المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [ - مجلة المنار - جـ ٢٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (23)

- ‌جمادى الأولى - 1340ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌سؤالعن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

- ‌مسيح الهند

- ‌إشْكَال في بيت من الشعر

- ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تنبيه

- ‌جمادى الآخرة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(3)

- ‌الرحلة الأوربية(1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(8)

- ‌سعيد حليم باشا

- ‌السياسة الإنكليزيةفي البلاد العربية

- ‌رجب - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(4)

- ‌جمعية الرابطة الشرقية

- ‌العبر التاريخيةفي أطوار المسألة المصرية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(9)

- ‌شعبان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الإسلام والنصرانية

- ‌رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(5)

- ‌الرحلة الأوربية(2)

- ‌الرحلة السورية الثانية(10)

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌رمضان - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [

- ‌الرحلة الأوربية(3)

- ‌مصابنا بشقيقناالسيد صالح مخلص رضا

- ‌شوال - 1340ه

- ‌تتمة كلام الغزاليفي مسألة الحلال والحرام

- ‌إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

- ‌الرحلة الأوربية(4)

- ‌مسألة ثواب القراءة للموتى

- ‌تعزيتان

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌ذو القعدة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الهجر الجميل والصفحوالصبر الجميل [

- ‌ترجمة الأستاذ الإمام

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(6)

- ‌الرحلة الأوربية(5)

- ‌ذو الحجة - 1340ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام(2)

- ‌التسمية باسم الأستاذ الإمام

- ‌الوثائق الرسمية للمسألة العربية

- ‌تتمةتلخيص مكتوباتنائب ملك الإنكليز لأمير مكة(تابع ص624)

- ‌الرحلة الأوربية(6)

- ‌ربيع الأول - 1341ه

- ‌حكم استعمالالإسبرتو - الكحول

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌عطوف آل رضا

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌الرحلة الأوربية(7)

- ‌الانقلاب التركي

- ‌ظفر الترك باليونان

- ‌ربيع الآخر - 1341ه

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة(7)

- ‌خطبة الغازيمصطفى كمال باشا

- ‌مؤتمر لوزانللصلح في الشرق

- ‌المعاهدة العراقية البريطانية

- ‌البهائيةبعد موت زعيمهم عباس أفندي

- ‌خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الفصل: ‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

‌العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [

1]

لسيدنا آية العصر، وسر حكمة الدهر، ودرة تاج الحكماء، وواسطة عِقد

البلغاء، مَن لا تستوعب وصفه الأقلام وما نسقت، والطروس وما وسقت، أستاذنا

الأكبر، الفيلسوف الأشهر، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله.

إن الممكن بالإمكان الخاص (وهو الذي لا يلزم مِن وجوده ولا مِن عدمه

محالٌ) يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها، ولا ريب في أن السعادة من

الماهيَّات الممكنة بالإمكان الخاص، وأنها العلة الغائية لحركة كل فردٍ من أفراد

الإنسان، حِسِّيَّةً كانت تلك الحركة أو معنويَّةً، إذ لو لوحظت مساعيه آناء الليل

وأطراف النهار، وأخذه بوسائل الحِرَفِ مِن زراعةٍ، وصناعةٍ، وتجارةٍ، وجدّه

في تحصيل العلوم والفنون، وارتكابه المصاعب، في نيل المراتب والمناصب -

ما وجد لها مِن باعثٍ أو داعٍ سوى طلب السعادة، مع أنك لا تجد مَن نالها أو دنا

منها، ولو تنقل في مراتب الشؤون وتقلب في درجات التطورات، وما ذلك إلا

لعدم تحقق علتها، فعلينا أن نبحث عن تلك العلة، وعن الأسباب التي أوجبت عدم

تحققها، حتى يتبين وجه ضلال طلاب السعادة عن أن يصيبوها، فنقول:

إن بين السعادة والصحة شبهًا كليًّا، فكما أن صحة الجسم هي نتيجةٌ ومعلولةٌ

للتناسب الطبيعي بين أعضاء ذلك الجسم وجوارحه، وكمال الاعتدال فيما تكونت

عنه تلك الأعضاء، وحسن قيام كل عضو منها بأداء وظيفته مع مراعاة اللوازم

والشروط الخارجية: من الزمان، والمكان، والمطعم، والمشرب، والملبس،

فيكون زوالها لزوال هذه الأمور كلها أو بعضها، كذلك سعادة الإنسان هي معلولةٌ

للتناسب الحقيقي في الاجتماعات المنزلية، وقيام كلٍّ مِن أركانِ المنزل بأداء

وظيفته، وللتعادل التام في الائتلافات المدنيَّةِ بأن تكون المدينة فيها من الحِرَفِ

والصنائع ما يكفيها مؤنة الافتقار من دون نقصٍ أو خروجٍ عند حد حاجتها مع حسن

التعامل بين أرباب تلك الصنائع، وأن تكون أحكامها تحت قانونِ عدلٍ تساوَى فيه

الصغير والكبير، والأمير والمأمور، وللارتباطات العادلة بين الدول بأن تقف كل

دولة عند حدها، ولا تتعدى على حقوق غيرها، وأن يمهد سبل التواصل بينها

وبين باقي الدول لكمال التعاون والتوازر بين نوع الإنسان، وانتفاع كلٍّ من الآخر،

فيكون حصولها على السعادة بحصول تلك الأمور وفقدها لفقد جميعها أو بعضها.

وهذه الأمور وإن كانت ممكنة الحصول وجدَّ الناس في التماسها ما استطاعوا-

إلا أن هناك مانعًا من الوصول إليها، وهو اعتقاد كلّ كمال نفسه، ونقص غيره،

ونظره إلى أفعاله بعين الرضى، وإلى أفعال غيره بعين السُّخط، وزعمه أنه ما

حاد عن حدِّ الاعتدال، ولا أخلَّ بشيءٍ من واجباته وشؤونه، ولا تقاعدت همته عن

أداء وظائفه في العالم الإنساني، ويتحمل لإثبات ذلك بما تسوله له نفسه من الحجج

والبراهين، وإن أصابه العناء، ونزل به الشقاء، حسبهما من تهاون الغير فيما

يلزمه وإهماله ما يجب عليه مبرئًا نفسه من أسباب ذلك، حتى لو أغفل شأنًا من

شؤونه، يزعم أن قد سُدَّتْ دونه أبواب الإمكان، وتعذَّر عليه القيام به، ولو انتهك

محظورًا من المحظورات لادَّعى أنه لا اختيار له فيه، وإنما الضرورة هي التي

ساقته إلى ارتكابه، فهو مجبورٌ لا مختارٌ، مع أنه لا يلتمس للغير عذرًا فيما يفوته

أو يقع منه، ولو كان في نفس الأمر مجبورًا. ومن ثَمَّ وقع التضارب في الآراء،

والتدافع في الأفعال والحركات، وعمل كلٌّ على نقيض الآخر، فارتفع التناسب

وانعدم العدل وذهب الارتباط.

انظر إلى حال الآباء مع الأبناء والسادات مع الخَدَمَة، كيف أن كلاًّ منهم مع

علمه بأن السعادة المنزلية إنما تُحَقَّقُ بأدائه ما يجب عليه، وجعْل حركته من

متممات حركات الآخر، يخالفه في أفعاله، ويضاده في آرائه، معتقدًا أنه لو لم

يقصر ذلك الآخر في أداء الحقوق المفروضة عليه لاستقرت الراحة المنزلية،

وارتفع العناء، وإلى حال المشتركين في المدينة؛ فإن كل واحد مع جزمه بأن

الراحة والنجاح إنما يكونان بإحكام الصنعة وتهذيبها، وحسن التعامل، وكف يد

الشَّرَه والخيانة، وضبط العهود والمواثيق، واجتناب الكذب والاعتصام بحبل

الصدق والوفاء - لا يرى نفسه مخلاًّ بشيءٍ من ذلك، وإن أخل بجميعه، ويزعم

أن زوال السعادة المدنية إنما جاء من تهاون الآخرين.

وتدبر حال الملوك مع رعاياها تَرَ كلاًّ منهما يرمي الآخر بالإغراق وعدم

الاعتدال، ويتهمه بانتهاك المحارم والحقوق، ويبرئ نفسه من نسبة شيء من ذلك

إليها.

فالملوك - فضلاً عما رسخ في نفوسهم من أن رتبتهم الملوكية إنما هي رتبةٌ

سماويةٌ ساقتها إليهم يد العناية الإلهية؛ بسبب طيب عنصرهم، وطهارة طينتهم -

يعتقدون أن لا قوام للرعية بدون وجودهم، وأن لا غنى لها عنهم؛ إذ هم يحفظون

أموالها، ويحقنون دماءها، ويوفون لكل ذي حق حقه، وينتقمون للمظلوم من

الظالم، ويحرسون الثغور لدفع ضرر المهاجمين، فيرون أن لهم بذلك حق

التصرف في أموال الرعية ودمائها، وأنه يجب عليها طاعتهم، والخضوع

لسطوتهم وسلطتهم، وامتثال أوامرهم، واجتناب نواهيهم، ويرمون الرعية

بالتقصير فيما يجب عليها.

والرعايا يخاطبونهم قائلين: لا مَزِيَّة لكم علينا كما زعمتم، ولستم أطهر

عنصرًا، ولا أطيب طينةً، بل نراكم أناسًا استولى عليكم حب الرئاسة، وأسرتكم

الشهوة واستعبدكم الهوى، فاستمالكم إلى سلب راحتكم، وراحة رعاياكم حرصًا

على التغلب، وطمعًا في توسيع دائرة السلطة، وكسب الافتخار مينًا، وأما

اعتقادكم أن لا قوام لنا إلا بكم فأَنَّى لكم صدق هذا الاعتقاد، وقد أصبحتم كَلاًّ على

كواهلنا: نحن نغرس ونحرث، ونغزل ونحوك، ونفصل ونخيط، ونبني ونشيد،

ونخترع الصنائع، ونتفنن في المعارف، وأنتم تأكلون وتشربون، وتلبَسون

وتسكنون، وتتمتعون بلذة الراحة. وأما ما تعللتم به من حفظ أموالنا، وحقن دمائنا-

إلى آخر ما ادَّعيتم - فذلك إنما نشأ عن العظمة والكبرياء اللذين ثبتت أصولهما

في نفوسكم، أفلا تعلمون أن الحارس والمرابط إنما هو منَّا، وأنَّ الحافظ والحاقن

والمنتقم، إنما هو القانون والشريعة الحقة، وما أنتم إلا مَنُوطُون بحفظها، والعمل

في الناس بها، فإن قمتم بذلك على وجه الاستقامة كان لكم علينا ما يُقَوِّمُ أَوَدَكم،

فكيف ساغ لكم أن تلعبوا بأموالنا، وتعبثوا بدمائنا، وتلقوا بنا في هاوية الشقاوة،

ثم تبتغوا طاعتنا وامتثالنا، وترمونا بالتقصير والتهاون فيما وجب علينا.

وذلك الذي ذكرناه فيما إذا لم يكن الملوك من المتغلبين المباينين للرعايا جنسًا

ومشربًا، وأما المتغلبون من الملوك والمتغلب عليهم، فكل منهما يزعم فوق ما ذكر

أنه الوسيلة لمنفعة الآخر، والواسطة لمصلحته، وأن الآخر قابل حسنته بالسيئة،

ومنفعته بالمضرة.

مثلاً إن الحكومة الإنكليزية المتغلبة على الهنود تخاطبهم بقولها: إني عمرت

لكم المدن (كبمباي) و (كلكتا) و (كراجي) وأمثالها وزيَّنتها بالأبنية الشاهقة،

والقصور الشائقة، ووطَّأت شوارعها، ووسعت مسالكها، ورقشتها بالأغصان

وزخرفتها بمروجٍ وبساتين، ومهَّدت لكم سُبُلَ التجارة، وسهلت لكم أسباب الزراعة،

وفتحت أبواب الثروة؛ بما مددت من الأسلاك البرقية في أرجاء بلادكم، وأنشأت

من الطرق الحديدية في أنحائها. وحفرت من الترع والأنهار، ووضعت من

القناطر، وكذلك أسست لكم المدارس، ورفعت عنكم ظلم النوابين وقهر الراجاوات.

وأنتم مع ذلك أبيتم إلا الشقاق والنفاق، ونبذ الطاعة وسلب الراحة

وإن الهنود يجيبونها متظلمين مستغيثين منها قائلين لها: إنك ما عمرت تلك

المدن إلا بعد أن خربت بلادًا كانت زينة الأرض وفخار الأبناء (شيو) و (وشنو)

و (كهكلي) و (مرشد آباد) و (عظيم آباد) و (أكبر آباد) و (الله آباد)

و (دهلي) و (رايبود) و (فيض آباد) و (لكهنؤ) و (حيدر آباد) وغيرها

من البلدان، وإنك ما مددت الأسلاك البرقية ولا أنشأت الطرق الحديدية، ولا

حفرت الترع والأنهار، ولا وضعت القناطر إلا لنزف مادة ثروتنا، وتسهيل سبل

التجارة لساكني جزيرة بريتانيا وتوسيع دائرة ثروتهم، وإلا فما بالنا أصبحنا على فقرٍ

وفاقةٍ وقد نفِدَت أموالنا، وذهبت ثروتنا، ومات الكثير منا يتضوَّر جوعًا؟ فإن

زعمت أن ذلك لنقصٍ في فطرتنا، وضيقٍ في مداركنا، فيا للعجب من أبناء

(بريتوس) الذين مضت عليهم أحقابٌ متطاولة يهيمون في أودية التوحش والتبربُر؛

إذ يعتقدون النقص، وعدم الاستعداد في أولاد (برهما) و (مهاديو) مؤسسي شرائع

الإنسانية وواضعي قوانين المدنية.

وأما المدارس التي تمُنِّين علينا بتأسيسها فلم تكن لمصلحةٍ تعود علينا؛ إذ لو

كانت لذلك لاحتوت على العلوم، والفنون، والصنائع، مع أنها لم تنشأ إلا لتعليم

اللغة الإنجليزية المتعجرفة الخشنة لأبناء اللغة (السنسكريتية) اللغة المقدسة

السماوية حتى تستعمليهم في إدارة مصالحك في تلك الممالك الشاسعة.

وأما دعواك رفع ظلم النوابين، وقهر الراجوات عنا، فمما يُضحك الثكلى

ويُبكي المستيئس الذي جاءته البشرى؛ فإن الظلم إذ ذاك كان قاصرًا على البعض،

وظلمكِ الآن قد عم وطم، وإن الثروة والأُبَّهَةَ والجلالة والشأن التي يزدهي بها الآن

أهالي بريتانيا كان المتمتع بها وقتئذٍ أبناء وطننا؛ إذ النوابون والراجوات وغيرهم

من الأمراء، والكبراء، وحاشيتهم، وخاصتهم كانوا من أبنائنا، ومشاركينا في

الجنسية وكنًَّا نَتِيهُ بهم فخارًا على سائر الممالك والأقطار، فكيف بكِ أن تُمَنِّي

علينا بما مننت زورًا ومَينًا، وإنا لا نراكِ أيتها المتغلّبة علينا إلا كالعلق مصصت

دماءنا، بل كالسَّلاخ سلخت جلودنا؛ لتتخذيها أحذية لنعال البريتانيين، على

أنك لم تكتفِ بهذا وذاك، بل تريدين أن تستعملي عظامنا النخرة لتصفية السكر في

معاملك.

وتبصَّر في شأن الملوك بعضها مع بعض، فإن كل واحدٍ منهم يرى بما أقيم

من الحجج القاطعة - أنه على صراط العدل، وحدِّ الاستقامة، لا يُقدم على محاربةٍ،

ولا يحجم عنها، ولا يضع غرامةً أو يأخذ مِن ممالِكِ الآخر شيئًا إلا وهو في ذلك

مُحِقٌّ عادلٌ، مثلاً ملك الروسيين يحتج لحرب العثمانيين بأن أنين النصارى من

رعاياهم قد ذهب براحته، وتجافى به عن مضجعه، وحرك فيه حاسة الشفقة،

حتى دعته الرحمة والإنسانية للأخذ بناصرهم، واستنقاذهم من أيديهم، وتحريرهم

من رِقِّ عبوديتهم، مِن

والعثمانيون يدحضون حجته قائلين: (أولاً) لو كنت

مِمَّن تحركهم الشفقة والرحمة لكان الأحق بنيلها رعاياك المتحدون معك في المذهب

من أهالي (لهستان) ، فما دعواك هذه إلا محض الرياء والمواربة، (وثانيًا) أننا

لا نعامل رعايانا إلا كمعاملة الآباء للأبناء بدون تفرقة بين مذهبٍ ومذهبٍ وجنسٍ

وجنسٍ، وأوضح دليلٍ على ذلك بقاؤهم على مذهبهم حافظين للغاتهم وجنسيتهم،

ولو أننا كنا نفرق بين المذاهب والأجناس - كما تدعي - لحملناهم على رفض

مذاهبهم وتغيير لغاتهم، وكنا قادرين على ذلك في وقتٍ لم يكن لك فيه اسمٌ ولا رَسمٌ،

بل لم تكن شيئًا مذكورًا.

وكذلك إمبراطور الفرنساويين - بما ثبت عنده من البراهين البيِّنةِ على طمع

الجرمانيين، وحرصهم، وشرههم - يرى لنفسه الحق في افتتاح الحرب عليهم،

وإمبراطور الألمانيين - بما تحقق لديه من كبر الفرنساويين، وعُجبهم، ومجاوزتهم

الحد في أطوارهم - يحسب أن من الواجب عليه أن يضع عليهم غرامةً باهظةً،

ويتسلط على قطعةٍ واسعةٍ من بلادهم لتذليل نفوسهم، وإضعاف قوتهم؛ ليدفع بذلك

شرهم، ويأمن على نفسه، وأمته من تعدِّيهم.

ودَقِّقِ النظر في شؤون العقلاء، والحكماء وذوي الآراء والمذاهب الذين

يعتقدون أن الحق واحدٌ في نفس الأمر، والواقع لا يتعدد - كيف أنهم بعد اتفاقهم

على أن القواعد المنطقية هي ميزان النظر، وبها يعرف صحيح الفكر من فاسده -

قد انتهج كل واحدٍ منهم منهجًا واتخذ مشربًا يناقض به الآخر، ويعتقد أن دلائله

المُؤَدِّية إليه هي المُنطبِقةُ على ذلك الميزان، وأن لا انطباق لدلائل غيره عليه.

وارجع البصر إلى أحوال السارقين، والقاتلين، ونحوهم من مرتكبي

الفواحش والشناعات في العالم الإنساني - ترَ أنه لا يصدر عملٌ من هذه الأعمال

المُجمَعِ على قبحها من فاعلها إلا بسبب هذه الخِلَّةِ الذاتية، أعني اعتقاده كمال نفسه،

والنظر إلى أعماله بعين الرضى - ضرورة أن الفعل إنما يكون بعد الإرادة التي

لا تكون إلا بعد ترجيح الفعل على الترك، ورؤيته خيرًا منه، وهو عين الرضى

به.

ومن غرائب آثار هذه الخِلَّةِ إبرازها لحقيقةٍ واحدةٍ بصورٍ مختلفةٍ في نظر

شخصٍ واحدٍ على اختلاف مراتبه وشؤونه، فإنك ترى زيدًا من الناس مثلاً، وهو

في رتبةٍ دانيةٍ رؤوفًا بالفقراء، رحيمًا بالضعفاء، شفيقًا على المظلومين، ذامًّا

للبُخلِ والشُّحِّ، مادحًا للكرم والسخاء، مهتمًّا بقضاء حوائج ذوي الحاجات، مدَّعيًا

للعِفَّةِ، كارهًا للانكباب على الشهوة، مستهزِئًا بذوي التكاثر والتفاخر، مُبغِضًا

للكبرياء مُتَنفِّرًا عن الارتشاء، مشمئِزًّا من الإهمال في المصالح العامة، والتهاون

في الواجبات، مستهينًا بالمستبدين بآرائِهم، المعجبين بأقوالهم وأفعالهم، مستقبِحًا

تقديم المفضول على الفاضل؛ لغرضٍ يعود على ذاته مستبشِعًا لإعطاء المراتب

لغير أهلها وحرمان مستحقيها منها، لائِمًا على الغضب، وإسراع العقوبة مستفحِشًا

للسفاهة والبذَاءِ، محبًّا للوطن، مُحاميًا عن الحرية، زاعمًا أنه لو آل الأمر إليه

لقام بصلاح العالم.

وإذا ارتقى إلى رتبةٍ ساميةٍ تجده قسِيَّ القلبِ على الفقراء زاعمًا أن التَّكفُّفَ

صناعة اتخذها أرباب السَّفالةِ والبَطالةِ هربًا من عناء الكسب، جافي الطبع على

المظلومين مستدِلاًّ بأن المتظلمين أولو مكرٍ ودهاءٍ (أو رِياءٍ) يعلنون خلاف ما

يسرون، ويستترون تحت حجاب المَسكنةِ، والالتجاء للتغلب على حقوق غيرهم

بخيلاً شحيحًا متمسكًا في ذلك بأن من مقتضيات الحزم أن تُحرَّز الأموال، وتُودَع

المخازن لوقت اللزوم أو (إن الكرم والسخاء قبيحان عند السويليين من الإفرنج)

مُتوانِيًا في الأخذ بيد المحتاجين متعلِّلاً بتراكم الأعمال عليه في وظيفتِه المهمةِ،

وعدم تمكُّنه من إسعافهم، شَرِهًا شَهَوِيًّا مُحتجًّا بأنه بشَرَهِهِ وانصبابِهِ إلى الشهوة

يؤدي حق الطبيعة، فخُورًا برتبٍ وشؤونٍ ساعَدَهُ على نيلها البخت والصُّدفة بدون

استحقاقٍ، مع أنه ما أدى حقها ساعةً من دهره مُرضِيًا نفسه في ذلك بكلمة العبد

العاجز أو (افتخار أولمسون)[2] ، متكبرًا، يظن أنه وَقُورٌ من الواجبات عليه

إقامة الحُجَّابِ على بابه، والذائدين عن أعتابه، قيامًا بحق رتبتِهِ، ولازم شأنِهِ،

مرتشيًا يقنع نفسه بأن ما يأخذه حقٌ تبيح له الشريعة أخذه، إما لأنه جُعَالةٌ على

عمله أو هديةٌ من صديقٍ، مهملاً في المصالح العامة متهاونًا فيها معتذرًا بأنه من

آحاد الناس ليس في طوعه تقويمها. وما من مساعد يعاضده عليها. وقد أدى

الواجب على شخصه، مستبدًّا برأيه، معتقدًا أنه قد بلغ من العقل والدراية إلى حدٍّ

تنحط دونه جميع أفكار العالم، ويقصر عن إدراك غايته مدى أنظارهم، مع أنه

أعمى البصر والبصيرة، لا يرى ما تحت قدميه، مُقدِّمًا للمفضول على الفاضل،

مستنِدًا إلى سلامة قلب ذلك المفضولِ ولين عَرِيكتِه وطلاقة وجهه، أي أنه (يهز له

القاووق) وفي رواية (يمسح له جوخ) ، وأنه (سطري لجنابه العالي)[3] رافعًا

إلى أسنى المراتب مَن لا يليق لأدناها حاسبًا نفسه طبيبًا، روحانيًّا، خبيرًا بأخلاق

العالم وطبائعهم، حكيمًا لا ينظر في أعماله إلا إلى المصالح العامة، غضوبًا،

سريع العقوبة، يحسبها سياسةً وتدبيرًا مدنيًّا، سفيهًا بذيئًا يرى أن الناس لا

يستحقون سوى قبيح فعله، وفحش قوله، ولا يدركون مزية الآداب، ولا يقدرون

الأديب حق قدره، خائنًا لوطنه، ساعيًا في خرابه وإذلال أهله (كأفيالتيس اليوناني)

ويعد نفسه في ذلك مجبورًا ملجأً طالبًا للاستعباد، متشبثًا بأن الحرية لا تليق

بالأهالي لعدم استعدادهم لها، بل إنها مما يوجب فسادهم لو نالوها! ، آيِسًا من

صلاح العالم؛ إذ يراهم لنقص قريحتِه ناقصي الاستعداد فاقدي القابلية، ويزعم أنه

لو كان لهم نوع من التهيؤ للإصلاح لأتمه لهم بسعيه واجتهاده.

ومن أغرب آثارها أن المتخلق بها مع كونه متصفًا بأرذل الأخلاق، وأشنع

الخصال - يعمى عن أنه متصفٌ بها، مثلاً يكون قسيَّ القلب، ويعتقد نفسه رحيمًا.

ومتكبرًا ويرى نفسه متواضعًا. وهكذا باقي الخصال مع أنه لو تلبس غيره بأدنى

رذيلة لأدركها وشد عليه النكير فيها، حتى إنك ترى كل واحد (كأنه) قد جعل

على إحدى عينيه نظارةً معظِّمةً (ميكرسكوب) ؛ ليقف على دقائق معايب معاشريه،

وعلى الأخرى نظارةً رَصدِيَّةً (تلسكوب) ؛ لئلا يفوته أعمال البُعداء عنه،

وعلى إحدى أذنيه موصلة الصوت (تليفون) ؛ لاستراق أخبار الناس كيلا يَعْزُب

عنه شيءٌ من نقائصهم، وعلى الأخرى حافظة الصوت (فنوكراف) ؛ ليستحفظ

قبائحهم؛ لئلا يغيب عنه شيءٌ منها، ويقتدر على استحضارها وقت الحاجة عند ما

يتحرك دولاب حقده وحسده، مع أن أقرب الأشياء إليه نفسه، وهو لا يرى شيئًا

من معايبها، فهو أعمى حديد البصر وأصم قوي السمع.

فتعسًا لها من خلة قضت على نوع الإنسان بالاختلال وسوء الحال، وآذنته

بالشقاء والعناء، وأوقعت الخبط في الأعمال، والخلط في الأقوال، ولبَّست الحق

بالباطل، والزائف بالصافي، والجيد بالرديء، وحسن القبيح، وقبحت الحسن،

وأبرزت المُعْوَجَّ مستقيمًا والمستقيم معوجًّا.

ومَن نظر بعين الحق، وسير الحقائق بنور البصيرة لا يجد لهذه الخِلَّةِ -

أعني اعتقاد كل كمالٍ لنفسه، ونظره إلى أعماله بعين الرضى - علةً وسببًا سوى

حب الذات الذي هو غشاوةٌ على عين العقل، تمنعه من استطلاع الحقائق على ما

هي عليه، ووقوفه عند حد الصواب في سير الأفكار، بل هو متغلِّبٌ على جميع

الإحساسات النفسانية، وحاكم على كلها بالتغيير، بل لا يختص حكمه بها؛ إذ

يتعدى إلى الإحساسات الطبيعية أيضًا، فإنك ترى مشوه الوجه مختل الخلقة رثّ

الثياب، الذي قد تجسدت عليه الأدران والأقذار - إذا نظر إلى صورته بهذه الصفة

الرديئة في مرآةٍ مثلاً، لا يشمئز، ولا يستنكر، وإذا وقع بصره على مَن بلواه في

ذلك أخف مِن بلواه - انفعلت نفسه، واستنفر واستبشع.

وهذا الوصف - أعني حب الذات الذي هو علة الشقاء والعناء - من

الأوصاف اللازمة لذات الإنسان ما دام موجودًا، فلا ينفك الإنسان عنه، ولا هو

يزايله، فإذن لا حيلة، ولا خلاص من بلاياه ونكباته إلا باستعمال الإنسان عقله

ورجوعه إليه في جميع أموره، والخروج من رِبقةِ عبوديةِ سلطانِ حب الذات،

ورفض أحكامه، وذلك أن يحكم على نفسه بما يراها عليه في مرآة غيره، لا في

مرآة نفسه، (ما أجملك أيها الإنسان المعجب في مرآة نفسك، وما أقبحك في مرآة

غيرك!) .

وهذا الذي ذكرناه هو العلاج الحقيقي، والوسيلة العظمى لوقوف كلٍّ عند حده،

وسعي كل لاستكمال نفسه، اللذين هما مدار السعادة.

ولسنا نذم حب الذات بجميع أنواعه؛ فإن منه ما قد يعود بسعادةٍ ما على

طائفةٍ من الطوائف، أو أمةٍ من الأمم، وهو حب الذات الداعي إلى طلب المحمدة

الحقة [3] وهو الذي يرتقي بصاحبه إلى توجيه أفكاره وأعماله نحو المصالح

العمومية، بدون أن يطلب في ذلك شيئًا سوى الحمد، وخلود الذكر، والسلام على

مَنِ اتبع الهدى، ورجَّح العقل على الهوى.

_________

(1)

هذا الأثر النفيس لأستاذنا موقظ الشرق رحمه الله تعالى كان فاتحة لكتاب (البيان في الانكليز والأفغان) الذي كان مما أملاه حكيمنا ونشر في جريدة (مصر) التي أصدرها بأمره الأديبان السوريان الشهيران سليم النقاش وأديب إسحق وكانت لسان حاله، ومظهر آرائه، وأقواله ثم طبع ذلك في كتاب مستقل بمطبعة جريدة مصر بالإسكندرية سنة1878، وكتب تحت الاسم هذه العبارة (لسيدنا آية الحكمة، مجلي الجمال والجلال، ومظهر محاسن الكمال، أستاذنا الفيلسوف الطاهر الأرومة، النسيب ابن النسيب، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله) وقد كان لمقالات (البيان) المذكورة تأثير في الأمة البريطانية، حتى ردت عليها جرائدها، فرد هو عليها ردًّا عرفت به عظيم شأنه وكان ذلك السبب الأول لمعرفة اسمه في أوروبا.

(2)

كان السيد رحمه الله يملي وقلما كتب بيده مقالاً وكان تلاميذه كاللقاني وأديب إسحق يكتبون كل ما يقوله في الكَلِم والأمثال العامية، التي يمزج بها الكلام عادة كهذه الجمل في الموضعين وكانت ذائعةً في معاشري الحكام من الترك، ولكن أكبرهم الأستاذ الإمام كان يتصرف في العبارة ويجيز له ذلك السيد.

(3)

الحق: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع.

ص: 37

الكاتب: محيي الدين آزاد

كتاب الخلافة الإسلامية

مُؤَلِّفُهُ باللغة الأوردية

مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية

مُتَرْجِمُهُ بالعربية

الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى

باب (الخلافة)

(الخلافة) : مصدرٌ من خلف يخلف خلافة، ومنها (الخليفة) من قولك

(خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده (ابن فارس) فالخليفة

(: هو الذي يخلف مَن قبله، ويقوم مقامه، إما بموته، أو عزله، أو غيبته، أو

نصبه إياه في منصبه وسلطته، وفي مفردات الإمام الراغب الأصفهاني:

(الخلافة: النيابة عن الغير، إما بغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه،

وإما لتشريف المستخلف) (ص155) .

وهذه الكلمة أيضًا من تلك المختارات اللغوية التي اختارها القرآن الحكيم،

فنقلها من معانيها اللغوية إلى المعاني المصطلحة الشرعية (كالإيمان والغيب

والتقدير والبعث والصلاة) وغيرها من الكلمات التي انتقاها من اللغة لمعنى

خاص به، فكلمة (الإيمان) مثلاً تُستعمل في اللغة لليقين، والطمأنينة، وزوال

الخوف، والشك، ولكن القرآن يستعملها في يقينٍ أخص من الأول، يصحبه إقرارٌ

باللسان، وعملٌ بالجوارح، فصارت اصطلاحًا خاصًّا، دالةً على معنى خاصٍّ به

دون دلالتها في اللغة.

وكذلك كلمة (الخلافة) كان معناها عامًّا في اللغة، فوضعها القرآن لمعنى

أخص من الأول، واستعملها (وكذلك الاستخلاف في الأرض، ووراثتها والتمكين

فيها) في العظمة القومية، والرئاسة المِلِّيَّة، والحكومة العامة، والسلطة التامة على

الأرض، ومَن فيها من الأمم والشعوب، ويعدها أكبر مِنَّةٍ، وجزاءٍ من الله سبحانه

تناله الأمم في هذه الحياة الدنيا على إيمانها وحُسن عملها.

أما المراد من هذه الخلافة: فهو أن تقوم في الأرض أمةٌ، وحكومةٌ تأخذ على

عاتقها هداية النوع البشري وسعادته، وتنشر لواءَ القسط الإلهي، وتمحق الظلم،

والجور، والضلال، والطغيان؛ حتى لا تذر له أثرًا على وجه البسيطة، وتمد

رواق الأمن والسكينة، والراحة، والطمأنينة على العالم بأسره، وتقيم ناموس

العدل الإلهي الذي يسميه القرآن (بالصراط المستقيم) الذي هو نافذ من الأرض

إلى السموات العلى، ومِن ذرات الرمل في الصحراء إلى الشمس، والقمر،

والنجوم، وما هو تحت الثرى، فتقيم ذلك الناموس في مشارق الأرض، ومغاربها،

وتنفذه في جميع بقاعها ونواحيها؛ حتى تصبح الكرة الأرضية جَنَّةً، ودارَ قرارٍ،

وتكون السعادة ضاربةً فيها بأطنابها، والأمنية باسطةً جناحيها من فوقها!

وإنما أُطلِقَ لفظُ الخلافة على هذه الخلافة المصطلحة؛ لأن أول أمةٍ، وأول

فردٍ لما قام في الأرض بأعباء الخلافة - كان نائبًا عن الله في إقامة عدله، ثم الذين

جاءوا بعد تلك الأمة، وذلك الفرد كانوا نائبين عنهم في هذا الأمر، حتى ظهر

الإسلام، وقامت الأمة الإسلامية، فانتقلت الخلافة الأرضية الإلهية إليها، فكان

أول خليفةٍ مِن هذه السلسلة المباركة صاحب الشرع المتين، ورسول رب العالمين،

محمد صلى الله عليه وسلم فكان خليفة الله العظيم مباشرة ثم الذين استووا بعده

على منصّة الحكومة الإسلامية المركزية، كانوا خلفاء هذا الخليفة الإلهي والنائبين

عنه في الدنيا؛ فلذا سُمُّوا الخلفاء، ولا يزالون يسمون به إلى الآن.

وقد تقلبت خلافة الأرض، ووراثتها في أمم كثيرة، قامت كلُّ واحدةٍ منها في

نوبتها بخدمة دين الله الحق، وقد ذكرت هذه الخلافة في الآيات الآتية:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) ، {وَيَسْتَخْلِفُ

رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود: 57) ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ

لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس: 14)، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: 69) ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: 26) .

وعبر عن هذه الخلافة (بوراثة الأرض)، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي

الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105)

وأيضًا (بالتمكِين في الأرض) وهو استفحال القوة، وكمال العظمة الذي ناله فتى

إسرائيل في أرض الفراعنة، بعد أن بِيعَ فيها عبدًا، ثم وصل إلى عرش الحكومة،

وتاج المُلك بعمله الحق وسيره القويم {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} (يوسف: 21) .

وقد وعد الله به سبحانه المسلمين فقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا

الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) .

وثبت أيضًا من هذه الآية أن الله تعالى إنما يريد من التمكين في الأرض أن

تقام عبادته فيها، ويعم الصلاح، والصدق، والهداية فيها، ويصد الإنسان العَنُود

عن غيِّه، وعمل المنكر.

وعبر في الآية الأخرى عن التمكين في الأرض (بالخلافة) فقال تعالى:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور:

55) .

نزلت هذه الآية العظيمة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأصحابه إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين من الكفار، ومحاطين بالأعداء من كل

جهة، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فضجر منهم رجلٌ من هذه

الحالة، وقال:(ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ !) ، فبشرهم

الله بهذه الآية أن لا يهنوا، ولا يحزنوا؛ فإنه لا يضيع أجر إيمانهم، وحسن

صنيعهم، فسينالونه بإذنه، ويأمنون أعداءهم، فيذهب الخوف ويحل محله الأمن،

ويصيرون ملوكًا وسلاطين، فيكون الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، وأكبر من ذلك

كله أن خلافة الله ستنتقل إليهم، فيرثونها، وتطمئن قلوبهم بها (ذكره الطبري

بالمعنى في تفسيره عن أبي العالية، ج 18 ص 109) .

وقد تضمن هذه الآية أن مراد القرآن الحكيم بالخلافة، إنما هو خلافة الأرض

أي الحكومة والسلطان فيها؛ فإذًا لا بد للخليفة الإسلامي من أن يكون صاحب الأمر

والنهي، والحكومة التامة؛ لأنه ليس كبابا المسيحيين، وبطاركتهم فأولئك سلطتهم

روحية، وهي خضوع القلوب، وانحناء الرُّءوس أمامهم، بل هو حاكمٌ وسلطانٌ

بالمعنى الحقيقي إلا أن سلطته يجب أن تكون تحت الشريعة الإلهية، وليس له حق

التشريع ألبتَّة [1] ، ولا أعطته الشريعة سلطةً دينيةً روحانيةً كما أعطت المسيحية

للبابوات؛ لأنها تُعِدُّ كل سلطةٍ لغير الله ورسوله شركًا به وكفرًا تمقته أشد المقت

وتمحقه من أول ظهوره [2] قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن

دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31)، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ

وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ

تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79) .

هذا، وقد وفى الله تعالى للمسلمين وعده بالخلافة، كما وفى جميع وعوده

وعهوده، فلم يمضِ بضع سنين - والرسول بين أظهرهم - إلا وأصبحت جزيرة

العرب في قبضة يدهم، وشوهدت جيوشهم خارجة من أسوار المدينة لمقاومة الروم

أعداء دينهم، وسبقت خلافة الأرض إليهم، بعد أن نزعت من غيرهم، فكان أول

خليفة منهم هو حامل الشريعة الغراء بنفسه صلى الله عليه وسلم، ثم الذين

قاموا في مقامه من بعده كانوا خلفاءه، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم

بتسميتهم (خلفاء) أنهم ينوبون عنه بعده، فقال للمسلمين: (عليكم بسُنتي وسنة

الخلفاء الراشدين من بعدي) (رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية) ؛ ولذا

سمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خلفه خليفة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم -.

***

الخلافة النبوية الخاصة والخلافة الملكية

انصبغت الخلافة الإسلامية بعد النبي عليه الصلاة والسلام بصبغتين

مختلفتين، وظهرت بمظهرين متباينين، وكان عليه السلام قد أخبر عنهما،

ورفع الستار عن خصائصهما، والأحاديث التي وردت في هذا الباب تكاد أن تكون

متواترةً لكثرةِ طرقِها، وشهرة متونها، فخلافة الخلفاء الراشدين المهديين كانت

مصبوغةً بصبغة الرسالة، وسائرةً على منهاج النبوة، فكانت خلافة الرسول حقًّا،

والخلفاء الراشدون خلفاءه حقًّا، لا في منصة الحكم والسلطان فقط، بل في جميع

أعماله وهدْيه، فكانوا مثله دعاة الدين، هداة الأمم، قضاة الشرع، قادة الشعوب،

ساسة البلاد، قواد الجيوش، إخوة الحروب، رايات الأمن، قد اجتمعت في

شخص كلِّ واحدٍ منهم صفاتٌ كثيرةٌ مما كان مجتمعًا في شخص سلفِهم وهاديهم

صلى الله عليه وسلم، فكانوا خلفاءه وحاملي شرعه، بل حلقةً من حلقات عهد

الرسالة، وبركةً من بركات زمن النبوة، حكومتهم حكومة إسلامية محضةٌ،

ونموذجٌ كاملٌ للنظام الإسلامي، فكانت (حكومة جمهورية) قائمةً على أساس

الشورى بالمعنى الصحيح غير أنها لم تدم كثيرًا، بل ماتت بموت علي - عليه

السلام - ودفنت معه في أرض الكوفة.

ثم ظهرت بعد هذه الخلافة الراشدة، خلافةٌ في حُلَّةٍ غير حُلَّةِ أختها منحرفةٌ

عن منهاج النبوة، منقطعةٌ عن مسلك الرسالةِ، فكانت حكومةً دنيويةً ومُلكًا

عَضَوضًا، وذلك عندما فشت البدع العجمية، وامتزجت بالمدنية الإسلامية العربية،

ولدت جراثيم الفساد في فضاء العالم الإسلامي، فهذه الخلافة - وإن كانت كل

حلقةٍ منها أشبه بالخلافة الراشدة من التي جاءت بعدها - لم تكن في مجموعها من

محاسن الخلافة الراشدة في شيءٍ؛ ولذا سميت الأولى على لسان النبي - صلى الله

عليه وسلم - بالخلافة لغلبة الهداية والصلاح عليها، والثانية بالمُلك العَضَوضِ

لظهور الاستبداد والقهر فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون

سنة، ثم ملك بعد ذلك) [3] وفي حديث أبي هريرة: (الخلافة بالمدينة، والملك

بالشام) [4]، وأخبر في حديث آخر بأن هنالك ثلاثة أدوارٍ: عهد نبوةٍ ورحمةٍ -

عهد خلافة ورحمة - عهد ملك وسلطان، فانتهى الدور الأول بالنبي - صلى الله

عليه وسلم - والثاني بعليٍّ عليه السلام كما مر وقد كان هذا الدور بالحقيقة

ذيلاً للأول وجزءًا لازمًا له، كما هو سنة الله في دعوة الأديان وتوثيق عرى

الشرائع، حيث يجعل الله لكل نبيٍّ خلفاء يقومون بعده بدعوته، ويوطِّدُون دعائم

شريعته، ثم جاء بعد هذا وذاك الدور الثالث، دور حكومة وملك عضوض، وهو

باقٍ على حاله إلى الآن، ولم يكن الصحابة يجهلون هذا الدور، ولا يستبعدونه،

بل كانوا يعرفونه، وينتظرون مجيئه لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياهم

به.

وقد كان هذا الدور أكبر مصيبةٍ ابتُلِيت بها الأمة، فبعد أن كانت ترتع في

رياض النبوة، وتجني ثمار الخلافة الراشدة آمنةً مطمئنةً، إذ نَعق ناعق الشر بينها،

وقُتِلَ الخليفة الثالث عثمان بن عفان بين يديها، فتقلص ظل هدي النبوة شيئًا

فشيئًا، وذهبت بركاتها واحدةً تلو واحدةٍ، وأخرجت البدع رءوسها، وزحفت الفتن

بخيلها ورَجلِها، فأحاطت بها من كل جوانبها، فكلما ابتعدت الأمة عن عهد الرسالة

حرمت نصيبًا من بركاته، وبركات الخلافة الراشدة، ولم يكن حرمانها محصورًا

في أمر الإمامة العظمى، والخلافة الكبرى فقط، بل تعداها إلى غيرها، فتغلغلت

جراثيم الفساد في هيكلها الاجتماعي، فزعزت نظامها وقوامها، ثم سرت إلى

حياتها الشخصية، فأفسدت عقائدها، وعواطفها ونفثت في أعمالها سمومها،

فغيرت من صغيرها وكبيرها، ولم تكن فتنة واحدة أو فتنًا قليلة محصورة فيسهل

اتقاؤها، بل سالت سيولٌ من الفتن، دهمت المسلمين بغتة، فماجت عليهم أمواجها،

وثقلت عليهم وطأتها، فكانت كما قال أعلم الصحابة بالفتن حذيفة - رضي الله

عنه -: (تموج كموج البحر) ، وبيَّن لهم أنه ليس بينها وبينهم سد إلا عمر بن

الخطاب رضي الله عنه -وأنه متى سقط هذا السد المنيع طغت تلك السيول

الجارفة، وبغت، فلم يقدر أحدٌ على صدّها، فما زالت حتى أخذت الخلافة النبوية

في تيارها، وحطمتها، وتركتها أثرًا بعد عين.

نعم، وقع ما وقع، إلا أن الأمة المسلمة قد بُشِّرت على لسان نبيها بأنها

سترى في آخر أيامها دور نجاحٍ وفلاحٍ، فتقر به عينها، وينشرح صدرها،

وتصلح أمورها، حتى (لا يدرى أولها خيرٌ أم آخرُها)[5] ، ويتم فيه نور الله

{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (الصف: 8)

إلخ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33)[6] ؛ ولذا لا يزال قلب المؤمن قويًّا برجاء الله،

مملوءًا باليقين، لم يخالطه ريبٌ، ولا دخله زيغٌ، ولا صادفه قُنُوطٌ ويأسٌ، حتى

في هذا الزمان الذي انصبَّت فيه على المسلمين المصائب، ونزلت بهم النوازل،

وزُلزِلُوا فيه زِلزَالاً شديدًا، بل كلما ازدادت العواصف شدَّةً، والليل ظُلمةً،

والأرض عداوةً - يزداد المؤمن رجاءً ويقينًا، ويبصر بعينيه نور الصبح الجميل

من بين هاتيك الظلمات، والغيوم والعواصف، ولسان حاله يقول: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ

الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 81) .

***

فصل

عهد الاجتماع والائتلاف ودور التشتُّت والانتشار

قبل أن نخوض في غمار هذا البحث نتكلَّمُ في هذا الفصل على كلمتين

مصطلحتين زيادةً في الإيضاح، وتفصيلاً للبيان، فنقول:

(الاجتماع والائتلاف) كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،

فيهما سر حياة الأمم ومماتها، نهوضها وهبوطها، سعادتها وشقوتها، (فالاجتماع)

من الجمع، وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض (مفردات ص95) ،

ويقرب منه (الائتلاف) من الإلف، اجتماع من التئام (والمؤلَّف ما جُمع من

أجزاء مختلفة، ورُتب ترتيبًا فقُدِّم فيه ما حقه أن يقدم وأُخِّر فيه ما حقه أن يُؤَخَّر)

(مفردات ص19) ، أما (عهد الاجتماع والائتلاف) فهو ذلك العهد الذي تجتمع

فيه القوى الاجتماعية الفعالة في مكانٍ واحدٍ، في نقطةٍ واحدةٍ في سلسلةٍ واحدةٍ، في

ذاتٍ واحدةٍ، وفي يدٍ واحدةٍ بترتيبٍ طبيعيٍّ لائقٍ بها، فتصبح كل المواد والقوى

والأعمال الاجتماعية، وأفراد الأمة مُتماسِكةًَ متشابِكةً؛ حتى لا نرى فيها خَلَلاً، ولا

خَرقًا ولا فَتْقًا، بل تجدها كلها كحلقات السلسلة التي التحم بعضها مع بعضٍ،

فأضحت شيئًا واحدًا.

فدور الاجتماع والائتلاف إذا جاء على المادة، ظهر فيها الخلق، واستعدت

للحياة ، وعبَّر القرآن عن هذا بالتخليق والخلق والتسوية (فقال: {الَّذِي خَلَقَ

فَسَوَّى} (الأعلى: 2) ، فالوجود والحياة ليس إلا اجتماع أجزاء المادة مؤتلفة،

وكذلك الموت والفناء ليس إلا تفرقها وتشتتها، وإذا جاء على الأعمال سماه علماء

الأخلاق) بالخير (وسمته الشريعة) بالعمل الصالح والحسنات (، وإذا جاء على

الجسم سماه علم الطب (بالصحة) ، وقال الطبيب هذه حياة، ثم إذا جاء على

القوى والأعمال الاجتماعية القومية سمي (بالحياة الملّية الاجتماعية) ، وكان

موجبًا لنبوغ الأمة ونفوذها وسلطانها، فالعبارات مختلفةٌ كثيرةٌ، والحقيقة واحدةٌ،

لا تتعدد ولا تتبدل، ولا غَرْوَ فإن الله الحكيم واحدٌ منفردٌ وحكمته واحدةٌ وناموسه

واحدٌ ولَنِعْمَ ما قيل:

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكلٌّ إلى ذلك الجمال يشيرُ

وضد الاجتماع والائتلاف (التشتت والانتشار) فالتشتت من (الشتات) ،

ومعناه في اللغة: التفرق، يُقال شتّ جمعهم شتًّا وشتاتًا وجاؤوا أشتاتًا أي متفرقي

النظام (مفردات ص 256) وفي القرآن: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} (الزلزلة: 6)، {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} (طه: 53) {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:

14) أي مختلفة، والانتشار من النشر، وهو أيضًا التفرق والبسط كما في القرآن

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10) .

وأما دور (التشتت والانتشار) : فهو أن تتفرق المواد، والقوى، والأعمال

والأفراد، فيصير كل شيء على ضد ما كان عليه في عهد الاجتماع، فإذا عرضت

هذه الحالة للمادة قيل (فسادٌ وانحلالٌ) ، وللجسم قيل (مرض وداء ثم موت) ،

وللأعمال قيل في تعبير القرآن (عمل السوء والعصيان والفسق والإجرام) ،

وللأمم قيل: (الموت الملي، والموت الاجتماعي) ، فتصبح الأمة في هذا الدور

في هبوطٍ بعد الصعود، وذلةٍ بعد العزة، وضعفٍ بعد القوة، وعبوديةٍ بعد الحرية

والسيادة، ثم تسير إلى الموت والهلاك بعد أن كانت صحيحة ًقويةً حيَّةً، فيا له من

بلاءٍ ليس فوقه بلاءٌ، والعياذ بالله!

ولذلك تجد القرآن ينبه مرة بعد مرة على أن (الاجتماع والائتلاف) الأساس

الأكبر لحياة الأمم، ويعده أكبر نعمة من الله سبحانه على البشر، ويعبر عنه

بالعبارات العظيمة الشأن (كالاعتصام بحبل الله) وغيره، ويقول للأمة:

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) ثم يخبر بعد هذا

بأن لا حياة مع التشتت والانتشار، فإنه نارٌ موقدةٌ تحرق كل شيءٍ يقربها، ولا

سيَّما شجرة الحياة الاجتماعية، فإنها إذا مستها لا تُبقِي عليها ولا تَذر، فقال تعالى:

{وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) ، ثم يخبر بأن الحياة الاجتماعية في الأمم ليست من تدبير

البشر [7] ، فمهما بلغ الإنسان من القوة، والعظمة والعقل - لا يقدر على أن يكون

أمةً، بل هو الله الواحد القادر، يجمع الأشتات فيؤلف بينها ويسلكها في نظام واحد،

فقال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ

إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) .

وأخبر القرآن أيضًا بأن أول ثمرةٍ تثمرها الشريعة الإلهية، وأعظم بركة

تجود بها على النوع الإنساني في الدنيا هي (الاجتماع والائتلاف) ، وكرر مرةً

بعد أخرى أن التفرق، والتشتت، والانتشار لا يجتمع مع الدين أبدًا، وأنه عاقبة

الإعراض عن الله، وعصيانه، والبغي عليه، فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ

أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى

جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (يونس: 93) {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ

بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: 17) .

ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام والحياة الإسلامية في

الجماعة، وعدَّ الخروج عنها من الجاهلية، والحياة الجاهلية، فقال: (مَن فارقَ

الجماعةَ فمات فمِيتَتُهُ جاهليَّةٌ) (كما ستراه مفصلاً إن شاء الله) ، وأمر المسلمين

أمرًا مؤكدًا بالتزام الجماعة في كل حال، وبطاعة الأمير سواءً كان برًّا أو فاجرًا،

أهلاً للإمارة أو غير أهل، عادلاً في حكمه أو ظالمًا، كيفما كانت سيرته، ومهما

فسدت طريقته يجب عليهم طاعته، ولا يجوز لهم الخروج عليه، إلا أن يَمرُقَ مِنَ

الدين جهارًا، أو يترك الصلاة؛ فحينئذٍ لا طاعة له عليهم [8] ، وأخبر أن كلَّ من

تَنَكَّبَ عن الجماعة شبرًا فقد كُبَّ على وجهه في النار، وجعل زمامه بيد الشيطان،

وقضى على نفسه بالخسران والهلاك؛ وذلك لأن الجماعة كالسلسلة الفولاذية التي

يعيي الأشداءَ كسرُها، وآحاد الأمة كالحلقات التي سلامة كل واحدةٍ منها في سلسلتها؛

فإنها إن انفصلت عنها صارت حلقةً واحدةً تُكسرُ أو تُلقى في الزُّبالةِ.

ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرًا ما يروي

في خُطبهِ: (عليكم بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الفَذِّ، وهو من الاثنين أبعد) ،

وفي رواية: (

فإن الشيطان مع الواحد) ، وقد ذكره في خطبته الشهيرة

بالجابية، التي رواها عبد العزيز بن دينار وعامر بن سعد وسليمان بن يسار

وغيرهم ونقل البيهقي أن الشافعي رضي الله عنه كان يستدل بهذا على صحة

الإجماع، وورد في الحديث المتواتر بالمعنى -:(عليكم بالسواد الأعظم) ،

وحديث: فإنه مَن شذَّ شذَّ في النار) وحديث: (يد الله على الجماعة) وحديث:

(لا يجمع الله أمتي على الضلالة) ، وكما قال عليٌّ عليه السلام في خطبة

له: (إياكم والفُرقة؛ فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب،

ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه) [9] ، وغير هذا

كثيرٌ من الأحاديث والآثار في هذا الباب.

فجملة القول أن المسلمين أُمِروا أمرًا مؤكدًا بأن يكونوا مع الجماعة أبدًا؛ لأن

مَنِ انقطع عنها انقطع في النار؛ ولأن الأفراد والآحاد المتفرقة لا حياة لهم، بل

إنما هم للموت، والفناء، والهلاك، وأما الأمة الصالحة فحياتها باقيةٌ على وجه

الدهر، ولن تهلك أبدًا؛ ولأن يد الله مع الجماعة، وهو لا يرضى أن تجتمع الأمة

بأسرها على الضلالة.

ولتعويد المسلمين على الحياة الاجتماعية [10] أمرتهم الشريعة بالتزام صلاة

الجماعة في كل حالٍ، حتى إنها لا تُترك لفقدان الإمام الأهل للجماعة، بل يداوم

عليها مع السعي في نصبِ الأهلِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا خلف كل

بَرٍّ وفاجِرٍ) [11] .

ولذلك نرى سورة الفاتحة التي هي دعاءٌ اجتماعيٌّ للمؤمنين عامَّةً يدعو بها

كلُّ واحدٍ منهم على حدته - استعملت فيها صيغ الجمع لا الواحد، فقال: {اهْدِنَا

الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6)، ولم يقل:(اهدني) ؛ وذلك لأن القرآن -

كما قلنا من قبل - لا يَرَى للفرد حياة قائمة بالذات، بل الحياة عنده للجماعة فقط،

وما الأفراد وأعمالهم - في نظره - إلا لأن تتكون منهم، ومنها الهيئة الاجتماعية؛

فلهذا عبر بصيغ الجمع في هذا الدعاء الذي هو حاصل الإيمان، وزبدة القرآن،

ومخ الإسلام - وكذلك جعل الدعاء الذي يدعو به كل مسلم لأخيه لما يلقاه: (السلام

عليكم) بالجمع، لا (السلام عليك) ، وكذلك السلام حين الخروج من الصلاة،

والعلة فيه أيضًا ما ذكرناه، لا ما فهمه كثيرٌ من الناس.

وإنك إذا أمعنت النظر ترى جميع أحكام الشريعة وأعمالها - مبنيةً على هذا

الأساس، أساس الاجتماع، والائتلاف، وقد علمت ما في صلاة الجماعة،

والجمعة والعيدين، ومثلها الحج، فليس هو إلا عبارةٌ عن اجتماع المسلمين (على

أحاديث شعائر الله) ، وكذلك الزكاة التي ما جُعلت إلا لقيام الهيئة الاجتماعية،

فيؤخذ مِن رءوس أموال الأفراد شيءٌ مُعَيَّنٌ؛ ليُصرَفَ على الجماعة، وطريقة

أدائها أيضًا اجتماعية، فليس لكل أحدٍ أن يصرف زكاته بمشيئتِه وإرادته، بل عليه

أن يؤديها إلى الإمام الذي له وحدَه أن ينفقها في الأمور العامة، ويعين لها مصرفًا

مِن المصارف المنصوصة في الكتاب، لا كما يفعله الناس في الهند فينفق كلُّ واحدٍ

زكاته بنفسه، نعم ليس في هذه البلاد التعسة إمامٌ، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نعمل

لها نظامًا مخصوصًا كما عملنا للجمعة والعيدين.

ولعمر الله إن هذه الحقيقةَ واضحةٌ لا غُبار عليها، تنجلي كالشمس لمَن دقق

النظر في الأحاديث النبوية التي تنص على أن المسلمين يجب أن يعيشوا عيشةً

واحدةً، ويحسبوا أنفسهم أبناء أمةٍ واحدةٍ؛ فانظر مثلاً حديث مُسلمٍ: (مَثَلُ

المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى

منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وحديث الصحيحين:

(المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشُد بعضه بعضًا، ثم شبّك بين أصابعه) ، فأوضح

صلى الله عليه وسلم أن المسلمين ليسوا آجُرًّا أو حجارةً متفرِّقةً، بل هم جِدارٌ، بل

حِصنٌ مُشيَّدٌ يشد بعضه بعضًا، ولا يذهبنَّ عن بالك أن الأمر بتسوية الصفوف في

الصلاة إنما هو لنفس هذه الحكمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو

ليخالفنَّ الله بين وجوهكم) (البخاري) وفي رواية السنن: (سوُّوا صفوفكم؛ فإن

تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) (البخاري) ، ومثلُهُ كثيرٌ من الآيات،

والأحاديث في هذا الباب، يحتاج في شرحها وبيان حقائقها إلى مجلدٍ ضخمٍ، وقد

وفينا البحث حقه في تفسيرنا (البيان في مقاصد القرآن) ، فليراجعْهُ مَن يشاءُ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الشارع في دين الإسلام هو الله تعالى ويطلق اللقب على النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار التبليغ وقال بعض العلماء. إن الله تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أن كل ما ثبت في السنة من الأحكام فهو إما استنباط من القرآن، وإما وحي غيره، فإن الوحي لا ينحصر فيه، والتحقيق أن هذا التفصيل خاص بالأحكام الدينية كالعبادات، وأما الأمور المدنية والسياسية والحربية فقد كان صلى الله عليه وسلم يحكم فيها ويسن برأيه واجتهاده، ومشاروة أولي الأمر من عقلاء المسلمين وزعمائهم بالمكانة، والرأي وجمهور الأمة، وقد أذن له تعالى بهذا، ولأولي الأمر بعده بالتبع له كما حققناه بالتفصيل في تفسير:[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ](النساء: 59) وهذا يسمى تشريعًا في عرف علماء الحقوق وواضعي القوانين، وبه يبطل قول الجاهلين بشرعنا إنه شرعٌ جامدٌ لا ينطبق على كل زمانٍ.

(2)

الكاثوليك من النصارى يقولون بأن من حق البابا أن يكون حاكمًا سياسيًّا مدنيًّا أيضًا.

(3)

رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن حبان بسند صحيح، وفي رواية:(ثم تكون ملكًا عَضُوضًا) .

(4)

رواه البخاري في تاريخه والحاكم بسند صحيح.

(5)

إشارة إلى حديث: (أمتي أمة مباركة لا يُدرَى أولها خير أو آخرها) رواه ابن عساكر عن عمر بن عثمان مرسلاً، وسنده حسن.

(6)

كان شيخنا الأستاذ الإمام يقول: (إن هذا الوعد لما يتم ولا بد من تمامه بظهور الإسلام على سائر الأديان في أوروبا وأمريكة والشرق الأقصى) .

(7)

ليس المراد أنه لا ينبغي لزعماء الشعوب والأقوام المتفرقة أن يسعوا إلى تكوينها وجعْلها أمةً عزيزةً لعجز البشر عن ذلك، بل المراد أن هذا التكوين للأمم قد جُعل بسنة الله تعالى في الاجتماع أثرًا وغاية لأعمال أطوار كثيرة، بعضها من كسب الأفراد، وبعضها ليس من كسبهم، فلا تقع بتدبيرهم، ولكن عليهم أن يعملوا ما في طاقتهم مِن وسائلها، ويَكِلوا إلى عناية الله تعالى - إنجاح سعيهم وإتمام عملهم.

(8)

(إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق) ، كما صح في الحديث، وأجمع عليه المسلمون وصرح الخلفاء الراشدون على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم بمطالبة المسلمين بتقويم زيغهم وعوجهم، وإنما يمتنع عند علماء أهل السنة الخروج على الإمام الجائر إذا كان يُخشَى مِن الخروج عليه فتنةٌ تفرق الأمة، وشق عصاها لضعف القائمين بذلك من الأمة وإذا كان المؤلف قد وعد بتفصيل القول في المسألة فإننا منتظرون ما يجيء به، فإما أن نقره، وإما أن نذيّله بحاشيةٍ، نبين فيها ما نرى أنه الحق، كما بيناه في المنار مرارًا.

(9)

رُوي هذا في الروايات الأخرى مرفوعًا اهـ من حواشي الأصل.

(10)

تقديم التعليل يفيد الحصر، ولا حصر، ففي صلاة الجماعة فوائد أخرى.

(11)

رواه البيهقي في سننه بسند ضعيف، وله تتمة.

ص: 45