعات.

لا يسوغ فرض أي قيدٍ على أي شخصٍ متمتعٍ بالرعوية المصرية في حرية

استعماله لأية لغةٍ في معاملاته الخصوصية، أو التجارية، أو في الدين، أو في

الصحف، أو في المطبوعات مِن أي نوعٍ كانت، أو الاجتماعات العمومية.

(26)

الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية،

أو الدينية، أو اللغوية يكون لهم الحق في القانون، وفي الواقع في نفس المعاملة،

والضمانات التي يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى

الخصوص يكون لهم حقٌّ مساوٍ لحق الآخرين في أن يُنشئوا أو يُدِيروا أو يراقبوا

على نفقتهم معاهد خيرية، أو دينية، أو اجتماعية ومدارس، أو غيرها من دور

التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها لغتهم الخاصة، وأن يقوموا بشعائر

دينهم بحريةٍ فيها. اهـ.

***

ترجمة رد الوفد المصري الرسمي

(على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر)

اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى

رئيس الوفد بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1921.

ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها

مناقشاتنا، والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهورٍ - نفس النصوص، والصيغ

التي عُرِضت علينا عند بدء المفاوضات، ولم نقبلها حينئذٍ.

فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهميةٍ كبرى - استبقى المشروع الحل

الذي قاومناه أشد مقاومةٍ، ولم يقتصر على ذلك، بل توسع في مرماه بما جعله أشد

وطأةً على أن حماية المواصلات الإمبراطورية (وهي التي قيل في مفاوضات العام

الماضي: إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية في القطر المصري) لا تبرر هذا

الحل.

ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطةٍ في منطقة القنال تنحصر فيها طرق

ووسائل المواصلات الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى حمايتها - نص

المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوات عسكرية في كل زمانٍ،

وفي أي مكانٍ بالأراضي المصرية، وضع أيضًا تحت تصرفها كل ما لدى القطر

من وسائل المواصلات وطرقها. وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم

كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية، على أن

الاحتلال العسكري في الماضي - ولو لم تكن له إلا صفةٌ مؤقتةٌ - قد كفى لأن

يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي

نصٍّ في معاهدةٍ أو تقويةٍ لأية سلطةٍ.

أما مسألة العلاقات الخارجية - وهي المسألة الوحيدة التي عُدلت فيها

الصيغة الأولى التي كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ

التمثيل - فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به - بقيودٍ كثيرةٍ، أصبح

معها بمثابة حقٍّ وهميٍّ؛ إذ لا يتصور أن تتوفر لدى وزير الخارجية الحرية التي

يقتضيها القيام بأعباء منصبه، وتحمل مسئوليته إذا كان ملزمًا بنصٍّ صريحٍ بأن

يَبْقَي على اتصالٍ وثيقٍ بالمندوب السامي؛ فإن ذلك معناه أن يكون خاضعًا في

الواقع لمراقبته مباشرة في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك، فإن الالتزام

بالحصول على موافقة بريطانيا العظمى على جميع الاتفاقات السياسية (حتى ما لا

يتناقض منها مع روح التحالف) - فيه إخلالٌ خطيرٌ بمبدإ السيادة الخارجية،

وأخيرًا فإن استبقاء لقب المندوب السامي (وهو لقب لم تجرِ العادة بمنحه إلى الممثلين

السياسيين لدى البلاد المستقلة) - لهو أوضح في الدلالة على طبيعة النظام

السياسي المقترح لمصر.

ومِن جهةٍ أخرى، فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم

تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة، وأن المفاوضة بشأنها في المستقبل تكون

موكولةً إلى مصر صاحبة الشأن الأول مع معاونتها في ذلك سياسيًّا من جانب

حليفتها. ولكنّ المسألة منظورٌ إليها اليوم كأنها تعني على الأخص بريطانيا العظمى

التي تتولى من الآن حماية المصالح الأجنبية. وتريد أن تباشر وحدها عند الاقتضاء

المفاوضات بشأن إلغاء الامتيازات.

أما فيما يتعلق بالمندوبين (القوميسرين) المالي، والقضائي، وبتداخلهما

في إدارة الشؤون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تداخلاً قد يصل في

بعض الأحوال فيما يختص بالمندوب (القوميسير) المالي إلى شل سلطة الحكومة،

والبرلمان - فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه مِن الاعتراضات في

مذكراتنا.

على أنه يتحتم علينا القول بأن المناقشات التي تلت تأجيل مسألة الامتيازات

بعثت في نفوسنا الشعور بأن الاتفاق فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية - سيقوم

على قواعد أكثر ملاءمةً للسيادة المصرية.

أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه

النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه

النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على هذه البلاد من حق السيادة الذي لا

نزاع فيه، وحق السيطرة على مياه النيل.

إن الملاحظات المتقدمة لا تجعل ثَمةَ حاجة إلى مناقشة المشروع تفصيلاً؛ إذ

فيها ما يكفي للدلالة على روحه، ومرماه، وغير هذا، فقد التزم تكرار ذكر

تعهدات بريطانيا العظمى، و (المسؤوليات الخصوصية) الواقعة على المندوب

السامي، وكذلك الغرض الجديد - وهو قصد صيانة المصالح الحيوية لمصر -

الذي اتُّخِذ سببًا لوجود القوة العسكرية؛ وبهذا تتم للمشروع صبغة الوصاية الفعلية.

إنا لما قبلنا المهمة التي عهد بها إلينا عظمة السلطان، كنا نؤمل الوصول إلى

إبرام معاهدة تحالف مؤيدة لاستقلال مصر تأييدًا حقيقيًّا وكفيلة في الوقت نفسه

بصيانة المصالح البريطانية، وعندئذٍ فإن مصر حليفة بريطانيا العظمى كانت تعد

من واجبات كرامتها الوفاء بإخلاص بما تقطعه على نفسها من العهود، ولكن

التحالف بين أمتين لا يمكن أن يتحقق إلا على شريطة أن لا يقضي على إحداهما

بالخضوع الدائم.

وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح

المفاوضات. ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق هذا الأمل، فهو بحالته لا يجعل

محلاًّ للأمل في الوصول إلى اتفاقٍ يحقق أماني مصر الوطنية.

...

...

... لوندره في 15 نوفمبر سنة 1921

***

ترجمة تبليغ

من نائب جلالة الملك إلى حضرة صاحب العظمة سلطان مصر

في 3 ديسمبر سنة 1921

يا صاحب العظمة

إنه بموجب التعليمات التي وصلتني من حكومة جلالة الملك، لي الشرف أن

أرفع إلى مقام عظمتكم البيان الآتي، المتضمن آراءَ حكومة جلالته فيما يتعلق

بالمفاوضات التي جرت حديثًا مع الوفد المرسل من قِبَل عظمتكم تحت رئاسة

صاحب الدولة عدلي باشا.

إن حكومة جلالته قدمت إلى عدلي باشا مشروع اتفاقٍ لعقد معاهدةٍ بين

الإمبراطورية البريطانية، ومصر، كانت حكومة جلالته على استعدادٍ لأن توصي

جلالة الملك، ومجلس النواب بقبوله، ولكنها علمت بمزيد الأسف أن ذلك المشروع

لم يحز قبولاً لديه، ومما زاد أسفها أنها تعتبر اقتراحاتها هذه سخيةً في جوهرها،

واسعةَ النطاق في نتائجها، وأنها لا يمكنها أن تبقى محلاًّ لأي أملٍ في إعادة النظر

في المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات.

إن هناك حقيقةً جليةً سادت العلاقات بين بريطانية العظمى، ومصر مدة

أربعين سنة، ويجب أن تبقى هذه الحقيقة سائدةً هذه العلاقات على الدوام، وهي

التوافق التام بين مصالح بريطانيا العظمى في مصر، وبين مصالح مصر نفسها.

إن استقلال الأمة المصرية، وسيادتها كليهما عظيم الأهمية للإمبراطورية

البريطانية، إن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا العظمى،

وممتلكات جلالة الملك في الشرق، وجميع الأراضي المصرية هي - في الواقع -

ضروريةٌ لهذه المواصلات؛ لأن مصير مصر لا يمكن فصله عن سلامة منطقة

قنال السويس؛ لذلك فإن حفظ مصر سالمةً مِن تسلط أية دولةٍ عظيمةٍ أخرى عليها-

هو في الدرجة الأولى من الأهمية للهند، وأستراليا، ونيوزيلاند، ولجميع

مستعمرات، وولايات جلالته في الشرق، ويؤثر في سعادة وسلامة نحو ثلاثمائة

وخمسين مليونًا من رعايا جلالته. ثم إن نجاح مصر يهم هذه البلاد ليس لأن كلاًّ

من بريطانيا العظمى ومصر هي أفضل عميلةٍ للأخرى فقط، بل لأن كل خطرٍ

جسيمٍ على مصلحة مصر التجارية أو المالية يدعو إلى مداخلة الدول الأخرى فيها،

ويهدد استقلالها. هذه كانت البواعث الرئيسية للعلاقات بين بريطانيا العظمى

ومصر، وهي لا تزال الآن على ما كانت عليه من القوة في الماضي.

قد اعترف الجميع بما أصاب هذا الائتلاف من النجاح بوجهٍ عامٍّ أثناء العهد

السابق للحرب العظمى. ولما بدأت بريطانيا العظمى تهتم بمصر اهتمامًا فعليًّا كان

المصريون فريسةً للاختلال المالي، والفوضى الإدارية، وكانوا تحت رحمة أي

قادمٍ، ولم يكن في طاقتهم مقاومة ضروب الوسائل القتَّالةِ للاستغلال الأجنبي، تلك

الوسائل التي تستأصل من نفوس الأمة كرامتها، وتمحو قواها الحيوية. فإذا كانت

الأمة المصرية الآن أمةً نشيطةً ذات كرامةٍ، فإنها مدينةٌ بهذه النهضة على

الخصوص لمعونة بريطانيا العظمى ومشورتها! إن المصريين سلِموا من المداخلة

الأجنبية، وأُعينوا على إنشاء نظام إداري وافٍ، وقد تدرب عددٌ كبيرٌ منهم على

إدارة الأمور والحكم، واطَّرد نمو مقدرتهم، ونجحت ماليتهم نجاحًا فوق المنتظر،

وقد قامت سعادة جميع الطبقات على أسسٍ ثابتةٍ. وفي هذا التقدم السريع لم يكن

هناك ظل للاستقلال، إن بريطانيا العظمى لم تطلب لنفسها ربحًا ماليًّا أو امتيازًا

تجاريًّا، والأمة المصرية قد جنَت كل ثمار مشورة بريطانيا العظمى ومساعدتها لها!

إن شبوب نار الحرب بين الدول الأوروبية سنة 1914 زاد بالضرورة عُرى

الائتلاف توثيقًا بين الإمبراطورية البريطانية ومصر. ولما انضمت الدولة العثمانية

إلى جانب ألمانيا في الحرب - لم يكن أثر ذلك قاصرًا على تهديد المواصلات

البريطانية وحدها، بل كان مهدِّدًا لها، ولاستقلال مصر على السواء تهديدًا عاجلاً،

فكان إعلان الحماية على مصر اعترافًا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا يمكن دفع

الخطر عن الإمبراطورية البريطانية ومصر معًا إلا بعملٍ مشتركٍ تحت قيادةٍ واحدةٍ.

كان اتساع نطاق الحرب بدخول تركيا فيها السبب في قتل وتشويه آلاف من

رعايا جلالة الملك من الهند وأستراليا ونيوزيلاندا ومن رجال بريطانيا العظمى

أيضًا وقبورهم في غاليبولي وفلسطين والعراق شاهدة على الجهد العظيم الذي

كابدته شعوب الإمبراطورية البريطانية بسبب دخول تركيا. قد اجتازت مصر هذه

المحنة دون أن يمسها ضررٌ بفضل جهود مَن بعثت بهم تلك الشعوب من الجنود.

فكانت خسائر مصر طفيفةً، ولم يزد دَينُها، وثروتها الآن أعظم مما كانت قبل

الحرب، في حين أن الكساد الاقتصادي قد اشتدت وطأته على أكثر البلدان الأخرى.

فليس من الحكمة أن الشعب المصري يتغاضى عن هذه الحقائق أو ينسى لمَن هو

مدين بذلك كله، ولولا القوة التي أبدتها الإمبراطورية البريطانية في الحرب

لأصبحت مصر ميدان حربٍ بين القوات المتحاربة، ولوطئت هذه القوات حقوق

مصر بأقدامها وأفنت ثروتها، ولولا نصر الحلفاء لم تكن الآن في مصر أمةٌ تطالب

بحقوق السيادة الوطنية بدلاً عن حمايةٍ أجنبيةٍ. فالحرية التي تتمتع بها مصر الآن،

وما تتطلع إليه من حريةٍ أوسع - إنما هي مَدِينةٌ بهما للسياسة البريطانية، والقوة

البريطانية!

إن حكومة جلالة الملك مقتنعةٌ بأن الاتفاق التام في المصالح بين بريطانيا

العظمى ومصر - الذي جعل ائتلافهما نافعًا لكلتيهما في الماضي - هو دعامة

العلاقة التي يجب على كلتيهما استمرار المحافظة عليها. وعلى الإمبراطورية

البريطانية الآن - كما كان في الماضي - أن تحمل على عاتقها في آخر الأمر

مسئولية الدفاع عن أراضي عظمتكم ضد أي تهديدٍ خارجيٍّ. وكذلك عليها تقديم

المعونة التي قد تطلبها في أي وقتٍ حكومة عظمتكم لحفظ سلطتكم في البلاد، ثم إن

حكومة جلالة الملك تطلب فوق ذلك أن يكون لها دون غيرها - الحق في تقديم ما

قد تحتاج إليه حكومة عظمتكم من المشورة في إدارة البلاد، وتدبير ماليتها، وترقية

نظامها القضائي، ومواصلة علاقاتها مع الحكومة الأجنبية. على أن حكومة جلالته

لا ترمي من وراء هذه المطالب إلى منع مصر من تمتعها بكامل حقوقها في حكومةٍ

ذاتيةٍ وطنيةٍ، بل هي ترمي بذلك إلى التمسك بها قبل الدول الأجنبية الأخرى،

وهذه المطالب قوامها تلك الحقيقة وهي أن استقلال مصر، واستتباب النظام فيها،

وسعادتها - ركنٌ أساسيٌّ لسلامة الإمبراطورية البريطانية، وحكومة جلالة الملك

تأسف على أن مندوبي عظمتكم لم يتقدموا أثناء المفاوضات تقدمًا يُذكر في سبيل

الاعتراف بما للإمبراطورية البريطانية دون سواها من الأسباب الصحيحة للتمسك

بهذه الحقوق والمسئوليات.

إن شروط المعاهدة التي تعتبرها حكومة جلالة الملك ضروريةً لحفظ هذه

الحقوق، وكفالة هذه المسؤوليات - قد أُدرجت في موادَّ للشروع الذي سيرفعه إلى

عظمتكم صاحب الدولة عدلي باشا. وأهم هذه الشروط هو ما يتعلق بالجنود

البريطانية؛ فإن حكومة جلالة الملك قد عنيت أتم عناية ببحث الأدلة التي قدمها

الوفد المصري في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع أن تقبلها؛ لأن حالة العالم

الحاضرة، ومجرى الأحوال في مصر منذ عقد الهدنة - لا يسمحان بأي تعديلٍ كان

في توزيع القوات البريطانية في الوقت الحاضر ومِن الواجب إعادة القول بأن

مصر هي جزءٌ من مواصلات الإمبراطورية. ولم يكد يمضي جيلٌ على مصر منذ

أُنقذت من الفوضى، وهناك علاماتٌ على أنه لا يبعد على المتطرفين في الحركة

الوطنية أن يزجُّوا بمصر ثانيةً في الهوة التي لم يطل العهد على إنقاذها منها. وقد

زاد اهتمام حكومة جلالة الملك بهذا الشأن لما رأته من وفد عظمتكم في الاعتراف

بأن الإمبراطورية البريطانية يجب أن يكون عندها ضمانٌ قويٌّ ضد أي تهديدٍ مثل

هذا لمصالحها، وإلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه سلوك مصر مدعاةً إلى الثقة

بالضمانات، وأول هذه الضمانات، ورأسها هو وجود جنود بريطانية في مصر،

وحكومة جلالة الملك لا يمكنها أن تتخلى عن هذا الضمان، ولا أن تنقص منه.

على أنها تعيد القول، وتؤكده بأن مطالبها في هذا الصدد لا يقصد بها

استمرار الحماية، لا فعلاً، ولا حكمًا، بل العكس إن أمنيتها القلبية الخالصة هي

أن تتمتع مصر بحقوق وطنية، ويكون لها بين الأمم مقام دولةٍ متمتعةٍ بحق السيادة

على أن تكون مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالإمبراطورية البريطانية بمعاهدة تكفل

للفريقين مصالحهما، وأغراضهما المشتركة؛ ولهذه الغاية التي جعلتها حكومة

جلالته نصب عينها - اقترحت رفع الحماية فورًا، والاعتراف بمصر (دولةٌ

متمتعةٌ بحقوق السيادة تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ) والاستعاضة عن العلاقات

القائمة الآن بين الإمبراطورية البريطانية، ومصر بمعاهدةٍ دائمةٍ، ورابطة سلامٍ،

وودادٍ وتحالُفٍ وكانت حكومة جلالته تأمل أن مصر بإعادة وزارة الخارجية ترسل

ممثليها في الحال إلى الممالك الأجنبية. كما أنها كانت على استعداد لتعضيد مصر

في انضمامها إلى جمعية الأمم إذا طلبت ذلك؛ وبذلك كان يتحقق لمصر في الحال

ما للدول المتمتعة بحقوق السيادة من السلطة والميزات.

ولكن رفض حكومة عظمتكم الحاضرة لهذه الاقتراحات أوجد حالةً جديدةً،

وهذه الحالة لا تؤثر في مبدإ السياسة البريطانية، ولكنها بالضرورة تقلل من

التدابير التي يمكن تنفيذها الآن؛ فلذلك ترغب حكومة جلالة الملك أن تبدي

بوضوحٍ حالة موقفها الآن.

ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء

الأمة المصرية، واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت

لديها على الدوام، وهي العمل على إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين

منهم في كل فرعٍ، ولا سيما في الفروع الإدارية العالية التي كثر فيها عدد

الموظفين الأوروبيين. حكومة جلالته مستعدةٌ لأن تواصل بمشاورة حكومة عظمتكم-

المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي

جَلِيًّا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات،

وكذلك ترجو حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون

العسكري - تباشرها الحكومة المصرية وحدَها بمقتضى القوانين المدنية المصرية،

وهي تُسَرّ برفع الأحكام العسكرية حالما يصدر (قانون التضمينات) (Actol

Indemniti) ويعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر، وهو قانون

لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر.

وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارةٍ

جليَّةٍ السياسة التي تنوي اتباعها. فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد

عظمتكم - قد رُفض بحجة أن الضمانات التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح

البريطانية والأجنبية تقضي على التمتع بالحكومة الذاتية تمتعًا صحيحًا، وهي

تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر، واشتراك

الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يُساء فهم المراد منها إلى هذا

الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية مهما كانت هذه الأماني

صحيحةً ومشروعةً في ذاتها دون أن يكترث اكتراثًا كافيًا بالحقائق التي تستحكم في

الحياة الدولية - فإن تقدمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخر فقط،

بل يتعرض للخطر تعرضًا تامًّا؛ إذ ليس مِن فائدةٍ تُرجى من وراء التصغير من

شأن ما على الأمة من واجباتٍ، وتعظيم ما لها من الحقوق. وإن الزعماء

المتطرفين الذين يدعون إلى هذا العمل لا يعملون على نهوض مصر بل يهددون

رُقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرةً بعد مرةٍ الدولة

الأجنبية في مصالحها، وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على

التأثير في مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم،

وإن حكومة جلالة الملك لا تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج مِن

هذا القبيل، ولن يمكن مصر أن تسير في سبيل الرقي إلا متى أظهر قادتها

المسؤولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا التهييج، فإن العالم يتألم الآن

في جهاتٍ عديدةٍ من الاندفاع في نوعٍ من الوطنية المتعصبة المضطربة. وحكومة

جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة، سواء في مصر أو في غيرها،

وإن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعْل القيود الأجنبية

التي يطلبون الخلاص منها أشد لزومًا، وبذلك يطيلون أجلها!

وإذ الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاةً لمصلحة مصر، ومصلحتها

الخاصة أيضًا ستستمر بلا تردُّدٍ على مواصلة غرضها كمرشدةٍ لمصر، وأمينةٍ على

مصالحها. ولا يكفيها أن تعلم أن في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر

بعد أن تركت لنفسها بغير معونةٍ قد عادت إلى عهد التبذير، والاضطراب الذي

لازمها في القرن الماضي؛ فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل العمل الذي بُدِئ

به في عهد اللورد كرومر، لا أن تبدأه من جديدٍ، وهي لا تنوي أن تبقي مصر

تحت وصايتها، بل العكس ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية،

وتوسيع مجال العمل أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح

الوطني تحقيقًا تامًّا، ولكنها ترى من الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق

والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة على السواء، وذلك

إلى أن يُظْهِر الشعب المصري أنه قادرٌ على صيانةِ بلاده من الاضطراب الداخلي،

وما يترتب عليه حتمًا من تدخل الدول الأجنبية.

وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية

البريطانية، لا على تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما

يتعلق بها إلى البحث في أية طريقةٍ قد تعرض عليها؛ لأجل تنفيذ اقتراحاتها في

جوهرها، وذلك في أي وقتٍ تريده حكومة عظمتكم، على أنها مع هذا لا يسعها

تعديل المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف تلك الضمانات

الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل

مصر في أيدي الشعب المصري نفسه. فكلما زاد اعتراف شعبكم بوَحدة المصالح

البريطانية ومصالحه كلما قلَّت الحاجة إلى هذه الضمانات، وقادة مصر المسؤولون

هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني مِن اشتراكهم مع بريطانيا العظمى - أن يُثبِتوا

بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن، وبالتزام جانب الحكمة في العمل به

أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن تُوكل لعنايتهم

بالتدريج. اهـ.

(المنار)

قد صدَّقت الأحداث جميع ما قررناه في المسألة المصرية في الجزء السابع،

وجاءت الوقائع بما توقعناه من فشل مفاوضة الوفد الرسمي للحكومة البريطانية،

واستعفاء وزارة عدلي باشا، فكان ما أحدثه اختلافها مع الوفد - أو سعد - من

الشقاق سبب حرمانها مما تبغي من الاتفاق، وكان فشلها خيرًا لمصر من نجاحها؛

فإنه أزال غرور جميع مُحسِني الظن بالدولة البريطانية، وأبطل تغرير الانتفاعيين

الذين كانوا يخدعون بها الأمة، فمشروع كرزون الصادع خيرٌ من مشروع ملنر

الخادع؛ إذ أظهر للعالِم والجاهل والذكي والغبي أن بريطانيا لا تبغي من المصريين

إلا الاعتراف لها بأنها سيدة مصر والسودان، والمالكة لهما، ولأهلهما، ولئن كان

لورد كرومر هو المسترق، فكرزون هو المحرر؛ بحفزه الأمة إلى الخروج من

هذا الرِّق، وإنما الفضل للسلطة العسكرية التي أرهقت البلاد، وأجبرت وزراء

لندن على إماطة حجاب الرياء.

ونكتفي بأن نقول في هذه التعليقة العجلى على هذه الوثائق الرسمية: إن

بريطانية كانت تظن أن هذا الطغيان، والجبروت، والعظموت، والتهديد بقوة

السعير العسكري - لا بد أن يرهب مصر الفتاة العزلى، فتخر ساجدةً بين يدي

القائد اللِّنبِي فاتح القدس قائلةً: غفرانك غفرانك؛ نحن عبيد بريطانيا العظمى

صاحبة الحق في أموالنا، ودمائنا، وأرضنا، وسمائنا، فمهما تمنحنا في حكم

بلادنا من وظيفةٍ أو منصبٍ، أو حق مأكلٍ أو مشربٍ - فهو فضلٌ وسخاءٌ منها

نقابله بالحمد والشكر، ومهما تستأثر به من الحكم، والتصرف، والمنافع ومن رقبة

الأرض - فهو من تصرف المالك في ملكه، وإن سُمِّي في العُرف العام والخاص

مصادرةً وظلمًا!

كذب ظن بريطانية؛ فإن الأمة قد هبت كلها للإنكار الشديد على المذكرتين،

ورفضهما أشد الرفض، وفي مقدمتها زعيمها الأكبر سعد باشا، وأعضاء الوفد

داعية إلى الاتحاد على ذلك، وعلى الإصرار على الاستقلال التام المطلق بلسان

جميع أحزابها، وصحفها، فأمر القائد اللنبي سعدًا، ومَن معه باعتزال السياسة،

والخروج من القاهرة إلى الريف، فردوا الأمر فاعتقلوا، ونفوا من مصر؛ فثارت

البلاد ثورةً اجتماعيةً عامةً، لم يصدها عنه الخوف من الجند البريطاني الذي ملأ

العاصمة، وغيرها من المدن معززًا بالسيارات المدرعة، والطيارات المهددة،

وعاد أعضاء الوفد المشاقّون فاتحدوا مع الباقين يعملون في بيت الأمة، وبرزت

إلى ميدان السياسة عقيلة الزعيم التي أبت مرافقته لتحل محله في خدمته، فألقت

على أعضاء الوفد خطابًا من وراء حجابٍ، ذرفت منه العيون، واضطربت

الألباب، ثم جمعت شمل النساء على مقاومة الخصم بمقاطعة تجارته، وتربية

الأولاد على بغضه وعداوته، وعم التظاهر بالاستياء، والاحتجاج على المذكرتين،

ونفي الزعيم، وأعضاء الوفد في الجرائد، وغيرها من جميع الأحزاب،

والجماعات الرسمية، وغير الرسمية من دينية، ومدنية، حتى إن رؤساء الكنيسة

القبطية قرروا ترك الزيارات، والتهاني بعيدي الميلاد، ورأس السنة، وألحت

الوزارة العدلية بقبول استقالتها، وتعذر تأليف وزارةٍ جديدةٍ تنفذ للسلطة البريطانية

ما تريد لشدة الاحتجاج من الرأي العام للأمة، حتى الذين كانوا يسمون العدليين أو

الحكوميين والوزاريين.

وتواترت الوفود من جميع أرجاء القطر رافعةً احتجاجها إلى القصر السلطاني

على المذكرتين، ونفي الزعيم، ومَن معه إلخ، واستقر رأي السواد الأعظم

على مقاطعة التجارة الإنكليزية، ورجال الإنكليز، وأخيرًا أصدر الوفد قرارًا شديدًا

في هذا المعنى، نُشِر في بعض الجرائد؛ فعطلتها السلطة العسكرية، واعتقلت

أعضاء الوفد الذي وقَّعُوه؛ فحل محلهم أفراد آخرون بلا خوفٍ ولا وجلٍ، ولا غَرْوَ؛

فإن كل ما حصل فهو خيرٌ لمصر؛ إذ لا تتربى الأمم إلا بالشدائد، وشرٌّ للإنكليز؛

لأنه وضْع للقوة العسكرية القاهرة في موضع سياسة الحكمة، والدهاء الساحرة،

فإذا أصروا على ذلك كانوا هم الخاسرين، وإذا أصررنا على طلب حقنا كنا نحن

الفائزين، والعاقبة للمتقين.

_________

ص: 62

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(باحثة البادية)

بحث انتقادي بقلم الآنسة مي

قد اشتهر هذا الكتاب بين الناطقين بالضاد في كل قطرٍ تُنشَر فيه، أو تُقرَأ

الصحف العربية، فقد قرَّظته صحف القطر المصري، فالقطر السوري، فسائر

الجرائد العربية في سائر الأقطار، فكان له في صفحاتها أجمل الذكر والثناء؛ إذ

كان غريبًا في بابه، عديم النظير في الكتب العربية في نفسه، وفي كون منشئته

فتاة عربية تترجم عقليةً عربيةً بأسلوبٍ عربيٍّ جمع بين تأثير الشعر ودقة الفلسفة

وتحقيق التاريخ.

وقد عرف قراء هذه الصحف أن (باحثة البادية) لقبٌ أدبيٌّ مُنْتَحَلٌ للأديبة

المصرية الشهيرة فقيدة الإصلاح (مَلَك ناصف) عقيلة عبد الستار بك الباسل

(رحمها الله تعالى) كانت تتنكر عليّ به على عادة ربات الحِجال المسلمات

في عصرنا، وإن (ميًّا) لقبٌ أدبيٌّ منتحلٌ للأديبة المصرية النشأة السورية الأصل

الآنسة (ماري زيادة) أمتع الله الآداب العربية بطول حياتها، وأن هاتين النابغتين

العربيتين قد فاقتا جميع بنات جنسهما في هذا العصر، بل تفاخر مصرُ العربية بهما

بنات كل شعبٍ وكل مصرٍ.

نشر هذا الكتاب مطبوعًا منذ سنتين، وأهدته إليَّ المؤلفة، وأنا في دمشق

فكانت مطالعته مروِّحةً لنفسي مما أُكابد من أعمال رياسة المؤتمر، وسياسة الوطن،

وتبريح المرض، والبعد عن الأهل والولد، فتوجهت الإرادة إلى العناية بتقريظه،

والاستقصاء لوصْفه، والبحث في نقده على إِثْر التأثُّر بقراءته، فحالت دون ذلك

كارثة زحف الجند الفرنسي على الشام، وإسقاطه لحكومتها المبنية على أساس

الاستقلال، واشتداد المرض، ومنع المعتمد البريطاني إياي من العودة إلى وطن

السكن، فأحلت أمر تقريظه إلى مَن كان يقرظ غيره من المطبوعات التي تُهدى إلى

المنار، على ما كان من تقصيره في حقوق المهدين والقراء، فجرى فيه وفي كثيرٍ

من الكتب على مذاهب الإرجاء، وحسبي من قضاء حقه هذا التنويه الآن، وأرجو

أن أعود إليه في وقتٍ أُطيل فيه البحث في شئون تربية النساء.

***

(كتاب المسألة الشرقية)

المسألة الشرقية في علم السياسة أهم من مسألة التحسين والتقبيح العقليين في

علم الكلام، وأعقد من مسألة تربيع الدائرة في علم الهندسة، ونحن الشرقيين أحوج

إلى الإحاطة بها، والوقوف على عللها ومعلولاتها منا إلى العلم بسائر مسائل

السياسة، ومستمدها من علم التاريخ.

وقد كان أكثر أهل الشرق غافلين عن هذه المسألة لعدم المنبهات، الموقظة

من ذلك السُّبات؛ ولهذا افترضنا مسألة تألم العالم الإسلامي من مسألة طرابلس

الغرب، وبرقة؛ فكتبنا عشر مقالاتٍ بعنوان (المسألة الشرقية) نشرناها في

المؤيد، ثم في المنار، فكان لها تأثيرٌ عظيمٌ ذكرناه في محله من قبل. ثم جاءت

الحرب الكبرى - وما تلاها من الهدنة، وبناء قواعد الصلح بين الدول الغربية على

حل المسألة الشرقية حلاًّ نهائيًّا - فتم تنبه أذهان الشرقيين عامةً، والمسلمين خاصةً

للبحث في هذه المسألة، فبعث ذلك حسين لبيب أفندي أستاذ التاريخ في مدرسة

القضاء الشرعي على وضع كتابٍ وجيزٍ في المسألة نشرتْهُ مجلة الهلال المصرية،

ثم طبعته على حِدَته في جزءٍ بلغت صفحاته 120 ص من قطع المنار، وهو

خاصٌّ بطور المسألة الشرقية العثمانية التركية، وقد استمد مسائله من كتب التاريخ

العربية، والإفرنجية والجرائد. وهو مؤَلَّفٌ من مقدمة في التعريف بالمسألة، وستة

فصول، بيَّن فيها معنى المسألة، وأسباب ضعف الدولة، وما كان من نهضة الدولة

الروسية وقتالها إياها لحل المسألة الشرقية، والانقلاب العثماني الأخير، ومسألة

استقلال العناصر، وخاتمةٍ في حال الدولة العثمانية في الحرب العظمى، ومعاهدة

سيفر المقررة للقضاء على سلطنتها (ونحمد الله تعالى أن أماتها عقب ولادتها) ،

والكتاب مزين بصور عظماء رجال الدولة مِن المتقدمين، والمتأخرين، ويتصل به

خريطةٌ تاريخيةٌ لأملاك الدولة في القرن الماضي. فنحُثُّ كل مَن يهمه أمر الشرق،

والدولة العثمانية من قراء العربية - أن يطالع هذا الكتاب المختصر المفيد.

***

(مفاوضات الإنكليز بشأن المسألة المصرية)

نشر أمين بك الرافعي مدير جريدة الأخبار في العام الماضي مقالات في

الأخبار في تاريخ اعتداء الدولة البريطانية على البلاد المصرية واحتلالها إياها،

وما تبع ذلك من الوقائع، والأحداث، والمفاوضات السياسية الدولية في شؤون هذه

البلاد، كشف فيها القناع عن الدهاء، والرياء، والخداع الإنكليزي، الذي يجب

على كل مصريٍّ، وكل عربيٍّ، بل كل شرقيٍّ - أن يعرفه ويعتبر به، وكنا كلما

قرأنا مقالةً من تلك المقالات نرى وجوب حفظ الجريدة؛ لأجل الرجوع إليها، ثم

نتمنى لو تُجمع تلك المقالات في كتابٍ خاصٍّ. وكان يتمنى ذلك مثلنا كل مَن يعرف

قيمتها وشدة الحاجة إليها، وما كان من تعب الكاتب في جمع تلك الحقائق،

وإبرازها في الصيغة النافعة المؤثرة، وقد كاشف الكاتب بذلك كثيرون منهم

واقترحوه عليه فأجابهم إليه، وطُبعت المقالات على ورقٍ جيدٍ فكانت كتابًا تاريخيًّا

سياسيًّا جليلاً، بلغت صفحاته 270 من قطع المنار، فنحُثُّ كل مَن يُعنى بالسياسة

من قراء العربية على قراءة هذا الكتاب مرارًا، ونتمنى لو ينتشر في جميع الأقطار

العربية، ولا سيما المخدوعة منها إلى اليوم بالسياسة الإنكليزية، وثمن النسخة منه

25 قرشًا مصريًّا تضاف إليها أجرة البريد.

***

(كتاب الإرشادات الصحية والإسعافات الوقتية)

الأطباء أنفع العلماء بسنن هذا الكون للبشر، وأكثرهم قد قصر نفعه على

معالجة المرضَى التي هي حرفتهم، ومنهم أفرادٌ ينفعون الناس بعلمهم هذا، وبما

ينشرون من الكتب النافعة، وهم قليلون، وأقل منهم مَن لا تقف همته عند هاتين

الخدمتين العملية والعلمية، بل تتجاوزها إلى السعي لإنشاء المستشفيات، والملاجئ

للفقراء وغير ذلك من الأعمال الاجتماعية التي ترتقي بها الأمم؛ والدكتور عبد

العزيز بك نظمي من هؤلاء الأفراد، الذين تفتخر بهمتهم هذه البلاد، فهو على

كثرة عمله في عيادته الذي هو حق الحرفة، وعمله في مستشفيات الأوقاف بما

توجب عليه الوظيفة (حكمباشي مستشفيات الوزارة) ، وعمله في ملجأ الحرية

الذي أُسِّس بسعيه الحميد - يجد سعةً فيما يقتصد من وقته للتأليف، فله عدة كتبٍ

باللغة العربية، أكثرها في تربية الأطفال ومعالجتهم، وهو أخصائي في ذلك،

وأخرى باللغة الفرنسية. وآخر ما كتبه هذا الكتاب الذي نحن بصدد تقريظه، فقد

نشره بالطبع في أول هذا العام، واسمه يدل على مسماه، وهو يتألف من مقدمةٍ

وأربعة أقسامٍ.

فالمقدمة في التعريف بقانون الصحة، والقسم الأول: في الإرشادات الصحية

المتعلقة بالأغذية، والأشربة، والماء، والهواء، والنور، والنوم، والملابس،

والرياضة، ومضار المُسكِرات، والمُخَدِّرات، والثاني: في التمريض، وفيه 3

فصول، والثالث: في الأمراض الكثيرة الانتشار في الظاهر والباطن، وطرق

اتقائها، والرابع: في الإسعافات الطبية بأنواعها، ويتلوها بيان الصيدلية المنزلية،

أي ما ينبغي أن يكون في كل دارٍ من العلاجات، والمطهرات، والأدوات التي

تشتد الحاجة إليها، لا سيما للإسعاف عند حدوث مرضٍ، أو حرقٍ، أو جرحٍ، أو

لدغٍ، أو لسعٍ، وعبارة الكتاب سلسةٌ، يفهمها كل متعلمٍ ومتعلمةٍ، وإن لم يخلُ -

كأكثر المطبوعات العصرية - من أغلاط لفظيةٍ، يحسن تصحيحها في الطبعة

الثانية، وفيه عدة صورٍ ورسومٍ لإيضاح بعض المسائل. وجملة القول فيه أنه

ينبغي أن لا يخلو منه بيتٌ من البيوت، ولا أن يجهل ما أودعه رجلٌ ولا امرأةٌ؛

فكل ذلك مِن الضروريات التي لا يُستغنَى عنها. وصفحاته 170 من قطع كتاب

(الإسلام والنصرانية) . وثمن النسخة منه 10 قروش صحيحة، وأجرة البريد،

وهو يُطلب من مكتبة المنار.

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيه

ضاق هذا الجزء عن سائر المواد الموعود بها، ومنها البدء بالرحلة الأوربية.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

رجم الأيِّم بالزنا

(س4) من صاحب الإمضاء أحد تلاميذنا المصريين في دار الدعوة،

والإرشاد، إنكم في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ

} (النساء: 25)

إلخ من سورة النساء (جزء خامس ص25-26) -

استنكرتم رجم الأيِّم، وقلتم لم يرد فيه حديث صريح. أفليس حديث عبادة عند

مسلم مرفوعًا: (خذوا عني؛ قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب الرجم

الرجم) والثيب هو غير البكر، فهو شامل للأيِّم، ولذي الزوج. وحديث عمر

عند الشيخين، واللفظ للبخاري، قال: (الرجم في كتاب الله حق على مَن أحصن

من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) ، قال شارحه

صاحب الفتح: أي إذا وجدت المرأة الخَليَّة من زوجٍ أو سيدٍ حُبلى ولم تَذكر شبهةً أو

إكراهًا إلخ، وهو كما قال، وإلا فكيف يكون الحبل دليلاً على الزنا إلا إذا كانت

خليةً من زوجٍ وسيدٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر

الحجر) ، فإطلاق حديث مسلمٍ وتفصيل حديث الصحيحين - يفيدان أن حكم الأيِّم

في الزنا الرجم كحكم ذي الزوج سواء، فكيف تقولون: لم يرد في ذلك حديثٌ

صريحٌ؟ !

(ج) قد راجعت قبل البدء بكتابة هذا الجواب نص عبارتي في تفسير الآية

وهو: (لا أذكر أنني رأيت حديثًا صريحًا في رجم الأيِّم الثيب) وقد كنت كتبت

في حاشية نسختي الخاصة بإزاء هذه العبارة ما نصه:

(وكان الأولى تقديم الثيب على الأيم، والمراد رجم مَن كانت كذلك بالفعل

لا بالقول، وقد يقال إنه يدخل في عموم حديث عبادة بن الصامت عند أحمد،

ومسلمٍ، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه أن (على الثيب الجلد والرجم،

وعلى البكر الجلد والنفي) ، ولكن أكثر الفقهاء لم يأخذوا بهذا الحديث؛ إذ لم

يجمعوا بين الجلد والرجم، وفيه احتمال أن يراد بالثيب فيه المحصن بالفعل وهو

ذو الزوج.

وفي أثر عمر في الصحيحين، وغيرهما أن حمل المرأة المحصنة دليلٌ على

الزنا موجبٌ للرجم، ولم يأخذ كثيرٌ من الفقهاء بهذا كالشافعي، والكوفيين وقال

النووي في شرح مسلمٍ: إن هذا مذهب عمر. وأقول: صح عنه أنه لم يعمل به في

قصة المرأة الحُبلى التي اعترفت له في منى بأن رجلاً جامعها وهي نائمةٌ، ولم

تعرفه. اهـ.

كتبت هذا لِما يقع من الاشتباه فيه لإيضاحه عند التوسع الذي وعدت به،

وأزيد الآن أن الجمهور قد تركوا العمل بحديث عبادة للجزم بنسخه، واستدلوا على

ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يعمل به، فهو لم يجمع بين الرجم

والجلد في حدِّ ماعز والغامدية المتأخر عن ذلك الحديث. والتحقيق في اللغة أن

الثيب: المتزوج، كما يُعلم من المصباح واللسان. وعللوه بأنه مِن ثاب بمعنى:

رجع، فالبكر ترجع بالزواج إلى صفةٍ أخرى تسمى بها ثيِّبًا، والأيِّم ترجع وتثوب

مِن رجل إلى آخر، فهي إنما تسمى ثيِّبًا باعتبار ما آلت إليه، لا ما كانت فيه، فلا

غَرْوَ إذا وردت في الحديث بمعنى المحصن. وما ذكره عن عمر رضي الله عنه

ليس بحديثٍ فيُعد حجةً، ولو كان حديثًا مرفوعًا لأخذ به الشافعي والحنفية، على

أن عمر قد عبَّر بالإحصان، وكون الولد للفراش - لا يمنع ثبوت حمل

المحصنة بالزنا، فإن له صورًا لا تخفى. ثم إن مذهب عمر في رجم الثيب

المحصن من ذكرٍ وأنثى قد أخذه من روايته في رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا،

وكونه قرآنًا، وهو شاذٌّ لم يثبت كونه قرآنًا، ولو ثبت لوجب أن يكون خاصًّا

بالشيخ والشيخة؛ لأنه الشيخوخة وصف ترتب عليه الحكم، فأفاد كونه علةً له

كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) وحكمته

ظاهرةٌ، ولو كانا غير محصنين، فإن الزنا في سن الشيخوخة فسادٌ كبيرٌ، ويستحق

أقصى العقوبة؛ ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن الشيخ الزاني لا ينظر الله إليه

يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليمٌ كالفقير المستكبر.

وأما ثبوت الرجم بالسنة فلم ننكره، وإنما كان البحث فيما دل عليه قوله

تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ

العَذَابِ} (النساء: 25) ، وحديث أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه

وسلم -: (قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه) ، وهو الجلد

بالإجماع، وكون حكمة الشرع تقتضي أن يكون الإحصان ثابتًا بالفعل - فهل ينقض

هذا كله حديث عبادة المنسوخ، ومذهب عمر الذي خالفه فيه جمهور المسلمين؟ !

***

ما معنى الاستطاعة في الحج

(س5) ومنه:

فسَّروا الاستطاعة بالزاد والراحلة، وهذا إجمال، فمثلاً رجل يملك قطعة

أرضٍ زراعيةٍ أو بيتًا، ويُخرج له من ذلك ما يكفيه هو ومَن يعوله كفاية القصد،

أو الضرورة، وإذا باع أرضه أو بيته حصل على ثمنٍ يكفيه مدةً وتوفر له بعد ذلك

ما يحج به، فهل يقال: إن هذا الرجل غير مستطيعٍ نظرًا لغلة ملكه أو مستطيع

نظرًا لثمن ملكه؟ ، أفيدونا مأجورين.

...

...

...

...

عبد الرزاق حمزة

(ج) بيَّنا في تفسير قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران:

97) في أول الجزء الرابع من التفسير أن أمر الاستطاعة مَنُوط بالأفراد،

يختلف باختلاف أحوالهم البدنية، والمالية، وأن كل امرئٍ أعلم بنفسه ممن هو أعلم

منه بالأحكام والنصوص، حتى إن المسائل الخاصة التي اشتبه فيها السائل تختلف

باختلاف أحوال الناس في صحتهم، وهمتهم، ومعايشهم، ومعايش مَن يعولونه،

فمنهم مَن لا يضره بيع بيته، أو أرضه لينفق منها أو ينفقها على سفره لأداء

فريضة الحج، ومنهم مَن إذا باع بيته لا يجد لنفسه ولعياله مأوى سواه، وإذا باع

أرضه القليلة التي يَعِيش مع مَن تجب عليه نفقتهم مِن زرعها، لا يستطيع أن يعول

نفسه، وعياله من عملٍ يغنيه عنها، ومنهم مَن ليس كذلك، كمَن يحسن صناعةً،

أو خدمةً يجد فيها كفايته، فمتى فهم المكلف الحكم، فله أن يجتهد في تنفيذه،

والعمل به كاجتهاده في القبلة وغيرها عند الحاجة، ويعذر إذا أخطأَ في اجتهاده،

بل يؤجر أيضًا إذا لم يقصر فيه، ولم يكن مقصده منه العثور على شبهةٍ يتوَكَّأ

عليها في التَّفَصِّي عن أداء الواجب، والله أعلم.

***

التقليد والتلفيق فيه

وتقليد غير الأربعة

(س6، 7) مِن صاحب الإمضاء في بيروت (سورية)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد

رضا صاحب مجلة المنار الغراء - حفظه الله -

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:

أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم مِن الله

تعالى جزيل الأجر ومني عظيم الشكر.

في حاشية العلامة الشيخ يوسف الصفتي المالكي على الشرح المسمى

بالجواهر الزكية على ألفاظ العشماوية، للعلامة أحمد بن تركي المالكي في باب

فرائض الوضوء ما نصه:

(واعلم أنهم ذكروا للتقليد شروطًا، إلى أن قال: (الثالث) أنه لا يلفق

في العبادة، أما إن لفق كأن ترك المالكي الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي ولم يبسمل

لمذهب مالك فلا يجوز؛ لأن الصلاة حينئذٍ يمنعها الشافعي لفقد البسملة، ويمنعها

مالك لفقد الدلك، ثم قال - بعد ذلك -: وما ذكروه من اشتراط عدم التلفيق رده

سيدي محمد الصغير، وقال: المعتمد أنه لا يشترط ذلك، وحينئذٍ فيجوز مسح

بعض الرأس على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على مذهب المالكية، وكذا

الصور المتقدمة ونحوها، وهو سعةٌ ودين الله يسرٌ) .

فهل إذا اغتسل غسلاً واجبًا أو توضأ وضوءًا واجبًا مِن ماءٍ قليلٍ مستعملٍ في

رفع حدثٍ مقلدًا لمذهب الإمام مالك، وترك الدَّلك مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي،

وترك النية مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة يكون غسله ووضوؤه صحيحًا مثل

الصورتين المتقدمتين أم لا؟ ، وهل هناك فرقٌ؟ وهل يجوز التلفيق من مذاهب

الأئمة الأربعة في قضيةٍ واحدةٍ كغسلٍ واجبٍ أو وضوءٍ واجبٍ أو تيمُّمٍ واجبٍ أو

صلاةٍ واجبةٍ، وغير ذلك من العبادات، والمعاملات أم لا؟ .

وهل يجوز تقليد غير مذاهب الأئمة الأربعة كمذهب الإمام داود الظاهري،

وأصحابه ومذهب الإمام أبي ثور، ومذهب الإمام الثَّوري، ومذهب الإمام إبراهيم

النَّخعِي، ومذهب الإمام ابن أبي ليلى، ومذهب الإمام الأصم، ومذهب الإمام عبد

الرحمن الأوزاعي، ومذهب الإمام إسحق بن راهويه، ومذهب الإمام حمَّاد بن أبي

سليمان، ومذهب الإمام ابن المبارك ومذهب الإمام الليث، ومذهب الإمام الحسن

بن صالح، ومذهب الإمام الزهري، ومذهب الإمام زُفر، ومذهب الإمام محمد بن

جرير الطبري، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، ومذاهب الصحابة والتابعين -

رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في العبادات والمعاملات أم لا؟ .

وهل يجوز التلفيق من مذاهبهم في قضيةٍ واحدةٍ كغسلٍ واجبٍ أو وضوءٍ واجبٍ أو

تيمُّمٍ واجبٍ أو صلاةٍ واجبةٍ، وغير ذلك من العبادات والمعاملات أم لا؟ ، تفضلوا

بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب، والسائل

...

...

...

... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي

...

...

...

...

الشافعي مذهبًا

...

...

...

...

... بيروت

(ج) إن أكثر أحكام العبادات مُجمعٌ عليها، معلومةٌ مِن الدين بالضرورة؛

لتواتُرها بالعمل، وشهرة النصوص فيها فلا تقليد فيها، ومنها ما ثبت في السنة

على وجوهٍ أو بألفاظٍ مختلفةٍ كالتشهد في الصلاة، ودعاء الافتتاح، والوصل

والفصل في الوتر وغيره، أو ثبت فعله تارة، وتركه أخرى كالقنوت في الصبح

ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه، ومن التشهد الأول، فأخذ بعض العلماء بهذا

وبعضهم بذاك، والخَطب في هذا سهلٌ؛ إذ العمل بكل ما ثبت في السنة صحيحٌ،

لا يضر العامل اختلاف الرواة، واعتماد الفقهاء لبعضها دون بعضٍ، وأما المسائل

الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين علماء المِلة للاختلاف في فهم النصوص أو

مسالك العلة في الاجتهاد؛ فالواجب فيها اتباع قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59)

الآية، ولا خلاف بين أئمة الدين في وجوب هذا الرد، ولا في كون الرد إلى الله

هو الرجوع في المسألة إلى كتابه، وكون الرد إلى الرسول هو الرجوع فيها إلى

سنته، فمن وجد نصًّا مِن الكتاب أو السنة يرجح بعض قول العلماء المختلفين على

بعضٍ - وجب عليه اتباعه حتمًا، ولا يجوز له تركه إلى اجتهاد أحدٍ، وإلا أخذ

بقول مَن ترجح عنده دليله إذا اطَّلع على تعارض أدلتهم، ومَن لم يكن أهلاً لذلك

يستفتي - فيما يعرض له، ويُشكل عليه - مَن يثق بعلمه ودينه، سواء كان قد

تلقى الفقه على مذهب زيد مِن الأئمة أو مذهب عمرٍو، فجميع الأئمة المشهورين

ممن ذكرتم، ومَن لم تذكروا كأئمَّة آل البيت النبوي - عليهم الرضوان والسلام -

على هدى من ربهم في تحري الحق باجتهادهم، ولا يضره اختلاف مذاهب المفتين،

والمفيدين، وإن أدى في بعض المسائل إلى التلفيق الذي اختلف المقلدون في

جوازه، فإن التلفيق بهذه الصفة كان شائعًا في عامة السلف؛ إذ لم يكن أحد من

عوامهم يلتزم العمل باجتهاد فقيهٍ معيَّنٍ، ولا بروايته، على أن للتلفيق صورة لا

يفتي بها عالمٌ، وهي التي أطلق بعضهم منع جواز التلفيق لأجلها؛ لأنها ضرْبٌ من

التلاعب بالدين اتباعًا للهوى، أو تتبُّعًا للرخص، وهي أن يأتي المقلد بعملٍ لا دليل

عليه مِن كتابٍ، ولا سنة، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ صحيحٍ، ولم يقل به أحدٌ من

الأئمة المجتهدين، بل ركَّبه هذا المتلاعب مِن عدة أقوالٍ اجتهاديةٍ على النحو الذي

ذكره السائل، وقد مثَّل له بعضهم بمَن يتزوج بامرأةٍ بالتعاقد معها بغير وليٍّ اتباعًا

لأبي حنيفة، وغير شهودٍ تقليدًا لمالك مع عدم إشهار الزواج، وإعلانه الذي

يستغني به مالك عن الشهود، ومنعوا تتبع الرخص أيضًا فيما لا تلفيق فيه، وهذا

المبلغ حقٌّ ظاهرٌ في الرخص الاجتهادية، فإن للعلماء هفواتٍ لا يؤاخَذون عليها،

وليس مِن التقليد المباح تتبعها، والعمل بها، وأما الرخص الثابتة بالكتاب والسنة

فلا حرج في تتبعها، ولكن لا تُجعل كالعزائم في المواظبة عليها.

وأما سبب ما اشتهر بين مقلدة المتأخرين من وجوب حصر التقليد في مذاهب

الفقهاء الأربعة فهو أنها قد دُونت، واتسع فيها التخريج والتفريع؛ فصارت كافيةً

للناس، فليس في هذا غضٌّ من مقام علماء الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من

المجتهدين، ولكن يشاركها - فيما ذكروا - مذاهب أئمة أهل البيت الذين يسند إليهم

فقه الزيدية، والإمامية من الشيعة.

وهذا لا يمنع الأخذ بقول سائر علماء السلف التي يرويها عنهم المحدثون،

والفقهاء في كتبهم المعتمدة بشرطه الذي يجوز به الأخذ بقول أحد الأربعة، وأئمة

العترة الطاهرة. وقد فصلنا القول في بطلان التقليد، ومضاره والتلفيق في مقالات

(المصلح والمقلد) التي جُردت من المنار وطُبعت في كتابٍ مستقلٍّ، وفي غيرها

من مجلدات المنار، فليراجعها السائل إن شاء التوسع في هذه المسألة.

_________

ص: 96

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(2)

اجتماع القوى والمناصب وانتشارها

لما كان المسلمون سائرين على هذا الناموس الإلهي - ناموس الاجتماع

والائتلاف - كانوا في الذُّروة العليا من التقدم والرقي، ولما حادوا عن هذا السبيل

القويم سقطوا وانحطوا، فحلَّ محل الاجتماع الانتشار؛ فتفرق جمعهم، وتمزق

شملهم، وتبددت قواهم، فكانوا قومًا بُورًا، ولم تقتصر هذه البلية على جانب دون

جانب، بل عمَّت، وأحاطت الأمة من جميع الجوانب، وهي لا تزال ضاربةً

بأطنابها منذ ألف وثلاثمائة سنة، بل آخذة في الازدياد، وما يمر يوم إلا وتشتد

وطأتها فيها.

وقد لهج الناس كثيرًا في انحطاط المسلمين، فعلَّلوا له عِللاً، واخترعوا له

أسبابًا، غير أن القرآن الحكيم، والسنة النبوية، والعقل الصحيح لا يقيم لهذا القيل

والقال والثرثرة وزنًا، ويرى أن الفساد والانحطاط نتيجة الانتشار والتشتت فقط،

وكل ما عدا هذا من العلل، والأسباب فمتفرعةٌ منه، وراجعةٌ إليه، فعلة سقوط

المسلمين واحدةٌ لا اثنتان، وإن سُميت بأسماءٍ مختلفةٍ، وذُكرت بألفاظ عديدةٍ.

نعم، قد عمَّت الفوضى جميع شؤون الأمة، غير أننا نذكر ههنا واحدًا منها

فنقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مركزًا للأمة الإسلامية ترتكز عليه،

ونقطةً لقواها تجتمع عليها؛ فلهذا لم يَخْلُ بوفاته محل نبيٍّ وحامل شريعةٍ فقط، بل

قد خَلا محل مركز جامعة الأمة، ومصدر قواها ونفوذها وحكومتها إلى غير ذلك

من الأوصاف والخصائص التي كانت مجتمعة في شخصه الشريف؛ إذ إنه لم يكن

كالمسيح عليه السلام معلمًا وواعظًا، ولا كالملوك الذين فتحوا، وحكموا

ودمروا، وخربوا، أو عمروا وشادوا، بل كان صلى الله عليه وسلم جامعًا

لصفات ومزايا كثيرة في حينٍ واحدٍ، فكان نبي الله ورسوله، وهادي الخلق،

وواعظهم، وواضع الشريعة، ومؤسس الأمة، وحاكم البلاد، وصاحب السلطة؛

فحينًا يقوم في المسجد على المنبر المسقف بجذوع النخل وجريده، يفسر الوحي

الإلهي، ويكشف عن خفايا أسباب السعادة الإنسانية، فهو إذ ذاك معلم الأخلاق،

وواعظ الخلق، وتارةً يقسم في صحن هذا المسجد نفسه خراج اليمن على الناس،

ويسير الجيوش إلى ميادين الوغى، فهو حينئذٍ حاكم إداري وسياسي، ثم تراه

يصلح نظام البيوت والعائلات، وينفذ قوانين الطلاق والنكاح، وبينما هو هكذا إذ

تأتيه الأخبار بقدوم الأعداء، فيأخذ سيفه على عاتقه، ويهبّ إليهم، ويناضلهم في

بدر، وأحد، وتبوك، ثم تراه داخلاً كفاتحٍ عظيمٍ في مكة، فيملكها ويكون له

السلطان فيها، فيمُنّ على هامات قريشٍ، وسادات العرب بالعتق، ويقيم بأمر الله

ميزان القسط، ولا غَروَ، فالنظام الإسلامي يوجب أن تجتمع قوى الأمة،

ومناصبها في مركزٍ واحدٍ؛ إذ هذا الدين الحنيف الفطري لم يفرق بين الدنيا

والآخرة، بل جمعها في سلكٍ واحدٍ، وجعل الشريعة والحكومة شيئًَا واحدًا، وأخبر

أن الله سبحانه إنما يرضى عن الحكومة التي يقوم بناؤها على أساس الشريعة

الإسلامية، لا على قوانين الأهواء البشرية؛ ولذا كان صاحب الشريعة - صلى الله

عليه وسلم - مركزًا لقوات الأمة الكثيرة، ومرجعًا لشؤونها المختلفة.

ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بربِّه، قام في مقامه خلفاؤه

الراشدون، فكانوا خير الخلفاء لسلفهم ورسولهم، وكانوا بذلك جامعين لسائر شؤون

الأمة الدينية والسياسية، وقابضين على جميع قواتها، ومشرفين على مناصبها كلها،

فكانت خلافتهم كالنبوة قائمة على أساس اجتماع القوى والمناصب؛ ولذا سميت

(بالخلافة الراشدة) ، و (الخلافة على منهاج النبوة) .

وليعلم أن منصب النبوة يشتمل على وظائفَ كثيرةٍ، منها تلقّي الوحي الإلهي،

وتشريع القوانين والأحكام الدينية والسياسية، وصاحب هذا المنصب معصوم

وغير مسئولٍ لدى الخلق، ولقد ارتفع هذا المنصب بموت النبي - صلى الله عليه

وسلم - وكملت الشريعة، وتمت نعمة الله على الخلق، فلا نبوة بعد نبوته، ولا

شريعةَ بعد شريعته، ولا حق في التشريع لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم؛ لأن

الشيء إذا بلغ منتهى الكمال لا ينسخه شيءٌ آخر؛ إذ هذا منافٍ لكماله، ومُظهِر

لنقصه، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .

نعم، تمت هذه الوظائف النبوية الأساسية، ولكن بقيت لها وظائف أخرى

فرعية، وستبقى على حالها ما بقي من الناس باقٍ، وقد عبر عنها النبي - صلى

الله عليه وسلم - بعباراتٍ مختلفةٍ، فقال عن عمر رضي الله عنه إنه:

(محدث هذه الأمة) ، وقال عن العلماء إنهم (ورثة الأنبياء)، وقال: (الرؤيا

الصادقة جزءٌ من أربعين جزءًا من النبوة) ، وإنه:(لم يبقَ إلا المبشرات) ،

وحديث: (التجديد) أيضًا من هذا النوع.

فخلفاؤه الراشدون كانوا خلفاءه في جميع وظائفه النبوية غير تلقي الوحي

وحق التشريع؛ إذ هما خاصان به، لا يشاركه فيهما أحدٌ من الخلق [1] ، فكانوا

مثله خلفاء الله في أرضه، وأصحاب السلطان، والنفوذ فيها، وسُوَّاس الأمم،

وقُوَّاد الجيوش، وقضاة المحاكم، وأصحاب الاجتهاد والفتيا، ومنظّمي البلاد،

وفاتحي الأقطار، وحكام الأمم والشعوب؛ وذلك لأن (الخلافة والإمامة) في ذاتها

كالنبوة مشتملةٌ على الدين والدنيا، وخليفة المسلمين كنبيهم مجتهدٌ دينيٌّ، وحاكمٌ

سياسيٌّ، فكنتَ ترى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مثلاً في دار شوراه بالمسجد

النبوي، يفتي في المسائل الدينية مِن حيث إنه مجتهدٌ، وفقيهٌ، ويقضي ويحكم بين

الناس من حيث إنه قاضٍ، وحاكمٌ، وينظم الجيوش، ويفرق عليهم الجراية مِن

حيث إنه ناظر الحربية، ويضع الخطط الحربية مِن حيث إنه القائد العام، ويقابل

سفراء الروم من حيث إنه ملِكٌ وسلطانٌ، ثم تراه في سواد الليل متفقدًا أحوال

المدينة كأنه حارسٌ وخفيرٌ، وأبٌ رحيمٌ للمسلمين.

بل الأمر أكبر مما ذُكِر؛ فقد ناب الخلفاء الراشدون عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - في وظائفه النبوية التنفيذية المتعلقة بهداية البشر التي جعلها القرآن

ثلاثة أقسامٍ بقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164)، فوظائف النبوة التنفيذية: تلاوة الآيات وتزكية النفوس،

وتعليم الكتاب والحكمة؛ فقاموا بهذه خير قيامٍ، ونابوا عنه فيها أحسن نيابةٍ، فكانوا

أسوةً به يتلون على الناس الآيات الإلهية، ويزكُّون القلوب والأرواح، ويربون

الأمة بتعليمها الكتاب وحكمة السنة، فكأنهم كانوا في آنٍ واحدٍ أبا حنيفة،

والشافعي وجنيدًا والشبلي وحمادًا والنخعي، وابن معين وابن راهويه

والبخاري، ولم يكن سلطانهم على الأجسام فقط، بل كانوا يحكمون على القلوب

والأرواح أيضًا بسيرتهم القويمة، وروحانيتهم القوية؛ ولذا سميت خلافتهم

(بالخلافة الراشدة) ، وجعلت أعمالهم تتمَّةً لأعمال النبوة، فقال - صلى الله عليه

وسلم - من وصيةٍ له: (فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا

عليها بالنواجذ) [2] ، فذكر مع سنته سنتهم، وأوصى الأمة بأن تعَضَّ عليها

بالنواجذ.

ولكن واأسفاه! ، لم تبق الخلافة النبوية، والهيئة الاجتماعية الإسلامية على

هذا المنوال طويلاً، بل انتهت بأمير المؤمنين علي عليه السلام، فعم الانتشار،

والتشتت جميع شؤون الأمة، فتزلزلت بناية الأمة الاجتماعية، وسقطت جدرانها،

فهي خاويةٌ على عروشها، وانتقض النظام الشرعي، وتبعثرت سائر القوى بعد

أن كانت كتلةً واحدةً مجتمعةً على نقطةٍ واحدةٍ، وتفرقت المناصب، والوظائف

على أناسٍ كثيرين، بعد أن كانت في يدٍ واحدةٍ؛ فمن ثَمَّ انفصلت الحكومة والسياسة

عن الدين والشريعة، وأصبحت الخلافة عاريةً من خصائصها الروحية، ومجردة

عن وظائفها المتشعبة عن نبع النبوة، فباتت ملكًا عَضوضًا طبقًا لقوله صلى الله

عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم ملك) ، وقد تقدم، وأما وظائفها

الدينية فانقسمت أيضًا، وقام بها أناس آخرون، فحمل القضاء والاجتهاد الفقهاء

والمجتهدون، فأصبحوا فرقة، وحمل وظيفة الإرشاد وتربية الأرواح وتزكية

النفوس الصوفية وصاروا فرقةً، مع أن هذه الوظائف كلها كانت في بدء الأمر بيد

الخليفة الإسلامي، فكان قائمًا بها كلها خير قيام، وكانت بيعته تغني عن غيره، بَيْد

أنه بعد الانتشار والتشتت أصبح ملكًا محضًا، نائيًا عن وظيفة الإفتاء والقضاء،

بعيدًا عن التعليم الروحي، وتزكية النفوس، فهُرع الناس إلى أصحاب الطرق

والمتصوفة وأخذوا يبايعونهم (بيعة التوبة والإرشاد)(على اصطلاحهم) ، فبعد

أن كانت القوى والمناصب، والوظائف مجتمعة في شخص الخليفة، فكان ملكًا

وفقيهًا وقاضيًا وقائدًا ومحتسبًا - تفرقت في دور الشتات، وأصبحت لا نظام لها

ولا زمام، بل كلما امتد الزمان زاد الطين بلة، والخرق سعة، حتى بلغ السيل

الزبى، وعمت البلوى، فتعارضت القوى، وتصادم بعضها ببعض أيما تصادم،

هذه هي الداهية الدهياء التي دهت الأمة الإسلامية، فقضت عليها، لا ما يتخبط

فيه الناس مِن اختراع الأسباب والعلل لسقوط المسلمين تقليدًا للإفرنج.

والحاصل أن الخلافة التي تلت الخلافة الراشدة - سواء كانت قرشية أو غير

قرشية - كانت حكومة دنيوية محضة، وملكًا عضوضًا بعيدةً عن النيابة النبوية في

وظائفها إلا السياسية والحكم (اللهم إلا خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

وهي لا تزال على هذه الطريقة إلى الآن إلا ما كان في عهد السلطان عبد الحميد

من الانقلاب، وتأسيس الحكومة الدستورية [3] فإنه مما لا ريب فيه عود محمود إلى

الخلافة الراشدة قليلاً؛ لأن الشورى هي الشرط الأول، والميزة الكبرى للحكومة

الإسلامية الحق، أما في غير هذا فلم تغير من أحوالها شيئًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: حق التشريع في الإسلام لله؛ فهو الذي شرع الدين، وأحل الحلال، وحرم الحرام، واختلف العلماء في كونه تعالى أعطى للنبي أن يشرع من تلقاء نفسه ابتداءً أم لا، فذهب الجمهور إلى أن جميع ما ثبت في سنته من الأحكام فهو بوحيٍ من الله تعالى غير القرآن، أو باجتهادٍ في فهم أحكامه، والاستنباط منها، ولهم دلائل كثيرة على هذا، أظهرها إسناد الشرع إليه تعالى، بقوله:

[شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ](الشورى: 13) إلخ، وقوله:[ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا](الجاثية: 18) وإذا أطلق عليه صلى الله عليه وسلم لقب الشارع فإنما يراد به على هذا القول مبلِّغ الشريعة، ومبيِّنها، وقال بعضهم إن الله أذن له بالتشريع من تلقاء نفسه، واستدلوا بتحريمه للمدينة كما حرم إبراهيم مكة أن يباح صيدها أو يعضد شجرها أو يُختلى خلاتها (أي يقطع حشيشها) ولما قال له عمه العباس:(إلا الإذخر يا رسول الله) ، وهو نبات عطر كانوا يضعونه على الموتى عند دفنهم، قال:(إلا الإذخر) ، ووراء هذا التشريع الديني ما جعل الله أمره مفوضًا إلى الرسول، وإلى أُولي الأمر، يقررونه بالمشاورة، وهو جميع ما يتعلق بالمصالح الدنيوية، ويسمى - في عرف علماء الحقوق، والقوانين - تشريعًا، وسنعود إلى بيانه عند الكلام على أولي الأمر.

(2)

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأول المرفوع منه:(أوصيكم بتقوى الله) .

(3)

المنار: إن الانقلاب الذي وقع في آخر عهد عبد الحميد - بالرغم منه وكان قاضيًا على سلطته- لم يكن شرعيًّا، ولا وقع انتصارًا للشرع، وعودًا إليه، بل تقليدًا للإفرنج، ومن أصوله أن يسلب من الخليفة السلطة المستقلة في كل شيءٍ، ولكنه مع ذلك أدنى إلى تمكين الأمة من إقامة الحق، والعدل، ومراعاة الشرع من السلطة الاستبدادية التي كان يتمتع بها إذا كان الرأي العام في الأمة يريد ذلك.

ص: 102

الكاتب: حسني عبد الهادي

‌من الخرافات إلى الحقيقة

(3)

الطور الأول للإسلام

كان هَدي الإسلام في طوره الأول عبارة عن إشعال نور الحقائق وإنارة سبل

الانتباه أمام الذين كانوا يتعبدون بالخرافات والجهل. حينما ظهر الإسلام كان عند

العرب عقيدة ابتدائية تقوم - في نظرهم - مقام الدين. كانت عبادة الأصنام وعبادة

النجوم من أروج العقائد المنتشرة بين العرب في ذلك الوقت، مكة والمدينة كانتا

موجودتين ومعروفتين ولكنهما كانتا أشبه بملجأ شتوي منهما بمدينتين.

العقائد التقليدية الموروثة الراسخة في القلوب بطول القدم وتمادي الزمن توهن

مقومات الإنسان المادية والمعنوية، وهكذا كانت الحال عند العرب حينما كانوا

مقيدين بسلاسل عقائدهم العتيقة. ولما جاء الإسلام بهدايته الإصلاحية وجمع

بتعاليمه العالية أهواء القلوب المتفرقة إلى تلك الوحدة الكاملة في العقائد والفضائل

والنظام الاجتماعي - تمكن العرب بها من القضاء على دولتي العالم الكُبْريين، فلم

يتركوا لهم في السيادة الدنيوية نصيبًا، رفعت التلقينات النبوية بوقت قليل الأقوام

البدوية إلى مستوى الأستاذ في المدنية، وجعلت العالم كله تلميذًا لذلك الأستاذ:

(1)

كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الدعاة الذين يرسلهم إلى الأرجاء

لنشر الدين - أن يعاملوا الناس الذين يصادفونهم بالرفق واللين، وأن يجتنبوا

العنف والشدة، وها هي ذي الأوامر التي كان يتسلح بها أمناء الأمة عند العمل:

(أ) {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) .

(ب)(يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)[1] .

بهذه الأوامر اصطادوا قلوب الناس وبهذه المشاعل أناروا سبل الحياة

والحضارة أمام العالم فهل نحن صادعون بالأمر؟ ! .

(2)

آساس الإسلام عالية وساذجة يمكن دخولها في دماغ كل عاقل من بني

آدم وحواء. وهي خُلو من مثل مُحالات عقيدة التثليث عند النصارى من أساطير

الجبت التي يعزوها اليهود إلى الأنبياء عليهم السلام، وفيهم من سوء القدوة ما تأباه

أنفس الكرام.

(3)

أن الإسلام يفيض نور العدل والسكينة والسلام والطمأنينة على أنفس

البشر المضطربة؛ فقد أمر بقهر الظالم وصيانة المظلوم وأعلن حرية الوجدان، ثم

قوض قواعد السلطنات المؤسسة على الاستبداد، ورفع كل حجاب عن وجه الحق

والعدل.

(4)

تلقينات الإسلام بحق الألوهية كانت كافية لإقناع كل دماغ مفكر،

يسمعها العامي فيصبح مؤمنًا مهديًّا، ويتأملها العالم فيمسي موقنًا مطمئنًا؛ لأن

سذاجتها وعلويتها كافيان لإقناع كل عقل وطمأنينة كل روح.

(5)

من أسباب سرعة انتشار الإسلام إنارته السبيل أمام الناس الذين كادت

الخرافات تزهق أرواحهم.

وإلى القارئ الكريم المشاعل التي أذكاها النبي الكريم في سفح جبل عرفات

في حجة الوداع:

(أ) احترام الأموال وتحريم أكل مال أحد بالباطل.

(ب) احترام الدماء وتحريم سفكها بغير حق شرعي.

(ج) تحريم الأعراض كتحريم الدماء والأموال.

(د) الوصية بالنساء وما لهن وعليهن من الحقوق.

(هـ) الاعتصام بكتاب الله تعالى.

(و) هدم قواعد الشرك ونارات الجاهلية.

أُلقيت هذه المشاعل بين مائة ألف من المسلمين، ونقلها الحاضر للغائب.

واتخذها المسلمون إذ ذاك دستورًا للعمل. ولم ينحرفوا عنها قيد شعرة ولا سيما في

دور الفاروق الذي كان أوضح مظهر للتجليات النجيبة الأحمدية، وأي صعوبة في

تنفيذ هذه الأحكام الآن؟ ! .

إن عظمة هذا الدور الفاروقي نشأت من حسن تفهم الأحكام الإسلامية وتطبيقها

حرفيًّا؛ لأن روح الإسلام الأخوة، ولقد جاء في القرآن الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ

إِخْوَةٌ} (الحجرات:10) وقد ربطت وقتئذ جميع القلوب برباط الإخاء الديني

الذي كان يرفع فوق كل مصلحة خصوصية وكانت نتيجة هذا الإخاء الاتحاد الأكمل

وفقًا لما جاء في الفرقان المبين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل

عمران: 103) وفي نور هذين المشعلين حكم المسلمون على أهم بقاع الأرض.

وما أُيد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التوفيق لم يكن إلا مظهرًا من

مظاهر رعايته الدقيقة لأوامر الإسلام.

لئن كان ظهور الإسلام انقلابًا اجتماعيًّا وتطورًا تاريخيًّا عظيمًا؛ فإن تأثيره

في أرواح الشعوب تطور اجتماعي عظيم أيضًا. وهذا التأثير قد ظهر حكمه التام

في الطور الذي فُهمت فيه دقائق الإسلام ووضعت في موضع التنفيذ بالتمام والكمال

وكان ذلك على أكمله في خلافة الصديق وخلافة الفاروق رضي الله عنهما؛ فإن

هذين الإمامين الممتازين المنتخَبين بإجماع عقلاء الأمة - كانا يديران الأمور

بمعاونة جماعة من أكابر المسلمين.

(6)

جعل الإسلام حل المعضلات من الأمور باستشارة العقلاء بقول الله

تعالى في المؤمنين: {َ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وأمر نبيه

بالمشاورة، بقوله:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) وكان النبي

صلى الله عليه وسلم يتذاكر مع أصحابه وفقًا لهذه الآية الكريمة، وكذلك الصديق

ألف مجلسًا استشاريًّا تحت رئاسة الفاروق مؤلَّفًا من أكابر المسلمين. وعندما انتقلت

الخلافة إليه تَرَأَّسَ المجلس علي كرم الله وجهه، وكان هذا المجلس مؤلفًا من كبار

المسلمين ورؤساء القبائل وأصحاب المكانة في المدينة.

(7)

جعل الإسلام المساواة بين الناس في الأحكام من أصول الشريعة على

اختلاف طبقاتهم ومللهم ونِحَلهم بدون أدنى استثناء، وحادثة ابن الفاروق وقضية

علي المجتبَى مع اليهودي أوضح دليل على درجة احترام قاعدة المساواة في صدر

الإسلام. فكان الغني والفقير والأمير والمأمور والخليفة وآحاد السوقة سواء في ذلك.

فعلم مما تقدم أن الإخاء والمساواة كانا ركنين ركينين للحكومة الإسلامية التي

تألفت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وكان رئيس الحكومة الخليفة يُنتخَب انتخابًا،

وكان لهذا الرئيس مجلس استشاري. وكان يحق لكل فرد أن يراجع الخليفة نفسه

إذا ظلم أو وقع عليه حَيْف.

(8)

كانت مكة قبل الإسلام مباءة لمعاقري الخمرة وللمقامرين وكذا المدينة،

وكما طهر مُصْلحِ العالم مكة من الأصنام طهر قلوب أهلها من رجس الخمور

والقمار، وبقي هذا الطهر عامًّا شاملاً لأهل البلدين المكرمين إلى أن نَزَا الأمويون

على منصة الحكومة.

(9)

منذ ظهور الإسلام شُوهد في مكة والمدينة رغبة في العلم وميل إلى

الحضارة؛ تعددت محافل العلم وعمت الدروس والخطب (المحاضرات) الأخلاقية

والمواعظ الدينية ، كان في رأس هذه الحركة المدنية علي كرم الله وجهه. والمدينة

كانت تفوق مكة في هذا؛ من حيث كانت العاصمة، والمثابة للمفكرين من المسلمين،

فلا غرو إذا كان تجلي حياة الإسلام العلمية فيها أكبر وأظهر من تجليها في مكة.

كان يحضر هذه المحاضرات النساء كالرجال، الخليفة وحضرة الفاروق

وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت والسيدة عائشة

وأمثالهم من الواقفين على أسس الإسلام، كانوا يحضرون هذه المجالس، ويحلون

المشاكل التي تطرأ.

(10)

حرية التفكر كانت محترمة، وما كان يُسفَّه أحد ولا يُهان لرأي أبداه،

حرية الفكر كانت محترمة كالحرية الشخصية، كان علماء الصحابة يجتهدون

ويفسرون الأحكام بما يوافق المصلحة والزمان. وما كان يُجبَر أحد على اتباع أحد

لم يقتنع بصحة فكره واجتهاده.

كان يحصل في بعض الأحايين اختلاف في حل مسألة واحدة بين علماء

الصحابة. فكان الناس على احترامهم للرأيين المتعارضين يتبعون الرأي الذي

يرجحه الأكثرون [2] ، وكان هذا الاختلاف يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

فيوافق اجتهاد بعض الصحابة دون بعض، حتى الصديق أو الفاروق. وكان صلى

الله عليه وسلم يأخذ من القولين أحقهما مع احترام الذي يترك اجتهاده. وقد جاء في

الحديث: (إن أصبتَ فلك عشرُ حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة)[3] ، ثم

كثرت الاختلافات في زمان الخلفاء الراشدين. ثم أتى زمان بدأ بعض أكابر العلماء

يعمل باجتهاد نفسه كما يُروَى عن الإمام البخاري [4] .

في زمان رئاسة الحكومة من قِبَل الصديق كانت الأمور العدلية (القضائية)

والمالية للفاروق. أي كان ناظرًا للعدلية والمالية. وأما المخابرات والأمور الحربية

فكانت في يد علي بن أبي طالب. أي كان ناظر الحربية وكاتب الخليفة.

(11)

إن الإسلام بُنِيَ على الإخاء والمساواة والحرية والشورى كما تقدم؛

فكانت الكفاءة الذاتية هي المعتبرة في المصالح والولايات؛ لذلك نصب النبي صلى

الله عليه وسلم أسامة الشاب قائدًا لجيش المسلمين وأمر الصديق والفاروق وسعد بن

أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبا عبيدة وأمثالهم من عظماء الصحابة - أن يأتمروا

بأمر هذا القائد الشاب، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اعترض بعضهم على إمارة

هذا الشاب على كبار المهاجرين والأنصار، وعَدَّ بعضهم هذا أمرًا غريبًا، إلا أن

أبا بكر أقنع المعترضين بأن الكفاءة والاقتدار مرجحة على كل شيء وأسكتهم.

هكذا كانت المصلحة العامة مقدمة على كل ما سواها؛ لهذا كانت راية الإسلام

في زمان الصديق والفاروق كلما ارتفعت في مكان تشرق عليه بها شمس الإخاء

والحرية والمساواة والفضيلة، وتنقشع غيوم التشدق في الكلام والظلم في الأحكام.

وقد حقق حكماء المؤرخين أن سبب سرعة انتشار الدين المحمدي في بلاد

قيصر وكسرى هو عدل الخليفتين وحكمتهما وحسن تدبير رؤساء الجيش، ولم

يجدوا للظفر العسكري تأثيرًا في ذلك إلا الشيء الطفيف.

نعم، كل بلدة تُنشر عليها راية الإسلام كان الإخاء والحرية يكتنفان تلك

المدينة، فيصونان أهلها من تحكم الكهنة والأحبار والأساقفة والرهبان والموبذانات

المسيطرين على الأبدان والأرواح؛ لذلك كان الناس في ذلك الوقت ينظرون إلى

المسلمين نظرهم إلى المُنَجِّي من الظلم والمحرر من الرق، وهو ما ينتحله بعض

أدعياء الإفرنج اليوم بمحض الإفك وقول الزور.

أثبت التاريخ - ولا سيما السياسي منه - أن التبدل في الحكومة يُحدث ثورة

في البلاد. على أنه قد دان للواء الإسلامي إمبراطوريتان عظيمتان (إمبراطورية

الروم وإمبراطورية الفرس) ، ولم يحدث أدنى ثورة في بلادهما الواسعة على

رافعي ذلك العلم، بل لم يظهر من أحد من أهلهما أدنى امتعاض يحمل على

المقاومة، على ما كان من قلة عدد الفاتحين وعُددهم وبُعدهم عن عقر دارهم ومركز

سلطتهم، وإنما سبب ذلك حسن الإدارة والعمل بأصول الإسلام العالية، حتى إن

قادة الجيوش الروم كانوا يلقون أنفسهم في حِضن الإسلام أحيانًا! .

ولكن نقول مع الحزن والأسى: إن هذا الحال لم يَدُمْ، ولم يطُل عهده هكذا؛

فعندما استولى الأمويون في زمان ذي النورين على أمور الإدارة أُهملت العدالة

الإسلامية، وبدأت مقدمات التعدي تظهر وشوهدت بوادر العصيان في أمكنة مختلفة.

وقصارى القول أن الناس كانوا في صدر الإسلام إخوانًا متساوين في الحقوق،

وأحرارًا في أنفسهم وفي أفكارهم إذا تنازعوا في أمر ردُّوه إلى الكتاب والسنة -

كما أمرهم الله تعالى - وإذا أَشْكَلَ الأمر يستفتون كبار العلماء. وأما ساحة التفكر

فكانت واسعة أن يجول فيها العقل كما يشاء وأَنَّى شاء. ولم يكن الحجر

على العقل والضغط على الفكر مما يُعرف في ذلك الزمان، وما كان أحد يفتات

على غيره.

(12)

الجمعية الإسلامية كانت مركبة من نساء ورجال متساوين في

الحقوق، وكان موقع المرأة عاليًا ومحترمًا. وكانت المكالمة والمعاملة بين النساء

والرجال جائزة. فكانت النساء تحج بيت الله مع الرجال، وكانت التربية الاجتماعية

مع هذا متينة، بحيث يعد أقل تجاوز على أية امرأة من كُبريات الجنايات. وكان

طلب العلم فرضًا على النسوان كالرجال. وقد جاء في الحديث الشريف: (طلبُ

العلمِ فريضةٌ لكل مسلم ومسلمة) [5] ، وبناءً على هذا الحديث المنيف ترى

الكثيرات من النساء تصدين للتعليم وأرشدن الناس إلى حقائق الأمور، فالسيدة

عائشة كانت في زمان الخلفاء الراشدين في مقدمة العالمات المرشدات من النساء،

حتى إن علماء الصحابة كانوا يراجعونها عند الشبهة بشيء هام. كان النساء

يحضرن في مجالس الوعظ، وكان يوجد بين تلاميذ ابن عباس الكثيرات

منهن، كان النساء يحضرن وقائع الحرب والقتال ويشتركن فيها فعلاً، وكان

بعضهن يداوين الجرحى ويوزعن المياه على العطاش، وينشدن الأشعار

الحماسية لتشجيع رجالهن وإخوتهن.

(13)

أن إنشاء الشعر والغناء كان لهما قيمة في ذلك العصر الذهبي؛

لأنهما غذاء الروح؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان

لسِحْرًا) ، وكان صلى الله عليه وسلم يستمع ما ينشده أصحابه من الشعر بانشراح.

وقد كلل هام كعب بن زهير بالفخر عندما تلا على مسامعه الشريفة قصيدة البُردة

الشهيرة؛ لذلك جاء الحديث: (وإن من الشعر حكمًا)[6] ، وروى أبو الليث

السمرقندي عن سماك بن حرب عن جابر بن سمُرة قال: (كان أصحاب النبي

صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشعر والنبي عليه السلام بينهم جالس يتبسَّم) ،

وكذلك الخطابة وطلاقة اللسان عدَّها صلى الله عليه وسلم من أسباب الجمال

للرجال؛ إذ قال: (الجمال في الرجال اللسان)[7] .

(14)

خطَّ عليه السلام للأمة خطة حركة أوصلها باطمئنان إلى السلامة

والمدنية بكل سرعة، وهي: (اغدُ عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًّا ولا تكن

الخامسة فتهلك) [8] ؛ فبناءً على هذا وعلى الحديث القائل: (آفة الدين ثلاثة: فقيه

فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل) [9] ، كان المسلم العالم ورعًا تقيًّا، والأمير

عادلاً منصفًا، والناس دائبين في صناعاتهم وأعمالهم، هكذا كان المسلمون، فهل

نحن كذلك؟ ! .

(15)

العدل كان مقدمًا على كل شيء، حتى إن الله قال - في كتابه

المبين-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) والظلم كان

من أشنع الحركات، وقد جاء في الفرقان الحكيم: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ

يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) وجاء في الحديث الشريف أيضًا - تهديدًا

للظالمين -: (يا أيها الناس: اتقوا الله؛ فوالله لا يظلم مؤمن مؤمنًا إلا انتقم الله منه

يوم القيامة) ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الظلم أيضًا بقوله: (اتقوا

دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا؛ فإنه ليس دونها حجاب) ، وقال أيضًا: (اتقِ

دعوة المظلوم؛ فإنها مستجابة) .

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بمقاومة الظالمين أيضًا، إذ قال: (أحب الجهاد

إلى الله كلمة حق تُقال لإمام جائر) (رواه أحمد والطبراني عن أبي أمامة) .

فكان كل مَن يظلم يُعاقَب، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا بدون نظر إلى موقع

الظالم الاجتماعي؛ لذلك جاء في الحديث الشريف: (إنما هلك الذين من قبلكم؛

أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)

(اتفق عليه الجماعة) .

حسني عبد الهادي

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.

(2)

كانوا يرجحون رأي الأكثر من أهل الشورى في المصالح العامة، وأما المسائل الشخصية فكان كل أحد يعمل في المسائل الاجتهادية بما يراه هو الراجح، ويتبع في النقل أو الفهم مَن يثق هو به، ولم يستبيحوا إلزام أحد أن يأخذ بقول عالم معين، فضلاً عن إكراه الجمهور على اتباع مذهب أو شخص معين، هذا مخالف لإجماعهم.

(3)

لا أتذكر تخريجًا لهذا الحديث الآن، وقد كتب المترجم بإزائه من حاشية مسوَّدته ما نصه: لهذا الحديث الشريف ألفت نظر رجال هذا العصر الذين لا يتركون في بحر السفه نقطة إلا ويسكبونها على رأس مَن يُبدي حكمة تخالف أهواءهم، ولو كانت روح الحقيقة، اللهم اهدِ قومي لتحرِّي الحق والمنطق، هذا ما أقوله وأتمناه فقط.

(4)

أن جميع أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وعلماء الأمصار كانوا يعملون باجتهادهم فيما فيه مجال للاجتهاد، وليس هذا خاصًّا بالبخاري، ولا هو أول مَن فعله.

(5)

الحديث رُوي عن ابن عباس وأنس وأبي سعيد الخدري من طرق، بعضها صحيح، ولبعضها تتمة، وليس في شيء منها لفظ (مسلمة) ، ولكنه مراد باتفاق العلماء، وكل ما ورد من الأحكام في الرجال يشاركهم فيه النساء، إلا ما كان خاصًّا كالإمامة مثلاً.

(6)

المنار: حديث: (إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر حكمًا) رواه أبو داود عن ابن عباس.

(7)

رواه الحاكم عن علي بن الحسين مرسلاً بسند صحيح.

(8)

رواه البزَّار والطبراني في الأوسط بسند حسن.

(9)

رواه الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس، وأما أحاديث الظلم فمشهورة كثيرة صحيحة.

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة الأوربية

(1)

مقدمة:

كادت أوربة تسود العالم الأرضي، وتستعبد جميع شعوب البشر، وتسخرها

لخدمتها، ولولا أن تفلَّت جل العالم الجديد في غربي الكرة (أميركة) من قبضة

يدها، وتلاه الشعب الياباني في شرقيها، فساوى الشعوب الأوروبية في العلم،

والصناعة، والنظام، وإتقان فنون الحرب وآلات القتال، ووسائل الثروة وتدبير

المال، وأما سائر بلاد المشرق من آسيوية وإفريقية، فكانت خاضعة خانعة لدول

الاستعمار الأوروبية على تفاوت بينها في هذا الخضوع، فمنها ما يعد مُلكًا خالصًا

لهن، ومنها ما يسمى التصرف فيه حمايةً أو احتلالاً، ومنها ما يسمى مناطق نفوذٍ

سياسية أو اقتصادية أو امتيازات دولية، دَعْ النفوذ العلمي الذي سيطروا فيه على

الأفكار بتأثير مدارسهم، وانتشار لغاتهم، وبثّ مطبوعاتهم، والنفوذ الديني الذي

سيطروا فيه على القلوب، والأرواح ببعثاتهم الدينية، وما أُنشِئ لها من المدارس،

والمستشفيات، والأندية، وما يطبع لها من الكتب، والصحف المنشرة، ولا تنس

في هذا المقام تأثير تجارهم وسيَّاحهم، ولا تأثير عاداتهم وأزيائهم، ولا أتحامى

ذكر تأثير بغاياهم، وفواجرهم في إفساد الأخلاق، وحاناتهم ومقامرهم،

واستنزاف الأموال.

فبهذه المزايا، والصفات، والمظاهر، والأفعال (حسنها وقبيحها) - تنجذب

قلوب الناس إلى رؤية بلاد هؤلاء الناس على اختلاف المقاصد، والنيات؛ فهي

كعبة طلاب العلوم والفنون والصناعات، كما أنها هيكل عُباد الشهوات، والتمتع

باللذات، فترى الناس يرحلون إليها من جميع أقطار الأرض، أفرادًا وثُبَاتٍ

وأكثرهم يبتغون بالرحلة إليها التمتع بمشاهد عمرانها، واحتساء كؤوس لذاتها،

ومنهم من يؤمها للاستشفاء بهوائها ومياهها المعدنية، أو لِعرْضِ نفسه على أطبائها

أُولِي الأخصاء في فروع الطب والجراحة، ومنهم مَن يلمّ بها لاستبضاع عروض

التجارة أو غير ذلك من الأعمال المالية، ومنهم من يهاجر إليها لطلب العلوم

الكونية والقانونية، والفنون والصناعات المختلفة، ومنهم من يتسلل إليها للقيام

بأعمال سياسيةٍ.

ولعل أقل زائريها مَن ينوي تكميل عقله، وتجارِبه بالاختبار، والاعتبار بما

يرى، ويسمع، وأرجو أن أكون من هذا القليل، وإن كان المحرك لهذه الرحلة

والداعي إلى جعْلها في الزمن الذي وقعت فيه، وإلى المكان الذي كان جلها فيه -

ليس إلا الخدمة السياسية لوطن المولد والتربية.

ذلك بأن حزب الاتحاد السوري - وهو أحد الأحزاب السياسية التي كنت من

مؤسسيها والعاملين فيها - قد قرر برأيي وموافقتي أن يدعو الأحزاب السورية

الاستقلالية إلى عقد مؤتمر سوري في مدينة (جنيف) من بلاد (سويسرة) ؛ حيث

تجتمع جمعية الأمم لأجل المطالبة بحق سورية في الحرية، والاستقلال الصحيح

المطلق من كل قيدٍ ينافيه؛ ولأجل جمع كلمة هذه الأحزاب، وتعاونها على العمل

دائمًا، وبناءً على هذا القرار نشر الحزب المنشور الآتي:

***

دعوة الحزب إلى عقد مؤتمر سوري:

(إن لجنة حزب الاتحاد السوري المركزية بمصر واثقة أنكم كنتم وما زلتم

مواظبين على مبادئكم القويمة الوطنية، ومساعيكم الشريفة إلى أن تكلل بالنجاح،

ويتحرر الوطن المحبوب، ويصبح كما يريد أبناؤه الأحرار العاملون وطنًا حرًّا

مستقلاً، زاهرًا برجاله، ناهضًا بهممهم، سائرًا كل يوم إلى الأمام، بفضل ما

يبذله الأحرار العاملون في سبيله مِن التضحيات العديدة، والمساعي الجليلة.

وبعد: فقد رأت لجنة حزب الاتحاد السوري التي كانت - وما زالت -

تجاهد بجميع الطرق المشروعة للحصول على استقلال البلاد التام الذي هو أمنية

كل سوري أَبِيّ النفس - أن تتآزر جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي تعمل

لغاية الاستقلال التام، ووحدة البلاد سواء في سورية نفسها، أو في المهاجر البعيدة

المتفرقة، وتتفاهم فيما بينها على أسس المبادئ والمساعي معًا، وترفع صوتها في

وقت واحدٍ للعالم المتمدن بأسره بجميع الطرق المشروعة، طالبة الحصول على

حقها الوطني الطبيعي المؤيد بكثير من العهود والوعود من أقطاب السياسة في العالم

المتمدن كله.

ولما كان مجلس عصبة الأمم سيجتمع قريبًا، وينظر في شروط الوصاية

المفروضة على سورية، وغيرها من البلاد المنفصلة عن تركيا - فقد قررت لجنة

حزب الاتحاد السوري أن تدعو الجمعيات، والأحزاب السورية إلى عقد مؤتمر

سوري عام في (جنيف) - مركز عصبة الأمم - في 10 حزيران (يونيو)

المقبل؛ لتبرهن بكل ما لديها من الوثائق، والحجج، والأدلة على ما لسورية من

الحق بالحرية، والاستقلال، وتتوصل بالوسائل المشروعة لدى مجلس عصبة الأمم -

لسماع رأي البلاد قبل إبرام الحكم عليها، فلجنة حزب الاتحاد السوري تدعوكم،

وتدعو سائر الجمعيات السورية للاشتراك في هذا المؤتمر، وترجو منكم إشعارها

بأسماء مندوبيكم، وبميعاد سفرهم، وبما ترغبون الاشتراك فيه مِن نفقات المؤتمر

العامة، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، والسلام) .

نائب الرئيس

...

...

... رئيس حزب الاتحاد السوري

محمد رشيد رضا

...

...

...

ميشيل لطف الله

***

المانع والمقتضي والتعارف والترجيح:

اتفق في أثناء نشرنا لهذه الدعوة أن مرض أولادي، واحد بعد آخر، ثم توفي

صغيرهم، وكنا أرجأنا السفر انتظارًا للعلم بموعد اجتماع عصبة الأمم الرسمي

الذي كان عُيِّنَ، ثم أُرجِئ، ثم قرر أن يكون في أواخر شهر أغسطس؛ فتقرر أن

يسافر وفد حزبنا من الإسكندرية في 12 أغسطس، ثم اتفق أن أصيب ولدي محمد

شفيع في أول أغسطس بحمى معدية، يحتاج علاجها إلى دقةٍ وعلمٍ؛ فكنت أتولى

معالجته، وتغذيته بنفسي، على أن والدته كانت نُفَسَاء، وقرب الموعد، ولما ينقه

من مرضه، فترددت في السفر، ثم رجحت أن أتربص ريثما يَنقَه الغلام، وأسافر،

فلما حل الموعد رأيت أن مصلحة خدمة الوطن ينبغي ترجيحها على الأهل والولد،

فعزمت، وتوكلت، وأزمعت الرحيل، تاركًا الأسرة تستقبل عيد الأضحى في

حزنٍ، ونفاسٍ، وتمريضٍ، كما تركت أعمال المطبعة التي هي مادة المعيشة،

وغادرت القاهرة في اليوم الثامن من ذي الحجة (الموافق لليوم الثاني عشر من

أغسطس) ، وهو يوم التروية، ويليه يوم عرفة، فعيد الأضحى، فشق عليَّ،

وعلى الأهل، والعيال، ولكن سفري لم يكن منه بدٌّ باتفاق الإخوان من أعضاء

الحزب وغيرهم، وقد زارني قبله بيومين رئيس الحزب، وبالغ في وصف ما يراه

من ضرورة سفري، وما في تأخيره عن هذا الوقت من الضرر.

سافرت في قطار الضحى السريع من القاهرة، فألفيت في المركبة - التي

ركبتها من الدرجة الأولى - ثلاثةً مِن أصحابي علماء الشرع الأذكياء المشهورين،

وهم الشيخ محمد حسنين العدوي مِن هيئة كبار العلماء بالأزهر، والشيخ محمد

المراغي مِن قضاة المحكمة الشرعية العليا، والشيخ محمد الضواهري شيخ الجامع

الأحمدي بطنطا، فجلست إليهم، وقطعنا المسافة في البحث، والمذاكرة في المسائل

العلمية، والاجتماعية، ولا سيما مسألة ضعف المسلمين، وأسبابه، ووسائل

معالجته، وأهمها الإصلاح الديني.

***

سفر البحر من الإسكندرية:

ولما بلغت الإسكندرية ذهبت إلى أحد فنادقها المجاورة للبحر؛ فتغديت فيه،

ثم سألت بالمسرّة (التليفون) عن الأمير ميشيل بك لطف الله [1] ، فعلمت أنه قد

ذهب إلى الباخرة التي اتفقنا على السفر فيها، وأنها تسافر من المرفأ عند انتهاء

الساعة الثالثة بعد الظهر، فيمَّمتها، فألفيته هو ورفيقنا جورج أفندي يوسف سالم

ينتظران، وكانا قد أرسلا رسولاً للبحث عني، فصادفني بالقرب من الميناء،

فساعدني على إنهاء العمل المعتاد في الجمرك، كالنظر في جواز السفر، ورؤية

الطبيب، وما دون ذلك. ثم ركبت الباخرة.

الباخرة طليانية اسمها (كليوبطرة) ، وهي من البواخر المتوسطة في الكبر

والإتقان، فهي أكبر مِن بواخر الشركة الخديوية، ودون الباخرة (عثمانية) منها

إتقانًا، ولكنها دون أكثر البواخر التي تنقل الركاب بين مصر وأوربة. وكانت

لدولة النمسة فأُخذت منها، فيما أخذته دول الأحلاف من غنائم الحرب، وكان

مجراها مِن مرساها في الموعد المضروب لها (الساعة 3 بعد الظهر) .

كان الرفيقان في شكٍّ من سفري معهما؛ لما علما مِن الموانع التي أهمها

تمريض ولدي، ولكنهما استأجرا مخدعين في الدرجة الأولى، في أحدهما سريران

لي، وليوسف سالم إن حضرْتُ، وإلا كان له وحده، وهو واسع يمكن أن ينام فيه

آخرون، وهذه الشركة في المخدع خيرٌ لي مِن الانفراد الذي كنت أفضِّله لو كنت

أعرف لغة أصحاب الباخرة؛ فرفيقي يتكلم بلغتهم كما يتكلم بالفرنسية، والإنجليزية

وإتقانه للأخيرة أتم.

كان الهواء عند سفرنا لطيفًا، لا يشكو منه الجالس على ظهرها، ولكنه لا

أثر له في مخادع النوم منها، فلم أطق النوم في سرير مخدعنا لشدة الحر، فنمت

على ظهر الباخرة، وفي مساء اليوم الثاني (السبت) برد الهواء قليلاً، وطفقت

أحشاء البحر تضطرب على ما كان من خفة الهواء، وضعف حركته، فارتأى

بعض الناس أن هذا أثر نوءٍ سابقٍ، وبعضهم أنه مبدأ نَوءٍ جديدٍ، وهو الصواب؛

فقد اشتدت الريح في ناشئة الليل، وكانت باردةً، وأنشأ البحر يعبث بالسفينة، فلما

شعرت بالنودان لزمت كرسي الاستلقاء على ظهرها، ولم أستطع العشاء مع

الركاب على المائدة، بل أكلت، وأنا مستلقٍ على الكرسي خشية الدوار الذي

أدركتني بوادره، ولكنها وقفت عند حدها ولله الحمد. على أن الريح اشتدت في

اليوم الثالث، وزاد بردها؛ فلزمت المُستلقَى عامة نهاره، وقد تكلفت طعام الغداء

والعشاء، وأنا عليه تكلفًا، وصليت الظهر والعصر قاعدًا، ولم أذهل من كونه يوم

العيد، فكبرت الله تعالى في أوقات متقطعةٍ، وتضرعت إليه داعيًا إياه أن يشفي

ولدي، ويخلفني في أهلي، ويلطف بنا، وبمَن معنا، وقيل لنا إن اضطراب البحر

في هذا المكان المحاذي لقندية (كريد) معتاد. وفي اليوم الرابع (الإثنين) هدأت

شدة الريح؛ فصارت أقرب إلى اللطف منها إلى العنف، وزالت مقدمات الدوار،

ولله الحمد، وجملة القول أن السفينة لم تضطرب من هذه الريح؛ لأنها شماليةٌ

غربيةٌ، تناطح رأسها مناطحةً، ولو صدمتها مِن أحد جانبيها لكان النودان شديدًا،

والدوار عتيدًا.

كنت شرعت في كتابة بعض المقالات للمنار، وكتاب مطوَّل لأهل البيت،

فلما اضطرب البحر، وكان مِن تأثيره ما ذكرت تركت الكتابة، ثم أتممت ذلك كله

في يوم الثلاثاء؛ إذ كان لطيف الحركة، معتدلاً بين البرد والحرارة، حتى كنا

كأننا في جزيرةٍ لا في سفينةٍ، فطاب لنا الطعام والكلام.

لم يكن معنا مِن وجهاء المصريين في الباخرة غير أمين باشا يحيى أحد

وجهاء الإسكندرية وهو أشد أنصار عدلي باشا ووفده الرسمي في الإسكندرية،

وكان قد اشتد سخطه على سعد باشا زغلول، وكثر تحامله عليه، فخالف في ذلك

والده أحمد يحيى باشا الذي ما زال أقوى أنصار سعد باشا في الإسكندرية، ومعه

السواد الأعظم من جميع الطبقات، وبيني وبين كل من أحمد باشا، وأمين باشا

مودة قديمة، فكنت أكلم أمين باشا في المسألة المصرية بلسان الصديق له المعتدل

في المسائل العامة، لا يطلب إلا الحق، وذكرت له أنني قد حررت القول في

المسألة المصرية تحرير مَن يرجح الحق والمصلحة العامة على كل شيءٍ كما يعهد،

وأنني وصفت كُلاًّ من سعد باشا، وعدلي باشا وصفًا لم أبخس فيه أحدًا منهما

شيئًا من حقه، وذكرت له بعض ما قلته فأَحَبَّ أن يرى جزء المنار الذي نُشر فيه

ذلك قبل عودته مِن أوربة إلى مصر، وقد اتفقنا على أن شدة التطاعن والتشاحن

بين الأحزاب والزعماء مما يزيد في الشقاق، وهو أفتك أسلحة الخصم، ويَذْهَبُ

بالوفاق، وهو أمنع معاقل الأمة.

وأما طعام الباخرة فقد كانت أنواعه كثيرةً، أجودها السمك الطري، والدجاج

وأردَؤُها وأقلها الخضر، وقد كان جورج يوسف سالم يقرأ لي جريدة الطعام عند

الجلوس على المائدة، ويبين لي ما يخالطه منها لحم الخِنزير لأَختار بدلاً منه؛

ليطلبه لي، فكان هذا خير ما أشكره له من آداب الصحبة والمساعدة على أعباء

السفر، وهو من أخبر الناس بها على ما أُوتي من النشاط والهمة والمروءة في

خدمة أصحابه.

قطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية وتريسته في خمسة أيامٍ بلياليها إلا

ثلاث ساعات، ويقطعها غيرها من البواخر الجيدة في ثلاثة أيام وثلاث ساعات،

فقد كانت بطيئة السير، والبحر رهوٌ، فلما اضطرب زاد بطؤها، حتى لم تكن

تقطع في الساعة إلا زهاء 12 ميلاً.

قلما يحتاج المسافر إلى أوربة في هذه البواخر إلى بذل شيءٍ من الجهد في

معرفة القبلة؛ فإن عامة سيرها إلى جهة الغرب الشمالي، فتكون مستدبرة للقبلة،

فالذاهب إلى أوربة يتجه إلى مؤخر السفينة، والعائد من أوربة إلى مصر يتجه إلى

مقدمتها، وقلما يتغير هذا الوضع.

***

تريسته وجمركها

وفي ضحوة يوم الأربعاء (13 ذي الحجة - 17 أغسطس) قابلنا ميناء

(تريسته، ثم أرست السفينة في مرساها مِن المرفأ في وقت الظهر، وكانوا قد هَيَّئُُوا

طعام الغداء للركاب قبل موعده، فتغدينا قبيل الظهر؛ لنتمكن من النزول عند

الوصول. فلم نلبث أن نزلنا، فدخلنا إدارة الجمرك، ففتح عماله بعض صناديقنا

وأسفاطنا دون بعض، وقد فُتح لي اثنان من خمسٍ، ولم يُفَتش منهما شيءٌ،

ولأولئك العمال فراسة في الناس، وفي متاعهم، وأهم ما يبحثون عنه - فيمَن

يجيء من مصر - (سجاير الدخان) ، وكان الأمير ميشيل حمل معه صندوقًا

كبيرًا فيه ألوفٌ من هذه السجاير المصرية، ربما يبلغ مكسها ألوفًا من الليرات

الطليانية لو كانت محمولة لتُستهلك في إيطالية، وإنما هي محمولة إلى سويسرة،

وما يمر من بلاد إلى أخرى يعطى المكس عنه في البلد المحمول إليه دون البلاد

التي يمر منها، وقد مكثنا في إدارة الجمرك زمنًا طويلاً لحل الرفيقين هذه المشكلة

كما وقفونا لأجلها عندما بلغنا نهاية حدود إيطالية، وأول حدود سويسرة، فقبَّح الله

هذا الدخان، ما أعظم ضرره، وأكثر غوائله.

(تريسته) حاضرة من أعظم حواضر البحر في سواحل أوربة، على

شاطئ الشمال الشرقي مِن بحر الأدرياتيك، مرفأ واسعٌ، وثغرٌ باسمٌ، في سَفْح

جبلٍ شامخٍ، فهي كبيروت أو جونية مِن سفح لبنان، وأين مرفأ بيروت الصغير

من مرفئها الكبير ذي الأرصفة الكثيرة، وكانت لدولة النمسة، فلما مزقتها الحرب

الأخيرة آلت فيما آل إلى إيطالية مع بواخرها، وهي - في الأصل - من حواضر

بلادها.

كان أول عملٍ عملناه بعد الخروج من المكس أن أودعنا متاعنا في فندق

سافواي من فنادقها الكبرى، وبادرنا إلى إرسال البرقيات إلى أهلينا بمصر للإعلام

بوصولنا سالمين، وقد طلبت في برقيتي أن يخبروني بحالة محمد شفيع ببرقية

يرسلونها إلى جنيف، وأودعنا في البريد ما كتبنا إليهم من تفصيل أخبار سفرنا،

وما كتبته من المقالات للمنار، ثم طوّفنا في البلد ساعةً مِن الزمان وعدنا إلى الفندق،

وقد عهدنا إلى يوسف بك سالم بأن يأخذ لنا تذاكر السفر في صبيحة اليوم التالي

في السكة الحديدية؛ لما له مِن الخبرة ومعرفة اللغة، ففعل.

وأقول في هذا المقام: إن الإنسان لا يعرف قدر معرفة اللغات الأجنبية كما

يجب إلا إذا سافر إلى بلاد يعرف لغات أهلها؛ فإن معرفته بذلك في بلاده بين قومه

لا تعدو النظريات الفكرية، وشهوة التكمل والتوسع في العلم، فإذا سافر وصار بين

قوم لا يعرف لغتهم شعر بنقص الجهل بتلك اللغة، ورأى أن ما كان يعده كماليًّا فقد

صار من الحاجيات أو الضروريات: من الحاجيات إذا كان معه من الرفاق مَن

يقضي له حاجة تارة، ويترجم له كلام القوم أخرى، ومن الضروريات إذا فقد مثل

هذا الرفيق، وإذا كفاه المترجم ما لا بد منه في شؤون طعامه وشرابه، وتنقله من

مكان إلى آخر في البر والبحر، فهو لا يكفيه كل ما يحتاج إليه من إفادة واستفادة،

وقلما يوجد مترجم بين متحاورين يستطيع أن يوصل إلى كل منهما ما في نفس

الآخر من علمٍ ورأيٍ وحجةٍ وشعورٍ، بل كان الأستاذ الإمام يخبرهم بأن المرء قلما

يستطيع أن يوصل إلى نفس غيره بالخطاب أكثر من 80 في المئة، وبالكتاب

تنعكس النسبة، فإذا كان تبليغ المترجم عنه وسطًا بين تعبيره عن نفسه بالخطاب

وتعبيره بالكتاب - فقد يؤدي النصف أو أقل من النصف من نظريات السياسة

والاجتماع، والفلسفة، والدين، وإنما يؤدي المراد كله في الأمور القطعية التي لا

تختلف فيها الأفكار كأثمان السلع وجهات الطرق ومواعيد السفر وما أشبه ذلك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

لقب (أمير) أنعم به ملك الحجاز على رجال بيت لطف الله، وهذا الإنعام اختراع له، فيه مباحث اجتماعية وأدبية ليس هذا محل بيانها.

ص: 114

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات

شاهد عيان وهو الأمير شكيب أرسلان

(مقدمة)

قد التقينا في أوربة بصديقنا القديم الأمير شكيب أرسلان الشهير بعد افتراق

بضع سنين، وكثر اجتماعنا به في جنيف (سويسرة) ؛ بسبب الاشتراك في

أعمال المؤتمر السوري الفلسطيني، وفي سياحتنا في سويسرة، وألمانيا، وفي

هذه الأثناء سمعنا منه أخبارًا تفصيليَّة لفظائع جمال باشا في سورية، وما كان من

معارضته له بالحسنى، ثم بالمغاضبة، فتمنينا لو تُنشر هذه الوقائع لبيان الحقيقة

التاريخية؛ فإن معرفة حقيقة تاريخ الأمة هو الوسيلة الأولى للنهوض بها،

والصعود في مراقي الحياة بين الأمم، وضرر الجهل به، والكذب فيه كضرر

الجهل والكذب في بيان أحوال المريض، وأعراض أمراضه للطبيب الذي يعالجه،

وقد كانت الحقائق التي سمعناها منه ومِن غيره في أوربة مؤيدة لرأينا في جمعية

الاتحاد والترقي، وفي تأثير سياستها في الأمة التركية، والدولة الألمانية كما سنبينه

في التعليق على هذا المقال بعد، ولرأينا في الأمير شكيب نفسه أيضًا، وهو ما

نبيِّنه في هذه المقدمة:

الأمير شكيب مِن أشهر كُتاب سورية وأدبائها، بل لا أبالغ إذا قلت إنه لا يُلزُّ

به قرينٌ منهم في مجموع مزاياه كجَوَلان قلمه في جميع ميادين المنظوم، والمنثور

والوقوف على دقائق السياسة، وشؤون الاجتماع، والعمران، وفصاحة اللسان في

الخطابة والمناظرة، وله في الكتابة السياسية والاجتماعية أسلوب خاص يشبه

أسلوب الحكيم ابن خلدون، وكانت سياسته الوطنية السورية محصورةً في وجوب

الإخلاص للدولة العثمانية، مهما يكن حال سلطانها ورجالها، في إدارتها وسياستها؛

لاعتقاده أنه إذا زالت سيادة الدولة العثمانية عن وطنه الخاص (لبنان) ، وسائر

سورية، وسقط تحت سلطة دولة أوربية فإنه يذل ويخزى، وكان له خصومٌ

كثيرون في سياسته هذه، أكثرهم مِن نصارى الجبل المشايعين لبعض الدول

الأوربية، ومبغضون آخرون لا مثير لبغضائهم إلا الحسد، أو التعصب الديني،

أو المذهبي. وهو من مريدي أستاذينا موقظ الشرق الأستاذ الإمام المصري،

والسيد جمال الدين الأفغاني، وله غيرةٌ على دينه الإسلامي، ودفاعٌ عنه لا يطيق

صبرًا على مَن نال منه بلسانه أو قلمه، على أنه لطيف التساهل فكِه المعاشرة،

وله أصدقاء كثيرون في بلاده السورية، وفي مصر والآستانة وأوربة مختلفو الملل

والأجناس، ولكنه حديد المزاج، ألد الخصام، فهو كما قال ابن دريد:

سهل إذا لوينتُ لَدْنٌ معطفي

أَلْوَى إذا خوشنتُ مرهوب الشَّذَى

ولهذا يبالغ في وده أصدقاؤه، ويغلو في عداوته خصماؤه، وإنما شذاه في

نضال الأعداء، هو ما يعهد في مجالدة الأدباء، ومجادلة العلماء، لا يكاد يعدو

كلوم الكلام، بوخز أسلات الألسنة، وأسنَّة الأقلام، فهو أديبٌ متديِّنٌ، ينفر من

الاعتداء على الأنفس والأموال، وشجاع يترفع عن دنيئة السعاية والإغراء.

وقد كان الكثيرون من الناس يزعمون أنه ليس له مبدأٌ أو مذهبٌ في السياسة

ثابتٌ، وإنما يدهن للدولة، ولكُبراء رجالها لأجل المنفعة، وأكثر هؤلاء من حُساده

أو مخالفيه في مذهبه السياسي، وبعضهم كانوا ينكرون عليه مشايعته للحميديين في

عهد عبد الحميد، الذي كان يطريه بالنظم والنثر، ثم مشايعته للاتحاديين عند ما

صاروا في الدولة أصحاب النهي والأمر، وأنه لم يكن من طلاب الإصلاح للدولة

في جملتها، ولا لبلاده السورية أو العربية في خاصتها، وعندي أن مثله في هذا

كمثل مسلمي مصر والهند وغيرهما من الأقطار البعيدة يريد من مشايعة مَن بيده

زمام الدولة تأييدها على الأجانب لا الرضى بسوء الإدارة أو السياسة، وقد كنت أنا

من هؤلاء المنكرين عليه تشيُّعه للاتحاديين، ودفاعه عنهم على علمي بما ذكرت

من مذهبه السياسي في تفضيل الدولة على جميع الأجانب، وإيثارهم عليها مهما

تكن حالها؛ لأنني كنت على هذا المذهب بحزب اللامركزية العثماني منذ عقلت

السياسة، ولا أزال عليه مثله. وقد كان سيئ الظن بحزب اللامركزية العثماني الذي

كنت أحد مؤسسيه، وطعن في الحزب، حتى نالني من طعنه بالباطل ما نالني، على

ما كان يُحمد من خدمتي للإسلام، وإخلاصي للدولة، حتى إنه أطراني بمقالٍ نشره

في المؤيد، بزعمه أنه إذا اختير من العالم الإسلامي مئةٌ، ثم من المئة عشرةٌ، ثم

من العشرة واحدٌ - لكنت ذلك الواحد، ولم أرد عليه لعِلمي بالشبهات التي مكنت

ذلك الظن السيئ في نفسه.

ولما علم ما كان من أنباء تنكيل جمال باشا بالسوريين في أثناء الحرب أشيع

أن الأمير شكيبًا معه، وأنه مساعدٌ له على سياسته الطورانية في سورية لشبهات

روّجها أعداؤه وحُسّاده، حتى صدق التهمة غيرهم، ولما علمنا منه أخيرًا أن الأمر

بضد ما قالوا اقترحنا عليه أن يكتب لنا مذكرةً بما سمعناه منه، أو مقالاً فيه لننشره

في المنار؛ إنصافًا له وللتاريخ، وقطعًا لألسنة المتقوِّلين، فأجاب طلبنا معتذرًا عما

استلزمه من تزكية المرء لنفسه، وقد نهى الله تعالى عنها، وقد جاء ما كتبه رسالةً

طويلةً، فجعلناها عدة فصولٍ، وضعنا لها عناوين من عندنا، واختصرنا قليلاً منها،

ومنه اعتذار الكاتب، وهضمه لنفسه في فاتحتها، وها نحن أولاء ننشرها تباعًا،

قال الكاتب:

1-

التأليف بين السوريين واستعطاف الدولة على النصارى منهم:

عند ما نشبت الحرب العامة، وقبل دخول تركية بها، بل أثناء تأهبها

للدخول كنت في الآستانة، وكان قائد الفيلق العثماني في سورية الفريق زكي باشا،

فأبرق إليَّ أنور باشا ناظر الحربية يطلب تعجيل مجيئي إلى سورية لاحتياج الحالة

إلى وجودي فيها يومئذٍ، فأشار عليَّ أنور باشا بسرعة السفر، وإفادته ما أراه

مناسبًا مِن التدابير، فسافرت إلى سورية، وبعد وصولي بمدة دخلت الدولة في

الحرب، وحصل تخوفٌ عظيمٌ، لا سيما عند إخواننا المسيحيين، فتكلم معي كثيرٌ

منهم في خطورة مركزهم، وما يخالج ضمائرهم، فسكَّنت خواطرهم، وأخذت

على نفسي أنه لا يصيبهم أدنى سوء ماداموا هم ملازمين السكون والطاعة للدولة.

ثم أخذت ألقي المواعظ على المسلمين، وعلى غيرهم مِن الفرق الإسلامية، ولا

سيما الدروز بوجوب مصافاة المسيحيين، وحسن معاملاتهم أكثر مما يجب في كل

وقتٍ، وأظن أن ألوفًا من أهل جبل لبنان مِن كل طائفة يشهدون بذلك، ثم أبرقت

إلى أنور باشا بما عليه بطريرك الموارنة من الإخلاص للدولة، وما لا يزال ينصح

به طائفته من وجوب التمسك بالتابعية العثمانية، ويأمر به كهنته مِن الدعاء بنصر

الجيش العثماني، وبرقيتي هذه لا بد أن تكون مسجلةً في سجلات بيت التلغراف

في بيروت، فلا أستشهد بشيءٍ إلا وشاهده حاضرٌ لأي مَن أراد التحقيق.

2-

مسألة جمع أسلحة النصارى:

استشارني زكي باشا القائد المشار إليه في جمع أسلحة النصارى بقوله: إن

عندهم في لبنان بنادق كثيرة، وربما تُنزل الأعداء عساكر في سواحل سورية،

فينضم النصارى إليهم، فحذَّرته من هذا العمل قائلاً: إنه لا لزوم له، ولا يكون له

نتيجة سوى قلق الخواطر، وسوء الظن بأن مقصد الدولة تجريدهم من السلاح

لأجل الغدر بهم، فلم يكتفِ بملاحظتي الشفوية التي قلتها له في دمشق، بل أمهلني

ريثما ذهبت إلى بيتي في جبل لبنان، وحرر إليَّ كتابًا رسميًّا طلب مني فيه إذا

كنت مُصِرًّا على عدم جمع سلاح النصارى أن أكفل عدم تحفزهم لقيام ما على

الدولة. فجاوبته بما يؤيد كلامي له قبلاً، وأكدت له أنني أكفل بنفسي المسيحيين أن

لا يأتوا بأدنى حركةٍ على الدولة، ولأجل أن يزداد طمأنينةً قلت له في جوابي على

سبيل الفرض: إن بدا منهم شيءٌ مِن هذا القبيل فإنني أمشي عليهم بالدروز قبل أن

يزحف العسكر العثماني، فسكت عن هذه المسألة مِن بعد هذا الجواب. وكتابه

محفوظ عندي، ولا شك أن جوابي محفوظٌ في أوراق الحربية العثمانية. ولم أخبر

بهذه المسألة سوى بكر سامي بك الذي كان والي بيروت وقتئذٍ، فصوَّب رأيي هذا،

وكذلك أسررت بها إلى صديق حميمٍ لي، وهو الطيب الذكر المطران باسيليوس

الحجار مطران الكاثوليك في صيدا، وأوصيته جدًّا بكتمان هذا السر؛ لأنه من

الأسرار التي يعاقَب على إفشائها بأشد العقوبة، فكتمه بالرغم منه لإقناعي إياه

بالخطر على حياتي إذا علمت الحكومة العسكرية بأنني أطلعت عليه أحدًا، وكان

يتلهف إلى ساعة وفاته على كونه لا يقدر أن يخبر النصارى بما كنت أسعى به

لأجل المحافظة عليهم، مع أن الكثيرين منهم يرمونني بخلاف ذلك تحاملاً وتعصبًا.

3-

حمل جمال باشا على احترام بطرك الموارنة:

ولما نقلت الدولة زكي باشا من قيادة جيوش سورية، وجعلت بدلاً عنه أحمد

جمال باشا، ورد عليَّ بواسطة بكر سامي بك والي بيروت تلغراف رقمي من أنور

باشا بأن جمال باشا عُيِّن قائدًا للحملة المصرية، وأنه هو - أي أنور - أوصاه بي،

فحضر جمال إلى الشام، وأول ما واجهته قال لي إنه سيستقدم بطريرك الموارنة

إلى دمشق، ويأمر بإقامته بها، فبقيت يومين أراجعه بكلامٍ يلين الجوامد، وأبين له

مقدار ما يكسر ذلك مِن خاطر الطائفة المارونية، على حين أن هذه الطائفة -

وسائر المسيحيين - لا يريدون شيئا سوى رضى الدولة عنهم، فنظرًا لكونه حديث

العهد بالمجيء، وموصى بي من الآستانة اقتنع بكلامي، وقال: ماذا يصنع إذًا أفلا

يأتي البطريرك للسلام عليَّ؟ ، قلت له: إن البطريرك لا يأبى أن يسلم عليك،

لكنه عدا علوّ سنه مريض، وسيرسل إليك أساقفة ينوبون عنه بالسلام عليك،

فقال: لا أقبل إلا إذا كانوا من الدرجة الأولى، فقلت له: يأتي أكبر الأساقفة،

ومتى نَقه البطريرك يقدم بنفسه. وهكذا حفظت شرف البطريرك مِن أن يعرض

للغض، وأخبرت عما جرى نجيب باشا الملحمة الذي كان يومئذ بالشام، وكان ذهب

معي إلى جمال باشا، ففرح نجيب كثيرًا بهذا الخبر، وقال لي: اكتب التلغراف الذي

تريده إلى البطريرك؛ لأجل أن أمضيه، فأبرق إلى البطريرك بإرسال المطارِين،

وبلغني أنه كتب عما فعلت مِن جهة منع استقدامه؛ لأنني بعد عودتي إلى الجبل

صرت أسمع الثناء والشكر مِن أكثر مَن ألقى من الموارنة، ومن جملتهم حبيب باشا

السعد الذي قال لي: لا ننسى محافظتك على بطركنا، والرجل حي يُرزق،

والبطريرك نفسه حيٌّ، فلست مستشهدًا بغائبٍ، ولا بميت والحمد لله.

ثم إن البطريرك، وحبيب باشا المشار إليه اقترحا عليَّ أن يكون ذهاب وجوه

النصارى من لبنان إلى الشام للسلام على جمال باشا وفدًا واحدًا مع وجوه الدروز،

هذا إذا وافق ذلك هواي، فاستحسنت ذلك، وانتخبوا هم الوفد المسيحي، وانتخبت

أنا الوفد المحمدي، وتلاقى الوفدان بدمشق، وكان المقصد مني - ومن البطريرك

ومن حبيب باشا - أن نعلن للحكومة العثمانية اتحادنا في لبنان، وأنه ليس بيننا

خلافٌ، فلا تمتد يدٌ بالتضريب فيما بيننا، وما أظن أحدًا يقدر أن ينكر كون مثل

هذه السياسة تدل على حسن النية وحب السلام.

4-

بدء جمال باشا بمؤاخذة بعض وجهاء لبنان:

ثم إن جمال باشا استقدم عدةً من وجوه الجبل الذين كان يبلغ الدولة منذ زمن

طويل - أنهم يحطبون في حبل الأجانب، هذا في حبل الفرنسيين، وذاك في حبل

الإنكليز

إلخ، وأمر بإقامتهم بدمشق، وكنت يومئذٍ في لبنان أجمع متطوعين

للذهاب إلى حرب الترعة، فلما ذهبت بالمتطوعين إلى دمشق تلاقيت مع حبيب

باشا السعد في محطة البرامكة، فقال لي: إن جمال باشا أمر بإقامتي بالشام مع

غيري، وإنما أذن لي بالذهاب إلى البيت لجلب ثيابي، فذهبت توًّا إلى جمال باشا،

وفتحت له هذه المسألة أمام خلوصي بك الذي كان واليًا بالشام، واعترضت بحدة،

فأجاب أنه لا يقبل مني تعرُّضًا لموضوع لم يسألني هو عنه، فقلت له: إنما

تكلمت لكوني أدرى بأمور بلادي، وبعد الآن لا أتكلم بشيءٍ، وخرجت مغاضِبًا.

وفي اليوم التالي ذهب جمال إلى زحلة لاستعراض الجند، فشاهد حبيب باشا، فأذن

له بالانصراف، وعاد إلى الشام، وطيَّب خاطري، وأنا سافرت إلى الترعة عن

طريق معان، وسافر جمال إلى القدس، وفي أثناء وجوده في القدس أبرق إليه

بعض الأساقفة المارونيين يلتمسون إطلاق سراح الذين كانوا مأمورين بالإقامة

بدمشق، فغضب مِن تدخل الأساقفة فيما لا يعنيهم، وأمر بنقل أولئك الجماعة إلى

القدس، ولما رجعنا من حملة الترعة أمر جمال بمجيئنا إلى القدس، فوجدت

الجماعة المذكورين هناك، فرجوته أن يطلقهم، مع أن بعضهم كانوا مِن ألد

خصومي، فلم يُجب سُؤْلي إلا في المرحومين خليل بك الخوري، وسليم بك

المعوشي، وكانا لم يصلا إلى القدس، فأمر برجوعهما، فطفق المفسدون يتقوَّلون

بكوْني أنا الذي أشار بنفي الآخرين.

5-

رد شبهة عن الكاتب واستبداد جمال باشا:

وطالما تشدقوا بهذا الاستدلال في مسائل أخرى قائلين إذا كان الأمير شكيب قد

أنقذ فلانًا من النفي، وفلانًا من القتل، وفلانًا وفلانًا، فهذا أوضح دليل على كون

ما وقع من أعمال جمال القاسية هو برأي الأمير شكيب. وكل مَن عنده ذرة من

المنطق يسلم بأنه إن كان أحدٌ من ذوي النفوذ تمكن بحظوته لدى حكومة أو حاكم أو

قائد أن يخلص فردًا أو أفرادًا مِن عقوبة - فلا يقتضي ذلك أنه كان يقدر أن يخلص

كل من يراد عقابه، وأن يستولي على الدولة، وأن يتصرف بالأحكام العرفية،

والمجالس العسكرية، وبإرادة القواد والولاة، وهم مئاتٌ وألوفٌ، ونحن نرى أن

أمورًا قد يأتيها أحد العمال خلافًا لرأي رئيسه أو رؤسائه، ولا يقدرون على منعه،

وأن جمال باشا بالتخصيص قد أتى أمورًا لم يكن يوافقه عليها طلعت الذي كان

روح السلطنة، ولا أنور الذي كان ناظر الحربية، وأنه لما شنق الذين شنقهم ثاني

مرة الزهراوي وشفيق المؤيد ورفقاءهما كان البرنس سعيد حليم الصدر الأعظم

نفسه خاليًا من علم هذه الحادثة، فأبرق إليه محتجًّا بشدَّةٍ، ويقال: إن قتل أولئك

الجماعة بدون قرار مجلس النظار كان سبب استعفاء خيري أفندي الأركوبي شيخ

الإسلام ، وكان السلطان محمد رشاد نفسه يبرئ نفسه من العلم بمقتل أولئك الجماعة.

وأغرب من ذلك أن شلبي أفندي شيخ المولوية (وهي أكبر طريقة في تركية،

وكان المرحوم السلطان محمد رشاد ينتمي إليها) - لما ذهب بألوفٍ من مريديه

مجاهدًا في سورية رأى من غطرسة جمال ما لم يعجبه، فاستأذن في المجيء إلى

الآستانة، فأذن له جمال على شرط الرجوع وكان من المقربين جدًّا إلى السلطان،

فشكا إليه الأمر، وظن أن السلطان يُصدر إرادته السنية ببقائه في الآستانة، فكان

من السلطان أن همس في أذنه همسًا قائلاً له: لا ترجعْ إلى سورية، لكن لا تقل

إنني أنا قلت لك ذلك، أفلم يروا كيف أن جمالاً شنق في إستامبول صالح باشا خير

الدين صِهر الأسرة السلطانية في دعوى قتل محمود شوكت، وجاءت امرأة صالح

باشا - وهي ابنة أخي السلطان - تشكو إليه، وتؤكد له براءة زوجها، فتكلم

السلطان مع جمال في استبقاء صالح باشا في الحياة على الأقل، فلم يقبلوا منه،

وكان التشديد من جمال، كما كان يروي ذلك هو عن نفسه. أفبعد هذا يقال: لماذا

لم يمنعه شكيب أرسلان عن قتل زيدٍ ونفي عمرٍو؟ !

ثم إنه لما أراد إعادة الذين كانوا في القدس إلى أوطانهم أبرق إلى رضا باشا

قائد لبنان أن يسألني رأيي في إطلاقهم، فأجبته أنه لا يوجد من ذلك أدنى محذورٍ،

وأنا كفيلٌ لهم (مع أن منهم خمسة أشخاص كان مقطوعًا بيني وبينهم حتى السلام

والكلام) ، وأبرقنا بذلك إلى القدس، فأطلق نصفهم، ثم قبل إطلاق النصف الآخر

ألقوا عليَّ السؤال نفسه، فأجبت كأول مرة، وأظن أن هذه التلغرافات مقيدة مسجلة،

فلا تصعب مراجعتها.

6-

الشفاعة في الثلة الأولى من ضحايا جمال:

عندما قبض جمال باشا على رضى بك الصلح، وعبد الكريم الخليل، وعدة

من المتهمين الذين شنق منهم 11 رجلاً، وهي القافلة الأولى، لم أترك وسيلة من

الوسائل إلا استعملتها؛ لأجل إقناعه بالعفو عنهم، وإفهامه ما يترتب على فتح هذه

المسألة من الضرر للدولة والملة، وفي إحدى المرار بينما كنت ألح عليه في

الرجاء - وكنا في صوفر -قال لي: كنت أحب أن أطلعك على المكاتيب التي من

بعضهم إلى بعضٍ بالحث على قتلك (يشير إلى مكاتيب واردة إلى سورية من حقي

بك العظم يحث فيها على ذلك) ، فقلت له: هذه كتابات لا ذنب لهم فيها، ومع هذا

فلسنا الآن في ضغائن شخصيةٍ، وإنما أنظر إلى المسألة من وجهة سياسة الدولة،

فلا أجد فتح هذا الباب في محله، ولكثرة مراجعتي إياه كتم عني نيته إلى أن أنفذ

فيهم ما أراد، ومن بعد ذلك ابتدأ الخلاف بيني وبينه تدريجيًّا بحسب تزايد شدته،

ومن جملة مَن راجعتهم في أمر نصحه بترك هذه الشدة - من ولاة الدولة - عزمي

بك والي بيروت وخلوصي بك والي الشام وعزمي بك الآخر والي الشام بعد

خلوصي، وتحسين بك والي الشام بعد عزمي، وعلي منيف بك متصرف لبنان،

وعلي فؤاد بك رئيس أركان حرب الفيلق الرابع، وكلهم أحياء لم يمُت منهم سوى

خلوصي بك.

ولما أرسلت الدولة سنة 1916 وفدًا تركيًّا إلى سورية مؤلفًا من بضعة عشر

شخصًا من نواب الأمة، وأركان الدولة منهم صلاح جيمجوز بك مبعوث الآستانة،

وعصمت بك مبعوثها أيضًا، ووالي الآستانة سابقًا - التمست منهم أن يتوسطوا

في أمر الرخصة لي بالذهاب إلى الآستانة؛ لأنه كان يمنعني إلى ذلك اليوم من

الذهاب إليها بحجة احتياج المصلحة إليَّ في سورية، والحقيقة - وقد صرح بها

أخيرًا - أنه كان يعلم أنني لو وصلت إلى الآستانة لأظهرت هناك كل ما جرى،

وحملت على سياسته حملةً شديدةً، ولا يقدر أن يتهمني هو بسوء النية؛ لأن الدولة

تعلم صداقتي لها؛ ولذلك أخذ هو يتكلم مع صلاح جيمجوز، وعصمت في أسباب

الجفاء الذي حصل، وأنه من أجل التدابير الشديدة التي يراها ضرورية لسلامة

المملكة، مع أني أنا غالبةٌ عليَّ صفات الشاعرية ورقة القلب، ويهمني أن أُرضي

أبناء وطني، وأجيب رجاءهم، ولو بخلاف المصلحة، حتى تشفَّع إليَّ لأناس

كانوا يعملون لقتله! ، وكاشفته بذلك، فقال: لا تعلم مقدار اللذة التي يجدها الإنسان

في استحياءِ مَن كان يريد قتله!

7-

الشفاعة في الثلة الثانية من ضحايا جمال باشا:

لما قبض جمال على الفرقة الثانية (العسلي والشمعة وشفيق المؤيد

والزهراوي ورفاقهم) ، واجتمع في عاليه نحو من 70 معتقلاً - أخذنا نستعطف

خاطره؛ لأجل إطلاقهم، ونبين له الفوائد السياسية في العفو عنهم، وما تصاب به

الدولة من الأضرار بالنكال بهم، وحملنا علي فؤاد بك رئيس أركان الحرب على

الكلام معه في هذا الموضوع لما كان له من نفاذ الكلمة لديه، وأكدنا الرجاء الشفوي

بالرجاء كتابةً أولاً، وثانيًا، فلم تكن تعجبه هذه المساعي مني، ولم تسؤْه إلا عند

ما كلمت عزمي بك والي الشام في ذلك، وكان تعيينه لتلك الولاية بدون علمه،

فاحتج على تعيينه وطلب صرفه، فاستمهلوه ثلاثة أشهر، بعدها عاد عزمي

المذكور إلى الآستانة، وقبل سفره من دمشق ذهبت إليه في دار الولاية، وطلبت

منه مقابلة سرية، وقلت له في مبدأ خطابي إنني مودع هذه الكلمات شرفك، وأرجو

أن لا تعيدها إلا إلى طلعت بك ناظر الداخلية، وهي أن تمادي جمال باشا في

إرهاف الحد سيكون منه خطر على سورية، وينشأ عنه شقاق طويل بين العرب

والترك لا نهاية له. ولما كان جمال باشا لا يسمع ما نسمعه نحن أبناء البلاد، ولا

يجْرُؤ أحدٌ أن يقول له الحقيقة - فهو يظن أن الناس راضون بأعماله، وليس هناك

من راضٍ، ولا من مستحسن، حتى أنفس الذين يمتدحون لديه أعماله، ويملؤون

مجالسه نظمًا ونثرًا - تراهم يتهامسون فيما بينهم بوخامة العاقبة، وأنا صدقت إلى

اليوم مع هذه الدولة، وأعتدّ عدم تحذيري، وإنذاري إياكم بما ينفث في روعي من

هذه الجهة خيانة، وأخشى أن تقولوا في يومٍ من الأيام لماذا لم تنبه أفكارنا وتجهر

بالحقيقة؟ ! ، فها أنا ذا آتٍ لأقول لك الحقيقة بكل صراحة؛ لتبلغ طلعت بك ما

قلته لك بتمامه. فتأمل قليلاً، وقال: لماذا لم تراجع أنت جمال باشا؟ ، فقلت: قد

تكلمت معه مرارًا، وكتبت إليه تقارير، واستعنت بعلي فؤاد بك، ولم أَرَ منه دليلاً

على الرضى، وأخاف أن يصيب هذه القافلة الثانية ما أصاب الأولى، فتكون

المصيبة أطم والعاقبة أوخم، فقال لي: أنا لا أقدر أن أشافه بذلك طلعت بك كما

تريد؛ لأنه كالطعن في سياسة جمال باشا، مع أنني أنا أحترم هذا الرجل، وإن

شئت أقول أنا لجمال باشا نفسه. فلم يسعني إلا أن أقول له حسنًا تفعل إذا نصحته

بشرط أن تجعل الكلام منك لا مني، وبعد يومين من هذه الجلسة جاءني أحد

الشرطة يدعوني إلى (القرار كاه العمومي) أي محلة القائد العام، وذلك بخلاف

العادة إلى ذاك الوقت؛ إذ كان قبلها يدعوني دائمًا بواسطة ياور من قِبَله، فلما

ذهبت وجدت لونه متغيرًا، وصكّ الباب، وقال لي: إنه لم يحترم الآن أحدًا في

سورية نظيري لا لسبب سوى حسن أخلاقي

إلخ، ولكن بدأت منذ مدة أتدخل

بما لا يعنيني، وأنتقد أعماله، مع أنه هو القائد، وهو المسؤول وهو وهو

إلخ،

فقلت له: إنني غير موافق على خطة إرهاف الحد، وأخشى إذا سكتُّ أن أكون

مسؤولاً تجاه دولتي وملتي، بل تجاه ضميري، فقال لي: قلت وكتبت وبينت

فكرك وأرحت وجدانك، وهذا كافٍ، ولكنك لا تزال مواصلاً مساعيَك، غير راجعٍ

عن إصرارك، حتى ذهبت تستنجد عزمي بك، وتقول له هكذا بالحرف: قل

لطلعت بك يكتب إلى هذا الرجل ليخفف من هذه الشدة! . فلم أنكر شيئًا من هذا

الحديث، وقلت له: نعم لما قطعت أملي منك رأسًا - ظننت أنني أقدر على

استعطاف خاطرك بواسطة طلعت، وأنت تعلم أنني شخصيًّا ممنون لك، وأنك لا

تعامل أحدًا في سورية بمثل ما تعاملني به من الرعاية؛ إذ لا يحملني على هذا

السعي سبب شخصي، بل مجرد إخلاصي لدولتي، ووطني، ولشخصك أنت؛

لأنني أخشى أن يحمِّلوك في يومٍ من الأيام جميع عبء هذه المسؤولية. فقال: كن

مستريحًا من جهتي، ولا تظن أنني مقيَّدٌ بخاطر طلعت ولا غيره، ثم سكت قليلاً،

وقال: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورةِ رفقاء لي؟ ! ، ثم أنهى كلامه قائلاً:

إنني أنذرك بأن لا تتدخل من بعدُ في هذه المسائل التي هي منوطة بي

وحدي إلخ.

8-

خيبة التوسل بأنور باشا وظهور خوفه من جمال باشا:

ولما جاء أنور باشا سورية، وكان السهم لما ينفذْ في القافلة الثانية -

افترصت زيارته لخلاصهم، فحرص جمال جد الحرص على منع المخالطة له

طول هذه السياحة من الآستانة إلى المدينة المنورة، حتى إنني لما طلبت منه

الاجتماع في جلسة سرية في (أوتل بترو) في دمشق لم أكد أبدأ معه بالحديث حتى

عرف جمال باشا بواسطة أحد عيونه - الذين كانوا محيطين بأنور ليلاً ونهاراً -

فجاء، ودخل علينا بغتةً بدون استئذان، وقال لأنور: نحن مدعوون عند فخري

باشا أفلم يحن الوقت للذهاب؟ فنظر إليَّ أنور، وقال: ألا يمكن إرجاء الحديث

إلى الغد؟ وكان صباح ذلك الغد موعد سفره، فقلت له: لي كُليمات لا يأخذن إلا

بضع دقائق؛ فاصفرَّ لون جمال حتى صار كالكهرباء، وخرج، وأنا أكملت حديثي

مع أنور بمعنى العفو عن المعتقلين الذين في عاليه، وجعل ذلك العفو إحدى نتائج

سياحته، بحيث تكون له هذه المنَّة على أبناء العرب. على أنه كان يرى أنه لا بد

من الحكم، فليكن بالنفي لا بالعدم؛ لأن النفي يلحقه العفو، وأما العدم فهو غير

قابل التلافِي، فلم يزد أنور في جوابه على قوله: سأوصي، وأبذل جهدي، ولكن

كان كلامه ضعيفًا، وكانت عليه علامة الحيرة. فعلمت أنه عاجز عن مقاومة جمال،

أو أن هذا نال من أكثرية الرفاق قرارًا أصبح مبرمًا لا يقدر أنور على نقضه. ثم

أسرع أنور بالخروج ليرى جمالاً أن الجلسة بيننا لم تطُل، وكان جمال واقفًا أمام

الباب ينتظر عمدًا لكيلا تطول الجلسة، فقال له أنور: يحكي لي شكيب بك في أمر

الذخيرة (وهي القمح في عرف الترك) ، فلم يجاوبه جمال؛ لعلمه أنني ما تكلمت

إلا في مسألة معتقلي عاليه. ورأيت أنا بعيني ساعتئذٍ من ضعف أنور بإزاء جمال

ما لا أنساه، وما أكد لي ما كان يقال من أنه كان يبرق إليه كثيرًا من الأحيان قائلاً:

أنا حر في مِنطقتي، مسؤولٌ عنها، وليس لك أن تعترضني بشيءٍ. على أنني

لم أكتفِ بهذه الكليمات مع أنور، بل ذهبت إلى رئيس رفقائه القائمقام كاظم بك،

وأطلت معه القول في العفو عن المعتقلين؛ ليبلغه إياه ثاني يوم حرفيًّا في أثناء

الطريق. وقد عرف كثير من أعيان سورية يومئذٍ بما وقع، وقالوا لي قد عملت

الذي عليك.

ثم عندما صمم جمال على شنق الجماعة استدعى إليه شكري بك رئيس

الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما علمت من شكري بك نفسه-

أسماء 40 شخصًا يجب أن يُحكم عليهم بالموت، فراوده شكري بك كثيرًا،

ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل (بحسب قوله)، ولما قال له: إن وجداني لا يرتاح

إلى الحكم بالموت على ثلاثة، وبالكثير على خمسة - استحضر جمال باشا أعضاء

الديوان، وكلمهم وهم ضباط شبان لا يخرجون عن أمره، فلم يبق مع شكري بك

إلا القائمقام ملحم بك حماده اللبناني البعقليني، وهو الذي كاشفني بذلك، إذ قلت له

مشجعًا: لا تعبأ بتهديده؛ لا يقدر على قتلك، ولا يريده، وإنما يريد إقناعك بالحكم،

فقال: إن الأمر خرج من يدي، وأكثرية المجلس صارت في يده، وليس معي

إلا ابن وطنكم ملحم بك. ولما فشلت هذه الرسائل بقي أمام ضميري وسيلة مراجعة

ألمانيا، فذهبت إلى (لوتفيد) قنصل ألمانيا، واستحلفته يمينًا بالشرف أن لا

يخونني؛ لأن مثل هذا الأمر فيه خطر على الحياة، فأقسم فأخبرته بما وقع مع

شكري بك من أوله إلى آخره، وأنه قد ظهر تصميم جمال على القتل، وأن هذه

المسألة - وإن كانت عثمانية داخلية لا حق لكم في التدخل بها - فإنها من جهة

أخرى تضر ألمانيا ضررًا بليغًا؛ إذ مما ينبغي أن تفهموه أن قتل هؤلاء الجماعة

سيُحدث بين العرب والترك فتنة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدول الائتلافية قوة

أمة جديدة هي الأمة العربية، فأبرق القنصل بالأرقام إلى السفارة بكل ما قلت له،

بعد ذلك بنحو جمعة وقع الشنق، وكان في ليلة السبت، وفي نهار الأحد، وزارني

القنصل في منزلي، وقال لي: قد تحقق لي الآن أنك كنت على بينة مما تقول،

ولم يرد جواب تلغرافي إلى اليوم. ثم لقيته بعد أيام، فقال لي: إن سفارتنا لم تقدر

أن تصنع شيئًا، ولكن الأتراك سيندمون على هذا العمل. وأخذ لوتفيد يُظهر أسفه

مما حصل أمام الكثيرين من أهل الشام؛ ليبرئوا ألمانيا من هذه الحادثة، ولعل

الحكومة الألمانية بعد رجوع العلاقات الدولية إلى ما كانت عليه - تنشر مثل هذه

المراسلات، فيظهر ما لعل المسيو كولمان - السفير الألماني الذي كان سنة 1917

في الآستانة - قد أخبر به حكومته، عما كنت قررته له من حقيقة هذه المسألة؛ فقد

قال لي: إن المسموع أن هؤلاء الناس الذين شُنقوا في سورية كانوا ممالئين لفرنسة

على احتلال سورية، فقلت له: لا صحة لذلك، ربما يوجد في سورية مَن يتمنى

باطنًا احتلال فرنسة، ولكن لا الزهراوي، ولا شفيق المؤيد، ولا العسلي، ولا

الشمعة إلخ - يريد احتلال فرنسة لسورية، بل هم وطنيون مثلنا، ويكرهون

احتلال الأجانب لبلادنا كما نكرهه نحن وزيادة، مع إن هؤلاء قاموا بحركة استقلال

إداري داخلي، وبطلب حقوق للعرب معلومة مع البقاء ضمن دائرة الدولة العثمانية،

وليس في ذلك خيانة تستحق العقوبة بالقتل، فضلاً عن الخطأ السياسي العظيم

الذي ارتُكب في هذه الواقعة، والذي أوجد هذا النفور بين العرب والترك، فسكت

السفير لكلامي هذا الذي عززته بقولي: إنني لم أكن على مشرب واحد في السياسة

أنا وأكثر مَن قُتلوا، ولكن حاشا أن أقول إنهم خونة، أو إنهم يبتغون احتلال

الأجانب لبلادهم. والمسيو فون كولمان لا يزال حيًّا، وهو شهير في ألمانيا، يمكن

أن يسأله مَن شاء عن ذلك، وعن سعي آخر لي لديه ولدى خلفه في السفارة (وهو) :

9-

السعي لجعل الترك والعرب كالنمسا والمجر:

لما نشبت الثورة الروسية، وخلعوا القيصر، وشاع أنه ربما ينعقد الصلح

على قاعدة تمتُّع الأمم بحريتها، ويعم ذلك الجميع - ذهبت إلى المسيو كولمان هذا،

وأفضت إليه بما يتمناه العرب من الحصول على الحرية التي سيحصل عليها

غيرهم، فأجابني: كل ما تقوله مفيد، وجدير بالاهتمام، إلا أننا لا نقدر أن نتدخل

في مسائل تركية الداخلية، وبعكس ذلك (الكونت برنستورف) الذي جاء خلفًا

لكولمان، عندما صار هذا ناظرًا للخارجية في برلين فقد حادثته مرارًا بمسألة

العرب، ووجوب تغيير نظام السلطنة بعد الحرب العامة؛ بحيث تكون البلاد

العربية مع البلاد التركية كما هي البافيار وبروسيا، أو المجر وأُستريا. وكان

يصرح لي بكونه هو على هذا الرأي، وأنه فاوض طلعت فيه، ووجده قابلاً لهذه

الفكرة، وكان يعدني بالصراحة بأن ألمانيا ستساعد العرب بعد انتهاء الحرب على

تحقيق أمنيتهم هذه، ومرة اجتمعت مع الكونت برنستورف في برلين قبل انتهاء

الحرب ببضعة أشهر، وكنا نازلين أنا وإياه في (أوتل آدلون) الشهير، وكذلك

طلعت باشا، وكنا نجتمع كثيرًا لتسوية خلاف كان وقع بين الدولة، وبين ألمانيا

يتعلق بالقافقاس ومدينة باكو. وبينما كنا نتحادث مرة أسرَّ إليَّ الكونت برنستورف

خبرًا، قال لي إنه خبر يسرك، وهو أنه وقعت مفاوضة بين الأمير فيصل، وبين

الدولة على الصلح بواسطة القواد الذين بسورية، فطلب الأمير فيصل أن يكون

مركز العرب في الدولة كمركز البافيار في ألمانيا، قال لي الكونت: وقد استشارني

طلعت في هذه المسألة فقلت له: أسرعوا إلى قبول هذا الوجه. وبهذا أراني قد

قمت بما طالما وعدتك به، والكونت برنستورف في ألمانيا أشهر من نارٍ على عَلَمٍ،

وهو الآن نائب في الرايستاغ، فما على المريد إلا أن يسأله كيف كان كلامنا معه

في المسألة العربية؟ !

ثم إنني كتبت في هذا تقريرًا طويلاً تقدم إلى نظارة الخارجية الألمانية

بواسطة أحد أصدقائنا الألمان المشتغلين بالأمور الشرقية في أثناء زيارتي لألمانيا

سنة 1917، وملخصه تشكيل إمارات خمس عربية مستقلة استقلالاً داخليًّا تامًّا

مرتبطة مع الدول العثمانية في الجيش، وفي الأمور الخارجية، وفي كل منها

مجلس أمة، ومجلس شيوخ. وفي الآستانة مجلس عام للسلطنة. والرجل الذي قدم

هذا التقرير هو أيضًا في قيد الحياة، وهو من أصدقاء الأستاذ صاحب المنار.

...

...

...

...

شكيب أر سلان

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 121

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

القياس في اللغة العربية

محمد الخضر

(3)

القياس في العوامل

مِن البيِّن أن الرافع والناصب للكلمة في الواقع إنما هو اللافظ بها، وما تسميه

بالعامل - كالفعل والحرف - إنما هي أداة يلاحظها المتكلم، ويأخذها بمنزلة

الوسيلة لتلك الآثار الخاصة مِن رفع ونصبٍ وخفضٍ وجزمٍ.

وحيث لم يكن تأثير هذه العوامل النحوية مِن قبيل تأثير الأسباب العقلية أو

الحسية، وإنما هو بقصد المتكلم إلى جعلها واسطةً جاز تأخيرها عن المعمول،

واستقام لكلٍّ مِن اللفظين أن يكون عاملاً في صاحبه كاسم الشرط، والفعل المجزوم

به نحو: (أيًّا مَّا تدعو) ولا يتوجه الاعتراض عليها بأن الأثر لا يوجد قبل علته

الفاعلة، وساغ لهذا المعنى الذي انكشف في بيان العامل أن يتوارد عاملان على

معمولٍ واحدٍ، ولكنهم ضعَّفوا قول المُبَرِّد: (إن الابتداء عاملٌ في المبتدإ، وهما

عاملان في الخبر) مِن جهة السماع، فقالوا: إن توجه عاملين إلى معمولٍ واحدٍ لا

يعهد له نظيرٌ في العربية، ولمثل هذا لم يأخذوا بما ذهب إليه القراء مِن أن زيدًا

في قولك: قام وقعد زيدٌ - مرفوع بالفعلين، واختاروا أن يكون فاعلاً بالثاني،

وجعلوا الفاعل في الأول ضميرًا مقررًا.

وأكثر اختلافهم في تحقيق العامل لا يظهر له أثرٌ في نظم الجملة، وقد ينبني

عليه الحكم بصحة بعض التراكيب كاختلاف الكوفيين والبصريين في الرافع لاسم

كان الناسخة، فمقتضى قول الكوفيين: (إن الاسم لم يزل مرفوعًا بالابتداء، وإن

كان إنما عملت في الخبر) أن لا يجوز نحو: كان زيدٌ كاتبًا وعمرُ شاعرًا، لما في

هذا المثال من العطف على معمولين عاملين مختلفين، وهما الابتداء وكان، ولكنه

بمقتضى مذهب البصريين يكون المثال عربيّ فصيحًا؛ المعطوف عليهما - وهما

(زيدٌ كاتبًا) - كلاهما معمول للفعل الناسخ وهو كان. وعطف اسمين على معمولَيْ

عاملٍ واحدٍ - وإن اختلف إعرابهما - لا مرية في صحته.

ولما كان تقرير العامل مما ينشأ عنه آثارٌ في هيئة التراكيب - ساغ لنا أن

نأتي في هذه المقالات على أهم الأصول التي يراعونها في تحقيق العوامل، فنقول:

ينقسم العامل إلى: قويّ، ووسط، وضعيف، فالقوي: ما يتصدى للعمل

مِن جهة صيغته، ويكون له تعلق بالمعمول مِن حيث المعنى، مثل: الأفعال،

والمصادر، وما يشتق منها، ولقوتها في العمل صح لهم أن يسندوا إليها عملين

مختلفين مثل: كان وأخواتها، أو ثلاثة آثار كالأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل.

والوسط: مثل الحروف، وما يعمل مِن جهة موقعه من الأسماء كالمضاف

يعمل في المضاف إليه، والمبتدأ يعمل في الخبر، والمميز المفرد يعمل في التمييز

والضعيف: مثل الابتداء، والتجرد، والإضافة في رأي بعض النحاة، ثم ما

يسميه الكوفيون بالصَّرف، ومِن هذا القبيل ما شابه الفعل في طلب العمل بمعناه

كاسم الإشارة، وحرف التنبيه في رأي مَن يجعلهما عاملين في الحال، وحرف

النداء، و (ما) النافية عند مَن يعلق بهما الظرف، أو الجار والمجرور.

ونبني على هذا التقسيم أنه متى أمكن أن يكون العامل مِن الصنف الأول فلا

نعدل عنه إلى القول بعمل الصنف الثاني، وإذا ساغ أن يكون من الصنف الثاني

فهو أحق مِن الصنف الثالث وأولى، وبمراعاة هذا الترتيب يترجح قول البصريين:

إن العامل في المفعول معه هو الفعل، لا واو المعية، وأضعف من القول إن

العامل هو الواو نفسها مذهب الكوفيين؛ حيث أسندوا العمل إلى ما هو مِن الصنف

الثالث، فقالوا هو منصوب على الخلاف، ومن هذا النمط قول سيبويه: (العامل

في التابع هو العامل في المتبوع) ، فإنه أقوى مِن قول الأخفش: (إن العامل في

التابع معنويٌّ، وهو كونه تابعًا) .

واختار سيبويه في باب النداء أن يكون العامل مِن الصنف الأول، ولو مقدَّرًا

ورجحه على الصنف الثاني، وإن كان ملفوظًا به؛ حيث قال: إن العامل في

المنادَى فعلٌ مُضمرٌ تقديره: (ادعوا) . والتحقيق فيما نرى أن الموازنة بين

الصنف الأول مقدرًا، والصنف الثاني مذكورًا ترجع إلى قوة النظر في المعنى،

وسرعة انتقال الخاطر إلى المقدر، فإذا كان المدَّعَى تقريره لا ينتقل إليه الذهن

بسرعةٍ أو لا يلتئم بنظم الكلام لو صرح به، فالراجح نسبة العمل إلى الملفوظ به،

ولو كان مِن الصنف الثاني، وهذا ما دعا المُبرِّد إلى أن قال: (العامل في المنادى

حرف النداء نفسه) .

والملفوظ مِن أي صنفٍ يقدَّم على المضمر الذي هو في رتبته بلا مِرْيةٍ،

وهذا الوجه مما يتقوى به قول سيبويه العامل في عطف النسق هو العامل في

المتبوع خلافًا لقول ابن جني في (سر الصناعة) : العامل مضمر ويقدر مِن جنس

العامل في المعطوف عليه، ويترجح به قول الجمهور إن المفعول لأجله منصوبٌ

بالفعل المذكور قبله خلافًا للزَّجَّاج؛ حيث أرجعه إلى المفعول المطلق، وقدر له

فعلاً مِن نوعه.

ومما يجري على هذا النسق أن الجمهور يرون عامل الجزم في الفعل الواقع

في جواب الطلب شرطًا مقدرًا، وذهب فريقٌ إلى أن العامل هو الطلب نفسه،

وأنت إذا أقمت موازنة بين المذهبين فربما دفعتك قوة المعنى إلى ترجيح قول

الجمهور؛ فإن إكرامك للمخاطَب في مثل قولك: (زرني أُكرمْك) معلق على

حصول الزيارة، وهذا المعنى لا يستقل بإفادته الأمر أو الاستفهام وحده، فلا بد من

ملاحظة شرط يستقيم به نظم الكلام، ويطابق به المعنى الذي قصدت التعبير عنه،

وللفريق الذي عزا عمل الجزم إلى الصيغة الملفوظ بها، وشذَّ مذهبه بقول سيبويه

في هذا المبحث مِن الكتاب: (انجزم بالأمر) ، (انجزم بالاستفهام) ، (انجزم

بالتمني) - أن يجيب أن ترتب الإكرام على الزيارة في ذلك المثال ودلالة الجملة

على توقفه عليها - يؤخذ بقرينة الجزم، فيكون الجزم بمنزلةِ الفاء في مثل قولك:

(كن شريف الهمة فيكبر عملك) ، فكبر العمل موقوف على شرف الهمة، وليس

ههنا شرطٌ مقدرٌ، وإنما هي الفاء تُنْبِيء عن هذا الارتباط الذي سميت مِن أجله فاء

السببية.

والأصل في الحروف المشتركة بين الأسماء والأفعال أن تكون معزولةً عن

العمل، وخرج عن هذا الأصل: ما، ولا، وأن النافيات؛ فإنها مِن قبيل ما

يَشْترك فيه النوعان، وقد أعطاها بعض العرب عمل (ليس) الناسخة، فإذا وقع

نزاع في نسبة العمل إلى حرفٍ مشتركٍ فالأصل في جانب مَن ينفي عنه العمل،

ويظهر بهذا ضعف القول بأن العامل في عطف النسق هو حرف العطف؛ فإن

العاطف لا يختص بأحد القبيلين، وعلى هذا الأصل ينبني خلافهم في (أن

وأخواتها) إذا اتصلت بها (ما) الزائدة، فقد سمع العمل في (ليتما) فقط، فاتفقوا

على جوازه في هذا الحرف، واختلفوا في بقية الحروف، فمنعه سيبويه، وأجازه

الزجاج، وابن سراج، والكسائي، ومذهب سيبويه قائمٌ على أن (ليتما) لم تزل

على اختصاصها بالأسماء، فساغ إعمالها، ولا يسوغ قياس الأحرف الباقية عليها؛

لأن (ما) أزالت اختصاصها بالأسماء، وهيأتها للدخول على الأفعال.

ومن أصولهم أن الحرف لا يعمل عملين مختلفين، وإنما يعمل عملاً واحدًا

كالحروف الخافضة للأسماء، والناصبة للأفعال، أو عملين متماثلين كأكثر الجوازم،

والحروف العاملة في المتبوع وتابعه، وخرج عن هذا الأصل عند البصريين

(إن وأخواتها) ، وحافظ عليه الكوفيون، فطرَّدوه في كل موضع، وقالوا إن

الناسخ عمل في الاسم وحده، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بما ارتفع به قبل أن يرد عليه

الناسخ، وهو المبتدأ، ومثل هذا قول سيبويه إن (لا) النافية للجنس إنما عملت

في الاسم، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بكونه خبرًا للمبتدأ.

والأصل فيما يُسند إليه العمل أن لا يتخلف عنه أثره أينما وُجد، فإذا احتمل

وجه الإعراب أن يُنسب إلى ما يدور معه العمل حيثما تحقق، أو يضاف إلى ما لا

يطّرد في جميع مواقعه - ترجح جانب المحمل الأول، ومِن أمثلة هذا أن الكوفيين

ومن تبعهم مِن البغداديين - يقولون إن الفعل الواقع بعد واو المعية المسبوقة بطلبٍ

أو نفيٍّ منصوبٍ بالخلاف المسمى عندهم بالصَّرف، وبيانه أن معنى (وتأتي) في

مثل قول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

لما كان مخالفًا لمعنى ما قبله في الإيجاب والسلب خُولف بينهما في الإعراب،

وهذا المذهب مردودٌ بأن الخلاف قد ثبت في مواضع لم يظهر له فيها عمل

كالأفعال الواردة بعد (لا) و (لكن) العاطفتين.

وإذا دلت الصيغة على معنى وتقرر لها عملٌ خاصٌّ، ثم جاءت صيغة أخرى

توافقها في الدلالة على ذلك المعنى - فليس لنا أن نلحقها بالأولى في إعطائها ذلك

العمل؛ إذ لا يلزم من الاتحاد في المعنى التماثل في العمل، فإنك ترى كثيرًا مِن

الكلم تتحد معنى، وهي تختلف في التعدي واللزوم نحو: صلى عليه ورحمه،

ومما يوضح هذا الغرض أن صيغة مفعول تعمل في الاسم الظاهر نحو: مقتولٌ

غلامه، ومذبوحٌ جزوره، ويوافق هذه الصيغة في الدلالة على معناها صيغة

(فعيل) نحو: قتيل، وجريح، وقد أبى الجمهور أن يلحقوه بشبيهه، ويرفعوا به

الظاهر وقالوا: لا يصح أن يقال: مررت برجلٍ كحيل عينه أو قتيل أبوه، وأجاز

ذلك ابن عصفور، قال أبو حيان: وهو محتاجٌ إلى نقلٍ صحيحٍ عن العرب.

ونحن نقول: إن كان مستند ابن عصفور في هذه المسألة قياس (فعيل) على

(مفعول) فقد عرفت فساده؛ إذ لا يلزم مِن الاتحاد في المعنى التوافق في العمل،

فيكون الأصل بيد المانع حتى يأتي المجيز بشاهده، وقد يقرر القياس في مذهب ابن

عصفور على وجهٍ آخر، وهو أن يقال قد اتفقوا على أن صيغة (فعيل) ترفع

الضمير، فألحق ابن عصفور به الأسماء الظاهرة، وقياس الاسم الظاهر على

الضمير في مثل هذا الحكم أيسر من قياس فعيل على مفعول.

وينتظم في هذا السلك صيغة (فَعِل) نحو: حَذِر، فسيبويه يذهب إلى أنه

يعمل عمل الصيغة المحول عنها، وهي اسم الفاعل، وخالفه الجمهور في ذلك،

وهم الواثقون بالأصل الذي كنا بصدد إيضاحه، وسيبويه هو المطالَب بإقامة شاهدٍ

على مذهبه، وحيث تلا عليهم قول الشاعرِ:

حذِرًا أمورًا ما تُخاف وآمن

ما ليس ينجيه من الأقدار

ردوه بأن البيت مصنوعٌ، وحكوا على اللاحقي أنه قال: إن سيبويه سألني

عن شاهدٍ في تعدِّي (فَعِل) ، فعملت له هذا البيت.

***

القياس في شرط العمل

قد يكون العمل مقارنًا لوصفٍ، ولفظٍ خاصٍّ؛ فيسمون ذلك الوصف أو

مقارنة اللفظ شرطًا له، وهذا له حالان:

(أحدهما) ما إذا فقد ذلك الشرط بظل العمل، وبقي العامل مهملاً، كما

شرطوا في نصب (إذن) للمضارع أن تكون في صدر الجملة، فإذا فقدت الصدارة

بطل النصب مع بقاء (إذن) في نظم الكلام مهملة، ومثل هذا النوع مِن الشروط

لا تنبغي المخالفة فيه إلا مِمَّن لم تبلغه الشواهد التي خليت من الشرط؛ فانعزل

العامل عن العمل.

(ثانيهما) ما إذا فقد الشرط لم يصح أن يُؤتَى بالعامل في نظم الكلام ألبتة،

وهذا كما شرطوا لعمل (إن وأخواتها) الترتيب بين اسمها وخبرها؛ فإن المتكلم

إذا لم يُوفِ لها هذا الشرط لا يسوغ أن يدخلها في التركيب، ولو مع إهمالها، وهذا

النوع من الشروط هو الذي يختلفون فيه كثيرًا؛ فإن للمخالف في الشرطية أن

يدَّعي أن مقارنة ذلك الوصف إنما كانت على سبيل الاتفاق لا على وجه اللزوم،

وبناء العمل عليه؛ إذ لا يوجب ههنا صورة تبين كيف عزل العامل عن العمل مِن

أجل تخلف ذلك الوصف مِثلَما عرفت في القسم الأول.

ولمدَّعي الشرطية أن يقول: إني لم أَرَ هذه الأداةَ عاملةً إلا مع هذا الوصف

الخاص، فأعده شرطًا للعمل، ومَن ينفي الشرطية فعليه إقامة الدليل، ولا مقال

لمنكِر الشرطية في هذا المقام إلا أن يسوق شاهدًا على عملها، مع عدم ذلك

الوصف، أو يمنع أن يكون لارتباط العمل بذلك الوصف وجه مناسب.

فإن سلك الطريقة الأولى - وهي إقامة الشاهد على العمل مع تخلف الوصف-

فقد رمى بسهمٍ صائبٍ، وأصبح مذهبه في حرزٍ حارزٍ من الصحة، وهذا كأن

يقول الكوفي: إن خبر (كان) لا يأتي فعلاً ماضيًا إلا أن يقترن بقد، فيعارضه

البصري في هذا الشرط، ويتلو عليه مثل قوله تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن

قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (يوسف: 26)، وقول زفر بن الحارث:

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً

وقد يستمر مدعي الشرطية ماسكًا برأيه، ولو بعد أن تُلقى عليه الشواهد البينة

في إلغاء الشرط، وقيام الحكم بدونه ذاهبًا إلى حمل الشواهد على غير ظاهرها،

كما زعم الكوفيون في هذه المسألة أن (قد) في تلك الشواهد مضمرةٌ، ومتى سقط

مقال المناظر إلى هذا الدرك مِن التعسف كان الإعراض عنه أبلغ جوابًا وأحسن

جدلاً.

وإذا عجز المخالف في الشرطية عن الطريقة الأولى - حيث أعوزته الشواهد،

وجنح إلى الطريقة الثانية؛ وهي المطالبة بالوجه المناسب - لجعل ذلك الوصف

شرطًا، فإن أبدى القائل بالشرطية وجهًا صحيحًا لارتباط الحكم بالوصف المقارن

انقطع المخالف، واستقر الشرط في محله، وهذا كما يقول البصري: إن الفعل

الناسخ المقرون بما النافية لا يجوز تقديم خبره على ما. وهذا القول في معنى أن

شرط عمل الناسخ المنفي بما أن يكون خبره مؤخرًا عنها، وقد نازع الكوفيون في

هذا الشرط مع اعترافهم بأن الخبر لم يرد في السماع إلا مؤخرًا، فما وسع

البصري سوى أن قال في علة ربط العمل بهذا الشرط، واختصاصه به: إن (ما)

النافية مِن الأدوات المستحقة للصدارة، فلا يتمكن ما بعدها مِن العمل فيما قبلها،

ولو عجز القائل بالشرطية في أمثال هذه القضية عن بيان وجه الاشتراط لأمكن

للمخالف أن يولي وجهه شطر القياس، فإذا وجده قريب المأخذة حسن

الموقع جاز له أن يهدم به ذلك الشرط، ويستمر الحكم على إطلاقه، ومثال هذا أن

يذكر الجمهور في شرط إعطاء (ما) النافية عمل (ليس) تقدم اسمها على خبرها،

فينازعهم ابن عصفور في ذلك، ويستثني الظرف والجار والمجرور الواقعين

خبرًا، ويجيز تقديمها على الاسم. وإذا عدم الجمهور أمثلةً مِن كلام العرب تشهد

ببطلان عمل (ما) إذا قدم خبرها على الظرف أو الجار والمجرور، ثم لم يُبْدِ

وجهًا يقتضي التزام الترتيب اتسع في وجه ابن عصفور مدخل القياس، فألحق (ما)

النافية بباب (إن وأخواتها) حيث يجوز تقديم خبرها على اسمها متى كان

ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا.

ومن الأمثلة الجارية على هذا الوجه قولهم إن الفعل لا ينصب الضمير العائد

إلى نفس الفاعل إلا إذا كان مِن النواسخ، فيجوز: أظنني كاتبًا، وتحسبك شاعرًا،

ولا يجوز (أعاتبتني) ، أو تحسن إليك، فإن قام مخالفٌ في اشتراط كون الفعل مِن

النواسخ، ولم يسُق شاهدًا على ما يدَّعي، بل ذهب إلى قياس نحو عاتَبَ، وأَحْسَنَ

على ما سمع في باب النواسخ - تعيَّن على سيبويه ومَنِ اقتدى على أثره في هذه

المسألة أن يتعرضوا للطعن في هذا القياس ببيان الفارق بين البابين، وكذلك فعلوا

فقالوا: إن حسبت وأخواتها دخلت على مبتدإ وخبر لتجعل الحديث شكًّا أو علمًا

فصارت بمنزلة (إن وأخواتها) في إفادة معانٍ زائدةٍ على أصل المعنى الخبري،

وكما جاز: إنني شاعرٌ، ولعلِّي كاتبٌ، جاز: حسبتني شاعرًا، وعلمتني كاتبًا،

وأما الأفعال غير الناسخة فلم تحرز هذا المعنى؛ إذ هي المقصودة بالحديث،

ومنزلتها مِن الأسماء المنصوبة بها منزلة المبتدإ مِن الخبر، وإذا تحقق الفارق بين

المسألتين امتنع إلحاق إحداهما بالأخرى.

***

القياس في الأعلام

المعروف في الأعلام أن أمرها موكولٌ إلى واضعها، فيركبها في أي وزنٍ

شاء، بدون أن يراعي فيها قانونًا، أو يجري فيها على سنة قياس، قال الشيخ ابن

عرفة - في تفسير قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} (النجم: 14) -: انتقد

القرافي على الفخر بن الخطيب تسمية كتابه باسم (المحصول)، قائلاً: إن فعل

(حصل) لا يتعدى إلا بحرف الجر، ومثل هذا لا يُبنَى منه اسم المفعول إلا

مصحوبًا بالمجرور، فكان حق التسمية:(المحصول فيه) ، والجواب أن ذلك

واجبٌ في نظم الكلام، وأما في التسمية فيجوز؛ لأنه يصح تسمية الإنسان ببعض

الاسم، فأحرى أن يسمى باسم (المفعول) غير مصحوبٍ بحرف الجر كما سميت

الشجرة بسدرة المنتهى إليها، وبمثل هذا يجاب مِن المعترض تسمية القاضي

عياض كتابه بالشفا، وقال: إن ما ورد ممدودًا كالشفاء لا يجوز قصره إلا في

ضرورة الشعر، والتحقيق أن إنكار تسمية بعض المؤلَّفات برد المحتار أو المقتطف،

إنما يتوجه على واضع الاسم، متى اعتقد صحة أخذ (افتعل) مِن مادة (حار)

أو (قطف) ، ولو علم أنه لا يقال محتار ومقتطف، ثم عمد إلى وضع أحدهما

اسمًا لتأليف بعينه لم يكن مخالفًا لقانون اللغة، وعلى أي حالٍ فالناطق بهما - بعد

أن صارا علمين - لا يتوجه إليه اعتراض، ولا يوصف بالخطأ الذي يوصف به

القائل: اقتطفت الثمرة، واحترت في أمر كذا.

ولا أدري إلى هذا اليوم ماذا أراد صاحب القاموس بالقياس في قوله: (فقعس

علم مرتجل قياسي) ؛ إذ لا نعلم فارقًا يميز فقعسًا عن بقية الأعلام المرتجلة سوى

أن مادته لم تُستعمل إلا في صيغة هذا العلم بخلاف غيره مِن المرتجلات كسعاد وأُدَد؛

فإنها مرتجلة نظرًا إلى صيغتها، وأما مادة حروفها فإنها مستعملةٌ في معانٍ أخرى

بصورٍ مختلفةٍ.

(يتبع)

محمد الخضر

_________

ص: 134

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة السورية الثانية

(8)

الحديث مع سكرتير الجنرال غورو

مكثت مع موسيو روبير دوكيه ساعةً وأربعين دقيقةً، وقد افتتح الكلام بالثناء

عليَّ بقوله: إنه بلغه أنني مِن أشهر علماء الإسلام في هذا العصر، ومن الخطباء

المؤثرين، والكُتاب

فتلطَّفت في الشكر، والتنصُّل، ونقل الحديث إلى

الموضوع، فشرعت أولاً في مقدماتٍ اجتماعيةٍ، تتألف منها أقيسة منطقية، تُفهَم

مِن سياق الكلام، وإن لم تُذكر بأسلوب تأليف المُنتَج مِن الأشكال، وأذكر المهم مِن

ذلك بالاختصار، قلت:

(1)

أن للقوى الأدبية تأثيرًا في البشر لا تُغني عنه القوى المادية، كما

يرشد إليه قول المسيح عليه السلام: (ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان) ؛ ولذلك

تجتهد الدول والأمم العليمة بطبائع الاجتماع في إعلان فضائلها، وتبذل في ذلك مالاً

كثيرًا بوسائلَ كثيرةٍ، كما تجتهد في الدفاع عن نفسها إذا وصفت بشيءٍ مِن الرذائل،

ولو بحقٍّ، وقد استفادت هذه الدول والأمم فوائدَ عظيمةً بإقناع الكثير مِن الناس

بأنها هي المقيمة لأركان العدل والحرية والمساواة بين الناس، والقائمة بأمر تحرير

الشعوب المظلومة من الظلم، والاضطهاد خدمة للإنسانية، ولكن هذه الحرب

الأخيرة قد هدمت - منذ عقد الهدنة إلى اليوم - ما بَنَتْه هذه الأمم، ودولها في قرنٍ،

بل في قرنين، ولا سيما إنكلترة، وفرنسة اللتين ملأتا الدنيا دعوى وفخرًا مدة

أربع سنين بأنهما حاربتا لتحرير الأمم، والشعوب المظلومة، وأنهما لا يبغيان فتحًا

ولا جرَّ مغنمٍ، ولا تحكيم القوة العسكرية في بلدٍ ولا شعبٍ، بل القضاء على القوة

العسكرية إلخ، فلما انتهت الحرب بظفرهما طفقتا تقتسمان جميع ما تقدران

على الاستيلاء عليه بالقوة حتى بلاد حلفائهما، وأصدقائهما باعترافهما إلخ.

(2)

إن الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثته الحرب في الشرق قد نفخ في

جميع الشعوب روح الشعور بحقها في الحرية؛ حتى حفَّزَها لطلب استقلالها بكل ما

يملك مِن الوسائل، وهذا الشعور إذا دبَّ في الشعوب يتعذر معه دوام استعبادها،

كما جربت دول أوربة في شعوبها، فإذا لم تقدر الدول الاستعمارية هذا الانقلاب

حق قدره، وتجاري طبيعة العمران بترك سيطرة القوة؛ فإنها ستلاقي عقابًا كبيرةً

يتعسر أو يتعذر عليها اقتحامها، ومشاكل عظيمة يصعب حلها إلخ.

(3)

إن أوربة قد هدمت ما كان لها مِن حسن الصيت والمكانة الأدبية في

الشرق بما فعلته في هذه الحرب، وبعد الحرب، فلم يبقَ فيه أحد يصدق للأوربيين

قولاً، أو يحسن بهم ظنًّا، أو يراهم للفضل أو العدل أهلاً، بل صار العوام متفقين

مع الخواص على أن المدنية الأوربية ماديةٌ محضةٌ، لا يبالي أهلها بغير التمتع

بالشهوات، والتحكم في استعباد الضعفاء، وأنه لا يصد دولها عن الظلم، والعدوان،

وتخريب العمران إلا الضعف، والعجز، وأن كل ما يتبجَّحون به من دعوى

العدل، والمساواة، والحرية، والإنسانية - إفكٌ وتزويرٌ، ورياءٌ وتغريرٌ، وقد

صار أشد الناس نفورًا مِن الترك في سورية يفضلونهم عليكم عن اعتقاد، حتى إن

بعض التجار وغيرهم من الناس - الذين لا يحفلون بالسياسة - يسألونني سؤال

بحثٍ على الحقيقة: لماذا كنا نعتقد أن الإفرنج أرقى من الترك، وأعدل وأرحم

وأبعد عن التعصب الديني والمحاباة، مع أن الأمر بالضد كما تبين لنا الآن، وكنت

أجيبهم ببيان الفرق بين الإدارة في بلاد الدول، وفي مستعمراتها، وبيان حالة

سورية الخاصة في هذا الوقت

(4)

إن السوريين - وإن اختلفت أديانهم، ومذاهبهم وتربيتهم، وبعد

بالاستقلال التام عهدهم - لا يرضون بأن يكونوا تحت سيادة أجنبية عنهم، أما

الأكثرون منهم - وهم المسلمون - فإنهم لم يكونوا يشعرون في عهد الترك بأنهم

خاضعون لسلطةٍ أجنبيةٍ إلا في السنين الأخيرة التي ظهرت فيها العصبية الجنسية

التركية، وأما النصارى فجُلهم في لبنان، الذي كان مستقلاًّ في إدارته، ولم يكن

في حكومته غير واحدٍ أو اثنين مِن الترك في مركز المتصرفية، وكان ما يكلفون

من الواجبات في الولايات أخف مما يكلف المسلمون، وقد كان الذين يعلقون آمالهم

فيكم منهم يظنون أنكم ستؤسسون لهم ملكًا مسيحيًّا مستقلاًّ، تلتزمون فيه حمايتهم من

الخارج، وتتركون لهم السيادة والسلطان في الداخل، فبدا لهم منكم ما لم يكونوا

يحتسبون مِن السيطرة التامة العامة في جميع أنحاء لبنان، وثقل الضرائب المالية،

فبدءوا يتحولون عنكم، حتى إن أحد أهل الاختبار مِن أنصاركم قال لي: لو خير

موارنة لبنان أنفسهم بين فرنسة والترك لفضَّل ثمانون في المئة منهم الترك! .

وسترون مِن السوريين ما لم يكن يخطر في بالكم مِن الجهاد في سبيل الاستقلال في

مشارق الأرض ومغاربها.

(5)

إن الأسماء الجديدة التي يخترعها المستعمرون آنًا بعد آنٍ - لتلطيف

وقْع سيطرتهم على الشعوب - لم تعد تخدع شعبًا مهما يكن جاهلاً، فكيف ينخدع

بها الشعب السوري الذي لا يخفى على زعمائه، ولا على أدبائه شيءٌ مِن أمور

العالم وناهيك بالأسماء، والأقوال التي تنقضها الأفعال كأفعالكم، وأفعال حلفائكم

الإنكليز باسم الانتداب لمساعدة السوريين على النهوض بأمر استقلالهم المقرر في

عهد عصبة الأمم، فإنكما قبل أن يتم الصلح بينكما وبين أصحاب البلاد بحسب

القانون الدولي وهم الترك، وقبل أن يتقرر الانتداب المتوقف على هذا الصلح -

تتصرفون في البلاد تصرف المالك للأعيان الموروثة، وقد زدتم على تصرف

الإنكليز في سورية الجنوبية أنكم رفعتم عَلمكم على المعاهد الرسمية في ولاية

بيروت، ومتصرفية لبنان، واستبدلتم بطوابع البريد المؤقتة طوابع حكومتكم،

وهو ما لم تفعلوه في تونس، وجعلتم لغتكم رسمية (هذا وما فكيف لو) .

(6)

إن المعروف لدى جمهور الباحثين مِن الفرق بين الاستعمار الفرنسي

والبريطاني أن جُل فائدة فرنسا منه اقتصادية، وأما الإنكليز فلهم وراء المنافع

الاقتصادية مقاصد أخرى دينية وسياسية، هي عندهم أهم مِن المنافع المالية، فهم

يطمعون في تنصير المسلمين، وجعْلهم إنجيليين، حتى إن رئيس وزارتهم قد

استهوته نشوة السرور بفتح القدس، فصرح في مجلس الأمة بأن هذه آخر حرب

صليبية، وهو ما كانوا يكتمونه مِن قبل، فلا عجب بعد هذا إذا أظهرت جميع

كنائسهم الابتهاج بهذا الفتح الصليبي الديني، ثم إنهم يطمعون في سيادة العالم كله،

ويظنون أنهم قد صاروا على مقربةٍ من الوصول إلى هذه الغاية، ومن مبادئ ذلك

إتمام تأسيس الإمبراطورية الإفريقية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية،

وجعْل الإمبراطورية الآسيوية مِن حدود الصين إلى البحر الأحمر الذين يرون أنه

قد صار بحرًا بريطانيًّا صرفًا، وناهيك بما تقاسونه - قبل كل أحدٍ - مِن احتلالهم

للقسطنطينية، وللسيطرة على البحر الأسود مع البحر الأبيض الذي لهم فيه السيادة

العليا، ولا تطمع فرنسة بشيءٍ مِن ذلك.

لأجل هذه المطامع يخاف المسلمون من الإنكليز على دينهم - كما يشهد عليهم

فيلسوفهم ومؤرخهم الكبير غوستاف لوبون، وملكهم - ما لا يخافون مِن الفرنسيس،

وإن كانوا أشد منهم وطأةً في الاستعمار، ثم إن فرنسة قد خسرت في هذه الحرب

مِن الرجال والأموال ما لم تخسر مثله إنكلترة، وخرب قسمٌ عظيمٌ مِن بلادها،

وهبطت الثقة بماليتها، ولم تشاركها إنكلترة في هاتين المصيبتين، ففرنسة إذًا

أجدر من إنكلترة بالشعور بالحاجة إلى عطف الشعوب عليها، وحصرهما في

إصلاح ماليتها، وتوفير مواردها، وتعمير بلادها، والتوسل إلى ذلك باستعادة

مكانتها الأدبية في العالم، وإن استيلاءها على سورية، واستعمارها إياها ينافي ذلك

كله؛ فإنه يحمِّلها نفقات كثيرة، ويجعل العالم العربي كله خصمًا لها، وهي في

غِنًى عن ذلك بما نقترحه عليها.

(7)

قلت: إن الشعوب الشرقية قد استيقظت مِن رقدتها الاجتماعية،

وتذكرت أنها أمةٌ، حقها أن تكون حرةً لا أَمَةً، وفي مقدمتها الأمة العربية ذات

التاريخ المجيد مِن طريفٍ وتليدٍ، وزعماء هذه الأمة يقدرون ارتقاء النظام

الاجتماعي، والاقتصادي، والفنون العملية في أوربة قدرها، ويودون أن يقتبسوا

لبلادهم ما تحتاج إليها منها، ويرون أنه لا بد لهم مِن الاستعانة بأمةٍ مِن الأمم

الغربية الراقية في العلوم، والفنون، ولكنهم ينفرون مِن كل دولةٍ لها مطامع

استعمارية في بلادهم، ويفضلون غيرها عليها، وإن لم تعتدِ على استقلالهم، ولا

أفضل عندهم مِن الأمة التي تعترف حكومتها لهم باستقلالهم وحريتهم، فهم يخطبون

ودَّها ويكافئونها على صداقتها لهم بكل ما يبلغه حولهم وقوتهم من المنافع الاقتصادية،

والأدبية، فيفضلون تجارتها، ولغتها، وفنونها، وصناعتها على غيرها

ويضمنون لها أن تنتفع منهم بالصداقة، أضعاف ما ترجو بالعدوان الموجب للعداوة،

بل يبثُّون الدعوة لجعْلها صديقة الشرق، والعالم الإسلامي كله، فالشعوب العربية

عامةً، والشعب السوري خاصةً مِن أقدر الشعوب على بثِّ هذه الدعوة، وعلى ما

يقابلها، ويضادّها؛ لما لهم في أنفسهم وفي بلادهم المقدسة مِن المزايا.

وإنني كنت قد عرضت هذه الصداقة على الدولة البريطانية بمذكرة أرسلتها

إلى رئيس وزرائها (مستر لويد جورج) ، ذكَّرته فيها بما يهدد دولتهم مِن الأخطار،

وعداوة شعوب الشرق والغرب، ولا سيما العالم الإسلامي الذي حاولوا هدم ما

بقي مِن بناء استقلاله، وصرحت لهم بأنهم إذا كانوا لا يحفلون بعداوة أمة يتجاوز

عدد نفوسها ثلاثمائة مليون - وهي المالكة لجُل الشرق الأدنى، والأوسط بسبب

ضعفها - فليعلموا أنها لن تكون أضعف مِن ميكروبات الأمراض، والأوبئة التي

تفتك بالأقوياء، وبأن صداقة هذه الأمة لا يمكن أن تُنال بمثل السياسة التي سلكوها

في المسألة العربية، وإنما السبيل إليها واحدة، وهي الاعتراف بالاستقلال المطلق

للشعوب الإسلامية الكبرى: العرب، والترك، والفرس، ولم أنسَ تخصيص

مصر بالذكر، وإن كانت عندي من الأمة العربية، وبينت له أن دولتهم إن فعلت

ذلك بإخلاص فإنها تدرأ عن نفسها أخطار الشرق، وتربح منه أضعاف ما تطمع

فيه بالعبث باستقلال شعوبه، ومحاولة وضعها تحت سيطرتها إلى آخر ما

فصَّلته في تلك المذكرة، ولكن لويد جورج لا يزال ثملاً بخمرة الظفر بالدولة

الألمانية، والاستعلاء على جميع الدول الأوربية، ويتوهم أنه قادر على حل جميع

المشكلات بأخاديع الوعود، ونُذُر الوعيد، وضروب التغرير، وبدر الدنانير،

(وأن صيحة مصر لا تزيد على صرخة طفلٍ، وثورة العراق لا تعدو ثوران هِرٍّ،

وأن هيجة الهند كهيجة دعد وهند، وغضبة الأفغان كغضبة فيروز ومَرجان) .

وغرضي الآن أن أعرض على فرنسة ما عرضته على إنكلترة قبلها، فهي

أجدر بقبوله لانتفاء المانع، وثبوت المقتضي اللذين ذكرناهما آنفًا، وليس من

المصلحة أن يعارضه الاستمساك باستعمار هذه الحصة التي أعطيتموها مِن سورية

باسم الانتداب على ما فيها مِن المُنَغِّصات والمشكلات، فإذا طبتم نفسًا باستقلالها

أمكنكم أن تعترفوا باستقلال جميع هذه الشعوب الشرقية، وفي مقدمتها العرب

والترك وأن تبنوا ذلك على ما كنتم تصرحون به منذ أُوقدت نار الحرب إلى أن

أطفئت مِن الرغبة عن الفتح والاستعمار إلى جعْل الظفر في الحرب قاضيًا على

الاستيلاء والاستعلاء بالقوة، ووسيلة إلى حرية الشعوب، وإعطائها حق تقرير

مصيرها، واختيار شكل حكومتها وإدارتها، وحينئذٍ تنفردون بالسلطة الأدبية في

العالم كله التي حاول الدكتور ويلسون أن يجعلها لأمته، فباء بالخيبة والخسار بعد

أن كان منها قاب قوسين أو أدنى، وأنا أضمن لكم إجماع الأحزاب السورية على

أن يكون ربحكم المادي والأدبي مِن سورية باختيارها فوق ما تمنون به أنفسكم

بقوة احتلالكم إياها.

ثم إننا دخلنا باب المناقشة في الموضوع بعد أن قال موسيو روبير دوكيه: إن

هذا مشروع عملي قابل للتنفيذ، وليس خياليًّا، ولكنه يفتقر إلى بحثٍ دقيقٍ بين

العقلاء مِن الفريقين (السوريين والفرنسيس) فإن الإسراع في تنفيذه - ولا سيما

جلاء الجيش عاجلاً كما تطلبون - يعقب مشاكلَ كثيرةً، ربما تأتي بخلاف المراد.

وليس لي أن أنقل في هذه الرحلة كل ما قاله؛ فإن مِن الأصول المتبعة عند

الكُتَّاب أن يستأذنوا في نشر أمثال هذه المسائل مَن ينقلون عنهم آراءهم فيها، ولا

سيما إذا كان لهم صفةٌ رسميةٌ تلحقها تبعة ومسئولية، وحسبي مِن تصريحه هذه

الكلمة المجملة منه، وهو أن استقلال سورية أمرٌ يمكن تنفيذه، واعتراف فرنسة به

باتفاقٍ يضعه العقلاء مِن الفريقين، وقد صرحت له بأن القطع في هذا الأمر مِن

جانب الفرنسيس لا تملكه إلا حكومتهم العليا في باريس، فما على مندوبهم السامي

في سورية ورجاله إلا أن يمحصوه، ثم يرفعوه إلى حكومتهم العليا، وإذا كان مثل

موسيو روبير دوكيه يقول باسمه، واسم الجنرال غورو - الذي هو أمين سره -

إن هذا المشروع حقيقي لا خيالي فأجدر بمثل موسيو بوانكاره وموسيو مليران أن

يقتنعوا به إذا حاول إقناعهم به مَن هم أهلٌ لذلك، ولكن البحث في تمحيص المسألة

وقف عند ذلك الحديث، فلم يهتم أحدٌ مِن كبراء أهل بيروت، ولا من غيرهم أن

يعيدوا الكرَّة، فيبحثوا مع الجنرال غورو في المسألة فيما أعلم، على أنني حدثت

كل مَن رأيته أهلاً للوقوف على ذلك فيه فسُرَّ به، وقدَّره قدْره على تفاوت الأفكار

في اليأس منه والرجاء فيه.

وأما عذري في تلك العودة إلى البحث في ذلك فهو أنني لما عدت مِن بيروت

إلى دمشق اشتغلت مع سائر أعضاء المؤتمر، وغيرهم مِن الأحزاب السياسية في

شأن إعلان استقلال البلاد السورية، ووضع القانون الأساسي لحكومتها. وفي أثناء

ذلك وقعت المشادّة والمحادّة بين الملك فيصل والجنرال غورو، حتى انتهى ذلك

بزحف الثاني بجنده على دمشق، وإخراج الأول منها، ثم عدت إلى مصر في أول

فرصة أمكنني فيها السفر كما أذكر بعد، على أن فرنسة شرعت - بعد ذلك - في

عقد اتفاق بينها وبين حكومة أنقرة التركية، فتركت للترك كليكية وجزءًا مِن ولاية

حلب السورية، وتوسلت بذلك إلى بث الدعوة بأنها صديقة الإسلام، ونصيرة

الخلافة الإسلامية.

(للرحلة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سعيد حليم باشا

شخصيته السياسية وشخصيته الفكرية [1]

رسالة من مراسل جريدة (الأخبار) في الآستانة

في يوم 10 ديسمبر 1921

وردت الأنباء تلو الأنباء عن مقتل الصدر الأعظم الأسبق سعيد حليم باشا في

روما، فتأثرت جميع المحافل السياسية التركية، والرأي العام العثماني مِن هذه

العاقبة الفاجعة التي لقيها المرحوم، وقد أفاضت الصحف المحلية في ذكر المرحوم،

وتاريخ حياته، وتبارى كبار الكُتاب العثمانيين في نشر المقالات عنه، وعن

سياسته، وقد اتفقت جميع الآراء حول نقطةٍ أساسيةٍ هي التأثر لما أصاب المرحوم

مِن مفارقة الحياة الدنيا مضرجًا بدمائه، بعد أن قضى شطرًا مِن آخر سِنِيه معتقلاً

في مالطة وشطرًا قبله مسجونًا بأمر الديوان الحربي العرفي في الآستانة.

لا ريب أن الحياة التي قضاها سمو الأمير المرحوم سعيد باشا - منذ عقد

الهدنة - حياةٌ مُرةٌ، كئيبةٌ، مؤلِمةٌ، لا تطاق، وقد ذاق سموه خلالها مِن أنواع

المهانة، والعذاب ما جعل خصومه وأنصاره يتحدثون في التماس تخليصه مِن تلك

المصائب، بيد أن الحياة التي قضاها المرحوم في مقام الصدارة العظمى منذ تولاها

بعد مقتل المرحوم محمود شوكت باشا - كانت مِن أعز الأيام التي مرت عليه في

حياته، ويصح أن يقال إنه كان آخر الصدور العظام الذين سمح لهم الزمان بأن

يتمتعوا بأبهة مقامهم. ولقد كان لموكب سموه فخامةٌ وعظمةٌ تسترعي الأنظار، بل

تأخذ الأبصار؛ إذ يهبط مِن الباب العالي إلى الجسر ليتقدم إلى قصر السلطنة،

حيث كانت جياد الفرسان التي تتقدم عربته تدعو الناس بوقع أقدامها الموزون أن

يتنحّوا عن الطريق، ويعطلوا مسيرهم تحيةً لصدر الزمان، واحترامًا لناظم أمور

السلطان.

فالقدر قد خبَّأ للصدر الأسبق حياةً تنسَّمت شواهد العز والمجد، ثم هبطت

وهبطت، حتى تجندلت برَصاصةٍ فتَّاكةٍ.

للصدر الأسبق شخصية سياسية، وشخصية فكرية، وشخصية ثالثة اكتسبها

باستشهاده برصاصةٍ خائنةٍ.

أما شخصيته السياسية فلعلها أضعف شخصياته، ولم نصادف أحدًا يمتدح

هذه الشخصية، أو يذكرها مقرونة بحركةٍ سياسيةٍ أو توفيقٍ سياسيٍّ يستحق

عليه المرحوم ثناءً خاصًّا، بل إن خصومه وأنصاره متحدون في اتهامه بضعف

الإرادة، والتوغل في الغرور، والحرص على الجاه إلى حدٍّ ينسيه مهام واجباته،

ووظائفه السياسية، بل إلى حدٍّ يجعله على غير علمٍ بما يحدث مِن الحوادث

الخطيرة التي يتعهد مسئوليتها إزاء الأمة، وإزاء ضميره وربه. بل إنهم يقولون إنه

كان قد ألقى زمام الأمور إلى أيدٍ أخرى على أنها إنما أُلقيت إليه، وهم يضربون

لذلك مِن الأمثال أنه لم يكن له علمٌ بحادثة البحر الأسود التي كانت سببًا

لدخول الدولة الحرب العامة، ولا بحوادث الإبعاد، ولا بغير ذلك، ثم إنهم

يتهمونه بمخالفة مبادئه طمعًا في البقاء في كرسي الصدارة، ويبرهنون على ذلك

بأنه استقال على إِثْر دخول تركيا في الحرب لمعارضته لها، ولم يلبث أن عاد في

استقالته بلا مبررٍ! ، بل قد تحمل مسئولية إعلان الحرب أيضًا، بالرغم مما أبداه

مِن شدة المخالفة لها، ومما تكفل به لدى الدول مِن أن تركيا لن تدخل الحرب

ما دام على رأس حكومتها.

أما ضعف إرادته وتحمُّله ما لا قِبَلَ له به، فيقولون في الشواهد عليه إنه على

كونه كان يعلم أنه لن يستطيع أن يكبح جماح طلعت باشا أو أنور باشا بتدبيره

وكياسته على كونه رأى بعينيه أنهما لم يتركا له إلا التمتع بلقبه، والاسترسال في

أُبَّهته وفخامته - قد رضي أن يشاركهما في أعمالهما، وأن يذلل إرادته لإرادتهما،

وأن يتقبل كل ما عملاه!

ومن الصعب أن يتصدى الإنسان للدفاع عن سعيد باشا إزاء هذه الأمور التي

تُعزى إليه، لكننا إذا قرأنا شيئًا مِن تصريحاته على إثر عقد الهدنة لدى الشُّعبة

الخامسة مِن مجلس المبعوثين (أي الشعبة التي قامت للتحقيق في قضية المسئولين

عن الحرب، وتهيئتهم للمحاكمة أمام ديوانٍ عالٍ) - ظهر لنا أن أولئك الخصوم

على حقٍّ فيما يقولونه عن هذه الشخصية السياسية.

قال المرحوم إذ ذاك: لما علمت بحادثة البحر الأسود قلت لزملائي: إنكم

تلعبون بحياة البلاد، وبما أني المسئول عن إدارة البلاد فلا يمكنني أن ألبث على

رأس واجبي لحظةً واحدةً، وقد قدمت استقالتي على أثر ذلك. نعم، إنهم يقولون

الآن لماذا لم ينسحب بعد الاستقالة؟ ! ، لقد فكرت إذ ذاك، ولم أوافق على

الانسحاب في وقتٍ خاضت فيه البلاد غمار المصائب. ولو لم أفكر في ذلك

لخلصت نفسي، ولكنني لم أَرَ أن أنسحب، والبلاد تمخر في عباب المصائب؛

ولهذا فإنني رضيت أن أسحب استقالتي لما كلفوني ذلك على شرط أن أقدم الترضية

للذين تمسهم هذه الحادثة، وأن أتلافى ما حدث، وإذ قبلوا هذا الشرط راجعت

الدول المحالفة في الحال، وأرسلت إليها بلاغًا نشرته نظارة الحربية عن كيفية

وقوع الحادثة، وقلت لهم إن ما حدث كان قضاءً وقدرًا. ونحن نرضى أن تقوم

لجنةٌ بتعيين ما حدث مِن الخسائر، وأن نقدم الترضية اللازمة حتى تعد الحادثة كأن

لم تكن، وإنما لم تثمر هذه المساعي؛ لأن الدول المتحالفة أرادت أن تحل المسألة

حلاًّ تامًّا، والحال أني كنت أظن أنها تتقبل ذلك المسعى بسهولةٍ؛ إذ كانت تريد منا

أن نلازم الحياد، كما أني كنت أشعر بذلك من أقوال السفراء، لم تتقبل الدول

المتحالفة مسعاي، بيد أني لم أقف عند ذلك الحد، بل جمعت الوزراء وأعضاء

اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد في بيتي، وقلت لهم: (الآن قد وجب علينا أن

نحافظ على حيادنا فعلاً بالمحافظة على حدودنا لا غير) ، ولكن لم ينفع كل ذلك،

وأنتم أعلم بالنتيجة، وتدل تجاربي الآن على أن مقام الصدارة لا حول له ولا

طَوْل، بل هو في يد الوزراء الذين يفعلون ما يشاءون دون أن يكون للصدر علمٌ بما

يفعلون. أما سبب بقائي في الصدارة بعد استقالتي - فهو أني رأيت أن الصدارة لا

تفوَّض إلى أهلها بعدي؛ ولهذا تقع البلاد في المهالك، كما أن الذين أثق بهم كانوا

يقولون لي: (لا تنسحب، وإلا ساءت الأمور، وهم يحترزون منك) ؛ لهذا بقيت

في الصدارة.

لا ريب أن المرحوم سعيد حليم باشا قد أعطى بأقواله - أو باعترافاته هذه -

سلاحًا قاطعًا لخصومه، كما أفشى سرائر إرادته، وحقيقة ضعفه.

***

آراؤه في المتفرنجين وغوائل المدنية الغربية وفوائدها للمسلمين:

وأما شخصيته الفكرية فإن للمرحوم آثارًا جليلة تبرهن على فكره وتضلُّعه

في التفكير في أهم الشئون الإسلامية الاجتماعية. وقد انتشرت جميع آثاره في مجلدٍ

واحدٍ، وكان لها تأثير عميق في المحافل الفكرية والعلمية. فمن ذلك رسالة في

(الضيقة الفكرية) العثمانية، بحث فيها في موضوع حلول الأفكار الغربية في

الرءوس الإسلامية، وتأثير ذلك في حياتهم الفكرية، ثم أفاض في شرح ما يعوز

المسلمين أخذه، واقتباسه مِن المدنية الغربية لإحياء المدنية الإسلامية، وإعلاء

شأنها كَرةً أخرى. وقد أنحى باللائمة في مؤلَّفه هذا على المفتتنين بالغرب

المنتظرين منه كل شيءٍ، الساعين لهدم كل ما بَنَتْه المدنية الإسلامية لاستبداله بما

يروق لأعينهم في الغرب، وقد شبه المفتتنين بالمدنية الغربية بهذا التشبيه:

(حال المفتتنين بالغرب كحال الذي توغل في مطالعة الكتب الطبية رجاء أن

يتوقى الأمراض، فإذا هو كلما طالع بابًا رأى نفسه معلولاً بمرض، فلا يخرج ذلك

المطالع مِن أبواب الكتب إلا وهو يعتقد أن الحياة عبءٌ ثقيلٌ، واضطرابٌ مديدٌ

يتحمله الإنسان تحملاً غريزيًّا. وهؤلاء المفتتنون بالغرب مِن المفكرين يدرسون

العلم أملاً في مداواة أمتهم، فإذا بهم يرونها مصابة بأفتك الأمراض، ولا يكون

حالهم معها إلا كحال المتوغل في الطب الذي لا يخرج منه إلا كئيبًا كاسف البال،

ذلك بأن معلوماتهم قائمة على غير أساسٍ طبيعيٍّ، أي أنها قائمةٌ على جهل النفس؛

فلذلك يختلط المرض، ويكتسب شكلاً خاصًّا به. ثم إنه استرسل - في شرح تلك

الحال - فقال:

(للمعلومات التي يتلقاها أولئك المفتتنون بالغرب قيمة فردية؛ إذ ينشأ مِن

بينهم الأطباء، والمهندسون، وغيرهم، ولكن لا تكون لها قيمةٌ اجتماعيةٌ؛ لأن

العلم لا يفيد إلا إذا اقترن بالقياس، والإنسان بمقايسة الأشياء يفهم الأمور الكونية،

ويدركها وينظم أموره بمقتضاها، والعلم معناه القدرة على القياس، فإذا لم نحصل

على المعلومات التي نستطيع بها أن نقارن بين هيئتنا الاجتماعية، والهيئات

الأخرى لم نَرَ النقائض، والفروق، ولم نتعرف مواقع الداء فينا، ومهما قارنَّا بين

الأمم الأجنبية التي تَفُوقنا في الرقي - ووصلنا إلى نتائج علمية منطقية - فلا ننتفع

من ذلك ألبتة. ثم إنه زاد آراءه إيضاحًا بقوله:

(إن تقاليد الأمم ومشخصاتها يتكون منها الوطن المعنوي الذي هو أعز

بكثيرٍ مِن الأرض الثمينة التي نعيش عليها؛ لأنها هي العوامل التي تجعل كل

جماعة إنسانية أمة، والأمة التي تتسلَّط عليها الأمم الأخرى يضيع استقلالها كما

تضيع تقاليدها ومشخصاتها، على أنها لا تضطر إلى المهاجرة مِن أرضها، بل لا

تنفك تنتفع منها، فالانصراف عن الوطن المعنوي أضر شيءٍ على البلاد، نعم،

إن الزمان لا يقاومه شيءٌ، ولا بد أن تنهج تلك التقاليد والمشخصات سبيل الكمال

ككل شيءٍ، وإنما ينبغي ألا تصرفنا تلك الحقيقة عن تقوية رابطتنا بها، وبذل

المجهود للمحافظة عليها، فإن تلك الرابطة لا تهن حتى تضمحل تلك التقاليد

والمشخصات وتكون نتيجة ذلك السقوط والهوان.

فالضيقة الأليمة التي حلت بأفكارنا ناجمةٌ مِن قبولنا المدنية الغربية بلا قيدٍ،

ولا شرطٍ، ومِن نسياننا مدنيتنا، ولا تزول هذه الضيقة إلا إذا أدركنا ذلك الخطأ

الفاحش، وأقدمنا على تصحيحه.

هنالك نتأمل في شخصيتنا، ونقضي حياة خاصة بنا، كما تكتسب أرواحنا

وعقولنا ما كانت تحظى به مِن انشراحٍ، واطمئنانٍ، وترتقي استعداداتنا في حال

طبيعية، وتبدأ بيننا حركةٌ فكريةٌ مثمرةٌ نحصل منها على الأسباب التي نداوي بها

جراحنا) .

وأما ما يرى المرحوم أن نقتبسه مِن الغرب لترقية مدينتنا، والانتفاع به في

تكامل قوة إمعاننا، وفكرنا، واجتهادنا وتعلمنا فهو (الفكرة الفنية) و (أصول

التجربة) .

وللمرحوم مؤلَّفٌ آخر عن (حقيقة التعصب) بحث فيه عما يُعزى إلى

المسلمين مِن صفة التعصب، وقد أشبع الموضوع بحثًا وتعمقًا، وأوضح أن علة

هذه التهمة هو سقوط مستوى الأمم الإسلامية عن الأمم الغربية لا غير، ثم ختم

كلامه بقوله:

(لقد آن أن يعلم الجميع أن ما يعلنونه مِن النفور مِن تعصبنا ليس في

الحقيقة ناشئًا مِن نقص قوانِيننا الاجتماعية أو بطلان عقائدنا الدينية، بل إن خصومة

الغرب للشرق ناجمة عن عجز الصليبيين عجزًا نهائيًّا عن محق الشخصية

الإسلامية التي حالت دون تحقق مطامعهم الدينية في الشرق كسدٍّ منيعٍ دون تمكن

الأوروبيين مِن تطبيق سياسة التمدن الغربي فيه (!) وكل ما يخيف الأوروبيين

منا، ويضطرهم إلى استعمال سياسة العسف والجور فينا، إنما هو تغيُّظهم من تلك

الشخصية المعنوية المجهزة بالتعاضد والتوكل، أجل، إن صبر أوروبا ينفد أمام

هذه الشخصية التي تفترق عن أية شخصيةٍ أخرى بغاياتها الحيوية، والتي تجدُّ،

وتكافح بالرغم من ظواهرها الخارجية، وتقف أمام بغي الغرب، وفتوحاته

الاستعمارية وقفة المعارض، والتي تجني الصبر والقوة مِن غِرَاس الحرمان

والخسران، وتعتقد أنها لا بد أن تتخلص يومًا ما مِن أَسْر الغربيين، كما تؤمن -

بملء قلبها - باستحالة أن يتمكن الغرب مِن محقها أبدًا. فليس معنى تعصب

الإسلام عداء المسلمين للمسيحيين، بل عداء الغربيين للشرقيين) .

وللمرحوم مؤلَّفات أخرى (كالضائقة الاجتماعية) ، و (أسباب انحطاط الأمم

الإسلامية) و (الدستور) و (الأخذ بمبادئ الإسلام) وهي مؤلفات تتضح

منها شخصيته الفكرية، وتتجلى في أحسن صورة.

- وأما الشخصية الثالثة التي اكتسبها المرحوم باستشهاده وصعوده إلى ربه

مجروحًا مضرجًا بدمائه - فإنها قد كللت حياته بإكليلٍ مِن المجدِ، ورفعته إلى

مصاف البررة الكرام، وجمعت الكلمة حول تبجيل ذكراه.

وعلى كل حالٍ فقد فقدت الدولة رجلاً تربع في منصب الصدارة في أحرج

أيامها التاريخية، ولا شك أنه كان مخلصًا لبلاده ساعيًا لخيرها. (عمر) .

(المنار)

نشرنا هذه الترجمة المفيدة بحروفها، بل مع تصحيح لبعض عباراتها اللغوية،

وهي مؤيدةٌ لرأينا الذي سبقنا إلى بيانه في المنار عقب عودتنا مِن الآستانة في

خطر زعماء جمعية الاتحاد والترقي على الدولة والإسلام، وقد صار هذا مِن

الأمور المتفق عليها في بلاد الترك، والعرب، والعجم، وإن كانت لا تزال خفية

عن أكثر مسلمي مصر وتونس، مع إكبارهم لشأن مصطفى باشا كمال، وشيعته

المنقذة للدولة والشعب التركي؛ فإن هؤلاء الجاهلين بحقيقة أحوال الدولة - على

إخلاصهم في حبها - لا يصدقون أن مصطفى باشا كمال لا يأذن لأحدٍ مِن زعماء

الاتحاديين بدخول الأناضول، وأنه هو وجميع شيعته يعتقدون أنه لم يجنِ أحدٌ مِن

البشر على الدولة العثمانية، والشعب التركي في دينه ودنياه كجنايتهم، وهؤلاء

وأشباههم هم الذين كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد على الاتحاديين وغيرهم مِن

رجال الدولة، ولم يعترفوا بظلمه واستبداده إلا بعد خلعه.

ولسنا نريد بهذه الكلمة إقناعهم، بل تذكير المستعدين للفهم والحريصين على

العلم بالحقائق - بأن يتدبروا كل ما يقوله أهل البصيرة والعلم، ولا يستعجلوا برد

كل ما يخالف أهواءهم، ومعلوماتهم الناقصة، وإن كانوا حَسَنِي النية فيها.

وأما آراء الأمير الاجتماعية، فلو لم يكن له منها إلا هذه الكلمات المختصرة-

التي ذُكرت في هذه الترجمة الوجيزة - لكانت وحدها شهادة عادلة على تحقيقه،

وصحة نظره، ودقة حكمه، فكيف وقد فصَّلها في مصنَّفات جليلة، لا غنى لأحدٍ -

مِن طلاب الإصلاح للشرق والمسلمين - عنها، فينبغي لهم أن يبادروا إلى ترجمتها

بجميع اللغات التي تتكلم بها الشعوب الإسلامية، ونشرها في جميع أقطارها،

وعلى المصريين - ولا سيما أمرائهم - أن يكونوا هم السابقين إلى هذه الخدمة

الجليلة التي يحق لهم الفخر بها، ولا سيما إذا جمعوا بين نشرها، والاعتبار

والعمل بها.

_________

(1)

هو أحد أمراء الأسرة الوارثة لملك محمد علي بمصر، وإنما نقلنا هذه الترجمة لما فيها من تأييد رأينا في زعماء الاتحاديين في الدولة العثمانية، ولما هو عندنا فوق ذلك، وهو آراء الأمير الاجتماعية والسياسية الموافقة لرأينا، وما نعتقد في نشرها من الفائدة.

ص: 147

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السياسة الإنكليزية

في البلاد العربية

نشرت جريدة التيمس في لندن مقالات في القضية العربية لمراسلها مِن

طهران بين إنكلترة وفرنسة، صرح فيها بحقائق لم يسبقه إلى التصريح بها أحد

مِن قومه، وارتأى آراءَ نوافقه على بعضها دون بعض، وقد نشرت جريدة الأهرام

بعض هذه المقالات مترجمةً بالعربية، فترتب على نشرها ما يأتي ذكره من الوثائق

الرسمية في المسألة العربية.

ومما قاله أن إنكلترة أرغمت العراق على قبول فيصل ملكًا عليها، وجزمت

الحكومة البريطانية رأيها بعدم السماح بتأسيس جمهورية في العراق ناكثة بذلك

عهودها للعرب، ويعتقد الكثيرون أنه لو أُخذ رأي أهل العراق بحريةٍ لأسفر

استفتاؤهم عن رغبتهم في تأسيس حكومة جمهورية؛ ولذلك كانت استشارة الرأي

العام هنالك صورية بأن سئل زعماء مشايخ القبائل، وأعيان البلاد: هل يقبلون

نصب الأمير فيصل ملكًا دستوريًّا عليهم أو يرفضون؟ ! ، ولم يكن مِن المنتظر أن

يكون بينهم شيخٌ واحدٌ تصل به الغباوة إلى حد الإجابة بالرفض بعد أن رأى ما حل

بالسيد طالب [1] . بل كان كل منهم يخشى على حياته إذا عارض في توليته، فلم

يعارض أحدٌ، بالرغم مِن أنهم جميعًا يرفضون، فالعراق في هذه اللحظة ملؤها

البغض، والحقد، والرغبة في الانتقام.

ثم ذكر عودًا على بدءٍ طمع أمراء الحجاز بتأسيس مملكةٍ عربيةٍ مِن البحر

الأحمر إلى خليج فارس، يدخل فيها شواطئ سورية وقال: إن فكرة الوحدة العربية

الجنسية غير موجودةٍ في هذه البلاد الآن، وإن بعض رجال الإنكليز في القاهرة،

ولندن، وفلسطين، والعراق يؤيدون هذا المشروع خلافًا لخطة حكومتهم المتفقة

مع فرنسا على تقسيمها، وذكر ما سلم به مستر تشرشل وزير مستعمراتهم من

ثبوت وجود تيار خفي من الترامي بالتهم بين الموظفين البريطانيين والفرنسيس،

قال: وستزداد الحال سوءًا إلى أن يكبح الرأي العام البريطاني جماح دعاة الجامعة

العربية بيد قوية.

ثم ذكر مهاجمة الملكِ حسين وابنه الأميرِ عبدِ اللهِ سعود، وكون ذلك نقضًا

لعهدهم الصريح بعدم التعدي على أحدٍ مِن أمراء البلاد العربية، قال: (ولكن

الوهابيين هزموهما ثلاث مرات هزيمةً معيبةً، وصارت مكة في (مايو سنة

1919) تحت رحمتهم؛ إذ إنه لم يبق لهم إلا السير إليها، ودخولها، ولكننا طلبنا

مِن ابن سعود أن يسحب قواته، ففعل إجابة لطلبنا، وطالما صبر على تحمل

الاعتداءات المتكررة التي يرتكبها الحجازيون اعتداءً عليه، ويلوح لنا أنه لا شك

في أن الوهابيين هم الأقوى، وأنهم يستطيعون في كل وقتٍ أن يقضوا على قوات

الملك حسين) ، وذكر مِن قوتهم أنهم لو لقوا مِن المساعدة ما لقي الملك حسين

لاستطاعوا إخضاع جبل شمر

على أنهم أخضعوا هذا الجبل مِن غير مساعدة

أحدٍ.

ثم ذكر أنهم أنذروا المعتمد البريطاني في العراق (السير برسي كوكس) بأنه

عيل صبرهم، وسيضطرون إلى معاملة الملك حسين بمثل اعتدائه إلا إذا استطعنا

رد شكيمته، وأن ابن سعود لا يرى بجعْله بين نارين بوضع فيصل في العراق مع

عبد الله خصمًا ثالثًا في شرق الأردن، (قال) : فرد عليه السير برسي كوكس

مخاطبًا إياه بملك نجد. وبهذه المداهنة، وبدفعة قدرها ستون ألف جنيه تدفع مؤخرًا

(كذا، والصواب أنها تُدفع مشاهرة كل شهر خمسة آلاف جنيه) يرجون إبقاءه

ساكنًا، ثم صرح الكاتب باستنكار هذه السياسة المالية، وجزم بخيبتها، ثم قال:

(لم تبق إلا خطةٌ واحدةٌ: يجب علينا أن نجلو عن العراق في الوقت الذي نستطيع

فيه الجلاء، وهذا أنسب الأوقات؛ ففي العراق حكومة عربية، وحاكم عربي)

إلخ.

ثم أيد هذا بما ستُسْتَهْدَف له السياسة البريطانية في العراق مِن المشكلات،

والخسائر، واتساع مسافة الخُلف بينهم وبين فرنسة، وبحث في قواتهم العسكرية

في العراق، وتوقع حدوث حرب جديدة بينهم وبين العراقيين إن لم يقبل اقتراحه

بعد أن أشار متهكمًا بلطفٍ إلى الأساطيل الهوائية الثمانية التي أوجدوها في العراق

لتحقيق فكرة مستر تشرشل الجميلة في المواصلات الهوائية فوق الصحراء!

ثم ألمَّ بذِكر المعاهدة التي سيعقدونها مع فيصل محذرًا مِن انتفاع أصحاب فكرة

الجامعة العربية بها، وذكر ما قرره مؤتمر القاهرة [2] مِن إبقاء الجنود العربية

تحت قيادة ضباط بريطانيين مِن حيث هم قوة إمبراطورية، وإباحته زيادة هذه

الجنود، وذكر تجنيد الأكراد، والكلدانيين، والأوربيين وإنفاقهم عليهم كثيرًا من

النفقات [3] وحذر من العاقبة، ومن الاغترار بربح زيت البترول.

هذا ملخص هذه المقالة، وقد نقلتها جريدة القبلة عن الأهرام بنصها في العدد

553 الذي صدر بمكة في 21 جمادى الأولى سنة 1340 الموافق 9 يناير سنة

1922، وردت عليها في هذا العدد، وفي العدد 555 ردًّا طويلاً معسلطًا مشتملاً

على الوثائق الرسمية التي أشرنا إليها في صدر هذا المقال. وها نحن أولاء

ننشرها بعد مقدمة وجيزة، ونقفّي عليها ببعض ما كان من سوء تأثير نشرها.

***

وثائق رسمية في المسألة العربية

وإخلاص ملك الحجاز للإنكليز على خداعهم له وللعرب

كان الملك حسين يكتم كل ما كان لديه من المكتوبات بينه وبين الحكومة

الإنكليزية التي كان يظن أنه يملك بقوتها بلاد العرب كلها، ويكون آمنًا بحمايتها من

كل مقاومةٍ ومعارضةٍ. ومن العجيب أنه لا يزال عاضًّا على تلك الأماني بالنواجذ،

وقد خذلته (العظمة البريطانية وحسياتها النجيبة) التي ينوه بها، ويتَّكل عليها

أشنع خذلان، ولكنه يتوهم أنه يستميلها إلى الوفاء له بما ينشره في جريدة القِبلة،

وفي المكتوبات، والمنشورات الرسمية التي يبثّ بها آلامه، وتململاته من خذلها

إياه، وقد اضطر المرة بعد المرة إلى نشر بعض تلك المكتوبات الرسمية احتجاجًا

على الإنكليز، وتبرئةً لنفسه لديهم مما تتهمه به جرائدهم مِن نكث عهودهم، وغير

ذلك أو لدى العالم الإسلامي والعرب من جنايته عليهما، فأما تبرئة نفسه من عدم

الإخلال بشيءٍ ينافي الإخلاص للإنكليز أو (للعظمة البريطانية) - فحجته عليهم

فيه قوية، وأما التبرئة الثانية فكل ما نُشر في سبيلها فهو حجةٌ عليه لا له، ثم إننا

لم نَرَ من تلك المكتوبات الرسمية التي نشرها شيئًا ينتفع به العرب في إقامة الحجة

على الإنكليز كالوثيقة الثالثة مِن الوثائق الآتية:

***

الوثيقة الأولى: المصرّحة بجعْل الحجاز

في حماية إنكلترة

قالت جريدة القِبلة في ردها على مقالة التيمس في عدد 553:

(أما ما يفهم من كل ما في قولكم أن لولا ردعكم ومنعكم له - أي ابن سعود -

لاستولى على مكة فيا أعزاءنا ليس معنا ما نقوله بالاختصار عن الإطالة أو

الخروج عن الصدد إلا بيان عجزنا عن شكر ذلك المنع، ومننه وأنه من مقتضى

شهامة بريطانيا، وشعبها النجيب فهو من مقتضيات مواد عهدنا الذي تقول فيه

المادة الثانية ما يلي:

تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي مداخلة

كانت، بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ

بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد بعض

الأمراء - فهي تساعد الحكومة المذكورة مادةً ومعنًى على رفع ذلك القيام لحين

اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة، أي

لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية) انتهى.

وعليه وبصرف النظر عن مؤدَّاها، وكل ما اشتمل عليه مضمونها ومراميها

(قبل كل قبل) فإن شرف مفكرة ذلك العهد منزَّهة بطبيعتها عن أقل مما

رميتونا به يثبته برقية جلالة مولانا المنقذ الصادرة لمدير هيئة شيختنا الموقرة

(التيمس) ننقلها للقراء، وما نقلها - وأبيك - إلا لزيادة وقوف المجموع عمومًا،

والشعب البريطاني خصوصًا، على أن جلالة مولانا المنقذ، وشيعته منزهون

بعنايته السبحانية عن أمراض الأغراض، والعلل ودناءة النحل إلا الغاية التي

اعترفت لهم بها، وإنها هي الغاية التي قلتم بعاليه عنها: إنكم ترفعون لها القبعات،

وهي الآمال والغايات التي عليها نحيا، وعليها نموت، وها هي البرقية المنوَّه عنها

تبتدي:

***

الوثيقة الثانية: المصرحة بكوْن ملك الحجاز

موظفًا إنكليزيًّا [4]

المدير العمومي لصحيفة (التيمس)

اطلعت على عددكم المشتمل الرد، والقدح باتحاد العرب، والتزامكم أحد

أمرائهم، ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك، وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب

البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور،

أو مَن تراه ليستلم البلاد؛ فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها، كما يعلم من

أساسات قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها.

(المنار)

قول ملك الحجاز (أكرر طلبي) إلخ يفيد أنه قد سبق له مطالبة الدولة

البريطانية (والعظمة البريطانية كما يسميها هو) أن تنصب أميرًا أو ملكًا غيره

على الحجاز إذا كانت غير راضيةٍ عنه، وقد سبق لنا أن نقلنا عن (القِبلة) نص

الكتاب الذي كان أرسله إلى نائب ملك الإنكليز بمصر في 20 ذي القعدة سنة 1336

الذي يطلب فيه منها أن تختار له ولأولاده بلدًا يقيمون فيه وتنصب على الحجاز

مَن تختاره له! ، وقد تكرر نشر جريدة القِبلة لذلك الكتاب ومفاخرتها به لأمم الأرض

كلها (راجع ص 233، م22) ، وليس افتخار هذه الجريدة الجاهلة بهذه الفضائح

المخزية بأغرب من وجود أناسٍ محبين لاستقلال الأمة العربية، ويقرؤون هذا وذاك

في جريدة القِبلة، ثم لا يرون لأنفسهم سياسة غير

سياستها، ولا زعيمًا يتبع غير واضع هذه الوثائق لها.

انتقاد الجرائد المصرية جعْل الحجاز تحت الحماية البريطانية

اطَّلع بعض مديري الجرائد الإسلامية بمصر على الوثيقة الأولى من هذه

الوثائق؛ فهالهم أمر جعْل الحجاز تحت الحماية البريطانية، فبعضهم تساءل بصيغة

استفهام الإنكار: هل يصح أن يكون الحجاز تحت حماية دولة أجنبية غير إسلامية؟ !

وهو ما اكتفت به جريدة (الأخبار) الشهيرة في العدد 292، وبعضهم شدَّد

في تغليظ الإنكار كجريدة (الأمة) في الإسكندرية.

فلما وصلت هذه الجرائد إلى مكة المكرمة صمد سائس جريدة القِبلة إلى الرد

عليها كعادته، فنُشر في صدر العدد 561 ردًّا على جريدة الأخبار عنوانه بقلم

الثلث:] فََلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [، وصواب الآية الكريمة: {وَلَا تَكُ فِي

ضَيْقٍ

} (النحل: 127) إلخ، قال فيه ما نصه:

(وما مثل الصحيفة المذكورة بإسناد مزاعمها على المادة الثانية التي أوردتها

(القِبلة) إلا كمثل مَن وقف على قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ

} (الماعون:

4) دون أن يكمل الآية، فسوغ لنفسه بذلك ترك الصلاة، وكذلك الجريدة المذكورة

نظرت إلى أول المادة المشار إليها دون أن تلتفت إلى آخرها وهو: (وهذه

المساعدة تكون مدتها محدودة لحين يتم للحكومة العربية تشكلاتها المادية)

إلخ.

نقول: إن هذا الرد لم ينفِ ما صرحت به المادة من جعل البلاد تحت حماية

الدولة البريطانية في داخلها وخارجها؛ بل أكده وغايته أنه جعل المساعدة الداخلية

مغياة باقتدار الحكومة المحلية المحمية على حفظ داخليتها بنفسها، وأما الحماية

الخارجية، وحفظ الحدود البرية والبحرية فلم يقيَّد بهذه الغاية، وكأن سبب السكوت

عن تقييده علم واضع المادة - وهو الملك حسين نفسه - بأنه لا يستطيع أن ينشئ

أسطولاً ولا جيشًا قويًّا يستطيع حماية الحدود، فجعل ذلك حقًّا دائمًا للدولة

البريطانية التي يتكل على (حسياتها النجيبة) ، ولكنه وهب ما لا يملك هو، ولا

الدولة العثمانية التي كان هو تابعًا لها يوم وضع هذه المادة وغيرها مما يسميه

(مقررات النهضة) لأنه بنى عليه ما قام به من الثورة والخروج على الدولة،

ولكن الإنكليز بنَوْا على هذه المادة تأسيس محافظة سموها (محافظة البحر الأحمر)

وجعلوا مركز محافظها ثغر جدة، على أنهم لم يفوا لمَن أعطاهم هذا الحق الذي لا

يملكه بما طلبه منهم في مقابله هو تأسيس دولة عربية له، تكون ربيبةً لهم وتحت

كنفهم ووصايتهم بشرط ألا يستولوا على شيءٍ منها مباشرة إلا ولاية البصرة

وكان يجب على محرر القِبلة - بل على ملك الحجاز - أن يستفيد من هرب مصر

من الحماية الإنكليزية، ومن تذكير جرائد مصر له، ولا سيما مدير جريدة الأخبار

العليم بأصول السياسة الدولية، الخبير بخفايا الدسائس الإنكليزية، فيتبرأ من هذه

(المقررات) التي تعد أكبر جناية على الحرمين الشريفين وعلى البلاد العربية والأمة

الإسلامية، لا أن يعبر عن تذكيره ونصحه بالسفاسف ويصفه بالغمز واللمز،

{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

***

الوثيقة الثالثة: وعود إنكلترة

باستقلال بلاد العرب

أرسل بعض قواد الترك في أثناء الحرب كتبًا إلى الأميرين فيصل، وعبد

الله لاستمالتهما إلى الصلح باعتراف الدولة باستقلال البلاد العربية، مع الارتباط

بها (كارتباط المجر بالنمسة على ما قيل) فالملك حسين أبى قبول الصلح،

وأرسل كل ما كتبه الترك إلى ولديه إلى نائب الملك البريطاني بمصر، وهو

أرسلها إلى وزارة الخارجية، فأجابت عنها بالكتاب الآتي - الذي نُشر في العدد

555 من جريدة القبلة الصادر في 28 جمادى الأولى سنة 1340 الموافق 16 يناير

سنة 1922 في أثناء مقالة في الرد على مقالة جريدة التيمس المشار إليها آنفًا -

وهذا نصه:

برقية الحكومة الإنكليزية في تأكيد الوعد باستقلال البلاد العربية:

جدة في 8 فبراير سنة 1918 - 27/4/1336

جلالة صاحب السيادة العظمى ملك الحجاز، وشريف مكة، وأميرها

المعظم

بعد بيان ما يجب بيانه من الاحتشام والتوقير، قد أمرني فخامة نائب جلالة

الملك أن أبلّغ جلالتكم البرقية التي وصلت إلى فخامته من نظارة الخارجية

البريطانية بلندن، وقد عنونتها حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى باسم جلالتكم،

وهذا نصها بالحرف الواحد:

(إن الرغبة والصراحة التامة التي اتخذتموها (جلالتكم) في إرسالكم

التحريرات التي أرسلها القائد التركي في سورية إلى سمو الأمير فيصل، وجعفر

باشا (الصواب سمو الأمير عبد الله بدل جعفر باشا إلى جناب فخامة نائب جلالة

الملك - كان لهما أعظم التأثير الحسن لدى حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى،

وإن الإجراءات التي اتخذتموها (جلالتكم) في هذا الصدد لم تكن إلا رمزًا يعبر

عن تلك الصداقة والصراحة التي كانت دائمًا شاهد العلاقة بين كل من الحكومة

الحجازية، وحكومة جلالة ملك بريطانية العظمى، ومما لا يحتاج إلى دليل أن

السياسة التي تنسج عليها تركيا هي إيجاد الارتياب والشك بين دول الحلفاء والعرب،

الذين هم - تحت قيادة وعظيم إرشادات جلالتكم - قد بذلوا الهمة الشمَّاء؛

ليظفروا بإعادة حريتهم القديمة، إن السياسة التركية لا تفتأ تغرس ذلك الارتياب

بأن توسوس للعرب أن دول الحلفاء يرغبون في الأراضي العربية، وتلقي بأذهان

دول الحلفاء أنه يمكن إرجاع العرب عن مقصدهم، ولكن أقوال الدساسين لن تقوى

على إيجاد الشقاق بين الذين اتجهت عقولهم إلى فكرٍ واحدٍ وغرضٍ واحدٍ.

إن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وحلفاءها مازالت واقفةً موقف الثابت

لكل نهضةٍ تؤدي إلى تحرير الأمم المظلومة، وهي مصممةٌ أن تقف بجانب الأمم

العربية في جهادها؛ لأن تبني عالمًا عربيًّا (الذي) يسود فيه القانون والشرع بدل

الظلم العثماني! وتتحد (كذا) التنافس الصناعي الذي أحدثته الصفات الرسمية

التركية، وإن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى تكرر وعدها السالف بخصوص

تحرير الأمة العربية، وإن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قد سلكت مسلك

سياسة التحرير، وتقصد أن تستمر عليه بكل استقامة وتصميم بأن تحفظ العرب

الذين تحرروا من السقوط في وَهدَة الدمار، وتساعد العرب الذين لا يزالون تحت

نَير الظالمين؛ لينالوا حريتهم) انتهى، وفي الختام ألتمس قبول خالص التحيات،

وعظيم الاحتشامات، (نائب المعتمد البريطاني بجدة) .

(المنار)

هذا الكتاب الرسمي هو أقوى الوثائق التي نشرتها جريدة القِبلة حجة على

الدولة البريطانية، ومن الغريب تأخير نشره إلى الآن، وأغرب من ذلك أنها

نشرته في ضمن مقالة قالت: إنها جاءتها مِن أحد قرائها في جدة أقسم عليها الأيمان

الشديدة بأن تنشرها؛ فبرَّت قسمه! كأنها تعتذر بذلك عن ذنبٍ! وهي لم تنشر-

منذ وُجدت - شيئًا أنفع منه في إقامة الحجة على الإنكليز، وإن كانت حجج

الضعفاء لا تقنع هذه الدولة مهما تكن ناهضةً، وإنما الذي يقنعها حجج الأقوياء،

وإن كانت داحضةً.

_________

(1)

المنار: السيد طالب ابن نقيب البصرة كان ناظرًا للداخلية في حكومة العراق المؤقتة، وكان الإنكليز يعدُّونه من أصدقائهم، ولكنهم نفَوْه من بغداد قبل الاستفتاء؛ لما علموا أنه يعارض ملكية فيصل.

(2)

هو المؤتمر الذي عقده مستر تشرشل وزير المستعمرات البريطانية مع الوفد الذي جاء من العراق إلى القاهرة في العام الماضي، وحضره جعفر باشا العسكري البغدادي (راجع ص 473، م 21 من المنار) .

(3)

خلق الإنكليز هذا الجيش لأجل تفريق القوة، وإيجاد الشقاق الديني فيها؛ لتكون كلها آلة في أيديهم.

(4)

هذا العنوان للمنار، والكلام متصل بما قبله.

ص: 153

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حرية الدين وقتل المرتد

وانتفاع الوالدين بعمل أولادهم

(س8، 9) من الشيخ محمد نصر الوكيل طالب العلم بالقسم الثانوي

النظامي للأزهر من (أسطنها) .

سيدي الرشيد، ذو الرأي السديد، خليفة الأستاذ الإمام، وحامي ذمار الإسلام

سلام عليكم من فتى معجب بالمنار، ومتأثر بدعوة صاحبه الذي وقف محياه ومماته

لله رب العالمين، ونصب للناس في ديجور الشرك صوى ومنارًا به يهتدون

ويهدون، وأطلع لهم في ليالي السرار نجم الحقيقة في سماء الدين.

وبعد: فلديَّ سؤالان أتقدم بهما إلى موائد علمكم الشريف؛ رجاء أن تحسنوا

إلى محبكم بتضحية بضع دقائق من وقتكم المبارك تكتبون فيها جوابًا على صفحات

المنار الأغر أو في كتاب خاص، يكون ذخرًا لديه من حكيم الإسلام، وخادمه،

ومقر عين النبي ووارثه.

(1)

أن شريعتنا السمحة قد امتازت بالتسامح مع المخالفين في الاعتقاد

والتساهل مع ذوي المذاهب والأديان، وفي ذلك قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي

الدِّينِ} (البقرة: 256) إلخ، وهذه الآية هي مفخرتنا على الغربيين في أن

ديننا أتى بمبدأ حرية الاعتقاد، ووسع صدره - في الأيام التي كان فيها قابضًا على

ناصية الأرض ومتقلدًا صولجان العزة والملك - كلَّ مخالف من غير أن يتعرض

لعقيدته، بل كان يستعين بالنصارى النسطوريين على نشر العلم، وإقامة المدارس

في ربوع المملكة، ولكني أعرض على نور معلوماتكم الدينية، ومشكاة معارفكم

القدسية الربانية - مسألة المرتد؛ فإنها تعارضت عندي مع هذا الأصل الكريم،

وهذا هو السؤال: هل في القرآن الشريف أو في السنة الصحيحة أمرٌ بقتل المرتد؟

وإذا كان فكيف التوفيق بينه وبين النهي عن الإكراه في الدين؟ ، وإذا لم يكن فما

مراد الشارع من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدَّل دينه فاقتلوه)، وقوله:

(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) إلخ، وقوله تعالى:

{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: 5) إلى أن قال: {فَإِن تَابُوا

وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 5) .

وإذا لم يكن المراد من ذلك إكراه المرتد، وكل مخالف على الدين، فعلى أي

أصلٍ استند الفقهاء في وجوب قتل المرتد؟ وإذا قلتم إنه من باب سد الذريعة،

واستئصال جذور الفتنة أفلا يصدق ذلك على الفلاسفة والعلماء الأحرار الأفكار

الذين قد يكتشفون نظريات علمية تخالف ظاهر الدين؟ وإذا كان لا يصدق، أفلا

يعد - على كل حالٍ - عملاً منافيًا لحرية الاعتقاد، وماسًّا بمبدأ التسامح،

والتساهل الذي امتاز به الإسلام؟

(2)

جاء في الجزء الأخير - من المنار الأغر صفحة 24 - قولكم: ومما

ينتفع به الإنسان من عمل غيره - بعد موته - صوم ولده أو حجه عنه مستدلين

بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن مات وعليه صيام فليصم عنه وليه) ، أفلا يعد

ذلك نسخًا لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) بحديث

الآحاد؛ لأنكم قلتم إن الحديث لا يصح إلا من طريق عائشة رضي الله عنها

وإذا لم يكن نسخًا، وقلتم إنه تخصيص أفلا يعد التخصيص نسخًا لبعض المفهوم

الكلي الشامل في الآية؟ ، وإذا كان لا يعد نسخًا، فلِمَ خصصتم في هذه الآية، ولم

تخصصوا في آية الطعام: {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (الأنعام:

145) إلخ، وإذا قلتم إنه ينتفع بذلك من حيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان

سببًا فيه، فلِمَ لا تعد الصلاة كذلك، وينتفع بها من هذه الحيثية؟ وإذا قلتم ذلك

مخالف للنص القطعي فكذلك انتفاعه بصوم الولد وحجه مخالف للنص القطعي،

وهو قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، ويعجبني في ذلك

مبدإ السيدة عائشة، حيث كانت ترد كل ما تراه مخالفًا للقرآن، وتحمل رواية

الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم، ولكن كيف كان هذا مبدأَها، وقد روت

هي ما خالف القرآن، وهو حديث:(مَن مات وعليه صيام فليصُمْ عنه وليه) ،

على أن ذلك لا يمنعنا من أن نقول فيها ما قالتْه هي في ابن عمر: (لقد حدثتموني

عن غير كاذبٍ ولا متهمٍ، ولكن خانه سمعه) ، أجيبوا، لا زلتم هاديين مهديين

والسلام.

...

...

...

...

محبكم المخلص

...

...

...

...

محمد نصر الوكيل

الجواب عن مسألة حرية الدين وقتل المرتد:

ذكرت هذه المسالة في مواضع من المنار كالتفسير والفتاوى، فنقول فيها هنا

قولاً نلخص به ما تقدم نشره. فنقول:

أولاً إنه ليس في القرآن أمرٌ بقتل المرتد، بل فيه ما يدل على عدم قتل

المرتدين المسالمين الذين لا يحاربون المسلمين، ولا يخرجون عن طاعة الحكومة،

فقد جاء في تفسيرنا لقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا

جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء: 90) من سورة النساء ما نصه:

(وفي الآية من الأحكام - على قول مَن قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مُظهرين

للإسلام، ثم ارتدوا - أن المرتدين لا يُقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا

يوجد في القرآن نصٌّ بقتل المرتد، فيجعل ناسخًا لقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ

يُقَاتِلُوكُمْ

} (النساء: 90) إلخ.

نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل مَن بدل دينه، وعليه الجمهور،

وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور، ويؤيد الحديث عمل الصحابة، وقد يقال

إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد، فإنهم قاتلوا مَن تركوا

الدين بالمرة كطَيِّئ وأسد، وقاتلوا مَن منع الزكاة من تميم وهوازن؛ لأن الذين

ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربًا لكل أحدٍ لم يعاهدوه على ترك الحرب،

والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد

إذا ترك الزكاة لا يُقتل عند الجمهور) اهـ. والتحقيق أن القرآن لا يُنسخ بالسنة

كما قال الشافعي ومَن تبعه، وخالفهم الكثيرون في السنة المتواترة.

ويؤيد الحكم في هؤلاء الحكم فيمن ذُكروا في الآية التالية لهذه الآية، وهي:

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا

فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ

ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: 91) .

روى ابن جرير عن مجاهد أن هؤلاء الناس كانوا يأتون النبي - صلى الله

عليه وسلم - فيُسلمون رياءً، فيرجعون إلى قريشٍ، فيرتكسون في الأوثان،

يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا، ويصلحوا.

ورُوي عن ابن عباس أنه قال: (كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنةٍ أركسوا

فيها؛ وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرب إلى العود،

والحجر، وإلى العقرب، والخنفساء، فيقول له المشركون قل: هذا ربي للخنفساء

والعقرب) وقد جعل حكمهم حكم مَن سبقهم، وهو أنهم إذا لزموا الحياد - وهو ما

عبر عنه باعتزال المسلمين، وإلقاء السلم، وكف الأيدي عن القتال - فلا سبيل

إلى قتلهم، وإلا قُتلوا حيث ثُقفوا؛ لأنهم محاربون، لا لأنهم مرتدون فقط، وقال:

{وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: 91) أي دون غيرهم من

المسالمين والمحايدين.

ونقلنا في تفسيرها عن الرازي أنه عزا القول بعدم قتال هؤلاء إلى الأكثرين،

ونظَّر له بآيات سورة الممتحنة وآية البقرة في أنه لا يُقاتَل إلا المقاتلون، وقلنا -

والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين مَن يقول إن في الآيات نسخًا - ولا يظهر فيها

النسخ إلا بتكلُّفٍ، فما وجه الحرص على هذا التكلف؟ .

وقد استفتينا في هذه المسألة قبل كتابة هذا التفسير بسنين، فتجد في فتاوى

المجلد العاشر من المنار (ص 287، ج4، م10) من أحد علماء تونس منها

السؤال عن حديث: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

) إلخ،

ألا يعارض كوْن الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف كما يعتقد الجهلاء؟ ، والسؤال

عن حديث: (مَن بدل دينه فاقتلوه) ألا ينافي كوْن الإسلام لا يضطهد أحدًا

لعقيدته؟ ! .

وقد أجبنا عن الأول بأن الحديث ليس لبيان أصل مشروعية القتال؛ فإن هذا

مبيَّنٌ في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا

} (الحج: 39)

الآيات وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا

} (البقرة:

190) الآيات، بل هو لبيان غايته؛ إذ الغرض منه بيان أن قول:(لا إله إلا الله)

كافٍ في حقن الدم، حتى في أثناء القتال، وإن لم يكن القائل من المشركين

معتقدًا في الباطن؛ لأن الأمر في ذلك مبنيّ على الظاهر إلخ.

وأجبنا عن الثاني بأن المرتد من مشركي العرب كان يعود إلى محاربة

المسلمين، وأن بعض اليهود كان يصدّ الناس عن الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم

بإظهار الارتداد عنه ليُقبَلَ قوله بالطعن فيه، وذكرنا ما حكاه الله عنهم في هذا،

وقلنا: فالظاهر أن الأمر في الحديث بقتل المرتد كان لمنع المشركين وكيد الماكرين

من اليهود، فهو لأسبابٍ قضت بها سياسة ذلك العصر التي تسمى في عرف أهل

عصرنا سياسة عُرفية عسكرية لا لاضطهاد بعض الناس في دينهم، ألم تَرَ أن

بعض المسلمين أرادوا أن يكرهوا أولادهم المتهوِّدين على الإسلام، فمنعهم النبي -

صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير،

والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:

256) ، وأزيد هنا ما كنت ذكرته في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - أمر بتخيير أولئك المتهودين، فمَن اختار الإسلام بقي مع أهله

المسلمين، وكان منهم ومَن اختار اليهودية جلا مع أهل دينه من اليهود وهو منهم،

وراجع تفسير الآية وكلام الأستاذ الإمام فيها (ص 36، ج 3 تفسير) .

وقد أعدت ذكر هذه المسألة في تفسير {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا

بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل

عمران: 72) .

فمما ذكر يعلم السائل جواب سؤاله، ومأخذ الفقهاء في قتل المرتد - وهو

الحديث الذي أخذوه على إطلاقه - والجمع بين الحديثين اللذين ذكرهما وبين قاعدة

التسامح والحرية في الإسلام.

وأما قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ

} (التوبة: 5)

إلخ، فهو يعلم أنه نزل في نبذ عهود الذين نكثوا العهد من المشركين، وأنهم

أعطوا في الآية الأولى مِن هذه السورة (التوبة) مهلة الأربعة الأشهر الحرم وهي:

شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثم قال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ

} (التوبة: 5) إلخ، ومن الضروري أن يُستثنى من

ذلك مَن يتوب منهم عن الشرك، ويدخل في الإسلام، ألا تراه استثنى مَن حافظوا

على عهدهم من المشركين، فقال: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا

اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7) ، ثم ألا ترى كيف علل قتال الناكثين

بقوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً

} (التوبة: 8)

إلخ، وفيها التصريح بأنهم هم المعتدون، وأنهم لا أَيْمانَ لهم، أي لا عهود لهم

تُحفظ، بل يجعلونها خداعًا في وقت الضعف، ثم قال - في هذا التعليل -: {أَلَا

تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة:

13) .

والفقهاء الذين يقولون بقتل المرتد اختلفوا في بعض مسائله، كالمرتد ذي

المَنَعَة في قومه وغيره، وقال أبو حنيفة:(لا تُقتل المرأة) ، وقد قال الشيخ

صالح اليافعي في رده على الدكتور محمد توفيق صدقي (رحمه الله تعالى) ما

نصه:

(قال الفاضل - حفظه الله -: أوجبوا القتل مطلقًا على مَن ارتد عن

الإسلام للحديث، والقرآن يقول:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ،

{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، وأقول:) قوله أوجبوا

القتل مطلقًا

(ليس بصحيح على إطلاقه، بل لو منع الإمام عن قتل المرتد

لمصلحةٍ - كمهادنةٍ ومعاهدةٍ ومأمنةٍ بشروط ألجئ إليها - لا يجوز قتله، فقتل

المرتد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات

) إلخ (وهو في ص 449م، 12

من المنار) .

وقد نقلنا في المجلد التاسع عن جريدة (اللواء) مقالةً مترجمةً عن جريدة

(ريج) الروسية عنوانها (تسامُح الدين الإسلامي) موضوعها أسئلة أُلقيت على

شيخ الإسلام في الآستانة منها هذه المسألة، وأجاب عنها - مما قاله بعد تشبيهه

المرتد عندنا بالفارّ من العسكرية في الاستياء منه -: (وليس أمرنا هذا مخالفًا

للحرية الدينية المبنية على أساس أن كل الناس مختارون في أمر الدين، ولا نطلب

بأي حالٍ من الحكومة أن تعاقب الخارجين عن الدين إلا بالحكم المعنوي، ولا يمكن

إجبار الناس لقبول الإسلام أو المسيحية، وإذا كان لشخصٍ اختيار في الارتداد فلا

يمنعنا مانعٌ من إظهار كراهتنا له ونفورنا منه) اهـ المراد منه.

وقد ألمَّ السائل في سؤاله باكتشاف أحرار العلماء لنظرياتٍ علميةٍ تخالف

ظاهر الدين هل يكونون بها مرتدين أم لا؟ ، ونقول: إن مخالفة بعض ظواهر

النصوص الدينية، وهي ما كان مدلوله غير قطعي فيها تفصيل، فمَن كان يعتقد أن

كلام الله كله حق، وكلام رسوله فيما يبلغه عنه حقٌّ، وقام عنده دليلٌ على أن

بعض ظواهرهما غير صحيح، فصرف الكلام عنه إلى معنًى آخر رجح عنده

بالدليل أنه هو الصحيح المراد، فلا يعد مرتدًا، بل لا إثم عليه، ولا حرج، وإنما

الردة تكذيب كلام الله، وتكذيب رسوله فيما جاء به من أمر الدين بنظرياتٍ فلسفيةٍ

أو بغير ذلك، ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه ليس في أصول الإسلام القطعية فيه

شيءٌ يمكن نقضه، وقد بينا حقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر والردة في المجلد الثاني

والعشرين الذي قبل هذا، وفي غيره، وهو أقرب ما يُراجَع في المسألة. ومن أهم

الأحكام المتعلقة بالمسألة أن المجاهر - بما يُعَدُّ في الإسلام كفرًا صريحًا - لا

تجري عليه أحكام الإسلام في موتٍ، ولا حياةٍ، ولا زواجٍ، ولا إرثٍ.

جواب السؤال المتعلق بعدم انتفاع المرء بعمل غيره:

لعل الاستدراك على هذه المسألة الذي نشرناه في الجزء الذي قبل هذا قد

أغنى السائل عن جواب سؤاله هذا، وعلم منه كوْن عمل الولد ملحقًا بعمل الوالد،

فإن لم يكن أغناه فليكتبْ إلينا ثانية بما بقي عنده من إشكال، وليراجع - في تفسير

آية محرمات الطعام - مسألة امتناع نسخ الآيات المؤكدة.

***

شرب الدخان (التبغ)

والتذكير في المنائر

(س10) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين

إلى حضرة الأستاذ العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار

بعد رفع جزيل السلام اللائق لمقامكم العالي، ورحمة الله وبركاته على الدوام..

لا يخفى عند جميع الناس اشتغالك بالعلوم، والمعارف الدينية النافعة،

وإرشاداتك المفيدة المنشورة بمجلتك لأبناء جلدتك في جميع البلدان؛ لذا كلفني

بعض أصحابي - الذين هم من أهل السنة والجماعة - أن أوجه إليك هذا السؤال

وهو: ضمَّني وجماعة من الأصحاب مجلسٌ جرى فيه البحث في التذكير على

المنائر قبل العشاء، وقبل صلاة الفجر، وفي شرب الدخان (التتن) واستمر

الجدال ساعاتٍ، ولم يقدر أحد الفريقين أن يقنع الآخر برأيه

ولا عجب لسؤالنا؛

لأن علماءنا وتعصبهم لا يقفون عند حدٍّ، واحد يجوّز، والثاني يحرم، ولا ندري

أي الصواب لنأخذ به، واسترضى الجميع أن نرسل إليك هذا السؤال؛ لترشدنا من

فنون علومك، وآرائك الحرة الناضجة، وتبين لنا الخطأ من الصواب؛ لنعتمد

عليه، والله يحفظك.

...

...

...

...

...

... علي إبراهيم كانو

الجواب عن مسألة شرب الدخان:

اعلم أولاً أن التحريم والتحليل تشريعٌ، وهو حق الله تعالى وحده، فمَن

استباح لنفسه أن يحرم على عباد الله تعالى شيئًا بغير حجة شرعية عن الله ورسوله-

فقد افترى على الله، وادعى الربوبية معه، ومن أطاعه وتبعه في ذلك يكون قد

اتخذه ربًّا؛ كما ورد في الحديث تفسيرًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ

أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) وقد بينا هذه المسائل مِرَارًا، وآخر

تفصيل لنا فيها تفسير آية محرمات الطعام.

وثانيًا: أن الأصل في الانتفاع بما خلقه الله لنا في هذه الأرض الحل كما

تدل عليه الآيات القرآنية؛ فلا يحرم شيءٌ منها إلا بنصٍّ عن الله ورسوله صحيح

الدلالة باللفظ أو الفحوى، ولا نص في هذا الدخان المسئول عنه بعينه، بل هو

داخلٌ في الإباحة العامة لكل ما خلقه الله لنا من هذه الأرض، إلا إذا ثبت ضرره

في الجسم أو العقل كالحشيشة والأفيون، والحقن بالمورفين؛ فحينئذ يظهر القول

بتحريمه كما أفتينا من قبل، وفاقًا لبعض الفقهاء، وفي الحديث الصحيح: (لا

ضرر ولا ضرار) فإذا ثبت بشهادة الأطباء أنه يضر كل مَن شربه ضررًا ذا شأنٍ

فالقول بتحريمه على الإطلاق وجيهٌ، وإذا كان يضر بعض الناس المصدورين دون

بعضٍ فهو محرمٌ على مَن يضره، سواء عُلم ذلك بقول الطبيب أو بالتجرِبة والاختبار،

وإلا فلا، ويستدل بعض الناس على تحريمه بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) بناءً على تفسير الخبيث بالطبَعي، وهو ما تعافه

الطباع السليمة، وقيل العرب. والصواب أنه الخبث المعنوي الشرعي

كالربا، والخيانة، والغلول كما فصلناه في تفسير آية محرمات الطعام أيضًا، وإلا فإن

الثوم والبصل من الخبائث قطعًا، وهما غير محرمين، ونحمد الله أن حمانا من هذا

الدخان، وننصح لكل مَن لم يُبتلَ به أن يجتنب تقليد الناس بشربه، ولكل

مَن ابتُلي به أن يتركه إذا قدر إن كان يرى بالتجربة أنه لا يضره، ولعله ولا يخلو

من مظنة الضرر التي تقتضي كراهة التنزيه بما فيه من السم المسمى بالنيكوتين،

وهذا الضرر ظاهر - لا محالة - في أصحاب الأمراض الصدرية، وربما كان

سببًا لها في المستعدين والله أعلم.

التذكير على المنائر:

إن كل ما زاده الناس قبل الأذان المأثور وبعده من الأذكار والصلاة على النبي -

صلى الله عليه وسلم بدعة اشتبهت على العامة بالمشروع، بل صارت عندهم

من شعائر الدين، فيجب تركها؛ لأن الزيادة في الدين كالنقص منه؛ كلاهما شرع

لم يأذن به الله، وإن كانت الزيادة في نفسها حسنة، ولو أُبيح في الإسلام أن يُزاد

في كل ما شرعه الله تعالى من العبادات زيادات حسنة - من ركوع وسجود وأذكار-

لتغيرت الشرائع والشعائر في هذه الملة كالملل السابقة، وقد بينا هذا من قبل

مرارًا.

_________

ص: 185

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(3)

فصل

طاعة الخليفة والتزام الجماعة

بعد هذه التوطئة الضرورية للبحث نقول: إن الشريعة الغراء فرضت على

المسلمين طاعة الخليفة ما لم يأمر بمعصية، كما فرضت طاعة الله وطاعة رسوله،

ولا عجب؛ فإن نظام الشريعة الاجتماعي يقتضي ذلك، وهو مطابقٌ لناموس

الفطرة تمام المطابقة، بل هو حلقةٌ من سلسلة هذا الناموس الإلهي الذي يخضع له

كل ما في السموات والأرض؛ وذلك لأنَّا نرى كل شيءٍ من هذا الكون البديع على

نظامٍ طبَعيٍّ مخصوصٍ، وهو الذي يسمونه (بناموس المركزية) أو (بناموس

الدوائر) ؛ ففي كل جهة من هذا الكون مركز تحيط به الأجسام والذوات على شكل

الدائرة، وعلى هذا المركز تتوقف حياتها، وبقاؤها، ونماؤها، فلو تحولت عنه

هذه الدائرة أو انحرف عن طاعتها - تنحلّ حالاً، ويعتريها الخراب والدمار في

طرفة عين، وعن هذه الحقيقة عبر بعض الصوفية بقوله:(إن الحقيقة كالكرة) ،

وعنها قال صاحب الفتوحات: (بأنها دائرة قاب قوسين) .

(ناموس المركزية) هذا نافذ في الكائنات كلها، فما هذا النظام الشمسي

الذي فوقنا، وهذه السيارات العظيمة، والنجوم المتلألئة، والكرات النيِّرة المتبعثرة

على بساط السماء، وهذه الحياة العجيبة والحركة المدهشة للعقول؟ ، إن هي إلا

مظهر من مظاهر هذا الناموس، فالنجوم لها دوائر، وكل دائرةٍ منها قائمة على

نقطة في الشمس، حولها حركتها ودورانها، وعليها حياتها، وبقاؤها، وبها قيامها

ودوامها، وستبقى هكذا ما دامت مرتبطةً بمركزه، ومنقادةً له {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ

الْعَلِيمِ} (الأنعام: 96) وكذلك أرضنا حلْقةٌ من تلك الدائرة خاضعة لمركزها

كل آنٍ، فكل من الأرض والسموات يدور في محوره، ويسبح في فَلَكه، ويطيع

مركزه، ولا يخرج عن دائرته أبدًا حسب قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ} (آل عمران: 83)، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي

السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ

} (الحج: 18) إلخ،

وقال: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ

يَسْبَحُونَ} (يس: 40) .

ليست الكائنات العظيمة وحدها هي الخاضعة لناموس المركزية، بل الكائنات

الحقيرة المنحطَّة مثلها، فخُذ لك العالم النباتي مثلاً، ففي كل شجرة ترى الأوراق،

والفروع، والأزهار، والأثمار كلها مرتكزة على مركزها الذي هو أصل الشجرة،

ومهما انفصلت ورقة أو غصن من الأصل - حل به الموت والفناء.

هذا في عالم الآفاق، ثم انظر في عالم الأنفس، أفلا ترى أعضاءك الخارجية

الداخلية، ومشاعرك الظاهرة والباطنة كلها تتحرك، وتعمل عملها، حتى كأنك

مدينة مزدحمة بالأحياء، لكل واحدٍ منها حياةٌ قائمةٌ بذاته، ووظيفةٌ خاصةٌ به،

ولكنها كلها خاضعةٌ لمركزها الذي هو القلب، به صلاحها وفسادها، وعليه مدار

حياتها وبقائها، إذا صلح صلحت كلها، وإذا فسد فسدت كلها.

وكما جعل الله سبحانه للكائنات ناموسًا ونظامًا، كذلك جعل لسيادة النوع

الإنساني وهدايته ناموسًا ونظامًا، وهو الإسلام {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) ، ولا بد أن يكون هذا الناموس المعنوي موافقًا لذلك الناموس

الصوري غير متعارض معه؛ لأنهما صنع يدٍ واحدةٍ، وتقدير العزيز العليم الذي لا

ترى في خلقه من تفاوت، فارجع البصر هل ترى فيه من فطور؟ ، ولعمري إنهما

لكذلك، فكما ترى نظام الكون قائمًا على ناموس المركزية كذلك نظام الإسلام قائم

على ناموس المركزية سواء بسواء، وقد نبه القرآن الحكيم على هذه الحقيقة مرارًا،

وهي أن النوع الإنساني - جماعاته وآحاده، وحياتهم الأدبية والمادية - قائمة

بناموس المركزية كسائر أنواع الأجسام، فكما أن الشمس مركز لنجوم سيارة في

محيطها جعل الله الأنبياء مركزًا لسعادة البشر، وجعل حياتهم المعنوية، وخلاص

أرواحهم، موقوفة على ارتباطهم بهذا المركز، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن

رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64)، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًَ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا

تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) ، ثم جعل الله تعالى تحت هذا المركز الأعظم دوائر مختلفة،

ومراكز متعددة، فجعل عقيدة التوحيد مركزًا لسائر العقائد، فهي تحوم حولها، قال

تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:

48) ، وجعل الصلاة مركزًا للعبادات عليها مدارها، وبضياعها ضياعها،

وبطلانها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (

فمَن أقامها أقام الدين،

ومَن تركها فقد هدم الدين) ، وفي حديث الترمذي: (كان أصحاب رسول الله -

صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) ، وقد

جعل الكعبة مركزًا أرضيًّا لسائر الأمم، والشعوب، والبلاد، فقال تعالى: {جَعَلَ

اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) ؛ ولذا أوجب أن تتوجه إلى

هذا المركز دوائر الناس ووجوههم، فقال:{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 144) .

ثم لما كان للأجسام، والأشخاص، والمعتقدات، والأعمال مراكز - وجب

أن يكون للحياة الاجتماعية مركز، فجعل الله لها مركزًا، وجعل الأمة حوله

كالدائرة، وأوجب عليها مرافقته وموافقته وطاعته. فإذا نادى لبَّت، وإذا تحرك

تحركت، وإذا وقف وقفت، وإذا نهض نهضت بخيلها ورَجِلها، وسائر قواها،

وجعل عصيانه من الجاهلية التي لا مخرج منها إلا بطاعته، والرجوع إليه، وقد

سمى المسلمون هذا المركز الاجتماعي (بالخليفة والإمام) ، وفرض على المسلمين

قاطبة أن يعينوه، وينصروه، ويطيعوه كما يطيعون الله ورسوله، فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي

شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ

تَأْوِيلاً} (النساء: 59) .

***

فصل

أولو الأمر

أمر الله سبحانه في هذه الآية بثلاث طاعاتٍ: طاعة الله، وطاعة الرسول

وطاعة أُولِي الأمر، وقد علمنا أن طاعة الله تكون بطاعة كتابه، وطاعة الرسول

بطاعة سننه القولية والفعلية، ومَن أولو الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم؟ ، لقد

تضافرت الأدلة القطعية، والبراهين النيرة على أن المراد بأولي الأمر (الخليفة

والإمام) الذي ينفذ أحكام كتاب الله وسنة رسول الله، ويقوم بمصالح الأمة، ويحكم،

ويستنبط الأحكام من الشريعة عند النوازل برأيه واجتهاده، وإنما ذهبنا إلى هذا

القول لوجوهٍ:

(1)

قاعدة: (القرآن يفسر بعضه بعضًا) فإذا رجعنا إليه نجد في نفس

هذه السورة قول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ

رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:

83) ، ذكر الله سبحانه في هذه الآية تلك الآونة التي كانت تروج فيها أخبار الأمن

والخوف، والفتح والهزيمة، فيسمعها الناس، فيضطربون من أجلها اضطرابًا

شديدًا. وقد أشاع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض المنافقين مثل هذه

الأخبار، فهلع منها بعض ضَعَفَة الإيمان من المسلمين، فأمرهم الله أن إذا سمعتم

هذه الإشاعات فلا تأخذوها على عِلَاّتها، ولا تصدقوها، بل ردوها إلى الرسول،

وإلى (أولي الأمر) ؛ ليحققوها، ويمحصوها، ويستنبطوا منها ما يجب استنباطه.

فالحالة التي ذُكرت في هذه الآية: حالة الحرب والصلح، والأمن والخوف،

ولا يخفى على أحدٍ أن النظر في هذه الحالة، والاهتمام لها، واتخاذ التدابير

اللازمة لها من وظائف الأمراء والحكام، لا من وظائف العلماء والفقهاء؛ لأن

المسألة مسألة نظام البلاد، وقيام الأمن، ونشوب الحرب، لا مسألة الحلال

والحرام التي ينظر فيها العلماء، فإذن لا مناصَ من أن نسلِّم بأن المراد (بأولي

الأمر) هم الذين بيدهم الحرب والصلح، وتنظيم البلاد، وسياسة العباد، والذين

من شأنهم أن يحققوا مثل هذه الأخبار المؤثرة على السياسة العامة، وما هم إلا

الأمراء والحكام [1] .

(2)

إذا تتبعنا الكتاب، والسنة، واللغة نجد أن كلمة (الأمر) إذا

استعملت هذا الاستعمال، يكون معناها الحكومة والسلطان [2] ، وقد كثر استعمالها

في هذا المعنى في الأحاديث النبوية كثرة زائدة لا يبقى معها محل للريب والشك،

وفي اللغة أيضًا معنى (الأمر) : (الحكم) ؛ ولذا قال الإمام البخاري: (أولو

الأمر هم ذوو الأمر) ، ومعلوم أن صاحب الحكم لا يكون إلا صاحب الحكومة.

(3)

لقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن هذه الآية إنما نزلت في طاعة أمير

الجماعة؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس: (أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن

قيس بن عدي؛ إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية

) وروى

ابن جرير الطبري في تفسيره: (بأنها نزلت في قصةٍ جرت لعمَّارٍ مع خالد،

وكان خالد أميرًا، فأجار عمَّار رجلاً بغير أمره، فتخاصما) ، فعُلم من هاتين

الروايتين أن الآية إنما أُنزلت في طاعة الأمراء لا غير [3] .

(4)

روينا هذا التفسير عن كثيرٍ من الصحابة والتابعين، ولم يؤثر عنهم

غيره، وأما ما قيل في الآية فإنما هو من عند المفسرين المتأخرين، فقد نقل الحافظ

ابن حجر عن ابن عيينة أنه قال: (سألت زيد بن أسلم عنها، ولم يكن بالمدينة

أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ

اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فقال: هذه في الولاة) (فتح الباري 13: 99) فانظر كيف استدل زيد بن أسلم على أن المراد من (أولي الأمر) الحكام، والولاة بالآية التي قبلها، والتي ذكر فيها الأمراء والحكام [4] ، وقد روى الطبري بسندٍ صحيحٍ عن

ميمون بن مهران وأبي هريرة، وغيرهما:(أولو الأمر هم الأمراء) وعدَّ ابن حزم

الصحابة والتابعين الذين نقل عنهم هذا التفسير فبلغوا ثلاثة عشر رجلاً.

نعم قد رُوِيَ عن بعض الصحابة والتابعين أن المراد من أولي الأمر العلماء

فقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (إنهم أهل العلم والخير) ، وقال

مجاهد وعطاء وأبو العالية: (إنهم العلماء) ، ولكن لا تعارض بين التفسيرين؛ وذلك

لأن الشريعة جعلت الحكومة والولاية مركزًا لسائر شؤون الأمة الدينية، والسياسية،

والعلمية، ولم تكن المناصب والوظائف قد انقسمت إلى ذاك الحين، فأمير المؤمنين

كما كان حاكمًا وسائسًا كذلك كان عالمًا وفقيهًا أيضًا، فالصحابة والتابعون الذين

فسروا أولي الأمر (بأهل العلم والخير) - قد أحسنوا التفسير، إذ أثبتوا به أن أمراء

المسلمين يجب أن يكونوا من أهل العلم والخير، لا ما فهمه المتأخرون من هذا القول

بأنهم قصدوا به تلك الفئة التي عرفت (بالعلماء والفقهاء) بعد انقراض ذلك العهد،

وانهدام نظام الجماعة الشرعي؛ لأن هذه الفئة لم تخطر على بال أحدٍ من الصحابة

والتابعين في الصدر الأول، ومن هذا القبيل ما نقله ابن جرير أيضًا عن عكرمة أنه

قال: (أولو الأمر هم أبو بكر وعمر) أي أن المراد من أولي الأمر الخلفاء،

والأئمة مثل أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما [5] .

وهذا التفسير مطابق لحالة البلاد الاجتماعية إذ ذاك، لأن بلاد الحجاز كانت

في الفوضى قبل الإسلام، ولا سيما قريش مكة، فإنهم لم يكونوا يعرفون الإمارة،

ولا ينقادون لأحدٍ من الناس، فجاءهم الإسلام (بنظام الجماعة) و (نظام الإمارة)

وأوجب على كل الناس أن يطيعوا الأمراء، ويلتزموا الجماعة، وإلى هذا

ذهب الإمام الشافعي - رضى الله عنه - كما نقل عنه العسقلاني في الفتح، حيث

يقول: (ورجح الشافعي الأول واحتج بأن قريشًا كانوا لا يعرفون الإمارة، ولا

ينقادون لأمير، فأُمِروا بالطاعة لمن ولي الأمر) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

(مَن أطاع أميري فقد أطاعني)(فتح الباري 8: 191)[6] .

(5)

هذا هو قول أكبر فقيه قام في الأمة الإسلامية، ألا وهو الإمام محمد بن

إسماعيل البخاري رضي الله عنه، فقد بوب في كتاب الأحكام من صحيحه

بابًا على هذه الآية، فقال:(باب أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)

وروى تحته حديث أبي هريرة: (مَن أطاع أميري فقد أطاعني) ، فأثبت بهذا أن

أولي الأمر في مذهبه أيضًا هم الأمراء والأئمة لا الفقهاء والعلماء كما قال ابن حجر

في شرح هذا الحديث (في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى

أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافًا لمَن قال نزلت في العلماء) (فتح الباري

13: 99) .

(6)

إن أقدم التفاسير عهدًا وأغزرها مادةً تفسير ابن جرير الطبري،

ومكانة صاحبه في معرفة تفسير الصحابة، والتابعين، واستقصائه معلومة، وهو

قد رجح هذا القول بعد أن ذكر سائر الأقوال [7] .

(7)

لا يذهبن عن بالك أن الأقاويل الكثيرة في تفسير القرآن إنما جاءت

من المتأخرين الذين سحرت ألبابهم الفلسفة اليونانية في زمنٍ كانت العجمية المعوجة

قد اندست في الفكر والنظر، واستولت على العلوم والمعارف، وتقهقرت العربية

الخالصة الصالحة، وهُجرت علوم السنة، وعشق الناس (التعمق) في كل شيءٍ،

حتى في العلوم الدينية، ذلك التعمق الذي ورد فيه:(هلك المتعمقون) .

وأما السلف الصالح فلم تكن في عصرهم منازعات، ولا مشاجرات، ولا قيل،

ولا قال، بل كانوا يفهمون كتاب الله بملكتهم اللغوية، بدون أن يتكلفوا أو يتعمقوا،

أو يجهدوا أفكارهم في نحت المعاني البعيدة، واختراع الاحتمالات الباردة، فإذا

سمعوا كلمة (أولي الأمر) - التي نحن بصددها - فهموا منها بلا أدنى تكلف

معناها المتبادر إلى الذهن، مثل ما يفهم الأعراب والرعاع.

ولكن الدهر كان خبأ أمثال فخر الدين الرازي - الذين لا ترضيهم هذه

السماحة والسذاجة - فجاؤوا من بعدهم يخترعون لكل كلمة معانيَ عديدةً،

واحتمالاتٍ كثيرةً، ويُظهرون بذلك براعتهم وجودة ذهنهم، فلا تروعنَّك أقاويل

المتأخرين واختلافهم؛ لأنهم إنما اتخذوا العلم صنعة لهم، ومماراة بينهم، بل إن

كنت تنشد الحق فعليك بالسنة النبوية الصحيحة، والآثار الثابتة عن الصحابة

والتابعين لهم بإحسان، فما وافقهما فخذه، وما خالفهما فاضرب به عُرض الحائط؛

إذ صاحب القرآن صلى الله عليه وسلم أعلم به، وكذلك أصحابه الذين شهد الله

العليم بعلمهم وعملهم - رضي الله عنهم ورضوا عنه [8]-.

وما لي لا أعجب من هؤلاء الناس الذين يُعرضون عن السلف الصالح، ولا

يقيمون لهم وزنًا في تلك العلوم التي اخترعوها اختراعًا؛ لأجل أنهم لم يكونوا

يعلمون أصول الفقه، وعلم الكلام اليوناني اللذين ما أنزل الله بهما من سلطان!

فلِمَ لا يسلمون لهم في علم الكتاب الإلهي؟ ! أليس عجيبًا أن يؤمنوا بأن القرآن

نزل على محمد العربي صلى الله عليه وسلم، ثم يستشهدوا في فهم معانيه

بأرسطاطاليس اليوناني؟ نعم، إن هذا لشيء عُجاب!

وأما الذي حيَّر الرازي وغيره في فهم الآية فإنما هو ذكر الطاعة لأولي الأمر

معطوفة على طاعة الله ورسوله، فقالوا: كيف تكون طاعتهم مثل طاعة الله

ورسوله؟ ، وأين الملوك والسلاطين من هذا المقام الرفيع؟ ، فاخترعوا لذلك معنًى

يوافق فلسفتهم، وقالوا هم:(العلماء والفقهاء)[9] ولقد تعبوا سدى؛ لأن المسألة

واضحة جلية لا تحتاج في حلها وظهورها إلى التفلسف البارد؛ وذلك لأن القرآن

والسنة شريعة وقانون، وماذا يجدي القانون إذا لم تكن وراءه قوةٌ منفذةٌ، فطاعة

هذه القوة طاعة القانون نفسه، وطاعة واضعه، ولا يخفى على أحدٍ من الناس حتى

السوقة والأعراب أن طاعة والي البلد طاعة لذلك الذي أرسله وعينه، وعصيانه

عصيان لذلك بلا ريبٍ، حتى إن الذي يعارض الشرطي في عمله الرسمي يعد

مخالفًا للقانون، وللقوة التي سنَّتْه، وإنما تخبط الناس في فهم الآية؛ لأنهم لم

يتأملوا النظام الشرعي الاجتماعي؛ إذ إنهم لو أمعنوا النظر فيه لما تحيروا هذا

التحير ولعلموا حق العلم بأن لا بد لقيام الشريعة، وبقاء الأمة من قوة مركزية، وما

هي تلك القوة إلا الخليفة والإمام، والأمراء ونوابه، ولو أنهم فعلوا ذلك لما خفي

عليهم معنى (أولي الأمر)[10] .

وقد علمنا أيضًا من آية: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

} (النساء: 59)

إلخ أن بين الخليفة الإسلامي والبابا المسيحي بونًا شاسعًا؛ إذ البابا ليس بيده

الخلافة الأرضية، بل هو صاحب السلطة في ملكوت السماء، وقد عَدَّ الإسلام هذه

العقيدة كفرًا وشركًا؛ فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) ، وأما الخليفة الإسلامي فهو الحاكم والسلطان في الأرض فقط،

يذود عن حوض الأمة، وينفذ أحكام الشريعة، ولا يملك أدنى سلطة في السماء،

ولا بيده القوة التشريعية، فهو لا يستطيع أن يغير من الشريعة شيئًا، ولا أن يزيد

فيها أو ينقص، بل عليه أيضًا مثل سائر آحاد الأمة أن يخضع لها خضوعًا تامًّا،

وإذا تنازع في شيءٍ مع المسلمين فلا حق له بأن يحملهم على حكمه ورأيه الخاص،

بل يجب عليه وعليهم جميعًا أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله،

فيحكموها بينهم ويسلموا لها تسليمًا؛ قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ، ففي هذه الحالة لا حكم للخليفة، وإنما الحكم

لله وللرسول، وكذلك طاعته طاعة لله ولرسوله، ولأجل هذا كرر الفعل في الآية

فقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول

} (النساء: 59) ، ولم يكرره في

(أولي الأمر) ليعلم أن طاعتهما مطلوبة أصلاً وطاعة أولي الأمر ليست كذلك، بل

إنما جُعلت ليُطاع الله ورسوله (قاله الطيبي في الشرح) .

ولذلك لما أراد أمراء بني أمية أن يحملوا المسلمين على طاعتهم في المنكر،

والبدعة، والظلم، قائلين: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ

مِنكُمْ} (النساء: 59) - رد عليهم بعض الأئمة من التابعين أحسن ردٍّ فقال:

أليس قد نُزع عنكم بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} (النساء: 59) ؟ !

والحاصل أن الله سبحانه فرض على الأمة الإسلامية بهذه الآية طاعة الخليفة

والإمام؛ إذ به قيام الجماعة، وبقاء الهيئة الاجتماعية [11] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هذا الوجه حُجَّةٌ على الكاتب لا له؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند نزول الآية هو الإمام الأعظم، وصاحب الأمر في السياسة وغيرها، ولم يكن معه أمراء، ولا حكام؛ فتعين أن يكون المراد بأولي الأمر أهل الشورى من زعماء الأمة، وأهل الرأي فيها؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يأخذ برأيهم واستنباطهم في أمر الأمن والخوف وسياسة الحرب، وغيرها؛ لقوله تعالى:[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران: 159) ، وهذا نص في موضع النزاع.

(2)

هذا الحكم غير صحيح، وإنما الأمر: الشأن، ومقابل النهي، ويدخل فيها معنى الحكم، والقرينة تعين المراد كما تقدم، فالأمر في الآيتين هنا عين الأمر، آية:[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران: 159) وآية: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ](الشورى: 38) ، فأُولو الأمر في لغة القرآن أهل الشورى الذي اصطلح العلماء على التعبير عنهم بأهل الحل والعقد، وهم الذين لا يكون الخليفة إمامًا للمسلمين إلا بمبايعتهم له.

(3)

هذا الحصر - بل هذا الوجه - غير صحيح كما علم من الحاشيتين اللتين قبل هذه، وكانوا كثيرًا ما يعنون بقولهم إن هذه الآية نزلت في كذا أنها مبينة للحكم في مثله، وذلك بحسب فهم القائل.

(4)

ليس في الآية التي قبلها ذكر للحكام والأمراء، وإنما هي خطاب للأمة أنه يجب على مَن اؤْتُمِنَ منهم على شيء أن يؤديه إلى أهله، وعلى مَن حكم بين الناس بولاية عامة، أو خاصة أو تحكيم من بعضهم - أن يحكم بالعدل.

(5)

ليس هذا معنى قوله، بل معناه هم أهل الشورى عند الرسول صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر؛ لأنه كان يستشيرهما في كل أمر.

(6)

إن طاعة الأئمة والأمراء واجبة (في المعروف) بإجماع المسلمين، والنصوص فيها معروفة، ومنها هذا الحديث، ولكن هذا ليس دليلاً على تفسير الآية بما ذُكر.

(7)

قد صرح الكاتب - من قبل كغيره - بأن المسألة خلافية، فترجيح بعض كبار العلماء لأحد الوجوه التي يحتملها اللفظ ليس حجة على غيرهم، وإنما العبرة بقوة الدليل.

(8)

هذا الكلام حق ولكنه وضع هنا في غير موضعه؛ إذ ليست هذه المسألة مما خالف الخلف فيها السلف، ولا مما أكثروا فيها الأقوال.

(9)

قد نقل الكاتب هذا القول عن بعض السلف، وجمع بينه وبين القول الأول، الذي اختاره، وأطال فيه، فعزوه إلى الرازي خطأ وَهْبه صوابًا، فلماذا أنحى عليه بهذه اللائمة في قول سبقه إليه مَن ذكر من السلف؟ ، على أن الرازي على تفلسفه وكثرة غلطه - قد اهتدى في تفسير (أولي الأمر) إلى الصواب في الجملة، كما بيناه في تفسير الآية في موضعها من التفسير.

(10)

الحق أنهم عرفوا ما رماهم بجهله كما تقدم.

(11)

المنار: مَن أراد الوقوف على ملخص أقوال السلف والخلف في (أولي الأمر) ، وتحقيق الحق فيه وفهم الآية حق الفهم ومعرفة مصلحة المسلمين في ذلك اليوم - فليراجع تفسيرها في الجزء الرابع من تفسيرنا (من صفحة 180-222) .

ص: 193

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(2)

ثم نعود إلى حوادث سورية التي كنا في صددها، فنقول:

عهدنا بالبيكباشي شكري بك رئيس الديوان العرفي الذي كان في عاليه أنه

(حي يُرزق) ، وكان تقرر بيننا وبينه أن نفتح بعد نهاية الحرب مسألة سورية في

مجلس المبعوثين في الآستانة ونطلب شهادته وأنه يشهد بكل ما جرى معه، على

أن شكري هذا - وإن استظهر جمال عليه بما في ديوان الحرب من مستنطق ومدَّعٍ

عمومي، وأكثر الأعضاء - قد أمكنه إنقاذ بضعة عشر شخصًا من الموت؛ لأن

جمالاً طلب الحكم على أربعين كما تقدم، فلما بالغ في المعارضة نزل معه جمال

إلى عدد 27، ووقف هناك ولكن شكري بك تمكن من تخليص ستة من هؤلاء

أيضًا، وتقدم ذكر رأيه فيهم، ولما نفذ الحكم استعفى حالاً، وذهب إلى الآستانة

مُغاضِبًا لجمال باشا.

مسألة نفي السوريين إلى الأناضول:

قبل أن أُنفذ الحكم بالقتل على الواحد والعشرين رجلاً - الذين صُلبوا في

ساحة المرجة بالشام وساحة البرج في بيروت - أخذ جمال ينفي العائلات مئاتٍ

وألوفًا إلى الأناضول من كل مدن سورية، وكان يعتمد في ذلك على جداول يقدمها

له مديرو البوليس وغيرهم من جواسيسه وشكل لجنة سماها (قومسيون التهجير [1]

تحت رئاسة رجل اسمه نوري بك كان (مكتوبجيًّا) بالشام وكان من أشد الناس

ضراوة بالضرر والفساد، وكان يكره في الباطن جمالاً وطلعت وكل رجال جمعية

الاتحاد والترقي، ولكنه يغري جمالاً بالنفي أو التغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه

الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر،

وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس، وأعلمناه أنهم لا يخبرونه إلا

بما يرون أنه يقربهم إليه زلفى من السعايات والوشايات، فلم يكن يعبأ بكلامنا،

وكان يعتقد أنه لا تخفى عليه خافية، حتى لو قلت إنه كان يظن نفسه ملهمًا

ومعصومًا من الخطأ لما كنت مبالغًا! ومن جملة مَن بدأ (بتهجيرهم) أسرة

المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري، ولما راجعته في ذلك قال لي: إن عنده أدلة

ووثائق خطية تُثبت خيانتهم وخدمتهم لفرنسا في سورية، فقلت له: الذي أعلمه أن

الأمير سعيدًا الجزائري كان لا شغل له إلا شتم فرنسا فقال هذا من باب الاحتيال؛

لأجل أن تُسكته فرنسا بالمال، فقلت له: مهما يكن من الأمر فإن مراعاة هذا البيت

واجبة لكون الأمير عبد القادر له منزلة سامية في العالم، فأجابني (بكأنه) ،

ومعناها هنا: ماذا ينالني من ذلك؟ .

(المنار)

وقد أطال الكاتب هنا في ذكر وقائع جزئية:

(منها) أنه لما بلغه أمر جمال باشا بنفي بعض وجهاء لبنان - وكان الأمير

توفيق أرسلان والأمير فؤاد أرسلان ابنا عمه منهم - كلمه وكتب إليه محاولاً صرفه

عن هذا العزم فلم يأبَهْ له، فتوسل إليه بعزمي بك والي الشام كما ذكر أولاً،

فغضب، وأنذره أن لا يراجعه في شيء من أمر المنفيين، ونشر في الجريدة

الرسمية أنه لا يسمح لأحد بالافتيات عليه في ذلك. وقد كاشف رئيس لجنة النفي

(قومسيون التهجير) محمد فوزي باشا العظم بأن المراد بإنذار الجريدة هو الأمير

شكيب، فنصح له الباشا بأن يقف عند ذلك الحد خوفًا على حياته. وعلل ذلك بأنه

يفعل ما يشاء بلا معارض، وهو - على علمه بأن هذا الكلام حق - لم ينثنِ عن

عزمه.

(ومنها) أنه على تعرُّضه للخطر بهذا السعي لهؤلاء - كان بعضهم يتهمه

بأنه هو الذي أغرى جمالاً بهم، ويستدلون على ذلك بأنه ليس في المنفيين أحد من

حزبهم الأرسلاني، وإن الجواب على ذلك سهل، وهو (أن الحزب الأرسلاني

معروف قديمًا وحديثًا بأنه الحزب المناوئ للأجانب على الإطلاق، وأنه الحزب

العثماني الوحيد في الجبل، وسواء كان ذلك حسنة أو سيئة فهو حقيقة يعرفها كل

أحد، فغير معقول أن تعمد الدولة إلى رؤساء هذا الحزب فتنفيهم مهما بلغ من

خوفها) .

(ومنها) أن جمال باشا كان يعتمد في اختيار مَن ينفيهم على بلاغات

الجواسيس الموظفين والمتطوعين، وأن علي منيف بك متصرف لبنان كان

معارضًا له في خطة النفي، وكلَّمه في ترك نفي أحد من الجبل، فلما لم يقبل

انتخب له مَن تواتر عنهم الميل إلى الأجانب، ومنهم مَن وجد في أوراق قنصلية

فرنسا ببيروت وثائق تجرح صداقتهم للدولة، ومن تقدمت عليهم شهادات أخرى.

وذكر الكاتب عنا تقارير الشرطة السرية وعيون الحكومات وأنه كان للدولة منها

بعض ما للمحتالين في سورية وفلسطين الآن.

(ومنها) أنه لو كان للكاتب أدنى مشاركة أو مساعدة لجمال باشا على أفعاله

لما أمكنه أن يشنِّع عليه في الآستانة ويسعى لمحاكمته، ولكان جمال باشا يقول: إنه

كان قد أغراني بذلك وحسَّنه لي فأخذت بقوله وقول أمثاله لثقتي بعلمهم بحال البلاد.

ثم قال الكاتب:

هذا، ولما صدر الأمر بنفي حبيب باشا السعد من جملة مَن صدر الأمر بنفيهم

من لبنان جاء دمشق وزارني في محلي، وقال لي: إنه سمع من إسبر أفندي شقير

وغيره عن الجفوة التي جرت بيني وبين جمال باشا من أجل مسألة النفي والقتل

فهو لذلك لا يكلفني الكلام معه في أمره، بل الكتابة إلى علي منيف متصرف الجبل

الذي هو صديقي؛ لعله يتمكن من إقناعه، فحكيت له كل ما جرى وحررت لعلي

منيف كتابًا بأن يبذل جهده في صرف جمال عن نفيه، فإن لم يمكن فليكن النفي إلى

أطنة لا إلى داخل الأناضول، ثم توجهت إلى الجبل وبيروت وسألت علي منيف

بك عن مسألة حبيب باشا وغيره، فأجابني أنه لم يدخر وسعًا في صرف جمال باشا

عن فكرة النفي فلم يفلح، ولكنه خلص أناسًا كثيرين وأما حبيب السعد فقد كتب إلى

والي أطنة جودت بك بأن لا يشخصه إلى أبعد منها متى وصل إليها، وهكذا تم،

وبقي حبيب في أطنة، وتحابَّ مع جودت بك. ولقد صادف وصولي إلى لبنان بقاء

بعض المنفيين على أهبة السفر مثل رشيد بك نخلة فأقنعت علي منيف بإبقائه

لانحراف صحته، فخلصه بالرغم من إلحاح جمال باشا بتسفيره، وكان أخي عادل

خلص عدة أشخاص بحجة المرض مثل أمين بك عبد الملك وخليل بك عقل شديد

وغيرهما.

وأما إسبر أفندي شقير فكان جمال باشا نفاه إلى القدس ثم سمح له بالمجيء

إلى الشام وعندما صار في الشام تعبت كثيرًا في إعادته إلى بيته؛ لأنه كان بيني

وبينه جفوة مزمنة، وكنت أترقب فرصة لأجل أن أسدي إليه هذه اليد على ما بيننا

من النفور. ولما كان جمال علق له رخصة الرجوع إلى البيت على رضى

متصرف لبنان ووالي بيروت - راجعت بذلك كلاًّ من علي منيف وعزمي بك،

وبالرغم مما أبداه عزمي من التصعيب أقنعتهما بالقبول على أن أكون كفيلاً لإسبر

أفندي فلما جاء جمال إحدى جيئاته إلى بيروت تكلم معه الواليان المشار إليهما أمام

أناس من بيت سرسق بشأن إسبر شقير، وأنني أنا الذي يلح في هذا الأمر،

فغضب جمال وبدرت منه كلمات بحقي وأشاع أبناء سرسق ثاني يوم أن جمال باشا

غضب عليَّ بسبب إسبر أفندي، وخاف عليَّ أصحابي، بل جاءني فوزي بك ابن

إسبر أفندي ورجاني أن لا أعرِّض نفسي للضرر من أجلهم وأنهم هم قد عرفوا

صديقهم من عدوهم، ونجاحي في تخليص والدهم وعدمه لا يقدمان ولا يؤخران

شيئًا في امتنانهم مما جرى، ثم ذهبت بعدها إلى الشام، فكان كلام إسبر أفندي معي

طبق كلام ولده فوزي. نعم، إنه تخلص - فيما بعد - بقرار حصلنا عليه بمساعدة

طلعت بشأنٍ عَمَّ جميع المنفيين الذين فوق الستين، ومع هذا كان يعد حسن نيتي

وإخلاصي السعيَ له جميلاً وينوه به ويلوم مَن أساءوا الظن بي من المنكوبين

ويزيل ما لصق بأذهانهم من الشبهات، على حين كان الذين نفعتهم فعلاً ودفعت

عنهم شرورًا عظيمة وعاركت من أجلهم في مواقف عديدة - قد نسي أكثرهم

الجميل وأنكروه ومنهم من قابلوا الإحسان بالإساءة والود بالشماتة.

ووجدت رجلاً آخر، بلغت به الجرأة الأدبية أن دافع عني بقلمه بعد الحرب

ألا وهو المرحوم سليم بك المعوشي قائمقام جزين فقد كنت أيام الصفاء مع جمال

لأول الحرب - استرجعت أمر جمال بنفيه إلى القدس ثم وجدت أوراقًا في قنصلية

فرنسا أوجبت القبض عليه، وحبسه في عاليه، فتمكنت - بواسطة رئيس الديوان

العرفي وأعضائه وبإقناعهم بكون هذه الأوراق لا بال لها وليس فيها خيانة للدولة -

أن أطلق سراحه بدون أن يعلم بذلك جمال، فكان هو الرجل الوحيد الذي نشر عند

نهاية الحرب في إحدى الجرائد ما معناه: أنني أعلم أن كلامي لا يُرضي الكثيرين

ولكن الحق أولى أن يُتَّبع، وهو أن الأمير شكيب أرسلان لم يشترك في شيء من

أعمال جمال باشا، بل خاصمه وعانده من أجلها إلخ.

هذا، ولو كانت الحرب انتهت بغير ما انتهت به لم أكن عرضة الآن لافتراء

بعض المفسدين المتملقين للحلفاء! ، ويا ليت الواقفين على أقاويلهم اليوم سمعوا

نغْمة الرؤساء والزعماء في لبنان أيام الحرب وهم يقولون في هذا العاجز على

ضعفه وقصوره: هذا أمير البلاد وأبوها وأمها وإن لم يحافظ عليها هو فمَن يا تُرَاه

يحافظ عليها إلخ؟ ! ، ولكن لما دارت الدائرة على ألمانيا وتركيا انقلبت

الحقيقة لديهم وصار الأبيض أسود في نظرهم؛ إذ أكثر الناس ينظرون من وراء

لون الأحوال الحاضرة وكأن الحقائق - ويا لَلأسف! - هي أيضًا رهائن الأقوياء

موقوفة لخدمتهم.

حال جمال باشا بعد ثورة الحجاز:

هذا، ولما ثار الشريف بالحجاز وسرت الحركة إلى سورية خاف جمال

العواقب، فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، واستدعاني أنا وكامل بك الأسعد

وسليم باشا الأطرش ونسيب بك الأطرش وكنج أبا صالح شيخ مجدل شمس

وغيرنا من الزعماء وتكلم معنا في اتحاد العرب والترك وفي مقاصد الدولة العلية

الحقيقية وأفاض بكلام بعضه صحيح وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على

الأمانة للدولة. وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية -

لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة وتصديقه

لمعاهداتها

وقلت - قبل الحرب وكررت في أثناء الحرب وبعد الحرب ولا أزال

أقول -: إن كل عربي يصدق أن دول الحلفاء يسعين في استقلال العرب - لا بل

يقبلن باستقلال العرب - يكون في عقله خبال! ، وأنهن ما أردن إلا فصل العرب

عن الترك؛ ليتسهل لهن ابتلاع الأمتين، هذه هي غايتهن. ولي - بذلك قبل

الحرب - نظْم من جملة قصيدة في سيرة صلاح الدين الأيوبي:

وكيد على الأتراك قيل مدبر

ولكن لصيد الأمتين حبائله

إذا غالت الجلى أخاك فإنه

لقد غالك الأمر الذي هو غائله

وطلب مني جمال أن أرافقه في سياحة إلى حوران وجبل الدروز واستصحب

أيضًا المرحوم عبد الرحمن باشا اليوسف وسامي باشا مردم بك وبعض العلماء

والمعمّمين، وأراد أن يجلو ما كان أظلم بيني وبينه، فلما كنا في مقعد السويداء

بجبل الدروز، وكان قبض قبل ذلك على شكري باشا الأيوبي وعدة رجال منهم

فارس أفندي الخوري أحد المشار إليهم بالبنان في سورية علمًا وفضلاً، واتهمهم

بمؤامرات سبقت لهم مع الأمير فيصل، فانتهزت تلك الفرصة وتكلمت معه بشأن

هذه القافلة الثالثة على مسمع من عبد الرحمن باشا اليوسف ووجيه أفندي الأيوبي

وحيدر بك ابن سامي باشا مردم بك وما زلت ألحّ عليه بشأنهم، حتى وعد بأن

يطلعني على أوراق وُجدت معهم وأنها تثبت خيانتهم، ولما نزلنا الشام قال لي: إن

التحقيقات لم تتم فصرنا نراوحه الشفاعة ونغاديه، ولا سيما بفارس أفندي الخوري،

والشيخ خضر حسين التونسي الأديب العالم الفاضل، والمرحوم الشيخ صالح

الرافعي وأناس من وجوه راشيا وآخرين من وجوه زحلة - أوصلتهم إلى السجن

تقريرات شاب طرابلسي، ولعب في هذه المسألة دورًا مهمًّا المسمى توفيق بك الذي

جعله جمال باشا وكيلاً لولاية الشام، فاجتهد هذا التوفيق - لا وفقه الله - كل

الاجتهاد في إثبات أن هناك مؤامرة على قتل جمال وخلع طاعة الدولة. وكانوا

يضربون الناس ضربًا مبرّحًا ويعذبون الشهود؛ ليقرروا ما يريدونه هم. وقيل: إن

هذا الجهد البالغ لإثبات وجود المؤامرة هو لأجل إقناع رجال الدولة والرأي العام -

الذي كان بدأ يقيم النكير على جمال في الآستانة - بأن جمالاً لم يعتدِ على أحد،

وأنه لا تزال المؤامرات وحركات الثورة في سورية متصلة، ولكن جمالاً اضطر

في هذه المرة إلى الاكتفاء بالحبس ولم يتجاوز إلى القتل، فقيل: إن شريف مكة

أرسل ينذرهم أنهم إن قتلوا في هذه المرة أحدًا قتل هو جميع الأسرى الذين عنده من

الأتراك وفي مقدمتهم الوالي غالب باشا. وقيل: إن الآستانة أنذرته هذه النوبة إنذارًا

شديدًا بأن يعدل عن خطته المعهودة؛ لأنه قد طفح الكيل وقد كفى ما جرى، فلذلك

رأينا هذه الدعوى أخرجت في يوم من الأيام من يد توفيق وكيل الولاية وتحولت

إلى ديوان عرفي في الشام أخذ ينظر فيها مجددًا ويطرح الشهادات المأخوذة بقوة

الضرب والتعذيب ويسلك مسلك العدالة وأمكننا يومئذ إطلاق سبيل أناس من مشايخ

راشيا وآخرين من زحلة وواحد من عرمون الغرب. ثم أطلق سبيل الشيخ صالح

الرافعي والشيخ محمد خضر حسين التونسي اللذين كان ذنبهما أنهما استُفتِيا في أحد

المجالس في جواز الخروج على الدولة فلم يفتيا بذلك ولكن لم يبادرا بإخبار جمال

باشا بوقوع هذا الاستفتاء ولو كان هذا الاستفتاء مجرد كلام فارغ من أناس لا شأن

لهم. أما شكري الأيوبي فكانت قضيته شديدة؛ لأنه اعترف بالاتصال بفيصل

وكونه اشترك معه في انتقاد الأحوال. وأما فارس الخوري فذنبه الوحيد أنه سأله

الشاب الطرابلسي رأيه في عمل ثورة فأنكر هذا الأمر ونهاه عن الخوض فيه، لكن

جمالاً يقول: لو كان فارس الخوري أخبرني يومئذ بما سئل عنه لعلمت بنية فيصل

وقبضت عليه، ولم أدعه يذهب إلى الحجاز، ولم تكن حصلت ثورة الحجاز؛

ففارس الخوري هو سبب هذه الثورة بسكوته، والحال أن فارسًا الخوري قرر -

ونحن طالما أكدنا لجمال باشا - أن ذهاب فيصل إلى الحجاز كان قبل المسألة التي

سئل عنها فارس أفندي ومع هذا بقي فارس نحو أربعة أشهر بين أربعة حيطان.

(وهنا ذكر الكاتب مجيء وفد الآستانة إلى سورية وقول مبعوثها صلاح بك

جيمجوز الشهير بجرأته: إن موعد افتتاح المجلس قد حان ولا يرضون أن يكون

أحد المبعوثين محبوسًا، وإن هذا كان سببًا لقبول جمال إطلاقَ فارس الخوري

بكفالة الكاتب بشرط استقالته من المجلس) .

مصادرة جمال باشا لغلال سورية:

ثم إنه خطر لجمال باشا خاطر غريب من جهة تأمين الجيش على ميرته -

وهو جمع حبوب البلاد كلها موسم سنة 1916 وادخارها في أنبار العسكرية

وإعطاء الأهالي والعساكر جميعًا حاجتهم من المنازل والأنابير بموجب وثائق، وقد

اقتدح هذا الرأي ولم يجرؤ أحد - لا من أعيان البلاد ولا من كبار المأمورين - أن

يبين له ضرر هذا التدبير إلا أنا، فراودته كثيرًا أن يرجع عن هذا الفكر لأسباب

عديدة: (منها) أن الأهالي - ولا سيما الفلاحين - لا يمكن أن يقدموا جميع غلات

أراضيهم ويصيروا عالة على المنزل، كلما أرادوا أخذ مقدار من الحبّ لقوت

عيالهم وعلف دوابّهم - اضطر الواحد إلى تقديم وثيقة والإنظار أيامًا وليالي أمام

باب المنزل، فهذا الفلاح سيطمر في الأرض كل ما يقدر عليه من محصوله، فيقل

مجموع الموسم عما هو، (ومنها) أنه إن كان المقصود هو تأمين الجيش على

قُوتِهِ فيمكنكم عمل حساب ما يلزم الجيش كل يوم، ومن ثمة ما يلزمه طول السنة

الواحدة، وقسم من العام القابل وبعد معرفة مجموع اللازم طرحه على الولايات

والألوية بحسب درجات غلاتها وإقبال مواسمها، وأما أخذكم الجميع - سواء احتاج

الجيش إلى كل هذا المقدار أم لا - فإنه يوهم الناس أن مقصودكم إماتتهم جوعًا

والآن يذيع كثير من المفسدين بين العامة أنكم ترسلون بجانب من الحبوب إلى

ألمانيا وعقول الساذجين تصدق هذه الفِرْية، فلم يقبل النصيحة، وحصل كل ما

كنت تكهنت به؛ لأن الذي أعطى جميع حاصلاته احتاج الحَبّ، فكان يذهب إلى

المنزل فلا يأخذ مُد القمح إلا بعد اللتيا، والتي، وإن الأكثرين طمروا في الأرض

أكثر حاصلاتهم، فتصور جمال أنه بإنذاره الأهالي أن مَن يخفي منهم شيئًا من

الحبوب يُجزَى بالقتل - يخاف الأهالي فيقدمون كل ما عندهم من الغلة والحال أن

هذا الإنذار لم يزدهم إلا تكتمًا في العمل، فصار الواحد يطمر الحب في جوف الليل

تحت الأرض ويأخذ منه حاجته لعياله ودوابه، وإذا جاءه أيٌّ كان وطلب منه حفنة

من الحب بحجة أن أولاده يموتون جوعًا - أنكر أن يكون عنده شيء؛ خوفًا من أن

يكون ذلك الطالب جاسوسًا يقصد استكشاف سره، أو يذهب فيقول: إن هذا القمح هو

من عند فلان جزاه الله خيرًا، فيصل الخبر إلى الحكومة المحلية ويُجزَى بالشنق!

وجمال باشا إذا قال فعل، فأصبح أناس يدورون في البراري في طلب القوت ولا

يجدونه، وآخرون عندهم أكداس الحب مخبوءة تحت الأرض، ولا أقصد بذلك أن

هذا هو السبب الأصلي في مجاعة سورية، كلا، بل إن هذا التدبير السيئ المبني

على الاستبداد والغرور بالنفس - كان من جملة أسباب المجاعة، ولكن السبب

الأهم هو الحرب من حيث هي، وقلة الأيدي العاملة وفقد البذار والأبقار والحصر

البحري وأعظم المسئولية في شدة المسغبة وموت الألوف جوعًا بسببها - تعود على

الحلفاء الذي رفضوا إغاثة سورية من جهة البحر، وإيصال إعانات أميركا

وأسبانيا والبابا، وأحبوا أن يلصقوا ذنب التجويع بالحكومة العثمانية ظلمًا وزورًا،

كما سيأتي في كلامنا على المجاعة.

على أننا لما كنا نذكر كلاًّ بفعله نقول: إن هذا التدبير الذي قرره جمال باشا

لتلافي تخبئة الغلال كان تدبيرًا قاتلاً، وأتى بعكس المقصود، ومن جملة نتائجه أن

أهل حوران ثاروا على الحكومة؛ وذلك أنه فرض على لواء حوران 80 مليون

كيلو وجعلها تحت التزام ميشيل إبراهيم سرسق مبعوث بيروت ووضع تحت طلب

ميشيل القوة العسكرية فجمع هذا 20 مليون كيلو ووقف حمار الشيخ في العقبة

فأخذوا حينئذ بالعسف والتضييق، وأحرجوا الأهالي فثاروا وضربوا الجندرمة،

فساقوا عليهم العسكر فتضاربوا والعسكر وقطعوا أسلاك البرق وخربوا سكة الحديد

واستفحل الأمر وكان جمال في حلب، فخاف أن تمتد الفتنة، ويشترك فيها العربان

والدروز فأبرق إليَّ - وكنت في لبنان - أن أذهب إلى حوران وأن أشترك مع

حافظ جمال باشا في تسكين الثورة فلم أستطع إلا الذهاب وإن لم أذهب لم يبعد عليه

أن يجعلني مسئولاً عما وقع. ولما وصلت إلى درعا (أذرعات) استدعيت مشايخ

الدروز، فحضروا في ألف وخمسمائة فارس، وأكدوا طاعتهم للدولة، وأبرقت إلى

جمال بالخبر فورد إليَّ جوابه بالشكر والسرور، ثم راسلت مسلمي حوران،

فحضر مشايخهم، وقالوا لي: نحن كنا أخبرنا الحكومة أنه لا يقدر على تسكين هذه

الثورة إلا الأمير شكيب، فالحمد لله على قدومك وإن أكثر الثائرين متجمعون في

قرية نوى، فبعثت إلى جمال برقية أعرض فيها عليه رأي العفو عن الثائرين

وإعادة الأمن إلى نصابه وأنني أتعهد في مقابلة ذلك بإدخالهم جميعًا في الطاعة،

فأجابني ببرقية صريحة بأن مَن أطاع إلى نهاية أربعة أيام وحضر إلى مركز

الحكومة - فهو معفو عنه، فأسرعت بكتابة خطاب إلى الثائرين المحتشدين في

نوى أدعوهم فيه إلى الطاعة وأعظهم، وأبين لهم عواقب العصيان، فأجابوني إلى

ما أردت، وطلبوا أن نتلاقى أولاً في قرية الرمثاء.

وبينما نريد تعيين يوم للاجتماع هناك إذ ورد إليَّ خبر بكون حافظ جمال باشا

القائد العسكري في حوران - المأمور بقمع الثورة - قد ساق عدة توابير على نوى،

فكبسوها بياتًا وضربوها بالمدافع، وقتلوا نحو ثمانين نفسًا، فلم أصدق هذا الخبر،

ولم يهضم عقلي أن جمال باشا يأذن لي بتأمين الثائرين على نيل العفو ويضرب

لي لذلك موعدًا أربعة أيام وقبل انقضاء الموعد يسوق عليهم العساكر ويضربهم وإذا

بالوالي تحسين بك وبحافظ جمال باشا (وكانوا يقولون له جمال باشا الثالث؛ لأنه

كان في سورية أحمد جمال باشا القائد العام وجمال باشا المرسيني الذي صار بعد

الحرب العامة ناظرًا للحربية في الآستانة ونفاه الإنكليز إلى مالطة وجمال باشا هذا)

قد حضرا إلى أذرعات، وعلمنا أن واقعة نوى هذه قد حصلت، فكان بيني

وبينهما في دار الحكومة في أذرعات خصام عظيم، ارتفعت فيه الأصوات، وبلغت

الحدة أقصاها على مسمع الجمهور، وإنما ظهر أن جمال باشا الثالث هذا في يده

أمر بَرْقي بالضرب خلافًا للأمر الذي بيدي بالتأمين. فعند ذلك أبرقت إلى جمال

باشا القائد العام أبين له مزيد استغرابي من هذه الواقعة التي وقعت ضمن المدة التي

أعطاني إياها لتأمين الثائرين ومقدار الفظاعة في قتل نحو 80 شخصًا، منهم بعض

نساء وهدم بيوت في بلدة الإمام النووي رضي الله عنه.

وتلغرافي هذا مسجل - ولا شك - في بيت التلغراف بأذرعات. فغضب

جمال من هذا الخطاب، وزاده غضبا أن الشيخ أسعد شقير -الذي كان أرسله مراقبًا

له على حركات الجميع في حوران - حضر الخصومة بيني وبين الوالي وجمال

باشا الثالث (كان ممن اجتهد في كف النزاع) ولكنه ثاني يوم برح حوران إلى عكا

ويقال إنه أبرق إلى جمال بما حصل بيني وبين ممثلي الحكومة الملكية والعسكرية،

وأنني أغلظت لهم القول، وقلت إنني لا بد أن أفتح هذه المسائل في المجلس

بالآستانة، وأشرح كل ما جرى إلخ، فأبرق جمال إليَّ بالحضور إلى صوفر،

وكان قدم إليها من حلب، وهناك أرغى وأزبد وأشرف عليَّ من سماء عَظَمُوته،

فلم أجاوبه لا نفيًا ولا إقرارًا، وقمت منصرفًا، فكأنه وجد في سكوتي دليلاً على

إضمار السوء، فقام، وتبعني، وحاول استرضائي، وعدل عن المخاشنة إلى

الملاينة، وبقيت ساكتًا، وصممت أن أذهب إلى الآستانة، وأن لا أعود إلى سورية

ما دام جمال فيها

[2] .

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: المراد بالتهجير: الحمل والإكراه على الهجرة أي الخروج من الوطن إلى غيره، وهو استعمال جديد لم تنطق به العرب ولا المولدون؛ لأن الإكراه على الخروج من الوطن يسمى في اللغة إجلاءً وجلاءً، يقال: أجلاهم وجلاهم، ويقال: جلوا أيضًا، وأما التهجير - في اللغة - فهو الخروج في وقت الهجير، أي: الحَرّ والتُّرْكُ يتصرفون في أبنية الأفعال العربية بحسب حاجتهم، فيخطئون السماع والقياس تارة، ويصيبون تارة.

(2)

حُذف من هذا الموضع ذكر الوسائل التي توسل بها الكاتب إلى الذهاب إلى الآستانة، مع منع جمال للسفر بدون إذنه.

ص: 202

الكاتب: حسني عبد الهادي

‌من الخرافات إلى الحقيقة

(4)

الإسلامية والمجوسية

أو العرب والعجم

إن السبب الأول لدخول الخرافات في الإسلام هو روح مجوسية الفرس،

الدين الإسلامي دينٌ حرٌّ ساذجٌ، ولكن حال لونُهُ الأصلي في محيط إيران، ولما

دخلت الأصول الإسلامية بلاد اليونان، ومصر، والروم تعقدت سذاجته العالية،

وأخذ شكلاً غريبًا ممزوجًا بنظريات تلك الشعوب الدينية، والفلسفية، ولا سيما

اليهود الذين كانوا كلما دخل أحد منهم في محيط الإسلامية يُدخل معه خرافات دينه.

هنا يجب على الباحث عن جراثيم مرض التحزبات الإسلامية أن يجول،

وحينئذٍ يجد أن أشد الضربات وأفجع النكبات قد هبت ريحها على الإسلامية من

جهة إيران.

كان الفكر الديني ذو السلطان الروحي في محيط إيران - وهو مذهب

زرادشت - محافظًا على قوته وصَوْلته بعد أُفول نجم الفرس السياسي، نعم، إن

ظفر المسلمين بالفرس في القادسية قد دكَّ دين زرادشت كما ثلّ عرش ملوكه

الأكاسرة؛ فإن الفرس كانوا يدخلون في دين الله أفواجًا، ولكنه لم يعف أثره، بل

أصر عليه كثيرون، ولا يزال له أتباع في بلاد الهند في شبه جزيرة كجرات وفي

فيافي إيران، وعلى ساحل بحر الخزر يدينون دين زرادشت، فما بالك بما كان من

بقايا تأثيره في أنفس الذين آثروا الإسلام عليه من حيث لا يشعرون.

كان للفرس إلهان (آهريمان) أي خالق الشر، و (هرموز) أي خالق

الخير، وفي عام 224 ميلادية في زمان الدولة الساسانية اتحدت في إيران السلطة

السياسية والسلطة الدينية، وظلتا متحدتين حتى دخول الإسلام في ديار إيران. كان

الأهلون يُقسمون في تلك الأزمنة أربع طبقات:

(1)

طاجيه. (2) شمارجه. (3) دهاقين. (4) موبذان.

فالأولى طبقة العوام، والثانية طبقة الخواص، والثالثة طبقة رجال الحكومة

والرابعة طبقة رؤساء الدين والأشراف والوجوه.

وكان القضاء للرئيس الديني المسمى (موبذ موبذان) .

كانت عاصمة الفرس - إذ ذاك - بلدة إِصْطَخْر، وكان للعرب هنالك حكومة،

عاصمتها الحيرة لا دولة (وبين مدلول كلمة (حكومة) ، ومدلول كلمة (دولة)

بونٌ شاسعٌ) .

هكذا كانت التنظيمات الاجتماعية، والسياسية في إيران عند دخول الإسلام

فيها. وكانت هذه التنظيمات منطبقة على روح الإيرانيين طبعًا بمرور الزمان،

وكل تشكيل سياسي أو اجتماعي يتولد من روح الأمة الاجتماعية لا يمكن تعديله،

ولو أرادوا ذلك لما استطاعوا إليه سبيلاً.

كان الفرس ينظرون إلى دولة الأمويين وإلى حكومتهم شزرًا لسببين رئيسيين:

(1)

أن تأليف أمتهم أحسن ترتيبًا وأتم نظامًا من تأليف الأمة الحاكمة.

(2)

أنهم كانوا يعدون الأمويين غاصبين لاستقلالهم السياسي، ولكنهم يسترون

ذلك بإلباس بُغضهم إياهم لباس التشيع لآل البيت النبوي الكريم.

لذلك كان الإيرانيون دائمًا يترقبون الفرص لكي يستردوا سلطتهم المادية،

ولم يجدوا سبيلاً يوصلهم إلى مقصدهم الأصلي أقصر من تكييف قواعد الدين

الحنيف بأشكال توافق احتياجاتهم الروحية.

وفي سنة إحدى وأربعين للهجرة اضطر سيدنا الحسن السبط إلى ترك الخلافة

لخصمه معاوية، ثم خلف يزيد أباه معاوية، وما عتم يزيد أن فعل فعلته الشنعاء في

سيدنا الحسين رضي الله عنه. فكانت كجذوة نارٍ أُلقيت على مستودع بارود

النفور، والكراهة المخزونين في قلوب المسلمين لسلطنة بني أمية. فانتهز

الإيرانيون هذه الفرصة، فاتخذوها ذريعة لتنفير المسلمين من أخلاق معاوية،

وبذلوا كل ما أُوتوه من قوة لنشر هذه الدعوة.

وفي أثناء بث دعوتهم شعروا بالحاجة إلى قوة يتكئون عليها، فجعلوا مسألة

(التشيع لآل البيت الكريم) مذهبًا دينيًّا.

ثم تمخضت الأيام بل الأعوام بهذا الجدال، والجِلاد حتى وضعت حملها،

فظهر أبو مسلم الخراساني - الذي تجلت جميع آمالهم بشخصه - فكان ظهوره

كانفجار القذائف النارية، فلم يلبث أن فاز بإزالة السلطنة الأموية، وإقامة سلطنة

العباسيين الذين يمثلون نفوذ الفرس مكانها [1] .

وكان من أعوان أبي مسلم على إعادة النفوذ الفارسي أغنى أهل زمانه (أبو

سلمة الخلال) بذل ماله وجاهه بكل سخاءٍ في سبيل فوز أبي مسلم.

ولكن العاقبة لم تكن كما كان يروم الفرس من كل وجه فطرقوا بابًا آخر،

وهو باب (العلوية) ، فاستمر الجدال، والجلاد، وتوالت الفجائع الدموية. ومع

كل هذا لم ينل الفرس كل مبتغاهم من أنهار الدماء التي فجَّروها تفجيرًا؛ إذ لم يكن

القصد في الباطن إلا إدارة ملك العرب كما يشاؤون ترويجًا لسياستهم، ولكن

العباسيين عرفوا سر الأمر، ولم ينقادوا كل الانقياد للفرس، وحينئذٍ ظهر هؤلاء

بمظهر جديد، وهو مظهر (العلوية) . وبهذا الشكل توالت الفجائع، وتعاقب سيل

الدماء.

وهذه السياسة قد فشلت أيضًا، فلما رأوا أن بلادهم قد مُلكت، ودماءهم قد

سُفكت، ولم ينالوا شيئًا - عمدوا إلى سياسة أخرى. وهي سياسة اجتثاث شجرة

الدين، وقلعه من أُسِّهِ، وهو التوحيد، فوضعوا مذهب التعليم الباطني على أس

الحلول، وحاولوا اصطياد قلوب العرب باللين والدهاء إلى أن ينالوا المرام،

ويأخذوا بأزِمَّة الإدارة، وينفردوا مع صنائعهم بالأحكام

على هذه السلم صعدت البرامكة إلى صرح وزارة التفويض، والاستبداد

بالتنفيذ، كان جدهم (خالد) قائدًا من قواد جيش أبي مسلم الخراساني، وكان نارًا

تتَّقد غيظًا وحقدًا على العرب. وهو ابن رجلٍ مجوسيٍّ اسمه (برمك) ، وكان

متوليًا أوقاف (نيران) مدينة بلخ. وإنما أظهر خالد الإسلام عند التحاقه بأبي مسلم،

وكان شديد الغيرة والحرص على إحياء مجد الفرس السياسي والديني، وكان من

الدهاء والحنكة بحيث إن السفاح الخليفة العباسي أُعجب به وجعله وزيرًا له. ثم

انتقلت الوزارة من بعده لابنه (يحيى) ، ثم لحفيده (جعفر) ، وقد نجح الفرس في

هذه السياسة سياسة اصطياد قلوب العرب الذين تروج عليهم الدسائس بكل سهولةٍ.

حتى إن الدولة العربية في زمان السلالة العباسية كانت في أيدي الفرس، فكان

الولاة، والقواد فرسًا كالوزراء. وقد اشتهر في الإدارة العربية عدة فصائل عجمية،

أدارت الملك مثل: (1) فصيلة برمك، (2) وفصيلة وهب، (3) وفصيلة

قحطبة، (4) وفصيلة سهل، (5) وفصيلة طاهر.

فكانت الدولة عربية اسمًا، وفارسية جسمًا، أو مسلمة ظاهرًا، ومجوسية

باطنًا، وقد تجلى النفوذ الفارسي عند جلوس المأمون على كرسي الخلافة أكمل

التجلي، حتى إن بعضهم كان يتخيل أن الفرس سيعيدون ملك الأكاسرة بلا جدالٍ،

إلا أن الإسلام لما كان قد تمكن من مباءته في قلوب الناس لم يتجرأ منافقو المجوس

على إبراز جميع مكنونات قلوبهم بوضوح، بل حاولوا الاستفادة من الإسلام

بطريقة خفية تُدْنيهم من آمالهم السياسية بالتدريج، وهذا كان ممكنًا ومعقولاً؛ لذلك

اكتسى أمراء الفرس كسوة الإسلام، ورفعوا علم الخلافة، والإمامة، وظهروا

بمظهرٍ جديدٍ يحلو لبسطاء العرب، ويجذب قلوبهم. على هذه الطريقة ساروا إلى

خدمة مقام الإمامة والخلافة، وبعض العرب يركض وراءهم مجذوبًا بجاذبة الآمال

الخلابة.

إذا دقق الإنسان النظر في التاريخ تدقيقًا جيدًا يجد أن غلو الفرس في آل

البيت النبوي، وتقلبهم بين العباسيين، والعلويين - لم يكن إلا لعبة سياسة لعبوها

خلف ستار الدين؛ تأمينًا لإعادة مجدهم الذي قوَّضه العرب، ومن الآيات الدالة

على ذلك أن جعفرًا البرمكي وزير هارون الرشيد قال مرة - لمَن كانوا يستحسنون

أفعال أبي مسلم الخراساني -: (إن ما عمله أبو مسلم ليس شيئًا مهمًّا؛ لأنه نقل

السلطنة من سلالةٍ إلى سلالةٍ، متحدتين في العشيرة وفي الديانة. وإنما المهارة هي

نقل السلطنة من أمةٍ إلى أمةٍ أخرى، لا تتحد معها لسانًا ولا دينًا!) ، وكان قصده

من هذا الفخر أن أسرته تنقل السلطنة من العرب إلى العجم، ثم إن فضل بن سهل

السرخسي أشهر رجال المأمون كان مجوسيًّا، تقلد خدمة الحكومة، ولأجل تأمين

مصالح الفرس أسلم عام 190 إسلامية، وتقلد مذهب الشيعة الذي أحدثه قومه.

وبعد إسلامه بثماني سنين ألف جيشًا بقيادة (طاهر بن حسين) ، وفتح بغداد وقهر

الأمين؛ لأن أمه عربية، وأجلس المأمون ابن الفارسية.

ولم يكتفِ الفضل بن سهل بهذا، بل قرر في عام 201 جعل علي بن موسى

ولي عهد ثم أزال شعار العباسيين وهو السواد، واستبدل به شعار الفرس الأخضر

بحجة أنه شعار آل البيت.

وظلت فتوحات الفرس في قلوب أهل المملكة تزداد، وتهويشاتهم لأمور الدين

الإسلامي تتكاثر حتى زمان الخليفة المعتصم، فاستعان بالترك على الفرس، فجرى

بين الفرس والترك ما جرى، وانتهى الأمر بدخول الترك بغداد مظفرين، بعد أن

سحقوا قوة الفرس المجوسية، وكان هذا بزعامة طغرل بك السلجوقي في زمان

الخليفة القائم بأمر الله [2] .

عند ذلك انتقلت المناصب من أيدي الفرس إلى أيدي الترك، فانسحب أمراء

الفرس من ميدان السياسية، ودخلوا ميدان الجندية، وأعلنوا الاستقلال، وأظهروا

مكنونات قلبهم القديمة. ألفوا في خراسان دُويلة الطاهرية، وفي نفس فارس

الصفارية، وفي ما وراء النهر السامانية، وفي آذربيجان الساجية وفي جرجان

الزيارية، وجميع هذه الدويلات كانت كمرآة تتجلى فيها الروح الفارسية منذ عهد

الأمويين إلى زمن إعلانها. وكانت جميع دويلات الفرس ضعيفة بالنسبة إلى قوة

المركز العربية ما عدا دولة (آل بويه) التي ظهرت عام 320.

ونتيجة ما تقدم أن بذور التفريق التي غرسها الفرس قد نما نبتها، وأثمرت

وقوع الشقاق بين المسلمين؛ فكانوا فرقتين يتنازعان السيادة بينهما، وكان يدافع

عن الحزب الإيراني أو الشيعي الفرس، وعن الحزب العربي أو السني الترك،

وقد كان الفوز لهؤلاء في العراك الصوري والمادي، ولأولئك في التنازع المعنوي؛

لأن الإيراني كان أدهى من التركي في السياسة، وبهذا تمكنوا من إلقاء بذور

التشيع في قلوب الترك أنفسهم.

ثم دالت دويلة آل بويه، ولكن فكرة مجد كسرى ظلت باقية في أدمغة العجم،

فكانوا كلما سنحت لهم فرصة مناسبة، أو وجدوا بيئة موافقة يظهرون بمظهر ديني

مرتدين رداء نُصرة آل البيت النبوي الكريم.

هكذا كان الإسلام يتدحرج بين يدي العجم والترك.

فكرة إعادة مجد الفرس ظلت تنمو، وتكبر منذ زمان الفاروق الأعظم،

وقصَّت في طريق نموها أجنحة العرب، وبقيت مثابرة على غاياتها تركض خلف

بُغيتها، غير ملتفتةٍ إلى شيءٍ حتى عام 905؛ ففي تلك السنة أعلن إسماعيل

الصفوي رسميًّا مذهب الشيعة، وأعيد مجد كسرى فعلاً، فالبسطاء كانوا يظنون أن

المنتصر هو حزب آل البيت النبوي الكريم، والحال أن المنتصر كان ورثة كسرى [3]

والمغلوب ورثة عدنان (بل قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولغة

كتاب الله، فماذا استفاد آل الرسول عليهم السلام من اتخاذهم وسيلة لذلك

الملك؟ ، هل تحولت الإمامة إليهم، وصار أمر الدين والدنيا ثمة في أيديهم، وفقًا

لدعوة دعاة الفرس لهم؟ أم يُغنيهم عن ذلك سَبُّ أبي بكر وعمر وزيرَيْ جدهم،

وأعز أنصاره، وناشري دينه، ومؤسسي ملك شريعته وسبب هداية الفرس إلى

الإيمان به) .

ثم تكرر الاصطدام بين السنة والشيعة أي الحزبين الإسلاميين المتظاهرين

بنصرة مبدأ ديني، والحقيقة أن التصادم كان بين شعبين يريدان الاستفادة من غفلة

العرب لتوطيد نفوذهما السياسي، وهما الترك والفرس، وكانت العاقبة انتصار

الترك، إلا أن ظهور نوادر من بين الفرس مثل الشاه طهماسب والشاه عباس

والشاه نادر جعل الغلب دينيًّا فقط، وظل البناء السياسي قائمًا.

أكثر العارفين بدقائق الأمور في زماننا يرون أن علة تأخر كل من الترك

والفرس عن شوط الأوروبيين محصورة في هذا النزاع الهائل الذي شغل العنصرين

المسلمين مدةً طويلةً. فبينما كان الأوربيون يصلحون ما اختل من أمورهم العلمية،

والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية - كان المسلمون يقتل بعضهم بعضًا باسم

اختلاف عرضي، ثم سبق الترك الإيرانيين في الانتباه لوخامة هذا الاختلاف،

وطفقوا يقوِّمون ما اعوجَّ من أمورهم منذ عام 1254هـ، ثم تبعهم الإيرانيون بعد

مدة. ولكن الإصلاحات العصرية وجدت في الأناضول تربةً أخصب من تربة بلاد

إيران.

والحاصل أن الإيرانيين ناضلوا عن استقلالهم مدة لا تنقص عن ألف سنة

بأساليب مختلفة، وطرائق متنوعة أتعبوا بها الإسلام والمسلمين، وأتعبوا أنفسهم.

ولا يلوم المؤرخون ولا الاجتماعيون رجال العجم على ما فعلوه في سبيل

استعادة مجدهم، ولكن الطرق التي سلكوها كانت مضرة بالإسلام؛ لأن إلقاء بذور

التفرقة بين المسلمين، وتشتيت وحدتهم السياسية أنتج نتائج سيئة جدًّا، وعواقب

الحروب التي وقعت بين أهل السنة والشيعة لم تزل مؤثرة في حياة المسلمين

الاقتصادية والسياسية إلى يومنا هذا، ولا سيما الدماء التي سفكها الأخوان في

الإسلام، التي لو سُكبت في بحر الخزر لكفت لجعْله أحمرَ قانيًا، فهي - واأسفاه -

لم تكفِ لفتح عيون المسلمين وإراءتهم سوءَ نتائج الاختلافات المذهبية؛ ليرجعوا

عن أسبابها [4] .

...

...

...

حسني عبد الهادي

...

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ليعتبر العربي بهذا لكيْلا يُساق في سبيل مصالح الأجنبي، مخدوعًا بأنها مصلحته، فيخسر ما كان بيده، ولا يستفيد عِوضًا مما خسر شيئا، كما جرى في أثناء الحرب العالمية - حاشية للمترجم.

(2)

المترجم: كنت هنا أحب أن أبحث عن سر مراجعة المعتصم للترك دون العرب، لولا موانع منعتني لذلك أتركه لغيري.

(3)

حاشية للمترجم: لا أدري أين كان عقلاء العرب ودهاتهم عند ما كان الفرس والترك يتنازعون على سلطانهم بحجة المحافظة عليه؟ ! ، ويتبادر إلى الذهن أن تنازع الإنكليز والفرنسيس علينا اليوم بحجة ترقيتنا - يشبه ذلك التنازع حتى باسم الإسلام؛ فالإنكليز يزعمون أنهم يرقون العرب، وأهل البيت النبوي شرفاء مكة والفرنسيس يزعمون أنهم يؤيدون الترك محافظةً على سلطة الإسلام وخلافة النبي عليه الصلاة والسلام! .

(4)

المنار: نحمد الله أن أرانا ما لم يَرَهُ مؤلف الكتاب من يقظة المسلمين في هذه الأيام، وشروعهم في شد أواخي الإخاء والوحدة بين أهل السنة والشيعة عامةً، وبين الترك والفرس خاصةً، كما نوَّهنا بذلك من عهدٍ قريبٍ في تفسير قوله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء](الأنعام: 159) ، وأشرنا إليه بعد هذه المقالة في الكلام على (جمعية الرابطة الشرقية) .

ص: 212

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية الرابطة الشرقية

من سنن الله تعالى في (الاجتماع البشري) أن يتآلف الأفراد، والجماعات

من الناس، ويتعاونوا بقدر ما يكون بينهم من ضروب المشاركة في الصفات التي

تميزهم من غيرهم، وفي مرافق الحياة الخاصة بهم، كما هو مشاهَدٌ في تكوين

البيوت، والعشائر، والقبائل، والشعوب، وقد اتسعت في هذا العصر هذه

المشاركات حتى صارت الشعوب الكثيرة - التي تجمعها بقعةٌ كبيرةٌ كأقسام الأرض

المسماة بالقارات - تتحد، وتتعاون على ما هو خاص بها دون القارات الأخرى،

وبناءً على هذه السنة وضع مونرو قاعدة (أميركة للأميركيين) ونرى الأوربيين

من عهد بعيد يتعاونون فيما بينهم، متفقين على وضع سلطانهم على رقاب

الآسيويين، والإفريقيين، على ما بين دولهم من التعادي والتنازع في ذلك وفي

غيره، ثم إنهم لكثرة الروابط بينهم، وبين الممالك الأميركية قسموا العالم قسمين،

أطلقوا على أحدهما اسم (الغرب) ، ويعنون به أوربة وأميركا وعلى آخر اسم

(الشرق) ويعنون به آسيا وإفريقية، وهم يفضلون الغرب على الشرق، ويجتهدون

في جعله تحت سيطرته وسيادته في الحكم، وهذا خاص بأوربة، وفي الشئون

الاقتصادية، والأدبية، والدينية، وهذا مشترك بين الأوربيين، والأميركيين. وقد

ظل الشرقيون غافلين عن أنفسهم خاضعين للغربيين في كل ما يبغون منهم إلى هذا

العصر الذي تنبهت فيه الشعوب الشرقية إلى وجودها والخطر عليها.

وقد كانت الحرب الأخيرة أقوى المنبهات للشرقيين؛ إذ ظهر لهم أن الدول

الأوربية الظافرة تريد أن تقضي على بقية الدول الشرقية التي أنهكت قواها من قبل

بالحروب، وبالتدخل السياسي والاقتصادي، والعلمي، والديني، فشدت أواخي

التعاون السياسي بين الترك، والفرس، والأفغان، والروس، وغيرهم من شعوب

الشرق.

وفي أوائل هذا العام الهجري نبتت في مصر فكرة تأليف جمعية للتعارف

والتعاون العلمي والأدبي والاقتصادي بين الشعوب الشرقية، نبتت هذه الفكرة في

حفلة كرم فيها أحد وجهاء الإيرانيين في مصر كاتبًا أديبًا إيرانيًّا، أراد العودة إلى

بلاده. هذا الأديب هو عبد المحمد صاحب جريدة (جهرنما) الفارسية المصرية،

وذلك الوجيه هو ميرزا مهدي بك رفيع مشكي أمين التجار وقد أجاب الدعوة كثير

من كبار العلماء والأدباء والوجهاء من المصريين وغيرهم.

دُعيت إلى هذه الحفلة، فوافيتها بعد الشروع في الخطب، فدُعيت إلى

الخطابة؛ إذ كان اسمي مطبوعًا في البرنامج، فوقفت، فألقيت جملاً وجيزةً في

معنى الاحتفال، رجوت فيها أن يكون المحتفَل به رسول تعارفٍ وتآلفٍ بين البلاد

المصرية العربية التي أقام فيها عزيزًا كريمًا، وبين البلاد التي يريد السفر إليها

(وهي فارس والأفغان)، ثم قلت: لا أدري هل الموقف يسمح لي بحرية القول في

وجه الحاجة إلى هذا التعارف والتآلف، فصاح أحمد زكي باشا: نعم، كلنا طلاب

حرية، ولك أن تقول ما شئت، فحينئذٍ ذكرت أنني قريب عهدٍ بأوربة، وأنني

رأيت فيها جميع عقلاء الشعوب الشرقية يعقدون روابط التآلف فيما بينها عن شعور

بشدة الحاجة إلى ذلك، وأن مصر -على مكانتها العالية في بلاد الشرق - لا تزال

مقصرة في ذلك، وأفضت في ذلك بما أُلهمت من القول، ثم تبارى الخطباء في

ذلك، وكان أوسعهم فيه قولاً وطولاً أحمد زكي باشا والشيخ مصطفى القاياتي،

فأفضى ذلك إلى اقتراح تأليف لجنة لوضع مشروع جمعية، فتألفت اللجنة، ثم

شرعت تجتمع في دار السيد عبد الحميد البكري، فوضعت القانون الأساسي الآتي

مع مقدمته وهو:

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

إن مَن يتأمل في حالة الشرق، وما أصبحت عليه أُمَمُه، ويقارن ذلك بماضي

التاريخ - يدهش للانحطاط الذي وصلت إليه هذه الأمم، على ما كان لها - جُلها

إن لم يكن كلها - من التاريخ المجيد الحافل بدلائل العظمة.

قد يقول بعضهم: إن هذه سُنَّة الطبيعة، وإن حكم الأمم في ذلك حكم الأفراد:

تولد، وتشب، وتهرم، وتموت.

قول يبعث على اليأس !

ولكنَّ في حياة الأمم - ولا حد لحياتها - نواميس ترتقي بمقتضاها أو تنحط،

تبعًا للعوامل المؤثرة في كل حالة، فبتطوُّر الأمة منها بهذه العوامل قد ينتابها التحلل

الجزئي، ولكنها لا تموت، بل تستطيع - التي فقدت مجدها بعاملٍ من عوامل

الضعف الطارئة عليها - أن تسترد مكانتها الأولى بفضل عوامل القوة الكامنة فيها

إذا أحسنت استخدامها، وفي الإيمان بهذه القاعدة ما يبعث على الأمل {إِنَّ اللَّهَ لَا

يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .

وقد لوحظ - مع الأسف - أن الشرقي لا يزال قليل العلم بشئون بلاده التي

أعقبها إهماله الاهتمام بأحوال شعوبها، والعوامل المؤثرة فيها إلا قليلاً، على ما

بين الشرقيين عامةً - بالرغم من اختلاف الأجناس والعقائد واللغات - من الاشتراك

في كثيرٍ من المميزات، والصفات الخاصة بالشرق: من حيث التقاليد، والمدارك

ووجهة النظر الفلسفية في أمور الحياة، على أن كثيرًا من شعوبه متحدةٌ في الجنس،

أو العقيدة، أو اللغة، وكلهم مشتركون في المنافع، أو المصالح بحكم المجاورة،

أو المبادلة التجارية، أو غير ذلك من الأسباب. وهذه العوامل من شأنها أن تشرك

الجميع في الشعور بما يلمّ بهم عامة من أسباب الانحطاط وبما يصيب كل شعب

منهم خاصة من جراء ذلك. وقد بدت بوادر هذا الشعور في زماننا بالتضامن

الضمني أو الصريح بين بعض هذه الشعوب للتعاون على النهوض في سبيل الرقي

لخير العالم. ولما كان الغرب برقيه المادي والفكري متممًا للشرق، ولا غنى

لأحدهما عن الآخر، وإن اختلفت الأديان - أصبح من مصلحة الإنسانية أن يكونا

صديقين متضامنين في خدمتها، لا خَصمين عاملين على شقائها.

لهذا رئي أنه قد حان الوقت لتأليف جمعية شرقية يكون غرضها نشر علوم

الشرق وآدابه، والبحث في شئونه؛ للعمل على ترقية شعوبه، وتكوين صلة

تعارف بين أرباب الرأي والقلم منهم - على اختلاف أجناسهم - لتبادل الآراء

والمعلومات في هذه السبيل، ثم لتكون رسول سلام، وتعارف بين الأمم الشرقية

التي لها من سوابق تواريخها المجيدة، وحضاراتها القديمة، وتقاليدها القويمة

ومدارك أفرادها العالية، وموارد ثروتها الثمينة - ما تستطيع به أن يخدم بعضها

بعضًا، وأن تتضامن في سبيل إسعاد المجتمع الإنساني، وترقيته لخير جميع

الأجناس والأديان.

ولهذا الغرض تألفت بمصر القاهرة (جمعية الرابطة الشرقية) المسطَّر

قانونها بعد. وقد اختيرت مصر مركزًا لها لمكانة موقعها الجغرافي الخاص الذي

كانت به ملتقى الأمم من أهل المشرق والمغرب المارين بها أو المقيمين فيها. ومن

ثم كانت هي الواسطة بين الشرق والغرب.

وعولت الجمعية على الوصول إلى غرضها السلمي العمراني بالوسائل العلمية

العملية. وهي تقبل في عضويتها كل طالب من أهل الفكر والجاه يعمل على تحقيق

أغراضها بلا تمييز بين العقائد والأجناس.

وستجعل في مقدمة منهاجها دراسة جغرافية الشرق وتاريخه، وكذا علوم الأمم

الشرقية وآدابها وحضاراتها، والتنقيب عن عادياتها وآثارها، والبحث في علل

تقهقر هذه الأمم، وعقد المؤتمرات الدورية للنظر في وسائل رقيها الأدبي والمادي،

وتسهيل التعامل، وتبادل المنافع بينها، ثم التوفيق بين حضاراتها، وآدابها وبين

الحضارة الغربية، وآدابها بما تقتضيه مصلحة الوقت؛ لتوثيق روابط الوداد

والائتلاف بين الشرق والغرب.

والله المسئول أن يوفقها لما تريد وأن يؤيدها بروحٍ من عنده.

***

قانون جمعية الرابطة الشرقية

إن الموقعين على هذا قد نظروا فيما آلت إليه أحوال الأمم الشرقية من

التخاذل والانحطاط؛ فرأوا بعد البحث أن يسعوا إلى تلافي ذلك بتأسيس جمعية

علمية اجتماعية تقوم بترقية الأمم الشرقية: بالعلم الذي هو أساس كل فلاحٍ،

وبإحكام الروابط بين هذه الأمم، وبإحياء حضارة الشرق، وإرجاعه إلى فضائله،

مع الأخذ بما في مدنية الغرب من المحاسن التي لا تتنافر مع الروح الشرقية،

وذلك بمقتضى المواد الآتية:

(1)

أُلفت في القاهرة جمعية علمية اجتماعية باسم (جمعية الرابطة

الشرقية) .

(2)

شعار الجمعية: (الأرواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما

تناكر منها اختلف) .

(3)

غرض الجمعية: نشر المعارف والآداب والفنون الشرقية، وتعميمها

وتوسيع نطاقها، وتوثيق روابط التعارف، والتضامن بين الأمم الشرقية على

اختلاف أجناسها وأديانها.

(4)

يُشترط في أعضاء الجمعية أن يكونوا من أهل المكانة والجاه في

الشرق، أو من أهل الرأي في المصلحة العامة، أو من أرباب القلم في أي لغةٍ من

لغات الشرق، ويجب أن يكونوا من أولي الحرص والعمل على تحقيق غرض

الجمعية.

(5)

تتوسل الجمعية إلى غرضها بالوسائل العلمية، والاقتصادية، وتبث

دعوتها بالقلم واللسان، وتنشر ما ترى فيه المصلحة بأي لغة تراها.

(6)

تنشر الجمعية مجلة تتضمن محاضراتها، ومباحثها العلمية، والأدبية

والاقتصادية والأثرية، وتُحيي بواسطتها آثار السلف، وتدون فيها أيضًا ما ترى

منه فائدة لتحقيق غرضها.

(7)

المركز الرئيسي للجمعية مدينة القاهرة.

(8)

تكون للجمعية شُعب في كل قطر من الأقطار الشرقية، وللجنة

المركزية ولكل شعبة إنشاء ما تراه من الفروع في المدائن الداخلة في دائرتها.

(9)

يتألف مجلس إدارة الجمعية في القاهرة من: رئيس، ونائبي رئيس

وأمين صندوق وكاتب سر عام وثلاثة مساعدين (عربي وتركي وفارسي) ومن

سبعة أعضاء يُعينون بطريق الاقتراع السري، على أن يكون ثلاثة منهم من

الشرقيين غير المصريين.

(10)

يتخذ مجلس الإدارة من مركزه ناديًا للاجتماعات العامة، والخاصة،

ولإلقاء المحاضرات، ويدعو إليه، ويستقبل فيه الوافدين على ديار مصر من

كُبراء الشرقيين والمستشرقين وفضلائهم لإحكام روابط التعارف والتضامن.

(11)

تعقد الجمعية في كل ثلاث سنوات مؤتمرًا شرقيًّا عامًّا، يتألف

أعضاؤه من جميع الأمم التي ينتظم أفراد منها في سلك الرابطة الشرقية: لأجل

التعارف والتآلف، وتبادل الأفكار والمعارف، والبحث في الأعمال والوسائل التي

اتُّخِذت في المركز العام وفي سائر الشعب والفروع لتحقيق غرض الجمعية.

ويجوز عقد هذا المؤتمر بصفة فوق العادة إذا دعت الحاجة الماسة إلى ذلك.

(12)

يكون من أغراض المؤتمر الأساسية توحيد الاصطلاحات اللغوية

التي تقضي بها الأحوال العمرانية في هذا الزمان، وتوحيد الخط العربي، وترقيته

بين الشعوب التي تكتب به لغاتها، بحيث يكون وافيًا بالحاجات التي طرأت على

هذه الشعوب بعد تقريره على الحالة المعهودة للآن، والسعي لوضع وحدة

للمعاملات بين الأمم الشرقية من حيث النقود والموازين والمقاييس والمكاييل ونحو

ذلك من الأمور التي تزيد في أسباب التفاهم بين الأمم الشرقية، مما تدعو إليه

التجارة والتعامل وكل الأسباب الاقتصادية العامة.

(13)

على كل شعبة أن تقدم إلى المركز العام بالقاهرة تقريرًا سنويًّا في

خلاصة أعمالها، وهذه التقارير تُعرض على المؤتمر العام عند انعقاده.

(14)

ينعقد المؤتمر العام أول مرة بمدينة القاهرة في الموعد الذي يحدده

مجلس إدارة الجمعية، وقبل ختامه ينتدب لجنة من أقطار مختلفة لتقرير محل

الاجتماع التالي في عاصمة قطر آخر أو في مدينة من كبرى مدنه، وعلى هذا

السنن يكون كل اجتماع دواليك.

(15)

يكون لكل شعبة في كل قطر عقد مؤتمر محلي قبل المؤتمر العام

بستة أشهرٍ على الأقل، تبسط فيه ما يتعلق بشئون أمتها الخاصة، والمسائل التي

يجب عرضها على المؤتمر العام القادم، ولكل شعبة إصدار مجلة خاصة بها

لتحقيق غرض الرابطة في دائرة حدودها.

(16)

تفاصيل العمل بهذا القانون موكولة إلى مجلس إدارة الجمعية بمصر،

وكل شعبة مستقلة في وضع لائحتها الداخلية وإدارة أعمالها، بشرط أن لا تخرج

عن القواعد الأساسية المقررة في هذا القانون.

الأعضاء المؤسسون (مرتبة أسماؤهم على حروف الهجاء) :

أحمد زكي باشا

...

كاتب السر المؤقت

صالح جودت بك

عبد الحميد البكري (السيد)

الرئيس المؤقت

محجوب ثابت بك

...

(الدكتور)

محمد بخيت

...

... (الشيخ)

محمد التفتازاني الغنيمي

... (السيد)

محمد رشيد رضا (السيد)

طرابلس الشام

مهدي رفيع مشكي (ميرزا)

فارس

نور الدين مصطفى بك

... تركية

***

تأليف الجمعية بالفعل

بعد وضع المؤسسين لهذا القانون أُرسلت نسخ منه إلى مئين من أهل العلم

والأدب، ومن الوجهاء وطلب منهم أن يكتبوا إلى كاتب السر المؤقت (أحمد زكي

باشا) بالرغبة في الانتظام بسلك الجمعية مَن شاء منهم ذلك. ثم دُعي جميع مَن

أجاب الدعوة إلى الاجتماع في دار الرئيس المؤقت للجنة المؤسسة؛ ليبدو رأيهم

في القانون، وينتخبوا أعضاء مجلس الإدارة بأنهم هم الجمعية العامة.

وقد اجتمع عدد كثير بعد ظهر يوم الأحد 22 جُمادى الآخرة الماضي (19

فبراير) بدار صاحب السماحة الرئيس المؤقت، وكان في مقدمة الحاضرين

الأميران الجليلان يوسف كمال، وإسماعيل داود وافتتحت الجلسة بتلاوة آيات

الذكر الحكيم، ثم ألقى حضرة صاحب السماحة السيد البكري خطبةً افتتاحيةً نوه

فيها بفضل الشرق والشرقيين، وما كان لهم من المنزلة في الحكمة، والعلم،

والأدب، ثم أبان الغرض من الاجتماع ودعا الحاضرين إلى إقرار قانون الجمعية،

وانتخاب أعضاء مجلس الإدارة، وبعد المناقشة أقرت أغلبية الحاضرين القانون،

وشرع في الانتخاب بطريقة الاقتراع السري، ثم أُعلنت نتيجة الانتخاب في الجلسة،

وبُلغت بعد ذلك للصحف وهي:

صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري رئيس، وصاحب الفضيلة الشيخ

محمد بخيت نائب رئيس، وصاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا نائب رئيس

وأصحاب السعادة والعزة أحمد زكي باشا كاتب السر العام وميرزا مهدي بك رفيع

مشكي أمين التجار أمين الصندوق، والسيد محمد الغنيمي التفتازاني مساعد

عربي لكاتب السر العام، ونور الدين بك مصطفى مساعد تركي لكاتب السر العام،

ومحمد رضا قزويني أفندي ناصر التجار مساعد فارسي لكاتب السر العام،

وصالح جودت بك، والأستاذ الدكتور محجوب ثابت، وأحمد شفيق باشا والشيخ

مصطفى عبد الرازق، والأمير حبيب لطف الله، وأميل زيدان أفندي، والشيخ

عبد المحسن الكاظمي أعضاء.

_________

ص: 219

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العبر التاريخية

في أطوار المسألة المصرية

(2)

نشرنا تحت هذا العنوان في الجزء الأول نص البلاغ الرسمي الذي رفعه

عدلي باشا رئيس الوفد الرسمي المصري إلى السلطان بشأن مفاوضته مع الدولة

البريطانية في عاصمتها، وفيه ترجمة المذكرة التي وضعتها نظارة خارجيتها

لمشروع الاتفاق بينها وبين مصر، وترجمة رد الوفد المصري عليها، وعدم قبوله

إياها، وانقطاع المفاوضات بذلك.

ثم ترجمة البلاغ الذي أنهاه نائب ملك الإنكليز إلى سلطان مصر في شأن

تفسير مشروع نظارة الخارجية البريطانية وتأييده، وقفَّينا عليه بتعليقٍ وجيزٍ في

بيان سوء تأثير المشروع، وبلاغ نائب الملك في الأمة المصرية، ونفعه إياها

بإجماع الكلمة على رده، والاستمساك بالاستقلال التام للبلاد، حتى أشد الناس

مقاومة لسعد باشا وحزبه، ورغبة في الاتفاق مع الإنكليز.

وقد كنا نريد أن نكتب مقالاً مطولاً في تفنيد الشبهات البريطانية، وما فيها من

العبر لنا في مصر، والعراق، وسورية وسائر بلاد العرب التي يدب فيها دبيب

الدسائس البريطانية، والمطامع الاستعمارية، ولكن إجماع كلمة الأمة المصرية

على مقاومة المشروع البريطاني بكل شدة، وعدم الخنوع لما فيه من تهديد

الغطرسة، والعظمة، وشروعها في مقاطعة التجارة الإنكليزية، وكل ما هو

إنكليزي من الأشياء، والأناسِيّ، واغتيال الموظفين والجند عند الإمكان، وتعذر

تأليف وزارة تكون آلة للمستشارين، ونائب الملك في استمرار الإدارة السابقة - قد

حمل نائب الملك (لورد اللنبي) على السفر إلى عاصمة حكومته بأمرها ليطلعه

على حقيقة الحال في هذا القطر، وما يراه من وجوب الاعتراف باستقلال، وترك

إدارة البلاد لأهلها، مع قيود تُحفظ بها المصالح البريطانية فيها، فذهب يصحبه

اثنان من أعقل رجالهم في هذه الديار وهما: مستشار الداخلية الجنرال جلبرت

كليتون، ومستر إيمس مستشار الحقانية، فمكثا أيامًا قليلة في لندن، أقنعا فيها

الوزارة بوضع المشروع الآتي الذي جاء به، وهذا نص البلاغ الرسمي فيه:

***

الوثيقة الأولى

كتاب اللورد اللنبي إلى عظمة السلطان:

يا صاحب العظمة:

1-

أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل بعض

عبارات المذكرة التفسيرية التي قدمتها إلى عظمتكم في الثالث من شهر ديسمبر -

مذاهب تخالف أفكار الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف.

2-

ولقد يخال المرء مما نُشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرًا

من المصريين أُلقي في روعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نيتها

القائمة على التسامح، والعطف على الأمانيّ المصرية، وأنها تنوي الانتفاع

بمركزها الخاص بمصر لاستبقاء نظامٍ سياسيٍّ إداريٍّ لا يتفق، والحريات التي

وعدت بها.

3-

غير أنه لا شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل

إن الأساس الذي بُنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي

تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقةً أو حكمًا، وقد نصت المذكرة

على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به

البلاد المستقلة من مَيْزَات أهلية ومن مركز دولي.

4-

وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي

يلتئم مع حالة البلاد الحرة - فقد غاب عنهم أن إنجلترة إنما ألجأها إلى ذلك حرصها

على سلامة نفسها تلقاء حالة تطلب منها أشد الحذر، خصوصًا فيما يتعلق بتوزيع

القوات العسكرية. على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولا يلبث

كذلك أن يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن

الأحوال العالمية صائرة إلى التحسن، هذا من جانب [1] ، ومن جانب آخر، فكما قيل

في المذكرة: (سيجيء وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تقدمه هي

من الضمانات المصرية لصيانة المصالح الأجنبية) .

5-

أما أن تكون إنجلترة راغبة في التدخل في إدارة مصر الداخلية فذلك ما

قالت فيه الحكومة البريطانية ولا تزال تقول: إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن

تترك للمصريين إدارة شئونهم. ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق - الذي عرضته

بريطانيا العظمى - عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين

لوزارتي المالية والحقانية فإن الحكومة البريطانية لم ترمِ بذلك إلى استخدامهما

لتتدخل في شئون مصر، وكل ما قصدته هو أن تستبقي إدارة اتصال تستدعيها

حماية المصالح الأجنبية.

6-

هذا هو كل مرمى الضمانات البريطانية، ولم تصدر هذه الضمانات قط

عن رغبة في الحيلولة بين مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.

7-

فإذا كانت هذه هي نية إنجلترة فلا يمكن لأحدٍ أن ينكر أن إنجلترة يعزُّ

عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمحًا

ترغب فيه إنجلترة كما تَتُوقُ إليه مصر، أو أن يُنكر أنها تكره أن ترى نفسها

مضطرة إلى التدخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب،

ويجعل مصالح الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون

في التدابير الاستثنائية - التي اتُّخِذت أخيرًا - أي مساسٍ بمطمحهم الأَسْمى، أو أية

دلالة على تغيير القاعدة السياسية التي سبق بيانها، فإن الحكومة البريطانية لم يعد

غرضها أن تضع حدًّا لتهييج ضار، قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج

تذهب بثمرة الجهود القومية المصرية؛ ولذلك كان الذي رُوعي بوجهٍ خاصٍّ - فيما

اتُّخِذ من التدابير - مصلحة القضية المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري

في جو قائم على الهدوء والمناقشة بإخلاص.

8-

والآن وقد بدأت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكومة التي

هي قوام الخلق المصري، والتي تتغلب في الساعات الحاسمة - فإنني لَسعيد أن

أنهي إلى عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار

التصريح الملحق بهذا، وإنني على يقين بأن هذا التصريح يُوجِد حالة تسود فيها

الثقة المتبادلة، ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلاًّ نهائيًّا مُرضيًا.

9-

وليس ثمَّت ما يمنع الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل

لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر.

10-

أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف، والرقابة على السياسة والإدارة

في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية - فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم وإلى

الشعب المصري. وإذا أبطأ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار

الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر،

والذي أشير إليه في التصريح الملحق بهذا - فإنني أود أن أحيط عظمتكم علمًا

بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في 2 نوفمبر سنة 1914 سأكون على

استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحرية المصريين

في التمتع بحقوقهم السياسية.

11-

فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليرجى أنها وقد عرفت مبلغ حسن استعداد

الحكومة البريطانية ونيتها - أن تسترشد في أمرها بالعقل، والروية، لا بعامل

الأهواء.

ولي مزيد الشرف أن أكون الخادم المطيع.

...

...

...

...

اللنبي فيلد مارشال

القاهرة في 28 فبراير سنة 1922

***

الوثيقة الثانية

مرفوعة من لدن فخامة المندوب السامي إلى عظمة سلطان مصر باسم تصريح لمصر:

بما أن حكومة جلالة الملك - عملاً بنيتها التي جاهرت بها - ترغب في

الحال في الاعتراف بمصر دولةً مستقلةً ذات سيادة.

وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية

للإمبراطورية البريطانية، فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية:

1-

انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات

سيادة.

2-

حالما تُصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات (إقرار الإجراءات

التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) نافذ الفعل على جميع ساكني مصر - تُلغَى

الأحكام العرفية التي أُعلنت في 2 نوفمبر سنة 1914.

3-

إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة

الملك، وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات

ودية غير مقيدة بين الفريقين - تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي

هذه الأمور وهي:

(أ) تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر.

(ب) الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو الواسطة.

(ج) حماية المصالح الأجنبية في مصر و (حماية الأقليات) .

(د) السودان.

وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحال - فيما يتعلق بهذه الأمور - على ما هي

عليه الآن.

***

تأليف الوزارة الجديدة

أمر كريم نمرة 13 لسنة 1922

صادر لحضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا:

عزيزي عبد الخالق ثروت باشا:

إن القرار الذي أبلغَنَا إياه حضرة صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة

بريطانيا العظمى، فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر، وبالاعتراف

بها دولة مستقلة ذات سيادةٍ - يحقق أعز أمنية لنا، ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة

الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن

استمساك الأمة بروابط الوئام، والاتحاد، والتزامها جانبَ الحكمة في هذا الدور

الجديد من حياتها السياسية - كفيلٌ بتحقيق كامل أمانيها.

ونظرًا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا

من الثقة التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور؛

اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه سند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة

الجليلة - لعهدتكم. وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة

يكون من بينها وزير للخارجية، وعرْض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي

به.

ولما كان من أَجَلَّ رغباتنا أن يكون للبلاد نظامٌ دستوريٌّ يحقق التعاون بين

الأمة، والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تُعنَى به الوزارة إعداد مشروع ذلك

النظام.

وإنَّا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا

ورعايانا بالخير والسعادة، وهو المستعان.

...

...

...

...

... الإمضاء

...

...

...

...

... فؤاد

صدر بسراي عابدين في 2 رجب سنة 1340 - أول مارس سنة 1922.

***

برنامج الوزارة

يا صاحب العظمة:

أتقدم إلى سدَّة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلت فأوليْتَنِي من الثقة السامية؛

إذ عهدت إليَّ بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهت لي رتبة الرئاسة الجليلة.

وإني لأتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم

هيئة الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل وهم:

إسماعيل صدقي باشا

...

لوزارة المالية

وإبراهيم فتحي باشا

...

وزارة الحربية والبحرية

وجعفر والي باشا

...

لوزارة الأوقاف

ومصطفى ماهر باشا

لوزارة المعارف العمومية

ومحمد شكري باشا

...

لوزارة الزراعة

ومصطفى فتحي باشا

...

لوزارة الحقانية

وحسين واصف باشا

...

لوزارة الأشغال العمومية

وواصف سميكة بك

...

لوزارة المواصلات

وقد احتفظت بوزارتي الداخلية والخارجية.

فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان - لدى عظمتكم - يصدر المرسوم

العالي بالتصديق عليه.

يا صاحب العظمة:

لم يكن لزملائي ولي - ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال - إلا أن نقر

الوفد الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل،

فلم يكن يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ التي تسترشد الحكومة

البريطانية في سياستها نحو مصر - هي تلك التي كانت تظهر من مشروع 10

نوفمبر من العام الماضي، ومن المذكرة التفسيرية التي تلته، فإن تولِّي الحكم في

ظل مثل هذه المبادئ قد يكون فيه معنى القبول بها.

غير أن الكتاب الذي رفعه فخامة المندوب السامي البريطاني إلى عظمتكم،

وتصريح الحكومة البريطانية في البرلمان - قد أحدثا في الحالة تغييرًا كبيرًا،

فأصبح من الممكن أن تتألف هذه الوزارة؛ إذ إنها ترى أن الشعور القومي أصاب

ترضية من هاتين الوثيقتين، لا من ناحية الاعتراف باستقلال مصر حالاً، وقبل

أي اتفاق فحسب، بل ولأن المفاوضات المقبلة ستكون حرة غير مقيدة بأي تعهد

سابق.

أما وقد جزنا هذا الدور بخير فلم يبق على مصر إلا أن تُثبت لبريطانيا

العظمى أن ليس بها في سبيل حماية مصالحها من حاجة للتشدد في طلب ضمانات

قد يكون فيها مساس باستقلالنا، وأن خير الضمانات في هذا الصدد، وأجلَّها أثرًا

هي حسن نية مصر، ومصلحتها في حفظ العهود.

على أن الوزارة ترى أنه لكي تكون جهود البلاد في سبيل تحقيق كامل أمانيها

بحيث تؤتي جميع ثمرها - يجب أن يؤلف بين عمل الحكومة، وبين عمل هيئة

تنوب عن الأمة، وأن تسعى الهيئتان متساندتين لأغراضٍ متحدةٍ.

ولذلك فإن [2] الوزارة - عملاً بأوامر عظمتكم - ستأخذ في الحال في إعداد

مشروع دستور طبقًا لمبادئ القانون العام الحديث، وسيقرر هذا الدستور مبدأ

المسئولية الوزارية، ويكون بذلك للهيئة النيابية حق الإشراف على العمل السياسي

المقبل.

وغني عن البيان أن إنفاذ هذا الدستور يقتضي إلغاء الأحكام العرفية، وأنه

على أي حال يجب أن تجري الانتخابات في أحوال عادية، وفي ظل نظام تمتنع

معه جميع التدابير الاستثنائية، وقد سَلَّمَتْ بهذا الوثيقتان اللتان أُبلغتا أخيرًا إلى

عظمتكم، وستتخذ الوزارة - بلا إمهال - ما يدعو إليه الأمر في ذلك من التدابير،

كما أنها ستبذل جهدها اعتمادًا على حُسن موقف الأمة في الحصول على الرجوع

فيما اتُّخِذ من التدابير المقيدة للحرية عملاً بالأحكام العرفية.

هذا، وإن إعادة منصب وزير الخارجية سيعين على العمل لتحقيق التمثيل

السياسي والقنصلي لمصر في الخارج.

ونظرًا لأن النظام الإداري الحالي لا يتفق مع النظام السياسي الجديد، ومع

الأنظمة الديموقراطية التي ستمنحها البلاد - فإن الوزارة قد اعتزمت أن تتولى

الأمر بنفسها، وبلا شريك في الحكم الذي ستتحمل كل مسئوليته أمام الهيئة النيابية

المصرية، وسيكون رائدها في إدارة شئون الأمة توجيهها إلى المصلحة القومية

دون غيرها.

والوزارة موقنة بأن أكبر عامل لنجاح مصر في تسوية المسائل التي بقي حلها

وأقوى حجة تستعين بها في تأييد وجهة نظرها - هو أن تُقبِل على هذا الدور الجديد

متحدة الكلمة مؤلفة القلوب، وأن تأخذ بدواعي النظام وتلتزم جانب الحكمة.

والوزارة تحيي العصر الجديد الذي كان لعظمتكم أجلّ أثر في طلوعه على

الأمة بفضل ما بذلته عظمتكم من المساعي الوطنية العالية، وهي واثقةٌ أن ستلقى

من لدن عظمتكم كل تأييد في عمل الغد، وإنها لَترجُو أن يجيء مكلّلاً لمجهود البلاد.

وإني لا أزال لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين.

...

...

...

... عبد الخالق ثروت

القاهرة في 2 رجب سنة 1340 (أول مارس سنة 1922)

***

المرسوم السلطاني بتأليف الوزارة

نحن سلطان مصر

بعد الاطلاع على الأمر الكريم الصادر في 21 سبتمبر سنة 1879، وبعد

الاطلاع على أمرنا الكريم الصادر في 2 رجب سنة 1340 (أول مارس سنة

1922) وبناءً على ما عرضه علينا رئيس مجلس الوزراء - رسمنا ما هو آتٍ:

المادة الأولى:

عُين عبد الخالق ثروت باشا

... وزيرًا للداخلية والخارجية

إسماعيل صدقي باشا

...

... وزيرًا للمالية

إبراهيم فتحي باشا

...

... وزيرًا للحربية والبحرية

جعفر باشا والي

...

...

وزيرًا للأوقاف

مصطفى ماهر باشا

...

... وزيرًا للمعارف العمومية

محمد شكري باشا

...

... وزيرًا للزراعة

مصطفى فتحي باشا

...

... وزيرًا للحقانية

حسين واصف باشا

...

... وزيرًا للأشغال العمومية

واصف سميكة بك

...

... وزيرًا للمواصلات

المادة الثانية: على رئيس مجلس وزرائنا تنفيذ مرسومنا هذا.

صدر بسراي عابدين في 2 رجب سنة 1340 - أول مارس سنة 1922 (فؤ اد)

بأمر الحضرة السلطانية رئيس مجلس الوزراء (ثروت)

(المنار)

هذا ما نشرته الحكومة في الصحف، وعُلم مما نشر قبله أنه كان نتيجة لسعي

جماعة رشدي باشا، وعدلي باشا، ولكن الذي تولى العمل وظهر به في هذه الكَرَّة

عبد الخالق ثروت باشا؛ فهو الذي أخذ على عاتقه مواصلة المفاوضة مع اللورد

اللنبي في أمر تأليف وزارة بالشروط التي يقترحها مغتنمًا فرصة فشل الإنكليز في

تأليف وزارة يتخذونها آلة لإدارة البلاد كدأبهم منذ تمكنوا في أرض مصر،

وما زالت المساومة في ذلك دائرة بين القاهرة، ولندن؛ حتى انتهت بما ذكرنا في

مقدمة هذه البلاغات الرسمية من سفر اللورد اللنبي إلى لندن، وعودته بهذا

المشروع، وعلم بذلك أن ثروت باشا ذو شجاعة أدبية يقل مثله فيها، كما أنه ذو

ذكاء وفطنة نافذة، وقد انبرى لهذا العمل وهو يعلم أن المعارضين يكيدون له،

ويستعدون لاغتياله، وقد شرعوا في ذلك بالفعل؛ فأنجاه الله من الموت، واكتُشِفت

الجمعية التي تواطأت على ذلك، وحاولته وحُكم على بعض أفرادها بعقاب شديد.

هذا، وإن الأمة قد قابلت هذا التصريح البريطاني بإلغاء الحماية على مصر،

والاعتراف باستقلالها التام، وتأليف الوزارة - بفتور ونفور، وعدّوه خداعًا

بريطانيًّا، وإن لم يشترط على مصر أن تعترف لهم في مقابلته بحق من الحقوق؛

ذلك بأنه تم على أيدي أصدقاء الإنكليز، وبأنهم أخرجوا سعد باشا، وبعض بطانته

وأنصاره من البلاد، ووضعوهم في جزيرةٍ صغيرةٍ في أقصى البحار، وبأن

الاحتلال العسكري باقٍ، والحكم العرفي باقٍ، وبأن ما حفظوه لأنفسهم من الحقوق

مثار لأخطارٍ كثيرةٍ، ولا سيما مسألة السودان. وسنذكر في جزء آخر ما فيه العبرة

من الأنباء والآراء في هذا الطور الجديد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قوله: (هذا من جانب) إلخ - تركيب غير صحيح في اللغة.

(2)

هذا التعبير يكثر في الجرائد وكتب أهل هذا العصر، وهو خطأ، وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وفاء السببية تقدَّم على لام التعليل إذا اُحتِيجَ إليهما معًا.

ص: 226

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة السورية الثانية

(9)

جريت فيما كتبت من هذه الرحلة على طريقة بيان أحوال سورية الاجتماعية،

والأدبية، والسياسية في هذا الطور الجديد الذي دخلت فيه بعد الحرب لا على

طريقة بيان تنقُّلي في البلاد بتواريخه، وذكر المشاهدات، وما يتبعها من الآراء

تبعًا له كما اعتاد المؤرخون. وقد كان كل ما كتبته من فصول الرحلة بيانًا لما فيه

الفائدة مما رأيت، وخبرت، وجرى لي في الساحل مدة إقامتي فيه مترددًا بين

بيروت، وطرابلس، وأخَّرت الكلام على دمشق، وما يتبعها عمدًا، وكنت عازمًا

على إطالة الكلام في شأنها. وقد بدا لي الآن أن أختصر لما كان من التراخي في

كتابة الرحلة ونشرها، ولأنني ذكرت بعض ما حدث في الشام بعد ذلك في بعض

المقالات التي قضت الحال ببيان بعض حقائق المسألة العربية فيها، وكان موضعها

اللائق بها الرحلة لولا الضرورة فأقول:

الحال العامة بدمشق في سنتي 1337 و 1338:

قد علم من النبذة الثانية من هذه الرحلة التي نشرت في المجلد الحادي

والعشرين (ص 428) أن وصولي إلى دمشق كان (في 19 ذي الحجة سنة

1337 -

14 سبتمبر سنة 1919) وأنه اتفق أن أعلن عقبه كل من إنكلترة

وفرنسة أنهما اتفقتا نهائيًّا على تنفيذ معاهدة (سايكس، وبيكو) المعروفة باتفاق

سنة 1916، وأن إنكلترة ستُخرج جنودها من المنطقتين الشرقية، والغربية من

سورية، وتترك الأولى للجيش العربي الحجازي، والثانية للجيش الفرنسي، وأن

أهل سورية عامةً كانوا يظنون قبل هذا الإعلان أن الدولتين الحليفتين عدلتا عن

تنفيذ هذا الاتفاق لما رأوه من تنازع سياستيهما أثناء مجيء اللجنة الأميركية لاستفتاء

أهل البلاد. وكنت بينت في تلك النبذة أن الناس أحفوني بالسؤال عن سبب هذا

الانقلاب وذكرت فيها ملخص جوابي لأهل الرأي منهم، ولكن المراقبة على

المطبوعات بمصر - في ذلك العهد - منعت نشر ذلك كله، وإنما نشر منه بعض

المقدمات فكان الكلام أبتر غير مفيدٍ، ولم أعلم بذلك إلا عند مراجعته الآن،

وسألخص ما حُذف منه في موضعه.

لقد كان الغرور بخديعة الإنكليز للسوريين، وغيرهم من العرب في أثناء

الحرب بأن استقلالهم سيكون مكفولاً بانتصار الحلفاء في الحرب بما بينهم، وبين

ملك الحجاز من العهود والحلف، فلما جلا الترك عن سورية، وكان أول مَن دخلها

الأمير فيصل بجنده المؤلف من السوريين، والعراقيين، والحجازيين - اعتقدوا أن

الاستقلال قد تم، والسلطنة العربية قد تم أمرها، ونصب عرشها، ولم يكن نزع

العلم العربي من بيروت، وغيرها من السواحل - ولا خطب سايكس وبيكو

الخادعة، ولا استيلاء السلطة العسكرية الفرنسية في الساحل على الإدارة - بذاهبٍ

بذلك الوهم الخادع، وقد ألممنا بشيءٍ من هذا المعنى في الفصلين السادس والسابع

من الرحلة، ومنه يُعلم أن الريب دبَّ دبيبه إلى أهل الساحل، ثم انتشر فيهم أولاً

بتأثير السلطة الفرنسية المحتلة.

نعم، إن الأذكياء في دمشق قد اضطربوا لإعلان الدولتين الاتفاق على تنفيذ

اتفاق (سايكس وبيكو) ، وكانوا قد عرفوا حقيقته؛ ولذلك كثر سؤالهم إياي عن

رأيي فيه وهل يعقل أن تنقلب سياسة إنكلترة بهذه السرعة، فتسمح بسورية

لفرنسة؟! وقد ذكر في النبذة الثانية من جوابي لهم أن السياسة البريطانية لم تتغير

في المسألة وليس لعاقلٍ أن يظن أنها تفضل العرب على فرنسة، وإنما عرض

لفرنسة أمل بأخذ سورية كلها بحجة إجماع السوريين على وحدة البلاد، وعدم

تقسيمها. وأما بقية الجواب - الذي منعت المراقبة نشره يومئذٍ - فهو أن إنكلترة

لما شعرت بهذا الطمع من فرنسة استعانت بالأمير فيصل وحزبه على نبذ السواد

الأعظم من أهل المناطق السورية الثلاث للانتداب الفرنسي، والمساعدة الفرنسية

وقد تم هذا وظهر باستفتاء اللجنة الأميركية لأهل البلاد. وغرض إنكلترة من

ذلك أن تُعلم فرنسة أنها إذا شذت عن الاتفاق معها وحاولت أخذ فلسطين بحجة

اتفاق الأهالي على طلب وحدة البلاد - فإنها هي قادرة على حرمانها من كل

شيءٍ برأي أهل البلاد الذي جعل له الاعتبار الأول في عهد عصبة الأمم! ، فلما

رأت فرنسة ذلك قنعت بنصيبها في اتفاق سايكس وبيكو، حتى بعد تعديله بما

هو في مصلحة الإنكليز.

مع هذا كان أهل المنطقة الشرقية عامةً، وأهل دمشق خاصة يظنون أن

استقلال منطقتهم مضمون، فإن فاتهم إلحاق المنطقتين الأخريين بهم فلن يفوتهم

التمتع بالسلطان القومي في منطقتهم. وازداد شعورهم قوة بهذا بعد جلاء الجيش

البريطاني وما تلاه من ترك المراقبة على الحكومة، وإن كانت لا تزال عسكريةً

تابعةً للقائد العام للجيوش البريطانية.

كانت مظاهر هذا الشعور بالاستقلال تبعث في أنفس الشعب السرور وتقوي

الآمال؛ فقد صارت دواوين الحكومة ومصالحها عربية والتعليم في المدارس

الرسمية كغيرها بالعربية، وتلاميذ المدارس كانوا يتعلمون أناشيد الاستقلال،

فيترنمون بها صباح مساء، وكانت البرقيات المبشرات، والمسكنات ترِد على

الحكومة من الأمير فيصل أو من مندوبه النائب عنه لدى الحلفاء وفي مؤتمراتهم

(أحمد رستم بك حيدر) وكانت الاجتماعات، والمظاهرات حرة تنفخ في هذه

الأماني روحًا حيًّا، كل ذلك كان يبعث السرور في كل نفس لم تستشف شيئًا مما

وراءه، حتى إن سليم بك شاهين أحد أصحاب (المقطم) قال لي في بيروت:

إنني أقمت في دمشق يومًا واحدًا، فبُعث فيَّ روح حياة عربية، ووطنية جديدة،

ولا أرى هنا إلا أمارات الذل والموت التي تبعث الحزن والأسَى!

لقد كنت أعلم ما لا يعلم أهل وطني من نية الحلفاء فيهم، وتواطُئِهم على

بلادهم، ومن بناء عهودهم على الدخل، ووعودهم على الغش، وأنهم إذا وفوا

لملك الحجاز بما وعدوه به ولو على الوجه الذي طلبه منهم فيما يسميه (مقررات

النهضة) - لم تكن البلاد العربية، ولا الحجاز منها إلا مستعبَدة تحت نير السلطة

الأجنبية؛ فلهذا لم أكن أشعر بشيءٍ مما يشعر به الجمهور من السرور، المنبعث

عن الغرور، وإنما كنت أعتقد أن الأمة لا يزال يمكنها أن تعمل لاستقلالها عملاً

تضطر الطامعين إلى احترامه، إذا وجد فيها عدد من الرجال الأَكْفَاء، وهذا ما

كنت أبديه، وأعيده للسائلين، ولا سيما مَن هم مظنة العمل من الإخوان، حتى بعد

أن تم ما سعيت إليه معهم من إعلان الاستقلال، فإنني لم أكن أعده إلا تقويةً لحرية

العمل بإخراج الحكومة من مضيق العسكرية التابعة للقيادة البريطانية إلى فضاء

الحرية الوطنية، لتكوين قوة من الجند المنظم، ومن العشائر، والقبائل التي يمكن

تنظيمها لتوطيد الأمن والنظام، وإقامة الحجة المحترمة لدى الحلفاء على القدرة

على الاستقلال، وهذا ما كنت أبغيه، وأسعى إليه، ولم يوجد في رجال الحكومة

مَن هو أهل للنهوض به؛ ولذلك كان لساني صامتًا في كل تلك الاحتفالات العظيمة

التي أقامتها الحكومة، وكذا الشعب، فلم أخطب في شيءٍ منها على ما كان من

الإلحاح عليَّ في كل احتفال بطلب ذلك، وإنني أذكر مسألة صرحت فيها برأيي

بعدم الثقة بحالة البلاد قبل إعلان الاستقلال، وهي:

دعوتي إلى تَوَلِّي المصالح الشرعية بدمشق:

لم أكد أستريح في دمشق من لقاء وفود الزائرين حتى كاشفني الحاكم العسكري

العام (علي رضا باشا الركابي) بما يرغبون أن ينيطوه بي من مساعدة الحكومة

العربية، وهو تولي إصلاح (دوائر الأمور الشرعية، ففي يوم الأحد 26 ذي

الحجة (21 سبتمبر) ، وعدني بأن يزورني زيارة خاصة للمذاكرة والاستشارة في

شؤون الحكومة، وما يطلب من مساعدتي لها وفي اليوم التالي أعاد الكلام معي فيما

يبغيه من تقليدي إدارة الأمور الشرعية وهي الأوقاف والمحاكم الشرعية، والتعليم

الديني، والمفتين، وقال: إنه طلبني من الإنكليز خمس مرات وكان يظن أن

الامتناع مني، فأخبرته بأن الإنكليزية لم تخاطبني بذلك ألبتة، وأنه لم يصل إليَّ

منه إلا الكتاب الذي أرسله في ضمن مكتوبات الحكومة لمندوبها التجاري بمصر

الدكتور بشير القصار، وذكَّرته بما كتبته إليه في الجواب عنه، وهو أنني مستعد

لمساعدة الحكومة العربية بكل ما أستطيعه بشرط أن لا أتقيد بعمل رسمي، وذكرت

مشربي، وتربيتي الصوفية التي بسببها وطنت نفسي على أن لا أقبل وظيفة، ولا

عملاً للحكومة، ولا رتبة، ولا وسامًا طول عمري

ثم قلت له - بعد محاورةٍ

طويلةٍ -: ضع لي مذكرة بالعمل؛ لأرى رأيي فيه.

وفي يوم الخميس (30 ذي الحجة) أخبرني أن المشروع الذي تضعه

الحكومة لإدارة الأمور الشرعية يتم يوم السبت الآتي، ويقدمه لي، وأنه كان كلم

فيه الأميرَ فيصلاً قبل سفره إلى أوربة، فوافق هو ونائبه الأمير زيد على نوطه بي؛

فاعتذرت بمشربي الخاص، وبالموانع العامة الأخرى وهي سوء حالة البلاد

الداخلية والخارجية، وعدم استقرار الحال السياسية؛ إذ البلاد لا تزال - بحسب

القانون الدولي - تابعة للدولة العثمانية، والمستقبل مجهول، ثم بضعف الحكومة

والإمارة وبأن الإصلاح الصحيح يلقَى معارضة قوية من أهل الأهواء الذين

يرتزقون بهذه المصالح الشرعية، فإذا لم يكن للمصلح ركنٌ شديدٌ من قوة الحكومة

لا يستطيع عملاً، فاعترف بذلك وقال: إنه هو الحجة التي يستند إليها في وجوب

وجود مثلي، وإنني سأكون حرًّا في عملي، وإن الإصلاح الذي تبغيه البلاد مني لا

يتم إلا بالقيام به بنفسي؛ لأن الإرشاد بالقول والكتابة لا ينفع إلا إذا وُجد رجال

أَكْفَاء يقدرون على العمل به، وهم غير موجودين، (قال) : يجب أن تستفيد بلادك

من علمك الواسع، واختبارك الدقيق مدة إقامتك بمصر بتطور البلاد المصرية،

وارتقاء الإدارة والنظام فيها. وإن ما نعلمه فيك من الغيرة وحب الإصلاح يحملنا

على الاعتقاد بأن لا يخيب أمل وطنك فيك.

وفي يوم السبت (2 المحرم سنة 1338) زارني الأمير زيد في الفندق بعد

العصر، ودار الكلام بيننا في حالتنا العامة، فذكرت له ملخص ما أعلم من اتفاق

والده مع الإنكليز، وأنه ينافي مصلحة العرب. ثم انتقلنا إلى الكلام في سورية،

فكلمني الأمير في شدة حاجة الحكومة إلى مساعدتي لها، فاعتذرت له بمثل ما

اعتذرت لعلي رضا باشا، فأجاب بمثل جوابه، ومما قاله إن الأخلاق في الشام

ضعيفة جدًّا؛ فإن أكبر الرجال يرهبه أقل تخويفٍ، ويستميله أقل نفعٍ، فإذا لم

ينهض مثلك

بالإصلاح فمَن؟ !

فقلت له: إن حجتكم عليَّ، وإن كانت عندي ضعيفة من حيث مبالغتكم في

حسن الظن بي - هي أقوى من حجتي عليكم بالتنصل من العمل، وإنني على

علمي بضعفي لا أرتاب في قوة إخلاصي، وحرصي على الإصلاح لذاته، ولكن

الإصلاح العام يعوزه الأعوان الأكفاء علمًا، ونزاهةً، وإخلاصًا، وهم قليلون

متفرقون، وسأفاوض مَن أثق به منهم قولاً وكتابة، ثم أبني على ذلك ما يتجدد من

الرأي، ولا أعد الآن بشيءٍ.

وسألني هل أحضر الأسرة، وأنقل عملي من مصر إلى الشام؟ فقلت: إن

قبلت المُكْث الآن في الشام للمساعدة، فلا يمكنني أن أنقل أسرتي لما يقتضيه نقلها

من النفقة الكثيرة، والخسارة التي لا يسمح بها لمكث مؤقت، ومركزنا في مصر

ثابت لا يمكن التفريط فيه، فلا بد من إبقائه على حاله حتى يستقر الأمر في الشام

على أساسٍ ثابتٍ. فأقرني على ذلك وجاءته - وهو عندي - برقية من أخيه الأمير

فيصل يؤكد فيها وجوب السكينة في البلاد؛ إذ علموا أن الأهالي في اضطراب من

جرَّاء الاتفاق بين الإنكليز والفرنسيس.

وفي هذا اليوم أعطاني علي رضا باشا المذكرة التي وضعها لإدارة الأمور

الشرعية، وهي خاصة بالإدارة والعاملين فيها - إدارة المدير العام - ومحكمة

التمييز الشرعية ولجنة التوجيه والانتخاب والامتحان والتدقيق والمعاهد والمدارس

الدينية وإدارة الأوقاف العامة وقلم الرسائل ويلي ذلك الأمور المالية لهذه الإدارات.

ومن هذه القضية يُعلم رأيي في حالة البلاد وحكومتها في سورية، على حين

كان الوجهاء والمتعلمون يعتقدون أن لها دولة ثابتة يتهافتون على مناصبها ووظائفها،

وقد كان التزاحم على إدارة الأمور الشرعية بعد مجيء الأمير فيصل، وبعد إعلان

الاستقلال أعظم، والتزاحم أشد، وكان كثيرٌ من العلماء يختلفون إليَّ للبحث فيها،

وقد كتبوا لي زهاء أربعين اسمًا، قالوا: إنهم على رأيٍ واحدٍ في أن يكونوا أنصارًا

لي، ولا يذعنون في رئاسة الأمور العلمية لغيري فكان ذلك مما زادني فيها زهدًا،

وعنها بُعدًا، وذكرت لهم رأيي ومشربي، كما ذكرته للملك فيصل بمناسبة ذكر هذه

المسألة، وانتهى الأمر فيها - بعد الاستقلال وتأليف الوزارة - إلى إحداث وظيفة

مدير للعلمية، ليس له شأن في الأوقاف، ولا المحاكم الشرعية!

(للرحلة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 235

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(س 12 - 17) أسئلة من الأستاذ صاحب الإمضاء في سمادون (المنوفية)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله ومَن

تبعه بإحسان إلى يوم الدين: من طالب الإرشاد صاحب الإمضاء إلى حضرة

صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا محرر المنار، سلام عليكم، أما بعد:

فأرجو الإفادة التامة الموضحة بالأدلة القطعية على الأسئلة الآتية، لا زلتم

محط رحال السائلين، وناطقًا بالصواب ومُعْليًا شأن الإسلام والمسلمين.

ونص الأسئلة هو: (1) ما سبب التعارض الواقع في كتب المذاهب الأربعة

عند الكلام على تعدد الجمعة من حيث جوازه ومنعه؟ ، فمثلاً رُوي في كتب

الشافعية أن مذهب الإمام الذي نص عليه هو منع التعدد مطلقًا، وقول بالجواز

مطلقًا. ولم أَرَ الأخير إلا في كتابٍ صغيرٍ اسمه (مرقاة الصعود) للشيخ نووي،

مع خلو الكتب الواسعة منه، وهي أقوال ظاهرة التناقض. وقد ورد في كتب

المالكية أن للإمام مالك قولاً واحدًا وهو المنع، ثم إذا قرأت في كتبهم تجد ما

يقتضي قولهم بجواز التعدد بشرط الحاجة، ثم بالجواز المطلق. ومثل ذلك في كتب

الحنبلية وفي كتب الحنفية أن للإمام ثلاثة أقوال ويذكرون القول بالمنع، وروايتين

في الجواز إنما يفيدان الجواز بشرط الحاجة، ثم يذكرون القول بالجواز المطلق،

وأن عليه الإمام السرخسي الحنفي وأتباعه

هل ذلك التضارب وقع من نفس أئمة

المذاهب؟ وعليه فما تأويله؟ أو وقع من المقلدين وعليه فما سببه؟ ، وفي أي

عصر وقع؟ وما عين الصواب في المسألة وما وجهه وما دليله؟ .

(2)

هل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة أو سنة أو بدعة؟ وإذا قلتم بالثاني

أو بالأول فما دليله الصريح من الكتاب أو السنة، وهل يقبل في العبادات ما يحتمل

أن يكون دليلاً، وهل عمل السلفِ الصالحِ - أهلِ القرون الثلاثة الأولى المشهود

لهم بالخيرية، والمأمورين نحن باتباع سنة الرسول وسنتهم - بهذه الصلاة أو ثبت

أن أحدًا منهم أو من الأئمة المجتهدين كان يصليها بعد صلاته الجمعة، وهل صلاها

الإمام الشافعي ولو مرة؟ وإذا قلتم بالثالث فمَن اخترعها، ولأي سببٍ، وفي أي

عصرٍ، وهل يُعمل بقوله، ويحمل الناس خصوصًا العوام على فعلها، واعتقاد

وجوبها أو سُنّيتها وهل إذا رد حنفي على شافعي بأن هذه الصلاة بدعة اخترعها

بعض المتأخرين عندما اعتورهم الشك في صحة الجمعة، وأن في فعلها والقول بها

إفسادًا لعقيدة العوام؛ إذ هم يعتقدون فرضيتها وتعدد الفرض في اليوم؟ وهل يصح

من الشافعي أن يقول: إن مذهبنا غير مذهبكم، ولا يُرد بمذهب على مذهب، وهل

لقوله هذا دليل من القواعد الأصولية المتفق عليها أو من الكتاب أو السنة؟

(3 و 4) هل المصلحة اليوم في العمل باعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ

واحدًا كما هو طريقة رسول الله، وأبي بكر وعمر في أول خلافته، أو العمل

باعتباره ثلاثًا كما أمضاه عمر - للتخلص من المحلل والحيل التي يعملها فقهاء

البلاد من اعتبار العقد الأول باطلاً بالنسبة لمذهب الشافعي وتجديد العقد عليه، أو

من اعتبار مجرد العقد على غير الزوج كافيًا في التحليل بدون ذوق عُسيلته، أو

من اعتبار مجرد الخلوة بزوجٍ صغيرٍ لم يبلغ الحُلُم، وبيات المرأة عنده ليلةً أو

أكثر تحليلاً. وما قيمة تلك الحيل من الصحة والفساد. وما جزاء فاعلها شرعًا

وقانونًا؟

(5و6) هل شرع الطلاق لغير حل عقدة النكاح عند اليأس من التوفيق بين

الزوجين بعد التحكيم، حتى أصبح الرجل في حلٍّ من أن يطلق امرأته بأقل سببٍ

وبدونه من غير تحكيم؟ وهل ينعقد اليمين بغير الله تعالى، أو اسم من أسمائه أو

صفة من صفات ذاته؟ حتى أصبح الطلاق، وأيمان المسلمين، ورسول الله،

والنبي، وديني وذمتي وغير ذلك - أيمانًا مغلظةً يحنث الحالف بها إن لم يبر

بالمحلوف عليه، وهل كان ذلك معروفًا عند أهل القرون الثلاثة الأولى، وما معنى

حديث: (مَن حلف بغير الله فقد عظَّمه، ومن عظَّم غير الله فقد كفر) وما

مقتضاه؟

(7)

ما معنى: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا

بالتقوى) ، و (المسلمون متكافئون في الحقوق) وغير ذلك من أحاديث الرسول

مع اعتبار الفقهاء الكفاءة في النكاح في الحسب والنسب والحرفة والثروة أمرًا

ضروريًا يطلبه الدين، مع ظهور التضاد؛ إذ أحد الطرفين يقول بالمساواة، وعدم

الامتياز إلا بالتقوى، والطرف الآخر يقول بالتفريق بين بعض الناس، وبعضٍ في

غير التقوى.

(8)

وما هو المقياس الذي قِيسَتْ به الحِرَف حتى حُكم على بعضها بالخسة،

وبعضها بالشرف مع كونها لا بد منها جميعًا، بل ربما كانت الحرفة التي نقول

بخستها ألزم من حرفة نقول بشرفها، وما سبب الحديث القائل: (كسب الحَجَّام

خبيث) مع كوْنه ينفر الناس من تعاطي صناعة الحجامة، وهذا ربما يستلزم

إبطالها مع شدة الحاجة إليها، مع أن في حديث آخر ما يقتضي تعاطيها، وهو:

(لو كان في شيءٍ مما يتداوى به الناس خير لكان في شرطة مِحْجم) إلخ.

(9، 10) هل في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ

رُدُّوهَا} (النساء: 86) نص صريح على حل أنواع التحية من: نهارك سعيد،

وليلتك سعيدة، وغير ذلك، أو هناك حديث صحيح بيَّن المراد من الآية، ويمنع

غير (السلام عليكم) ، وعليه فما هو؟ ، وهل يرد السلام على مَنِ ابتدأ به من

غير المسلمين؟ .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

...

...

...

...

...

طالب الإرشاد

...

...

...

... محمد مقبول حلاوه

الجواب عن المسألتين المتعلِّقتين بتعدد الجمعة وصلاة الظهر معها:

الخلاف بين المذاهب في هذه المسألة كغيره من الخلاف والتعارض في

المسائل الاجتهادية، وأسبابه معروفة، وقد ألف بعضهم فيها رسائل خاصة، ولا

نرى من حاجة إلى ذكر جميع مسائل الخلاف في الجمعة، ودلائل المختلفين أو

تعليلاتهم، وشبهاتهم، وأشخاصهم؛ لأنها إضاعة للوقت فيما لا يتعلق به عمل،

وليس فيها أدلة قطعية؛ إذ لا خلاف في القطعي، وإنما بُني الخلاف على أمر متفق

عليه، وهو أن عدم التعدد مطلوب شرعًا إذا تيسر، وإنما المفيد هو الجواب عن

المسألة الثانية وهي: هل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة، أم سنة، أو بدعة؟ .

والجواب عنها أنها بدعة؛ لأنها مما حدث بعد الصدر الأول، ولم يرد بها

نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع من الصحابة، وهو الإجماع الذي يُعتَد به

في المسائل الدينية دون سواه، ولا هي مما يثبت بالقياس؛ لأنها من المسائل

التعبُّدية الموقوفة على النص؛ إذ لو جاز أن تثبت العبادات بظنون المجتهدين

واقيستهم لما صح أن يكون قد أكمل الله الدين على لسان رسوله، ولكن إكمال الدين

ثابت في محكم القرآن وبالإجماع، ولجاز أن تتجدد في الدين عبادات كثيرة يكون

المتعبدون بها أكمل دينًا من الرسول وأصحابه، وذلك مما يعلم بطلانه بضرورة

الدين، ولكن القائل بوجوب صلاة الظهر أو سُنِّيتها بالشرط الذي أداه إليه اجتهاده

معذور في اجتهاده إذا لم يدعُ أحدًا إلى تقليده فيه، ومثل هذا التقليد لم يدعُ إليه،

ولم يقل به أحد من الأئمة المجتهدين، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من الصحابة أو علماء

السلف المجتهدين صلى الظهر بعد الجمعة، وقد جاء الشافعي بغداد وفيها عدة

مساجد، ولم يُنقل أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة، ولو فعل لم يكن فعله شرعًا

يُتبع.

وقد فصلنا القول في المسألة في المجلدين السابع والثامن، فليراجعها الأستاذ

السائل، وإن وجد بعد مراجعتها حاجة إلى سؤال آخر مفيد في المسألة فله ذلك.

الجواب عن مسألة الطلاق الثلاث باللفظ الواحد:

لا يمتري أحد من المختبرين لحالة المسلمين في هذا العصر - ولا سيما في

مثل هذه البلاد - في أن مفاسد إمضاء وقوع الطلاق الثلاث باللفظ الواحد قد كثرت،

وأن عدم إمضائه والعمل فيه بما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

ومدة خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر - هو أصلح مما جروا عليه في آخر

خلافة عمر، وإن ما كان يقصد إليه عمر من منع الناس به من طلاق البدعة،

ومخالفة السنة إن كان قد أفاد في عصره فامتنع الناس كلهم أو جُلهم من ذلك الطلاق-

فالأمر في هذا الزمان على خلاف ذلك؛ إذ عمَّت البدع، وجهلت السنن، وكثر

خراب البيوت وفسادها بكثرة الطلاق، وتحليل المطلقات، واستغلال المرتزقين

بالفتوى والتحليل ووكالة الدعاوى والقضاء لجهل الناس بتحليل ما يعتقدون تحريمه

بالحيل الباطلة.

الجواب عن مسألة الحيل وتحليل المطلقات وأمثاله:

وأما هذه الحيل التي يسمونها شرعية فلو كانت مشروعة في دين الله بإطلاقٍ

لكان الشرع هادمًا لنفسه، وجميع الحقوق والحدود فيه أمورًا صورية يمكن لكل أحد

التفصِّي منها، والتمتع بالمفاسد التي وردت النصوص القطعية بحظرها، والإغراء

بالفسق والفجور وأكل أموال الناس بالباطل وبالكفر أيضًا، فإن من هذه الحيل أن

ترتد المرأة عن الإسلام ليفسخ نكاحها، وأن تمكن المرأة ابن زوجها من نفسها

لينفسخ نكاحها، وتحرم عليه أبدًا، وأن يسكر مريد الزنا، ثم يزني ليسلم من الحد

بناءً على قول مَن يقول: إن السكران لا يؤاخَذ - إن كان متعديًا - بسُكره، وأن

يهَب المكلف بالزكاة أو الحج ماله الذي ثبت به ذلك عليه لامرأته أو ولده قبيل

انتهاء حول الزكاة أو خروج ركب الحج، ثم يسترده بعد ذلك، وأمثال هذه المفاسد

كثيرة، ولما ظهرت في بلاد الإسلام، وعلم بها بعض الأئمة الأعلام، قالوا: إن

مَنْ أفتى بها فقد قلب الإسلام ظهرًا لبطنٍ، ونقض دين الله عُروةً عروةً، بل

صرحوا بأن الذي يقول بذلك أو يرضى به يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة.

وقد صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس على مِنبر

رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (لا أُوتَى بمحلل ولا محلل له إلا

رجمتهما) ، وقد أقره سائر الصحابة على ذلك، فلم يخالفه فيه أحد كما خالفه ابن

عباس وغيره في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد. والروايات عن

الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار في بطلان هذه الحيل كثيرة. وقد استقصى

المحقق ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) دلائل بطلان الحيل، وما احتج به

المجوزون لها مع الرد عليهم وإبطال شبهاتهم.

وأظهر أسباب هذا الفساد في الأمة (التقليد) الذي مقتضاه اتباع العلماء في

كل آرائهم وظنونهم الاجتهادية، والاجتهاد كله ظنون، وبعض الظن إثم، وليس

أحد منهم معصومًا في اجتهاده، بل لكل عالِم زلَاّت، حتى إن إجماع المجتهدين بعد

الصحابة لم يقم دليل قطعي على أنه حجة، فهو غير مجمَع عليه، وقد خالف

جمهور أئمة الفقه كثيرًا من علماء الصحابة والتابعين، فقاعدة التقليد التي عليها

المنتمون إلى المذاهب - وهو أنه يجب على كل مُنتمٍ إلى مذهب أن يعمل بكل ما

اعتمده المؤلفون فيه - بدعة لم يقل بها إمام مجتهد قط، بل حرَّمها جميع

الأئمة، أي أثبتوا تحريم الله لها، ولكن المقلدين يخالفونهم في أصول مذاهبهم وهم

لا يشعرون.

هذا، وإن من الأحكام - التي تدخل في عموم الحيل - ما هو صحيح، وما

لا يخل بمدلول نصوص الشرع، ولا ينقض حكمته فيه ومراده من درء المفاسد

وحفظ المصالح، وقد جعل ابن القيم الحيل قسمين: محرمة وجائزة، فالأولى أن

تكون الحيلة نفسها محرمة، والمقصود بها محرمًا، أو تكون مباحة ويقصد بها

المحرم، والثانية أن تكون الوسيلة مشروعة والمقصود بها مشروعًا، وقد سرد

أمثلة كثيرة لكل قسم منهما، ولعلنا نعود إلى تلخيص ذلك في مقالة أو مقالات؛ فإنه

مما يحتاج إليه كل مَن يحب أن يكون على بصيرة من دينه.

وما ذكره السائل من الحيل المألوفة في تحليل المطلقة كله باطل، فأما اعتبار

العقد الأول باطلاً على قول بعض الفقهاء، الذين يشترطون في صحة العقد ما لا

يشترطه غيرهم، كاشتراط الشافعي الولي العدل والشهود العدول، وجعل الطلاق

غير واقع لانتفاء الزوجية فهو مفسدة ظاهرة؛ فإن الزوجين يلزمهما ما التزما من

العقد، وما يترتب عليه بعد العمل بمقتضاه مع اعتقاد صحته وهو المعاشرة

الزوجية واستحلال البضع، حتى إذا فُرض أنهما كانا قد تعاقدا على مذهب قام

الدليل عندهما على صحته، ثم تغير اعتقادهما، فإن هذا التغيير لا يؤثر بعد انتهاء

العمل، فلا يجب على مَن كان يمسح بعض رأسه في الوضوء أن يعيد كل صلاة

صلاها إذا صار يعتقد أن مسح جميع الرأس واجب، بل يجب أن يعمل بهذا

الاعتقاد بعد ظهور ترجيحه له، والمسائل المدنية أولى بالنفاذ، والمضي على

الصحة بالتزامها والعمل بها لما يترتب على عدم الالتزام من المفاسد المتعلقة

بالنسب والإرث وغير ذلك، وقد صرح بعض العلماء المحققين بأن العمل ببعض

المسائل المختلف فيها وحكم الحاكم بها - يرفعان الخلاف حتى كأنه لم يكن، ولا

يتسع هذا الموضع للتطويل بالاستدلال ونقل الشواهد على ما ذُكر.

وأما التحليل بمجرد العقد أو الخلوة بزوج صغير لم يبلغ الحلم فهو مخالف

لنصوص الكتاب والسنة المثبتة بأن التي طُلقت ثلاث مرات لا تحل للأول حتى

تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا عن رغبة، وهو لا يتحقق إلا بذوق العُسيلة، وقد

أطال شيخا الإسلام ابن تيمية في كتاب (إبطال التحليل) ، وابن القيم في (إعلام

الموقعين) - في بيان ذلك ودفع شبهات المشتبهين وتأويلات المحتالين، ويستحق

أولئك المحللون التعزير، ولكن أين مَن يفعله؟ !

الجواب عن مسألة الطلاق قبل التحكيم:

إنما شُرع الطلاق مع عدِّه مكروهًا شرعًا ومبغضًا من الله عز وجل؛ لأجل

حل عقدة الزوجية إذا تعذر أو تعسر على الزوجين إقامة حدود الله تعالى في

الزوجية بأن يقع بينهما من التباغُض والشقاق ما لا يستطيعان عليه صبرًا. وإرادة

الإصلاح والاستعانة عليها بتحكيم حَكَم من أهله وحكم من أهلها - مما شرعه الله

تعالى بنص كتابه، ولكن ليس في هذا النص ولا في غيره دليل على توقف صحة

الطلاق على تقديم التحكيم عليه واليأس من الإصلاح به، وأما ما جرى عليه الناس

في مثل هذه البلاد المصرية من الإسراف في الطلاق، وبنائه على أوهى الأسباب-

فهو مما يبغضه الله ويكرهه شرعه، وينبغي لحكام المسلمين اتخاذ الوسائل

لتلافيه؛ سدًّا لذرائع الفساد فيه.

الجواب عن مسألة الحلف بغير الله:

لا يجوز في الإسلام الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته، وقد نقل الحافظ ابن

عبد البر الإجماع على ذلك، وقال بعض العلماء: إن عدم الجواز فيه يشمل التحريم

والكراهة، وقد فصلنا القول في هذه المسألة من قبل، فراجعه في تفسير آية

الإيمان من أواخر سورة المائدة (ص 33 - 48، ج7 تفسير) وفي المنار.

وأما الحديث الذي ذكره السائل فقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي

وحسنه، والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر بلفظ: (مَن حلف بغير الله فقد

كفر) ، وفي رواية أحمد:(فقد أشرك) . ولا أذكر له رواية باللفظ الذي أورده،

فإن لم تكن الزيادة التي ذكرها مروية فهي تفسير؛ إذ المراد على وجهٍ أن مَن

يحلف بغير الله؛ لأنه يعظمه كما يعظم الله، ويتدين بالحلف به ويلتزم البر تعظيمًا

له كما كانوا يحلفون بالأصنام وبالكعبة - فقد كفر، وأوَّله بعض العلماء تأويلاً آخر.

الجواب عن مسألة التفاضل بالتقوى ومعارضته بكفاءة النكاح:

لا شك في أن الإسلام قد أبطل ما جرى عليه كثير من الأمم من تفضيل بعض

الناس على بعض بأنسابهم، أو حصر بعض المناصب الدينية أو المدنية فيهم، أو

بقوتهم وثروتهم، وقرر أن الناس إنما يتفاضلون بالعمل الصالح المعبَّر عنه بتقوى

الله تعالى، كما قال:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ،

وبالإيمان والعلم، كما قال:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) ولا يتعارض هذا مع الكفاءة في الزواج؛ لأن مسألة الكفاءة

من المسائل التي فيها عرفُ الناس طرقَ عيشتهم وعلائق التوادّ، والتحاب

بالمصاهرة بينهم، فإذا حكم بأن الرجل الفقير ليس كفُؤًا للمرأة الغنية فليس معنى

ذلك أنها أفضل عند الله منه أو أحق بالتكريم من الناس، بل معناه أنه لا يستطيع

أن يقوم بنفقتها بما تعودت من أساليب المعيشة في طعامها ولباسها، وأن هذا قد

يعود بالضرر والعار على أهلها، فكان لهم أن يعارضوا في تزوجها به، يقال مثل

ذلك في انتفاء الكفاءة بين الطبقات الدنيا من الصُّنَّّّاع والعمال وبين بيوت الشرف

والإمارة، فإن كان في هذا شيءٌ منتقَد فالذنب فيه على الرأي العام، والعرف

المحكم بينهم، وقد فصلنا القول في ذلك بمقال كتبناه بمناسبة تزوج الشيخ علي

يوسف رحمه الله ببنت السيد عبد الخالق السادات، وفسخ القاضي العقد بدعوى

عدم الكفاءة. وقد نشرت تلك المقالة في الجزء العاشر من مجلد المنار السابع،

ومما بيناه فيها أن المسألة اجتهادية، وليست من أصول الشريعة المنصوصة في

الكتاب والسنة، وأن العبرة فيها بالتعيير الذي يُخشى أن يكون سببًا للشقاق في

الأسرة، فإذا رضيت المرأة وأولياؤها بأن تتزوج بمَن لا يعد كفُؤًا لها في العرف -

صح ذلك. فكيف تعد هذه المسألة الاجتهادية العرفية معارِضة لأصل ثابت

بنصوص الكتاب والسنة؟ !

الجواب عن مسألة الحرف الخسيسة والشريفة وكَسْب الحَجَّام:

إن حاجة الناس إلى جميع الحرف لم يمنع اتفاقهم في كل زمان ومكان على

أن بعضها شريف، وبعضها دنيء أو خسيس، فلا يوجد أحد من البشر يسوِّي بين

ربان السفينة ووقَّاد النار فيها، ولا يجعل الكُناسة والكُساحة بمنزلة الطبابة أو

الصحافة، وإن من حِكَم الله في خلق البشر متفاوتين في الاستعداد العقلي والنفسي-

أن يقوم كل فريق منهم بما يحتاج إليه المجموع من العلوم والأعمال؛ ولذلك

اختلف العلماء في الجمع بين حديث: (كسب الحجام خبيث) ، وقرنه بمهر البغي

وثمن الكلب، وهو في صحيح مسلم والسنن الثلاث - وبين مدحه (صلى الله عليه

وسلم) للحجامة، وحثه عليها وإعطائه الحجام أجرة حجمه له. ففي حديث أنس

المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم احتجم، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين

من طعام، وكلم مواليه، فخففوا عنه. وكذلك حديث ابن عباس المتفق عليه قال:

(احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سُحتًا لم

يعطه) . وفي لفظ للبخاري في البيوع: (ولو كان حرامًا لم يعطه) ، وفي لفظ له

في الإجارة: (ولو علم كراهية لم يعطه) . وجمهور المسلمين من السلف والخلف

على أن كسب الحجام حلال، وأجابوا عن حديث مسلم المذكور آنفًا، وما في معناه

بأجوبة: (منها) أن الحجامة مكروهة كراهة تنزيه لدناءتها في العرف، وخص

الكراهة بعضهم - ومنهم الإمام أحمد - بالأحرار دون العبيد، (ومنها) أن النهي

عن احترافها، وكسبها منسوخ، ورجحه الطحاوي الحنفي، (ومنها) أنها مما

يجب من إعانة المرء لأخيه، فيكره أخذ أجر عليها؛ لأنه ينافي المروءة، قاله ابن

الجوزي الحنبلي، (ومنها) أن محل الجواز إذا كانت الأجرة على عمل معلوم،

ومحل الزجر إذا كان مجهولاً، قاله ابن العربي المالكي.

الجواب عن مسائل التحية والسلام بدءًا وردًّا:

بينا في تفسير الآية أن لفظ (التحية) فيها على إطلاقه يصدق بكل ما يحيي

الناس به بعضهم بعضًا. وإن ما ورد في التحية بلفظ السلام، وكونه تحية الإسلام

ليس في شيء منه ما يدل على تقييد الإطلاق في الآية، ولا سيما الرد، وإنما

غايته أنه يستحب تفضيله على غيره من التحيات، ولا سيما تحيات غيرنا؛ إذ

الإسلام يرفعنا عن دركة الأمم التابعة إلى درجة الأئمة المتبوعين، وإن السلام على

غير المسلمين بدءًا وردًّا مشروع أيضًا، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافًا بينًا، تحقيق

الحق فيه من قبل في فتوى نُشرت في مجلد المنار الخامس، وذكرناها في تفسير

آيه التحية المشار إليها آنفًا، ومما أوردناه فيها دليلاً لذلك حديث: أبي أمامة عند

الطبراني، والبيهقي: (إن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا، وأمانًا لأهل

ذمتنا) ولكن سنده ضعيف، وحديث الصحيحين: (وأن تقرأ السلام على مَن

عرفتَ، ومَن لم تعرف) فراجع التفصيل في جزء التفسير الرابع، أو في المجلد

الرابع عشر من المنار (ص 495 - 500)

***

منع الحج هل يجوز لأحد؟

(س 18) من صاحب الإمضاء (المكي) بمصر

أيها السيد الرشيد:

ما قولكم - دام فضلكم - في السؤال الآتي: هل يجوز لأي مسلمٍ منْع مسلمٍ

من أداء فريضةٍ من فرائض الإسلام في أي مكانٍ كان، وفي أي ظرفٍ كان؟

أفيدونا بالجواب في مجلتكم المنار الأغرّ أنار الله بها المسلمين، وهداهم، وأثابكم

بأحسن الأعمال خيرًا عظيمًا.

(ج) قد علمنا من السائل أنه يريد بسؤاله منع ملك الحجاز حسين بن علي

للترك، وأهل نجد من أداء فريضة الحج لما بينه وبين الفريقين من العداوة

السياسية.

والجواب عن هذا من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، وهو أنه لا

يجوز لأحدٍ منع أحد من إقامة دينه، وأداء فرائضه، ومَن استحل ذلك فحكمه معلوم

بالضرورة، لا خلاف فيه بين المسلمين في كفره، ونحن لا نعتقد أن ملك الحجاز

يستحل هذا العمل مطلقًا، ولكنه يعذر نفسه بأن في دخول أعدائه الحجاز خطرًا

على ملكه، ويقال إنه يأذن للنجديين في دخول الحجاز لأجل الحج عزلاً، وهم لا

يأمنون على أنفسهم من انتقامه إذا لم يكونوا مستعدين للدفاع عن أنفسهم في بلاده،

ولم يبلغْنا من غير السائل أنه يمنع أفراد الترك من الحج، أو لا يظن أنه يخاف

منهم تضرُّرًا؛ إذ ليس في استطاعتهم أن يؤذوه إلا بالكلام، وإزالة هذا الأذى في

إِبَّانه، وأخذه بربانه هنالك من أيسر الأمور عليه لكثرة جواسيسه في البلاد، على

أن السياسة لا تقف عند حدود الدين؛ ولذلك بيَّنَّا في المنار أن الحجاز يجب أن

يكون على الحياد، لا يحارب أحدًا، ولا يحاربه أحدٌ، ولا يصح أن يكون دار ملك

يُعادِي ويُعادَى، ويُقاتِل ويُقاتَل؛ لأن ذلك يفضي إلى منع كثيرٍ من المسلمين من

إقامة ركن من أهم أركان دينهم، وإذا لم يسعَ المسلمون إلى تأمين حرم الله تعالى،

وتمكين كل مسلم من أداء فريضة الحج - إذا أرادها - يكونون آثمين كلهم، نعم،

إن الذي يجب عليه هذا قبل كل أحد هو إمام المسلمين وخليفتهم، ولكن ليس لهم في

هذا الزمن إمام مُطاع، والذي يعترف له أكثر المسلمين بالخلافة واقع تحت سيطرة

بعض الدول غير المسلمة؛ ولذلك أفتى بعض علماء الهند والقوقاس بسقوط

فريضة الحج في هذه الأيام، معللين ذلك بخروج الحرمين من سلطة الإسلام،

ووقوعها تحت سيطرة غير المسلمين، وسنبيّن ما في فتواهم من الخطأ في جزء

آخر، وقد أذاع بعض الأجانب - الذين اتخذوا ملك الحجاز عدوًّا لهم - أن بلاد

الحجاز غير آمنة، وأن حكومتها تصادر الحجاج، والحق أن الحجاز في أمن تام،

وأن الملك حُسينًا يُعنَى بأمر الأمن كل العناية، وما تأخذه حكومة الحجاز من

الرسوم لنفسها، وما سمحت به من زيادة أجور الجِمَال التي تنقل الحجاج - كل

ذلك مما يسهل احتماله، وهي لا تصادر - فيما نعلم - إلا النقود الفضية العثمانية،

فمَن كان لا يملك غيرها، ويلحقه غُبن بيعها بأقل من ثمنها فربما يعد غير مستطيع

للحج في هذه الحال.

_________

ص: 241

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام والنصرانية

] سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [[1]

كتب إلينا من بيروت أن مجلة المشرق الجِزْوِيتِيَّة قد صارت تصرح بالطعن في

الإسلام؛ إذ زالت الحكومة العثمانية التي كانت تمنعها من التصريح، فتتوارى

أحيانًا وراء ما يحتمل التأويل من تعريضٍ وتلويحٍ، ورغبوا إلينا في الرد عليها؛

لأن الدفاع عن الإسلام من أهم مقاصد (المنار) ويرون أن السكوت عنها ربما

يُفضي إلى التمادي الضارّ، ولما كانت أعمالنا الكثيرة لا تترك لنا وقتًا لمطالعة هذه

المجلة كلها للاطِّلاع على كل ما تنشره - نطلب منهم أن يبينوا لنا ذلك الطعن بنقله،

أو تعيين مواضعه من أجزائها.

هذا، وإن دعاة البروتستانية في مصر، وغيرها لا يزالون ينشرون النشرات،

والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام، والتنفير عنه، والدعوة إلى دينهم،

حتى مللنا من النظر فيها لتشابُهها في الضعف، والسخف، والتكرار، وهذا هو

سبب سكوتنا عنهم في هذه الآونة، مع رفع المراقبة عن الصحف، لا إيذاؤهم لنا

بما نجحوا به من منع المنار من دخول السودان الذي قام حجة على رياء الإنكليز

المتبجِّحين بدعوى حرية الأديان.

وقد صرحنا من قبل بأننا لا نرى في هذه المطاعن ضررًا على المسلمين في

نفس دينهم، ولا في استمالتهم إلى النصرانية، بل هي أشد ما ينفرهم من

النصرانية، ويزيد العارفين بدينهم اعتصامًا به ومحافظة عليه، وإنما يُخشى منها

إحدى مفسدتين:

(الأولى) فساد عقيدة بعض المسلمين، وصيرورتهم منافقين أو إباحيين.

(والثانية) أن تكون سببًا للتعادي والتباغض الضار بين أبناء الوطن الواحد؛

فلهذا نذكِّر إخواننا في سورية بأنه ينبغي لهم أن يوطنوا أنفسهم على حرية البحث،

والنقد، واحتمال أذى الطعن، والرد، وأن لا يجعلوا المناظرات الكلامية مؤثرة

في العلاقات الوطنية، وأن يعلموا أن حرية البحث إذا كانت عامة فإن الفلج والظفر

فيها إنما يكون لصاحب الحق، ولا سيما إذا التزم الأدب في القول والفعل، وأن

الإسلام هو دين الفطرة والعلم والعقل، وأن النصرانية الحاضرة مبنية على

وجوب التقليد للكنيسة بلا معارضةٍ، ولا بحث، وأن من يتركون التقليد من أهلها،

ويناقشون الكنيسة في تعليمها، ويطالبونها أو يطالبون أنفسهم بالدليل، واستقلال

العقل في فهم الدين - فإنهم لا محالة ينتهون إلى ما جاء به الإسلام، سواء علموا

أو لم يعلموا تلك الحقائق التي قررها القرآن، وهذا واقع في بعض البلاد الأوربية

الآن كما يعلم ذلك من الشاهد الذي ننقله هنا عن جريدة (الديلي تلغراف) ،

وسينتهي التمادي في أمثال هذه المباحث إلى عقيدة التوحيد، والرجوع عن التثليث

وتأليه المسيح، والأخذ فيه بما قرره القرآن وتعميم الاهتداء به في كل مكان،

والنجاة به من مساوئ المادية، ومفاسد الشيوعية، وينجز الله وعده الحق بقوله:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53)

وإن المقدمات والأسباب لذلك قد صارت كثيرة، وإن منها ما هي صحيحة، وما

هي غير صحيحة، وسيمتاز الصريح بتكرار المخض، فيذهب الزبد، ويبقى

المحض: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) .

كتب رجلٌ مسلمٌ بصيرٌ يقيم في أوربة - مراقب لتطوُّرها الديني والأدبي

والاجتماعي - كتابًا إلى صديقٍ له، قال فيه:

(أعرفك أن مسألة ألوهية المسيح أصبحت في بلاد الإنكليز موضوعًا لأهم

المباحثات والمناقشات بين المفكرين المشتغلين بالمسائل الدينية والفلسفية، ولا سيما

رجال الإكليروس الإنجليكاني، كما يتضح ذلك مما يُنشر في هذه الأيام الأخيرة

على صفحات الجرائد الإنكليزية، وإنِّي أرسل إليك طيّ هذا نموذجًا لهذه المناقشات

اقتطفناه من جريدة) الديلي تلغراف (وإني على تمام اليقين من أن الإنكليز

والأمريكان سيرجعون في القريب العاجل عن (عقيدتي) التثليث، وألوهية المسيح،

كما رجعوا من قبل عن كثيرٍ من مثلهما من

و

[2] ، التي كان ينهى عن

مثلها الإسلام هم بها متمسكون.

فيا أيها الأخ الحكيم إذا صرفتَ نظرك برهة عن مسرح السياسة العالمية

الذي أخذ بلُبّك، وتوجهت إليه بكل قُواك وحواسك، وتأملت مليًّا فيما يدور ويجري

في الخفاء بين الجماعات البشرية في الغرب - يظهر لك أن الشرق المغلوب

المقهور الذي يئنُّ تحت نير الظلم والاستبداد الغربي، هو مع ذلك يهاجم في هذه

الآونة العالم المسيحي من جميع الأنحاء بجيوشٍ جرَّارةٍ تفوق جيوش صدر الإسلام

قوةً، وفيالق آل عثمان عندما دوَّخوا أوربة بأسًا، ولكنها في هذه المرة ليست

مسلحة بالسيف البتَّار، بل بأسلحةٍ معنويةٍ مثل الفلسفة الهندية والمبادئ الصوفية

والتعاليم البهائية، والمذاهب التيوسوفية، والإنترويوسوفية وغير ذلك من الأفكار

والمبادئ الروحانية التي تتسرب كل يوم بطريقةٍ غير محسوسةٍ إلى أذهان الغرب

وقلوب أبنائه، من حيث لا يشعرون.

ولا بد أن يأتي يوم - إخاله قريبًا - يفتح فيه الشرق الغرب فتحًا معنويًّا

مبينًا، فيقوم أهله قومة صادقة، يكسرون بأيديهم تماثيلهم و

يهدمون كنائسهم؛

و

ليقيموا مكانها المعابد الحقيقية التي لا يُعبد فيها إلا الواحد القهار طبقًا لشريعة

سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، فطُوبَى لمَن يعيش ويرى يومًا يتعانق فيه

الشرق والغرب، ويصبح عباد الله إخوانًا في التوحيد والإسلام) .

وهذه ترجمة ما اقتطفه الكاتب من جريدة (الديلي تلغراف) :

***

علاقة المسيح بالله

كمبريدج لمراسلنا الخاص بتاريخ 13-8-1921

إن درجة ابتعاد اللاهوتيين العصريين عن العقائد التقليدية الموروثة قد ظهرت

اليوم ظهورًا واضحًا في مؤتمر رجال الكنيسة، فقد تكلم ذو الاحترام الكلي

(هاستنس راشدول) مطران كارليل في مسألة (المسيح كلمة الله وابنه)، فقال: إن

الطلب يزداد على اللاهوتيين الأحرار [3] ؛ ليوضحوا بعبارات صريحة ما يقصدونه

حقيقة، عندما يستعملون العبارات التقليدية عن ألوهية المسيح. وبدأ الدكتور

(راشدول) يبحث في السؤال من وجهته السلبية فقال: إن المسيح لم يدَّعِ الألوهية

لنفسه، نعم، إنه ربما دعا نفسه أو تسامح على الأرجح بأن يُدعَى مسيَّا [4] أو ابن

الله، ولكن لم يَرِدْ في الأقوال الثابتة عنه شيءٌ يدل على أنه كان يرى علاقته بالله

غير علاقة رجل بالله. وهي العلاقة التي كان يريد أن يستشعرها كل إنسانٍ،

فيستخرج من هذا القول أن المسيح كان إنسانًا بكل معنى الكلمة، ولم يكن إنسانًا

بجسمه فقط، بل كانت نفسه وعقله، وإرادته إنسانية أيضًا، ولم تكن تعترف

الكنيسة بذلك دائمًا، وإن كان كثيرون من الآباء اليونانيين (كادانايوس،

وأثناسيوس) [5] قد تمثلوه كلمة الله مقيمة في جسمٍ بشريٍّ، وأنكرت المجامع التي

عُقدت بعد ذلك هذا التعريف بزعامة أبوليناريوس، ولا يمكن الغلو في أن يؤكد من

نقطة النظر اللاهوتية بعد ذلك أن أثناسيوس كان من مذهب (أبوليناريوس) ،

وأخشى أن يكون كثير من الناس - الذين يظنون أنهم مستقيمو الرأي - ليسوا سوى

أبوليناريين.

وقد عرفت كثيرًا من الكاثوليك المتنوِّرين يجهلون أن الكنيسة تعلم أن للمسيح

نفسًا بشرية؛ فكثير مما يسمى استقامة في الرأي ليس سوى أبولينارية، وبعض

المدافعين عن العقائد الكاثوليكية الواقفين عليها وقوفًا يحُول دون جعْلهم أبوليناريين

صريحين - هم في الحقيقة تحت تأثير تلك المبادئ في شكلها الأخير المعدل الذي

ينكر أن المسيح كان ذا إرادةٍ بشريةٍ.

ثم قال: وليس من الاستقامة في الرأي ألبتة أن يُفرض أن نفس المسيح

البشرية كانت موجودة من قبل؛ إذ لا أساس لعقيدة كهذه، فمنذ قبلت الكنيسة مبدأ

كون المسيح كلمة الله تعين أن الذي كان موجودًا في ما سبق هو الكلمة الإلهية لا

المسيح البشري. إن ألوهية المسيح لا تتضمن بالضرورة الولادة من عذراء أو أي

معجزة أخرى، فالولادة من عذراء إذا أمكن إثباتها تاريخيًّا لا تكون مظهرًا لألوهية

المسيح، ولا يوقع عدم إثباتها ريبًا في تلك العقيدة، كما أن ألوهية المسيح لا

تتضمن أن يحيط بكل شيءٍ علمًا، ولم تبقَ حاجة للكلام في هذا الموضوع بعد

ظهور الخطب التي ألقاها المطران (بخور) في (بامبتون) ، بالرغم من كون

عقيدة تحديد علم المسيح لم ترسخ بعدُ في أذهان العامة.

إن النظريات الحديثة في اليوم الآخر قد زادت في ضرورة التسليم بأن ذلك

التحديد يجب أن يكون أعظم مما ذكره المطران (غور) ومَن على رأيه. وعلى

فرض أنهم جعلوا الأقوال الثابتة عن المسيح في اليوم الآخر أقل ما يمكن - وهذا ما

كان المطران نفسه يميل إلى فعله - فمن الصعب إنكار أن المسيح كان يتوقع

حدوث أشياء في المستقبل لم يحققها التاريخ، فما حقيقة الرأي العصري إذن في

العلاقة بين الله والإنسان؟ هو أن الإنسان ليس خليقة لله يتسلَّى بها، وأن جميع

العقول نسخة في شكلٍ محدود عن العقل الإلهي، وأن في جميع التفكُّرات البشرية

الصحيحة نقلاً عن الفكر الإلهي، وأن في أسمى المقاصد التي يعترف بها الضمير

البشري جلاءً للمقصد السامي الخالد في الفكر الإلهي - هذه هي الفروض التي

يمكن أن يفسَّر بها وحدها معنى تلك العقيدة، وإذا كنا نعتقد أن كل نفس بشرية تنقل

عن الله وتجلوه وتجسده إلى درجة معينة، وإذا كنا نعتقد أن الله يتجلى لكبراء

معلمي الآداب في البشر، ولزعماء الدين، ومؤسسي الأديان، ومصلحيها أكثر مما

يتجلى لسواهم - فمن الممكن إذن أن نعتقد أن شخصًا واحدًا كالمسيح امتاز عن

سواه في علاقته الشخصية بالله، فكانت ساميةً فريدةً رفيعةً عن سواها، وأن

صفات المسيح وتعاليمه تحتوي على خير ما يتجلى من صفات الله نفسه وإرادته في

البشر، هذا هو المعنى الحقيقي الذي نفهمه من ألوهية المسيح [6] .

***

شعور المسيح

وتلاه القس هـ. د. أ. ماجور رئيس ريبون هول (أكسفورد) وخص

كلامه بنظرية (المسيح في البنوَّة الإلهية)، فقال: إن من المشاكل العويصة في

نقد الإنجيل معرفة ماهية رأي المسيح نفسه في بنوته لله، إنه قد ذكر بصراحةٍ تامةٍ

أنه لا يعتبر مهمته سياسية، وقد خدم الأستاذ (ليك) الإنجيل خدمةً حقيقيةً بإظهاره

ما في تعاليم المسيح من الصفات المعارِضة للسياسة تجاه الدعوة السياسية التي كان

يبثّها المتعصبون، كان المسيح يعتبر أنه هو (مسيا) ، ويعتقد أنه وكيل مملكة،

ولكن لم تكن له علاقة بالسياسة بالمعنى المفهوم من سياسة مملكة؛ لأنه كان

معارضًا لنظريتها الاقتصادية.

ثم تناول الخطيب مسألة ما إذا كان المسيح ادَّعى أنه كان ذا شعور ومعرفة

سابقين لوجوده، كما مثبت في الإنجيل الرابع، فقال: إنه يرى أنهم اليوم

يستطيعون أن يصرحوا أن شعور المسيح كان شعورًا بشريًّا تامًّا، تاركا مسألة

الشعور السابق الوجود بدون حل، وأنه ليس فيه من خوارق الطبيعة، والمعجزات

ما لا يمكن أن يُعزَى إلى سواه من البشر، وأما كونه ابن الله فقد سوَّغ لهم أن

يدعوه (إلهي) ، كما دُعي في الإنجيل الرابع؛ فإن القس ماجور يظن أن لغة

المحبة، والتعظيم تسمح بذلك، ولكن مثل هذا التعبير لم يقره المسيح، ولا يظن

أن المسيح كان يهتم بما كان يلقَّب به. ولا شك في أن الذين لم يعرفوا المسيح

بالاسم، ولكن أظهروا للناس روح الخدمة والتضحية - التي هي روح المسيح -

أقرب إليه من الذين لم يُظهروا روحه في شؤون حياتهم اليومية، وإن كانوا

متمسكين بأعظم الآراء غلوًّا في شخص المسيح اهـ ما جاء في رسالة (الديلي

تلغراف) ومن الظاهر البيِّن منه أنهم يرجعون فيه إلى التحقيق والإصلاح الذي

بيَّنه الله لعباده على لسان روح الحق الذي بشر به المسيح، وقال: إنه يعلِّمهم كلَّ

شيءٍ، والحمد لله رب العالمين.

_________

(1)

(فصلت: 53) .

(2)

المنار: حذفنا من هذا الموضع ومن موضع آخر بعده - كلمات لا نستحسن نشر مثلها في الصحف العامة؛ إذ ليست كالكتب الخاصة.

(3)

المنار: يقابل هؤلاء الأحرار المقلدون الذين لا يعيرون الأدلة التفاتًا، وقوله بعده بعبارات صريحة يشير إلى أن بعض الأحرار لا يتجرءون على التصريح بما يثبت عندهم من بطلان تقاليد دينهم، فيعبرون عنه بالكتابة والتعريض المحتمِل للتأويل.

(4)

مسيا بتشديد الياء: المسيح، وهو الملك الذي كان اليهود، ولا يزالون ينتظرونه.

(5)

أثناسيوس: بطرك الإسكندرية في القرن الرابع المسيحي، كان اتُّهِم بآراء آريوس، الذي أنكر في القرن الثالث ألوهية المسيح، وأبوليناريوس من أساقفة اللاذقية، وقد تبع بعض آراء آريوس، ولكن له فلسفة خاصة في المسيحية، وقد حرم تعليمه في المجمع الإسكندري سنة 362، والمجمع الروماني سنة 373، وله أتباع يُنسبون إليه.

(6)

المنار: ملخص هذه العقيدة بعبارة إسلامية صوفية: أن هذه المخلوقات مظهر من مظاهر صفات الله تعالى كعلمه وحكمته، وأن خيار البشر - كالأنبياء والصديقين - قد تجلى فيهم من آثار الكمال الإلهي في البشر ما لم يتجلَّ في غيرهم، فظهر ذلك في صفاتهم وتعاليمهم وأعمالهم، فلا غرو إذن أن يكون ما تجلى من ذلك في المسيح عليه الصلاة والسلام ممتازًا عما كان قد تجلى في سائر الصالحين من الناس.

ص: 267

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني

‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

تأليف الإمام المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني

بسم الله الرحمن الرحيم وهو المستعان

الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كل

الإفراد، من اتخاذ الأنداد، فلا يتخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحدًا، ولا يتَّكلون

إلا عليه، ولا يفزعون في كل حالٍ إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى،

ولا يتوصَّلون إليه بالشفاعة {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ،

وأشهد أن لا إله إلا الله ربًّا معبودًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول:

{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: 188) ، وكفى

بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له، في السلامة من العيوب،

وتطهير القلوب عن اعتقاد كل شيءٍ يشوب.

وبعد: فهذا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) وجب عليَّ تأليفه، وتعين

عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى

وجميع البلاد من اليمن والشام ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو

الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدَّعي العلم بالمغيبات والكاشفات، وهو من

أهل الفجور [1] لا يحضر للمسلمين مسجدًا، ولا يُرَى لله راكعًا ولا ساجدًا، ولا

يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب؛ فوجب عليَّ أن أنكر ما

أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره، فاعلم أن ههنا

أصولاً هي من قواعد الدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين:

(الأصل الأول) أنه قد عُلِمَ من الدين أن كل ما في القرآن فهو حقٌّ لا باطل،

وصدقٌ لا كذب، وهدىً لا ضلالة، وعلمٌ لا جهالة، ويقينٌ لا شك فيه، فهذا

الأصل أصل لا يتم إسلام أحد، ولا إيمانه إلا بالإقرار بهذا الأصل [2] ، وهذا

مجمع عليه لا خلاف فيه.

(الأصل الثاني) أن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بُعثوا لدعاء

العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله:

{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) ، {أَن لَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ

اللَّهَ} (هود: 26)، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: 3) ، وهذا الذي

تضمنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد

معناها، لا مجرد قولها باللسان، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة والنفي لما

يُعبد من دونه والبراءة منه، وهذا الأصل لا مِرْية في ما تضمنه، ولا شك فيه،

وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه.

(الأصل الثالث) أن التوحيد قسمان: القسم الأول توحيد الربوبية والخالقية

والرازِقية ونحوها، ومعناها أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم

والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكًا، بل هم

مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع، والقسم الثاني توحيد العبادة، ومعناها

إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه

الشركاء، ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى، فالرسل عليهم السلام بُعثوا

لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني مثل قولهم - في خطاب المشركين -:

{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (إبراهيم: 10)، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 3) ،

ونهيهم عن شرك العبادة؛ ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ

اعْبُدُوا اللَّهَ} (النحل: 36) أي قائلين لأُممهم: أن اعبدوا الله، فأفاد بقوله: {فِي

كُلِّ أُمَّةٍ} (النحل: 36) - أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد

العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السموات والأرض، فإنهم

مُقِرُّون بهذا؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو:

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 3)، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل:

17) ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) ، {أَغَيْرَ اللَّهِ

أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ

مِن دُونِهِ} (لقمان: 11)، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} (فاطر: 40)

استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقِرون، وبهذا نعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام

والأوثان، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاءَ لله

تعالى؛ لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم؛ لأنهم يقربونهم

إلى الله زُلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند

الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء

شركًا، ونزه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم،

لم يأذن الله لهم في شفاعةٍ، ولا هم أهلٌ لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئًا؟!

(الأصل الرابع) أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله

خالقهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87) ، وأنه الذي خلق

السموات والأرض {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ

الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9) ، وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت

من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع

الأبصار والأفئدة {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ

وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ

فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) - {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا

يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:

84-

89) وهذا فرعون مع غلوّه في كفره ودعواه أقبح دعوة ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله - في حقه حاكيًا عن موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ

رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الإسراء: 102) وقال إبليس: {إِنِّي

أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} (الحشر: 16)، وقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (الحجر: 39) وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي

} (الحجر: 36) وكل مشرك مقر بأن

الله خالقه، خالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم؛ ولهذا

احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل: 17) ، وبقولهم

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج: 73) ،

والمشركون مقرون بذلك لا ينكرون.

(الأصل الخامس) أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلُّل، ولم تُستعمل

إلا في الخضوع لله؛ لأنه مَوْلَي أعظم النعم، وكان [3] حقيقًا بأقصى غاية الخضوع

كما في الكشاف، ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها

دعت جميع الرسل، وهو قول (لا إله إلا الله) ، والمراد اعتقاد معناها لا مجرد

قولها باللسان، ومعناها إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي، والبراءة من كل معبودٍ

دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ

إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) .

***

فصل

إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعًا

(اعتقادية) وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق

والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه

وأنه لا معبود بحقٍّ غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية (ومنها اللفظية)

وهي النطق بكلمة التوحيد، فمَن اعتقد ما ذُكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه، ولا

ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقرُّ به كما أسلفناه عنه، إلا أنه لم

يمتثل أمر الله فكفر، ومَن نطق ولم يعتقد حقن ماله، ودمه، وحسابه إلى الله،

وحكمه حكم المنافقين (وبدنية) كالقيام، والركوع، والسجود في الصلاة (ومنها)

الصوم وأفعال الحج والطواف (ومالية) كإخراج جزءٍ من المال امتثالاً لما أمر الله

تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة،

لكن هذه أماتها.

وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم السلام

من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه

خلقهم ونحوه [4] ؛ إذ هم مقرون بذلك كما قررناه وكررناه؛ ولذا قالوا {أَجِئْتَنَا

لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} (الأعراف: 70) ، أي لنفرده بالعبادة، ويختص بها من دون

الأوثان، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى،

ولا أنه لا يُعبد، بل أقروا بأنه يُعبد، وأنكروا، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً

وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22) ، أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في

تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وكان يسمعهم

النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه جل

جلاله لو تركوا قولهم: (إلا شريكًا هو لك) . فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به

تعالى، قال تعالى:{أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 22) ،

{وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (البقرة: 23) ، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا

تُنظِرُونِ} (الأعراف: 195) ، فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا

الأصنام للخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم من الله

زلفى، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا

الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون

إلا لله وحده، وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرّين كما عرفت في الأصل

الرابع بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده، والرازق وحده، ومن هذا

تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم - وهو نوح عليه السلام إلى

آخرهم - وهو محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد العبادة؛ ولذا تقول لهم

الرسل: {أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} (هود: 2)، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) ، وقد كان المشركون منهم مَن يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد

ومن يعبد أحجارًا [5] ويهتف بها عند الشدائد فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه

وسلم - يدعوهم إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة، كما أفردوه بالربوبية،أي

بربوبية السموات والأرض، وأن يفردوه بكلمة (لا إله إلا الله) معتقدين لمعناها،

عاملين بمقتضاها، وألا يدعوا مع الله أحدًا، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ

يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} (الرعد: 14) وقال تعالى: {وَعَلَى

اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 23) أي من شرط الصدق بالله ألا

يتوكلوا إلا عليه، وأن يفردوه بالتوكل كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار،

وأمر الله عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

} (الفاتحة: 5) ولا يصدق قائل هذا

إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبًا منهيًّا عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ

معناها نخصك بالعبادة، ونفردك بها، وهو معنى قوله:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت: 56)، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41) ، كما عُرف من علم البيان

أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره، ولا

تتقوا غيره [6] كما في الكشاف، فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون

الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله

وحده، واللجأ إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع،

والقيام تذلُّلاً لله تعالى، والركوع، والسجود، والطواف،والتجرد عن الثياب،

والحلق، والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل، ومَن فعل ذلك لمخلوق حيٍّ أو

ميتٍ أو جمادٍ أو غيره، فهذا شرك في العبادة، وصار مَن تُفعل له هذه الأمور إلهًا

لعابديه، سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو وليًّا أو شجرًا أو قبرًا أو جنّيًّا أو حيًّا أو ميتًا،

وصار بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدًا لذلك المخلوق، وإن أقر بالله وعبده؛ فإن

إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه لم يُخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك

دمائهم، وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، قال [7] الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن

الشرك، لا يقبل الله عملاً شُورِكَ فيه غيره، ولا يؤمن به مَن عبد معه غيره) .

***

فصل

إذا تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم في

العبادة، ولا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون،

وينفعون، وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى؛

فنحروا لهم النحائر، وطافوا بهم، ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين

متواضعين في خدمتهم، وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية، وأنه

الخالق، ولكنهم كما أشركوا في عبادته جعلهم مشركين، ولم يعتد بإقرارهم هذا؛

لأنه نافاه فعلهم، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية، فمن شأن مَن أقر لله تعالى

بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة، فإذا لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل،

وقد عرفوا وهم في طبقات النار، وقالوا: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ

نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع أنهم لم يسوّوهم به مِن كل وجهٍ،

ولا جعلوهم خالقين، ولا رازقين، لكنهم علموا، وهم في قعر جهنم أن خلطهم

الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة -صيَّرهم كمَن سوى بين الأصنام،

وبين رب الأنام، قال الله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) أي ما يقر أكثرهم في إقراره بالله، وبأنه خلقه وخلق السموات

والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان [8] ، بل سمى الله الرياء في الطاعات شركًا،

مع أن فاعل الطاعة ما قصد بها إلا الله تعالى، وإنما أراد طلب المنزلة بالطاعة

في قلوب الناس، فالمرائي عبد الله لا غيره، لكنه خلط عبادته بطلب المنزلة في

قلوب الناس، فلم تُقبل له عبادة،وسماها شركًا، كما أخرجه مسلم من حديث أبي

هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك مَن عمل عملاً، وأشرك فيه معي

غيري تركته وشركه) ، بل سمى الله التسمية بعبد الحارث شركًا، كما قال تعالى:

{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: 190) فإنه أخرج

الإمام أحمد، والترمذي من حديث سمرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لما

حملت حواء - وكان لا يعيش لها ولد - طاف بها إبليس، وقال: لا يعيش لك ولد

حتى تسميه عبد الحارث فسمته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره،

فأنزل الله الآيات،وسمى هذه التسمية شركًا، وكان إبليس تَسَمَّى بالحارث)

والقصة في الدر المنثور وغيره [9] .

***

فصل

قد عرفت من هذا كله أن مَن اعتقد في شجرٍ أو حجرٍ أو قبرٍ أو

مَلَكٍ أو جنيٍّ أو حيٍّ أو ميتٍ أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده

في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل إلى الرب تعالى - إلا ما ورد

في حديث فيه مقال في حق نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك [10]-

فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في

الأوثان، فضلاً عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي، أو يطلب من ذلك ما لا يُطْلَب

إلا من الله تعالى من الحاجات من عافية مريضه، أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب

من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام، والنذور

بالمال على الميت ونحوه والنحر على القبر والتوسل به وطلب الحاجات منه هو

بعينه الذي كان تفعله الجاهلية، وإنما يفعلونه لما يسمونه وثنًا وصنمًا، وفعله

القبوريون لما يسمونه وليًّا وقبرًا ومشهدًا، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني

ضرورة لغوية وعقلية وشرعية؛ فإن مَن شرب الخمر وسماها ماءً ما شرب إلا

خمرًا، وعقابه عقاب شارب الخمر، ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية،

وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، وصدق

صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد أتى طوائف من الفسقة يشربون الخمر، ويسمونها

نبيذًا، وأول مَن سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين-

إبليس لعنه الله؛ فإنه قال لأبي البشر آدم عليه السلام: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى

شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَاّ يَبْلَى} (طه: 120) ، فسمى الشجرة التي نهى الله تعالى آدم

عن قربانها شجرة الخلد جذبًا لطبعه إليها، وهزًّا لنشاطه إلى قربانها، وتدلّيا عليه

بالاسم الذي اخترعه لها، كما يسمي إخوانه المقلدون الحشيشة بلقمة الراحة، وكما

يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلمًا وعدوانًا أدبًا، فيقولون: أدب

القتل، أدب السرقة، أدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب، كما

يحرفونه في بعض المقبوضات إلى اسم النفاعة، وفي بعضها إلى اسم السباقة،

وفي بعضها أدب المكاييل والموازين وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما

يعرفه مَن شم رائحة الكتاب والسنة، وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى

الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.

وكذلك تسمية القبر مشهدًا، ومَن يعتقدون فيه وليًّا - لا يُخرجه [11] عن اسم

الصنم والوثن؛ إذ هم معاملون لها [12] معاملةَ المشركين للأصنام، ويطوفون بهم

طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون

الميت بالكلمات الكفرية من قولهم: على الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد

ونحوها، وكل قوم لهم رجل ينادونه؛ فأهل العراق، والهند يدعون عبد القادر

الجيلي، وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي

يا ابن العجيل، وأهل مكة، وأهل الطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر يا رفاعي-

يا بدوي - والسادة البكرية: وأهل الجبال يا أبا طير: وأهل اليمن يا ابن علوان.

وفي كل قرية أموات يهتفون بهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير،ودفع

الضر، وهو [13] بعينه فعل المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية:

أعادوا بها معنى سواع ومثله

يغوث ووَدّ ليس ذلك من ودي

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها

كما يهتف المضطر بالصمد الفردِ

وكم نحروا في سوحها من نحيرة

أُهِلَّتْ لغير الله جهلاً على عمدِ

وكم طائف حول القبور مقبلاً

ويلتمس الأركان منهن بالأيدي

فإن قال: إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله،

فلأي شيءٍ قرَّبت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك

تعظيمه؟ إن [14] قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله

تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد، وتنجيس

الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينًا أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول،

ولا خرجت من بيتك إلا لقصده، ثم كذلك دعاؤهم له، فهذا الذي عليه هؤلاء شرك

بلا ريبٍ.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هذه صفة كاشفة؛ فإن هؤلاء الأدعياء كلهم أو جُلهم كذلك؛ لأن التقي الصالح لا يدَّعي هذه الدعوى، ولو ادعاها لخرج بها عن الصلاح؛ فهي دعوى لا تُقبل من أحد، وإن كان ما يسمونه المكاشفة يقع أحيانًا، وهو من فراسة المؤمن الثابتة في الحديث.

(2)

الظاهر هنا الإضمار، وهو أن يقول: إلا به.

(3)

المنار: الظاهر أن يقال: فكان.

(4)

أي فقط؛ فإنه تحصيل حاصل.

(5)

المنار: الأحجار لم تُعبد لذاتها، وإنما كانت تماثيل لبعض الصالحين، ومذكِّرات بهم أو منسوبة إليهم كأحد أعمدة الرخام في المسجد الحسيني بمصر يُتمسَّح به للبركة والاستشفاء؛ لأنه منسوب إلى السيد البدوي؛ فهو يعرف بعمود السيد.

(6)

المنار: الحصر جامع بين الإثبات والنفي، والمعنى: اعبدوا الله، ولا تعبدوا غيره، واتقوه ولا تتقوا غيره؛ فإيراد صيغتي النفي إما تحريف من النُّسَّاخ، وهو الأرجح، وإما سَبْق قلم من المؤلف.

(7)

قوله: (قال الله تعالى) : أي في الحديث القدسي، ولفظه:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِركَه) رواه مسلم، كتبه محمد محمد فاضل.

(8)

المنار: أي بعبادة غيره تعالى معه؛ إذ لا فرق بين الأوثان وغيرها في ذلك.

(9)

الحديث معلول من وجوه، كما بيَّنه ابن كثير في تفسيره، ولكن المعنى الذي قصده المؤلف صحيح.

(10)

المراد: حديث توسل الأعمى، والرواية القوية ليس فيها ما يخل بالتوحيد، كما بيَّنه شيخ الإسلام في كتاب (التوسل والوسيلة) ، وهو كتاب لا يستغني عن قراءته أو سماعه مسلمٌ في هذا العصر.

(11)

وفي نسخة: وهذا لا يُخرجه.

(12)

وفي نسخة: (بها) ، هذا، وإن القرآن قد يخبر عن تلك المعبودات بالأولياء، ونهى عن اتخاذ الأولياء من دونه.

(13)

وفي نسخة: وهذا بعينه.

(14)

أم لا؟ ، فإن قال:.

ص: 273

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(4)

فصل

شرح حديث الحارث الأشعري

أما طاعة الخليفة في السنّة فقد تضافرت الأحاديث الصحيحة في وجوبها،

واشتهرت اشتهارًا عظيمًا، حتى إنه لم يصل حكم بعد عقيدة التوحيد والرسالة إلى

هذه الشهرة والتواتر.

وها أنا ذا ذاكر ههنا أولاً حديثًا من مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي يوضح

نظام الإسلام الاجتماعي توضيحًا حسنًا، فأقول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا آمُرُكم بخمس، الله أمرني

بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه مَن

خرج من الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومَن دعا

بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم، قالوا: يا رسول الله! ، وإن صام وصلى؟ ! ،

قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم) أخرجه الترمذي، وأحمد، والحاكم

من حديث الأشعري على شرط الصحيحين، قال ابن كثير: هذا حديث حسن، وله

شواهد.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخمس:

أولهن - (الجماعة) أي يجب على الأمة أن تجتمع على الإمام، وتعيش

مرتبطة بمركزها الاجتماعي، وسترى كثيرًا من الأحاديث التي تحذر من الوحدة

والفُرقة، وتعدّها حياة جاهلية شيطانية؛ إذ الإسلام لا يحسب الحياة الفردية حياة،

وإنما الحياة عنده (الحياة الاجتماعية) .

ما (الجماعة) ؟ ، كتلة من الآحاد، تربط بعضهم ببعض رابطة (الاتحاد) ،

و (الائتلاف) ، ويكون فيهم (الامتزاج) و (النظام) .

هاتيكم الجماعة ولوازمها الأربعة: الاتحاد والائتلاف والامتزاج والنظام:

أما (الاتحاد) فهو أن يكون الأفراد متصلاً بعضهم ببعض، فلا عوامل

التفرقة تفرقهم، ولا التشتت يبددهم، بل يكونوا جميعًا متقاربين، وأن تكون

أعمالهم كذلك متوافقة غير متخالفة، وجهتها واحدة، وغايتها واحدة.

وأما (الائتلاف) فهو أخص من (الاتحاد) ؛ إذ الاتحاد مجرد الاتصال،

و (الائتلاف) هو الاجتماع والاتصال بتناسُب صحيح، وترتيب حسن، فيقدم فيه ما

حقه أن يقدَّم، ويؤخر فيه ما حقه أن يؤخَّر، ويوضع الفرد في الجماعة بالمكان

الذي يؤهله له استعداده وقوته، فلا يُستخدم في الشرطة مَن هو أهل للسيادة والقيادة،

ولا يُرفع - إلى رياسة السياسة - مَن لا يصلح إلا للشرطية.

وأما (الامتزاج) فهو أخص منهما، ويُراعَى فيه اتحاد الكيف أكثر من اتحاد

الكم، أي يُنظر في طبائع الأفراد حيث استعدادهم الاجتماعي، فيلحق كل واحد

بالذي يكون أكثر موافقةً لطبعه؛ ليتحدا تمام الاتحاد؛ إذ لو لم يراعَ ذلك لا يتأتى

الاتحاد بين أفراد مختلفة الأمزجة والطبائع، كما لا يتحد الزيت والماء، وإن الله

سبحانه كما خلق العناصر ليتكون باجتماعها المناسب مركب مخصوص - كذلك

خلق الأفراد ليكونوا باجتماعهم (جماعة) ، فالأفراد (عناصر) ، والجماعة

(مركب) ، وكما أن العناصر لا تكوّن (مركبًا) إلا إذا امتزجت امتزاجًا تامًّا، كذلك

الأفراد لا تكون (جماعة) إلا بهذا الامتزاج، فإذن يجب أن يتمازج الأفراد بعضهم

ببعض، ويفنوا وجودهم في سبيل تكوين الجماعة، بحيث يحسبهم مَن يراهم شيئًا

واحدًا، ولا يكون ذلك إلا بعد الامتزاج التام.

وأما (النظام) فهو أن يحل كل فرد في الجماعة محله، يدور في دائرته،

ويسعى في داخل حدوده، ويعمل عمله الاجتماعي فيه.

ولا تتحقق هذه الأمور إذا لم تكن قوة مسيطرة على الاجتماع، ويد مدبّرة

للجماعة، فتوحد الآحاد المنتشرة، وتؤلف بينهم، وتمزج بعضهم ببعض،

وتخرطهم في نظام الجماعة، فلا بد إذًا من (إمامٍ وخليفةٍ) ولا مفر للأفراد من

طاعته والخضوع، إذا كانوا يريدون أن يحيوا حياة اجتماعية طيبة، فمقام

الإمام أو الخليفة في الهيئة الاجتماعية مقام النقطة من الدائرة، وعماله بمنزلة

الدائرة نفسها، فآحاد الأمة يدورون حول هذه الدائرة، وهي تدور حول تلك النقطة،

وبهذه الصورة تتكون من اجتماع الأفراد (الجماعة) ويصيرون كتلة واحدة

وجسمًا واحدًا حيًّا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، وبهذا أُمر

المسلمون ومُنعوا من الوحدة والفرقة، وأوجب عليهم أن لا يعيشوا بدون إمام،

سواء كثروا أم قلوا، حتى لو كانوا ثلاثة وجب عليهم أن يؤمِّروا أحدهم لقوله -

صلى الله عليه وسلم: (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) .

وقد جعل الله سبحانه صلاة الجماعة - التي هي عماد الدين ومثال كامل

للعقائد والأعمال - نموذجًا ليهتدي بها المسلمون إلى تنظيم حياتهم الاجتماعية،

فانظر كيف يجتمع مئات وألوف أوطانهم متنائية، وجهاتهم متباعدة، وألوانهم

متغايرة، وألبستهم متخالفة، فبينما هم في هذه الحالة، إذ تقرع سمعهم التكبيرة،

فيتحول الانتشار إلى الاجتماع، والتفرق إلى الائتلاف، فهم وقوف في صفٍّ واحدٍ،

أجسامهم متلامسةٌ، أكتافهم متلاصقةٌ، أقدامهم متقاربةٌ، ووجوههم متوجهةٌ إلى

جهةٍ واحدةٍ، إذا كانوا قيامًا، فكلهم قيام، كأنهم بنيان مرصوص، وإذا كانوا قعودًا

فكلهم قعود، باطنهم كظاهرهم متحد ومؤتلف، قلوبهم بذكر واحدٍ مشغولة،

وألسنتهم للفظ واحد مرددة، ثم انظر أمامهم فلا ترى هنالك إلا رجلاً واحدًا يؤمهم

ويقودهم، متى شاء أقامهم، ومتى شاء أقعدهم، كلهم طوْع أمره، وسمَّاعون لكلمته،

لا يخالفونه، ولا ينازعونه، بل يتبعونه، ويقتدون به، ويطيعون له [1] .

هذه هي (الجماعة) التي يطالب بها الإسلام، ويأمر المسلمين أن يجعلوا

هيئتهم الاجتماعية على أسلوبها، لا كما يزدحم الهمج في الأسواق.

هذا، وكل ما ذكرناه من أوصاف الجماعة وخصائصها مأخوذة من الكتاب

والسنة، وقد أغفلنا ذكر الشواهد عمدًا لضيق المقام وعدم الحاجة إليها.

ثانيهن - (السمع) وهو أن تستمع الأمة أوامر الإمام، وتستهدي به؛ فكلمة

(السمع) توضح أن مقام الإمام في الأمة مقام المعلم والمرشد؛ فعليها أن تتلقى

أوامره بالقبول، وتسترشد به في مهماتها.

ثالثهن - (الطاعة) وهي أن يطاع الإمام طاعة تامة، ويفوَّض إليه جميع

القوى العاملة تفويضًا كليًّا [2] ، ويعمل كل فرد من الأمة بأمره بدون أدنى عذر، ولا

ضجر، ومعلوم أن الطاعة في المعروف لا في المنكر.

رابعهن - (الهجرة) وهي من (الهجر) ومعناه (الترك) ففي المفردات:

(الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب،

والمهاجرة: مصارمة الغير ومتاركته) (صفحة 558)، وأما في الشريعة فهي:

أن يترك رجل أو جماعة الملاذّ الدنيوية، والرغائب النفسية في سبيل الحق

والسعادة [3] ، فمثلاً إذا ترك أحد لغرض سامٍ وقصد عالٍ - مالَه وراحته، وأهله،

وأقاربه، وعشيرته، وبيته، ووطنه، يسمى عمله هذا في الشريعة (الهجرة إلى

الله والذهاب إلى الله) وقد غلب استعمال (الهجرة) في ترك الوطن؛ لأن تركه

يستلزم ترك المال، والأهل، والأصدقاء، وكل ما يُحَبّ ويُؤْلَف في الوطن؛ ولذا

إذا أُطلقت يكون معناها (ترك الوطن) وإذا أضيفت إلى شيء يُفهم معناها حسب

الإضافة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى، فمَن

كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا

يصيبها، أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (البخاري عن عمر رضي

الله عنه) فالهجرة أنواع وأقسام تجدها مبينة في الكتاب والسنة، وليس هنا محل

تفصيلها.

خامسهن - (الجهاد في سبيل الله) وهو من (الجهد) ومعناه: (استفراغ

الوسع في مدافعة العدو ظاهرًا أو باطنًا) (مفردات) ، فالجهاد هو السعي البليغ

لدفع الأعداء، والذود عن الأمة، ويكون باللسان، والمال، والنفس، فكل ما يبذله

الرجل في سبيل الله - حسب الحاجة والضرورة - فهو جهاد في سبيل الله، كما

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم

وألسنتكم (رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، وابن حبان عن أنس رضي الله

عنه) .

ولسنا في حاجة إلى أن نُثْبت أن على هذه الخمسة تتوقف حياة الأمم وقيامها

وبقاؤها؛ إذ كل مَن له ذرة من العقل يعلم حق العلم أنه لا تستطيع أمة أن تفوز في

معترك الحياة بدونها، أو تنجح في أعمالها - صغيرة كانت أو كبيرة - بغيرها،

فسواء عليها أن تسعى لحصول خبز من البر، أو تذهب لكشف القطب الشمالي،

فهي على كل حال تحتاج إلى هذه الأصول الخمسة، والتي تعرض عنها تخسر،

ثم تسقط حتمًا، وإن كل ما نراه الآن في هذه المعمورة العظيمة من الحضارة

والرقي والصناعة، نتيجة لهذه الخمسة: (الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة،

والجهاد) .

إن النزاع والخلاف الذي ملأ الخافقين إنما هو ناتج عن شيءٍ واحدٍ، وهو

تعدد الأسماء لمسمى واحد، وكثرة المصطلحات لحقيقة واحدة، فإنك إن دققت

النظر في جدال الناس ترى معظمهم متشاجرين في الأسماء والألفاظ والمصطلحات،

مع أنهم لو جردوا الحقيقة عن الظواهر لعلموا أنها واحدة، وعند الجميع سواء،

لكنهم لسوء الحظ لا يفعلون ذلك، فيتخبَّطون طول عمرهم في تيهاء الألفاظ

والمصطلحات، ويتناطحون عليها.

وقد كثر مثل هذا النزاع في العلوم والمعارف، والموفق مَن لا تخدعه

الظواهر، فلا يرى الحقيقة بمنظاره الخاص المصنوع من الألفاظ والمصطلحات،

بل يراها مجردة كما هي، وهذا المقام مقام الرسوخ في العلم، ويسميه الشيخ أحمد

ولي الله صاحب (حجة الله البالغة) بعلم الجمع بين المختلفات، وعامة أصحاب

السلوك والإشارات يسمونه (بمشهد الوحدة) ، ويقصدون به نفس هذا المقام الذي

يصله السالك بعد زوال الحجب والأستار عن عينيه.

فإذا بحثت بعد هذا تعلم أن الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد - من

تلك الحقائق العامة المسلَّمة التي لا ينكرها أحد من البشر - والأمم بأجمعها سائرة

عليها من أول خلقها، ومتمسكة بها أشد التمسك، وإنما النزاع فيها والإنكار عليها

جاء من تلك البلية التي ذكرناها آنفًا، أي التشبُّث بالأسماء والمصطلحات، فلأجل

هذا أنكرها كثير من الناس لأسمائها الإسلامية، ولكنهم يقبلونها، ويعملون بها بغير

هذه الأسماء، والذي يَرُدّ هذه الحقائق نفسها يحرم من الحياة، ولا يرى في دنياه إلا

الخيبة والخسران.

وها أنا ذا أسوقها إليك واحدةً واحدةً مع بيان وجيز لِتَفْهَم ما مر حق الفهم،

فانظر إلى أولهن، وهي (الجماعة) التي علمت معناها وخصائصها، فقل أي

شيء يتم بدون الجماعة والاجتماع؟ ، دع ما قالت فيها الفلاسفة والحكماء؛ فإنه

دقيق يخفى على كثير من الناس، وألقِ عليها نظرة عامة ترى أن الغرض من

البيئات والأحزاب، والجمعيات والمنتديات، والمجالس، والمحافل، والبرلمان،

بل من الأمة، والوطن، والجيش (الجماعة والتزام الجماعة) أيمكن لأحدٍ أن

يستغني عن الجماعة؟ ، حتى إن أولئك الذين يعيشون في الغابات عراة متوحشين-

يضطرون إلى الاجتماع إذا أهمَّهم أمر، أو وقع فيهم شقاق؟ ، يجتمعون للبحث

في شئونهم، وإصلاح ذات بينهم، ولو تحت شجرة على التراب، فتلك (الجماعة) .

ولكن ماذا تُغني الجماعة إذا لم يوجد مَن يرأسها ويرشدها؟ ؛ ولذا إذا اجتمع

بضعة رجالٍ لأمر جامع بينهم تبادروا إلى انتخاب الرئيس، وقالوا: إذا لم يرأس

الجلسة أحد لا تكون قانونية ونظامية، وكذلك إذا أرادوا تنظيم جيش قسَّموه فِرَقًا من

ألف ومائة وعشرة، وجعلوا على كل منها رؤساء (أي تابعين لرئيس واحد وهو

القائد العام) وقالوا: بدون هذا لا يكون الجيش جيشًا، ولا يستطيع أن يعمل عملاً، فإذا كان قولهم هذا عن جماعة من عشرة أو خمسة، فماذا يقال عن أمة مكونة من

ألوف وملايين من الرجال والنساء، أفلا تحتاج إلى قائد يقودها، ورئيس يرأسها؟!

وهل نقدر على عمل اجتماعي بدون الأمير؟ ثم أي فائدة من الأمير إذا لم يُطَعْ؟

خذ لك أقرب مثال إليك وهو بيتك الذي تسكنه مع زوجتك وولدك - فإن عصت

الزوجة أمرك، وتنمَّر عليك أولادك، أفلا تغضب عليهم وتقول - والناس معك -:

هذا بيت لا يفلح أهله أبدًا؛ لأنه لا نظام فيه ولا راحة، بل هو مُبتلًى بحرب

أهلية! وهل هذا الذي تقول غير (الجماعة والسمع والطاعة) ؟ فكما أن هذا

البيت لا يفلح كذلك لا تفلح الأمة التي لا جماعة فيها ولا سمع ولا طاعة.

وأما (الهجرة) فينفر منها كثير من الناس؛ لأنهم يحسبونها من بقايا ذلك

العهد الذي كان فيه الإنسان في جهل، ووحشية، وهمجية ومصابًا بالجنون الديني،

فكان يهلك نفسه، ويقتل عواطفه، ويترك راحته لأجل الدين، ولكنهم ينسون أن

ما يفرون منه تدعو إليه البشر مدنيتهم أيضًا، وإنك قد علمت معنى (الهجرة) ،

وهو أن يُؤْثِر الإنسان المقاصد العليا الدنيا، وإن اضطر في هذه السبيل إلى

هجران أهله، وماله، ووطنه، وأمته، ومَلَاذِّهِ هجرها فرحًا مطمئنًّا، فقل أي

نجاح يصادفه الإنسان في العلم والعمل إن لم يكن صدره مملوءًا بهذه العاطفة العالية؟

وما هذا التقدم المدني والعلمي، وما هذه الاختراعات العجيبة والاكتشافات

المدهشة، والأموال الكثيرة، والتجارة الواسعة، والمستعمرات العظيمة، ووسائل

المعيشة المتنوعة، ورقي البلاد، وعلو الأمم، وسعة المدنية؟ أليست نتائج

(الهجرة) وثمراتها؟ وذلك لأن الإنسان - أفراده وجماعاته - لو لم يؤثر المقاصد

العالية والعزائم الكبيرة على راحته وأهله ووطنه ولم يهجر كل شيء في سبيلها -

لما رأينا اليوم ما نراه في الدنيا، بل لرأينا الجهل مقام العلم، والوحشية مقام المدنية،

والخراب مقام العمران، وما قولك في علم الطب وتقويم البلدان وعلم الحياة

الإنساني؟ أكان يمكن أن تصل هذه العلوم إلى ما وصلت إليه لو لم يهاجر كثير من

البشر في سبيلها لأجل معرفة تفاصيلها واستقراء جزئياتها؟ ، لو لم يهاجر

كولمبوس لما علمنا عن نصف الدنيا شيئًا، ولو لم يهاجر الغربيون لما شاهدنا في

واشنطون، ونيويورك المباني الفخمة والقصور العالية، ولو لم تهاجر الأمم

الأوربية لما أصبحت أغنى الأمم، عجبًا! ، إذ رأوا المهاجرين زرافات ووحدانًا

يقصدون إلى منطقة القطب الشمالي قالوا: هؤلاء عظماء الرجال حقًّا، كمل العلم

فيهم، وحلت الوطنية الصادقة في قلوبهم، ثم إذا علموا أنهم هلكوا على بكرة أبيهم

دون أن ينالوا بغيتهم - أقاموا عليهم المآتم ورثَوْهم، وبكوا عليهم وقالوا: مات

النجباء! ، ولكن إذا سمعوا الشريعة الإلهية تسمي مثل هذا العمل (بالهجرة) ،

وتدعو الناس إليه - نفروا منه، وأنكروا واسودت وجوههم - تراهم يمجدون أولئك

الرجال الذين هجروا أوطانهم لكشف منبع النيل وهلكوا في مجاهيل إفريقية، ولكن

إذا علموا برجال هاجروا في سبيل الحق، وإعلاء كلمة الله - ذمّوهم أشد الذم،

وسموهم (مجانين وهمجًا) ! ، ثم إذا رأوا نيوتن يهجر نومه، ويسهر الليالي

الطويلة ليحقق (ناموس الشغل) أعظموه، وسموه بأسماء كريمة، ولكن إن رأوا

رجلاً يُجهد نفسه مثل نيوتن - لا لناموس الشغل - بل لناموس نجاة العالم،

وسعادته، وهدايته أنكروا عليه عمله وعدّوه من الوحوش! ، فما هذا الجنون؟

وما هذا التناقض يا تُرى؟ !

نرى اليوم الأمم الغربية تعتقد أن فَلاحها وحياتها في الاستعمار (كانونيل

سستم) وتتصادم وتتناطح، ويهلك بعضها بعضًا؛ لأجل المستعمرات، ولكن ما

الاستعمار؟ أليس الغرض منه ترك الوطن والهجرة من أرض إلى أخرى

وتعميرها، واستحصال الثروة منها، وتكثير غنى الأمة بها؟ فما رأيك بعد هذا؟

أليست الدنيا كلها متمسكة بنظام (الجماعة والسمع والطاعة والهجرة) ؟ نعم،

هي متمسكة بها إلا أنها لا تسميها بأسمائها الإسلامية!

وأما (الجهاد) فما أكثر استفظاع بعض الناس له، وما أشد إنكارهم عليه! ،

إذا سمعوه جعلوا أصابعهم في آذانهم، واضطربوا منه اضطرابًا شديدًا، وقالوا

الإسلام يستحل الدماء البريئة، ويدعو البشر إلى القساوة والبربرية، والمجزرة

الإنسانية، فهو دينُ وحشيةٍ وهمجيةٍ، ولكن ما أشد استماعهم لقول دارون، ورسل،

وويلس: (إن من الحقائق الثابتة ناموس تنازع البقاء، وناموس انتخاب الطبيعة،

وناموس بقاء الأصلح) ، فإذا سمعوا هذه الكلمات أصغوا إليها هادئين، ساكنين،

وآمنوا بها مصدقين، موقنين، ولم ينزعجوا من هذه النواميس القتَّالة، والداعية

إلى سفك الدماء، بل قالوا: إنها كلها حق، ومؤيدة بالبراهين القوية، والمشاهد

العينية؛ لأنَّا نرى الحياة كلها عراكًا ومزاحمةً، الإنسان وما دونه من الأحياء - كله

يزاحم معارضه في الحياة، ويدافع غيره، ويُهلكه ويحل محله، وهذا طبيعي، ولا

بقاء لحي بدونه! ، ثم إذا أخبرهم بأن النواميس التي يخضع لها سائر الموجودات

يخضع لها الجنس البشري، وأن الأمة التي تُثبت أنها أصلح للقيام بالحق والهداية-

تعيش وتحيا، والأمة الفاسدة وغير الصالحة تهلك وتفنى! وتحل محلها الأولى

{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) - لم يقبلوا هذا، وتولوا عنه مدبرين!

ولو رجعوا إلى رشدهم لضحكوا على أنفسهم؛ إذ الذي يردونه باسم (الجهاد)[4]

يقبلونه بأسماء أخرى ناقصة الدلالة على مسماها! ، والله يهدي مَن يشاء إلى

سواء السبيل!

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: وظاهر أن هذا الاتِّباع يتقيد به الإمام كالمأموم بنصوص الشرع، فمشيئته فيه لإقامة المأمومين وأفعالهم ليست مطلقة، فإذا خرج عن الشرع فارقوه وأدبوه، وكذلك الإمام الأعظم وهو الخليفة، وقد أشار الكاتب إلى ذلك في الكلام على الطاعة.

(2)

المنار: الحق أن الخليفة مقيد في الإسلام بمشاورة أهل الحل والعقد، كما أنه مقيد بالشرع؛ فتفويضه ليس مطلقًا.

(3)

الهجرة الشرعية هي ترك دار الكفر إلى دار الإسلام، وكذا كل مكان لا يستطيع فيه أن يقيم دينه بحرية، وليس هو المعنى الشرعي الأصلي، ويحتجون له بحديث:(والمهاجر مَن هجر السوء) ، وهو وصف للمهاجر الكامل، كحديث:(المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده) ، فإن لم يهجر السوء لا يكون صادقًا في هجرة وطنه لأجل الحق الذي يُرضي الله تعالى، كما يؤخذ من حديث النية.

(4)

المنار: أوجز الكاتب واختصر في بيان هذه المسألة، وأسهب فيما عداها، وأطنب، صواب القول في الجهاد الإسلامي أنه:(بذل الجهد في حفظ الحق ودفع الباطل) ، لتقرير المصالح وإزالة المفاسد، وأما الجهاد العام - غير المقيد بهداية الإسلام - فهو: بذل الجهد من كل حي لحفظ حياته ومنافعه، شخصًا كان أو جماعة بالحق أو بالباطل، ولكن قصروا في بيان حقيقة الإسلام حتى لأهله، وأعداؤهم جدُّوا وشمروا في تصويره بضد حقيقته، فنفَّروا منه حتى الكثير من اللابسين للباسه.

ص: 282

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(3)

تشنيع الكاتب على جمال باشا بالآستانة:

وما وصلتُ إلى الآستانة حتى بدأت بشرح ما جرى في سورية من أفعال

الشدة والقسوة وإرهاف الحد، وذكرت ذلك في جميع المراكز بدون استثناء، ولا

يوجد تقريبًا واحد من كبار رجال الدولة القدماء أو الجدد إلا وهو يعلم أنني كنت

منتقدًا إدارةَ جمال في سورية مشددًا النكير على الدولة في إرخائها العِنان لهذا

الرجل إلى هذا الحد. ويصعب عليَّ الآن استقصاء شهودي على ذلك، سواء من

الفئة المعارضة للاتحاديين أو الفئة الموافقة لهم؛ فإن ذلك يطول جدًّا، وإنما أجتزئ

بالاستشهاد بجلالة السلطان وحيد الدين نفسه، الذي بقيت بين يديه أكثر من ساعتين

أبسط له ما حدث في سورية من الأمور، وأبيِّن له وجه الظلم والخطأ فيها، وكذلك

بولي عهد السلطنة الأمير عبد المجيد أفندي الذي تكلمت معه في هذا الشأن مرارًا،

وكان كل منهما يتنفَّس الصعداء، ويتأوه، ويعِد ببذل جهده بإصلاح الأمور، وإيتاء

العرب حقوقَهم، وإنصافهم من ظالميهم، وذلك عندما تضع الحرب أوزارها،

وينتصب الميزان، ويبدأ بالحساب. وبقيت في الآستانة من أوائل سنة 1917 إلى

نهاية الحرب، واستحضرت عائلتي إليها، وتحملت نفقات الغربة؛ حتى لا أعود

إلى سورية وجمال باشا فيها، مع أنني كنت أصرح أمام الجميع أنني من جهتي

الشخصية لا أقدر أن أشتكي منه بشيء، بل يجب عليَّ الشكر له لمزيد الرعاية

وبالغ العناية اللتين كنت أراهما منه نحوي، وإنما أشكو بطشه وعنفه وسفكه للدماء

وشدة استبداده، وما يعود بذلك من الضرر بالدولة وبالجامعة العثمانية.

ولما حضرت إلى ألمانيا أول مرة سنة 1917 سعيت بإقناع الألمان في طلب

صرفه عن سورية، وكان لهم بذلك يد، وأرسلوا الجنرال (فالنكنهاين) قائدًا

لفلسطين، وقطعوا علاقة جمال بالجيش المرابط فيها، وما زال نفوذ جمال يقل

ودائرة اختصاصه تضيق، إلى أن طلب هو الرجوع إلى الآستانة، وذلك قبل

دخول الإنكليز بقليل، ولما جاء إلى الآستانة، ووجد النكير عليه عامًّا - كان كمَن

استيقظ من منام، وتبدَّل مرارة الحقائق بحلاوة الأحلام، وربما تذكَّر ما كنت أنحله

إياه من النصيحة، وأنهاه به عن الشدة والبطش، ولا سيما عن القتل؛ لأنه غير

قابل التلافي، وما شعرت يومًا إلا وأحد أصحابي وأصحابه يتكلم معي في الذهاب

إلى نظارة البحرية للسلام على جمال باشا، ويلح جدًّا بذلك، فقلت: ليس بيننا

أدنى شيء يوجب النفور شخصيًّا، وإنما كان النفور منبعثًا عن اختلاف في الرأي،

وإنه كان يرى الشدة ضرورية لحفظ سلامة المملكة، وأنا كنت أرى الذي أتاه

معجِّلاً في تجزئتها، وذهبت، وسلمت عليه، وتصالحت معه، وعاتبني على

حملاتي عليه، وقال لي: إن رفقاءه كانوا يقولون له إن شكيب أرسلان بك هو

أيضًا في مقدمة الناقدين الناقمين، وهو ممن لا شك في صدقهم، وأنه هو كان

يجاوبهم: نعم إنه مخلص، ولكنه رقيق القلب، ويريد أخذ الأمور كلها بالعفو،

فدار بيني وبينه جدال طويل، أتذكر منه أنني قلت له: يا مولانا عندما أتيتم

بالزهراوي من باريز، وجعلتموه في مجلس الأعيان - كنت أنا منتقدًا هذا العمل،

ولكن بعد أن عفوتم عنه، ومضى على ذلك ثلاث سنين - تأخذونه من مجلس

الأعيان، وتشنقونه! ، هذا انتقدته أكثر؛ لأنه خطأ أعظم من الأول، ثم لا يكفي

شنق الزهراوي بتلك الصورة حتى يُنفَى إلى الأناضول والده البالغ من العمر نحو

90 سنة، فكيف تريد أن لا أنتقد هذه الأعمال، وقد دافع عن نفسه ببعض أجوبة لا

تخرج عن التدابير العسكرية التي يعملها كل قائد في أثناء الحرب، وأنا لا أنكر أن

جمالاً تصرف تصرف أي قائد أوربي أُودِع إليه أمر مستعمرة آسيوية أو إفريقية،

وليس في قواد فرنسا ولا إنكلترة كثير يقدرون أن يرموا جمالاً بحجر كما يقال، أو

أن يعيبوا مظالمه؛ لأنهم جميعًا تقريبًا يسلكون هذا المسلك، وأفظع منه، وهذا

تاريخ استعمارهم في الهند وفي مصر وفي الجزائر وفي تونس وفي الكونغو

إلخ أصدق شاهد على ما نقول، وفي الحرب العامة قد جرت من فريقَيْ الدول

المتحاربة كلما علت يد فريق على آخر من المناكير والموبقات وغرائب القسوة

والوحشية - ما يزيد على أعمال جمال، ولكن جمالاً تركي، عيبه ظاهر، ولا

يوجد له ساتر، وأما القائد الإنكليزي أو الفرنساوي فهذا مسموح له عند بعض أبناء

وطننا بأن يفعل ما يشاء، فلا يتعرض بذلك لانتقاد أحد منهم، ولو فات

الوحوش في أعماله؛ لأنه كما ورد في المثل العامي: (من بيت الفُرفُور ذنبه

مغفور) .

على أن وجه انتقادنا على جمال هو كوْن سورية ليست مستعمرة ولا الدولة

العثمانية هي دولة أوربية؛ فإن الدول المعهودة إذا قدمن عملاً بين يدي العار كان

لهن من القوة المادية ومن الثروة ومن البسطة ما يغطيه [1] ، وأما الدولة فليس

عندها من القوة ما يغطي عيوبها، ولو فازت ألمانيا وتركيا بهذه الحرب لما وجدت

أحدًا انتقد جمالاً من هؤلاء الذين يملئون الدنيا صخبًا عليه اليوم! ، بل يقحمون في

زمرته أناسًا أيديهم طاهرة من جميع ما عمله، ولكانوا اليوم ينوهون بمتانة جمال

وإقدامه وحزمه!

والناس من يلقَ خيرًا قائلون له

ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ

مسألة محاولة جعْل سورية تركية:

قال لي بديع بك المؤيد مبعوث الشام -عقب عودتي إلى الآستانة - إنه يوجد

قانون مراد الحكومة إلقاؤه إلى المجلس للمناقشة فيه وتصديقه، وهو يتضمن جواز

تبديل أملاك المبعدين بدون تعيين، وأنه بعد تصديق هذا القانون يمكن الحكومة

نزع أملاك المبعدين من سورية، وإعطاؤهم عوضًا عنها في الأناضول! ، وكان

شاع أن جمالاً ينوي هذه النية، وأنه أسس (قومسيون التهجير) لهذه الغاية،

وأخذوا بإحصاء أملاك المبعدين، فذهبت إلى نجم الدين بك ملا رئيس الشعبة

الخامسة في مجلس الأمة، وحكيت له القصة، فلم يعتقد أن المراد بهذا القانون

منفيو سورية، ولكنه أشار عليَّ بمذاكرة طلعت، ثم ذهبت إلى الحاج عادل بك

رئيس مجلس الأمة، فأشار عليَّ بمراجعة الحكومة، وصرفها عن هذا المشروع

قبل طرحه في المجلس، فصادف أنني مرضت بهاتيك الأمة [2] ، ولزمت

محلي، فجاءني سعد الله بك الملا مبعوث طرابلس، وأخبرني أن القانون عند

حامد بك مبعوث حلب وقد روجع في تأخيره إلى أن أكون شُفيت من وعكتي،

وذهبت إلى المجلس، فأبى، وإنه إن طرح القانون في المجلس خِيفَ تصديقه

بالأكثرية، فاضطُرِرْت أن أقوم من فراش مرضي، وأذهب إلى الباب العالي،

وكان طلعت تولى الصدارة جديدًا، فلما حكيت له القصة أجابني فورًا: هذا قانون لن

يذهب إلى المجلس أبدًا، كن مستريحًا، ثم سحبوه، وانطوت هذه المسألة، التي

كنت أنا السبب الوحيد في دفعها، كما يعلم كثير من الزملاء، وما كنت لأتعرض

لذكر هذه الخدمة ونشر مكنونات لم يكن في البال إظهارها خوف نسبة التبجُّح

لولا تشدُّق بعض الأعداء بما يتشدَّقون به من الافتراء والافتئات، وإذا أراد الله

نشر فضيلة طُويت أتاح لها ألسنة أمثالهم.

إعادة السوريين المَنفيين:

كذلك القرار الأول بإعادة مَنفيي سورية إلى أوطانهم حصلت عليه بواسطة

طلعت وخليل ونسيمي وجاويد، ولم يكن لي فيه شريك مطلقًا، وقدمت تقريرًا

بواسطة جاويد، أقول فيه إنه لا يوجد أدنى محذور من إعادة هؤلاء المنفيين إلى

سورية، وإنني أكفلهم بنفسي كفالة عامة، وأقدم عن كل شخص منهم بمفرده كفالة

خاصة من رجل مأمون، فرد جمال هذا القرار، وكان يومئذ لم يزل في سورية،

وكان انكسار الإنكليز عن فلسطين في واقعتي غزة الأوليين قد كسب جمالاً جمالاً

ورونقًا، فلم يريدوا أن يكسروا كلمته، وقد أنذرهم بالاستعفاء إذا أصر مجلس

النظار على هذا القرار، وذهب أنور بنفسه ثاني نوبة إلى سورية ومدحت شكري

ناموس جمعية الاتحاد والترقي، ولم يقدرا على إقناعه، فعادا بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغني

الخبر، فذهبت إلى طلعت، وقلت له: صح أن جمالاً لم يقبل قراركم فرجاني أن

أصبر عليه شهرين فقط، وأنه بعد ذلك ينفذه، ثم أخذ يأذن لأناس من المنفيين

بالتنقُّل من مكان إلى آخر، كلما راجعناه في قضية واحد أجاب الطلب.

كذلك أنور صار يتعاهد المنفيين بالإحسان والعطاء، وكانت سنين عسيرة أثناء

الحرب كما لا يخفى، فأضفت زيادات كثيرة على مرتبات قسم من المنفيين من

جبل لبنان كانوا بأسكي شهر وآخرين من المدينة المنورة، كانوا بكوتاهية وعشاق

وأزمير وغيرها، وكانت هذه العلاوات كلها من دائرة التشكيلات التي كانت تابعة

نظارة الحربية، وكنت في آخر كل شهر أطالب بها، وأرسلها، كما أنني كنت

أتردد دائمًا إلى لجنة المهاجرين في الباب العالي أستنجز دفع شهريات

المنفيين بأجمعهم، فكانت الدولة تنقدهم كل شهر 150 ألف ليرة، وكنت أقول

لرجال الدولة: ما سمعت أن دولة في الدنيا تشتري عداوة قسم من تبعتها بمائة

وخمسين ألف ليرة شهريًّا، اصرفوا هؤلاء الناس إلى أوطانهم يصيروا شاكرين

داعين لكم، وتوفّروا على خزانة الدولة أكثر من مليون ونصف مليون ليرة في

السنة، ولم يكن أحد يهتم بأمر المنفيين، ويخاطبهم سِوَاي؛ لأن الآخرين يخافون

مغبَّة العلاقة معهم، فكنت أقضي ليلي ونهاري في تحرير الأجوبة والبرقيات بقضاء

حاجاتهم، وكانت ترِد عليَّ منهم مئات من الرسائل ممن بأزمير ومغنيسية

وبروسة وبأليكسر وقره شهر وأسكي شهر وكوتاهية وعشاق وسيواس وتوقات

وكنغري وأدرنة. وما زلنا نكافح بلاءهم، ونخفف من مضض غربتهم، إلى أن

تحول جمال من سورية إلى الآستانة؛ فأخذ طلعت بتسريح المنفيين تدريجًا.

وحدث أن الحكومة احتاجت إلى أصواتنا (أي مبعوثي العرب) في مسألة

تتعلق بتحديد مدة الامتياز لشركة حصر الدخان، فاشترطت أنا والمرحوم فقيد الشام

محمد باشا العظم أن يطلقوا لنا سراح المنفيين لنعطيهم أصواتنا، وصرنا نعقد بعد

ذلك اجتماعات يحضرها جميع مبعوثي سورية، وفي إحدى الجلسات قرر

المبعوثون تفويض ثلاثة بمفاوضة الحكومة في شأن المنفيين، وهم المرحوم محمد

باشا العظم مبعوث الشام وأبو علي سلَاّم مبعوث بيروت، وهذا العاجز.

***

(4)

المجاعة في سورية أثناء الحرب

ومَنْ هم المسؤولون الحقيقيون عنها؟

لا جرم أن من أعظم حوادث هذه الحرب ونتائجها على الإنسانية هي المجاعة

التي عضَّت بأنيابها كثيرًا من الأمم، وأتلفت مئات ألوف، بل ملايين من النسم،

وكان لسورية منها نصيبٌ وافٍ لم يحدِّث التاريخ منذ قرون عديدة بأن سورية

أُصيبت بمثله. فقد وصل الأمر إلى أن بعض الناس أكلوا الميتة، وبعضهم فتكوا

بالأطفال، وطعموا من لحمهم، وبعضهم اختلط عقله، فذبح ابنته، وأكلها! ، كما

حصل لرجل من معلقة الدامور، ولما كان وقوع هذه المسغبة في أواخر دور الدولة

العثمانية بسورية كان بديهيًّا أن ينقم الناس أمر هذه المصيبة على هذه الدولة؛ لأن

الناس متى حلَّت بهم المصائب ينهالون بالقذف والطعن قبل كل شيء على حكومتهم

الحاضرة؛ ولأن سحر الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من الحلفاء كان لا يزال ماشيًا

إلى ذلك الوقت على السوريين، وكان لهم في البلاد سُعَاة يستثمرون جهالة العامة

وأغراض الخاصة في تحويل تبعة هذه الفادحة على الدولة العثمانية خاصة دون

سواها، ولما كان المصاب - كما يقال - يغيب عن الصواب كان السواد الأعظم

من المصابين ميَّالين إلى تصديق ذلك الحديث المفترى، ثم لما انتهت الحرب

بانتصار الحلفاء، وصار الناس في سورية يتزاحمون بالمناكب في مواكب إجلالهم،

ويتسابقون على جِيَاد القرائح في ميدان التزلُّف إليهم - كانت في مقدمة أسباب

الزلفى قضية هذه المجاعة، يذكرون أهوالها للحلفاء بكرةً وأصيلاً؛ ليُفْضوا منها

إلى التنظير بينهم وبين الأتراك بأن هؤلاء أماتوهم جوعًا قصدًا وعمدًا، وقطعوا

عنهم الميرة لإتلاف خضرائهم تصوُّرًا وتصميمًا، وأن الحلفاء جاؤوا بعد الفتح

والظفر فأغنوهم من فقر، وأسمنوهم من جوع، وآمنوهم من خوف، واندفعت

جرائد سورية - إلا ما ندر - تضرب على هذا الوتر، وانبرى كل مَنْ أراد إظهار

المودة للحلفاء يسرد قصص المصائب التي صبَّها الأتراك على نصارى لبنان؛

نظرًا لتعلُّقهم بفرنسا، وكيف أنهم جوَّعوهم، وأزهقوا من أرواحهم نحوًا من 200

ألف نسمة، كلها ذهبت في حب فرنسا، ولا عجب - فأوله سقم، وآخره قتل -

وأنه لولا حب هذه الفئة لفرنسا لكان الأتراك أشبعوها، ولم يهملوها؛ إذ كان الخير

والميرة فائضين لديهم، وإنما قتروا على اللبنانيين ليستأصلوهم، أو لينقصوا

عددهم نقصًا عظيمًا، يستريحون بعده من وجودهم. وبالاختصار فمائتا ألف

(شهيد) هذه كلها تكللت بالشهادة في حب فرنسا لا غير!

وقد سرت هذه الأوهام

إلى أناس من أنفس الأوربيين ولا سيما من الفرنسيس، حتى قرأت لهم في هذا

الموضوع كلامًا كثيرًا، وردد صداه مجلس البرلمان الفرنساوي. فاللبناني من هذه

الفئة كلما أراد أن يعتد بخدمة لقومه في هذه الحرب قال: ولقد أمات منا الأتراك

200 ألف نسمة أثناء الحرب من أجل استمساكنا بعروة الحلفاء ولا سيما فرنسا،

ولعدم انحرافنا عن سبيلها، والفرنساوي كلما أراد ادعاء حق في سورية، وحاول

تسويغ احتلاله إياها نادَى: ولنا نحن الفرنسيس هناك أصدقاء مرتبطون بنا منذ

أحقاب متطاولة، وطالما سِيموا الخسف والهوان من أجلنا، وتحملوا الانتقام

والاضطهاد، وناهيك أنه في أثناء هذه الحرب قد أهلك منهم الأتراك مائتي ألف

جوعًا من أجل محبتهم لفرنسا!

وهكذا تتواتر هذه الكلمات، وَتَتَكَرَّرُ وتُعاد وتصقل وتخمس وتشطر، وكلما

جرى ذِكر الحرب العامة، وما أصاب السوريين فيها كانت هذه الدعوى، ويسمونها

(التجويع) أول ما يستفتح به الخطاب، ويعتد به من المنن على الحلفاء، حتى إن

كثيرين ممن لا يحبون فرنسا ولا إنكلترا إذا طالبوهما بتحرير سورية وتركها لأهلها

وذكروا سابقة السوريين في خدمتهما ومناصحتهم للحلفاء في الحرب العامة - جعلوا

من جملة هذه الخدمات الجلى والمناصحات المثلى هذا (التجويع) الذي أجراه

الأتراك على سورية انتقامًا من أهلها.

ولقد آن لكل إنسان يحترم نفسه ويحاسب وجدانه، ولا يرضى أن يكون ذليلاً

للباطل وهو يعلمه، ولا أن يقارّ على البهتان وهو يشهده - أن يثور في وجه هذه

الأكذوبة التي طال أمرها، وتمادى أجلها، ويعصي سلطة هذه الأغراض مهما كان

وراءها من دول وملل، وسيف وقلم، فإن القليل بالحق كثير، وإن العزيز مع

الباطل ذليل، وإن الحق أولى أن يُتَّبع، ولو انهزم أتباعه، وإن الضلال لأجدرُ

بأن يُتنكَّب، ولو انتصر أشياعه، ولا سيما وإن صولة الباطل ساعة، وجولة الحق

إلى قيام الساعة، فإلى متى نداهن الحلفاء بأن الأتراك هم الذين أماتونا، وأنهم هم

الذين أحيونا، ونتبصبص إليهم بقولنا إن الأتراك كان بوسعهم أن يميرونا، لولا

تعمُّدهم تنقيص أعدادنا، وتقليل سوادنا، وإنهم إنما أماتونا على بيّنة، وأهلكونا،

وهم قادرون على استحيائنا، كل ذلك من أجل محبتنا لفرنسا وإنكلترا، والله لقد

أصبحنا أُمثولة في العالمين، وأضحوكة في الأولين والآخرين، وجعلنا لسورية في

التذلُّل والتملُّق تاريخًا، تضرب به أمثال المتمثِّلين، فكفانا - يا قوم - حربًا

لضمائرنا، ومكابرة لحواسنا، إنه ليس المقصود هنا الدفاع عن الترك الذين خسروا

من الأمور ما هو أهم من عطفنا ومودَّتنا، وأصبح لا يهمهم حبنا لهم، أو كرهنا

إياهم، وإنما المقصود هو تقرير حقيقة، وتحرير واقع، وإبطال نغمة ملَّتها

الأسماع، وعافتها الطباع، لا سيما مع شدة إعراقها في الباطل، ومحض صدورها

عن الهوى، فإن المجاعة أثناء الحرب كانت عامة شاملة طامَّة غير خاصة محلاًّ

دون آخر، وإنما كانت شدَّتها على درجات متفارقة، وذلك على مقدار تحمُّل البلدان

وقابليتها، وقد عمت السلطنة العثمانية بأجمعها شرقيها وغربيها، وشماليها

وجنوبيها، فلم ينجُ من مخلبها مكان، ولا سلم سكان، إلا أنه مما لا مِرية فيه أن

السهول والبقاع التي تكثر فيها البسائط لزرع الحبوب - كانت أوفر تحملاً، وأقل

بلاءً من الجبال والبقاع القاحلة التي هي عيال على البحر من جهة، وعلى السهل

من جهة أخرى لأجل ميرتها؛ لذلك لا يمكن أن يتصور العقل أن بلدة من الشام أو

حلب مثلاً تجوع بقدر جبل لبنان الذي كان ما ينبت من الحبوب يكفي أهله شهرين

من السنة فقط، ويضطر لمؤونة العشرة الأشهر الباقية إلى الجلب من البحر، أو

من داخل البلاد، أما البحر فإن دول الحلفاء قد سدت أبوابه على الأهالي سدًّا مُحكمًا،

فلم تسمح حتى للإعانات الخيرية أن تدخل إلى سورية، لا يقدر أن يكابر في ذلك

أحد. وأما الداخل فإن الحبوب التي عاش منها أهل بيروت ولبنان وسكان

السواحل عمومًا أثناء الحرب كانت ترد منه وحده، وإن قيل إنه لم يرد من الداخل

إلا القليل؛ ولذلك مات ألوف من أهل السواحل جوعًا، فالجواب: مَن قال لكم إن

الداخل لم يشتد به الغلاء، ولم يخف أهله من الموت جوعًا! ، وأي عقل يصدق أن

أهل الداخل يسمحون بحبوبهم أن تُرسَل إلى السواحل وبغلالهم أن تؤخذ من بين

أيديهم، ويكونون هم أنفسهم تحت خطر المجاعة، فقد عالجنا هذه المسألة جيدًا،

وتعاركنا مع أهل الشام وحماة وحلب مرارًا أثناء الحرب؛ لأجل المقدار الذي

نحتاجه من الحبوب من بلادهم، وكانوا دائمًا يعارضون أشد المعارضة في فتح

الباب على مصراعيه، وبعد اللتيا والتي يسمحون بشاحنتين من الحبوب يوميًّا،

ويرون ذلك كثيرًا، وكم مرة أصدرت الحكومة التركية الأوامر المشددة المؤكدة

بشحن كذا وكذا من الحنطة إلى بيروت ولبنان، وكان مجلس إدارة الشام ومجلس

إدارة حلب يملآن الدنيا صراخًا بكوْن بلادهما لا تتحمَّلان إخراج هذه الكميات منها،

وإنهم لا يرضون أن يجوعوا هم لأجل أن يشبع أهل لبنان وبيروت والمثل يقول:

ابدأ بنفسك، ثم بأخيك، وكانوا يحتجون بأن البلاد الداخلية قد تلقَّت قسمًا عظيمًا

من سكان الجبل والسواحل، وآوتهم، وأطعمتهم، ولم تقصر في رِفدهم.

فنقول: إن مجالس الشام وحلب وحماة وحمص الإدارية التي هي مركبة من

أعيان البلاد من مسلمين ومسيحيين ويهود، هل كانوا يقصدون (التجويع) ،

وينوون به استئصال نصارى لبنان؟ وهل سكان السواحل كلهم نصارى؟ لا،

إن الإحصاء يثبت أن المسلمين في السواحل إذا اعتبرت كلها منضمَّة مع لبنان

يزيدون على النصارى في العدد [3]، أفنقول: إن مسلمي الداخل أرادوا إهلاك

مسلمي السواحل جوعًا؟ وقد يرد بأن أهالي حلب والشام وحماة وحمص لم يكونوا

بمانعين إخراجَ الحبوب، وإنما هم الأتراك الذين كانوا يضعون العوائق. والحقيقة

التي لا مرية فيها أن الأتراك كانوا يأمرون بإصدار الحبوب المرة تلو المرة،

وكانت المعارضة تقع من أهل تلك الولايات بحجة أن مواسمها لا تكفيها، وأن

أهلها أولى بها، فلا يموتون هم جوعًا لأجل شبع غيرهم، وهو كلام معقول لا

غبار عليه، وكم من مرة ذهب علي منيف بك متصرف لبنان بنفسه، وعزمي بك

والي بيروت بذاته وغيرهما إلى الشام وإلى حماة وإلى حلب، وأقاموا الأيام الطوال

يتنازعون مع المجالس الإدارية في تلك الجهات، فأحيانًا يظفرون بشيء، وأحيانًا

يعودون بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغ الأمر في الآخر أن صاروا يطوفون بأنفسهم على القرى

في تلك البلاد، ومعهم القوة العسكرية لأخذ ما يجدونه من الحنطة قسرًا، فكان

الفلاحون يطمرونها في الأرض، ويخفونها بكل وسيلة، وينكرون وجودها، وهذا

جمال باشا نفسه - على ما كان عليه من القسوة والغلظة - أصدر أوامر لا تعد ولا

تُحصى بإرسال المقادير اللازمة إلى لبنان، وتولى هو بنفسه إرسال كميات عظيمة

عدة مِرَار، ولكن تشديد الأوامر وصدورها - ولو ممن اشتهر بقطّ الرقاب - لا

يكفيان في إيجاد القمح من العدم، حينما المجاعة تكشر للجميع عن أنيابها، والموت

الأبيض واقف على الأبواب.

ومن جملة اعتراضات بعضهم قولهم: يا للعجب كيف أن سورية التي كانت

تمير أهلها - وتصدر منها حبوب إلى الخارج - تعجز فيما بعد عن ميرة أهلها،

ويموت منهم الألوف المؤلّفة جوعًا! ، وهذا الاعتراض يكاد يكون من السخف

بحيث لا يستحق الجواب، فإن الذين يقولون مثل هذا القول ينسَوْن الحرب الكبرى،

ويغفلون، أو يتغافلون عما كان من نتائجها في كل الدنيا لا في سورية فقط، ولقد

أعطت سورية وحدها خمسمائة ألف جندي إلى الدولة هم لُباب الأمة وقوتها،

وأصحاب الأيدي العاملة فيها، وأكثر الباقي كان من الشيوخ والنساء والأطفال،

وقد يقال: إن قسمًا كبيرًا من هؤلاء الخمسمائة ألف فرّوا من خدمة الأتراك،

والجواب أن الفارين كانوا يختبئون فلا يقدرون أن يظهروا، ولا أن يتعاطوا

الأشغال الزراعية فلا فائدة منهم، على أن الحرث والزرع لا يقومان بالأيدي العاملة

فقط، فلا يقال: ها قد حضر الزارع فحسب، فإن البلاد أعوزها البذر والبقر، وكل

ما به قوام الغلة لكون الحرب جرفت أكثر المواشي بما ساقت منها العسكرية لأجل

جرّ المدافع وحمل الأثقال؛ ولأجل أكل الجنود على مدة أربع سنوات، واستأصلت

حرب ترعة السويس وحدها 30 ألف جمل، كنت أراها بنفسي تموت بالعشرات

على الطريق، وأنا عائد من قلعة النخل إلى معان، مع المتطوعين الذين سرت بهم

إلى تلك الحملة، ولماذا نعني أنفسنا بسرد هذه الأسباب التي كل أهل سورية

يعرفونها، ويعرفون أنها هي السبب الأصلي في المجاعة، وأن الجوع عَمَّ البلاد

كلها، فالسهول التي مثل حوران وحمص وحماة وحلب والبقاع والغور ومرج

ابن عامر، كان الخَطْب فيها أيسر من الجبال التي كلبنان وجبل القدس، ومن

المدن التي كبيروت وصيدا

إلخ، ولا ننسَ أنه في سنة 1915 جاء جراد سد

الآفاق، وعمّ البلاد كلها، وأهلك الزرع والضرع، ولم يبقَ من بعد بذر كافٍ

للمستقبل، فكان من أقوى عوامل الجوع في السنين التي بعدها.

إذًا، فالجوع الذي أُصيبت به سورية لم يكن سببه سوء نية الأتراك كما

يقولون، بل سببه حالة الحرب العامة والحصر البحري، وذلك الجراد الذي لم

يسبق له مثيل، فامتصَّ خير البلاد من أول سنة، وأعثرها عثرة صعبت من بعدها

إقالتها، ولقد اشتد الغلاء في جميع القطر الشامي، حتى في دمشق الشام التي كانت

منذ وُجدت أزهى بلاد الله عيشًا، وأرخصها أسعارًا، ومات فيها وفي توابعها ألوف

من الجوع، ومن الأمراض التي قواها سوء الغذاء، ولكن ليس كما حصل في

الساحل؛ لأن درجات الشدة كانت بحسب درجات قابلية الأراضي لزرع الحبوب

كما قلنا، وقد بلغ ثمن رطل الحنطة في حوران، وهي أم الحنطة نحو 18 و 20

غرشًا ذهبًا، وذلك على البيادر، فماذا تقول في البلاد التي ليست تُقاس بحوران في

قليل ولا كثير.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: نسي الكاتب هنا الإفك وقلب الحقائق فيما تذيعه البرقيات والجرائد، فهذا لا يغطي مظالمهم فقط، بل يحيل السيئات حسنات، يمنُّون بها على المظلومين المقهورين.

(2)

كذا في الأصل، فهل هو محرف عن الآونة أم استعمل الكاتب الأمة بمعنى الحين، كما قال

بعضهم - في تفسير قوله تعالى -: [وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ](هود: 8)، وقوله:[وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ](يوسف: 45) ، والصواب عندنا في تفسيره ما جرى عليه البيضاوي من أنه بمعنى الطائفة من الزمن، فهو استعمال للأمة في غير الأحياء، فتفسيرها بالحين تفسير بالمعنى في الجملة لا لغوي، قال الراغب: وحقيقة ذلك - أي في الآية الأولى -: بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين اهـ، ولكن هذ الوجه لا يظهر في الآية الأخرى.

(3)

المنار: إن قرية القلمون في ساحل لبنان بقرب طرابلس الشام، وأهلها كلهم مسلمون، وأكثرهم شرفاء من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وروى لنا الثقات عمن رأى اسمها في دركنار الدولة بالباب العالي - أنها سُميت فيه بسيدة القرى والمزارع، ولقد مات ثلثا أهلها جوعًا، ووجد فيها مَن أكل الجيف، وامرأة أكلت من لحم أولادها، على أنهم كانوا - قبل شدة المجاعة - يفيضون على جيران قريتهم النصارى فضل قوتهم! .

ص: 290

الكاتب: حسني عبد الهادي

‌من الخرافات إلى الحقيقة

(5)

تابع لمقالة الطور الأول للإسلام [1]

(16)

شعور الإخاء كان بالغًا أعلى الدرجات بين المسلمين، ألمُ الواحد

كان يؤلم المجموع؛ لأنهم اتخذوا لحالتهم الاجتماعية منهاجًا رسمه لهم النبي -

صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إن حقًّا على المؤمنين أن يتوجَّع بعضهم لبعضٍ،

كما يؤلم الجسد الرأس) [2] ، كان الناس يمشون على هذا المنهاج الاجتماعي بكل

إخلاص، أما نحن (واأسفاه!) فهل يتذكَّر أحدنا إن جاء المسلمين ضربة إلا

وكانت عن يد مسلم؟ هذا تاريخنا الماضي لنقرأه باكين [3] .

(17)

إلقاء بذور الشقاق والتفريق بين المسلمين كان ممقوتًا أشد المقْت،

حتى إن الهادي الأكرم أخرج المفرقين من بين أفراد العائلة الإسلامية؛ إذ قال (مَن

فرَّق فليس منا) [4] ، وأما في زماننا - فواحسرتاه! - قد أصبح التفريق بين

المسلمين يعد من حسن الحزم ودهاء السياسة فينا!

(وقلبوا الحقيقة فخصوا المفرق باسم (المنقذ) كأن الخروج من التابعية

الإسلامية، والدخول في حماية غير المسلمين (إنقاذ! ! !) - لا حول ولا قوة إلا

بالله - (المترجم) .

(18)

كانت النميمة بين الناس من أشنع المنكرات؛ لأن سيد الخلق قال:

(إياكم والعِضَةَ؛ النميمة القَالَة بين الناس)[5] .

(19)

الظن السيئ في الناس الذين - لم تثبت تهمتهم - كان من أسوأ

الأخلاق، والتجسس على الناس كان معدودًا من المفاسد المنافية للتأليف مع الإسلام؛

لحديث: (إياكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا،

ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا) [6] ، وأما نحن

فأقل إشارة تبدو من أخينا المسلم تكون سببًا لإغراقنا إياه في أمواج الظنون المختلفة،

فهل صار ديننا البُعد عن هدي نبينا، ونبذ آداب ديننا؟

كلا، إن حُسن الظن بالناس قد عُدَّ من حسن العبادة في ديننا؛ إذ قال نبينا

عليه صلوات الله وسلامه: (حسن الظن من حسن العبادة)[7] وكان الناس يعدون

الانقياد لهذا الهدْي النبوي من أقدس الواجبات، فليتدبره العقلاء، وليحكموا على

أنفسهم أو لها.

(20)

كانوا يكرهون التفرُّق في المجلس الواحد، ويستحبون الاجتماع

والمشاركة فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب مرأى أمته وهم

مجتمعون، وقد دخل المسجد مرة فرأى المسلمين جالسين خمسة خمسة، أو ستة

ستة، فلم يرُقه هذا المنظر، فقال:(ما لي أراكم عزين؟ !)[8] لأن هذا

المنظر يوهم الأعداء وقوع التفرقة.

ظل المسلمون مهتدين بهذا الهدْي محافظين على وصية الاجتماع والاعتصام

إلى زمان ذي النورين، وهناك بدأت التفرقة، ومنذ ذلك التاريخ تمطر التفرقة على

رأس المسلمين وابل النكبات والمصائب، أين العقلاء؟ !

(21)

أهم ما كان يرمي إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤلف

المسلمون جسمًا معنويًّا واحدًا، يتحابون، ويتراحمون، فيكونون كأعضاء الجسد

الواحد؛ لذلك قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا

اشتكى منه عضو تداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .

وأما نحن فلم نفقد التحابّ والتراحم فقط، بل صرنا نجهل أحوال إخواننا

المسلمين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكيف نتراحم قبل أن نتعارف

مَن منا يعرف أحوال مسلمي جاوه وما جاورها من دينية وإدارية واقتصادية؟ مَن

منا يطلب من الجرائد أن تبحث له عنها، أو عن غيرها من بلاد المسلمين، كما

تبحث عن أمم أوربة وأميركا؟ أين الكتب التي تبحث عن جغرافية تلك البلاد

وتاريخها؟ وكيف طوَّق عنقها بقيود الحماية الغربية؟ ، كيف ولماذا أصيبت بهذه

المصيبة؟ مَن منا - إلا قليل - تشعر نفسه بالحاجة إلى ما ذُكر؟ وبعد هذا

الإهمال أنحن مسلمون؟ ! [9]

رُبّ قائلٍ يقول: إن الجرائد غير الإسلامية تهمل البحث عن المسلمين

وأحوالهم، وأحداث بلادهم لعدم العلاقة بينها وبينهم، وتملأ أدمغتنا بما يتعلق بأوربا

وأميركا، فامتلأ الخلاء. ولكن ما قولنا في الجرائد الإسلامية: هل فات أصحابها

النابغين أن ما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التراحم والتعاطف يتوقف

على التعارف قبل كل شيءٍ؟ كيف أعطف على قوم لا أعرفهم؟ لذلك أرى التبعة

تقع على عاتق مؤلّفي الجغرافية والتاريخ، وكُتّاب الصحف قبل كل الناس.

(22)

الاتحاد من أقصى مقاصد الدين؛ لأن التعالي السياسي لا يكون

بدونه أبدًا؛ لذلك [10] أمر الله تعالى به بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا

تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) .

(23)

الاجتماع كان محبوبًا جدًّا عنده صلى الله عليه وسلم، جاء في

الحديث: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة،

فعليكم بالجماعة) [11] لذلك لم يكن أحد من السلف يفكر في شخصه وحده، بل كان

الناس يفتشون على سعادتهم بين سعادة المجموع.

(24)

كان المِرَاء والجدال لتأييد أهواء الأنفس من أقبح الخصال المذمومة؛

لأنه يثير الأحقاد، ويعمي البصائر والأبصار عن رؤية الحقائق، ومما ورد من

الأحاديث الصحيحة في ذمه والتنفير عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أبغض

الرجال إلى الله الألدّ الخصم) [12] .

(25)

معاملة الجار بالحسنى، وعمل المعروف كان من أهم الآداب التي

يحافظ عليها المسلمون لوصايا القرآن والسنة به، ومنها حديث: (أحسنْ إلى

جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا) [13] .

(26)

كان أفراد الأمة صريحين في أقوالهم، أحرارًا في أطوارهم،

وأظهر سجايا الإسلام في طوره الأول هذه السجية، كان كل فرد مسلم يقول الحق

بصراحة، ولو كان مخاطبه نفس الخليفة، وكانوا يتنزهون عن الكذب؛ لأنه أقوى

دعائم النفاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب،

وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) [14] .

(27)

إغماض العين على الباطل محاباةً، والتملُّق للظلمة مُداراةً والغش

والخداع للناس - كل ذلك كان يُعَدّ من صفات المجرمين والمنافقين، المنافية لآداب

الإسلام وصفات المؤمنين، وقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم كل مَن يغش

مسلمًا أو يخدعه أو يحتال عليه من الجمعية الإسلامية؛ إذ قال: (ليس منا مَن

غش مسلمًا أو ضره أو ماكره) [15] .

(28)

أخذ الموظفين الهدية وقبول الحكام الرشوة كان من أكبر الجرائم

المذمومة، قال صلى الله عليه وسلم: (أَخْذُ الأمير الهدية سُحت، وقبول القاضي

الرشوة كفر) [16] .

وما قول أمراء هذا الزمان الذين يعدون قبول الهدايا أمرًا غير منهيٍّ عنه؟

رَبِّ ارْحَمْ أمة يدير أمورها أناس لا يفقهون أحكام الشرع!

(29)

الاستقامة على الحق كانت من أُسِّ الواجبات، وركن المعاملات

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود:

112) إنها شيبته تعظيمًا لشأن الاستقامة، وعلى مَن يريد أن يقف على روح

الإسلام، ويتأمل في صعوبة الاستقامة، ويدرك درجة عظمة المستقيمين، فما عليه

إلا أن يتأمل معاملة الفاروق للمرأة التي رآها جائعة، وكيف حمل لها كيس الطحين

على ظهره، وكيف طبخ لها بيديه الشريفتين، مَن يتأمل فيما أودعته هذه الواقعة

من المعاني يدرك عظمة الاستقامة، وكيفية تلقِّيها عند المسلمين، وعندئذ تتضح له

أسباب تعالِيهِم بكل سهولة [17] .

(30)

العدل كان غاية من كل مسلم؛ لأن الله قال - في كتابه العزيز -:

{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8)[18] .

(31)

روح الإسلام حسن الخلق؛ لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم بقوله:

(استقم، وليحسن خلقك للناس)[19] وقوله: (الإسلام حسن الخلق)[20] وقال

تعالى - مادحًا نبيه -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقال صلى الله

عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا)[21] .

(32)

التعدي والتجاوز على الناس كان منهيًّا (ومَنئيًّا) عنه؛ لأن النبي -

صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل المؤمنين إسلامًا مَن سلم المسلمون من يده

ولسانه، وأفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) [22] ، وهذا تأمينًا لحرية الأفراد من

أي تعدٍّ خارجي.

(33)

حُسن الخلق كان يوصل صاحبه إلى أعلى درجات التقوى التي لا

تُنال إلا بقيام الليل وصيام النهار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن

المؤمن لَيدركُ بحسن الخلق درجة القائم الصائم) [23] .

(34)

عُلو الهمة والسماحة من مكارم الأخلاق العالية عند المسلمين؛ فقد جاء

في الحديث: (اسمحوا يسمح لكم)[24] لكي تقابل المكارم بمثلها.

(35)

كان المسلمون يسلم بعضهم على بعض عند التلاقي بكل لطف

وبشاشة وإخلاص؛ لأجل استمالة القلوب ودوام التحابّ، ومما ورد من الحديث في

ذلك: (أفشوا السلام بينكم تحابوا)[25] .

(36)

الرفق واللين كان الأساس لجميع المعاملات؛ لأن النبي - صلى الله

عليه وسلم - قال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله)[26] .

(37)

إن البشاشة في الوجوه عند اللقاء كانت من الآداب العامة المطلوبة

للتحاب، وكان التعبيس والتقطيب من الخصال الممقوتة، قال - صلى الله عليه

وسلم -: (إن الله تعالى يبغض المعبس في وجوه إخوانه)[27] .

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: لا ندري لماذا تصرف المترجم في الأصل بالتقديم والتأخير، ومنه الفصل بين ما هنا وما سبقه من آداب الإسلام بالكلام في تأثير الفرس والترك في السياسة الإسلامية؟ .

(2)

رواه أبو الشيخ عن محمد بن كعب مرسلاً بإسناد حسن، وفي معناه أحاديث موصولة في الصحاح هي أوْلى منه بالتمثيل كحديث النعمان بن بشير في مسند أحمد وصحيح مسلم الذي يأتي قريبًا في عدد (21) .

(3)

إن حالنا الحاضرة ليست أمثل من تاريخ تعادينا الماضي، وإيقاعنا بأمتنا، فكل ما أصابنا من استيلاء الأعداء على بلادنا قد وقع بتخاذلنا، وتخريب بيوتنا بأيدينا، وأيدي أعدائنا الذين واليناهم، وساعدناهم على أنفسنا، كما أشار إليه المترجم في جملته التي ذيل بها حديث التفريق الذي بعد هذا.

(4)

الحديث رواه الطبراني من حديث معقل بن يسار بسند صحيح، وهو مأخوذ من قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:[إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ](الأنعام: 159) والأحاديث في الحث على الاعتصام والنهي عن التفرق كثيرة، والآيات في ذلك معروفة.

(5)

رواه أبو الشيخ في التوبيخ عن عبد الله بن مسعود بسند حسن، وفي النهي عن النميمة أحاديث صحيحة معروفة، والعِضَة كعِزَة، وسيأتي.

(6)

رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، قالوا: إن التحسس بالمهملة هو التجسس بالواسطة، وهو - في أصل اللغة - طلب الحس، والإحساس بالشيء.

(7)

رواه أبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة.

(8)

رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن سمرة، وعِزِين: جمع عِزَة بوزن عِدَة، وجمعه هذا سماعي.

(9)

المنار: لو اطَّلع المؤلف أو المترجم على حديث: (مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)

لاأَوْرَدَهُ هنا، وهو عند الطبراني وأبي نعيم في الحلية، بل رواه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعًا بمعناه.

(10)

المنار: هذا التعليل من لوازم حكمة الدين ومقصده من الأمر بالاعتصام والاتفاق والنهي عن التفرق والشقاق أو أحد المقاصد، وليس هو العلة الأولى للأمر والنهي، بل علتهما الأولى أن الدين نفسه لا يحفظ، ولا يقوم، ولا تترتب عليه آثاره من سعادة الدارين إلا بذلك.

(11)

رواه أحمد عن أبي ذر بسند صحيح، والأحاديث في وجوب التزام الجماعة، وحظر الفُرقة كثيرة.

(12)

رواه أحمد والشيخان وغيرهما.

(13)

هذا بعض حديث أوله: (اتقِ المحارم) إلخ، رواه الترمذي وغيره من رواية الحسن البصري عن أبي هريرة، وهو لم يسمع منه، وفي الباب أحاديث صحيحة كثيرة.

(14)

رواه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، وفي معناه أحاديث أخرى كثيرة، صرح فيها بكوْن إكرام الجار من آيات الإيمان، وكوْن إيذائه ينافي الإيمان.

(15)

رواه الرافعي من حديث علي بسند حسن، وفي معناه أحاديث أخرى منها:(مَن غَشَّ أمتي فليس منا) ، رواه الترمذي عن أبي هريرة بسند صحيح، وهو عام في غش المسلمين وغيرهم.

(16)

رواه أحمد في الزهد من حديث علي كرم الله وجهه بسند حسن، والمراد أنه من أعمال الكفار التي يتجنبها المسلمون، لا أنه خروج من الملة.

(17)

قد يخفى جعْل هذه المنقبة من مناقب الفاروق مثلاً للاستقامة التي هي عبارة عن الثبات على الحق والفضيلة، ولعله أراد بذلك أن هذا العمل، وإن كان حدثًا زائلاً، يُعَدَّ أدل الدلائل على استقامة الفاروق على منتهى آداب الشرع، وكمال فضائله، من حيث إن الخلافة التي هي أعلى المناصب لم تكن صارفة لأمير المؤمنين عن منتهى النجدة والتواضع، وخدمة أضعف أفراد الأمة.

(18)

ينبغي أن تجعل هذه المسألة هكذا: كان العدل مع البعيد والقريب، والعدو والصديق، والبغيض والحبيب فرضًا لازبًا على كل مسلم في هذا الدين؛ لأن الله قال في كتابه العزيز:[وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى](المائدة: 8)، أي: لا يحملنَّكم بُغض قوم لكم، أو بُغضكم لهم على ترك العدل فيهم، بل اعدلوا مع كل أحد؛ لأن العدل - وهو ميزان صلاح العالم - أقرب للتقوى، فيُتَّقَى به من شر الشانئ ما لا يُتَّقى بتركه أو بضده.

(19)

رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وَحَسَّنُوه.

(20)

رواه الديلمي عن أبي سعيد الخدري.

(21)

رواه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر بسند صحيح.

(22)

رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بسند صحيح، وله تتمة.

(23)

رواه أبو داود وابن حبان من حديث عائشة.

(24)

رواه عبد الرزاق في جامعه مرسلاً بسند صحيح.

(25)

رواه الحاكم من حديث أبي موسى وصححه.

(26)

رواه البخاري من حديث عائشة.

(27)

رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي.

ص: 300

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة الأوربية

(2)

السفر من تريسته:

سافرنا من تريسته يوم الخميس في الربع الأخير من الساعة السابعة صباحًا

(6 س و45د) في قطار أوربة الأكبر، وكان موعده قبل ساعة، ولكنه تأخر

لتأخر مجيئه من الآستانة.

سار بنا القطار في خيف شجير، من ذلك الجبل النضير، فكانت شجراؤه

عن يميننا في الجبل، وعن يسارنا فوق البحر، وما زال يتسلق بنا متلويًّا كالأرقم

في الأجم، حتى استوى على تلك السهول الفيحاء، والسهوب الشجراء، ذات

المروج الخضراء، والرياض الغَنَّاء، الكثيرة النوار، والمفتَّحة الأزهار، حتى

كأن الزمان قد استدار، فتحوَّل الشطر الثاني من آبَ إلى مثله من نيسان، وأوائل

آيار، وهي السهول المعروفة بسهول لومباردية، وبعد أربع ساعات وصل إلى

مدينة البندقية (فينيسية) ، وهو يدخل إليها على طريق يبس في رقراق من الماء،

يسير فيه خمس دقائق، يقطع فيها زهاء أربعة أميال (أو 5 كيلو) ، ثم عاد بنا

القهقرَى في ذلك الماء بعد وقوف دقائق في المحطة، ثم وصلنا إلى مدينة (ميلان)

وقت العصر (الساعة 3 و45 دقيقة) ، ومكث في محطتها نصف ساعة، تزود

فيها ما يحتاج إليه من الفحم والماء، وبين البندقية، وميلان بلاد وقرى كثيرة

عامرة، لا يقف عليها القطار العام السريع، وإنما المواصلات بينها بالقُطُر الوطنية.

وأما هاتان المدينتان فهما من أعظم المدن ذات الصناعات الجميلة، والآثار

التاريخية التي يقصدها السياح من الأقطار، ولو شئنا لنقلنا من كتب التاريخ شيئًا

من وصفها، كما يفعل كثير من الناس فيما يكتبون في رحلاتهم، ولسنا من

مستحسِنِي هذه الطريقة بإطلاق، وإنما يحسن فيها تقييد بعض الشوارد المبعثرة،

والنوادّ التي لا تنال باليسير من المراجعة، والنوادر التي تزدان بها المحاضرة،

وما يستنبطه السائح من العبرة والفائدة، حتى فيما صوَّرته الفكاهة والتسلية.

ومما لاحظته في نبات هذه الأرض أن أكثر شجرها صغير، ومتوسط العمر

لعل أكبره لا يتجاوز عشر سنين؛ وذلك أنهم يتناولونه بالقطع للاستفادة من خشبه،

ولكن بالقرب من ميلان أدواحًا عظيمة باسقة، كأنهم يستبقونها للزينة، ورأيتهم

يختلون خلاها (أي يقطعون حشيشها) بآلات تستأصله من وجه الأرض ويجففونه،

ويجعلونه أكداسًا كأكداس حصيد القمح والشعير، ولا يلبث أن ينمي مكانه، ويطول؛

لأن المكان مجاج الثرى ريَّان بالماء.

ولم أَرَ في تلك الحقول الخضراء زرعًا غير الذرة، وهي غضَّة حسنة النماء

فيما قبل ميلان من الأرض، وأكثرها ضئيل فيما بعدها، وبالقرب من المدن

والقرى حقول، وبساتين مزروعة بقولاً كالفاصوليا، والكرنب، والطماطم، وأما

شجرها فمنه التفاح والكمثرى، وقد أينع ثمره، وطابت فاكهته.

وأجمل مناظر هذه البلاد - على الإطلاق - البحيرات فقد مررنا ببعضها عن

بُعد، وببعضها من كثب، ولم أنسَ لا أنسى أصيل ذلك اليوم؛ إذ بلغنا بحيرة

ماجور أو (ميجارو) ، فراعني ذلك المنظر البهيج، الذي لم أَرَ له فيما سبق من

عمري من شبيه ولا نظير، وإنما رأيت نظيره بعد ذلك في سويسرة، فأقول: إن

مثل هذه البحيرة وبحيرة لوسرن من البحيرات التي بين الجبال هو أجمل ما خلقه

الله في هذه الأرض.

البحيرة واسعة، بين جبال شاهقة، مزدانة بالجنات الألفاف، والأجم الغبياء،

من أدنَى الغور المساوي للماء، إلى الشماريخ التي تناطح السماء، وترى فيما

يدنو منك من هذه الجنات، المعروشات منها وغير المعروشات، أصناف الأعناب

وأنواع الثمرات، وهي ذات تعاريج كثيرة، وفيها جزائر صغيرة، بُنيت فيها

قصور نضيرة، يصلون إليها بزوارق جميلة، ومياهها زرقاء صافية، وهي تتسع

في مكان، وتضيق في آخر، وأخياف الجبال المحيطة بها تمتد على بعض

الضفاف، وتتقلَّص عن بعض، ولبعضها ألسنة مستطيلة فيها، ورؤوس مقنعة في

بعض نواحيها، والقطار يسايرها في جوانبها، ويلتفُّ على معاطفها، فيدنو ويبعد،

ويغير وينجد، ويصوب ويصعد، ونحن فيه متلعو الرؤوس شاخصو الأبصار،

نقلب الطرف ذات اليمين وذات اليسار، فمنظر البحيرة العجيب عن أيماننا،

ومنظر الجبال الغريب عن شمائلنا، وفي كل منهما آيات للناظرين، ومعانٍ

للمتفكرين، تثير في الخيال هواجس الشعر، وتنفث في الوهم رقي السحر، وتُلقي

في العقول معاني الفنون، وتوحي إلى القلوب حقائق الإيمان بمَن يقول للشيء كن

فيكون.

تذكرت برؤية تلك الجنات الغَنَّاء، والغابات الغبياء، والرياض الفيحاء -

وَصْفي لروضة من روضات الوطن في مقصورتي، وهو:

وروضةٍ تجلى بثوب سندس

رصَّعها النَّوْرُ بأصناف الحُلَى [1]

ما صوَّح البارحُ غضَّ نجمها

وناضرُ الأفنانِ منها ما ذَوَى [2]

والباسقاتُ رفعت أكفَّها

تَسْتَنْزل الغيث وتطلب النَّدَى [3]

تمتلجُ (الكربون) من ضرع الهوا

تؤثرنا بالأكسجين المنتقَى [4]

مدَّت على الصعيد ظلاًّ وارفًا

فلا ذَأَى العودُ ولا الظلُّ أَزَى [5]

والشمسُ تبدو من خلال دوحها

آونةً تخفَى وتارة تُرَى [6]

كغادةٍ وضَّاحةٍ قد أتْلعَتْ

من خَلَلِ السُّجوف ترنو والكُوى [7]

تلقي على الروض نَثِير عسجد

فتسحب الروض عروسًا تُجتلَى [8]

وأين هذا الوصف القاصر، من هذا المنظر الناضر، والجمال الساحر،

وأَنَّى لي بتخيل مثله في طرابلس والقلمون، وإن كانت كثيرة الجنات جارية

العيون.

كل هذا الجمال والجلال، الذي تجلى علينا بمناظر البحيرة، وما يحيط بها

من الجبال، وما يزين ضفافها، وجزائرها من القصور والفنادق، والجنات

والحدائق، والفُلْك والزوارق، وما تولده من المعاني الشعرية، والخواطر

الاجتماعية والروحية، لم تكن لتنسيني أن ولدي مريض ما أدري ما فعل الله به،

ولا لتصرفني عن الخوف عليه، والدعاء له، ولا سيما في أعقاب الصلوات، وما

وفقت له من تلاوة القرآن والوضوء والصلاة في هذه القطر من أسهل الأمور،

ومعرفة سَمْت القبلة فيها ميسور.

وانتهينا عند الساعة السابعة مساءً إلى محطة وقف فيها القطار نصف ساعة

لانكسار مركبة الطعام هنالك، وقد ظننا أنها أصلحت في تلك المدة، ولكن خاب

الظن، وبقينا بغير عشاء، على أننا مكثنا زمنًا طويلاً في المحطة التي بعدها،

وهي آخر محطة طليانية، وفيها مطعم عام، إلا أننا شغلنا عن الطعام فيها بعرض

جوازات السفر وتفتيش الصناديق، وبما اتخذ من المعاملات الجمركية بشأن لفائف

التبغ التي يحملها الرفاق.

ثم سار القطار بنا، ولم يلبث أن دخل في النفق الكبير الفاصل بين إيطالية

وسويسرة، ومكث في بطن الأرض 25 دقيقة، ثم تجاوزه، ووقف بنا بعد نصف

ساعة في أول محطة سويسرية، فمكثنا فيها مدة؛ لأجل معاملات الأجوزة، وقد

أخذوها منها واعدين بإعادتها لنا في جنيف، ثم سرنا فوصلنا إلى مدينة لوزان في

منتصف الليل، فلم ندرك القطار الذي يسافر ليلاً إلى جنيف لتأخرنا عن الموعد،

فبيتنا بقية ليلتنا في فندق فيكتوريا بقرب المحطة، وقد طلبنا فيه طعامًا، فقيل لنا

إن المطعم قد أقفل ولا طعام إلا الخبز، والجبن، والزبد، والمربى، والفاكهة،

فجاءونا من ذلك بأفضل أنواعه مع الماء المثلوج والثلج لتبريد الفاكهة، وهي موز

وتفاح وكمثرى، فكان هذا العشاء أشهى وألذّ من كل طعام أكلناه في أوربة؛ إذ كان

عقب جوع صحيح وتعب طويل.

أكلنا طعامًا لطيفًا لذيذًا، ونمنا نومًا هادئًا مريحًا، على سُرُر مرفوعة وفُرُش

وثيرة نظيفة، ولكل حجرة من حجرات النوم حمام خاص، تمتعنا بها في ليلنا وفي

صبيحته.

كان الجو في ذلك اليوم الذي قطعنا به أرض إيطالية يوم صيف معتدل، وإن

كانت أرضها أرض ربيع مُدْبرٍ ومقبلٍ، ولولا غمام رقيق كان يكفكف بعض أشعة

الشمس - لعُدَّ هنالك من أيام الحر، وقد تغير الجو علينا في سويسرة بعد نصف

الليل، فهبَّ الهواء البليل، ولما أصبحنا رأينا السحاب يتكاثف في الأفق، ثم طفق

يجود برذاذ لطيف، ثم تكاثف السحاب قبل الظهر، واشتد المطر بعد العصر،

فكان كما وصفه ابن دريد بقوله:

جَوْن أعارته الجنوبُ جانبًا

منها وواصتْ صَوبه يَدُ الصَّبا [9]

نَاءَ يمانيًّا فلما انتشرت

أحضانُه وامتدَّ كِسراه غَطا [10]

وجلَّل الأفْق فكل جانب

منها كأنْ من قُطره المُزْنُ حبا [11]

وطبّق الأرضَ فكل بقعة

منها تقولُ الغيث في هاتا ثوى [12]

إذا خَبَتْ بروقه عنَّت له

ريحُ الصَّبا تَشُبُّ منه ما خبا [13]

وإن وَنَت رعودُه حدا بها

حادي الجنوب فحدتْ كما حدا [14]

كأن في أحضانه وبَرْكه

بَرْكًا تداعى بين سَجْرٍ ووَحَى [15]

لم تَرَ كالمُزْن سَوامًا بُهَّلاً

تحسَبها مَرعيَّة وهي سُدى [16]

يقول للأجْرَاز لما استوسقت

بسَوْقه ثِقِي بِرِيٍّ وحيا [17]

فأوسع الأحداب سَيْبًا مُحسِبًا

وطبَّقَ البُطنان بالماء الرِّوَى [18]

كأنما البَيْدَاء غِبَّ صَوْبه

بحرٌ طما تياره ثم سجا [19]

هذا، وإننا كنا نريد أن نسافر إلى جنيف قبل الظهر، ولكن جاء منها

لاستقبالنا مَن كان فيها من إخواننا السوريين - نجيب بك شقير، وصلاح الدين

أفندي قاسم، وتوفيق أفندي اليازجي - الذي كان سبق من قبل حزبنا للاستعداد

للمؤتمر، فتأخرنا إلى المساء، ولم نتمكَّن من التجوال في لوزان لشدة المطر، ثم

سافرنا عند انتهاء الساعة الخامسة مساءً، والمطر يهطل، والريح تمنعنا من فتح

نوافذ القطار، ومناظر سويسرة تأخذ بأبصارنا ذات اليمن وذات اليسار، فوصلنا

إلى جنيف في خمسين دقيقة.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الروضة: الموضع المعجب بالزهور قاله في المصباح، وأصله مجتمع الماء، ثم أطلق على ما يُحْدثه الماء من النبات والزهر، وهو الترويض والنَّوْر بالفتح: زهر النبات، والشجر واحِده نورة، فهو كتمر وتمرة، وجمعه أنوار ونوار بوزن تفاح، والحلَى بالكسر وبالضم جمع حلية بالكسر، وهو ما يتزيَّن به النساء من الجواهر، والترصيع تزيين الحلي، والحلل بالجواهر التي شبه بها هنا أصناف النوار.

(2)

البارح: الريح الحارة وتصويحها للنبات تجفيفه، والنجم: النبات الذي لا ساق له، ويقابله الشجر، وأشير إليه بالأفنان، وهي الأغصان وذَوَى يذوي: ذبل.

(3)

الباسقات: جمع باسق وباسقة، وهو ما ارتفع وذهب في الأفق طولاً وارتفاعًا، وأكثر ما استعمل في وصف النخل والسحاب، والمراد هنا كل ما ارتفع من الشجر كالحور والسرو، وأكفها أغصانها المورقة، وارتفاع الشجر سبب من أسباب المطر، والندى: المطر أو ما دون الغيث من ماء السماء، أي ما يتكاثف من بخار الماء بالتدريج فيُحدث بللاً، ومنه الندى بمعنى: الجود والسخاء، وفي اللفظ هنا تورية لطيفة، على ما فيه - وفيما قبله - من استعارات طريفة.

(4)

تمتلج: ترتضع، والكربون: عنصر كيماوي يكثر في الفحم، والأكسجين: عنصر آخر يدخل في تركيب الهواء والماء، وهو علة أو سبب من أسباب حياة الحيوان والنبات، وباستنشاقه في الهواء يطهر الدم من المواد السامة، والشجر ينتشق حمض الكربون السام من الهواء، ويفرز الأكسجين النافع المطهر للدم منه ومن غيره.

(5)

الصعيد: وجه الأرض والظل الوارف المتسع الممتد، وذأى ذأيًا وذأوًا: ذبل كزوى، وأزى يأزي وأزا يأزو: تقبض وتقلص.

(6)

الدوح: جمع دوحة، وهي الشجرة العظيمة.

(7)

الغادة: الحسناء الناعمة الليِّنة العنق والقوام، وأتلعت: مدت عنقها متطاولة لتنظر، والسجوف: جمع سجف بفتح السين وكسرها، وهي الستور التي تُنصب على الأبواب والنوافذ، مؤلفًا كل منها من سِترين، بينهما فرجة، وقيل السجف: الشق بين السترين المقرونين، والكوى بالضم: جمع كوة، وهي النافذة الصغيرة والخلل بالتحريك: ما بين الأشياء من فرجة، ورنا إليه وله رنا ورنوا: نظر، بل هو إطالة النظر مع سكون الطرف كنظر العاشق.

(8)

العسجد: الذهب، والنثار والنثير: ما يُنثر أي يُلقَى متفرقًا، وكانوا ينثرون الدنانير حول العروس.

(9)

قوله: جَوْن: صفة لمحذوف تقديره سحاب جون، وهو فاعل لقوله سقى العقيق إلخ في بيت سابق، والجون الأسود - ويطلق على الأبيض - فهو من أسماء الأضداد التي يتعين المراد منها بالقرينة، والمراد بالجنوب: الريح التي تهب من جهة الجنوب، فتجيء بالمطر، والصبا: الريح الشرقية، وهي تتحد مع الجنوبية كثيرًا، وتُشْبهها، كما أن الريح الغربية تتحد مع الشمالية، وتشبهها، ويكثر مجيء المطر بعدهما في نصف الأرض الشمالي، كما يكثر مجيء المطر بعد الأوليين في النصف الجنوبي، ووصاه: واصله، والمعنى أن هذا السحاب بدأت الجنوب بإثارته بحركتها، وبتلقيحه ببردها، ثم واصلت الصبا بهبوبها ما بدأت به أختها.

(10)

ناء: نهض بثقل وجهد وبالأمر: نهض به بتعب، ومشقة، وأحضان الشيء: نواحيه، وأصله ما دون الإبط إلى الكشح من الإنسان، والكسر بكسر الكاف وفتحها: ما تكسَّر وتدلى من الخباء إلى جهة الأرض، وهو استعارة جميلة، وغطا يغطو: ارتفع وقيل انبسط، والمعنى أن هذا السحاب الجون ناء بحمل الماء حال كونه يمانيًّا؛ إذ اليمن من بلاد العرب في الجنوب، وقد بدأ ظهوره منها، فلما انتشرت جوانبه بمواصاة الصبا ومواصلتها لعمل الجنوب فيه، وامتد كسراه الجنوبي والشرقي في سائر الأفق: ارتفع إذ خفَّ حمله بما أفرغ من ثقله، أو انتشر، وصار عامًّا، كما صرح به في البيتين التاليين لهذا.

(11)

جلل الأفق: غطَّاه وعمَّه بستره إياه، والمزن: السحاب الممطر، وحبا: زحف ودنا يقال حبا الصبي إذا زحف، والمعنى أنه بعد أن عَمَّ الأفق، وجلله، صار كل قَطْر من أقطاره كان المزن قد زحف بصَيْبه منه؛ إذ لم يعد خاصًّا بالجنوب، حيث نهض، ولا بالشرق حيث امتد.

(12)

طبَّق الأرض: غطاها وجللها بمطره كما طبق هو الأفق بنفسه - وعدَّه في الأساس مجازًا - فكل بقعة منها تقول إن الغيث قد ثوى في هذه دون غيرها، كما يؤخذ من تقديم الظرف والمعنى يقتضيه، وهاتا: اسم إشارة للمؤنث معروف كهذه وهذي، وتُستعمل كلها بدون هاء التنبيه أيضًا.

(13)

خبا البرق: سكن كالسراج إذا طفئ يقول إذا خبت بروق هذا الجون عنت، وعرضت له ريح الصبا، فأعادت وميضه ولمعانه، كما تشب النار السراج بعد انطفائه.

(14)

ونت: ضعفت أو فترت، وحدا الإبل وحدا بها: غنَّى لها ينشطها على السير، وحادي

الجنوب - وفي رواية راعي الجنوب - معناه الجنوب الذي هو كالحادي أو الراعي للإبل؛ لأنه هو الذي يسوق السحاب، يقول: وإن ضعفت أو فترت رعوده انبرى له من ريح الجنوب عاصفة ما يصيح به، كما يصيح حادي الإبل بها إذا ونت وضعف سيرها، فعادت تجلجل بصوتها، كأنها تجيبه عن حدائه بمثله، وليس المراد أن البرق ومض بتأثير ريح الصبا وحدها في السحاب والرعد يقصف بتأثير ريح الجنوب وحدها، بل المراد أن هذا السحاب الذي تعاونت الجنوب والصبا على إثارته، ولفحته ببردها، فحمل القطر، ثم ألقى حمله على الأرض تتعاون الريحان في شب بروقه، وقصف رعوده بجمْعهما بين زوجَيْ الكهربائية الإيجابي والسلبي، الذي يشب البرق، فيحدث بشبوبه تفريغ الهواء الذي هو سبب الرعد، وفي الكلام من ظريف الاستعارات ما ترى وتسمع، وقد فسر الاستعارات من مكنية وتمثيلية بالتشبيه الصريح في البيت التالي، وبما بعده.

(15)

البرك الأول: الصدر، والثاني جماعة الإبل الباركة، وإنما يقال برك البعير؛ لأنه يُلقي بصدره إلى الأرض، وتداعى: أصله تتداعى، أي يدعو بعضها بعضًا، والسجر والسجور حنين الناقة، وجعله الراغب استعارة من سجر النار لالتهابها في العدو، وفي مجاز الأساس: سجرت الناقة سجرًا، وسجرت تسجيرًا: أمدت حنينها في أثر ولدها، وملأت به فاها، قال:

حنت إلى برق فقلت لها قري

بعض الحنين فإن سجرك سائقي

وإنما قيد الحنين هنا بالممتد الذي يملأ الفم؛ لأن حقيقة السجر الملء، يقال سجر التنور إذا ملأها لهبًا، وسجر المطر الوادي؛ إذ ملأه، والبحر المسجور: الممتلئ، وقوله:(قري) في الشاهد: أمر من الوقار والسكون، يقول للناقة: لا تجعلي حنينك ممتدًا دائمًا، بل اكتفي ببعضه، والتزمي أقله؛ فإن سجرك يشوقني إلى وطني، ومَن أحب فيه، فأحن إليه كما تحنين إلى فصيلك، والوَحَى- كفَتَى - الصوت الذي ينقضي بسرعة، والعجلة والسرعة، ويقال: الوحى الوحى والوحاء الوحاء: في طلب النجدة والإغاثة السريعة، والمعنى: كأنَّ ما في جوانب ذلك الجون وفي صدره وهو وسطه من قطع السحاب التي تجتمع، وتفترق، وتتحول من جانب من جوانب الأفق إلى آخر بين وميض البروق وقعقعة الرعود التي تمتد وتقوى أحيانًا، وتنقضي أحيانًا بسرعة - كأن في ذلك - إبلاً باركة، يدعو بعضها بعضًا إلى التحول والانتقال، فتنتقل بين حنين خفي قصير وحنين ممتد طويل.

(16)

السوام: الإبل السائمة أي الراعية، وأسامها رعاها فهو مسيم، والبُهل: التي لم تُحلب، فهي ملأى الضروع بالألبان، وناقة باهل غير محلوبة، ولا مصرورة أي: ولا مربوطة الضرع، يحلبها مَن شاء، وقيل المتروكة الرعي، والسدى: المهملة التي لا راعي لها، والمعني أن هذه السحب الممطرة في كل مكان - التي تشبه السوام البهل المبذول لبنها لكل إنسان - تحسبها في انتقالها وحركاتها بتأثير الرياح كالمرعية التي يسوقها الراعي إلى حيث يشاء، وهي في نفس الأمر سدى مهملة لا راعي لها؛ لأن الرياح ليس لها إرادة في تحريكها وسوقها.

(17)

الأجْرَاز: جمع جُرُز (بضمتين) : وهو الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لجفافها، واستوسقت: حملت من أوساق الماء ما جمعت، والتوسق: جمع المتفرق، ومنه الوسق بالضم: للكيل المعلوم، والري بالكسر: الشبع من الشرب، والحيا بالقصر: يطلق على المطر، وعلى ما ينشأ عنه من النبات والخصب والمعنى ظاهر.

(18)

الأحداب: جمع حدب: وهو ما ارتفع من الأرض، والبطنان بالضم: جمع بطن، والسيْب: العطاء، والمُحسب: الكافي الذي يحمل المعطى على أن يقول: حسبي حسبي، والماء الروى - بكسر الراء المشددة والقصر -: الغزير المروي كروي ورواء بالفتح، والمعنى: أنه أروى ظاهر الأرض وباطنها، وأحدابها وأيفاعها التي ينحدر عنها الماء، فلا ترتوي إلا بالغزير المتصل.

(19)

البيداء: الصحراء، وصوب المطر: نزوله وانحداره، وطما: ارتفع، وتياره: موجه، وسجا: سكن، والمعنى: أن البيداء كانت غب نزوله - أي بعده - كبحر ارتفع موجه واضطرب، وسكن بعد ذلك، ثم ذهب؛ وبذلك كان رحمة لا نقمة.

ص: 306

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة السورية الثانية

(10)

حكومة دمشق العربية

كنت قبل سفري إلى سورية سألت عن حكومتها بعض مَن جاء منها إلى

مصر من السوريين، والأجانب الذين يوثق بعلمهم ورأيهم - ومنهم الجنرال كليتون

الشهير والدكتور بشير القصار منا - فقالوا: إنها ليست رديئة، وليست كما يجب

من كل وجه، وهي شهادة حسنة لحكومة جديدة، هذه حقيقة حالها في ذاتها، ففيها

ضعف بالنسبة إلى ما يجب أن تكون عليه كل حكومة في هذا العصر، ولكنها كانت

على ما فيها من ضعف وقصور خيرًا من حكومتي الاحتلال في المِنطقتين الأخريين:

الجنوبية (فلسطين) الإنكليزية، والغربية (لبنان وساحل سورية) الفرنسية.

كانت هذه الحكومة العربية الطفلة أقرب إلى العدل، والحرية، والمساواة،

والإصلاح، وأبعد عن التعصب والمحاباة والإفساد الأدبي والاقتصادي من حكومتي

الدولتين اللتين ابتدعتا لنا بدعة الانتداب لإصلاح بلادنا بحجة أننا عاجزون عن

النهوض بأمر أنفسنا، ولقد كانت هذه الحكومة بعد زوال السيطرة البريطانية، ولا

سيما بعد إعلان الاستقلال خيرًا منها قبل ذلك، كانت متوجِّهة إلى الإصلاح

الإداري والعلمي، وكانت الحرية بجميع أنواعها، ولا سيما حرية الاجتماع،

والخطابة، والنشر مما تحسدها عليه سائر البلاد السورية ومصر، وزال من دمشق

ما كانت مشهورة به من المبالغة في الحفاوة، والتعظيم للحكام والوجهاء، وشعر

الشعب بحرمته وكرامته، وقد كانت لتواضُع فيصل وآدابه الشخصية العالمية تأثير

عظيم في ذلك.

كان اليهودي الصهيوني يُحابَى في فلسطين، فيقدَّم على المسلم والمسيحي

بغير حقٍّ، وكان الكاثوليكي يحابى في الساحل كذلك، ولم يكن المسلم يحابى في

حكومة الشام، ولا شكا مسيحي ولا يهودي من الحكومة، ولا من الأهالي تعصُّبًا

عليه، ولا ظلمًا له من المسلمين، ولم يكن المسلمون يرجون من الوزراء،

ورؤساء الحكومة المسلمين ما لا يرجون من الوزراء والرؤساء من النصارى، وما

أبرِّئ هذه الحكومة من عيب محاباة الكبراء، وقبول شفاعتهم في طلاب وظائفها

بدءًا وترقية، وكان أكبر هذا الضعف في الوزراء والرؤساء بإزاء الملك فيصل

وعشيرته والمقربين منه، فإن هؤلاء قد اعتادوا على عهد سلطتهم العسكرية

المطلقة أن يتصرفوا في الأعمال والأموال بما شاؤوا، وكيف شاؤوا، فصعب

عليهم بعد إعلان الاستقلال أن يتقيدوا بقانونٍ ونظامٍ، ولم يكن للوزراء من الشجاعة

الأدبية والتكافل ما يؤهلهم لتقييدهم وتعويدهم الوقوف عند حدود سلطتهم الرسمية؛

إذ كانوا هم قد اعتادوا في عهد الترك أن يميلوا مع أهواء الرؤساء والكبراء، ومع

هذا أمكن لحكومة الاستقلال أن تقيد الملك براتب محدود لم يكن راضيًا به على

كثرته، وكان يستهلك راتب كل شهر في أوله، أو قبل بدوّ هلاله، ويَطْلُب من

وزارة المالية سلفة بعد سلفة، فلا ينال كل ما يطلب، ولا أكثره بسهولة، وقد كان

نفوذه في بعض الوزارات أقوى منه في غيرها، واختلف مع الوزارة في عدة

مسائل من أهمها أنه كان يريد إرسال حملة من الجيش السوري الجديد لقتال ابن

سعود إنجادًا لوالده - إذا ثبت ما كان أُشيع من عزم الإخوان النجديين على

الاستيلاء على المدينة المنورة - فلما كاشف الوزراء بذلك حاروا في أمرهم، وبعد

تشاور وتدبُّر قرروا الرد عليه بأنه لا سبيل إلى إرسال حملة من جند الحكومة، ولا

إنفاق شيء من مالها في هذه السبيل، وإنما يمكن جمع حملة متطوعة بمال الحجاز،

وكان هذا أفضل موقف للوزارة الأتاسية مع الملك فيصل لشدة اهتمامه بهذا الأمر،

وتصريحه للأتاسي وغيره بأنه إذا وقع القتال بين والده وبين ابن سعود - فإنه

يغادر سورية، ويذهب بنفسه للقتال، سواء ساعدته حكومة الشام أم لا، ولكن لم

يقع ما كان يتوقع، ولو وقع فأصر فواتته الوزارة لعجزت عن التنفيذ، وكان هذا

رأيي إذ شاورتني في الأمر.

لو وُجدت في الشام وزارة حازمة بصيرة لأمكنها أن تعمل في البلاد عملاً

عظيمًا في فرصة الاستقلال، وارتفاع السيطرة العسكرية البريطانية عن المنطقة

الشرقية، وقد كان لي أمل كبير في وزارة علي رضا باشا الركابي - لا أدري أكان

للصلة الودية بيننا تأثير فيه أم لا - ولا أدري كُنه السبب لخيبة هذا الأمل، كان

بعض الناس يبالغ لي في الطعن فيه، وبعضهم يدافع عنه، ولم أستطع الوقوف

على حقيقة رأيه في موقف البلاد السياسي، ولا فيما يجب أن تكون عليه الحكومة

على ما كان من احترامه إياي، وحسن اعتقاده الذي هو فوق ما أشرت إليه في

الفصل الذي قبل هذا، وإنما كنت أعجب لكلمة سمعتها منه مرة أو مرتين، وهي

أن استقلالنا مضمون وإنكلترة وفرنسة متفقتان عليه! ! وقد اقترحت عليه شيئًا

واحدًا من الإصلاح، وهو وضع إدارة منظمة للعشائر والقبائل، بينت له بعض

مسائلها، وما يُرجى منها، فأظهر لي منتهى الاستحسان لها، وطفق يماطل

ويسوف فيها مع إقناعي للملك فيصل بوجوب العناية بها، وأمره إياه بتنفيذها، ولم

يفعل. وقد كثر بعد الاستقلال المنتقدون له حتى صار أكثر أعضاء المؤتمر وأفراد

حزب الجمعية التي ينتمي هو إليها - وهو حزب الاستقلال العربي - عليه،

وانتهى ذلك بانحراف الملك عنه، وعُقدت اجتماعات سرية للبحث في إسقاط

وزارته، حضر بعضها الملك فيصل، وتقرر فيها استبدال وزارة قوية بها، فتألفت

وزارة هاشم بك الأتاسي ودخل فيها الدكتور عبد الرحمن شهبندر والمرحوم يوسف

بك العظمة، وكان الكاتب هو المقترح الأول لإدخالهما في هذه الوزارة. وأما

الرئيس فاختاره الملك فيصل، وقد كان أحد أعضاء لجنة الشورى السرية.

قد استطاع هاشم بك بدماثته ولطفه إرضاء الملك، ولكنه لم يكن بالرئيس

الذي يرضاه في هذا الوقت المؤتمر ولا الأحزاب، وفي مقدمتها حزب الاستقلال

العربي الذي هو منه؛ لأن الجميع كانوا يطلبون وزارة دفاعية تصرف جل جهدها

في الاستعداد للدفاع عن الاستقلال إذا اعتُدي عليه، أو يكون الاستعداد سببًا لعدم

الاعتداء. فلم يلبث أن ضايقه المؤتمر والحزب، وتوجه رأي الأكثرين إلى وجوب

تبديل وزارته، وكثر الانتقاد في المؤتمر عليها، والاقتراحات في أمر استيضاحها

من موقف البلاد، والاستعداد للدفاع، وكنت أجتهد في حمل المؤتمر على الأناة،

والتروي، والحزب الغالب يظاهرني، ولما علم حزب الاستقلال بإنذار الجنرال

غورو للملك فيصل - اجتمعت الجمعية العامة له في الليلة الـ 27 من شوال (13

يوليو) وانتخبت وفدًا مؤلَّفًا من أعضاء اللجنة المركزية وسبعة من غيرهم لإبلاغ

الملك بأن يكلف ياسين باشا الهاشمي تأليف وزارة دفاعية، وكان كاتب هذا رئيسًا

لتلك الجلسة ثم للوفد، فلما بلغنا الملك ذلك أجاب جوابًا جافًّا، خلاصته أنه لا يعمل

برأي جمعيةٍ، ولا حزبٍ، ولا المؤتمر، وأجبته جوابًا أشد من جوابه، وأجفّ أو

أجفى، ولا حاجة الآن إلى تفصيل ذلك، ثم كلفت رئيس الوزارة الاستقالة باسم

الوطن، واسم الإخوان، فأجاب بالقبول، قال: ولكن أليس يجب الاتفاق قبل ذلك

على مَن يخلفنا؛ لئلا يكونوا ممن تنكرون منهم ما لا تنكرون منا؟ ، فأنتم تثقون

بوطنيتي، ولا تشكون مني إلا الضعف عن النهوض بأعباء الحال الحاضرة،

وربما كان الخَلَف الذي يرضاه الملك أضعف، وغير موثوق بوطنيته، وقال: إن

الملك لن يولي الهاشمي الوزارة، بل اجتهدنا في إقناعه بأن يوليه وزارة الداخلية،

فأبى.

إنما موضوع كلامي هنا بيان ضعف الوزارة لا ترجمة الملك فيصل، ولا

تاريخ تلك الأيام المفصل. وقد كنت كلمت الأمير زيدًا في ذلك، إذ خلوت به

مرتين في أيام فرصة عيد الفطر: إحداهما في داري، والأخرى في البلاط، وكان

يشكو من ذلك مثلنا، فقلت له: إن الإصلاح لن يكون إلا بترك الملك التدخل في

أعمال الوزارة بنفوذه الشخصي، فاعتذر عن تدخل الملك بأن سببه ضعف الوزارة

وعجزها، فقلت له: إنما يجب عليه إصلاحها لا التصرف الشخصي في جزئيات

أعمالها الذي يزيدها خللاً، وقد كان الملك فيصل راضيًا كل الرضى عن وزارة

الأتاسي، ولا سيما وزير الخارجية الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي كان من قبل

يكرهه، ويظن أنه عدو له، حتى إنه قال لي يومًا: إنني لما عرفت شهبندر

احتقرت جميع أهل الشام، ولكن رضاه في ذلك الوقت كان سببًا لسخط جمهور

الشعب.

وقد أفضى ضعف الحكومة، ولينها، وطمع الطامعين فيها - إلى أن تجرأ

الساخطون عليها من الطامعين في المناصب، والمواهب الملكية على الطعن فيها،

وتأليف الأحزاب لمقاومتها، وكان بعض العلماء والعامة يُكثرون الطعن في وزارة

المعارف خاصة، ويزعمون أنه يريد إضعاف الدين في المدارس، وتعويد البنات

فيها على التهتك، وطالما راجعوني في هذا قبل إعلان الاستقلال، وبعده متوسلين

بي إلى السعي معهم لدى الأمير - ثم الملك - بعزله، فكنت أنصح لهم بالتأني،

وأحسب حسابًا لتعوُّد الشعب الافتيات على الحكومة، ولا سيما الطامعين منه في

أعمالها ومناصبها، وأرى أن السعي لتلافي الخلل، وإقناع الحكومة بإصلاح ما

يُنتقد عليها بحق - أحسن عاقبة من إطماعهم فيها، وقد ذكرت رأيي هذا لمدير

المعارف، ثم وزيرها ليكون على بصيرةٍ من أمره. ولم يقف تأثير ضعف الحكومة

في الشعب عند هذا الحد، بل أفضى أخيرًا بالساخطين والطامعين أن تجرؤوا على

السعي لهدم الاستقلال، والتزلف إلى الأجانب، فقوي الحزب الوطني المتهم بموالاة

فرنسة، وهو الذي كان يرأسه عبد الرحمن باشا اليوسف، حتى إنه بلَّغ الحكومة

أنهم عزموا على تأليف وفد فيه سبعة من حملة العمائم، وسَكَنَة الأثواب العباعب،

يرسلونه إلى باريس لطلب الانتداب الفرنسي على جميع البلاد السورية، ولم تفعل

الحكومة شيئًا! ، وأغرب من هذا أن بعض الموظفين في بلاط الملك سرق دفتر

الخزينة الخاصة مرتين، ولم يشك أحد علم بذلك في سببه، ولم يُعاقَب، بل لم

يُحاكَم، بل لم يجرِ في البلاط تحقيق بشأنه.

وكان بعض الوزراء كيوسف بك العظمة رحمه الله يخص وزير الداخلية

بالتقصير في إيقاف الأحزاب المعارضة عند حدها، فقلت لهم: كلا، إن هذا يُطلب

من الوزارة كلها لا من الداخلية وحدها.

أكتفي بهذه الخلاصة من بيان ضعفنا، وتعليل عدم نجاحنا؛ عسى أن نعتبر

به في مستقبل أمرنا، وأعيد القول: بأن حكوماتنا كانت مع هذا خيرًا من حكومتَيْ

المنطقتين الأُخْرَيين من بلادنا أمنًا، وعدلاً، ومساواةً، وتقدمًا في العلم، والاقتصاد،

وسأتكلم في الفصل الآتي على المؤتمر.

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال العالم الإسلامي

لم يبقَ ريب ما في أن الشعوب الإسلامية قد استيقظت من رقادها السياسي

الذي كاد يكون موتًا زؤامًا؛ وذلك بعد أن بلغ الضَّيْم فيها غايته بهذه الحرب الأخيرة،

وأحيط بها أو كاد، ولا يزال الطامعون يحاولون الإجهاز عليها، والقضاء على

ما بقي من ملكها؛ لئلا تحيا بهذه اليقظة حياةً جديدةً، تنال بها حريتها، وتحفظ

حقيقتها، ولكنهم غير متفقين على قسمة الغنيمة، وشعوبهم تناقشهم الحساب على ما

ينفقون في سبيل التوسع في الاستعمار، وسياسة الشعوب بقوة الحديد والنار؛ لأن

هذه الحرب قد أكلت ثروتها، وضاعفت الضرائب عليها، فهذه فرصة يجب على

الشعوب الإسلامية اغتنامها بتقوية أنفسها، وتعاونها فيما بينها وبين سائر الشعوب

الشرقية المجاورة لها، والظاهر أن كلاًّ منها يبذل جهده بقدر ما يصل إليه علمه

وقدرته.

***

الأفغان

وإننا نرى الشعب الأفغاني خيرًا من غيره، فهو لا يهاجم الآن، ولا يقاوم من

الخارج، ولا شقاق يعرقل عمله في الداخل، وقد سلك طريقة الحياة المثلى؛ إذ

جعل همه الأول في تنظيم القوة العسكرية، عالمًا أن خصمه لا يحترم غير القوة،

ثم في التعليم، وتنمية الثروة؛ لأن القوة وسائر شؤون العمران متوقفة عليها، وهو

- مع هذا - يعتصم بولاء إخوانه من الشعوب القريبة منه كالفرس والترك، ومن

توفيق الله تعالى أن كان أميره في هذا الطور من أفضل أمراء الشرق علمًا وعقلاً

وأخلاقًا وهمةً وحزمًا وعزمًا ودينًا.

***

الفرس

ويسوؤنا أن جاره (الشعب الإيراني) لا يزال مصابًا بالشقاق الداخلي الذي

كان سببه الباطن تأثير التعاليم الإفرنجية، والدسائس الإنكليزية، والروسية جميعًا،

فعسى أن يوفَّق في هذه الفرصة السانحة إلى جمع كلمته، واتفاق زعمائه على خطة

واحدة، ينحون فيها نحو جيرانهم الأفغانيين. ونذكِّر الزعماء المختلفين أن دوام

الخلاف - بإصرار كل فريقٍ منهم على تنفيذ رأيه دون غيره - أشد خطرًا على

البلاد من الاتفاق على خطة يرى بعضهم أن فيها شيئًا من الخطأ؛ فإن الشقاق

الداخلي أكبر المهالك. ولا سيما في مثل هذه الأيام والأحوال التي هم فيها.

***

الترك

أما الترك فهم على كَوْنهم قد استفادوا من العبر بهذه الحرب أكثر من غيرهم،

وعلى كونهم لا يزالون أعظم استعدادًا من غيرهم لحماية حقيقتهم، والدفاع عن

بيضتهم، وعلى انتفاعهم بعطف العالم الإسلامي كله - ولا سيما مسلمي الهند -

عليهم، وعلى تسخير الله الدولة الروسية عدوتهم التاريخية الكبرى في عهد

القياصرة إلى مساعدتهم، وعلى استفادتهم من الخلاف السياسي بين فرنسة

وإنكلترة - هم على هذا كله - لا يزالون على خطر من إصرار الدولة البريطانية

على ثل عرشهم (رفعه الله) وتقويض دعائم ملكهم (حماه الله) ، ولا تزال

اليونان محتلة لجزء عظيم من بلادهم. وذلك يوجب عليهم من الحذق والدهاء في

السياسة مع الاستعداد الحربي، ومن التفاني في الإصرار على الاستقلال المطلق،

والحرص على استدامة صداقة الشعوب التي عطفت عليهم، والسعي لاكتساب مودة

غيرها ما نرجو أن يكون فيهم من الرجال مَن يقوم به كله.

***

مصر

وأما مصر فقد استفادت من جهادها رفع الإنكليز للحماية الباطلة عنها،

واعترافهم بالاستقلال والسيادة القومية لها، وتلا ذلك اعتراف الدول بذلك واحدة بعد

أخرى، فصارت أقدر على الجهاد في سبيل إزالة الاحتلال الأجنبي عنها وعن

سودانها الذي هو مصدر حياتها، إذا هي وحدت أحزابها، وعرفت كُنه قوتها،

وإنما هي قوة سلبية اقتصادية، لا حربية، ولا عدوانية.

***

العرب

وأما سائر العرب فلا يزالون على ما شكونا منه من تفرقهم إلا أن إخواننا

العراقيين قد أقروا أعيننا بما علمنا من اتفاق السواد الأعظم منهم على الاستقلال

المطلق من قيود الحماية، والوصاية، والانتداب، وعجز الدسائس الأجنبية عن

تفريق كلمتهم وعن خداعهم بجَعْل السيطرة عليهم مموّهة في شكل معاهدة، ولكن

ساءنا غفلة الكثيرين منهم عما تبغيه من إيقاع العداوة، والبغضاء بينهم وبين

جيرانهم النجديين، وما يجب من تحامي ذلك، والحذر من إلباسه لباس الدين،

ونرجو أن يفطن لذلك سلطان نجد الحكيم، ويعلم أن الأجانب يخوفون العراقيين من

عدوانه عليهم ليرضوهم ببقائهم تحت سيطرتهم العسكرية. وإننا نعتقد أن دينه

وعقله يأبيان عليه أن يجعل نفوذه آلة حربية للأجنبي، يخضع بها أخصب بلاد

العرب وأوسعها لسلطته، وهو لا يجهل أن استتباب السلطة الأجنبية في العراق،

والشام خطر على استقلال نجد وسائر جزيرة العرب، وقاضٍ على كل سلطة

للإسلام فيها، ولا سيما إذا امتدت فيها السكك الحديدية العسكرية، وقواعد

الطيارات الحربية، التي تؤسسها السلطة البريطانية في العراق، وشرق الأردن

من سورية، ولكن الحجازيين يجتهدون في بث الدعوة (البوربغندة) لتشويه

سمعته، والطعن فيه وفي أهل بلاده، ويوهمون الناس أنهم وحوش ضارية

يستحلون سفك الدماء بغير حق، فيعاقبون بالقتل على أقل ذنب، أو ما لا يعد عند

غيرهم بذنب، وغير ذلك من الزور والبهتان والكذب، وقد راجت هذه الدسائس

حتى في سورية، وفلسطين، ومصر.

والحق أنه لا يوجد - فيما نعلم - من أمر بلاد الإسلام قطر يقام فيه الإسلام

مثل نجد، سواء في ذلك الأعمال الشخصية والقضائية، أو بث الدعوة ومقاومة

البداوة، وإلزام البدو بالعمران والحضارة، ومنعهم من الغزو والعدوان بغير حقٍّ،

لأجل الارتزاق والكسب، وإنما يقاتل النجديين البدو لأجل هذا، ولم يتعدوا على

حكومةٍ منظمةٍ لأجل فتح بلادها، وإنما أزالوا إمارة ابن الرشيد؛ لأنه لا يجوز أن

يكون في قطرٍ واحدٍ حكومتان مختلفتان، وآل سعود هم الأمراء الشرعيون لهذه

البلاد، وقد اختاروا في إزالتها أخف الضررين وهو الحصار.

وأما اليمن فلا يزال العداء والشقاق بين إماميها يحيى والإدريسي مستمرًّا،

والقتال آونة بعد أخرى مستحرًّا، وقد اتفق الثاني مع صاحب نجد وتحالفا فاشتد

أزره، وكان صاحب الحجاز يطمع في جعْلهما تابعين له، ولو في السياسة على

كونهما أقوى منه وأعز، ثم حاول الارتباط معهما بمحالفة هجومية دفاعية، وانتهى

الأمر بوفاق اقتصادي، وهو لا يبلغه غرضه من تدويخ نجد، ولا يؤمنه تغلبها

على الحجاز، ولا يرتاح - مع ذلك - على الصلح والاتفاق مع صاحبها؛ لأنه

يخاف أن يبث دعوة التدين في سائر بدو الحجاز وحضره آمنًا، والبلاد مستعدة

لذلك، ولا سيما الأعراب فيها، ولعله لولا رجاؤه في جمع قوته على قوة ولديه في

العراق وشرق الأردن - للإحاطة بنجد، وإزالة سلطانها - لجنح إلى السلم،

ورضي بالاتفاق، وهم يبثون الدعوة في هذه الأقطار الثلاث وما جاورها من

سورية، ومصر تمهيدًا لذلك، ويعتقد أنهم إذا استولوا على نجد يتم له تأسيس

الإمبراطورية العربية في ظل الدولة البريطانية، تنفيذًا لمقررات نهضته الرسمية!

فيا دارها بالخيف إن مزارها

قريب ولكن دون ذلك أهوال

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 318

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

تعريف المنطق وعدم اطِّراد ما ذكروه من غايته

بسم الله الرحمن الرحيم

(س19) من صاحب الإمضاء في لنجة (الخليج الفارسي) حضرة

المصلح الوحيد الإمام، والأستاذ العلامة الهمام، السيد محمد رشيد رضا منشئ

مجلة المنار الأعظم لا زال كهفًا للأنام ومؤيدًا للإسلام وبعد:

فقد اطَّلعنا على جوابكم عن إشكال بيت جرير، وكان الجواب كجواب حضرة

الوالد حرفًا بحرفٍ، فحصل به اطمئنان الخاطر، ثم إنه عرض لي إشكالٌ، ولم

أَرَ مَن تنبه له، ولا مَن أجاب عنه، فعرضناه على خليصكم، وشاكر إحسانكم

الوالد، فأمرني باستجداء الجواب عن حضرتكم، فالمرجوّ كشف الغمة، لا زلتم كما

أملتم.

الإشكال هو أن مؤلفي فن المنطق اتفقوا في تعريفه بأنه (آله قانونية تعصم

مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) واتفقوا - فيما أعلم - أن واضع هذا الفن

الحكماء اليونانيون، وكوْنهم قائلين بقدم العالم على قدم، فلا يخلو من أمورٍ، إما

عدم صحة التعريف، وإما ادَّعاء أن الواضعين لم يراعوها، وإما كونهم محقين في

ذلك. على كلٍّ أزيلوا الإشكال، كما جعلكم الله تعالى كهفًا ومنارًا.

(ج) إننا نجزم بأن ما ذكروه في تعريف المنطق لا يصح باطرادٍ، وأن

حكماء اليونان وغيرهم ممن كانوا يحاولون إثبات العلوم العقلية بأنواعها حتى

الإلهيات بتطبيقها على قواعد المنطق - لم يستطيعوا مراعاة أحكامه لا في

التصورات، ولا في التصديقات، فتحديد الكليات التي يؤلَّف منها الحد، والرسم

في التصورات، ومقدمات القياس، ولا سيما البرهان الذي عليه مدار صحة النتيجة

في التصديقات - كلاهما من أعسر الأمور وأبعدها عن المنال، وليس خطؤهم

محصورًا في قولهم بقدم العالم، بل هو غير محصور، على أنهم لم يكونوا يدَّعون

أن كل مسألة من مسائل فلسفتهم، وقضية من قضايا علومهم من اليقينيات الثابتة

بالبرهان، وأكثر ما كان يفيدهم المنطق في المناظرات، التي تقوم فيها المسلَّمات

مقام اليقينيات.

وبيان هذا بالتفصيل وتوضيحه بالأمثلة لا يتم إلا في مقالٍ طويلٍ، وحسبك

أن تتأمل اليقينيات الست لتعلم ما يقع فيها من الغلط والتلبيس.

ومثل علم المنطق في هذا علم الشرع، فإنك ترى الخطأ في تطبيق الأحكام

الشرعية على الوقائع العملية كثيرًا جدًّا، وترى فهم الناس للأحكام يختلف باختلاف

معارفهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، والعرف العام عندهم، حتى إنهم لَيستدلون بالحكم

على ضد ما يدل عليه أحيانًا، كما هو شأنهم في البدع، فما من بدعة فشت إلا

وأهلها يستدلون عليها بأدلة تشبه الشرعية، وما هي بشرعيةٍ، هذا شأنهم في

نصوص الشرع الواضحة، ولم تصرفهم عنها قواعد أئمة العلماء الذين يدَّعون

تقليدهم، كما بيناه في الفتوى الثانية من فتاوى المجلد الثاني والعشرين.

***

إطلاق أسماء الله تعالى على بعض خلقه

(س 20) من صاحب الإمضاء في بيروت

حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد أفندي رضا

صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى

سلام الله عليكم وتحياته وبركاته وبعد:

أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه وهو:

ألفاظ تستعملها الناس عند مخاطبة العلماء والرؤساء، وأصحاب الرتب

العالية كالسلاطين، والوزراء وغيرهم مثل: العليم. الحكيم. الرحيم. مولانا

صاحب العظمة. صاحب السعادة. صاحب العزة. ولي النعم. رب الفضل وغير

ذلك، فهل يجوز مخاطبة العبيد، ومدحهم بهذه الصفات، مع أنها من صفات الله

سبحانه وتعالى أم لا.

...

...

...

... م. ط. ل

(ج) أسماء الله تعالى منها ما هو خاص به عز وجل كاسم الجلالة (الله)

و (الرحمن) ، و (الرب) بالتعريف وغيرها، فلا يجوز وصف غيره بها،

ومنها ما هو غير خاص به كالرحيم، والعليم، والحليم، والحكيم، وقد وصف الله

تعالى رسوله بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) ، وإبراهيم

بالحليم، وكذا ولده إسماعيل إذ قال فيه:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (الصافات:

101) ، وولده إسحق بقوله:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28) ، وآتى

داود الحكمة، وقال:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} (البقرة: 269) ، ومن أوتيها

كان حكيمًا، ومن هذه الألفاظ المشتركة في الاستعمال (المولى) قال تعالى - في

رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (التحريم: 4) ، وأما صاحب العظمة وصاحب السعادة وصاحب العزة وولي النعم

ورب الفضل، فلم يرد في الكتاب، ولا في السنة إطلاقها على الله تعالى، ولكن

ورد {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) ، وورد {مَن

كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر: 10) ، وثم آيتان أخريان كهذه، وفي

إسناده لله ولغيره قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ،

ووصف عرش بلقيس بأنه {عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل: 23) . وكتب النبي - صلى

الله عليه وسلم - إلى هرقل، فوصفه بقوله:(عظيم الروم) ، وإلى المقوقس

(عظيم القبط) ، وإلى غيرهما من الملوك والرؤساء بمثل ذلك، ويظهر أنه لا يجوز

وصف غيره تعالى بعدة صفات من الصفات المشتركة إذا كان باجتماعها يعلم مَن

سمعها أنها لا تجتمع لمخلوق، بحيث يظن إذا لم يعرف الموصوف بها أنها لله تعالى.

***

لبس العمامة سنة أم لا؟

(س 21) ومنه: هل لبس العمامة سُنة عن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - وفي ذلك أحاديث صحيحة معتمدة أم لا؟ وهل مَن يلبَس العمامة يثاب

على لُبسها؟ وهل العمامة البيضاء، والخضراء، والسوداء، والحمراء كلها

سواء، أم أيها أفضل؟

(ج) ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس العمامة

تارة فوق القلنسوة، وهو الأكثر، وتارة بغير قلنسوة، وأنه كان يلبس القلنسوة تارة

بغير عمامة، وأنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء. وورد أنه كان يرخي طرفها،

وهو الذؤابة بين كتفيه، وأنه كان يلتحي بها تحت الحنك كما يفعل المغاربة، ولم

يرد الأمر بلبسها على سبيل التدين والتشريع، فمَن اعتمَّ كما كان يعتم بنية التشبه

به صلى الله عليه وسلم في لباسه حبًّا فيه عليه صلوات الله وسلامه كانت هذه

النية مما يثاب عليه، وهكذا التشبه به صلى الله عليه وسلم في سائر عاداته،

التي لم يقم الدليل على شرعها دينًا لنا، بشرط أن لا يتخذه دينًا؛ لأنه يكون حينئذٍ

تشريعًا، وكل مباح يُفعل بنيةٍ صالحةٍ يثاب عليه المؤمن، وقد سبق هذا البحث في

المنار من قبل فلا نطيل به.

***

مؤلفات ابن تيمية وابن القَيِّم

(س 22) ومنه: وهل مؤلَّفات الشيخ أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي،

والشيخ محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قَيِّم الجوزية صحيحة معتمدة

يجوز العمل بها، أم لا؟ أفتونا مأجورين.

(ج) : إننا لم نطلع على جميع مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، ونشهد

على ما اطلعنا عليه منها أنها من أفضل ما كتب علماء الإسلام هدايةً، وتحقيقًا

وانطباقًا على الكتاب والسنة، بل لا نظير لها فيما نعرفه من كتب المسلمين في

مجموع مزاياها؛ فإنها أُلفت بعد فشوّ البدع في الأمة، وتعدد العلوم، وكثرة التآليف

في المعقول والمنقول، وكان أكثر علماء المعقول مقصرين في علم السنة، وآثار

السلف الصالح، وأكثر الحفاظ، وعلماء الرواية مقصرين في العلوم العقلية،

فبعُدت الهوة بين الفريقين، وكثر الخلط والخبط في علوم الشرع، حتى جاء أول

هذين الشيخين، فكان ممن جمع الله لهم بين سعة العلم والتحقيق في جميع العلوم

النقلية والعقلية، من شرعية وروحية ولغوية، وعقلية مع جودة الحفظ وقوة

الاستحضار، وملكة الاستنباط، ولا نعرف له نظيرًا في هذا الجمع، وقد خرَّج

علماء كثيرين، كان الوارث الكامل له منهم ابن القيم، ولا سيما في العلوم الشرعية

فكانت كتبهما كتب إصلاح، وجمع بين المعقول والمنقول وأقوى رد على جميع ما

خالف السنة وسيرة السلف الصالح، لا نعرف لها نظيرًا في ذلك، فلو اهتدى بها

المسلمون علمًا وعملاً لأماتوا البدع، وأحيوا السنن، وحسنت حالهم في دينهم

ودنياهم، ولدخل الناس في دين الله أفواجًا.

ولكنهما غير معصومين من الخطأ؛ فقد أنكرنا في تفسير هذا الجزء عبارة

للأول تابع فيها غيره من غير أن يتنبه إلى حاجته إلى الاستقلال في الاستدلال

عليها، وخالفنا الثاني في مسألةٍ إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى في آخر تفسير

سورة الأنعام. ولم يؤلف أحد كتابًا وافقه كل الناس على كل ما فيه، وخير الكتب

ما قلَّ فيه الخطأ، على أن كثيرًا من المخطِّئين لغيرهم يكونون هم المخطئين،

وغيرهم المُصيب، وما كل مَن أصاب بتخطئة غيره في مسألة أو أكثر - يكون

أعلم منه مطلقًا ولا مثله، وإنما العصمة لمَن عصم الله فيما عصم. ولو شئنا أن

نؤلف كتابًا حافلاً في فضل مؤلفات الشيخين وشدة حاجة الأمة إليها في هذا العصر

لفعلنا.

***

أكل الحرام كالربا والقِمَار

وإرثه والعقاب عليه

(س 23 و 24) - ومنه:

رجل جمع مالاً من طرقٍ غير مشروعة كربا وقمار، ولعب بالبورصة (ما

يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك، هل يجوز الأكل عنده، وإذا مات وترك أولادًا -

يعلمون بحال أشغاله - فهل يكون المال حلالاً للأولاد بالميراث أم لا؟ ، وإذا

مات رجل، وعليه ديون، ومظالم لأناسٍ، ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما

حكمه يوم القيامة؟ وهل يعذَّب في قبره بسبب ذلك، أم عذابه في الآخرة؟ وإذا

سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يُرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز

مسامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب، ولكم من الله عظيم الأجر

والثواب.

(ج) : مَن علم أن مال زيد مِن الناس حرام كله لم يجُز له أن يأكل من

طعامه، ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله حرام، ومن

ترك لأولاده مالاً يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلاً، ويعرفون أصحابه فالواجب

عليهم رده إليهم. وأما ما لا يُعرف له مالك، والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعًا -

كالربا والمضاربات - فيملكونه، وإن كان في الفقهاء مَن يقول بأنها لا تفيد الملك

للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى مَن تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح

كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطًًا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا

الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام. والله تعالى يأخذ من

حسنات مَن مات وعليه حقوق للناس أو يحمّله من سيئاتهم يوم القيامة، إلا أن

يحلّوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفا أصحاب

الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى؛ فهو مرجوٌّ غير مقطوع

به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة، ولم ير أنها سبب لعذاب القبر.

هذا جواب إجمالي بالمشهور عند العلماء في المسألتين، والأولى تحتمل بحثًا

طويلا في مسألة المال الحرام المختلط بالحلال، نذكر منه على سبيل المثال ما

تشتد الحاجة إلى معرفته، فنقول إن مَن علم أن بعض مال زيدٍ حلال، وبعضه

حرام، وتميز عنده أحدهما من الآخر وجب عليه اجتناب ما علم أنه حرام كمَن علم

أن زيدًا سرق شاة أو ديكًا روميًّا، ودعاه إلى العشاء معه منه، فلا يجوز له أن

يجيبه، كما لا يجوز له أن يشتري منه ذلك ويأكله، وأما إذا تعذر تمييز الحلال من

الحرام - كالذي يقرض ماله الحلال في الأصل بالربا - فهل يغلب الحرام فيجتنب

جميع ماله، أو الحلال فيعد الحرام كأنه غير موجود؟ .

لهذه المسألة صور كثيرة مختلفة الأحكام: فالحرام أنواع منه: الظلم المحض

كالغصب والسرقة، ومنه المأخوذ بعقود فاسدة مع التراضي كالربا والقمار كما تقدم،

والاختلاط إما يكون فيه كل من الحلال، والحرام محصورًا، أو غير محصور،

وتجد أحكام هذه الأقسام مفصلة في كتاب الحلال والحرام من الجزء الثاني من كتاب

(إحياء علوم) الدين لحجة الإسلام الغزالي، وتجد أيضًا في رسالة الحلال والحرام

لشيخ الإسلام ابن تيمية أصولاً وقواعد تفيدك علمًا تفصيليًّا في المسألة، وإننا ننقل

هنا بعض ما قاله أبو حامد الغَزَالي في اختلاط الحرام بالحلال غير المحصورين،

بعد أن قسَّمه إلى عدة أقسام، وهو:

(القسم الثالث) أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال

في زماننا هذا، فالذي يأخذ الأحكام من الصور قد يظن أن نسبة غير المحصور إلى

غير المحصور كنسبة المحصور إلى المحصور، وقد حكمنا ثَمَّ بالتحريم، فلنحكم

هنا به، والذي نختاره خلاف ذلك، وهو أنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول

شيء بعينه احتمل أنه حرام، وأنه حلال، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل

على أنه من الحرام، فإن لم يكن في العين علامة تدل على أنه من الحرام فتركه

ورع، وأخذه حلال، لا يفسق به آكله، ومن العلامات أن يأخذه من يد سلطان ظالم،

إلى غير ذلك من العلامات التي سيأتي ذكرها، ويدل عليه الأثر والقياس، فأما

الأثر فما عُلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده؛

إذ كانت أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدي أهل الذمة مختلطة بالأموال، وكذا

غلول الأموال، وكذا غلول الغنيمة [1] ، ومن الوقت الذي نهي - صلى الله عليه

وسلم - عن الربا، إذ قال:(أول ربا أضعه ربا العباس) ، ما ترك الناس الربا

بأجمعهم، كما لم يتركوا شرب الخمور، وسائر المعاصي، حتى رُوي أن بعض

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باع الخمر، فقال عمر رضي الله عنه:

(لعن الله فلانًا هو أول مَن سنَّ بيع الخمر؛ إذ لم يكن قد فهم أن تحريم الخمر

تحريم لثمنها) - وقال صلى الله عليه وسلم: (إن فلانًا يجر في النار عباءة

قد غلَّها) ، وقُتل رجل، ففتشوا متاعه، فوجدوا فيه خرزات من خرز اليهود لا

تساوي درهمين قد غلها، وكذلك أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- الأمراء الظَّلَمَة، ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع في السوق بسبب نهب

المدينة، وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام، وكان مَن يمتنع من تلك الأموال مشارًا

إليه في الورع، والأكثرون لم يمتنعوا مع الاختلاط، وكثرة الأموال المنهوبة في

أيام الظلمة، ومَن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح، وزعم أنه تفطن من الشرع

ما لم يتفطنوا له -فهو موسوس مختل العقل، ولو جاز أن يزاد عليهم في أمثال هذا

لجاز مخالفتهم في مسائل لا مستند فيها سوى اتفاقهم، كقولهم إن الجدة كالأم في

التحريم، وابن الابن كالابن، وشعر الخنزير [2] وشحمه كاللحم المذكور تحريمه

في القرآن، والربا جارٍ فيما عدا الأشياء الستة، وذلك مُحال؛ فإنهم أوْلى بفهم

الشرع من غيرهم.

وأما القياس فهو أنه لو فُتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات، وخرب

العالم؛ إذ الفسق يغلب على الناس، ويتساهلون بسببها في شروط الشرع في العقود،

ويؤدي ذلك - لا محالة - إلى الاختلاط.

(فإن قيل) فقد نقلتم أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الضبّ، وقال:

(أخشى أن يكون مما مسخه الله)[3] ، وهو في اختلاط غير المحصور، (قلنا)

يُحمل ذلك على الشدة والورع، أو نقول: الضب شكل غريب ربما يدل على أنه

من المسخ، فهي دلالة في عين المتناول.

(فإن قيل) هذا معلوم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان

الصحابة بسبب الربا، والسرقة، والنهب، وغلول الغنيمة، وغيرها، ولكن كانت

هي الأقل بالإضافة إلى الحلال، فماذا تقول في زماننا، وقد صار الحرام أكثر ما

في أيدي الناس لفساد المعاملات، وإهمال شروطها، وكثرة الربا، وأموال

السلاطين الظلمة، فمَن أخذ مالاً لم يشهد عليه علامة معينة في عينه للتحريم فهو

حرام أم لا.

(فأقول) ليس ذلك حرامًا، وإنما الورع تركه، وهذا الورع أهم من الورع

إذا كان قليلاً، ولكن الجواب عن هذا أن قول القائل أكثر الأموال حرام في زماننا

غلط محض، منشؤُه الغفلة عن الفرق بين الكثير والأكثر، فأكثر الناس بل أكثر

الفقهاء يظنون أن ما ليس بنادر فهو الأكثر، ويتوهمون أنهما قسمان متقابلان ليس

بينهما ثالث، وليس كذلك، بل الأقسام ثلاثة قليل وهو النادر، وكثير وأكثر (مثاله) ،

إن الخُنثى - فيما بين الخلق - نادر، وإذا أُضيف إليه المريض وجد كثيرًا

وكذا السفر حتى يقال المرض والسفر من الأعذار العامة، والاستحاضة من الأعذار

النادرة، ومعلوم أن المرض ليس بنادر، وليس بالأكثر أيضًا، بل هو كثير،

والفقيه إذا تساهل، وقال المرض، والسفر غالب، وهو عذر عام أراد به أنه ليس

بنادر، فإن لم يرد هذا فهو غلط، والصحيح والمقيم هو الأكثر، والمسافر،

والمريض كثير، والمستحاضة والخنثى نادر، فإذا فهم هذا فنقول قول القائل:

الحرام أكثر باطل؛ لأن مستند هذا القائل إما أن يكون كثرة الظلمة، والجندية، أو

كثرة الربا والمعاملات الفاسدة أو كثرة الأيدي التي تكررت من أول الإسلام إلى

زماننا هذا على أصول الأموال الموجودة اليوم.

أما المستند الأول فباطل فإن الظلم [4] كثير، وليس هو بالأكثر؛ فإنهم

الجندية؛ إذ لا يظلم إلا ذو غَلَبَة وشوكة، وهم إذا أضيفوا إلى كل العالم لم يبلغوا

عُشر عشيرهم، فكل سلطان يجتمع عليه من الجنود مائة ألفٍ مثلاً، فيملك إقليمًا

يجمع ألف ألف وزيادة، ولعل بلدة واحدة من بلاد مملكته يزيد عددهم على جميع

عسكره، ولو كان عدد السلاطين أكثر من عدد الرعايا لهلك الكل؛ إذ كان يجب

على كل واحد من الرعية أن يقوم بعشرة منهم مثلاً مع تنعُّمهم بالمعيشة، ولا

يُتصوَّر ذلك، بل كفاية الواحد منهم تجمع من ألف من الرعية وزيادة، وكذا القول

في السُّرَّاق؛ فإن البلدة الكبيرة تشتمل منهم على قدرٍ قليلٍ.

وأما المستند الثاني: وهو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة، فهي أيضا كثيرة،

وليست بالأكثر؛ إذ أكثر المسلمين يتعاملون بشروط الشرع، فعدد هؤلاء أكثر،

والذي يعامل بالربا أو غيره، فلو عددت معاملاته وحده لكان عدد الصحيح منها

يزيد على الفاسد، إلا أن يطلب الإنسان بوهمه في البلد مخصوصًا بالمجانة والخبث،

وقلة الدين، حتى يتصور أن يقال معاملاته الفاسدة أكثر، ومثل ذلك المخصوص

نادر، وإن كان كثيرًا فليس بالأكثر لو كان كل معاملاته فاسدة، كيف، ولا يخلو

هو أيضًا عن معاملةٍ صحيحةٍ تساوي الفاسدة، أو تزيد عليها، وهذا مقطوع به لمَن

تأمله، وإنما غلب هذا على النفوس لاستكثار النفوس الفساد، واستبعادها إياه،

واستعظامها له، وإن كان نادرًا، حتى ربما يظن أن الزنا وشرب الخمر قد شاع

كما شاع الحرام، فيتخيل أنهم الأكثرون، وهو خطأ؛ فإنهم الأقلون، وإن كان فيهم

كثرة.

(المنار)

لكلام الغزالي هذا بقية نفيسة، فيها مباحث في الحكومة، والمصلحة العامة،

وعمران الكون ونظريات الاشتراكية وأهل الورع والزهد.

_________

(1)

الغلول: الخيانة فيها.

(2)

مسألة الشَّعْر فيها خلاف، وكذلك مسألة الربا في غير الستة المذكورة في الحديث.

(3)

حملت هذه الرواية على الشك منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم امتناع أن يكون الضب من سلالة ما مُسخ، وقد صح أن رجلاً قال: يا رسول الله، القردة والخنازير هي مما مسخ الله؟ ، فقال:(إن الله لم يهلك أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلاً) رواه مسلم.

(4)

وفي بعض النسخ: (فإن الظالم) إلخ، والمراد جنسه؛ ولذلك فإن بعده:(فإنهم الجندية) ، وعلى نسختنا يرجع الضمير إلى أهل الظلم كما قدره الشارح.

ص: 321

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني

‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

1]

وقد يعتقدون في بعض فَسقة الأحياء، وينادونهم في الشدة والرخاء،

وهو عاكفٌ على القبائح [2] ، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور

هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة، ولا يعود مريضًا، ولا يشيع جنازة، ولا

يكتسب حلالاً، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل، وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس

جماعة قد عشَّش في قلوبهم، وباض فيها، وفرَّخ، يصدقون بهتانه، ويعظمون

شأنه، ويجعلون هذا ندًّا لرب العالمين ومثلاً، فيا للعقول أين ذهبت، ويا للشرائع

كيف جهلت، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) .

فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلفاء

مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ ! ، قلت: نعم، قد حصل منهم [3] ما حصل

من أولئك، وساوَوْهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد، والانقياد، والاستعباد، فلا

فرق بينهم.

فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل

له ندًّا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركًا، قلت: نعم {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ

فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 167) ، لكن هذا جهلٌ منهم بمعنى الشرك؛ فإن

تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك، والله تعالى يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ

وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) ، أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف، ويقول تعالى:

{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقد عرفت - بما قدمنا قريبًا - أنه

سمى الرياء شركًا، فكيف بما ذكرناه؟ ! فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما

فعله المشركون، وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا؛

لأن فعلهم أكذب قولهم.

فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلت: قد خرَّج الفقهاء في

كتب الفقه في باب الردة: أن مَن تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها،

وهذا دال [4] على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا

حيئنذٍ كفارًا كفرًا أصليًّا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة: {أَن لَاّ

تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} (هود: 26)، وإخلاصها: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5) الآية، ومَن نادى الله ليلاً ونهارًا وسرًّا وجهارًا

وخوفًا وطمعًا، ثم نادَى معه غيره - فقد أشرك في العبادة؛ فإن الدعاء من العبادة،

وقد سماه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى: {

إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ

عِبَادَتِي} (غافر: 60) بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ

} (غافر: 60) .

فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم، والسلوك فيهم ما سلك رسول

الله صلى الله عليه وسلم في المشركين، قلت: إلى هذا ذهب طائفة من أئمة

العلم، فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر

لا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأنهم أمثالهم، وأن هذا الاعتقاد منهم فيهم شركٌ، لا

يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه، والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقادًا

وعملاً لله وحده. وهذا واجب على العلماء، (أي) بيان أن ذلك الاعتقاد الذي

تفرعت عنه النذور، والنحائر، والطواف بالقبور شرك محرم، وأنه عين ما كان

يفعله المشركون لأصنامهم، فإذا أبانت العلماء (ذلك) للأئمة والملوك وجب على

الأئمة والملوك بعْث دعاة إلى إخلاص التوحيد، فمَن رجع وأقر حُقن عليه دمه

وماله وذراريه، ومَن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم

من المشركين.

(فإن قلت) : الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث؛ فإنه قد صح أن العباد يوم

القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى،

وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء،

فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكرٍ، قلت: هذا تلبيس؛ فإن

الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء - فيما يقدرون عليه - لا ينكرها أحد؛ وقد قال الله

تعالى - في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي -: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ

عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: 15) ، وإنما الكلام في استغاثة القبوريين

وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أمورًا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية

المريض وغيرها، بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء ومن أتباع

مَن يعتقدون فيه - يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في

بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكراتٍ ما بلغ إليها المشركون، ولقد أخبرني بعض مَن

يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية

نسائه، وقال (هذه لسيِّده فلان) - يريد صاحب القبر - نصف مهر ابنتي؛ لأني

زوَّجتها، وكنت ملَّكت نصفها فلانًا - يريد صاحب القبر -[5] ، وهذا شيء ما بلغ

إليه عُبَّاد الأصنام، وهو داخل تحت قول الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ

نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (النحل: 56) بلا شك ولا ريب، نعم استغاثة العباد يوم

القيامة، وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى يفصل بين العباد بالحساب حتى

يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه (أعني) طلب الدعاء لله تعالى

من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما

خرج معتمرًا: (لا تنسنا - يا أخي - من دعائك) وأمرنا سبحانه أن ندعو

للمؤمنين، ونستغفر لهم، يعني قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ

سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) وقد قالت أم سليم رضي الله عنها:

(يا رسول الله، خادمك أنس ادعُ الله له) ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم

يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه،

والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا

ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياة ولا نشورًا - أن يشفوا مرضاهم، ويردوا غائبهم،

وينفّسوا على حُبْلاهم، وأن يسقوا زرعهم، ويدرّوا ضروع مواشيهم، ويحفظوها

من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى! - هؤلاء

الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ

يَنصُرُونَ} (الأعراف: 197)، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) ، فكيف يُطلب من الجماد أو من حي، الجماد خير منه؛ لأنه

لا تكليف عليه، وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله

تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ

وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (الأنعام: 136) الآية، وقال {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً

مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: 56) فهؤلاء القبوريون،

والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم - سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقذة،

فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يُعتقد إلا في الله، وجعلوا لهم جزءًا من المال،

وقصدوا قبورهم من ديارهم للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند

قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقربًا إليهم، وهذه هي أنواع العبادات

التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ ! ، لا أستبعد أن فيهم مَن يفعل

ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنه رأى مَن يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي

يقصده؛ تعظيمًا له وعبادة ويقسمون بأسمائهم! ، بل إذا حلف مَن عليه حق باسم

الله تعالى لم يُقبل منه! ، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا

كانت عباد الأصنام! ؛ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) وفي

الحديث الصحيح: (مَن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع رسول الله -

صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف باللات فأمره أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا

يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامه؛ فإنه قد كفر بذلك، كما

قررنا في (سبل السلام شرح بلوغ المرام)، وفي (منحة الغفار) :

فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال النبي -

صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا

قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، وقال لأسامة بن زيد: (قتلتَه بعد

ما قال لا إله إلا الله؟ !) ، وهؤلاء يصلُّون، ويصومون، ويزكّون، ويحجون

بخلاف المشركين، (قلت:) قد قال صلى الله عليه وسلم (إلا بحقها) ، وحقها

إفراد الألوهية، والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة، فلم تنفعهم

كلمة الشهادة؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم

بعض الأنبياء، وكذلك مَن جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة؛ ألا

ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون،

ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فقاتلهم الصحابة، وسَبوهم، فكيف بمَن يجعل

للولي خاصة الإلهية، ويناديه للمهمات، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -

رضي الله عنه حرَّق أصحاب عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: لا إله إلا الله

محمد رسول الله، ولكن غلَوْا في علي رضي الله عنه واعتقدوا فيه ما يعتقد

القبوريون، وأشباههم، بل عاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدًا من العصاة؛ فإنه حفر

لهم الحفائر، وأجَّج لهم نارًا، وألقاهم فيها، وقال:

إني إذا رأيتُ أمرًا منكرًا

أججت ناري ودعوت قنبرَا

وقال الشاعر في عصره:

لترمِ بي المنيةُ حيث شاءت

إذا لم ترمِ بي في الحفرتين

إذا ما أججوا فيهن نارًا

رأيت الموت نقدًا غير دين

والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير، وقد وقع إجماع

الأمة على أن مَن أنكر البعث كفر، وقُتل، ولو قال لا إله إلا الله، فكيف (مَن)

يجعل لله ندًّا، فإن قلت: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمَن

قال لا إله إلا الله، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة، قلت: لا شك أن

مَن قال: لا إله إلا الله من الكفار حقن دمه وماله، حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛

ولذا أنزل الله في قصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: 94) الآية، فأمرهم الله تعالى بالتثبُّت في شأن مَن قال: كلمة التوحيد،

فإن التزم لمعناها كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبين خلافه لم يحقن

دمه وماله بمجرد التلفظ، وهكذا كل مَن أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن

يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبين لم تنفع هذه الكلمة بمجردها؛ ولذلك لم تنفع

اليهود، ولا نفعت الخوارج، مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة

عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: (لئن أدركتهم

لأقتلنَّهم قتل عاد) وذلك لما خالفوا بعض الشريعة، وكانوا شر القتلى تحت أديم

السماء كما ثبتت به الأحاديث، فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت

شرك مَن قالها لارتكابه ما يخالفها من عبادة غير الله.

(فإن قلت) القبوريون وغيرهم من الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم

من الأحياء يقولون: نحن لا نعبد هؤلاء، ولا نعبد إلا الله وحده، ولا نصلي لهم،

ولا نصوم، ولا نحج، (قلت) هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة فيما

ذكرت، بل رأسها، وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه

معتقدًا، ويصنعون له ما سمعته مما تفرَّع عن الاعتقاد من دعائهم، وندائهم

والتوسل بهم والاستغاثة، والاستعانة، والحلف والنذر وغير ذلك، وقد ذكر العلماء

أن مَن تزيَّى بزيّ الكفار صار كافرًا، ومَن تكلم بكلمة الكفر صار كافرًا، فكيف

بمَن بلغ هذه الرتبة اعتقادًا، وقولاً، وفعلاً؟ ! (فإن قلت) هذه النذور والنحائر

ما حكمها؟ (قلت) قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في

جمعها ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والأقاصي،

فلا يبذل أحد من ماله شيئًا إلا معتقِدًا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر، فالناذر

للقبر ما أخرج من ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما

أراده ما أخرج درهمًا؛ فإن الأموال عزيزة عند أهلها، قال تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ

أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} (محمد: 36-37) ،

فالواجب تعريف مَن أخرج النذر بأنه إضاعة لماله، وأنه لا ينفعه ما يُخرجه، ولا

يدفع عنه ضررًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما

يستخرج به من البخيل) ويجب رده إليه، وأما القابض للنذر فإنه حرام عليه

قبضه؛ لأنه أكل لمال الناذر بالباطل لا في مقابلة شيء، وقد قال تعالى: {وَلَا

تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) ؛ ولأنه تقرير للناذر على شِرْكه

وقبح اعتقاده ورضاه بذلك، ولا يخفى حكم الراضي بالشرك {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن

يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) الآية، فهو مثل حلوان الكاهن ومهر البغي؛ ولأنه

تدليس على الناذر، وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره، فأي تقرير لمنكر أعظم من

قبض النذر على الميت؟ وأي تدليس أعظم، وأي رضاء بالمعصية العظمى أبلغ

من هذا؟ وأي تصيير لمنكر معروفًا أعجب من هذا، وما كانت النذور للأصنام

والأوثان إلا على هذا الأسلوب، يعتقد الناذر جلب النفع في الصنم ودفع الضرر،

فينذر له جَزورًا من ماله، ويقاسمه في غلات أطيانه، ويأتي به إلى سَدَنَة الأصنام،

فيقبضونه منه، ويوهمونه حقيقة عقيدته، وكذلك يأتي ببَحِيرته، فينحرها بباب

الصنم، وهذه الأفعال هي التي بعث الله الرسل لإزالتها، وامِّحائها، وإتلافها

والنهي عنها.

فإن قلت: إن الناذر قد يدرك النفع، ودفع الضرر بسبب إخراجه للنذر،

وبذله، قلت: كذلك الأصنام قد يدرك منها ما هو أبلغ من هذا، وهو الخطاب من

جوفها، والإخبار ببعض ما يكتمه الإنسان، فإن كان هذا دليلاً على حقِّية القبور

وصحة الاعتقاد فيها - فليكُن دليلاً على حقيقة الأصنام، وهذا هدم للإسلام،

وتشييد لأركان الأصنام. والتحقيق أن لإبليس - وجنوده من الجن والإنس - أعظم

العناية في إضلال العباد، وقد مكن الله إبليس من الدخول في الأبدان، والوسوسة

في الصدور، والتقام القلب بخُرطومه، فكذلك يدخل أجواف الأصنام، ويلقي الكلام

أسماع الأقوام ومثله يصنعه في عقائد القبوريين، فإن الله تعالى قد أذن له أن يجلب

بخيله ورَجِله على بني آدم، وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وثبت في

الأحاديث أن الشيطان يسترق السمع بالأمر الذي يُحدثه الله، فيلقيه إلى الكهان،

وهم الذين يخبرون بالمغيبات، ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم مائة

كذبة، ويقصد شياطين الجن شياطين الإنس من سدنة القبور وغيرهم، فيقولون: إن

الولي فعل وفعل يرغِّبونهم فيه، ويحذرونهم منه، وترى العامة ملوك الأقطار وولاة

الأمصار معزِّزين لذلك، ويولون العمال لقبض النذور، وقد يتولاها مَن يحسنون

فيه الظن من عالم أو قاضٍ أو مفتٍ أو شيخ صوفي، فيتم التدليس لإبليس وتقرعينه

بهذا التلبيس، (فإن قلت) هذا أمر عَمَّ البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار

والأنجاد وطبق الأرض شرقًا وغربًا، ويمنًا وشامًا، وجنوبًا وعدنًا [6] ، بحيث لا

بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور، ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها، ويعظمونها،

وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور،

ويسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلْبِسُونَها الثياب، ويصنعون كل

أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها، والتعظيم، والخضوع،

والخشوع، والتذلُّل، والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين، غالبها لا يخلو عن

قبر، أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة يصنعون فيه ما

ذُكر أو بعض ما ذكر، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من

الشفاعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا،

(قلت) إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت أن الحق ما قام

عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيلٍ، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أن هذه

الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة الذين

إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل، ينشأ

الواحد فيهم، فيجد أهل قريته، وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولية أن يهتف باسم

مَن يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه، ويعظمونه، ويرحلون به على محل قبره،

ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفًا على قبره، فينشأ وقد قَرَّ في قلبه عظمة ما

يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير،

وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير، بل ترى مَن يتسم بالعلم،

ويدَّعي الفضل، وينتصب للقضاء، والفُتيا والتدريس، أو الولاية، أو المعرفة،

أو الإمارة والحكومة معظمًا لما يعظمونه مكرمًا لما يكرمونه، قابضًا للنذور، آكلاً

ما ينحر على القبور، فيظن أن هذا دين الإسلام، وأنه رأس الدين والسنام، ولا

يخفى على أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن

سكوت العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر.

ولنضربْ لك مثلاً من ذلك، وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من

ضرورة الدين تحريمها قد ملأت الديار والبقاع، وصارت أمرًا مأنوسًا لا يلج

إنكارها إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المَكَّاسين في أشرف البقاع في مكة

أم القرى يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل

فعل حرام، وسُكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام، ساكتون عن الإنكار،

مُعْرضون عن إيراده والإصدار، أفيكون السكوت دليلاً على أخْذها وإحرازها؟ ،

هذا لا يقوله مَن له أدنى إدراك.

بل أضرب لك مثلاً آخر هذا حَرَم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق،

وإجماع العلماء أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات

الأربعة التي فرقت لعبادات العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل

من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين، بدعة

قرَّت بها عين إبليس اللعين، وصيَّرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت

الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها، وشاهدها كل ذي عينين،

وسمع بها كل ذي أذنين، أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله مَن

له إلمام بشيءٍ من المعارف كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.

(فإن قلت) يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة، حيث سكتت

عن إنكارها لأعظم جهالة، (قلت) الإجماع حقيقته اتفاق مجتهدي أمة محمد -

صلى الله عليه وسلم على أمر بعد عصره، وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون

الاجتهاد من بعد الأربعة، وإن كان هذا قولاً باطلاً، وكلامًا لا يقوله إلا مَن كان

للحقائق جاهلاً، فعلى زعمهم لا إجماع أبدًا من بعد الأئمة الربعة، فلا يرد السؤال،

فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لم يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة، وعلى ما

نحققه، فالإجماع وقوعه مُحال؛ فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق، وصارت في

كل أرض وتحت كل نجم، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون، ولا يتم لأحد معرفة

أحوالهم، فمَن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين، وكثرة علماء المسلمين؛ فإنها

دعوى كاذبة كما قاله أئمة التحقيق.

ثم لو فرض أنهم علموا بالمنكر، وما أنكروه - بل سكتوا عن إنكاره - لما

دل سكوتهم على جوازه، فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاث:

(أولها) الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته، (ثانيها) الإنكار

باللسان مع عدم استطاعة التغيير، (ثالثها) الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة

التغيير باليد واللسان، فإن انتفى أحدهما لم ينتفِ الآخر، ومثاله مرور فرد من

أفراد علماء الدين بأحد المكاسين، وهو يأخذ أموال المظلومين، فهذا الفرد من

علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين باليد ولا باللسان؛

لأنه إنما يكون سخرة لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين، ولم يبقَ

إلا الإنكار بالقلب الذي هو أضعف الإيمان، فيجب على مَن رأى ذلك العالم ساكتًا

على الإنكار، مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد

واللسان، وأنه قد أنكر بقلبه، فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب،

والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب، فالداخلون إلى الحرم الشريف والمشاهدون

لتلك الأبنية الشيطانية - التي فرقت كلمة الدين، وشتتت صلوات المسلمين -

معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين.

ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما

يستدلون عليه: إنه وقع، ولم يُنكَر، فكان إجماعًا. ووجه اختلاله أن قولهم: ولم

ينكر رجم بالغيب؛ فإنه قد يكون أنكرته قلوبٌ كثيرةٌ تعذر عليها الإنكار باليد

واللسان، وأنت تشاهد في زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك، ولا بيدك،

وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار

بقوله إما لائمًا أو متأسّيًا بسكوته، فالسكوت لا يستدل به عارف، وكذا يعلم اختلال

قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا، وسكت الباقون فكان إجماعًا، مختل من

جهتين: (الأولى) دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان؛ لما عرفت من عدم

دلالة السكوت على التقرير، (الثانية) قولهم: فكان إجماعًا؛ فإن الإجماع اتفاق

أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والساكت لا يُنسب إليه وفاق، ولا

خلاف حتى يُعرب عنه لسانه، قال بعض الملوك - وقد أثنى الحاضرون على

شخصٍ من عماله، وفيهم رجل ساكت -: ما لك لا تقول كما يقولون؟ ! ، فقال:

إن تكلمت خالفتهم، فما كل سكوت رضى، فإن هذه منكرات أَسَّسها مَن بيده السيف

والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه،

فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟ ! فإن هذه القباب والمشاهد التي

صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد وأكبر وسيلة على هدم الإسلام وخراب

بنيانه غالب [7] ، بل كل مَن يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما

على قريب لهم، أو على مَن يحسنون الظن فيه من فاضل، أو عالم، أو صوفي،

أو فقير، أو شيخ، أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون

توسُّل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له، ويستغفرون حتى ينقرض مَن يعرفه

أو أكثرهم، فيأتي مَن بعدهم فيجد قبرًا قد شُيد عليه البناء، وسُرجت عليه الشموع،

وفُرش بالفراش الفاخر، وأُرخيت عليه الستور، وأُلقيت عليه الأوراد والزهور،

فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل

وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع؛ حتى يغرسوا في جِبلَّته كل باطل؛ ولهذا

الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على مَن سرج على القبور، وكتب عليها،

وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة؛ فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو

ذريعة إلى مفسدة عظيمة.

(فإن قلت) هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عمرت عليه

قبة عظيمة أُنفقت فيها الأموال، (قلت) هذا جهل عظيم بحقيقة الحال؛ فإن هذه القبة

ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم، وتبع

التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره - صلى

الله عليه وسلم - من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي

المعروف بالملك المنصور في سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة، ذكره في (تحقيق النصرة

بتلخيص معالم دار الهجرة) ، فهذه أمور دولية لا دليلية يتبع فيها الآخر

الأول.

وهذا آخر ما أردناه مما أوردناه لما عمت البلوى، واتبعت الأهواء،

وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم، ومالوا إلى ما مالت العامة إليه،

وصار المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ولم نجد من الأعيان ناهيًا عن ذلك ولا

زاجِرًا.

(فإن قلت) قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق

من الأفعال، يتسمَّوْن بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون من تلك الأمور؛ فإنها مما

جبلت القلوب [8] إلى الاعتقاد بها، (قلت) أما المتسمّون بالمجاذيب - الذين

يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويُخرجونها عن لفظها العربي-

فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حُمُر [9] الكون الذين ألبستهم [10] حلل

التلبيس والتزيين، لما إن إطلاق الجلالة مفردًا عن إخبار عنهم بقولهم: الله الله

ليس بكلامٍ، ولا توحيدٍ، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه

العربي، ثم إخلاؤها عن معنى من المعاني، ولو أن رجلاً عظيمًا صالحًا يسمى

بزيدٍ، وصار جماعة يقولون: زيد زيد لعُدَّ ذلك استهزاءً، وإهانة وسخرية، ولا

سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ، ثم انظر هل أتى في لفظة من الكتاب

والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؛ إذ الذي فيهما هو طلب الذكر، والتوحيد،

والتسبيح، والتهليل وهذه أذكار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدعيته

وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده مَن هو عن

الله، وعن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم وسَمته ودِله في مكانٍ سحيقٍ، ثم قد

يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى مثل: ابن علوان، وأحمد بن

الحسين، وعبد القادر، والعيدروس، بل قد انتهى الحال إلى أنهم يفرون إلى

أهل القبور من الظلم والجراءة كعلي رومان، وعلي الأحمر وأشباههما وقد صان

الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الكساء، وأعيان

الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الجهلة الضُّلال، فيجمعون أنواعًا من الجهل

والشرك والكفر، (فإن قلت) إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة،

ويضيفون إليها أهل الخلاعة والبطالة -خوارق عادات وأمور تُظنّ كرامات: كطعن

أنفسهم وحمْلهم لمثل الحنش والحية والعقرب، وأكلهم النار ومسّهم إياهم بالأيدي

وتقلّبهم فيها بالأجسام، (قلت) هذه أحوال شيطانية وإنك لملبوس [11]

عليك إن ظننتها كرامات للأموات أو حسنات للأحياء لما هتف هذا الضال بأسمائهم

جعلهم أندادًا وشركاء له في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء

الله تعالى، فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكًا له

تعالى وندًّا؟ ! إن زعمت ذلك فقد جئت شيئًا إدًّا، وصيَّرت هؤلاء الأموات

مشركين، وأخرجتهم - وحاشاهم عن ذلك - عن دائرة الإسلام والدين؛ حيث جعلتهم

بجعْلهم أنداد الله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال

المشركين، التابعين لكل باطل، المنغمسين بين بحار الرذائل، الذين لا يسجدون لله

سجدة، ولا يذكرون الله وحده، فإن زعمت هذا فقد أثبتَّ الكرامات للمشركين

الكافرين المجانين، وهدمت بذلك ضوابط الإسلام، وقواعد الدين المبين والشرع

المتين.

وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين علمت أن هذه أحوال وأفعال طاغوتية،

وأعمال إبليسية، يفعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين معاونة من الفريقين،

وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان،

وهذا أمر مقطوع بوقوعه؛ فهم الثعابين التي يشاهدها في أيدي المجاذيب الإنسانُ،

وقد يكون ذلك من باب السحر، وهو أنواع، وتعلُّمه ليس بالعسير، بل بابه

الأعظم الكفر بالله، وإهانة ما عظَّمه الله من جعْل مصحف في كَنيفٍ ونحوه، فلا

يغتر مَن يشاهد ما يعظم في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها

خوارق؛ فإن للسحر تأثيرًا عظيمًا في الأفعال، وهكذا الذين يقلبون الأعيان

بالأسحار وغيرها، وقد ملأ سَحَرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات [12] ؛ حتى

أوجس في نفسه خيفةً موسى عليه السلام، وقد [13] وصفه الله بأنه سحر عظيم،

والسحر يفعل أعظم من هذا؛ فإنه قد ذكر ابن بطوطة وغيره أنه شاهد في بلاد

الهند قومًا توقد لهم النار العظيمة، فيلبَسون [14] الثياب الرقيقة [15] ، ويخوضون في

تلك النار، ويخرجون وثيابهم كأنها لم يمسها شيء! ، بل ذكر أنه رأى إنسانًا عند

بعض ملوك الهند - أتى بولديه معه، ثم قطعهما عضوًا عضوًا، ثم رمى بكل

عضو إلى جهة فرقًا، حتى لم يَرَ أحد شيئًا من تلك الأعضاء، ثم صاح، وبكى،

فلم يشعر الحاضرون إلا وقد نزل كل عضو على انفراده، وانضم إلى الآخر،

حتى قام كل واحد منهما على عادته حيًّا سويًّا، ذكر هذا في رحلته، وهي رحلةٌ

بسيطةٌ، وقد اختصرت - طالعتها بمكة عام ست وثلاثين ومائة وألف، أملاها

علينا العلامة مفتي الحنفية في المدينة السيد محمد بن أسعد رحمه الله.

وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بسنده أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة

فجعل يدخل في جوف بقرة، ويخرج فرآه جندب رضي الله عنه،

فذهب إلى بيته، فاشتمل على سيفه، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب:

{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: 3) ثم ضرب وسط البقرة،

فقطعها، وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد، وكتب بذلك إلى

عثمان رضي الله عنه وكان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جنديًّا يقوم

الليل، ويصبح صائمًا، قال النصراني: والله، إن قومًا هذا شرهم لَقوم صدق،

فوكل بالسجن رجلاً، ودخل الكوفة، فسأل عن أفضل أهلها، فقالوا الأشعث بن

قيس، فاستضافه فرأى أبا محمدٍ يعني الأشعث، ينام الليل، ويصبح فيدعو بغذائه،

فخرج من عنده وسأل، أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا جرير بن عبد الله، فوجده ينام

الليل، ثم يصبح، فيدعو بغذائه، فاستقبل القبلة فقال: ربي رب جندب،

وديني دين جندب وأسلم، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى بمغايرة في

القصة، فذكر بسنده إلى الأسود أن الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه

ساحر، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به، فيقوم صارخًا، فيرد إليه رأسه،

فقال الناس: سبحان الله يحيي (الموت) ، ورآه رجل من صالحي المهاجرين،

فلما كان من الغد اشتمل على سيفه، فذهب [16] يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل

سيفه، فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقًا فليحي نفسه، فأمر به الوليد دينارًا [17]

صاحب السجن، فسجنه انتهى، بل أعجب من هذا ما أخرجه الحافظ البيهقي

بإسناده في قصة طويلة، وفيها أن امرأة تعلمت السحر من المَلَكين ببابل هاروت،

وماروت وأنها أخذت قمحًا، فقالت له - بعد أن ألقته في الأرض -: اطلع فطلع،

فقالت: أحقل فأحقل، ثم تركته، ثم قالت: أيبس فيبس، ثم قالت له: اطحن

فأطحن، ثم قالت له: اختبز فاختبز، وكانت لا تريد شيئًا إلا كان.

والأحوال الشيطانية لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدجال والميعاد، اتباع

الكتاب والسنة ومخالفتهما انتهى ما أوردناه، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخرًا،

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تذييل للمنار وتقريظه للرسالة:

إن هذه الأعمال الغريبة التي تسمى بالسحر حيل صناعية تُتَلَقَّى بالتعليم

والتمرين، وليست من خوارق العادات حقيقة، بل صورة، فهي كما قال تعالى في

سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (الأعراف: 116) بأن أروها أشياء

على غير حقيقتها، لتخييل الحبال والعِصِيّ متحركةً بإرادتها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن

سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) ، والخوارق لا تكون صناعة تعليمية. وإنما

يكثر هذا السحر في البلاد التي يغلب على أهلها الجهل بعلوم الكون، وسنن الله في

الخلق، كبلاد الزنوج في إفريقية والشعوب المشابهة لها في الغباوة والجهل، وتقل

في غيرها أو تنعدم، وما يبقى منها يكون حرفة لبعض المشعوذين، يعرضون ما

يتقنونه من أعمالها على الناس، فيرضخون لهم بقليلٍ من النقد، فمنهم مَن يلحس

حديدة محماة بالنار حتى تبرد، وذلك أنه يتمرن على إدنائها من لسانه، وإصابتها

بلعابه، من غير أن تمس اللسان، ولكنهم يفعلون ذلك بسرعة تخيل للرائي أن

اللسان يمسها، ومنه اقتحام النار كما بيناه في بعض فتاوى المجلد الثاني والعشرين،

وأكثر هذه الشعوذة صناعية يدوية.

ومن فنون السحر ما يستعان عليه بعلوم خواص الأشياء، ولو ذهب الآن

بعض علماء الكيمياء - وغيرها كخواص الكهرباء - إلى بعض تلك البلاد التي

تجهل هذه العلوم جهلاً مطلقًا لفتنوهم واستعبدوهم، ولا سيما إذا كان معهم من

الآلات والأدوات ما يمكِّنهم من أعمالها المعروفة، المشهور منها كالتلغراف

والتليفون اللاسلكي، وغير المشهور. وقد صار جميع العارفين بأمور الكون

يعلمون أن جميع هذه الأعمال الغربية صناعة لها أسباب، يعرفون بعضها،

ويقيسون ما لم يعرفوا على ما عرفوا.

هذا، وإن الإسلام - ولله الحمد - مبني على الحقائق، ورفض الخرافات

والخزعبلات التي عبر عنها بالجبت وبالسحر، وإبطال كل ما يُطغي الناس بإفساد

أخلاقهم وآدابهم وحمْلهم على الأعمال المنكرة، وهو ما عبر عنه بالطاغوت،

فالمؤمن التقي هو السليم العقل والأخلاق، القائم بالأعمال الصالحة التي يُصلح بها

حاله وحال الناس الذين يعيشون معه على منهاج الكتاب والسنة، وما كان عليه

سلف الأمة الصالح، وكل ما زاد على ذلك باسم الدين فهو بدعة ضلالة، إما فسق،

وإما كفر.

وأما أمور الدنيا المحضة فقد قال لنا الرسول عليه الصلاة والسلام:

(أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فلا ينكر العارف بالإسلام على أحد من أفراد المسلمين،

ولا من جماعاتهم - ما استحدثوا فيها من طعام وشراب ولباس وآنية وماعون وأثاث

ومراكب برية، وبحرية، وهوائية، وآلات صناعة، وأعمال زراعة، وطرق

تجارة وأسلحة حرب، وغير ذلك، مع المحافظة على حدود الشريعة في الحلال

والحرام، وحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعِرْض والمال.

وقد ابتُلي الإسلام بجهالٍ لبِسوه مقلوبًا كالفرو، فأكثروا من الابتداع في الدين،

وشوهوه بالخرافات، وزادوا فيه ما لم يرد في سنة، ولا كتاب، ولا عرفه

الرسول، ولا أصحابه ولا غيرهم من أئمة السلف، حتى صار البله والسخف

والخروج عن المعقول، والوساخة، والخرافات، والبدع - من علامات الصالحين

التي لا تُنكر! ، وما أباحه الله وفوّض الأمر فيه رسولُه للناس فقد أنكروه، وضللوا

أهله باسم الدين!

ولله دَرُّ مؤلف هذه الرسالة الإمام المحقق؛ فقد أتى فيها بما لم يأتِ به مَن

ألفوا المختصرات والمطولات في موضوعها، وهو كشف شبهة الذين يزعمون أن

علماء المسلمين قد أجازوا ضلالات القبوريين منذ قرون، فصار ذلك إجماعًا عليها،

فبين أنه لا يمكن الحكم بأنهم سكتوا جميعًا، فكم منهم مَن أنكر ذلك قولاً وكتابةً،

ولئن سكتوا فلا حجة في سكوتهم، ولا سيما مع العلم بأن هنالك منكرات أخرى لا

يقول هؤلاء القبوريون ولا غيرهم بجوازها، وهي مسكوت عنها، إما للعجز عن

إنكارها، وإما للجهل والتهاون في أمر الدين؛ لأن المعروف صار منكرًا، والمنكر

صار معروفًا، كما ورد في أعلام النبوة. وهذه الحجة أظهر في زماننا وبلادنا منها

في غيرهما من زمان ومكان؛ فإن العلماء الذين لا ينكرون ما وردت الأحاديث

الصحيحة بحظره من تشييد القبور وكسوتها وإيقاد السرج والشموع عليها وعبادتها

بدعاء أصحابها والطواف بها والنذر لهم - لا ينكرون أيضا ما فشا في البلاد من

البدع والفواحش، والمنكرات التي لا خلاف في شيء منها، بل لا ينكرون ما

يرون، ويسمعون من الكفر البواح، والإلحاد الصُّراح، بل يعظمون مَن يعتقدون

كفرهم وإلحادهم، ويعلِّمون أولادهم القوانين التي يعتقدون أنها مشتملة على ما هو

محرم بالإجماع، وأن استحلاله ردة، وخروج من الملة؛ لأجل أن يحكموا بها،

وهو حكم بغير ما أنزل الله، وهم يتلون في ذلك آيات الله، فهل يُحتَج بسكوت

أمثال هؤلاء قلوا أو كثروا؟ ! ولا حجة في سكوت المجتهدين، وهم ليسوا منهم،

ولا في أقوالهم على القول المشهور في الأصول إلا إذا أمكن حصرهم، وإجماعهم

على حكم من الأحكام، لا يشذ منهم عن القول به أحد، على ما في حجيته إذا أمكن

وقوعه، والعلم به من النظر!

اللهم، إِنَّا نبرأ إليك من كل قولٍ، وعملٍ، وإقرارٍ في أمر ما من أمور الدين،

لم يكن مما أنزلتَه على رسولك محمدٍ خاتم النبيين والمرسلين، ومن كل فهمٍ

وعملٍ فيه مخالف لسلف الأمة الصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب

العالمين.

_________

(1)

تابع لما نُشر في ص273 من الجزء الرابع.

(2)

وفي نسخة: (الفضائح) .

(3)

وفي نسخة: (فيهم ما حصل في) .

(4)

وفي نسخة: (دَلّ) .

(5)

وهذه النذور بالأموال، وجعل قسط منها للقبر، كما يجعلون شيئًا من الزرع يسمونه تلمًا في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيء إلخ.

(6)

كان المناسب أن يقول: وجنوبًا وشمالاً.

(7)

قوله (غالب) خبر قوله: (فإن هذه القباب) ، أي أن أكثر مَن يعمر هذه القباب - بل كل مَن يعمرها - هم الملوك والأمراء، والأضراب مبالغة؛ فإن الذين اقتدوا بهم كثروا أيضًا، ولعله كذلك في بلاد المؤلف.

(8)

إما أن يكون الأصل (جلبت القلوب) بتقديم اللام على الباء، وإما يكون (جلبت القلوب على الاعتقاد) .

(9)

الحُمُر: بوزن كتب: جمع حمار.

(10)

وفي نسخة: (ألبستهم)، ولعل الأصل: ألبستهم ألسنتهم.

(11)

لملبَّس.

(12)

والحنشان.

(13)

وحتى وصفه إلخ.

(14)

ويلبَسون.

(15)

الرفيعة.

(16)

وفي نسخة: (فذهب الساحر يلعب) إلخ.

(17)

دمار السجن.

ص: 345

الكاتب: محيي الدين آزاد

الخلافة الإسلامية

ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(5)

فصل

الجماعة والتزام الجماعة

وفي هذا الحديث - الذي نحن بصدده - أمر مهم يستحق أن نتأمل فيه،

وهو أن الشريعة نصَّت على أن الحياة الإسلامية إنما هي في التزام الجماعة وطاعة

الخليفة، والحياة الجاهلية في الانحراف عنها، ولقد أوضح القرآن أن الجاهلية هي

التفرق والتشتت، وانتشار الكلمة، وعدم الاجتماع على مركزٍ واحدٍ، وأن الحياة

الإسلامية هي الحياة الاجتماعية، والاتحاد، والائتلاف بين الأمة، واجتماع الآحاد

المنتشرة؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ

قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل

عمران: 103) إلخ.

فالجاهلية الفرقة، والإسلام الجماعة؛ ولذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام

مرة بعد مرة أن مَن يحيد عن الجماعة، وينزع يده عن طاعة الخليفة، يكاد

يخرج من الإسلام، وتكون ميتته على الجاهلية لا على الإسلام، وإن صلى وصام،

وزعم أنه مسلم.

وها هي ذي بعض الأحاديث الصحيحة المشهورة في هذا الباب:

قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن أطاع أميري

فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني) رواه البخاري، ومسلم عن أبي

هريرة، وفي رواية أخرى لمسلمٍ:(مَن أطاع الأمير) أي أطاع إمام المسلمين،

وقال: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة)

(البخاري ومسلم عن أنس) .

يظهر أن هذه الجملة كثيرًا ما كان يكررها صلى الله عليه وسلم، ولا سيما

في خطبه؛ ولذا تجدها مرويةً بألفاظٍ مختلفةٍ، ونُسبت إلى مواقع مختلفة، وقد قال

يوم الحج الأكبر - في حجة الوداع التي كانت مشهدًا عظيمًا للمسلمين، والتي لم

يعش صلى الله عليه وسلم بعدها إلا بضعة أشهر -: (ولو استعمل عليكم عبد

يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا) (مسلم) .

وقال: (مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات مِيتة جاهلية)

وفي لفظ: (فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات

ميتة جاهلية) (متفق عليه) ، ومعلوم أن الجاهلية كانت قبل الإسلام، فمعنى

الحديث: أنه مات على ضلالة عرب الجاهلية - والعياذ بالله! - وفي رواية عبد

الله بن عمر رضي الله عنه : (مَن خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا

حجة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية) .

وقال: (مَن فارق الجماعة شبرًا فكأنما خلع رِبْقة الإسلام من عنقه)

(الترمذي)، وفي رواية:(دخل النار)(أخرجها الحاكم على شرط الصحيحين) .

وقال: (كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هلك نبي خلفه نبي،

وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاءُ، فيكثُرون، قالوا: فما تأمرنا؟ ، قال: فُوا

ببيعة الأول فالأول، وأَعطوهم حقَّهم، فإن الله يسألهم عما استرعاهم) (متفق عليه) .

وغير هذا كثير من الأحاديث التي لا تُحصى، وشواهد الإجماع ونصوص

كتب العقائد والفقه لسنا في حاجة إليها بعد الحديث.

***

فصل

في شروط الإمام والخلافة

إذا استقصيت نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة - تعلم أن الشريعة

الإسلامية اعتبرت الإمامة والخلافة على شكلين متضادين، واحد منهما أصلي

ومطلوب، والثاني اضطراري.

وبيان هذا أن الشكل الأصلي المطلوب هو انتخاب الأمة خليفتَها بحيث

تجتمع آحادها، وأهل الحل والعقد والرأي والبصيرة منها، فيتباحثون ويتشاورون

طبقاً للآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، ثم ينتخبون الخليفة

مراعين فيه شروط الخلافة الشرعية، ومقاصدها الأساسية، غير ناظرين إلى

الوجاهة الذاتية والجنسية النسبية [1] ؛ إذ الشريعة تعتبر في الانتخاب شورى الأمة،

لا جنسية الخليفة وعشيرته ونسبه، وقد تأسست الخلافة الراشدة على هذا الأساس

الجمهوري، فالخليفة الأول انتخبته الأمة مباشرة، والخليفة الثاني انتخبه الخليفة

الأول [2] ، ورضي به أهل الحل والعقد من الأمة، والخليفة الثالث انتخبته جماعة

الشورى، والرابع بايعته الجماعة بأسرها، فانتخاب هؤلاء الخلفاء الأربعة كان

انتخابًا شرعيًّا وجمهوريًّا، ولم تُراعَ فيه الجنسية، والقبيلة، والعهد البتَّة، ولو

رُوعي فيه شيء من هذا القبيل لَبقيت الخلافة في بيت الخليفة الأول، ولم تخرج

منه إلى آخر الدهر، ولكن لم يكن شيء من ذلك، بل لم يدَع الخليفة الثاني مجالاً

للأمة في أن تنتخب ابنه خليفة؛ لأنه منع، وأوصى بذلك وصيةً حين احتضاره -

رضي الله عنه وعنهم أجمعين -.

فإذا كان الأمر على هذا النهج الجمهوري، واستطاعت الأمة انتخاب خليفتها-

فقد شرطت الشريعة فيه شروطًا تُراعَى عند الانتخاب:

وأما الشكل الثاني: وهو إذا تغلب متغلب بقوته وعصبيته على الخلافة، ولم

يترك مجالاً للانتخاب؛ فحينئذٍ ماذا يجب على الأمة إذا كان المتغلب غير أهل لها

وظالمًا، وفاقدًا لشروطها؟ ، فهل يجب عليها أن تخرج عليه وتقاتله؟ ، أم يجب

عليها أن تطيعه، وتنقاد له، وتؤدي إليه الزكاة، وتقيم وراءه الجمعة والجماعة،

وتعمل تحت سيطرته سائر الأعمال التي لا تتم إلا بوجود الخليفة والإمام؟

لما كانت هذه المسألة أهم المسائل الحيوية، وأساس حياة الأمة الاجتماعية -

لم تكن الشريعة لتغفل عنها، وتترك الأمة بلا هداية، ولا بصيرة فيها؛ ولذا تجدها

قد اهتمت بها أشد الاهتمام، وبينتها بيانًا وافيًا بعبارات واضحة ونصوص صريحة؛

ومن أجل ذا لم يتردد الصحابة - رضوان الله عليهم - في تعيين خطتهم لما قامت

الخلافة الأموية الاستبدادية بعد انقراض الخلافة الراشدة، فعاملوها معاملة واحدة،

كأنهم كانوا عينوها من قبل، وصارت تلك المعاملة سُنَّة لمَن بعدهم، وأجمعت

الأمة على استحسانها، واتخذتها خطة اجتماعية لها، نعم، قد اختلف بعض الفرق

الإسلامية في الشكل الأول للخلافة، ولكن لم يختلف أحد منهم في الشكل الثاني لا

قولاً ولا عملاً [3] .

وقد شرطت الشريعة في الشكل الأول الجمهوري شروطًا بالغة في الكمال

منتهاه، وأوجبت على الأمة أن تنظر في الخليفة كل الأمور التي تلزم لهذا المنصب

الرفيع، ولهذه المسئولية العظيمة، وقد اشتهرت شروط الخلافة هذه اشتهارًا عظيمًا،

حتى إنك تجدها في عامة كتب العقائد والفقه التي يتداولها طلبة العلم في المدارس

الدينية، فترى فيها:(ويُشترط أن يكون) الخليفة (من أهل الولاية المطلقة

الكاملة، بأن يكون مسلمًا، حرًّا، ذكرًا، عاقلاً، بالغًا، سائسًا بقوة رأيه، ورويَّته،

ومعونة بأسه وشوكته، قادرًا بعلمه وعدالته وكفايته وشجاعته على تنفيذ الأحكام،

وحفظ حدود الإسلام، وإنصاف المظلوم من الظالم، عند حدوث المظالم

) إلخ،

راجع شرح المواقف، والنسفي، والتمهيد، وشرح الفقه الأكبر للقارئ، وشرح

المقاصد، ومن كتب المحدثين شرح عقيدة ابن عقيل، وفتح الباري، وشرح

منظومة الآداب، وخلاصة ابن مفلح، ونيل الأوطار ووبل المرام للشوكاني،

والإقناع وشرحه وغيرها من الكتب.

وأما شرط القرشية ففيه اختلاف [4] ، وقد كان يقول به أكثر العلماء والفقهاء

إلى زمن الدولة العباسية، وبعدها بيسير (سنة 640 هـ سنة 1243م) لقوله

صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر في قريش) ولذا ذهبت الإمامية إلى أن

الخليفة يجب أن يكون من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ونقول على

هذه القاعدة إن الخلافة لعلي عليه السلام، ثم لأئمة العِتْرَة - رضوان الله

عليهم أجمعين - وذهبت الزيدية إلى أن الخلافة في بني فاطمة كلهم، ولا خصوصية

فيها لأئمة أهل البيت، فالإمامية تَشْترط في الخليفة - مع سائر الشروط المذكورة

آنفًا - أن يكون من أهل البيت النبوي، والزيدية توسع فيها وتقول كل بني

فاطمة أهل للخلافة، وهم يستحقونها دون غيرهم.

ولا تنسينَّ أن هذا الاختلاف في الشكل الأول، أما في الشكل الثاني - أي

إذا لم تقدر الأمة على انتخاب الخليفة لتغلُّب المتغلِّبين - فلا خلاف فيه بين

المسلمين لكثرة الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة، وأئمة أهل البيت في هذا

الباب؛ ولذا ترى الأمة قد اتفقت كلمتها على أنه إذا استولى مسلم بقوته وشوكته

وعصبيته على الخلافة - وتمكن فيها، وقامت حكومته، وقوي أمره - وجب على

الأمة أن تطيعه، وتسمع له، وتخضع لخلافته مثل ما لو كان أصابها بحق، ولا

يجوز لأحد الخروج عليه، والقيام على وجهه، ومَن يفعل ذلك يقاتله المسلمون،

ويعينون الخليفة عليه، مهما كان الخارج ذا فضل وصلاح وأهلية؛ لأنه مفارق

للجماعة، وخارج على السلطان [5] .

هذا هو حكم الشريعة في هذه الصورة، وحكمته واضحة جليَّة، وهي أن

قيام الشريعة وبقاء الأمة يتوقف على الحكومة القوية؛ إذ هي أساس للحياة

الاجتماعية، وقد جعلت لها الشريعة نظامًا في غاية من الكمال والجودة، فخولت

للأمة حق انتخاب الأمير، وجعلت الشورى أساسًا للانتخاب، وشرطت شروطًا في

الأمير، ولم تعتمد في الإمارة على امتيازات الجنس والعصبية والملوكية، بل

جعلتها حرة وجمهورية محضة لا يشوبها الاستبداد والضغط أبدًا، ثم حذرت الناس

من أن يتصدوا لها، ويرشحوا أنفسهم لأجلها، وينافسوا فيها، ويتطلعوا إليها،

فيقاتلوا، ويحاربوا عليها، ويسفكوا الدماء في سبيلها، وقد كان رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - يبايع الناس على هذا، فيقول:(لا ينازع الأمر أهله)[6] هذه

كلمة صغيرة في ظاهرها، كبيرة في ذاتها، وكافية لإبطال الحروب والمنازعات

بأسرها، وقد بوَّب البخاري في صحيحه عليها بابًا فقال: (باب ما يُكره من

الحرص على الإمارة) ، وروى فيه حديث أبي موسى الأشعري قال: قال النبي -

صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لا نولي هذا الأمر مَن سأله، ولا مَن حرص عليه) ،

وكان الغرض من هذا التحذير والمنع؛ لأن الناس إذا لم يحرصوا عليها سهل

للأمة انتخاب الأصلح والأهل لها.

هذا هو النظام الحقيقي الذي جعلته الشريعة للخلافة الإسلامية، ولو بقي

معمولاً به لصلحت الدنيا كلها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه لا

يدوم أكثر من ثلاثين سنة، فبيَّن للأمة ما يجب عليها عندما ينهدم ذلك، ويحل

محله الاستبداد والقهر.

لنفحص المسألة فحصًا جيدًا؛ لنرى أية خطة أحسن عند تغلب المتغلبين على

الخلافة؛ فإن هنا خطتين:

(إحداهما) أن يقبل الاستبداد، ويخضع له صيانةً للجماعة، وحفظًا لنفوس

الأمة، وذَوْدًا عن البلاد الإسلامية من الأعداء، وصونًا لأوامر الشريعة من

التعطيل وغيرها كثير من المصالح العامة، ولا تنسَ أن هذه الحكومة، وإن كانت

مستبدة قاهرة إلا أنها إسلامية تغار على الدين، وترفع شأن الأمة في نظر الأعداء،

نعم تنتقل الحكومة الإسلامية في هذه الصورة إلى مستبد تغلَّب عليها، ولم يبالِ

بالنظام الشرعي لها، ولا ريب في أنه تنشأ عن هذا مفاسد كثيرة [7] .

وأما الخطة الثانية: فهي أن يقاتل المتغلب، ويخرج عليه، وترد الخلافة

على مَن هو أصلح لها منه، ولكن إذا فعل ذلك جرت الدماء أنهارًا في حروب

تشيب من هولها الولدان، واختلَّت المصالح العامة، وتزلزلت الهيئة الاجتماعية،

وبطل الأمن، وعمت الفوضى، وتعطَّلت أوامر الشريعة، وهُدمت الجوامع،

ونهبت البيوت، وخربت البلاد، وانصبت على رأس الأمة المصائب، وأصابها

كل ما يصيب الأمم في مثل هذه الحروب التي تثيرها الأهواء والشهوات، ومع هذا

لا يُعرف متى يستتب الأمن وتعود الراحة؟ إذ كل صاحب عصبية وذي مطامع

كبيرة ينهض قائلاً: أنا أحق بالخلافة من صاحبها، فعلى الناس أن يبايعوني،

ويقاتلوا في صفي، وينصروني على عدُوي) ! [8] ، فماذا تكون حال الأمة إذ ذاك؟،

ألا تكون كالريشة في مهب العواصف، تقلبها الرياح كيف ما شاءت؟ أَوَلا

تصبح كسفينة في بحر محيط لا ربان عليها، تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة، فتعلو

تارة، وتسفل أخرى، ويُخشى عليها الغرق كل آن؟ ولا ينكر أن مع هذه

المخاوف والأهوال يُحتمل أن ترد الخلافة إلى الأصلح لها، فأي صورة أحق أن

ترجحها الشريعة الغرَّاء؟ أتلك التي مصالح الأمة فيها مصونة مضمونة،

والمفاسد محتملة؟ أم هذه التي الخراب والدمار فيها محقَّق، ورَدّ الحق إلى أهله

محتمل؟

كل مَن له أدنى حظ من العقل الصحيح لا يتردد في الجواب بأن الصورة

الأولى أحق أن تُقبل، وتعوَّل عليها في مثل هذه الحالات، وقد فعلت الشريعة ذلك

جَرْيًا على قاعدة (المنافع تُجلَب، والمضار تُدفَع) ، وإذا اختلطت المصالح

والمفاسد تختار الشريعة طريقًا أقل مضرة، وأكثر مصلحة، وترجح أهون الشرّين؛

إذ لو لم تفعل ذلك، وفَرَضَتْ على الأمة عدم الخضوع لأحدٍ سِوَى جامع شروط

الخلافة والمنتخب على الطريقة الجمهورية الصحيحة لقام - كما قلنا - كل مَن اتخذ

إلهه هواه لنيل الخلافة، وقال: هذا الخليفة ليس بأهلٍ، وأنا أحق منه، وأجمع

للشروط، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ : القتل والسلب، وإهراق الدماء، وزهق النفوس،

وانهدام الهيئة الاجتماعية، وتزعزع أركان الأمة، فمَن كان يحافظ على البلاد،

ويحكم بين العباد، ويعاقب المجرمين، ويحد السُّرَّاق، وقُطَّاع الطريق، ويأخذ

الزكاة، ويقيم الجمعة والعيدين، ويدافع عن الثغور، ويرابط على الحدود؟ .

وايم الله، لو كان كذلك لتداعت الأمم الأكالة على المسلمين، ولاحتلت

بلادهم، وخضدت شوكتهم، واستعبدتهم، وأذلتهم، وفعلت بهم ما فعلت! ، فقبول

خلافة المتغلب أحسن وأهون، أم هذا الخراب والدمار الذي ليس فوقه خراب ولا

دمار؟ ؛ ولذا أمرت الشريعة بطاعة الخليفة المسلم مهما كان ظالمًا ومستبدًا، وكيفما

كانت سيرته وسريرته ما لم يأمر بمعصية الله، وما أقام الصلاة - والله تعالى أعلم

بما يأمر، وهو بصير بمصالح العباد! [*] .

***

فصل

نصوص السنة وإجماع الأمة

مَن يلقِ نظرة سطحية على الأحاديث النبوية يَرَ أن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - كان يخبر بما سيكون في المستقبل من انقلاب الحال، وتغير الناس،

ويبين لكل حالة وكل دور علائم وآيات، ويرسم للأمة خطة تناسب كل وقت

وزمان، وإن هذا لَمن أكبر الأدلة على صدقه، وصدق نبوته؛ إذ كل ما أخبر جاء

كفلق الصبح، وإن كان الناس لا يصدقون بذلك، فبأي دليلٍ يثبتون ما جرى في

الزمان الغابر، فكل أحد يستطيع أن ينكر حينئذٍ وجود الإسكندر المقدوني، والدولة

الرومانية، بل نابليون، وحرب واترلو.

والحاصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم بما يقع بعده؛

ولذا جعل لكل حالةٍ ووقت أمرًا وحكمًا، وأمر الأمة بامتثال أمره، فيجب على

الباحث أن لا يخلط بين الأوامر والأحوال خلْطًا، بل يضع كلاًّ منها في موضعه،

والذين لم يفعلوا ذلك أخطئوا، وغلطوا في فهم الأحاديث، ولم يستطيعوا التوفيق

والتطبيق بينها.

يرى الناظر أولاً الأحاديث التي ذُكرت فيها الخلافة الراشدة، ولكوْنها كانت

معلومة لديه بأنها ستقوم على منهاج النبوة تمامًا - أوصى الأمة بطاعتها، واتخاذ

أعمالها قدوة وسُنَّة كسنته نفسه صلى الله عليه وسلم ففيها روى العرباض بن

سارية حديثه المشهور، قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم،

فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل يا رسول

الله، وعظتنا موعظة مودِّع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع

والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنتي

وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ) (ابن ماجه والترمذي) ،

وحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم

) إلخ، وحديث: (أما طبقتي

وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان

) إلخ (رواه البغوي عن أنس) ، وحديث

عبد الله بن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا وكان له حواريون

وأصحاب يأخذون بسُنته، ويقتدون بأمره) إلخ (مسلم) ، وغيرها كثير.

ففي هذا الدور أمرت الأمة بأمرين: الطاعة والاقتداء بالخلفاء، ثم تأتي بعده

أحاديث الدور الثاني، فيبقى حكم الطاعة على حاله، فتطيع الأمة خلفاء هذا الدور

أيضًا مثل طاعتها لخلفاء الدور الأول، ولكن يتغير الحكم الثاني، أي حكم الاقتداء،

فلا يُقتدَى بهم، ولا تتخذ أعمالهم سُنة متبعة؛ لأنه كان معلومًا من قبل أنهم لا

ينالون الخلافة على النظام الشرعي، ولا يكون سيرهم طبقًا للكتاب والسنة، فيكون

فيهم الصالح، والطالح، والقبيح، والحسن؛ فلذا أُمرت بطاعتهم، ونُهيت عن

اتباعهم، والاقتداء بهم، بل إذا قاموا لنشر بدعتهم، وترويج فسادهم - وجب على

كل أحد السعي لسد فسادهم، ومنع منكرهم بيده ولسانه، وإن لم يستطع فبقلبه

يبغض أعمالهم، (وذلك أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ،

فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويُسرنا،

وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله

برهان) (متفق عليه) ، أي يطاع الإمام في كل حال إلا أن يظهر منه كفر صريح.

وقال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون

عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم، قال:

قلنا أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا مَن ولي عليه والٍ

فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من

طاعة) ، (رواه أحمد ومسلم) .

وعن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يكون بعدي أئمة، لا يهتدون

بهدْيِي، ولا يستنُّون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في

جثمان إنس، قال: قلت: كيف يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع

وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمعْ وأطعْ) (أحمد ومسلم) .

وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها، قالوا: فما

تأمرنا؟ ، قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم (متفق عليه عن

ابن مسعود، وأخرجه أيضًا الحارث بن وهب وأورده الحافظ في التلخيص) .

وعن جابر بن عتيك مرفوعًا عند أبي داود بلفظ: (سيأتيكم ركب مبغضون،

فإذا أتَوْكم فرحِّبوا بهم، وخلّوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن

ظلموا فعليهم) .

وعن وائل بن حجر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل

يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ ، قال:

اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُملتم) (مسلم والترمذي

وصححه) .

قال صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم، السمع والطاعة فيما أحب

وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (أخرجه

الشيخان وغيرهما عن ابن عمر) ؛ إذ لا يُعصَى اللهُ خالقُ السموات والأرض في

شيء مهما صغر وقل لمخلوق مهما كبر وعظم وارتفع شأنه، وإن هذا ما قاله

الإسلام، وجميع الأديان، وكل العقلاء والحكماء.

ولذا أمرت الشريعة بأداء الصدقات والزكاة إلى العاملين عليها، مهما كانوا

ظلمة وفسقة وخونة، ولا يجوز منْعها عنهم لأجل ذلك، نعم يجوز السعي عند

الإمام في عزلهم، ولكن ما داموا على عملهم لا يجوز منع الزكاة عنهم؛ لئلا يختل

نظام الأمة - كما في رواية بشير بن خصاصة أنه قال: (قلنا: إن قومًا من

أصحاب الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)

(قال أبو داود رفعه عبد الرزَّاق عن معمر) ، وفي رواية سعد بن أبي وقاص،

قال: (ادفعوا إليهم ما صلُّوا)، وروى ابن أبي شيبة أنه (قال رجل لابن عمر:

إلى مَن نؤدي الزكاة؟ قال إلى الأمراء، فقال الرجل: إذًا يتخذون بها ثيابًا وطِيبًا،

قال: وإن فعلوا ذلك أَدِّ إليهم الزكاة!) ؛ ولذا ترجم أصحاب الحديث (باب براءة

رب المال بالدفع إلى السلطان مع العدل والجور) (كما في المنتقى) ، وبه قال

جمهور الفقهاء وأئمة أهل البيت، كما نُقل عن الإمام الباقر عليه السلام في

الأصول وإلى هذا ذهب المحققون من الإمامية والزيدية [9] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أي لم يُراعَ فيه الأشرف نسبًا من بيوت قريش التي حصر الرسول الخلافة في جملتها، بل يرجحون كفاءته من أي بيت منهم كان، وسيعلله بعد بأنها لو جُعلت وراثية في بيت معين لبقيت في بيت الخليفة الأول - كما هو الشأن في بيوت الملوك - إلى عهدنا هذا، وضرب له المثل بالخلفاء الراشدين.

(2)

يعني أنه رشحه، والأمة رضيته، فبايعته.

(3)

إطلاق النفي خطأ؛ فالخلاف وقع قولاً وعملاً، ذهب كثيرون إلى مقاومة السلطة الجائرة وغير الشرعية، وكثيرون إلى طاعتها، وسيأتي تحقيقه، ومازالوا يستعدون لإسقاط خلافة الأمويين حتى أسقطوها، وهي في رِيق شبابها.

(4)

يظهر أن للكاتب - عفا الله عنه - ميلاً إلى إضعاف هذا الشرط الذي أجمع عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الشقاق في الأمم، وهم أهل الإجماع دون غيرهم، والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة متفق عليها، وقد ذكر حديثًا واحدًا منها لم يقرنه بذكر مَن خرجه من رواة الصحيح، وقد صرحت الكتب التي ذكرها كلها بشرط القرشية ولما ذكروا أن الخوارج وبعض المعتزلة خالفوا سائر المسلمين في اشتراط القرشية - ردوا عليهم بأن الإجماع كان قد انعقد على ذلك من عهد الصحابة مستندًا إلى النص، فلا عبرة بخلافه قال السعد التفتازاني في شرح المقاصد:(ويُشترط أن يكون مكلفًا مسلمًا عدلاً حرًّا ذكرًا مجتهدًا شجاعًا ذا رأي وكفاية سميعًا بصيرًا ناطقًا قرشيًّا، فإن لم يوجد من قريش مَن يستجمع الصفات المعتبرة وُلِّيَ كناني، فإن لم يوجد فرجل من بني إسماعيل فإن لم يوجد فرجل من العجم) إلخ (ص 271، ج2، طبع الآستانة) وقال الحافظ في شرح البخاري - بعد إيراد الأحاديث في حصر الإمامة في قريش المؤيدة لما رواه البخاري منها - ما نصه: (ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر خلافًا لمَن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيًّا) ، ثم ذكر مَن قيده ببعض قريش، كالشيعة ورأي الخوارج وبعض المعتزلة بعدم اشتراط القرشية، وتعقبه بقوله:(قال أبو بكر بن الطيب: لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوتِ حديث:) الأئمة من قريش) ، وعملِ المسلمين به قرنًا بعد قرن، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف (ص 581، ج29 طبعة الهند) ثم ذكر الحافظ ما رواه أحمد عن عمر من ميله إلى استخلاف أبي عبيدة وهو غير قريشي، أو معاذ بن جبل وهو أنصاري، وجمع بينه وبين نقلهم للإجماع باحتمال أن يكون رجع عن ذلك، أو يكون الإجماع قد انعقد بعده والصواب أن أبا بكر قد احتج على الأنصار - وعمر بظاهره - بحديث حصر الأئمة في قريش؛ فأذعنوا، ولم يعارض فيه أحد منهم ولا من غيرهم؛ فانعقد الإجماع من ذلك اليوم، ويكفي هذا إعلالاً لرواية قول عمر إنه كان يحب أن يستخلف أحد الرجلين، وهل يوجد شيء يُرَدُّ به أثر آحادي أقوى من هذا الإجماع، وهذه النصوص المتفق عليها؟ ! وذكر الحافظ قبل ذلك ما أورد على حديث:(لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) - على القول بأنه خبر محض من أنه تولى أمرَ السلمين كثيرٌ من غير قريش، وأجاب عنه أولاً بأن تولي هؤلاء لم يمنع وجود أئمة من قريش في اليمن، والمغرب وغيرهما، وأن بعض أولئك كان يدَّعي القرشية كبني عبيد، ثم قال:(وأما سائر مَن ذُكر ومن لم يُذكر فهم من المتغلبين، وحكمهم حكم البغاة، فلا عبرة بهم)، (قال) : وقال القرطبي: هذا الحديث خبر عن المشروعية، أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وُجد منهم أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، وقد ورد الأمر بذلك في حديث:(قدِّموا قريشًا، ولا تَقْدموها) أخرجه البيهقي، وذكر له شواهد من الصحاح وغيرها (ص581، ج 29 أيضًا) .

(5)

حكاية الإجماع باطلة كما أشرنا إليه في حاشية سابقة، وإن الحافظ ابن حجر قال إنهم يعدون المتغلبين على الخلافة من البُغاة الخارجين عن السلطة الإسلامية، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

(6)

بتأمل كلمة (أهله) - وما يراد بها شرعًا - هل يمكن أن يكون منها الظالمون المستبدون؟ ! .

(7)

أكثر هذه المفاسد على جرثومتها أن الأمر يجري على القوة لا على الشريعة، وأي حاكم تخضع له الأمة خضوعًا أعمى، ثم يقف عند حدود الحق والعدل فلا يتعداها على علم ولا عن جهل.

(8)

الصواب أن هذا من لوازم الخضوع لكل قوي يتغلب؛ إذ لو كان أصحاب هذه المطامع يعلمون أن الأمة إنما تخضع للحق لا للقوة، وأنها لا تزال تقاتل المستبد الخارج حتى يهلك أو تهلك - لما خرج عليها خارج، ولا تغلَّب مستبد ظالم، وكلام الأستاذ أبي الكلام هنا متعارض متدافع، وبعض ما فرضه من صور المسالة غير متعين الوقوع بل نادر، ومقاومة الظلم والاستبداد، وتغيير المنكر فرض لازم، ولكن يُراعَى في تنفيذه ارتكاب أخف الضررين عند التعارض.

(*) الكاتب فرض صورة للتعارض بين الحق والتغلب لا تطَّرِد، بل قلما تقع، وجعلها قاعدة للترجيح، إن مجموع الأحاديث الواردة في الإمامة والإمارة تدل على أمور يعزّ أن تجدها مجموعة في مكانٍ واحدٍ، فتجمع بها بين ما يتراءى لك فيها من التعارض:

(أ) أن الإمام الأعظم (الخليفة) يجب أن يكون من قريش،

(ب) أن طاعة الإمام واجبة شرعًا ما دام مسلمًا، يقيم الصلاة بالناس، ويقودهم بكتاب الله، وإنما الطاعة بالمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،

(ج) أن طاعة الأمراء والولاة والعمال - الذين يوليهم الإمام قيادة الجيوش والإدارة والقضاة والجباية- يطاعون، وتؤدَّى إليهم الحقوقُ بالشرط الذي يطاع فيه الإمام بالأولى، وفي حديث يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين بنت إسحق الأحمسية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول:(ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا) رواه مسلم وفي أحاديث أخرى: (ولو كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف) ، ومنه حديث علي عند الحاكم مرفوعًا بإسناد جيد، ورجح الدارقطني وقفه، قال في آخره:(وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيَّا مجدعًا فاسمعوا له وأطيعوا) ،

(د) أن ظلم الأئمة والأمراء وفسقهم وأثَرَتهم لا تبيح لأفراد الأمة عصيانهم فيما يأمرون به من المعروف؛ لأن ذلك يستلزم ما هو شر منه، وهو الفوضى وفساد جميع الأمور العامة، فكل ما ورد في كتب الكلام والفقه وشروح الأحاديث من وجود الطاعة فالمراد به ما ذكرنا لما عللناه به،

(هـ) أن ذلك كله لا يدل على وجوب رِضَى الأمة بالظلم والبغي والأثرة، ولو من قريش، ولا على الخضوع لكل قوي مستبد، ويستحيل أن يكون هذا حكم الدين وهو يهدم الحق والعدل والفضيلة ويفسد على الأمة دِينها ودُنياها، ولا يمكن ترجيح أحاديث الطاعة المطلقة على الأحاديث المقيدة لها بالمعروف والشرع وعلى سائر النصوص المعلومة من الدين بالضرورة، وإنما يظهر الجمْع بينها بأن على الأفراد السمع والطاعة وعلى أهل الحل والعقد من زعماء الأمة التي هي صاحبة السلطان، وهم أهل الشورى والزعامة فيها أن يوقفوا الأئمة والأمراء عند ما أوجب الله من الحق والعدل والتزام الشرع بما دون الخلع لغير الكافر إن أمكن، وأن يستعدوا لذلك بما تترجَّح به المصلحة على المفسدة، وكذلك فعلت كل الأمم التي استقام أمر حكومتها، ولم توطن أمة نفسها على الخضوع إلا كانت من الهالكين، وإطلاق القول بالخضوع للمستبدين الجائرين لأجل قوتهم خطأ عظيم، وأية حكومة قامت بالقوة، ثم قاومتها الأمة برأي زعمائها ولم تسقط؟ وسيأتي ما يقرب من هذا الجمع من النووي.

(9)

قال الحافظ - في شرح حديث البخاري في المبايعة على السمع والطاعة الذي تقدَّم في الأصل عند قوله فيه من كتاب الفتن: (وأن لا ننازع الأمر أهله) ، أي المُلك والإمارة، ثم ذكر زيادات في الحديث من روايات أخرى، منها:(وأن نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم) وذكر - في شرح قوله -: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد والطبراني والحاكم من روايته عن أبيه عن أُبَيّ عن عبادة: (سيلي أمورَكم من بعدي رجالٌ يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمَن عصى الله)، وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفْعه:(سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة) وقال - في شرح قوله -: (عندكم من الله فيه برهان) ، أي من نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تُنازِعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم اهـ، وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر والذي يظهر حمْل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصَّل إلى تثبيت الحق بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم ونقل ابن التين عن الداودي، قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً، فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه اهـ (ص524، ج 29 طبعة الهند) .

ص: 361

الكاتب: شكيب أرسلان

كوارث سورية في سنوات الحرب

من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي

مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(6)

ثم لا ينبغي أن ننسى أن لجبل لبنان علةً ثانيةً زادته وبالاً على وبال، وهي

ولوع أهله بتربية التوت، وترفيههم هذه الشجرة ما استطاعوا إليه سبيلاً، وهم

معذورون في ذلك؛ لأن الجبل بضيق أراضيه ووعورتها لا يُلام أهله في اعتمادهم

على التوت الذي منه الحرير، وهذا القليل منه يغني عن الكثير من غيره، ولكن

حال الحرب ليست كحال السلم، فلما نشبت الحرب العامة نسوا أن البحر سيصبح

مسدودًا في وجههم، وأن البر من الداخل ستقل فيه المزروعات بسبب ذهاب الشبان

كلهم إلى العسكرية، وأخذ الجيش للبقر والجِمال، وربما لم ينتظروا أن يكون أمد

الحرب سنوات متعددة، بل ظنوه بضعة أشهر، فلم يعملوا شيئًا من الحيطة لأنفسهم،

وبقوا يعاملون التوت كالأول، وكما لو لم تكن حرب، ويأبون أن يزرعوا ببر

شجره قمحًا أو شعيرًا؛ لئلا يلحق من ذلك ضعف بالشجر، وكذلك بين شجر

الزيتون وغيره من الأشجار، وظنوا في أنفسهم أن الدولة لا بد أن تميرهم من

حوران والشام وحلب وغيرها. وكانوا يقولون: إن السلطان بلاده واسعة؛ فلا

يعجز أن يبعث إلينا بحاجتنا من الحبوب، وفاتهم أن أكثر بلاد السلطان بعيدة عنهم،

وأنه لا يربطها بهم سوى خط حديدي واحد، لا يقدر أن يقوم بنقل مئات الألوف

من العساكر مع مدافعها وأثقالها، وبشحن جميع لوازم الأهالي، وأن رجال

العسكرية في الحرب لا يقدمون شغلاً على شغل الحرب، غفلوا عن هذه الأمور،

وتوهَّموا أحوال الحرب كأحوال السلم، فقتلهم الجهل، وعندي ألوف من الشهود من

أهل الجبل أنني من أول الحرب، حتى من قبل خوض الدولة غمراتها، كنت

أطوف على اللبنانيين وأعظهم وأبصرهم العواقب قائلاً لهم: ازرعوا جميع

أراضيكم، ولا تعفوا، ولا على ما يتخلل منها التوت أو الزيتون، فإن الأهم يتقدم

على المهم، وإني أخشى بشدة ترفيهكم لأشجاركم أن تموتوا جوعًا، والشجر ليس

بأغلى من البشر، فلم يستبينوا النصح إلا ثالث سنة، عندما مستهم اللأْواء،

ورأوا أنفسهم هالكين إن لم يفعلوا، ولكن كان الضعف يومئذٍ قد استولى على كل

شيء، ونضبت أكثر موارد الإنفاق فلم يبقَ من قوة لزرع جميع تلك الأراضي التي

لو زرعوها من أول سنة مع ما ينالها من الري الوافي لجاءت بغلال تحجب عين

الشمس، ولكانت قوة لهم للسنين الشديدة التي جاءت فيما بعد، فأنت ترى أن

الجهل بأحوال الحروب وبعواقبها، والاعتقاد بكوْن الدولة تقدر على كل شيء -

كانا من أسباب هذه المصيبة الكبرى، وكيف تقدر الدولة أن تطعمهم كفايتهم، وقد

عجزت في الآخر عن إطعام جيشها، وكان الجوع من أفعل الأسباب في فشل الدولة

بالحرب، ولقد علم القاصي والداني كيف كانت الألوف تفرُّ من الجيش العثماني في

فلسطين من قلة القوت، وكيف كانوا فيه يقتاتون الحشائش، ويموتون ألوفًا من

سوء التغذية، وكيف كان الولاة بأنفسهم يذهبون إلى جبل الدروز بأيديهم الذهب

الرنَّان الأصفر، يعرضونه على أهله؛ ليأخذوا بدله ما يميرون به العسكر، وكثيرًا

ما كانوا يخفقون في سعيهم، وبقيت الأقوات مدة مديدة ترد على جيش فلسطين من

قونيه من قلب الأناضول، وذلك لخُلُوّ سورية ثم حلب ثم أطنه نفسها مما يكفي

الجيش والأهالي معًا، فالذي يقصد (التجويع) لا بد أن يكون هو شبعان لا جائعًا،

وإلا فلا يكون قصد التجويع، بل يكون أُصيب هو بالجوع، وعجز عن الميرة،

ومَن عجز عن كفاية نفسه فهو عن كفاية غيره أعجز، وربما قيل ما دامت

الأناضول فيها أرزاق، فلماذا بخلت بها الدولة على أهل سورية، والجواب لم يكن

في الأناضول أرزاق تفيض عن حاجة أهلها، بل اشتد الغلاء في كثير من ديار

الأناضول، ووقعت المجاعة في القسم الشرقي منه، ومات مئات ألوف من أهله

جوعًا، وكثير من السوريين الذين كانوا منفيين في الأناضول، ولا سيما في جهات

سيواس وطوقات يشهدون بذلك، فإن قلنا: إن الأتراك أماتوا نصارى لبنان تجويعًا

لمحبتهم فرنسا، فقد مات ألوف مؤلفة من مسلمي سورية من الجوع، أو من

الأمراض الناشئة من فقد الغذاء والدواء (وأكثر الموت الذي وقع في لبنان هو

أيضًا بالأمراض الناشئة عن ذلك، ومات بعض بالجوع رأسًا) ، فهل قتلت الدولة

هؤلاء المسلمين أيضًا لحبهم لفرنسا؟ ، وإن رد بأنها تعمدت قتل هؤلاء لكونهم

عربًا، فهل تتعمد قتل أتراك الأناضول ومهاجري أرضروم ووان وبتليس

إلخ

وهم أتراك وأكراد وجميع ارتكانها هو عليهم؟ وهل كان هؤلاء الأتراك والأكراد

إلى تلك الدرجة ذائبين في حب فرنسا، حتى قتلتهم الدولة؟ ! وإذا كانت

الموصل - التي هي من أخصب بلاد الله وأوفرها زرعًا وأدرّها ضرعًا - بلغ من

شدتها أثناء الحرب أن أكل الناس فيها لحوم البشر! ، فهل يعجب الإنسان من أن

تمس المجاعة أهل جبل لبنان، الذي أكثره صخور صمَّاء، وأتربة جرداء؟ !

كنا في الآستانة سنة 1917 و 1918، وكان كثير من الفقراء فيها يموتون

جوعًا، وهي عاصمة الملك، وكان الأغنياء يوزَّع عليهم الخبز الأسود المجهول

الماهية بمقادير قليلة! ، ولولا فتح ألمانيا وحلفائها بلادَ رومانيا الغنية بالحنطة

والذرة، وجلب الأتراك منها ما نفَّس قليلاً من خناق الآستانة - لم يكن أحد يعلم ماذا

كانت تئول إليه حالة الإعاشة في نفس العاصمة.

مع هذا كله يوجد كثيرون ممن يقرؤون كلامي هذا سيتميَّزون من الغيظ

لاجتهادي في إثبات كون المجاعة في سورية حصلت من حالة الحرب الطبيعية

وبتواليها بضع سنين، وبالحصر البحري المحكم، وأن مثلها وأشد منها قد أصاب

بلادًا أخرى من ممالك الدولة العثمانية ومن غير الممالك العثمانية، مثل: مكدونية

والصرب أو بولونية وروسية، ولولا كثرة الخطوط الحديدية لقلنا النمسا وألمانيا..

إلخ، ويقولون: لماذا أحاول أن أنفي كون الأتراك جوَّعوا أهل لبنان عمدًا

وتصميمًا لمجرد حبهم لفرنسا، ولكون أكثرهم نصارى، فهذه الإشاعة يحبون أن

تبقى سارية ماشية رائجة، وهذا الحجاب يودون لو يبقى دائمًا - على حقيقة الحال-

مسدولاً كُرهًا بالدولة السابقة في سورية، وتحببًا وتقربًا إلى الدول المحتلة.

والجواب أن الحق يجب أن يعلو ولا يُعلَى، وإذا كانوا هم يبغضون الأتراك

فليبغضوهم ما شاءوا، ولكن ليحبوا الحق الذي لا يجوز أن يُجحد بغضًا بزيد، ولا

حبًّا بعمرو. والأتراك لهم سيئات كثيرة، وجمال باشا أتى أعمالاً ذكرناها،

وقبَّحناها، ولكن ذنب التجويع هذا هم أبرياء منه، فإن كان لبعض الناس أغراض

سياسية في ديمومة هذه الإشاعة إما تزلُّفًا إلى الحلفاء، وإما تمهيدًا للعُذر من النفور

من كل حكومة إسلامية

بدعواهم كون الحكومة العثمانية قتلت بالجوع ألوفًا من

مسيحيي لبنان

فهذه الأغراض السياسية ليست عندنا، لا بل يجب علينا أن

نبينها، ونشرحها، وننبه إلى خطرها، وما يترتب عليها من مضار التفرقة بين

الأمتين اللتين يجب أن تكونا متحدتين إن أرادتا عمران هذا الوطن، فقد طالعت

مرة مجلة (مراسلات الشرق) - المحررة بالفرنسوية التي ينشرها بباريز هذا

المسمى بالسمنة - فوجدت من جملة تُرَّهاتها أن باخرة مشحونة أرزاقًا جاءت إلى

سورية أثناء الحرب، فأفرغت مشحونها، ووزعه جمال باشا على المسلمين،

وحرم النصارى!

فالذي تبلغ به قحة الافتراء وهوس التفرقة بين المسلمين

والنصارى - أن يزعم كوْن الباخرة التي وردت من أميركا بأرزاق لأهل السواحل،

ووقفها الإنكليز في الإسكندرية، ولم يسمحوا بوصولها إلى بيروت قد وصلت،

وأفرغت، واستفاد منها المسلمون دون المسيحيين، لا عجب أن يكون هو

وأضرابه مروِّجين لحديث (التجويع) المقصود، ولا غرو أن نكون نحن ممن

يتوخى فضيحة تلك الأضاليل، حتى يزول أثرها السيئ من الأذهان.

إنه سيظهر لك - أيها القارئ مما سيأتي بالدليل القاطع والبرهان الساطع -

أنه لو شاء الحلفاء لأوصلوا الإعانات إلى سواحل سورية، كما أوصلوها إلى ممالك

أخرى عضَّها الجوع بنابه أثناء الحرب، ولوَقوا من الموت أولئك الألوف الذين

ماتوا من مسلمين ونصارى، إن الحلفاء - مع كونهم في حال حرب مع ألمانيا -

أمكنهم أن يتفقوا معها على إعاشة بلجيكا، وتعينت لذلك لجنة مؤلَّفة من متحايدين

أسبانيين وهولنديين، كانت تأتي بالحبوب والأرزاق من أميركا، وتوزعها على

المعوزين في بلجيكا، وعلى كل مَن ينقصه شيء، فلم يمنع وجودهم محاربين

للألمان من أن يتفقوا معهم على إغاثة أمة، أشفقوا أن يمسها الجوع، ولقد ثبت أنهم

أرسلوا إلى البولونيين بإمدادات وافرة وإلى الصربيين وإلى غيرهم، فلو كانوا

يحبون أهل لبنان - كما يدَّعون - لاتفقوا مع الدولة العثمانية وقتئذ، وأغاثوهم ولو

بسداد من عوز، ولأنقذوا تلك الخلائق من الموت، أو لسمحوا على الأقل بتسريب

الإعانة التي أرسلتها أميركا لأجل سورية، والإعانة التي كان البابا ينوي إرسالها

إلى المسيحيين وهم كانوا الحائلين من دونها، أفتكون هذه هي الحقيقة، وتكون

التبعة العظمى في عدم دفع هذه المجاعة عليهم، ونأتي نحن لأغراض في الأنفس،

فنبرِّئهم من جناية هم أنفسهم أدرى بأنهم كانوا فاعليها لأسباب حربية وسياسية قامت

في نفوسهم، ونقول لهم: كلا، إنما أجاعنا الأتراك وأنتم أولاء أحييتمونا، ولكثرة

ما نردد أمامهم هذه الكلمة يبلغ بهم الأمر أن يظنوا كونهم صاروا أحق بالبلاد من

أهلها، وأن يصارحونا بقولهم: لولانا لكنتم جميعًا هلكتم جوعًا، كما رددوا ذلك

مرارًا، وآخر مرة أعلنها الجنرال غورو على مائدة غبطة البطريرك الماروني في

الديمان بدون محاباة.

هذا، ولقد آن لنا أن نستشهد على أسباب هذه المجاعة بكلامِ عظيمٍ، هو

بطريرك الطائفة المارونية من تقرير أرسل به إلى جمال باشا سنة 1916، وبعث

هذا بصورته مع صور الكتب التي وردته من سائر البطاركة إلى الفاتيكان؛ ليطلع

حضرة البابا عليها، فالبطريرك الحويك يطري الدولة العثمانية إطراءً عظيمًا في

مراحمها ومكارمها، وشخص جمال باشا في إدارته، ويدافع عن أعماله، ويبرِّرها،

ثم يقول ما تعريبه: (لأن أصل التقرير باللغة الفرنساوية) بالحرف.

شهادة بطرك الموارنة للترك وجمال باشا:

(أما ما يوجهونه من التهم بشأن وسائل الضغط والتضييق التي بزعمهم قد

استعملتها الحكومة بحق السوريين ولا سيما الموارنة اللبنانيين كالإجاعة والنفي -

فإننا نجد من العبث الاجتهاد في إبطالها، وإنما نأسف من كوْن هذه الأراجيف

المصطنعة هي عمل بعض ذوي المآرِب؛ ولذلك نعلن عدم موافقتنا لهم، وننتدب

من تلقاء أنفسنا وبكل حرية للدفاع عن الحقيقة المقدسة والعدالة السامية.

إنه كما حصل في جميع الممالك المحاربة قد وقعت عندنا أيضًا نوازل هامة

ومصائب بطبيعة الحال، وذلك مثل الجراد الذي أكل مواسم البلاد، والحصر

البحري، وحجز دول الائتلاف ما يرد باسم السوريين من الحوالات من أميركا،

وغلاء الأسعار، وقلة مواد الرزق الوطنية، وتعذّر إصدار محصول الحرير، فهذه

المحن جاءت كلها دفعة واحدة، وبدون اختيار الحكومة العثمانية، ووضعت البلاد

في مركز ضَنْك، ولكن لحسن الحظ قد تمهدت جميع هذه العقبات بعناية الدولة

الأبوية ومآتيها الخيرية، ولا سيما بالمساعي المتواصلة والتدابير المؤثرة التي كان

يأتيها حضرة صاحب الدولة أحمد جمال باشا قائدنا الشهير ناظر البحرية، وقائد

قواد الفيلق الرابع، الذي كَرَمُ سجيته منقوشٌ على صفحات القلوب، وصدى أعماله

الخيرية (سيرن) مدة أعصر طويلة من أعلى جبل لبنان الشهير، نعم إنه بحق

يعد أهل سورية - ولا سيما المسيحيون منهم - وجود دولته في بلادهم إحسانًا

عظيمًا، ونعمة من الله.

وأما الأسطورة التي معناها أن الموت جوعًا قد فشا في الشعب اللبناني بسبب

الحصر المقصود الذي تجريه الحكومة، فهذا افتراء فظيع، ولقد بينا أسباب ذلك،

كذلك لم تحشد جنود في الجبل لأجل التضييق على أحد من الأهالي، بل بالعكس قد

كان هذا الجند المرابط لأجل الدفاع عن البلاد - ذا فائدة عظيمة في توطيد الأمن

العام، الذي لم يوجد قط في لبنان قبل الحرب كما وُجد الآن، وكانت سيرة هذا

الجند - التي هي مثال الأدب - فوق مدح كل مادح؛ مما اقتضى عرفان الجميل.

كذلك يعزون إلى الحكومة كوْنها تصرفت بشدة بحق أشخاص اتُّهِموا بالخيانة

وقد ثبتت جريمتهم، وتوضَّحت بوثائق رسمية، والذي لا بد من الاعتراف به هو

أن مثل هذه التدابير الشديدة التي لا مناص منها في هذه الأحوال - هي مما يجريه

جميع الممالك المتمدنة (هنا مَثَل لاتيني مذكور بنصه ومعناه:) إن أسمى عدالة

هي سلامة الوطن.

كذلك نرد صريحًا هذه الإشاعة الغريبة، وهي أننا قد أُشْخِصْنا بذاتنا إلى

الديوان الحربي في حلب، نحن الذين لا نزال موضوع الكرامة العظيمة والبر من

قِبَل حكومتنا العزيزة وممثلها قائدنا العظيم.

وبالنهاية بجميع قوة عواطفنا ومن صميم فؤادنا نعلن أنه ليس لنا إلا أمنية

واحدة ودعاء واحد، وهي أن القادر على كل شيء يحرس السلطنة السنية،

ويقودها من نصر إلى نصر إلى الظفر النهائي، ونضم إلى هذا الدعاء التأكيد

باسمنا وباسم جميع الموارنة بالتخصيص - أنه إن كانت فرنسا يومًا من الأيام أو

عدوة أخرى أية كانت تجسر أن تتعرض لهذه البلاد من أجزاء سلطنتنا، فلتعلم أننا

بأجمعنا مستعدون للقتال في صفوف حكومتنا العزيزة، ولبذل جميع مجاهيدنا،

ولتحمل كل مناداة طوعًا واختيارًا، ولنسفك دماءنا إن مست الحاجة إلى آخر نقطة) .

...

...

إلياس بطرس الحويك البطريرك الماروني

وربما قيل إن هذا التقرير فيه استطراد إلى غير مسألة المجاعة، فما معنى

نشره كله، والجواب أننا لم ننشره كله لطوله، بل نشرنا القسم الأخير منه لما فيه

من جلاء الشبهات، ولكوْن الكلام آخِذًا بعضه برقاب بعض، فلا يحسن اقتضابه،

وإن شاء القراء ننشره من أوله إلى آخره بالحرف؛ لأنه وثيقة تاريخية عظيمة

القيمة، كما أننا بعد شهادة البطريرك الماروني هذه - ننشر الآن تقرير غبطة

بطريرك الروم الأرثوذكس المتقدم إلى جمال باشا أيضًا مع كتاب خاص، وهذا

نص الكتاب معرَّبًا بالحرف:

كتاب بطرك الأرثوذكس لجمال باشا:

يا صاحب الدولة إننا باسمنا وباسم الشعب الأرثوذكسي في سورية وفلسطين

نتشرف بأن نرفع إلى معارف معاليكم ما يأتي:

لقد أثَّرت بنا جدًّا العبارات الجارحة التي دارت بحق حكومتنا السنية في

البرلمان الفرنساوي، ورددتْها الصحافة الفرنسية، والتي صداها يجرح كرامتنا

نحن العثمانيين الصادقين؛ فلذلك جِئنا بالوثائق الملحقة محتجِّين علنًا على هذه

الأكاذيب الوقحة مفنِّدين هذه المزاعم الباطلة.

وهكذا فلأجل شرف الأمة العثمانية وبمقتضى الحرارة الوطنية المقدسة جئنا

نرجو من دولتكم - أنتم حامي سورية وفلسطين وأعظم المحسنين عليهما - أن

تأذنوا بنشر هذه الوثائق لأجل نُصرة الحقيقة.

وفي جميع الأحوال نبتهل إلى الله القادر على كل شيء بأن يحفظ شخص

دولتكم، ويرفعكم من مجد إلى مجد لأجل سعادة وطننا العزيز.

...

...

... دمشق: الرابع عشر من أكتوبر

...

...

...

...

السنة الألف والتسعمائة والسادسة عشرة

...

...

...

... غريغوريوس الرابع

...

...

...

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

أما التقرير التابع للكتاب فهو ما يأتي معربًا بالحرف:

(إلى دولة أحمد جمال باشا ناظر البحرية وقائد الفيلق الرابع)

في هذا اليوم لا يجهل أحد ما قيل في البرلمان الفرنساوي، وما رددته

الصحف الفرنسية بشأن المسيحيين عمومًا في سورية وفلسطين.

زعموا أن لفرنسا نفوذًا سائدًا في هذه البلاد الجميلة التاريخية، التي هي جزء

من السلطنة العثمانية، وادَّعوا أن الحكومة العثمانية تستعمل وسائل القهر والتضييق

على المسيحيين في هذه الديار قاصدة ملاشاتهم بطرق متنوِّعة كالتجويع والنفي

إلخ.

فنحن على ثقة بأن فرنسا تحاول أن تقف عنا موقف دفاع لا فائدة له من أجل

غرض في نفسها، وإننا نحن معاشر العثمانيين العائشين منذ قرون عديدة في هذه

السلطنة أدرى بأمورنا، وأوْلى بالدفاع عن حقوقنا.

نسأل الله أن لا يجعل مصيرنا أبدًا مرهونًا إلى رأفتهم.

فباسمنا نحن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في سورية، وفي كل المشرق

التي هي أقدم كنيسة في الشرق نحتج بكل قوتنا على ما قيل بغير حق عن

حكومتنا العثمانية العادلة.

لا يلزمنا أن نبحث في التاريخ، وأن نسأل الأعصر الماضية لأجل إبطال هذا

الحق التاريخي التي تدعيه فرنسا؛ فنصارى سورية لم يزالوا هم قَرَابين أولئك

الذين يزعمون أنهم حَمَلتهم.

أَيْ فرنسا، هل تقدرين أن تقولي لنا عما إذا كانت حرية الأديان محترمة

تحت ظل شرائعك كما هي محترمة عندنا؟ ، وهل الكنيسة والأكليروس متمتعان

في أرضك بالحماية التي تحوطنا بها نحن الأكليروس والشعب المسيحي حكومتنا

السنية؟ .

نحن إذًا مفتخرون بأن نعلن على الملأ أنه في ظل مكارم حكومتنا العثمانية

السلطانية وعنايتها الأبوية لا مسيحيو سورية وفلسطين فقط، بل الأكليروس

المنسوب إلى فرنسا الحرة نفسها يتمتعون في ظل هذه العناية بما هم محرومون منه

في بلادهم!

وبناءً على ما تقدم كان لنا الحق أن نرى فرنسا تدفعنا إلى تجديد شكرنا لدولتنا

العلية، بدلاً من أن نعزو إليها تهمًا باطلة، ونضيف إلى ذلك القول بأن مسيحيي

سورية وفلسطين هم من عناية حكومتهم الأبوية في غِنًى عن كل عضد آخر.

أيصح أن يكون لنا ضلع إلى حكومة أجنبية عندما نكون عارفين يقينًا أن

دولتنا هي أعدل وأفضل من الحكومة التي نريد أن نختارها؟ ، إذًا يكون ذلك منا

فداء السعادة.

ونسأل - من صميم القلب - الإله القادر على كل شيء أن يحرس إلى الأبد

حكومتنا المحبوبة، وأن يوفقها إلى تحقيق جميع مقاصدها الشريفة.

وأما الحالة الحاضرة - وما أوجدته من الأزمات - فنعترف بأن مثل هذه

الأزمات هي من شأن آونة كهذه، على أنها تلطَّفت كثيرًا بعناية حكومتنا، وليس

من حكومة يحق لها أن تفتخر بالاعتناء بمثل ذلك برعاياها.

وبوصولنا إلى هذه النقطة لا يسعنا أن نضرب صفحًا عن ذكر علة سعادتنا

والمحسن العظيم على النصرانية في هذه البلاد صاحب الدولة أحمد جمال باشا ناظر

البحرية وقائد الفيلق الرابع، الذي صورته السامية تبقى مرسومة أبدًا في قلوب

المسيحيين، ومآثره مكتوبة بأحرف من ذهب في تاريخ بلادنا) .

غريغوريوس الرابع بطريرك إنطاكية وسائر المشرق.

وهناك تقرير ثالث مصحوب بكتاب أيضًا إلى أحمد جمال باشا من (نيافة)

المطران ديمتريوس القاضي قائم المقام البطريركي للروم الكاثوليك، لا حاجة إلى

تعريبه ونشره؛ لأنه طويل وأشبه بأخوَيْه السابقيْن، ويزيد بكونه لا يعرف

للكاثوليك الشرقيين علاقة لا بفرنسا، ولا بدولة أخرى أجنبية، بل بالبابا فقط.

وهذه العلاقة مع الكرسي البابوي هي دينية محضة، وربما قيل إن تقارير البطاركة

هذه لا عبرة بها؛ لأنها استُكتِبت تحت الضغط والإكراه في زمان كان السيف فيه

ينطف دمًا!

والجواب أن أمثال هؤلاء الرؤساء المبجلين يُجَلُّونَ عن أن يكتبوا خلاف

اعتقادهم، ولم نسمع قط يومئذ أن أحدًا أجبرهم على هذه الكتابة، أو أنذرهم بشرّ

إن تأبَّوْا أن يعطوا هذه الشهادات، وكانت كرامتهم دائمًا محفوظة أيام الحرب

وتوقيرهم تامًّا.

ومرة تكلم أمامي أنا جمال باشا مع بطريرك الأرثوذكس في أن يحرر شيئًا في

جريدة الشرق، فلم يجاوبه البطريرك أصلاً، وكنت أراه معه في غاية المتانة،

فرجل كهذا لا يصرح بهذه الشهادة الطويلة العريضة إن خالفت وجدانه، وقصارى

ما في الأمر أن يكون جمال باشا أرسل إليهم بأنه في مجلس البرلمان الفرنساوي

قيل كذا وكذا - فماذا يقولون هم؟ ! ثم إن قيل إن هذه الكتابة من غبطة البطاركة

وقعت يومئذ بالإكراه والإجبار - وهو ما لم يقع - فلماذا لا يقال إن إنكار بطريركي

الأرثوذكس والموارنة للمؤتمر السوري الفلسطيني المنعقد في جنيف - هو واقع

أيضًا تحت مثل هذا الضغط من الجنرال غورو، ولماذا تتبجح بذلك فرنسا وأذنابها،

ويعدونه حجة علينا؟ !

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 373

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة الأوربية

(3)

الفنادق في سويسرة:

كان الأمير ميشيل بك لطف الله أوصى توفيق أفندي اليازجي بأن يحجز لنا

حجرات في فندق من أرقى فنادق (جنيف) وأحسنها؛ إذ كان بلغنا أن هذه الفنادق

ستكتظ على كثرتها بالمسافرين عند اجتماع عصبة الأمم، وأن يستأجرها إذا توقف

حجزها على استئجارها، وصح ما قيل من تسابق الناس إلى مثل ذلك. فلما وصلنا

إلى جنيف ذهب بنا إلى فندق إنكلترة، وهو من الفنادق الوسطى، وموقعه أمام

البحيرة جميل، فلم يعجب الأمير ميشيل بك، وعاتب توفيقًا على إنزالنا فيه،

فاعتذر بأن الخديوِ كان ينزل فيه، فقلنا لعله كان يراه أعون له على التنكر، وقد

نزل فيه في وقتنا الأمير عزيز حسن. ثم عهد الأمير ميشيل إلى جورج أفندي

يوسف سالم بأن يبحث لنا عن 4 حجرات في فندق من الدرجة الأولى، يكثر فيه

كبار أعضاء جمعية الأمم؛ ليسهل التعرف بهم، ويكون وجودنا معهم مذكِّرًا لهم

دائمًا بوجود وفد سوري يطالب باستقلال بلاده، وبعد جهد في البحث والتجوال وجد

لنا مطلوبنا في فندق (دي برك) ، وكان الأمير ميشيل قد أوصاه بأن يساوم

صاحب الفندق في أجرة الحجرات، وثمن الطعام وأجرة غسل الثياب، فلم يُعنَ

بالتدقيق في ذلك بل رضي بأن نعاملهم بالتعريفة التي يطلبونها؛ لظنه أن ذلك

محدود كما يقولون، ثم تبين أن الأمير ميشيل هو المصيب، وأنه أعلم بشئون

البلاد من سالم الذي هو أكثر منه أسفارًا وتجوالاً في الممالك كما قلنا من قبل، وأنه

كان يمكن أن يقتصد بالمساومة مبلغًا من الجنيهات، لا ينبغي التسامح في مثله!

وقبل أن أبيِّن الفائدة التي أقصد إليها من ذكر هذه المسألة أذكر دقيقة أخرى

للأمير ميشيل هي دونها في باب الاقتصاد، ولكنها تدل على حذقٍ، وذكاءٍ،

واختبارٍ، وهي أن أصحاب فندق فيكتوريا في مدينة لوزان لما قدموا لنا جريدة

الطعام - وهي مطبوعة - ألفينا فيها الأثمان المطبوعة مرمجة، وبجانبها أثمان

مكتوبة بالحبر هي أكثر منها، فلم ينتبه أحد منا إلى سبب ذلك غيره فقد قال: إن

هذه الأثمان المطبوعة هي أثمان الطعام لأهل البلد، وإنهم إنما زادوا فيها لأجلنا؛

فإن لأهل سويسرة حِذقًا في اجتلاب الأموال من السياح، لا يضارعهم فيه غيرهم،

وسبب ذلك أن ما يربحونه من الأجانب معظمه من الذين يقصدون بلادهم من جميع

أقطار العالم المدني للتمتع بمناظر جبالها، ومروجها الخضراء، وبحيراتها الزرقاء،

واستنشاق نسيمها العليل، وتفيُّؤ ظل حدائقها الظليل، فما ينفقه فيها السائحون

والسائحات هو عند أهلها من قبيل دخل الصادرات، وأما الصادرات التي تخرج

منها إلى غيرها - فهي قليلة، أهمها الساعات من المصنوعات المعدِنية، فهي

أشهر بلاد أوربة إتقانًا لها، والزبدة والجبن والفاكهة من نتائج الزراعة.

هذا، وإن جميع الأسعار في بلاد سويسرة محدودة لجميع أنواع البضائع،

وأهلها يغلب عليهم الصدق والأمانة، وقد قيل لنا: إن أكثر بلاد أوربة، ولا سيما

العواصم والثغور العظيمة كباريس ومارسيلية يبيعون الغرباء بأسعار أعلى من

الأسعار التي يبيعون بها الوطنيين، وأما سويسرة فقلما تجد هذه المعاملة فيها

للغرباء في غير الفنادق، ومن أسباب ذلك أن أكثر أصحابها من اليهود.

أما بعد: فإن غرضنا من الإلمام بهذا البحث تنبيه القراء إلى ما يجب على

المسافر من بلاده إلى أوربة وغيرها من الدقة والاقتصاد في النفقة، وحفظ ماله أن

يضيع فيما لا يفيد صاحبه حمدًا في الدنيا، ولا ثوابًا في الآخرة، بل هو من

إسراف الغباوة الذي يحتقر فاعله كل عاقلٍ وقف على حاله.

إن مَن لا يعرف ميشيل لطف الله إذا سمع أنه يساوم في أثمان طعام الفنادق،

وينبه مَن يوليه أمر نفقته إلى أمثال هذه الدقائق - يظن أنه ممن يصح أن تُكتب

أخبارهم في نوادر البخلاء، أو أن الدافع له إلى مثل هذا التوفير الفقر والإملاق،

أما وكُلُّ مَن يعرف الرجل يعلم أنه من أكبر أهل النعمة والثراء، ومن أشهر

الأجواد والأسخياء، وأنه مُقري الضيوف، ووهَّاب الألوف، فكيف يفهمون بعد

هذا منه، ما روينا من هذه الدقة في التوفير عنه؟ !

لا شك أن سفهاء الوارثين المعروفين في هذه البلاد - وهم لا يعقلون معنى

لكلمتي التوفير والاقتصاد، الذي عليه مدار ثروة الأمم والأفراد - يعدون ذلك من

الهنَّات المستهجَنَات، ويكثرون التنادُر بها، واختراع النكات لها، وأما أهل العلم

والبصيرة فهم الذين يقدرونه قدره، ويعلمون أنه من العقل والحكمة، والشكر الذي

تدوم به النعمة، وإنني - قبل التثريب على أولئك السفهاء المسرفين - أذكر لهم

مثلاً من قصد الأجواد المتقدمين والمتأخرين.

روي في مناقب الإمام الحسن السبط عليه السلام أنه جاء المدينة المنورة

تاجر من العراق بأحمال من أجود الثياب، فاشتراها منه الحسن بعد أن بالغ في

المساومة معه، ولم يترك له من الربح إلا القليل، ثم أخذ منها ثوبًا أو ثوبين،

ووزع الباقي على الحاضرين، فقال له التاجر: يا ابن رسول الله، لقد بالغت في

مساومتي حتى لم يكن لي من الربح على تعبي إلا القليل، وقد كنت أحق من هؤلاء

الناس بمثل ما أعطيتهم - أو ما هذا معناه - فقال له الحسن: (المغبون لا محمود

ولا مأجور) ، أي لا هو مهدي هدية فيُحمد، ولا متصدق فيُؤجر، وهذا حديث

مرفوع رواه الخطيب عن أبيه والطبراني عنه وأبو يعلى عن أخيه الحسين -

عليهم السلام.

وما رأيت أحدًا من الأغنياء العقلاء أشبه بالأمير ميشيل في إنفاقه وتوفيره،

من الشيخ قاسم آل إبراهيم التاجر العربي الشهير في بومبي (الهند) ؛ فقد عهدناه

ينفق من سَعَته في الأعمال العامة كالمدارس، والإعانات للدولة العثمانية، فيهب

المئات والألوف من الجنيهات، ولا يطمع أهل الكدية والاستجداء منه بدينارٍ، ولا

درهم، وإن وقف على بابه طول النهار، وأطراه بالبليغ من الأشعار، على أن

ميشيل لطف الله كثيرًا ما يعطي الشعراء والأدباء، ولكن دون ما يهب للمدارس

والجمعيات الخيرية والأعمال السياسية.

فأمثال هؤلاء الأغنياء هم الذين يعرفون كيف يحفظون نعمة الله عليهم بالثروة،

ويكونون أهلاً للمزيد، والزكاء فيها على كثرة النفقة.

هذا، وإن ما يمكن توفيره من نفقات السفر في أوربة من غير إزراء بصاحبه،

ولا نقص في تمتُّعه - ليس بالشيء التافه الذي لا يُعتَد به، وناهيك باختيار

المواقع، ومساومة أصحاب المنازل والفنادق، وقد علمنا أن أهم سبب غلاء المواد

الغذائية في سويسرة وغيرها وارتفاع أجور الفنادق - هو جعْل ورقها النقدي (بنك

نوت) بسعر الذهب لا ينقص شيئًا، وقد كان هذا سببًا لقلة قصد السائحين إليها بعد

الحرب، كما كان يعهد قبلها، حتى سائحي الإنكليز والأميركيين الذين هم أكثر

الشعوب سياحةً وأوسعهم فيها نفقةً، فقد تجولنا بعد فضّ مؤتمرنا في أشهر بلادها،

ورأينا أشهر فنادقها، فلم نجد إلا القليل من السائحين فيها، ولما ذهبنا إلى ألمانية

وجدنا الفنادق غاصَّة بالناس من أهل سويسرة وغيرهم، حتى إنك لَتطوف على

الكثير منها، فلا تجد لك حجرة فيها، كما سيأتي في محله، وإنما كثر الغرباء في

مدينة جنيف وحدها لما ذكرنا من اجتماع جمعية الأمم فيها، وكثرة قصد المشتغلين

بالسياسة إليها.

الفرنك السويسري كالفرنك الفرنسي، والليرة الإيطالية وغيرهما من نقد دول

الاتحاد اللاتيني، كلها متساوية في وزنها الفضي وسعرها الذهبي، ولكن التعامل

العام قد انحصر منذ اشتعلت نار الحرب في الورق، وهو مختلف السعر الآن،

حتى في البلاد التي يُطبع فيها بحسب الثقة المالية قوةً وضعفًا، والمعيار العام في

أوربة لهذا الورق (البون) الإنكليزي؛ لأن مالية إنكلترة أثبتُ من غيرها من

الدول الأوربية التي اشتركت في الحرب، ولا يعلوها في ذلك إلا الولايات المتحدة

وسويسرة؛ فإنها كالولايات المتحدة في سعر القطع، ففرنكها لا يقل عن أربعة

قروش مصرية صحيحة.

وإن شئت مثالاً من أمثلة غلاء الفنادق الغريب في سويسرة، فاعلم أن ثمن

البيضة في السوق قرشان مصريان، كما أخبرنا توفيق أفندي اليازجي، وهي في

الفندق أغلى، وأن أجرة غسل بعض الثياب في شهر واحد قد يزيد على ثمنها

ضعفًا أو ضعفين أو أكثر؛ فإن أجرة غسل كل من المنديل والجورب وكيّه لا يقل

عن فرنكين سويسريين كأجرة القميص واللباس، وقد يكون في بعضها أكثر،

أفليس شراء جديد بدلاً من المتَّسخ هنالك خيرًا من غسله، كلما استعمل كما هي

العادة؟ ، وقد هال رياض بك صلح أنه دفع جنيهين أجرة لغسل ثيابه في الفندق

الذي نقيم فيه (أوتيل دي برج) ، ومتوسط نفقة الطعام في سويسرة جنيه إنكليزي

أو مصري في اليوم وفي فندقنا وما ماثله أكثر، وفي بعض مطاعم السوق أقل.

وهذا الفندق من أغلى الفنادق أجرةً وطعامًا إن لم يكن أغلاها، والطعام فيه

أجود وأكثر منه في فندق فيكتوريا الذي نزلنا فيه أولاً (وكتب أولاً فندق إنكلترة

سهوًا وطُبع) ، فالألوان هنالك قليلة، وهنا كثيرة جدًّا، ولكن لكل يوم بل كل وجبة-

ألوانًا معدودة لها ثمن معين، ومن طلب غيرها مما يوجد دائمًا رهن الطلب

كالفراخ والسمك والطير وسائر اللحوم بأنواعها فعليه أن يدفع ثمنه، ومن عاف

شيئًا من طعام الوجبة فله أن يطلب بدلاً منه بغير ثمن جديد، وكنت دائمًا أطلب

بدلاً من الألوان التي يدخل فيها لحم الخِنزير، والجبنُ من متممات الطعام يجوز أن

يستبدل به بعض الفاكهة، وهي كثيرة وجيدة الا التين؛ فإنه قليل ورديء، وقيل لنا

إنه يأتي من أسبانية وأكثر العنب غير جيد أيضًا.

***

استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين:

هؤلاء الأغنياء المسرفون هم الذين يبذرون الأموال في سبيل الشهوات

المحرمة والفخفخة، الجديرون بأن يُسلبوا ما وُهبوا من النعمة، يتوهم الجاهل

المغرور منهم أن الشرف والفخار، في استمالة الفواجر والفجار، وتملق سماسرة

الفسق من قواد وخُمار، وشخوص الأبصار على موائد القمار، وإطراء المخادعين

من الطامعين والشطار، وتغرير السماسرة الأشرار، فتراه بينهم يعطي باليمين

واليسار، ويشتري سلعة الدرهم بالدينار.

إلا أن هؤلاء الأغنياء الأغبياء، والمبذرين السفهاء، هم أعداء الله تعالى

وأعداء دينه، وأعداء أوليائه من فضلاء الناس وخيارهم، وأولياء أعدائه من

أشرارهم، وأعداء أمتهم ووطنهم، وأعداء ذوي قُرباهم، ولا سيما أزواجهم

وأولادهم، فهم إذًا أعدى أعداء أنفسهم.

أما كونهم أعداء الله وأعداء دينه، فهو أنهم يكفرون نِعَمه عليهم بالمال

وبالجوارح، والمشاعر، والحواس باستعمالها فيما يخالف شرعه الحكيم، ويضل

عن صراطه المستقيم، وقد وصفهم في كتابه بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ

الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27) ، ويدخلون في عموم

قوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر: 43) ، ولا نطيل في

تذكيرهم بآيات ربهم؛ فهم عن ذكره معرضون.

وأما كونهم أعداء أولياء الله أهل الفضائل، فهو أن الإسراف قد هبط بهم إلى

أسفل دركات الرذائل، وإنما يحب الإنسان شبيهه، ويكره بمقتضى الطبع

مخالفه وضده؛ ولهذا وصفهم الله بأنهم إخوان الشياطين، وهو يصدق

بشياطين الإنس والجن؛ ولذلك جمع، فأما شياطين الجن فهي ما يجدون أثره

في خواطرهم، ووساوس أنفسهم، التي تزين لهم الفسق وتلبِّس عليهم

الحقائق، بتسمية الرذائل بأسماء الفضائل، كتسمية الإسراف جودًا وكرمًا،

وتملق المنافقين (النصابين) جاهًا ومجدًا، وتهافت العواهر وخدمة الحانات

والمواخير عِزًّا وشرفًا، وأما شياطين الإنس فهم قرناء السوء المنافقون

المتملقون الذي يتهافتون على الأغنياء المسرفين، ولا سيما الشبان الوارثين،

فيزينون لهم في الظاهر، ما يوسوس به الشيطان في الباطن، فهم شر منه

وأقدر على الإغواء؛ لأن التناسب بين شيطان الجن والشرير من الناس نفساني

فقط، وأما التناسب بينه وبين شيطان الإنس فهو نفساني وجسداني، ذاك

يشغل قلبه وخاطره، وهذا يملك باطنه وظاهره، فيشغل سمعه وبصره،

وذوقه ولمسه، ويكون قدوة سيئة له في جميع الرذائل، وشاغلاً، بل منفِّرًا له

عن معاشرة الأفاضل.

وأما كوْنهم أعداء وطنهم وأمتهم فله مظاهر كثيرة أدبية: كسوء

القدوة في إفساد الأخلاق، وشرحه يطول، واقتصادية كتحويل ثروة البلاد إلى

الأجانب، أنبأني نخلة باشا المطران في القسطنطينية سنة 1329، قال:

أنبأني رجل من كبار الماليين في باريس أن متوسط ما تربحه باريس وحدها

من المصريين في كل صيفٍ ثلاثون مليون فرنك (وهو مليون ونصف مليون

دينار (بنتو) إفرنسي من الذهب) ، ومثل هذا الإحصاء خاص بما يمكن العلم به،

ويتناوله الإحصاء عادة كأجور الفنادق، والملاهي، والملاعب، والحانات،

وربما كان منه مواخير البغاء الرسمية دون ما يُعطَى للأخدان، ويقال: إنه قلما يوجد

رجل من الذين اعتادوا الاصطياف في أوربة من المصريين؛ لأجل التمتع

بالشهوات، ليس له خِدن يكثر الاختلاف إليها في بيتها، أو تختلف إليه في

البيت الذي يقيم فيه من الفنادق العامة أو الدور الخاصة التي يُعرف واحدها

(بالبنسيون) .

وللقمار مَقامِر عامة يمكن إحصاء ربحها وخسائر الشعوب فيها، ولكن

المبتلين به لا يحصرون مقامرتهم فيها، بل يقامرون أصدقاءهم وأخدانهم من

النساء والرجال في البيوت والملاهي والمنتزهات، وقد بلغنا أن عمر باشا

سلطان قد خسر بالمقامرة في صيف سنة واحدة (لعلها السنة التي مات فيها،

أو السنة التي قبلها) ثلاثين ألف جنيه مصري.

إن أكثر الأغنياء الأغبياء - ولا سيما الشبان الوارثين منهم - يخوضون

بحار هذه الموبقات بغير عقلٍ، ولا حساب، ولا تقدير؛ فهم ليسوا كالإفرنج

الذين لهم من العلم والتربية ما يقف بهم عند حدود من الاقتصاد فيها كغيرها من النفقات المشروعة، بلغني أن المقامرين منهم يضعون في ميزانية نفقاتهم

السنوية مبلغًا معينًا من الدخل، يوزعونه على الشهر، لا يتجاوزون

قسط الشهر ربحوا أم خسروا. والمقامرون - ولا سيما المسلمين الجغرافيين

أو الرسميين من أهل بلادنا - قلما يقف أحد منهم عند حد، أو يتقيد بنظام،

وإن خسر دخل السنة كلها في أسابيع أو أيام، بل يقترض بعد ذلك بالربا

الفاحش، ويرهن أملاكه لعدم قدرته على كبح جماح نفسه، والوقوف بها عند حد

من شهواته، ولو أن الجرائد تنشر أخبار هؤلاء السفهاء، وما يخسرون في القمار

وسائر طرق الفسق والفجور - لكان لها تأثير عظيم في ردعهم، واعتبار الناس

بسوء حالهم.

إن آخر ما سمعت من أخبار هؤلاء المسرفين خبر شاب من الوارثين كان قد

أنفق مبلغًا عظيمًا في سبيل العلم، فظننت أنه سيكون كالشيخ قاسم إبراهيم

في جده وعقله في بذله، وبُعده عن اللهو الباطل وأهله، أو كالأمير لطف الله في

جمْعه بين منتهى أبهة التمتع بزينة الدنيا وطيباتها، وبين أعمال البر

والمعروف مع النظام والتدبير فيهما، ولكن خاب الأمل فيه؛ إذ علمت أنه غلا في

الإسراف والتبذير غلوًّا كبيرًا، لعله لا يدَع له فتيلاً ولا نقيرًا ولا قِطْمِيرًا، فهو

ينفق أضعاف ما ترك له والده الحريص من الدخل الكبير، وطفق يقترض بالربا

الفاحش، ويرهن ويبيع، فحزنت وأنا لا أعرفه عليه، وتمنيت لو تخلُص مثل هذه

النصيحة إليه، وأن لا يكون إن نصح ممن قال الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} (الفرقان: 44)، ومَن قال فيهم: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً

لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 23) .

وكذلك ما ينفقه هؤلاء في وطنهم يتسرب أكثره إلى جيوب الأجانب أيضًا؛

فإنه إنما يذهب في الفجور، وأكثر الفواجر منهم، والخمور وجميعها من صادرات

بلادهم، والقمار وهم أصحاب القدح المعلى فيه، أَوْ رِبا الديون وهم أصحاب

المصارف ورؤوس الأموال له.

أي عداوة للوطن وجناية عليه أكبر من نزح ثروته منه وإعطائها للأجانب؟ ،

ولو أن هؤلاء السفهاء يجعلون ما ينفقون في غير الضارّ لهم من شهواتهم، وفيما

ينفع الوطن من المشروعات العلمية والعملية لأمكن لمصر أن تضارع أوربة،

وتباريها في زمن قصير، سواء كان هذا البذل تبرُّعًا في سبيل المصالح العامة، أو

استغلالاً للمال فيما يرقي الزراعة، والصناعة، والتجارة، ويحفظ ثروة البلاد من

الضياع، ولو أنهم يشترون به سندات دَيْن الحكومة وسهام الشركات والمصارف

العقارية وغيرها - لأمكنهم إعتاق حكومتهم وأمتهم من استرقاق الإفرنج الاقتصادي

لها، وجعْلها حرة مستقلة في إدارة ثروتها، والاستقلال الاقتصادي أنجح ذرائع

الاستقلال السياسي إذا كان مفقودًا، وأقوى دعائمه إذا كان موجودًا.

وأما عداوة هؤلاء الأغنياء الأغبياء لأهلهم وأولادهم فهي أنهم أسوأ الناس

قدوةً لهم في الفساد الذي أشرنا إليه، وأقلهم عنايةً بتربيتهم الصالحة، فكثيرًا ما

يفنون ثروتهم كلها في حياتهم، فلا يتركون لأولادهم ما يعيشون به كما اعتادوا،

فيكونون أشقى الناس، ونتيجة ما ذُكر أنهم أعدى أعداء أنفسهم، والجناة عليها في

دنياها وآخرتها.

إننا بالتجوال في أوربة ورؤية مناظرها الجميلة والتمتع بهوائها المعتدل في

فصل الصيف، ووجدان جميع أسباب الراحة - عرفنا تجربة ذوق، واختبار عذر

أغنيائنا في إقبالهم على الاصطياف فيها هربًا من حر قطرهم وغباره، ولكننا لا

نرى لأحد منهم عذرًا ما في إنفاق شيء من ثروة الوطن في غير أثمان ما يتمتعون

به من طيبات الرزق، وأجور السكن، والتنقل في البر والبحر، إلا أن يكون فيما

فيه منفعة معنوية لهم أو لأمتهم ووطنهم في علم، أو ثروة، أو سياسة؛ فإن في

أوربة من ينابيع العلم، ومصادر المعارف، ومجال الأعمال السياسية ما ليس في

مصر ولا في غيرها من البلاد، ولكن لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من اللذات الجسدية

لا يوجد مثله في مصر، وسيأتي بيان ما تمتاز به في مكان آخر.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 383

الكاتب: محمد رشيد رضا

الرحلة السورية الثانية

(10)

المؤتمر السوري العام

انتخب أعضاء هذا المؤتمر في أوائل سنة 1919 من جميع الولايات

والمتصرِّفيات السورية في المناطق الثلاث التي قسمها الحلفاء إليها، وكان انتخابهم

فيما عدا متصرفية جبل لبنان التي كانت مستقلة في إدارتها الداخلية على طريقة

انتخاب مجلس المبعوثين العثماني، بل انتخبهم المنتخبون الأولون، الذي انتخبوا

المبعوثين في الدورة الأخيرة، وأما جبل لبنان - الذي لم يكن يُنتخب منه أعضاء

لمجلس المبعوثين - فقد انتُخب من بعض بلاده - لا كلها - أعضاء للمؤتمر،

انتخبهم الوجهاء وشيوخ الصلح الذين ينتخبون أعضاء مجلس إدارة لبنان.

وكان الغرض من تأليف هذا المؤتمر - المنتخب بطريقة نيابية عن الشعب

السوري كله - أن يبين رأي الشعب السوري في مصير البلاد، وشكل حكومتها،

وما يفرضه عليها دول الأحلاف من المساعدة، وقد اجتمع المؤتمر لأول مرة في

دمشق عند مجيء اللجنة الأمريكانية من أوربة في تلك السنة لاستفتاء الشعب

السوري في ذلك، وخبر هذه اللجنة في تأليفها وامتناع دولتي فرنسا، وإنكلترة من

الاشتراك فيها، بعد أن كان قد تقرر جعْلها مشتركة، وطوافها مناطق البلاد،

واطِّلاعها على رأي جميع الطبقات والجماعات فيها بالمشافهة، وقرار المؤتمر العام

الذي قدمه لها في دمشق، وإجماع الرأي العام في هذه المناطق كلها على طلب

الاستقلال التام للبلاد كلها، واتحادها ورفض كل مساعدة تنافي هذا الاستقلال - كل

ذلك معروف مشهور، قد نُشر في جميع الجرائد السورية في ذلك الوقت، ونقلته

عنها الجرائد العربية بمصر وأمريكة وغيرها، ونوَّه به كثير من الجرائد

الإفرنجية في البلاد المختلفة، وسبق له ذِكْر في المنار، وليس هو ما يعنينا هنا،

وإنما الذي نريد أن نقوله هو أن الجماعات والأفراد أولي الشأن - الذين قابلوا

اللجنة الأمريكية في جميع المناطق - قد أيدوا المؤتمر السوري العام؛ فكان ذلك من

الشهادات المتواترة على ثقة الشعب كله بالمؤتمر، وكوْنه ينطق باسمه، ويعبر عن

رأيه.

لأجل هذا قرر حزب الاستقلال العربي عند البحث في طريقة إعلان استقلال

البلاد أن يكون المؤتمر السوري العام هو الذي يقوم به في العاصمة (دمشق)

مستظهرًا بعلمائها، ورؤسائها الروحيين وكبار رجالها من جميع الطبقات والأحزاب،

وأنه لا حاجة إلى انتخاب جديد - كما اقترح بعضهم - وكذلك كان، وقد نشرنا

خبره مفصلاً في وقته.

ولما اجتمع المؤتمر، وأعلن الاستقلال أيده الشعب في جميع المناطق

السورية، وصارت له - بمظاهرة الشعب له - صفة الجمعية الوطنية التأسيسية،

وقد كان من رأي الأمير فيصل أن ينفض بعد إعلان الاستقلال، وكاشف الذين

كانوا يتولون مراجعته ومذاكرته في الأمر من كبار أعضاء الحزب بذلك، فلم

يوافقه أحدٌ، وكاد يصر لولا أن قيل له: إن هذا الأمر لا يمكن البت فيه إلا بعد

اجتماع المؤتمر، والاتفاق مع الأكثر من أعضائه، وهم من حزبنا على ما يحسن

في ذلك، ثم كثر البحث في ذلك بعد اجتماعه، وقبل الاتفاق على وضع صيغة

إعلان الاستقلال، حتى تم الاتفاق على الصيغة التي وُضعت في قرار المؤتمر

التاريخي الذي أُعلن به الاستقلال؛ وقد نشرناه في المجلد الحادي والعشرين من

المنار (ص 441)، وهذا نصها - بعد ذكر اختيار فيصل ملكًا -:

(وأعلنَّا انتهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث،

على أن يقوم مقامها حكومة ملكية نيابية مسئولة تجاه هذا المجلس - أي المؤتمر -

في كل ما يتعلق بأساس استقلال البلاد التام، إلى أن تتمكن الحكومة من جمع

مجلسها النيابي، على أن تُدار هذه البلاد على طريقة اللامركزية) .

فإن جعْل الحكومة مسئولة تجاه المجلس كان يراد وضعه مطلقًا، فلم يقبل

الأمير فيصل بذلك، وبعد المراجعة والإصغاء رضي بأن يكون ذلك مقيدًا بما يتعلق

بأساس استقلال البلاد التام، ورضي أكثر الأعضاء بذلك.

وبعد أن تألفت الحكومة وانتظمت جلسات المؤتمر - اقترح بعض أعضائه

وضع قرار بطلب تقديم الوزارة بيان خطتها للمؤتمر طلبًا لاعتماده إياها - من

حيث هي حكومة نيابية بمقتضى قراره، فقبل الاقتراح، وتقرر بأغلبية كادت

تكون اتفاقًا.

ولما بُلّغ رئيس الوزراء قرار المؤتمر عرضه على الملك، فأنكره، وأبى أن

تجيب الوزارة الطلب، حتى أقنعته بذلك بعد مناظرة حادة، حضرها إحسان بك

الجابري رئيس أمنائه - وكان فيها ميَّالاً لرأيي - وسمع بعضها الأمير زيد.

ذلك أنني زرته صباحًا كالعادة، فذكر لي قرار المؤتمر، وقال: إنه ليس له

هذا الحق؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، وأنني أمرت الوزارة بعدم إجابة طلبه، فقلت

له: يا مولاي، إن هذا الاقتراح عُرض فجأة في المؤتمر، ولم يبحث حزبنا فيه،

ولا علم به قبل عرضه، وإنني لم أكن من المقرين له، ولا المعارضين فيه؛

لأنني لا أزال مترددًا في الترجيح بين كفاءة الوزارة وكفاءة المؤتمر، وناظر إليهما

بعين النقد والتجربة، ولكن يجب أن ينفَّذ قرار المؤتمر بعد أن قرره وبلّغه، ولا

يجوز ردّه ألبتة.

قال: إنه لا حق في هذا الطلب؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، قلت: بل له هذا

الحق؛ لأنه أعظم سلطة من المجلس النيابي، إنه جمعية وطنية تأسيسية، قال:

إنني أنا الذي أوجدته؛ فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة! قلت:

بل هو الذي أوجدك؛ فقد كنتَ قائدًا من قواد الحلفاء تحت قيادة الجنرال اللنبي؛

فجعلك ملكًا لسورية، نعم، إن لك فضلاً بالسماح بجمعه؛ إذ كنت تحكم هذه البلاد

حكومة عسكرية باسم الحلفاء، أما وقد اجتمع باسم الأمة - وهي صاحبة السلطان

الأعلى بمقتضى أصول الشرع الإسلامي الذي تَدين الله به، وبمقتضى جميع

أصول القوانين العصرية الراقية، وقد اشترط في تأسيسه لهذه الحكومة التي

اختارك ملكًا لها أن تكون مسئولة تجاهه في كل ما يتعلق بأساس الاستقلال،

وبرنامج الوزارة السياسي يتعلق بأساس الاستقلال مباشرة، وبرنامجها الإداري

يتعلق بحفظ الاستقلال بالتبع أيضًا، فأرجو أن لا تحدث لنا أزمة في أول طريقنا،

وما تخشاه - من عرقلة الحكومة بتدخل المؤتمر وسيطرته عليها - فأمره سهل؛

فإن أكثرية المجلس من حزبنا وأعضاء الوزارة من حزبنا أيضًا، ونحن نضمن

التوفيق بينهما، وعدم فتح هذا الباب الآن، وبعد التأمل في هذا الكلام الذي يعتقد

إخلاص قائله وصدقه وعلمه بأن المؤتمر لا يسكت عن تنفيذ قراره رضي، ثم

قدمت الوزارة بيانها على الوجه الذي يتفق مع رأي الحزب، ونالت الاعتماد

المطلوب، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما ذكرناه من قبل.

والغرض من ذكر هذه الحادثة بيان صفة المؤتمر لا التعريض بميل الملك

فيصل إلى الاستبداد، بل أقول: إنني كنت أخاف ما يخاف هو من تحكُّم المؤتمر في

الحكومة وعرقلته لأعمالها، وهي في طور التكوُّن؛ فإن استبداد الجماعة قد يكون

أشد ضررًا من استبداد الأفراد، والشواهد على هذا معروفة في التاريخ القديم

والحديث، وحسبنا من الحديث استبداد الاتحاديين بالحكومة العثمانية، الذي أدى

إلى هدم سلطنتها (إمبراطوريتها) العظيمة، وحب الاستبداد فطري في نفوس

البشر، خيارهم وشرارهم، وربما كان بعض الأخيار أمضى فيه، وأثبت قدمًا من

غيرهم؛ لعذرهم أنفسهم فيه بما يجدون فيها من حسن النية، والشرير قد يلوم نفسه

عليه إذا كان فيه بقية من الخير، ولا يصرف الناس عن الاستبداد إلا التقيد بشرع

أو قانون وراءه قوة تحافظ على تنفيذه، وتراقب المنفذين له، وهذا معروف لا

يحتاج إلى شرح، ولما كانت مراقبة الملوك وإيقافهم عند حدود الشرائع والقوانين

مع الاعتراف لهم بالسلطة العليا من أشق الأمور، بل تكاد تكون متعذرة - سلبت

الأمم الراقية السلطتين منهم، وجعلتهما للمجالس النيابية وجماعة الوزراء

قلت

مرة لمستر متشل إنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر: إنكم قد ظلمتم الخديوِ،

وقيدتم سلطته، حتى لم تتركوا له من النفوذ الفعلي في الحكومة شيئًا، فقال: لكننا

تركنا له جميع مظاهر الملك وعظمته، وهل تريد أن نعطيه ما ليس لمَلِكنا مثله؛

فيستبد في الأعمال؟ ! فوالله لو أن ملكنا استطاع أن يستبد في أمر من الأمور في

يومه لما أخَّره إلى الغد!

ومعقول أن يكون الملك فيصل أجدر من غيره بحب الاستبداد، وقد صرح

بأنه ندم أن لم يكن استبد في سورية، ولكن من غرائزه وأخلاقه ما يصده عنه إذا

كان طريقه غير معبَّد له، وآية لي على ذلك أنه سمع مني ما ذكرت من معارضته،

فرجع إلى قولي، ولم يَنْقُص ذلك شيئًا من مودته، واحترامه لي، ولو كان

الاستبداد راسخًا فيه - كرسوخه في كثير ممن نعرف من الأمراء، وكان قوي

الشكيمة فيه - لما استطعت معاشرته، والعمل معه بعد ذلك، ولكان حقد عليَّ بهذه

المعارضة، وكاد لي كيدًا إذا لم يستطع إيذائي جهرًا، على أنه رأى مني - بعد

ذلك - معارضة أشد وأخشن، ولم يكن ذلك بصارف له عن مكاشفتي - عند توديعه

ليلة خروجه من دمشق - بأعمق أسراره، التي أكد لي أنه لم يذكرها لأخيه كما

ذكرت ذلك من قبل، ولعله لولا يقينه الصحيح بإخلاصي للأمة وله، وأنني ليس

لي أدنى هوىً نفسيٍّ في ذلك - لما بقيت لي عنده هذه المودة، وقلما تجد هذا عند

غيره من الملوك والأمراء، بل عند الأفراد والنظراء، بل عند مَن دونهم! ،

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الكلام عن المؤتمر.

المؤتمر والحكومة في سورية:

قلت إنني كنت أخاف ما يخاف الملك فيصل من تحكم المؤتمر في الحكومة

وعرقلته لأعمالها، وإنني كنت أراقب كلاًّ منهما مراقبة المختبر الشاكّ في كفاءة

الفريقين، وفي الترجيح بينهما، وقد تكون وجهة النظر عندي في ذلك مخالِفة

لوجهة النظر عند الملك فيصل، وقد بينت بالإجمال ما ظهر لي من كفاءة الحكومة

والانتقاد عليها بالاعتدال البريء من التحامل والمحاباة.

وأما المؤتمر فقد ظهر أنه ليس أدنى من المستوى الذي فيه الشعب، بل هو

مثال مطابق له؛ فقد كان الرأي العام فيه في مسألة الاستقلال التام الناجز، ورفض

كل سيطرة أجنبية - هو رأي الشعب بعينه، بل لم يكن فيه أدنى مظهر للفئة القليلة

في الأمة التي تميل إلى قبول الوصاية الأجنبية المؤقتة، وهل لدى الدول الطامحة

إلى ذلك سيطرة مؤقتة إلا عند العجز عن الدائمة؟ وقد يلطفونها بتسميتها مساعدة،

نعم قد اتُّهِم أفراد من الأعضاء بأنهم من الحزب الوطني الذي ألفه بعض الأغنياء،

ولكن بعض وزراء الحكومة - على قلتهم - كانوا يصرحون لبعض الناس بأن

رأيهم قبول الوصاية، ومنهم ساطع بك الحصري وزير المعارف الذي كان أحد

رسل الملك فيصل إلى الجنرال غورو، وعلاء الدين الدروبي قتيل خربة الغزالة،

وتقدم ذكر ذلك، بل كانت وطأة المؤتمر شديدة في مقاومة الانتداب في كل من

سورية الجنوبية والشمالية، ولم يكن هذا محل خلاف بين حزبيه، ولا بين أحد من

أفرادهما، وكان فيه العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن

ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية، ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية

أو بعض المدارس الأجنبية، فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد، وأهلاً

لوضع غيرها من القوانين، أو تنقيح القوانين العثمانية.

وكان فيه طائفة من المحافظين على القديم من أمور الأمة وتقاليدها، وطائفة

من المولعين بالجديد الأوربي، وطائفة من المعتدلين بين جمود أولئك وخفة هؤلاء،

ومن المولعين بالجديد مَن يودُّون السير من وراء حدود الدين، وأن يستظهروا في

ذلك بالقانون، بل قاوم كثيرون منهم تقييد الحرية الشخصية بشرط المحافظة على

الآداب العامة، وكان رأي بعضهم أنه شرط لا حاجة إليه؛ لئلا يتوسل به إلى منع

السُّكر في المقاهي والملاهي، واختلاط النساء بالرجال فيها، ورأي آخرين أنه

شرط حسن، ولكن لا ينبغي ذكره في القانون الأساسي، فكان رأي الفريقين أفلج،

فرجح على رأي المخالفين لهم؛ لأن أكثر هؤلاء كان ضعيف الفهم قليل الحزم.

أشرت آنفًا إلى أنه كان في المؤتمر حزبان، وهما حزب التقدم الذي يمثل

حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وحزب الاعتدال، ثم انفرد أفراد سموا أنفسهم

حزب الاستقلال - أي الاستقلال في الرأي - ولكن الذين لا يتقيدون ببرنامج حزب

يؤيدون رأي الأكثر من أفراده إذا قرروه لا يمكن أن يؤلفوا حزبًا من أنفسهم، ولو

أمكن أن يكوّن هؤلاء حزبًا لكنت منهم قبل أن أكون رئيس المؤتمر؛ فإنني من أشد

الناس استمساكا باستقلالي فيما أراه هو الصواب، ولكن لم يكن لي مندوحة عن

الاشتراك في تأليف حزب التقدم، الذي يمثل الجماعة التي أنا مرتبط بمذهبها

السياسي، وهو استقلال البلاد العربية، وقد انتُخِبت رئيسًا لهذا الحزب عند تأسيسه،

وكنت أستعين به على تنفيذ رأيي في المسائل الخلافية في اجتماعاته الخاصة،

فإن لم يتيسر لي إقناع الأكثرين في بعض المسائل، ولم يتيسر لهم إقناعي - فإنني

أنفذ قرارهم عملاً بالنظام، ولكنني لا أنصره بالاحتجاج له، والدفاع عنه على مِنبر

المؤتمر، ولا في مناقشة الأفراد، بل كنت أصرح لهم بما أعتقد أنه الصواب،

وأقول هذا رأيي، وذاك قرار الحزب، وقد استطعت - بما لي من المكانة

الشخصية عند الإخوان - أن أقنعهم بإرجاء البتّ في بعض المسائل الخلافية إلى

أجل ساعدتنا فيه الأيام على الاتفاق فيها.

ولقد دُعيت إلى المساعدة على تأليف الحزب الآخر عند الشروع فيه، على

أن أكون رئيسًا له، فلم أقبل، وقد كان الداعي الأول إلى تأليفه كتب أسماء أكثر

الذين لا ينتمون إلى حزب الاستقلال العربي؛ ليدعوهم إلى تأليف حزب مخالف له

في المؤتمر؛ لئلا ينفرد بالنفوذ فيه، كما انفرد بالنفوذ في الحكومة، وفي بلاط

الملك، على أن يتقاسموا ليكوننَّ إلبًا واحدًا، وكلمةً واحدةً على كل ما يقررونه فيما

بينهم، لا يشذ أحد عن رفع صوته به، ولم أكن أعرف لهم رأيًا جامعًا غير ما

ذكرت، وهو ما يتعذر عليَّ، على أنه قد دخل في حزبهم بعض أعضاء جماعتنا

برِضًى من حزبها بقصد الإصلاح، وتفاديًا من توسيع مسافة الخلاف، وقد كان

أفراد هذا الحزب - وهم الأقلون عددًا - أكثر اتفاقًا وتناصُرًا من الآخرين، وهم

الأكثرون عددًا وعلمًا، إلا في المسائل المهمة، ومنهم أكثر أهل العلم والرأي

والخطباء.

سيرتي في المؤتمر:

ولما صرت رئيسًا للمؤتمر وجب عليَّ أن أساوي بين الحزبين في كل شيءٍ

يتعلق به، وفي احترام أفرادهما، حتى في خارجه، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه،

وإيتاء كل ذي فضل فضلَه، بل تركت رئاسة حزب التقدم مع المحافظة على نصر

الجماعة التي ينتمي إليها، وقد كان الذين استاءوا من تشديدي عليهم في حفظ نظام

الجلسات، أو في المنع في بعض الأحيان من الكلام والخطابة - أكثرهم من أفراد

جماعتنا، وأقلهم من الحزب الآخر، بل ربما كان أكثرهم من أصدقائي، وما كلهم

من أفراد جماعتنا، ولا كل أفراد جماعتنا منهم، ومن العادات الراسخة في نفسي

أن أشتد مع الأصدقاء أيهم أشد حبًّا وإخلاصًا في الصداقة، ما لا أشتد مع غيرهم

في الإقناع بالحق، والمطالبة بالوقوف عنده؛ لأنهم أقرب إلى حسن الظن، وأبعد

عن الظنة (التهمة) التي قد تبعث على مكابرة الحق، وكم أغضب عليَّ هذا الخلق

من صديق ساءني إغضابه، وسرَّني استعتابه، وكم وجه إليَّ من عتب محب لم

يتعذر عليَّ إعتابه، وربما فاتني من ذلك ما أجهله، أو أعذر نفسي بحسن النية فيه،

وإن لم تعلم، وقد اتهمني بعض مَن صاحبت وواددت من أعضاء المؤتمر وغيرهم

بالمحاباة في تنفيذ وظيفة الرئاسة فيهم، وكانت هذه التهمة باطلة، فوايم الحق،

إنني كنت دائمًا محافظًا على تحري الحق والعدل، ولكنني لا أبِّرئُ نفسي من التساهل

أحيانًا مداراةً لبعض شديدي الانفعال والغضب، أو محبي المشاغبة كراهةَ أن

تكسر، فتسوء سمعة المؤتمر، ومنهم مَنْ أغراه ذلك باللجاج بالتمادي؛ حتى

اضطررت إلى ما كنت أكره من الإنذار وراء الإنذار، الذي لا يبيح القانون

فيه للرئيس إخراج المنذَر من الجلسة بقوة الشرطة.

(للكلام بقية)

_________

ص: 390

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصابنا بشقيقنا

السيد صالح مخلص رضا

الأمر لله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون. ربنا أفرغْ

علينا صبرًا. وتوفنا مسلمين.

في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان رُزئنا بوفاة شقيقنا، وتِرْبنا، ورفيق

حياتنا، وأخلص الرجال لنا السيد صالح آل رضا تغمده الله برحمته ورضوانه،

بعد أن أُصيب بألمٍ في الحنجرة، كان عَرَضه الأول بحّة في الصوت، صبر عليها

بضعة أشهر، لم يعرض نفسه فيها على طبيبٍ. وكان يظن - كما نظن - أنه

عرض لا يلبث أن يزول، ثم ألفيناه يزداد بالتدريج البطيء، وكنت أنصح له

باستشارة الأطباء فيه، والعناية بما يصفون من معالجته، وكان يتهاون بذلك كدأبه،

وهو من أشد الناس صبرًا وجَلَدًا واحتمالاً للآلام، ثم اشتد عليه الألم وضيق

النفس، فعرض نفسه على عدة أطباء من المصريين، واليهود، والإفرنج،

فاختلف رأيهم أولاً، ثم ظهر أن المرض ورم سرطاني، واختلف القائلون بهذا في

استئصاله، هل هو خطر على الحياة أم لا، فكان ذلك سببًا لتردده في العملية

الجراحية، إلى أن ضعف بدنه بقلة الغذاء؛ إذ كان يشق عليه ازدراد الطعام، حتى

إنه لَيألمُ من شرب الماء، واللبن، وحينئذٍ رضي بأن تعمل له العملية الجراحية،

واخترنا لها الطبيب الإخصائي الشهير الدكتور حسن بك شاهين، ولكنه أبى أن

يعملها لجزمه بأن البنية لم تعد تحتمل ذلك، واكتفى بأن فتح له ثغرة في نحره لأجل

التنفس، وقال إنه قد يعيش في هذه الحالة عدة أشهر ممتعًا ببعض الراحة، ولكن

أجله المحتوم لم يكن قد بقي منه إلا أيام معدودة لا تبلغ الأسبوع، فتوفاه الله تعالى،

وهو في أحسن حالٍ كان عليها من الإيمان به، والتوجه إليه، وإخلاص العبادة له،

حتى إنه كان يصلي الصلوات في سريره قاعدًا، فكان هذا مع العلم بأنه لم يعد له

راحة في الحياة مع هذا الداء العُضال أكبر المعزيات لنا في مصابنا به.

***

(تعلمه وتربيته)

كان رحمه الله نادر الذكاء، سريع الفهم، سريع الحفظ، بطيء النسيان،

تَلَقَّى مبادئ التعليم الأول في بلدنا القلمون على أحد شيوخها، فلم يكد يحذق حروف

الهجاء وتركيب الكلم؛ حتى صار يقرأ كل ما أقرؤه بسرعة عجيبة، فمهما يَطُلْ

الدرس الذي يلقنه إياه الأستاذ - يعيده بعد إقرائه إياه مرة واحدة، فلو شاء أن يُقرئه

كل يوم جزءًا كاملاً من القرآن لفعل، فكان يفوقنا كلنا في ذلك، ثم طلب العلم في

طرابلس، فكان محل إعجاب شيوخه بذكائه وفهمه، فتلقَّى من الفنون العربية

والعلوم الشرعية ما كان يُظهر قليله من فضله ما لا يظهر أضعافه في تحصيل غيره،

وقرأ كثيرًا من كتب التربية والتعليم؛ فكان ذا رأي وذوق في هذا الفن، وطالع

كثيرًا من كتب الأدب والتاريخ وكتب الديانة المسيحية، فحفظ من ذلك كله ما كان

به خير نديم وسمير، وكان معاشِروه في سورية، ثم في مصر يَعْجَبُونَ من سعة

حفظه وحسن اختياره فيه وسرعة استحضاره له، وحسن إلقائه إياه، ويستغرب

النصارى منهم كثرة ما يحفظه من كتبهم، ويعرفه من تقاليدهم الدينية على اختلاف

مذاهبهم، وكان يجيد الكتابة نثرًا ونظْمًا، ولكنه كان كَسولاً قلَّما يُمسك القلم بيده،

وله مقالات قليلة، وتقاريظ لبعض المطبوعات في المنار، استتبع بعضها ترجمة

صديقه الشيخ طاهر الجزائري - رحمهما الله تعالى - ترجمة انتقادية دقيقة غير

مألوفة في هذا العصر، فانتقدها بعض أدباء دمشق على اعترافه بأنها حق، شرع

في وضع تفسير لمفردات القرآن الكريم، ولكنه لم يكتب منه إلا وريقات قليلة،

وفي ضبط ديوان من الشعر، وشرح لغريبه لأجل طبعه، ولم يتم منه شيئًا يُذكر،

وقد كان عُين مديرًا لبعض المدارس الابتدائية التي أُنشئت بأمر السلطان عبد الحميد

ونفقته لمسلمي لبنان - وهي مدرسة الكورة - فسلك في تربية تلاميذها، وتعليمهم

مسلكًا حسنًا نافعًا، وقد أُوذي من اضطهاد حكومة طرابلس لأهل بيتنا في العهد

الحميدي أشد مما أوذي غيره، فكان ذلك مبغِّضًا له في تلك البلاد، ومرغِّبًا له في

الهجرة إلى مصر، فلما سنحت الفرصة لحق بي فيها.

***

(آراؤه وأخلاقه)

وكان مستقل الفكر في الدين والأدب، وكل ما للرأي فيه مجال، قليل المبالاة

بكل شئون الحياة، يأكل ما وجد متى جاع، لا ينتظر ما هو أطيب منه، وينام

حيث نعس من ليلٍ أو نهارٍ، سواء كان في الحقول والبساتين أو الأندية والسمار،

ويتأنق في اللباس تارة، ويتبذَّل أخرى غير حريص على أن يلقى الناس متزيِّنًا،

ولا خَجِل من أن يروه متبذلاً، ولا مبالٍ أن يرتاض في عذق الأرض، أو قطع

الشجر متأنقًا، سخي النفس ربما يجود بكل ما في يده على مَن يراه محتاجًا إليه،

ويؤْثِره على نفسه، وإن لم تكن حاجته فوق حاجته، شديد الرحمة لمَن يراه محلاًّ

لها، وشديد القسوة إذا غضب، وقد يعود فيسترضي مَن يعاقبه إذا اعتقد أنه ظُلم،

راقب مرة لصًّا كان يسرق الليمون من بستانٍ لنا، حتى إذا ظفر به وهو يسرق

ضربه ضربًا مُبرِّحًا، وأخذ منه مقدار ثمن ما سرق من قبل كما قدره، ولكنه خاف

أن يكون مخطئًا في التقدير، أو يكون قد سبقه لص آخر، فباع من اللص ما وجده

بيده بالثمن الذي تقاضاه منه، وحمله على إحلاله، والسماح عنه، وله نوادر من

مثل هذه الفتوى أو الحيلة الشرعية فيما يرضي به اعتقاده وهواه معًا، كنت أُخطِّئه

في بعضه.

وكان فخورًا بنَسَبه وبمناقب آل البيت الطاهرين من أجداده، ويتشيع لهم،

ويبغض بني أمية الذين ظلموهم، وآذوهم، وهضموا حقوقهم، وهو على هذا يجل

الشيخين، ويبرئهما من كل ما رماهما به الرافضة، وما رموا به جمهور الصحابة

- رضوان الله عليهم - ويعلم أن هذا قد كان بتأثير دعوى المجوس أعداء الإسلام

والعرب، وقد كان في هذا الفخر والتشيع كالمرحوم الوالد، بل يفوقه فيهما، وليس

في أسرتنا مَن يضارعهما في ذلك.

ولاهتمامه بأمر النسب والتاريخ عُنِيَ بالبحث عن الدخلاء في بلدنا القلمون،

وهم من غير السلالة الطاهرة، فعرفهم بيتًا بيتًا وفردًا وفردًا، فكان يميز بين أهلها

الأصليين - وكلهم من السادة الشرفاء - وبين الدخلاء فيهم، وليس هذه العناية

لأجل ضبط أفراد أسرتنا؛ فإنهم معروفون، لا يجهل أحد من الأهالي أحدًا منهم

لقِلَّتهم وامتيازهم على سائر البيوت بالعلم والإرشاد، وإن ترك أكثرهم ذلك في هذه

السنين الأخيرة. وكان يعرف من تاريخ لبنان الحديث ما لا يعرف إلا القليل من

أهله، تلقَّى ذلك من أفواه الشيوخ الذين كان يلقاهم في دارنا، أو في قرى الكورة

وغيرها.

وأما ما كان بيني وبينه من الصلة والمحبة والعشرة - فهو ما يقل نظيره بين

أخوين، ولقد كان أقدر على بيانه مني لو كتبه، كنا نعيش معًا، وكنت أكثر منه

اشتغالاً بالعلم والعبادة؛ وكان لذلك يجلّني كإجلاله لوالده، وأساتذته، بل أشد؛ لأنه

إجلال اعتقاد روحي ومحبة أخوية، وعشرة لازقة، كنا في سن المراهقة نقضي

بعض أيام رمضان في كرم لنا على مسافة ميلين عن القرية، فكنت أصرف كل

النهار في قراءة القرآن والصلاة، وكان لا يصلي معي إلا الرواتب، بل يلح عليَّ

بأن ألعب معه، فلا أفعل، فإذا أطلت الصلاة قام أمامي فيها يبني لي محرابًا،

وكنت في بعض الأيام أقرأ القرآن كله، فإن قرأت نصفه عاتبت نفسي على

التقصير، كان يذكِّرني بهذا، ويذكره لغيري، يقول: كنت أعتقد أن أخي نبي من

الأنبياء! فلما كبرت وعلمت أن النبوة قد خُتمت بنبينا صلى الله عليه وسلم

صرت أعتقد أنه ولي من أعظم الأولياء، ولما فُقته في التحصيل حضر عليَّ

بعض الكتب في الفنون، وكان يحضر دروسي الدينية في المسجد متعلمًا، ويعُدُّني

أخًا وأستاذًا، وما زال يُكرِهني - في الأعياد، وعند التلاقي بعد سفر - على

السماح له بتقبيل يدي على علمه بكراهتي لذلك، فإن تعوُّدنا على تقبيل أيدينا من

الصغر لم تجعله محببًا عندي في الصغر ولا في الكبر.

وكنت أقول إنني لا أعرف أحدًا يحبني كحب أخي السيد صالح إلا أن تكون

الوالدة، وأما أنا فطالما أنني لم أشعر قط بأنني كنت أملك في الدنيا شيئًا من دونه،

ولعلمه بذلك - كان يتصرف بكل ما هو لي تصرف المالك، حتى إنه يهب ويهدي

ويتصدق، ولا يرى أنه في حاجة إلى إعلام ولا استشارة، ولم أحفظ شيئًا مما

علمته من ذلك، إلا أن صديقًا لي كان قد أهدى إليَّ شيئًا مما يُحفظ للذكرى، فتفقدته

مرة فلم أجده، فسألت عنه، فعلمت أنه أهداه إلى صاحب له!

نعم إننا كنا شقيقين صديقين، بلغت عواطف الأخوة والصداقة، والإخلاص

بيننا الغاية التي لا نعرفها عن غيرنا، وكان أشد مني عاطفة؛ لأنه عصبي المِزَاج

وأنا معتدل، لا إخلاصًا ولا قيامًا بالحقوق، ولولا المزاج لكان الأصل في عاطفة

الأخوة وأنسها المساواة إذا كانت التربية واحدة، وقد قلت في بيان حكمة محرمات

النكاح من التفسير: (إن أُنْس أحد الأخوين بالآخر أُنْس مساواة، لا يضاهيه

أُنس آخر؛ إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة،

وعواطف الود والثقة المتبادلة

) إلخ.

وقد تزوج رحمه الله، وغفر له - في أول سن الشباب، ولم يكن مغتبطًا

بالزواج، وقد تُوفِّيت زوجته، وهي من شرائف القلمون بعد أن ولدت له غلامًا

وجاريةً، وكان شديد الحب لهما، والحدب عليهما، حتى كاد يخرج بذلك عن سنن

أشد الوالدات عطفًا وعاطفةً، وقد زوَّج ابنته بمصر من رجلٍ فاضلٍ كريمٍ، ولها

أولاد، جعلهم قرة عين لها ولوالدهم، وولده السيد محيي الدين تربَّى في دار الدعوة

والإرشاد، وهو كاتب أديب مقيم معنا، ويراسل بعض الجرائد في أقطار أخرى -

وفقه الله تعالى - ورحم والده فقيدنا الكريم رحمة واسعة، وجعلنا جميعًا - مع

السيدة الوالدة - من الصابرين المأجورين.

_________

ص: 397