المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (28)

- ‌شعبان - 1345ه

- ‌فاتحة المجلد الثامن والعشرين

- ‌تعدد الزوجات

- ‌استقلال مملكة ابن السعود

- ‌البناء على القبورومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌سياسة الإنكليز في الشرقوزعماء العرب

- ‌إثبات شهر رمضان

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رمضان - 1345ه

- ‌حكمة تعدد أزواج النبي ص

- ‌مال الزكاة لإعانة المدارس الخيرية الإسلامية

- ‌سماع الغناء والتلاوة من آلة الفونغراف

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى(2)

- ‌مشروع بريطاني جديد لتنصير جزيرة العرب

- ‌تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية

- ‌آثار المساجد في إصلاح الأمة

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌شوال - 1345ه

- ‌حكم بناء فنادق المسافرينوإجارتها لغير المسلمين

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى(3)

- ‌نساء العرب السياسيات

- ‌خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي

- ‌البيت الحرام وسدنتهبنو شيبة وحقوقهم ، والهدايا له ولهم

- ‌دعوة مفسدي الرافضةيحيَى إلى قتال ابن السعود

- ‌حجاج الشيعة الإيرانيين ومصر

- ‌لا بد من قتل صاحب المنار

- ‌ر - 1345ه

- ‌استفتاء في فتوى وطلب إقرارها وتصحيحها

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى(4)

- ‌السعي لمنع الحج ومفاسد البدع

- ‌الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك

- ‌مسألة نفقات مؤتمر الخلافة في مجلس النواب

- ‌صاحب المنار وجريدة السياسة

- ‌ذو الحجة - 1345ه

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌قرار النيابة العامةفي قضية الدكتور طه حسين

- ‌ما يسمى النهضة النسائية بمصر

- ‌الشيخ أحمد عباس الأزهري البيروتيوفاته وترجمته

- ‌المسلمون في أميركا يطلبون أستاذًا من الأزهر

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌الحج في هذا العام

- ‌صفر - 1346ه

- ‌أسئلة من البحرينفي الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي

- ‌الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربيةعند خواص أمريكا

- ‌أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار

- ‌أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين

- ‌مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة

- ‌ربيع الأول - 1346ه

- ‌خيرية القرون الثلاثة مع وقوع الفتن فيها

- ‌زكاة الفطر وقت وجوبها وحكم تعجيلها

- ‌حظر أخذ العلم الشرعي من الكتب بدون توقيف

- ‌الصريح والكناية في الطلاقوكتاب الرجل بطلاق امرأته

- ‌الطلاق الثلاث باللفظ الواحد

- ‌كيف تنهض اللغة العربية(2)

- ‌دعاية المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية

- ‌بول الصبي وبول الصبيةحكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائيالأحاديث التي وردت فيهما

- ‌الاحتفال الخمسيني لدار العلوم

- ‌ربيع الآخر - 1346ه

- ‌حل أموال أهل الحرب

- ‌المراد بالطعن في الدينوكون مخالفة القرآن كفرًا

- ‌سعد زغلول(1)

- ‌أول كتاب من سعد إلى الأستاذ الإمام

- ‌معاهدة جدةبين جلالة ملك بريطانيا وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

- ‌الكتابة أو الخطوثيقة شرعية يجب العمل بها

- ‌زيارة القبور للتبرك

- ‌تقريظ الأستاذ الكبير صاحب الفضيلة الشيخ:مصطفى نجا - مفتي بيروت

- ‌حفلة التأبين الكبرى

- ‌شعر في وصفة طبية قديمةجواب عن سؤال

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌جمادى الأولى - 1346ه

- ‌سمت القبلةوأدلتها وأقواها بيت الإبرة والقطب الشمالي

- ‌تعريف الأمراض بالأوهاموسؤال عن 3 أحاديث

- ‌الاعتماد على كتب ابن تيمية والطاعن فيه

- ‌افتراء عقائد في عالم الغيب

- ‌طلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌رسالة من يحيى محمد البكري

- ‌التمدن الآثم، القاضي مترنيخ، تلقيح القضاء المصري

- ‌لماذا دخلت في الإسلام

- ‌سعد زغلول(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌رجب - 1346ه

- ‌أسئلة من تونس

- ‌الإصلاح الحقيقيوالواجب للأزهر والمعاهد الدينية [*]

- ‌نظرة عامة في حالة الإسلام

- ‌رحلة جلالة ملك الأفغان (أمان الله خان)

- ‌جمعية الشبان المسلمين

- ‌وفيات الأعيان

- ‌تفسير:] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [[*]

- ‌خاتمة المجلد الثامن والعشرين من المنار

الفصل: ‌رمضان - 1345ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الثامن والعشرين

وفيها بيان علاقتنا بالإمام عبد العزيز

ملك الحجاز وسلطان نجد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم

خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الصالحين المصلحين، والتابعين لهم في ذلك إلى

يوم الدين.

أما بعد: فقد تم للمنار سبعة وعشرون مُجلَّدًا صدرت في مدى 30 سنة

هجرية (توافق 29 سنة شمسية) إذ عجزنا عن إصداره في كل شهر من سني

الحرب العظمى، وما تلاها من سِنِي الغلاء والعسرة، التي تضاعفت فيها النفقات،

وكثرت أفراد الفصيلة العامة، وتكونت الأسرة الخاصة، ونضبت الموارد التي

كانت تسِحُّ من الخارج، وشحَّت الموارد التي كانت تنبجس في الداخل، ولم يتم لنا

لمُّ الشعث إلا منذ عامين ونصف عام، وتلاه بفضل الله تنظيم العمل بأحسن مما كان

منذ كان، وما أضعنا على المشتركين شيئًا بهذا الإدغام؛ لأننا نتقاضى قيمة

الاشتراك بحساب الأجزاء لا بحساب الأعوام؛ ولكن من لا وفاء لهم قد اتخذوا

عجزنا عن إصدار المنار في كل شهر من سني العسرة حجةً على هضم حقنا،

ونحن ما زلنا نكلهم إلى وجدانهم، واستفتاء قلوبهم، وهداية إيمانهم، وحسابهم على

الله تعالى، فهو يقضى بالحق بيننا وبينهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

على أننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في القابل لاستدراك ما نقص من المجلدات

عن عدد السنين إلى أن يتفقا في العدد، وأن يعيننا على إكمال النظام في العمل،

والزيادة من الفوائد في العلم، وأن يوفق قراء المنار لمساعدتنا على ذلك بحسن

الوفاء، ولا يحقق معنى الاشتراك إلا تعجيل الأداء، وقد اقترح علينا بعضهم أن

نزيد في أبوابه مباحث في الآداب، والتاريخ، وبعض الفنون الحديثة، ومنهم من

يريد بذلك ترويجه، وكثرة سواد المشركين فيه، ورأيهم هذا صحيح، وإننا على

علمنا بصحته كنا نختار أن تملأ صفحات المنار بما لا تكاد الأمة تجده في غيره من

الصحف إلا قليلاً، ونحن نستفتي جمهور القراء في ذلك، ونعمل بما يراه الأكثرون

أقوى حجةً، وأقوم قيلاً، وإن كانت فائدته المالية أقل، وقد بينا في فاتحة السنة

الأولى أننا فيما اخترناه من الخطة الإصلاحية لا نرضي إلا القليل من الناس {وَإِن

تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) لو أنشأنا

المنار لأجل الكسب؛ لما اخترنا هذه الخطة، أو لما اقتصرنا عليها.

لو كنا نعمل للمال؛ لاتبعنا أهواء الجماهير في اختيار الهزل على الجد،

وإيثار الإفساد على الإصلاح، وترجيح أهواء الناس على هداية كتاب الله، ولهو

الحديث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصور القِيَانِ والراقصات،

والبغايا، والممثلات، ومن وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كوشف به

من أنباء الغيب بالكاسيات العاريات، المائلات المميلات، وما دون ذلك من

المسليات، وصور الحيوانات والحشرات، وغرائب الآلات والمخترعات التي

يصورها أهلها لأغراض عليمة صناعية، وتجارية، ونصورها للَّهو، والتسلية.

أو لو كنا نعمل للمال؛ لصانعنا رجال المال من الأفراد والجماعات،

كالأحزاب والحكومات، ولوجد من الحجج علينا في ذلك ما لا نستطيع رده، ولا

كتمانه، ونحمد الله تعالى أننا لم نسلك طريقًا في الإصلاح الخاص بالحكام الباذلين،

والأمراء والملوك والسلاطين، وجماعات الدينيين والسياسيين، إلا كان نقصًا في

دنيانا، وكمالاً في شرفنا وديننا، وانتهى الجماهير فيه إلى رأينا، وفي مقدمتهم

الذين كانوا ينكرونه علينا، تلك سيرتنا في نقد الحكومة الحميدية، ثم في التشنيع

على الجمعية الاتحادية، وخليفتها الحكومة الكمالية، وفي جهاد الملك حسين بن

على ، وأولاده، وفي إنكارنا على متعصبي المذاهب من الشيوخ الجامدين، ورجال

الطرق الخرافيين.

نعم إنه قد عرضت في هذه الأيام شبهة علينا في تأييدنا للحكومة السعودية،

والطريقة الوهابية، فتحدث بعض الذين لا يعقلون أنه يوجد في البشر أحد ينصر

عقيدة دينية، أو يؤيد طريقة إصلاحية إلا لأجل منفعة شخصية، بأننا نأخذ من ابن

السعود أجرًا على تأييدنا لحكومته، والدفع عن قومه، وشيعته، ثم تجلى هذا

التصور في صورة الواقع، وظهر هذا الرأي في مظهر الرواية، فصدقه من رآه

من الناس معقولاً، حتى إن بعض كبار علماء الأزهر قال لي في مجلس من مجالس

الخواص في هذه الأيام: يقال: إنك أخذت من ابن السعود خمسة آلاف جنيه - فقال

أحد كبار الوجهاء الحاضرين: بل أنا سمعت في أوربة أنه أخذ منه عشرة آلاف

جنيه، وليس هذا بكثير، فإن فلاناً خدم ابن سعود وقومه منذ سنين خدمة لا تكثر

هذه المكافأة عليها، فما كان أحد يسمع في هذا الرجل، ولا في هؤلاء القوم كلمة

خير قبل مقالاته الرنانة في مناره، وفي بعض الجرائد اليومية.

***

الوهابية ودعوة المنار إلى مذهب السلف:

أقول: لو صح ما تخيله هؤلاء معقولاً؛ فخالوه أمرًا مفعولاً، فأحدثوا فيه قالاً

وقيلاً - وما هو بصحيح -؛ لما صح أن يجعل حجة على أن المنار أنشئ لجمع

المال، لا يبالي أجمعه من حرام أو حلال، وإنما كان يعد مساعدة على خطة دينية

قديمة في خدمة الإسلام وهدايته، كما يدعو إلى فنون العصر، وسنن الخلق في

سياسته، وقوته، ولم يكن في ذلك الوقت ملك، ولا سلطان نتهم بالطمع في

مساعدته، بل لم نكن يومئذ نعلم أن الوهابية يعتصمون بمذهب السلف، بل كنا

نصدق الدعاية التركية التي أذيعت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث عشر

للهجرة النبوية، وجددها السلطان عبد الحميد منذ أوائل القرن الرابع عشر لأسباب

سياسية من أن الوهابية فرقة مبتدعة معادية للسنة وأهلها.

وأول رجل سمعت منه أن هؤلاء الوهابية قوم مصلحون أرادوا إعادة هداية

الإسلام إلى عهدها الأول، وأنه كان يرجى أن يجددوا مجد الإسلام والعرب، هو

محمد مسعود (بك) المصري الكاتب المؤلف المشهور، ثم قرأت ما كتبه في

نشأتهم مؤرخ عصر ظهورهم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري، ثم ما كتبه

محمود فهمي المهندس المصري في تاريخه (البحر الزاخر) ، وصاحب

(الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى) ، ثم ما كتبه الشيخ عبد الباسط

الفاخوري مفتي بيروت في (تاريخ الإسلام) له، كما أنه أتيح لي الاطلاع في

أثناء ذلك على كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات للشيخ الإمام المجدد الشيخ

محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم على غيره من كتبهم بالتدريج، وأطلعت

شيخنا الأستاذ الإمام على كتاب التوحيد وكشف الشبهات، فأثنى عليهما، ورأيته

موافقًا لرأي محمد مسعود، وأنه لم تظلم طائفة من المسلمين في التاريخ بمثل ما

ظلم به هؤلاء القوم، على كثرة طعن أعوان الدول، والمذاهب بعضهم في بعض.

وكنت أسمع من والدي قبل هجرتي إلى مصر شيئًا مما افتراه على الوهابية

أحمد زيني دحلان، وأمثاله من صنائع شرفاء مكة، والترك، وثناءً على محمد

علي باشا الذي أخرجهم من الحجاز بالدين والتقوى، وأنه كنس الكعبة المعظمة،

ومرغ لحيته بها، أو بكناستها.

وفي شهر صفر سنة 1320 احتفل ديوان الأوقاف العامة بمرور مائة عام

على تأسيس محمد على باشا للإمارة المصرية، واحتفلت به مشيخة الأزهر في

الجامع الأزهر؛ فانتقدت ذلك في المنار من حيث صرف أموال الأوقاف الإسلامية،

وتزيين المساجد بذكر أمراء الدنيا، وسلاطينها، والأوقاف إنما وقفت؛ للتقرب

إلى الله تعالى، والمساجد إنما أُنشِأَت؛ لذكره تعالى، وعبادته.

وذكرت يومئذ حرب محمد علي للوهابية، واعتقاد عموم المسلمين الجاهلين

بالتاريخ أنها كانت خدمة للإسلام، واعتقاد الخواص العارفين أنها جناية عليه،

وبينت فيما كتبته ما كنت وقفت عليه من حقيقة أمر الوهابيين في اتباعهم للسلف،

واعتصامهم بالسنة، وسبب الطعن فيهم - وكل ما كتبته في هذه السنين الأخيرة

يدور حوله لا يزيد في بيان حقيقتهم عليه، فأنا أدافع عن الوهابية، وأثني عليهم

منذ ربع قرن.

كتبت ذلك يومئذ لوجه الله، وخدمة للإسلام، وأنا لا آمن إيذاء أمير البلاد لي

على ذلك - وقد فعل بقدر الإمكان في ذلك الزمان - وما كنت أرجو أن يكون لي

تجاه هذا الإيذاء أدنى نفع من أحد من الوهابيين، ولا أدري أن لهم أميرًا يحسن أن

أرسل إليه ما كتبت عنهم، وقد صار للوهابيين حزب كبير في القطر المصري من

نجباء علماء الأزهر، وغيره من المعاهد الدينية، وغيرها بإرشاد المنار لا تشوبه

أدني شائبة دنيوية.

***

علاقتنا بصاحب نجد وسببها:

بعد هذا التاريخ ببضع سنين بدأت المكاتبة بيني، وبين الأمير عبد العزيز بن

السعود في مسألة العرب، وجزيرة العرب ، ووجوب الولاء والتحالف بين أمرائها؛

لأجل حفظها من تدخل الأجانب، وإعلاء شأنها بالعمران، والثروة، والقوة - كما

كاتبت في ذلك نفسه الإمام يحيى بن حميد الدين، والسيد محمد علي الإدريسي

(رحمه الله تعالى) ، وأرسلت رسلاً إلى كل منهم، وأنفقت في هذه السبيل مالاً

يعد كثيرًا عليَّ، وأذكر أن في أول كتبي إلى ابن السعود إنكارًا شديدًا على شيء

بلغني عنه عاتبني عليه بأنه لا يقبل مثله من غيري، وإنما قبله مني لِمَا بلغه من

خدمي للسُنَّةِ، واعتقاده أنه صدر عن إخلاص الله تعالى، وتَحَرٍّ لخدمة الإسلام

والعرب.

أجابني كل واحد من هؤلاء الأئمة باستحسان ما دعوتهم إليه، إلا أن الإمام

يحيى استثنى الاتفاق مع جاره الإدريسي مُعَلِّلاً ذلك بأنه كان قد عقد معه اتفاقًا؛

فغدر، (وحالف أعداء الله الطليان) ، وأما الإمام عبد العزيز السعود، فرغب إليَّ

أن أرسل إليه رسولاً بصيرًا عارفًا؛ ليشرح له هذا المشروع من الوجهة الشرعية

والسياسية؛ لإقناع أهل الحل، والعقد من قومه به - وقد أرسلت إليه رسولاً،

وحمَّلتُهُ صندوقًا من الكتب الدينية، وغيرها هدية للإمام، وفي أثناء ذلك استَعَرَت

نار الحرب العامة الكبرى، فتعذَّر وصول الرسول إلى نجد، وأخذ منه صندوق

الكتب في (بمبي) من ثغور الهند، أُخِذَ لأجل تفتيشه، ثم لم يعرف عنه شيء،

ولعلهم أحرقوه.

ثم قضت الحرب الكبرى بانقطاع المراسلة بيني، وبين أمراء العرب

المذكورين، وكان من أحداثها دخول أمير مكة الشريف الحسين بن علي في حلف

البريطانيين، وكنت قد بلغته مشروع الاتفاق الحلفي بين أئمة الجزيرة بمشافهة ولده

الشريف عبد الله في مصر أطلع طِلعَه فيه، وقد استحسنه، ووعد بإقناع والده به،

وكان من عواقبها أن صار حسين ملكًا سماه الإنكليز، وأحلافهم ملك الحجاز،

وسمى نفسه ملك العرب، وقد أظهرنا له الولاء؛ لأجل إقناعه بإتمام مشروع

الاتفاق الحلفي مع سائر الأمراء، فلما تعذر ذلك، وسار في الحجاز تلك السيرة

السوءى اضطررت إلى مقاومته بما علمه القراء، وغير القراء، وكان قد جدد

الدعوى إلى الطعن في دين الوهابية، وتنحل لنفسه دعوى الإمامة الرافضية

الباطنية، وأقامها في مقام التشريع الذي يراه إرثًا للهاشمية العلوية، فأريناه أن بني

عمه من أنصار السنة فيهم رماح، وكلنا له الصاع عدة أصواع.

ثم إنني عدت بعد الحرب إلى دعوة إمامي اليمن ، ونجد إلى الولاء، وأفتيت

في أواخر سنة 1341 بوجوب إنقاذ الحجاز من إلحاد حسين بالظلم فيه، وجعله

قطرًا حرًّا حياديًّا بضمان العالم الإسلامي كله، وكتبت في ذلك مقالاً طويلاً نشر في

بعض الجرائد اليومية، وفي المنار (ج 8 م24) بينت فيه أن المخاطب بالقيام

بهذا الواجب أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية، وأن أولاها بذلك أقربها إلى الحجاز،

ومن جُمَلِهِ: (إن كلاًّ من إمام اليمن وسلطان نجد قادر على إنقاذ الحجاز من هذا

الرجل، فكيف إذا اجتمعا) ، ثم بينت سبب امتناع كل منهما، وأنه إن لم تفعل

الحكومات ذلك؛ فالواجب على العالم الإسلامي أن يسعى له بتأليف جمعية إسلامية

وضعنا لها نظامًا بمساعدة بعض الأصدقاء، ونشرناه في المنار.

ولم أكتف بالنشر بل سعيت سعيًا سريًّا لحمل الإمامين يحيى، وعبد العزيز

على الاشتراك والتعاون على ذلك، وإلا فليقم به أحدهما على انفراد.

ثم تصدى الثاني لأداء هذه الفريضة للأسباب الإسلامية العامة، والأسباب

الخاصة بنجد التي نشرها في العالم، ونقلناها في المنار، فوجب علينا تأييده فيها،

وهل يعقل أن نفتيه بافتراض هذا العمل عليه حتى إذا ما اصْطَلَى بناره، وشرع

يجاهد في سبيله بماله ورجاله، وانبرى المبتدعون، والمفسدون للطعن فيه وفي

قومه، نترك لهم الحبال على الغوارب، ولا نقوم بقسطنا من الجهاد الواجب، جهاد

القلم واللسان، وإقامة الحجة والبرهان؟ !

إنني لم أفضل ابن السعود على غيره من أمراء العرب في شيء من ذلك

السعي العام للعرب ولجزيرة العرب، ولا من هذا السعي الخاص بالحجاز

والإسلام، وقد كان رجائي في غيره أولاً أقوى من رجائي فيه، ثم كان ثنائي على

الإمام يحيى حميد الدين أكبر من ثنائي عليه، حتى قالت بعض الجرائد المصرية في

أثناء الخوض في مسألة الخلافة: إن صاحب المنار يدعو إلى الإمام يحيى، ويسعى

لتوسيد منصب الخلافة إليه. على أنني كنت أعتقد أن الإمام عبد العزيز ابن السعود

أرجى لخدمة الإسلام، وإعلاء شأن العرب إذا هو خرج من عزلته، وترك القبوع

في ربوع إمارته، وإنما كنت أشك في خروجه منها، كما كنت أشك في ميل الإمام

يحيى إلى تجاوز حدود اليمن إلا إلى عسير التي يعدها هو منها.

كان من عناية الله تعالى في ابن السعود أن استعمله وحده في إنقاذ حرمه،

وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ممن سمى نفسه المنقذ ، وقضى الله أمرًا كان

مفعولاً، فلم يستجب لنا غيره من أمراء المسلمين وملوكهم، ولا من جماعاتهم،

ودهمائهم إلا أننا أسسنا الجمعية بمصر من رجال مختارين من أولي الكفاءة،

والكفاية علمًا، وعملاً، وهمةً، فنقَّحُوا نظامها في مجالسَ كثيرةٍ عقدوها لذلك،

وبتنا ننتظر سنوح الفرصة للعمل، فكفانا الله تعالى ذلك بهذا الرجل العظيم الذي

أنقذ الحجاز، وأمنه تأمينًا لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام، ثم ألف فيه

المؤتمر الإسلامي العام، وقد كان هذا المؤتمر أهم مقاصد جمعيتنا هذه، فلم نحتج

إلى استيكاف الأكف لجمع المال له، ولا لدعوة رجال الخافقين إليه، فقد أنفق هو

بسخائه، وجوده الواسع على إنشاء المؤتمر، وضيافة رجاله هم ومن كان مع

بعضهم من أهل وخدم منذ وصلوا إلى الحجاز إلى أن خرجوا منه ما لم يكن يتيسر

لنا جمع بعضه من العالم الإسلامي إلا في عدة سنين.

كيف لا أنصر ابن السعود، وأناضل خصومه من المبتدعين والخرافيين، وقد

فعل كل هذا، ويُرجَى أن يفعل ما هو أتم منه وأكمل؟ ! وهو ما أفنيت شبابي،

وكهولتي في الدعوة إليه، فإنني أدعو إلى مؤتمر إسلامي يعقد في مكة من زهاء

ثلاثين سنة، وهو من وسائل الإصلاح الذي أدعو إليه من التوحيد، وإقامة السنن،

وتقويض هياكل الوثنية والبدع، وتجديد إصلاح الإسلام، ومجد العرب، وقد أيقنا

بطول الاختبار، وبما ورد في دلائل النبوة من الأخبار، أن هذا الإصلاح والتجديد

لا يأتي إلا من الحجاز، وأن كل ما قمنا به من الدعوة إليهما لم يكن إلا تمهيدًا لتأييد

العالم الإسلامي لهما، فقد صح في الحديث: إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا

كما بدأ، وإنه يَأْرِزُ إلى الحجاز - وفي رواية في الصحيحين - إلى المدينة كما

تَأْرِزُ الحية إلى جحرها، وإنه يعقل بين المسجدين معقل الوعول من رؤوس الجبال.

إنني أشهد الله تعالى، وكل من يطلع على قولي هذا أنني أشعر في سريرتي،

وما يكن قلبي بتقصيرٍ في الثناء على هذا الرجل بالجهر بكل ما أعتقده، وما أرى

فيه من المصلحة، والنصيحة للمسلمين، وكم طالبتني نفسي في مجالسه العامة

الحافلة، التي حضرتها بعد صلوات الجمع بمكة المكرمة بإلقاء خطاب في شكره،

والثناء عليه كما فعل أمامي بعض علماء الهند، وفصحاء المصريين وغيرهم،

ولكنني كنت أستحي أن أقف مواقفهم، وإن كنت أجدر بها منهم، فقد أقمت بمكة

زهاء ثلاثة أشهر، ولم يسمع خطابتي، وربما كنت أقدر على البيان، وأعلم بما

يحسن بيانه بالحق من كل من سمعت، إذا كان من الدعوى والغرور المذمومين أن

أقول أكثر من ذلك، وما أبرئ نفسي من كراهة الاتهام بالتملق والتزلف أن يَعْلَقَ

ببعض النفوس الصغيرة، وأنا آمن أن يلوح في جانب من جوانب نفسه الكبيرة.

وجملة القول: إن مجلدات المنار السبعة والعشرين برهان على أنه لا يعقل أن

يكون ما كتبته في تأييد ابن السعود، والدفاع عنه لغرض منفعة دنيوية؛ لأنه عين

ما كنت أكتبه قبل قيامه بما نصرته فيه، وقبل علمي بوجوده أيضًا، وقد لقيت فيه

من الأذى ما يجهل أقرب الناس مني كل ظاهره، وباطنه عند الله تعالى وحده.

اضطررت إلى بيان هذا كله في فاتحة هذا المجلد تذكيرًا لقرائه بفصل من

فصول تاريخ المنار في الإصلاح على السنن الذي نتناوبه منذ أعوام، وتقوية

لعزيمة إخواني أنصار الكتاب والسنة، على أنني لا أريد بهذا التنصل، والتبرؤ

مما قيل بغير حق من أن مساعدة هذا الإمام، أو غيره من ملوك المسلمين،

وأمرائهم إيانا على علمنا في خدمة الملة، والأمة مما يقبح منهم فعله، أو يحرم

علينا قبوله، بل نحن من أحق الناس به، ولكن الإخلاص لله تعالى، ونزاهة

النفس، وتحليها بأدب الشرع، تحول دون استشرافنا له، بله السعي له، أو

التعريض به، وقد قال شيخ الصوفية الأكبر في مال السلاطين الذي يعدون من

شروط طريقتهم التنزه عنه:

هو عنده للمسلمين أمانة

فإذا حباك فخذه إنك صاحبه

لا أقول هذا تعريضًا بطلب المساعدة من أحد، وإنما افترصت هذه المناسبة

للرد على جريدة من جرائد القاهرة التي جعلت هجيراها الطعن في علماء الدين،

واستكثار كل ما يأخذونه من ريع الأوقاف الخيرية مع العلم بأن ألوف الجنيهات من

أموال هذه الأوقاف ينفق في أعمال غير شرعية، فقد ذكرت هذه الجريدة أن شيخ

الأزهر قد أنفق زهاء ثلاثة آلاف جنيه في أعمال مؤتمر الخلافة كان منها لفلان من

العلماء كذا، ولفلان كذا من أول هذه الحركة (كما كان لفضيلة الأستاذ الورع الشيخ

رشيد رضا صاحب المنار ثلاثون جنيهًا حتى في الوقت الذي كان فيه بالمدنية

المنورة عند ابن السعود) .

أقول فيما يعننيي: إنني لم أكن في أول هذه الحركة كما قال، ولم أكن آخذ

شيئًا أيام وجودي في (مكة المكرمة) كما توهم، وإنما بعض المؤسسين لمؤتمر

الخلافة من العلماء كانوا قد دعوني إلى مشاركتهم فيه، فأبيت، ثم أقنعني بعضهم

بأنه يمكنني فيه خدمة الإسلام؛ فقبلت.

وقد دعيت بعد الدخول في مجلس المؤتمر إلى المساعدة على إنشاء مجلة له

تحريرًا، أو تصحيحًا، ونشرًا.

وهو ما تعد هذه المكافأة عليه نزرًا، ولولا أن قيل لي: إن هذه خدمة إسلامية

نعدها تبرعًا منك؛ لما رضيت بها، وقد كنت أعطى منذ بضع عشرة سنة ثلاثة

جنيهات من إدارة (الجريدة) مكافأة على كل مقالة من مقالات كلفني إياها مديرها،

وكنت أكتب المقالة منها في ساعة واحدة، ولم يكن لدى من الأعمال في ذلك الوقت

ربع ما لدي الآن منها، فهل يستكثر علي الآن زميلي صاحب البلاغ الأغر 30

جنيهًا في الشهر في مثل ما ذكرت؟

هذا، وإننا ندعو أهل العلم المخلصين إلى الكتابة إلينا بما يرون أننا أخطأنا فيه

من أمور الدين، أو مصلحة الأمة كما هو دأبنا في كل عام - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ

وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعدد الزوجات

وجدت بين أوراق شيخنا الأستاذ الإمام الفتاوى الآتية ، فأحببت نشرها؛

لتصدي الحكومة المصرية لتقييد إباحة التعدد ، وكثرة الكلام فيه وهي:

(السؤال الأول)

ما منشأ تعدد الزوجات في بلاد العرب (أو في الشرق على الجملة) قبل

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟

(ج) ليس تعدد الزوجات من خواص المشرق، ولا وحدة الزوجة من

خواص المغرب، بل في المشرق شعوب لا تعرف تعدد الزوجات كالتبت ، والمغول،

وفي الغرب شعوب كان عندها تعدد الزوجات كالغولوا ، والجرمانيين، ففي زمن

سيزار كان تعدد الزوجات شائعًا عند الغولوا، وكان معروفًا عند الجرمانيين في

زمن ناسيت، بل أباحه بعض البابوات لبعض الملوك بعد دخول الدين المسيحي إلى

أوربة كشرلمان ملك فرانسا، وكان ذلك بعد الإسلام [1] .

كان الرؤساء ، وأهل الثروة يميلون إلى تعدد الزوجات في بلاد يزيد فيها عدد

النساء على عدد الرجال توسعًا في التمتع، وكانت البلاد العربية مما تجري فيها

هذه العادة لا إلى حد محدود، فكان الرجل يتزوج من النساء ما تسمح له ، أو تحمله

عليه قوة الرجولية، وسعة الثروة للإنفاق عليهن ، وعلى ما يأتي له من الولد.

وقد جاء الإسلام ، وبعض العرب تحته عشر نسوة، وأسلم غيلان رضي

الله عنه، وعنده نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساك أربعة منهن ،

ومفارقة الباقيات، وأسلم قيس بن الحارث الأسدي وتحته ثمان نسوة؛ فأمره

بأن يختار منهن أربعًا، وأن يخلي ما بقي، فسبب الإكثار من الزوجات إنما هو

الميل إلى التمتع بتلك اللذة المعروفة ، وبكثرة النساء، وقد كان العرب قبل البعثة

في شقاق ، وقتال دائمين، والقتال إنما كان بين الرجال، فكان عدد الرجال ينقص

بالقتل ، فيبقى كثير من النساء بلا أزواج، فمن كانت عنده قوة بدنية ، وسعة في

المال كانت تذهب نفسه وراء التمتع بالنساء، فيجد منهن ما يرضي شهوته، ولا

يزال يتنقل من زوجة إلى أخرى ما دام في بدنه قوة، وفي ماله سعة، وكان العرب

ينكحون النساء بالاسترقاق، ولكن لا يستكثرون من ذلك، بل كان الرجل يأخذ

السبايا ، فيختار منهن واحدة، ثم يوزع على رجاله ما بقي واحدة واحدة ، ولم

يعرف أن أحدًا منهم اختار لنفسه عدة منهن، أو وهب لأحد رجاله كذلك دفعة واحدة.

***

(السؤال الثاني)

على أي صورة كان الناس يعملون بهذه العادة في بلاد العرب خاصة؟

(ج) كان عملهم على النحو الذي ذكرته: إما بالتزوج واحدة بعد واحدة،

أو بالتسري ، وأخذ سرية بعد أخرى، أو جمع سرية إلى زوجة، أو زوجة إلى

سرية، ولم يكن النساء إلا متاعًا للشهوة لا يرعى فيهن حق، ولا يؤخذ فيهن بعدل،

حتى جاء الإسلام؛ فشرع لهن الحقوق ، وفرض فيهن العدل.

***

(السؤال الثالث)

كيف أصلح نبينا صلى الله عليه وسلم هذه العادة ، وكيف كان يفهمها؟

(ج) جاء صلى الله عليه وسلم ، وحال الرجال مع النساء كما ذكرنا لا فرق

بين متزوجة وسرية في المعاملة، ولا حد لما يبتغي الرجل من الزوجات، فأراد

الله أن يجعل في شرعه صلى الله عليه وسلم رحمةً بالنساء ، وتقريرًا لحقوقهن،

وحكمًا عدلاً يرتفع به شأنهن، وليس الأمر كما يقول كتبة الأوربيين: (إن ما

كان عند العرب عادة جعله الإسلام دينًا) ، وإنما أخذ الإفرنج ما ذهبوا إليه من سوء

استعمال المسلمين لدينهم ، وليس له مأخذ صحيح منه.

حكم تعدد الزوجات جاء في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ

تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ

تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) .

كان الرجل من العرب يكفل اليتيمة ، فيعجبه جمالها ومالها ، فإن كانت تحل

له؛ تزوجها ، وأعطاها من المهر دون ما تستحق ، وأساء صحبتها ، وقتَّر في

الإنفاق عليها ، وأكل مالها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك ، وشدد عليهم في الامتناع

عنه، وأمرهم أن يؤتوا اليتامى أموالهم، وحذرهم من أن يأكلوا أموالهم، ثم قال

لهم: إن كان ضعف اليتيمات يجركم إلى ظلمهن ، وخفتم ألا تقسطوا فيهن إذا

تزوجتموهن ، وأن يطغى فيكم سلطان الزوجية ، فتأكلوا أموالهن ، وتستذلوهن،

فدونكم النساء سواهن ، فانكحوا ما يطيب لكم منهن من ذوات جمال ومال من واحدة

إلى أربع، ولكن ذلك على شرط أن تعدلوا بينهن، فلا يباح لأحد من المسلمين أن

يزيد في الزوجات على واحدة إلا إذا وثق بأن يراعي حق كل واحدة منهن ، ويقوم

بينهن بالقسط ، ولا يفضل إحداهن على الأخرى في أي أمر حسن يتعلق بحقوق

الزوجية التي تجب مراعاتها، فإذا ظن أنه إذا تزوج فوق الواحدة لا يستطيع العدل؛

وجب عليه أن يكتفي بواحدة فقط، فتراه قد جاء في أمر تعدد الزوجات بعبارة

تدل على مجرد الإباحة على شرط العدل، فإن ظن الجور؛ منعت الزيادة على

الواحدة، وليس في ذلك ترغيب في التعدد ، بل فيه تبغيض له، وقد قال في الآية

الأخرى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ

فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:

129) فإذا كان العدل غير مستطاع ، والخوف من العدل يوجب الاقتصار على

الواحدة؛ فما أعظم الحرج في الزيادة عليها! فالإسلام قد خفف الإكثار من

الزوجات ، ووقف عند الأربعة، ثم إنه شدد الأمر على المكثرين إلى حد لو عقلوه

لما زاد واحد منهم على الواحدة.

وأما المملوكات من النساء؛ فقد جاء حكمهن في قوله تعالى: {أَوْ مَا

مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) ، وهو إباحة الجمع بينهن، وإن لم يكن من الرجل

عدل فيهن؛ لأن المملوكة لا حق لها، ولمالكها أن يتركها للخدمة، ولا يضاجعها

ألبتة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز للرجل أن يأخذ من الجواري ما يشاء

بدون حصر، ولكن يمكن لفاهم أن يفهم من الآية غير ذلك، فإن الكلام جاء

مرتبطًا بإباحة العدد إلى الأربعة فقط، وإن الشرط في الإباحة التحقق من العدل،

فيكون المعنى أنه إذا خيف الجور؛ وجب الاقتصار على الواحدة من الزوجات، أو

أخذ العدد المذكور مما ملكت الإيمان، فلا يباح من النساء ما فوق الأربع على

حال، ويباح الأربع بدون مراعاة للعدل في المملوكات دون الزوجات؛ لأن

المملوكات ليس لهن حقوق في العشرة على ساداتهن، إلا ما كان من حقوق العبد

على سيده.

وحق العبد على سيده أن يطعمه، ويكسوه، وأن لا يكلفه من العمل في

الخدمة ما لا يطيق، أما أن يمتعه بما تتمتع به الزوجات فلا. [2]

وقد ساء استعمال المسلمين لما جاء في دينهم من هذه الأحكام الجليلة ،

فأفرطوا في الاستزادة من عدد الجواري، وأفسدوا بذلك عقولهم ، وعقول ذراريهم

بمقدار ما اتسعت لذلك ثروتهم.

أما الأسرى اللاتي يصح نكاحهن ، فهن أسرى الحرب الشرعية التي قصد بها

المدافعة عن الدين القويم ، أو الدعوة إليه بشروطها ، ولا يكن عند الأسر إلا غير

مسلمات، ثم يجوز بيعهن بعد ذلك ، وإن كن مسلمات، وأما ما مضى المسلمون

على اعتياده من الرق ، وجرى عليه عملهم في الأزمان الأخيرة ، فليس من الدين

في شيء ، فما يشترونه من بنات الجراكسة المسلمين اللاتي يبيعهن آباؤهن ،

وأقاربهن طلبًا للرزق، أو من السودانيات اللاتي يتخطفهن الأشقياء السلبة المعرفون

(بالأسيرجية) ؛ فهو ليس بمشروع ، ولا معروف في دين الإسلام ، وإنما هو من

عادات الجاهلية، لكن لا جاهلية العرب، بل جاهلية السودان ، والجركس.

وأما جواز إبطال هذه العادة - أي: عادة تعدد الزوجات - فلا ريب فيه.

***

(السؤال الرابع)

هل يجوز تعدد الزوجات إذا غلبت مفسدته؟ [3]

(ج) أما (أولاً) ؛ فلأن شرط التعدد هو التحقق من العدل ، وهذا الشرط

مفقود حتمًا ، فإن وجد في واحد من الميليون ، فلا يصح أن يتخذ قاعدة؛ ومتى

غلب الفساد على النفوس ، وصار من المرجح أن لا يعدل الرجال في زوجاتهم؛

جاز للحاكم ، أو للعالم [4] أن يمنع التعدد مطلقًا مراعاةً للأغلب.

(وثانيًا) قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد ، وحرمانهن من

حقوقهن في النفقة ، والراحة ، ولهذا يجوز للحاكم ، وللقائم على الشرع أن يمنع

التعدد دفعًا للفساد الغالب.

(وثالثًا) قد ظهر أن منشأ الفساد ، والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم ،

فإن كل واحد منهم يتربى على بغض الآخر ، وكراهته ، فلا يبلغ الأولاد أشدهم

إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر ، ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا

بيوتهم بأيديهم ، وأيدي الظالمين، ولهذا يجوز للحاكم ، أو لصاحب الدين أن يمنع

تعدد الزوجات والجواري معًا؛ صيانةً للبيوت عن الفساد.

نعم، ليس من العدل أن يمنع رجل لم تأت زوجته منه بأولاد أن يتزوج

أخرى؛ ليأتي منها بذرية، فإن الغرض من الزواج التناسل ، فإذا كانت الزوجة

عاقرًا ، فليس من الحق أن يمنع زوجها من أن يضم إليها أخرى.

وبالجملة فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلا

لضرورة تثبت لدى القاضي ، ولا مانع من ذلك في الدين ألبتة ، وإنما الذي يمنع

ذلك هو العادة فقط اهـ.

(المنار)

هذا نص الفتوى ، وهي مبنية على قاعدة جواز منع كل مباح ثبت

ضرر استعماله لدى أولي الأمر، ومنه منع حكومة مصر لصيد بعض الطيور التي

تأكل حشرات الزرع؛ فيسلم من الهلاك، ومنع ذبح عجول البقر أحيانًا للحاجة إليها

في الزراعة مع قاعدة إعطاء الفساد الغالب حكم العام ، ثم استثنى من منع تعدد

الزوجات ما كان لغرض شرعي صحيح ، وهو طلب النسل.

أقول: ومثله ما كان لضرورة أخرى تثبت لدى الحاكم الشرعي، وهذه

الضرورات لا يسهل حصرها في عدد معين.

ومن أظهرها: أن تصاب الزوجة الأولى بمرض يحول دون الاستمتاع الذي

يحصل به الإحصان، ومنها وصولها إلى سن اليأس مع إمكان النسل منه،

فالإحصان المانع من العنت - أي: اندفاع الطبع إلى الزنا - من أغراض الزواج

الشرعية. ومفاسد الزنا ومضاره أكبر من مفاسد تعدد الزوجات ومضاره؛ فإنه

يولد الأمراض ، ويقلل النسل ، ويوقع العداوة بين الأزواج، ويفسد نظام البيوت ،

ويضيع الثروات، وإنما أباح الإسلام التعدد المعين بشرط إرادة العدل، والقدرة

على النفقة لدفع مفاسد، وتقرير مصالح متعددة جعلته من الضرورات الاجتماعية

في أمة ذات دولة وسلطان فرض عليها تنفيذ شريعتها، وحماية بيضتها، وتدين

الله بالفضيلة، فهي تحرم الزنا، وهي عرضة لأن يقل فيها الرجال ، ويكثر النساء

بالحروب وغيرها حتى يكون من مصلحتهن أن يكفل الرجل اثنتين ، أو أكثر

منهن.

وما ذكره رحمه الله من مفاسد التعدد ليس سببه التعدد وحده لذاته، بل يضم

إليه فساد الأخلاق، وضعف الدين، وقد كان يعرف من ذلك ما يقل أن يعرفه غيره

من أهل البصيرة والخبرة لشدة غيرته ، وعنايته بالإصلاح، وهو الذي كان يؤلم

قلبه ، ويذهله عما لهذه الضرورة الاجتماعية من الفوائد التي أشرنا إلي أهمها.

ولعمري إن ما عرفناه نحن هنا من قلة احترام ميثاق الزوجية، ومن كثرة

تعدد الزوجات، وكثرة مفاسده لا نعرف له نظيرًا في غير هذه البلاد المصرية من

بلاد الإسلام، وقد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير آية النساء بعد أن أوردنا

ما قاله شيخنا في تفسيرها في درسه ، فليراجعه في الجزء الرابع من التفسير من

شاء أن يزداد بيانًا في المسألة.

***

حكمة تعدد أزوج النبي صلى الله عليه وسلم:

جاءنا السؤال الآتي من الباحثة الفاضلة صاحبة الإمضاء من طنطا مع كتاب

قالت فيه: إنها عرضته على الأستاذ الشيخ محمود الغراب المحامي؛ فأجابها

بجواب ارتاحت له بعض الارتياح ، وتود أن تزداد علمًا ، وبصيرةً في موضوعه ،

فأرسلته إلينا مع الجواب؛ لننشره في المنار ، ونعلق عليه بما عندنا في موضوعه ،

وهذا نص السؤال ، ويليه الجواب:

سيدي الأستاذ:

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: لما كان أساس ديننا القويم اليقين؛ فقد أباح

لنا البحث والسؤال، بل وحثنا عليهما، ولما أعرفه عنكم من وافر العلم ، وسعة

الاطلاع؛ أتقدم إلى فضيلتكم بسؤال أرجو التكرم بالإجابة عليه؛ ليرتاح ضميري ،

ولكم مني وافر الشكر ، ومن الله عظيم الأجر، أما السؤال فهو:

ما هي الحكمة في أن الله تعالى أباح للنبي عليه السلام التزوج بأكثر من

أربع؟

إن عللنا ذلك بكثرة النسل؛ فإنه لم يرزق من بعضهن بولد، وإن عللناه بأن

الله أراد أن يمتعه (ولا مؤاخذة) ؛ قلنا: إن مقام النبوة أرفع من ذلك ، وإني

أعرف سبب زواجه بواحدة كانت زوج شخص تبناه؛ إذ جاء ذكر زواجها في القرآن

الكريم {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37) إلخ.

وأما غيرها فلا أعرف سبب زواجه بهن وحكمته، وأنى لمثلي أن تدركه؟

وهذا النوع من البحث لا يدركه إلا العلماء والباحثون ، فلعلكم مجيبون ببيان وافٍ ،

ولفضيلتكم عظيم احترامي.

بهيجة ضيا

(جواب الأستاذ الشيخ محمود الغراب)

سيدتي المحترمة

سألت عن مسألة كثر فيها الكلام ، وزلَّت فيها أقدام، وهي بين قائل بأنه

عليه الصلاة والسلام خُصَّ من الله بإباحة الزيادة على أربع في الزوجات، وأن ذلك

ثبت له إلى وفاته، وبين مستنكر لذلك قائلاً: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم شرع

للناس ما لم يعمل به في خاصة نفسه.

ولكني يا سيدتي مؤمن على كل حال بأن هذا الرسول الذي قال فيه الكبير

المتعال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، والذي قال فيه: {مَا ضَلَّ

صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:

2-

4) كل عمل يصدر منه لا يكون إلا عن حكمة علمناها ، أو عجزنا عن إدراكها،

إلا أن طبيعة الإنسان تأبى إلا أن تعرف سر الكائنات، فمنهم من يصل ، ومنهم

من يعجز، وهذا الفريق منه المسَلِّمُ بعجزه، ومنه من يلقي تبعة جهله على غيره،

وليس في البحث لقصد العلم ما يعد غَضَاضةً على النفس.

ولكن نفوسًا دأبها الشك حتى في أسمى المقامات، وأعلى طبقات المخلوقات،

فتلك لا يريحها بيان، ولا يقنعها إنسان، فمن العبث الاسترسال معها في جدل.

وأنت بحمد الله ذات نفس مطمئنة ، فما وصلت إلى تعرف أسراره؛ كان لك

أجر اجتهاده، وما لم تصلي إليه ، وسلمت فيه بالعجز؛ كان لك حسن الاعتقاد أكبر

شفيع.

هذه المسألة يا سيدتي كل ما أعلمه فيها عمن تعرض لهذا البحث أنها من

خصوصياته عليه السلام، بمعنى أنه عليه السلام بعد أن شرع قصر الرجال على

أربع من النساء، كان يحل له التزوج من غير أن يتقيد بهذا العدد، ولكن يا سيدتي

من تتبع أصل التشريع في ذلك؛ يرى أن النبي عليه السلام كان مضيقًا عليه في

هذا أكثر من أمته، ولم يكن له تشريع خاص؛ لقصد التوسعة عليه في هذا الأمر.

إذ من المعلوم أنه قبل أن يشرع تحديد عدد الزوجات بأربع؛ كان يحل لكل

رجل أن يجمع في عصمته من النساء ما شاء من العدد، لا فرق بين نبي ، وغيره،

بل الكل كان في ذلك سواء، فلما جاء التشريع الخاص بالعدد؛ أمر النبي صلى

الله عليه وسلم مَن عنده زيادة على أربع أن يمسك أربعًا ، ويفارق الباقي، وشرع

الطلاق، وحل استبدال المرأة بغيرها، أما بالنسبة للنبي عليه السلام؛ فجاء

التخيير من الله تعالى لزوجاته: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ

الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:

28-

29) فاخترن الطرف الثاني؛ فأكرمن بأن اعتبرن أمهات المؤمنين، وقصر

عليه السلام عليهن فقط من بين نساء المؤمنين كزوجات، وحرم عليه طلاقهن،

ومنع من استبدالهن بغيرهن، وفي ذلك تضييق شديد بالنسبة لما أجيز لأمته، وفي

ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَاّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ

وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ

خَالاتِكَ اللَاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (الأحزاب:

50) {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ

إِلَاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (الأحزاب: 52) .

وكان في عصمته إذ ذاك تسع من النساء بقين في عصمته إلى أن لحق

بالرفيق الأعلى، ولم يمسك النبي عليه السلام أربعًا ، ويفارق من عداهن، كما أمر

غيره بذلك لحكمة ظاهرة ، وهي أن الله اعتبرهن أمهات المؤمنين؛ فحرمن على

الغير. فلو جاز طلاقهن ، وصرن لا إلى أزواج؛ لكان في ذلك حرج شديد يأباه

الشرع، ولأنهن لما خيرن ، واخترن الله ورسوله؛ حرم طلاقهن، ولو أن إحداهن ،

أو كلهن اخترن فراقه عليه السلام؛ لوجب عليه فراقها قبل أن يشرع في حقهن

هذا التشريع الخاص بهن، فالخصوصية في الحقيقة إنما كانت لأزواجه عليه السلام

لا له، لما قدمنا من الحكمة.

فالحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يتزوج بأكثر من أربع

بعد التشريع الخاص بذلك، ولم يكن عليه السلام ممن يرغبون في الإكثار من

الزوجات لغرض الرجل من المرأة، يدلك على ذلك أنه اقترن بالسيدة خديجة أولى

زوجاته، وكانت ممن يولد مثله عليه السلام لمثلها، وقضى معها زهرة شبابه حتى

شغل بأمر الوحي ، والتبليغ، وكان زواجه بها عن رغبة منها هي ، ولو أراد

غيرها؛ لكان.

ولكن ظروف الدعوة إلى الدين قضت بأن يصاهر كثيرًا، وبالأخص كان

أصحابه يعرضون عليه بناتهم كأبي بكر لغرض أن ينال بمصاهرته أكبر شرف،

وكان النسب والمصاهرة عند العرب من دواعي النصرة والحماية، ولم يكن ذلك

محظورًا؛ فلم ير مانعًا من أن يحقق هذه الرغبات، حتى جاء التشريع الخاص بذلك،

فكان هو في حالة لا تعتبر تيسيرًا بالنسبة لمن عداه.

هذا هو رأيي يا سيدتي أقدمه بكل احترام ، وأرجو الله تعالى أن أكون قد

وفقت فيما بحثت، والسلام.

...

...

...

...

... محمود الغراب

(المنار)

سبق لنا بيانٌ لحكمة تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم بالإجمال والتفصيل،

وسنعود إلى تلخيصه مع زيادة بعض الفوائد في جزءٍ تالٍ إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: كان شرلمان معاصراً للخليفة المهدي وابنه الرشيد ، وحارب العرب؛ فانكسر.

(2)

هذا هو المنصوص في فقه المذاهب المشهورة ولكن قالوا: بأن ما يجب للزوجة يستحب للسرية، وفي كتب الحنابلة قول بأنه يجب على السيد أن يحصن مملوكه ومملوكته بالزواج بشرطه.

(3)

ذكر السؤال الرابع ليس من الأصل الذي عندنا ، بل زدناه للإيضاح ، وكونه مقصودًا لذاته.

(4)

المنار: أي جاز للحاكم حكمًا ، وللعالم إفتاءً.

ص: 29

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استقلال مملكة ابن السعود

(س1) من صاحب الإمضاء في (بونس أيرس) عاصمة الأرجنتين:

جناب حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا الأفخم، من بعد التحية والسلام:

أرجو الإفادة على سؤالي الآتي ، ولكم منا مزيد الثناء بذلك: هل مملكة ابن سعود

مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا في كل شؤونها الداخلية والخارجية ، أم لا؟ وإذ لم كانت ،

من هي الدولة الوصية عليها؟ والسلام.

...

...

...

... الداعي سعيد يوسف مراد

...

...

...

... من شركة مراد إخوان

(ج) إن مملكة ابن السعود مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا، لا وصاية عليها

لدولة من الدول، وليس فيها موظف أجنبي إلا بعض قناصل للدول التي لها رعايا

من المسلمين في جدة من عهد حكم الترك، وقد سئلت مجلة المقتطف هذا السؤال ،

فأجابت بمثل هذا الجواب، ومن الأدلة على فسخ الاتفاق القديم مع الإنكليز الخاص

بنجد أنه أخذ بلاد الحجاز بالسيف ، وعقد معاهدة سابقة مع السيد الإدريسي ، ثم

معاهدة أخرى جعلت بلاد الإدريسى كلها تحت حمايته.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البناء على القبور

ومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين

(س2) لصاحب الإمضاء في (أوغاندة) .

إلى حضرة جلالة (؟) الأستاذ الكامل الشيخ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، وسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛

أما بعد: فهذا سؤال موجه لحضرتكم الشريفة عن البناء على القبور من

كتاب تنوير القلوب لصاحبه محمد أمين الكردي نسبًا النقشبندي مذهبًا بصحيفة

213 ما نصه: (ويحرم البناء على المقبرة الموقوفة إلا لنبي ، أو شهيد ، أو عالم ،

أو صالح) ، هل المراد من فحوى كلامه هنا الحوش المستدير على قبر النبي، أو

الشهيد، أو العالم، أو الصالح كما يفيده استثناؤه، أو نفس البناء عليه بالجصِّ ،

والآجر؟ وعلى كلا الحالين لأي شيء يحل له ويحرم لما عداه؟ وهل يحل أيضًا لما

عدا قبر غير النبي ، أو العالم فيما إذا كانت المقبرة غير موقوفة؟ أليس منع البناء

على المقابر مطلقًا كما علم بالضرورة؟ ومع هذا إنكم صرحتم بعدم الجواز في عدة

مواضع بمجلتكم الغراء، أفيدونا بالجواب ، ولكم الأجر والثواب ، والسلام.

...

...

...

...

مقبل فاضل

...

...

...

...

أوغاندة، مبالي

(ج) إن كلام هذا الكردي شرع لم يأذن به الله، ولا أصل له في كتاب

الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لنا أن نبحث عن مراده منه،

بل هو مردود عليه، وأنتم في غنى عنه بما نشرناه في المنار مرارًا من الأحاديث

الصحيحة في تحريم البناء على قبور الأنبياء والصالحين، ويؤخذ منها أن قبورهم

هي المقصودة بالحظر أولاً وبالذات؛ لافتتان الأولين والآخرين بها، وعبادتها

بالتعظيم والطواف والدعاء، وغير ذلك كالحديث المتفق عليه في أهل الكتاب:

(أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ، أولئك شرار الخلق

عند الله) ، وعند ابن سعد: (إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم

مساجد ، فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك) ، وسواء فيما بني على قبر

النبي ، أو الصالح ، أكان مسجدًا ، أم غير مسجد؟ فإن مقصد الشارع سد ذريعة

تعظيم قبورهم ، أو تعظيمهم بما لا يبيحه الشرع من الدعاء والنذر ، وأمثال ذلك مما

هو خاص بالله تعالى كالحلف ، أو خاص ببيته كالطواف.

وما ذكره الفقهاء من تحريم البناء في المقبرة المسبلة، فله مدرك آخر

يشمل الصالح والطالح، وهو تصرف الإنسان في الوقف بغير ما وقف عليه،

ومثله التصرف في ملك غيره كما هو ظاهر.

_________

ص: 39

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما قبله)

مذهب عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة:

وأما إتمام عثمان ، فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول، لا على ما لم

يثبت عنه ، فقوله: (إنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة، وإما لجباية، وإما

لجَرِيمٍ يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو) ،

وقوله بين فيه مذهبه، وهو: أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية، أو

مَصْرٍ إلا إذا كان خائفًا بحضرة عدو، وإنما يقصر من كان شاخصًا؛ أي: مسافرًا،

وهو الحامل للزاد ، والمزاد؛ أي: للطعام والشراب، والمزاد: وعاء الماء،

يقول: إذا كان نازلاً مكانًا فيه الطعام والشراب؛ كان مترفهًّا بمنزلة المقيم، فلا

يقصر؛ لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان، وهذا لا تلحقه مشقة،

فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد، وللخائف.

ولما عمرت مِنَى ، وصار بها زاد ومزاد؛ لم ير القصر بها لا لنفسه، ولا

لمن معه من الحاج، وقوله في تلك الرواية:(ولكن حدث العام) لم يذكر فيها ما

حدث ، فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب ،

وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع، فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه

الزاد والمزاد أربعًا، وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة؛ فيكون هذا

أيضًا موافقًا، فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد، وهو لا يرى القصر لمن

كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا؛ فجميع ما ثبت في هذا

الباب من عذره يصدق بعضه بعضًا.

وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه

وسلم أعمر من منى في زمن عثمان ، فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه

وسلم في عمرة القضية، ثم في غزوة الفتح، ثم في عمرة الجعرانة كان خائفًا من

العدو، وعثمان يجوِّز القصر لمن كان خائفًا ، وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد

والمزاد ، فإنه يجوِّزه للمسافر ، ولمن كان بحضرة العدو، وأما في حجة الوداع ،

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنًا لكنه لم يكن نازلاً بمكة ، إنما كان نازلاً

بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه، فلم يكونوا نازلين بدار إقامة، ولا بمكان فيه

الزاد والمزاد.

وقد قال أسامة: أين ننزل غدًا؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك

لنا عقيل من دار؟ ! ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر. وهذا المنزل

بالأبطح بين المقابر ومنى.

وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها: أنها إنما تتم؛ لأن القصر

لأجل المشقة ، وأن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في

جنسه وفي قدره ، فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها.

وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر، مع أن عثمان قد خالفه علي ،

وابن مسعود ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وابن

عباس ، وغيرهم من علماء الصحابة، فروى سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن

محمد ، عن أبيه قال: اعتل عثمان - وهو بمنى - فأتى علي، فقيل له: صل

بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله ركعتين. قالوا: لا إلا صلاة

أمير المؤمنين - يعنون أربعًا - فأبى ، وفي الصحيحين عن ابن مسعود

[1]

***

(الخلاف في جواز تمام الرباعية في السفر)

وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: (أحدهما) : إن ذلك

بمنزلة صلاة الصبح أربعًا، وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف ، وهو مذهب

أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة: إذا جلس مقدار

التشهد؛ تمت صلاته، والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد

مقدار التشهد؛ بطلت صلاته ومذهب ابن حزم ، وغيره: إن صلاته باطلة، كما لو

صلى عندهم الفجر أربعًا.

وقد روى سعيد في سننه ، عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس:

(من صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين)، قال ابن حزم: وروينا

عن عمر بن عبد العزيز ، وقد ذكر له الإتمام في السفر لمن شاء ، فقال: كلا،

الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما. وحجة هؤلاء أنه: قد ثبت أن

الله إنما فرض في السفر ركعتين، والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ، ولا سنة،

وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى أربعًا ، أو أقر من صلى

أربعًا ، فإنه كذب.

وأما فعل عثمان ، وعائشة ، فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض

الأسفار دون بعض، كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد، ثم

قد خالفهما أئمة الصحابة ، وأنكروا ذلك.

قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة تصدق الله بها عليكم ،

فاقبلوا صدقته) ، فأمر بقبولها ، والأمر يقتضي الوجوب.

ومن قال: يجوز الأمران؛ فعمدتهم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ

فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:

101) قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: {وَلَا

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (النساء: 102)، وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ

تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة: 236) ، ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم

من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها، وبما روي من أنه فعل ذلك ،

واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة ، فأتموا خلفه ، وهذه كلها

حجج ضعيفة.

أما الآية ، فنقول: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان

يصلي في السفر ركعتين ، وكذلك أبو بكر ، وعمر بعده، وهذا يدل على أن

الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله ،

وهو أفضل من غيره، لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه،

ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبًّا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورًا به أمر إيجاب،

وقد قال تعالى في السعي: {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ

بِهِمَا} (البقرة: 158)، والطواف بين الصفا والمروة هو: السعي المشروع

باتفاق المسلمين، وذلك إما ركن ، وإما واجب ، وإما سنة، وأيضًا فالقصر - وإن

كان رخصة استباحة المحظور - فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر، والتيمم

لمن عدم الماء، ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في

الآية ثلاثة أقوال: قيل: المراد به قصر العدد فقط، وعلى هذا فيكون التخصيص

بالخوف غير مفيد، (والثاني) : أن المراد به قصر الأعمال ، فإن صلاة الخوف

تقصر عن صلاة الأمن ، والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف

جائزة حضرًا وسفرًا ، والآية أفادت القصر في السفر، (والقول الثالث) - وهو

الأصح -: أن الآية أفادت قصر العدد ، وقصر العمل جميعًا، ولهذا علق ذلك

بالسفر والخوف ، فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف؛ أبيح القصر الجامع لهذا

ولهذا، وإذا انفرد السفر؛ فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف؛ فإنما يفيد قصر

العمل.

ومن قال: إن الفرض في الخوف والسفر ركعة. كأحد القولين في مذهب

أحمد ، وهو مذهب ابن حزم، فمراده: إذا كان خوف وسفر، فيكون السفر والخوف

قد أفاد القصر إلى ركعة، كما روى أبو داود الطيالسي، ثنا المسعودي هو عبد الرحمن

ابن عبد الرحمن بن عبد الله، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله

عن الركعتين في السفر: أقصرهما؟ قال جابر: (لا، فإن الركعتين في السفر ليستا

بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال) .

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان

نبيكم في الحضر أربعًا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة) قال ابن حزم:

ورويناه أيضًا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن

النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة.

قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة ،

وإن شاء ركعتين؛ لأنه جاء في القرآن بلفظ: {لَا جُنَاحَ} (النساء: 102) ، لا

بلفظ الأمر والإيجاب، وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط ،

ومرة ركعتين ، فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر.

وأما صلاة عثمان ، فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ، ومع هذا فكانوا

يصلون خلفه؛ بل كان ابن مسعود يصلي أربعًا وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر.

وكان ابن عمر إذا انفرد صلى ركعتين.

وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعًا مكروهة عندهم ، ومخالفة للسنة، ومع

ذلك فلا إعادة على من فعلها، وإذا فعلها الإمام؛ اتبع فيها؛ وهذا لأن صلاة المسافر

ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن

الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع ، فقال: (صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة

الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر

على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى) . رواه أحمد والنسائي من حديث

عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجزة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد

ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي [2] عن عبد الرحمن، فهذه الأربعة ليست من جنس

الفجر.

ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلي ركعتين تارة ، ويصلي أربعًا أخرى، ومن

فاتته الجمعة؛ إنما يصلي ركعتين، وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة ،

وجمهور العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(من أدرك ركعة من الصلاة ، فقد أدركها) وإذا حصلت شروط الجمعة؛ خطب

خطبتين ، وصلى ركعتين، فلو أنه خطب ، وصلى الظهر أربعًا؛ لكان تاركًا للسنة،

ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعًا، ولهذا يجوز للمريض والمسافر ، والمرأة ،

وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعًا أن يأتم به في الجمعة؛

فيصلي ركعتين، فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين ، وله أن يأتم بمقيم ، فيصلي

خلفه أربعًا ، فإن قيل: الجمعة يشترط لها الجماعة ، فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف

حكم المؤتم وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي ، وطائفة من أصحاب أحمد، قيل لهم:

اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، والأقوى أنه

شرط مع القدرة، وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة ، فلزمه

اتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل: فللمسافرين أن يصلوا جماعة، قيل: ولهم أن

يصلوا يوم الجمعة جماعة ، ويصلوا أربعًا، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه

استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعًا: ركعتين للسنة، وركعتين لكونهم لم

يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة، وصلاة العيدين تفعل تارة اثنتين،

وتارة أربعًا، كصلاة المسافر، بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة،

فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعًا ، ويصلون خلفه، كما في حديث

سلمان ، وحديث ابن مسعود ، وغيره مع عثمان، ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي

الفجر أربعًا؛ لما استجازوا أن يصلوا أربعًا، كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر

أربعًا.

ومن قال: إنهم لما قعدوا قدر التشهد؛ أدوا الفرض ، والباقي تطوع. قيل له:

من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضًا فإن

ذلك ليس بمشروع، فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين، بل قد أنكر النبي

صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة، وقال: الصبح أربعًا. وقد

صلى قبل الإمام، فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة؟ ! وقد ثبت في الصحيح أن

النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام ،

أو قيام.

وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة ، وغيرها بصلاة تطوع،

فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر ، إن كان لا يجوز إلا ركعتان بصلاة

تطوع؟ ! وأيضا فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلى أربعًا؟ كما ثبت

ذلك عن الصحابة ، وقد وافق عليه أبو حنيفة ، وأيضًا فيجوز أن يصلي المقيم أربعًا

خلف المسافر ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه يفعلون ذلك ،

ويقولون: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سفر) .

وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم ، فإنه قد سلم جماهير

العلماء أن يصلي هذا خلف هذا، كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة ، وليس

هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر.

وأما من قال: إن المسافر فرضه أربع ، وله أن يسقط ركعتين بالقصر.

فقوله مخالف للنصوص ، وإجماع السلف والأصول، وهو قول متناقض ، فإن

هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل ، ولا إلى نظيره، وهذا يناقض

الوجوب، فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجبًا على العبد ، ومع هذا لا يلزمه فعله، ولا

فعل بدله ، ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط، وهذا

الذي يدل عليه كلام أحمد ، وقدماء الصحابة ، فإنه لم يشترط في القصر نية ، وقال:

لا يعجبني الأربع، وتوقف في إجزاء الأربع.

ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية. وإنما هذا من قول

الخرقي ، ومن اتبعه، ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك، قاله جماهير

العلماء، وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره ، بل والأثرم ،

وأبي داود ، وإبراهيم الحربي ، وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر، ولا

في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين ، فإذا أتى بهما؛ أجزأه ذلك، سواء نوى القصر،

أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك ، وأبي حنيفة ، وعامة السلف ، وما علمت

أحدًا من الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر ، ولا في جمع، ولو

نوى المسافر الإتمام؛ كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعًا؛ كان ذلك

مكروهًا كما لم ينوه.

ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ،

ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه ، وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن

المأمومين ، أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم

لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة

ركعتين ، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا معه يحجون معه ، وكثير

منهم لا يعرفون صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد،

لا سيما النساء الذين صلوا معه، ولم يأمرهم بنية القصر ، وكذلك جمع بهم بعرفة ،

ولم يقل لهم: إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: ههنا بياض بالأصل ، والمروي فيهما عنه بهذه المسالة أنه قيل له في منى: إن عثمان صلى بالناس أربعاً ، فاسترجع ، وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.

(2)

كذا والصواب اليامي، قال في تقريب التهذيب: زبيد بموحدة مصغر ابن الحارث أبو عبد الله الكريم بن عمرو بن كعب اليامي بالتحتانية، أبو عبد الرحمن الكوفي ثقة ثبت عابد من السادسة مات سنة ثنتين وعشرين ، أو بعدها.

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى

يتشابه مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فيما فشا فيهما من الجهل والبدع

والخرافات التي أضعفت جميع شعوب الأمة، ويتشابهان أيضا فيما يشعر به العقلاء

السليمو الفطرة من الحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يتوقف عليه الإصلاح

الاجتماعي والسياسي، مع بقاء هداية الإسلام جامعة لهذه الشعوب مميزة، كالفصل

المنطقي المميز للنوع دون أنواع جنسه القريب.

ولدينا من مواد المجلد الثامن والعشرين من المنار رسالتان طويلتان في

موضوع الإصلاح في المغرب الأقصى: إحداهما لأستاذ من شيوخه، والأخرى

لسائح تغلغل في تلك البلاد، وهما ممن يرجع بهداية الدين إلى مذهب السلف

الصالح في العصر الأول، ويُعَوِّل في المدنية وعزة الأمة على أحدث فنون العصر،

ونظمه الملائمة لتلك الهداية، وإننا ننشرهما بالتدريج للتعاون بين الملوين،

وتبادل الشعور الذي تخفق له قلوب الأمة في الخافقين. ونبدأ بالأولى وهي:

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم

لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي

مفتي الديار المصرية سابقًا

بسم الله الرحمن الرحيم

مُنِيَ المسلمون في جميع بقاع الأرض بفئة ضالة تقمصت الإسلام على

ظهرها، وأما قلوبها فقد ملئت عليه حقدًا وحسدًا حملاها على النكاية به، والعمل على

نقضه من أساسه، ولولا أن الإسلام قوي بنفسه وبتعاليمه، ولولا أنه نور من نور الله

لا ينطفئ أبدًا ولو كره الملحدون الحاقدون، لكانت المصيبة أدهى وأمر، ولكن العاقبة

للمسلمين، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) وقال:

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل

عمران: 85) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى

يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة في

كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي

ظاهرين على الحق يقاتلون) ؛ (وهم أهل العلم) .

وقد اختارت هذه الفئة الضالة في كل عصر من أول الإسلام إلى يومنا هذا

أقوامًا لنشر دعوتها من أعظم الأبالسة، وأبلغ الخطباء المصاقيع، وأجرئهم على

ذلك، فلبسوا لبوس الإسلام، ولابسوا قادة المسلمين من ملوك وعلماء، وتظاهروا

بالزهد ومحبة الإٍسلام والغيرة عليه وعلى أهله، وصاروا يزيدون فيه ما ليس منه،

ويستظهرون على ذلك برواية أحاديث بعضها صحيح؛ ليستدرجوا الناس إلى قبول

الموضوع، ويتظاهرون بأن ذلك من تعظيم الإسلام، فاستحوذوا بذلك على قلوب

العامة لأنهم تبع للخاصة، حتى كاد زمام العامة يصير في يدهم، فصارت لهم بذلك

مكانة ومنزلة عند الملوك وكبار الدولة، وصاروا يتداخلون في كل شيء حتى في

نصب الوزراء والقضاة، وما أدراك ما هذه المكيدة! وصاروا يحلون ويحرمون

للملوك، ويفتونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام، كل ذلك تحت ستار الزهد

والتقشف، ومكيدة ما يشيعه أتباعهم من الكرامات الكاذبة الباردة إلخ.

وطوائف منهم خالطت عامة الناس، ودونت لهم أقاويل، وأوراقًا كلها

مشعوذة، وتقوُّل على الدين، ومحاربة له، وهدم لبنيانه، وما قصة الحلَاّج

بمجهولة.

وبعد خراب البصرة، استفاق العلماء من الغفلة وتجردوا للرد عليهم، كابن

حزم والغزالي وأبي بكر بن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم والإمام محمد

بن عبد الوهاب في نجد وغيرهم، إلى أن قذف الله بنور من عنده بنابغة الدهر

(السيد) جمال الدين الأفغاني فنبه الأمة الإسلامية من رقادها الطويل، وصدع

فيهم بأمر القرآن، كأنه المعني بقوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر:

94) وجاهد في الله حق جهاده، ونشر علومه وهديه في الهند والفرس والأفغان

ومصر والآستانة، وخلف رحمه الله تلاميذ نبغاء في هذه الأقطار:

أعظمهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والعلامة السيد رشيد رضا صاحب

المنار، وسعد زغلول باشا، وغيرهم كثير.

فقامت هذه الفئة القليلة بنشر محاسن الإسلام، وببيان أصوله وسهولته،

وموافقته لكل زمان ومكان، وبالرد على المبتدعة والملحدة والجاحدة؛ فغلبت فئات

كثيرة بإذن الله؛ لأنها صبرت والله مع الصابرين، قال جل علاه: {إِن تَنصُرُوا

اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وما مناظرة جمال الدين الأفغاني

لرينان ببعيدة، وأقرب منها رد الشيخ محمد عبده على هانوتو، وردود صاحب

المنار على الجامدين والملحدين في كل عدد من أعداد المنار معروفة، وفي مقالات

سعد باشا وخطبه وردوده القاهرة على دهاقين السياسة أكبر شاهد على ما قلنا.

في تلك الأيام المحلولكة كان علماء الدين في الأزهر، وأيا صوفيا والجامع

الأموي، والزيتونة ملازمين لظلهم، يخافون من خياله رغمًا عما نفخ فيهم الشيخ

محمد عبده من كهرباء روحه الطاهرة، وعما قرعهم به ووعظهم بالحجج الساطعة،

والآيات القاطعة، إلى أن قام صاحب كتاب الإسلام وأصول والحكم فضرب على

وجهه صفيحة من نحاس.

ولم يشهد التاريخ لها شيئًا في العالمين، فغضب لذلك أسد الإسلام ومؤسس

مناره السيد رشيد رضا، وصفعه صفعة قضت على أمثاله، ونبه مشيخة الأزهر

لعمل الواجب ضد ضلاله، وإذا غضب رشيد رضا رأيت العلماء العاملين كلهم

غضابًا، فقام حينئذ علماء الأزهر بالأمر خير قيام، وأسقطوه من زمرة علماء

المسلمين.

حينئذٍ تنبه الأزهريون فرأوا أنفسهم مسوقين بحبال الملحدين إلى حيث ألقت

رحلها أم قشعم، فتحفزوا للوثوب إلى الميدان وبرزوا للمعركة أسودًا شم العرانين

منشدين:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

وأول من برز للميدان وبز، وحاز قصب السبق وأحرز، الأستاذ الشيخ محمد

بخيت دام بقاؤه، فقد شحذ سيفه البتار (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) ، وضرب

الملحدين ضربة قاضية أسقطتهم من صياصيهم التي كانت موضوعة على شفا

جرف هار من آراء الضالين الإباحيين الذين يستدرجون الأمة الإسلامية؛ ليزيغوها

عن دينها الذي هو أعظم حصن واقف للضالين بالمرصاد، فإذا أزاحوها عنه،

وتقمصت عقائد الإباحيين، وفرطت في أثمن سلوة لها، وابتليت بالإباحة المطلقة،

واستحلت الربا والخمر والزنا، ورفعت الحجاب عن فتياتها، واختلط الحابل

بالنابل، هنالك يجد الماليون مفاتيح الاستيلاء على المسلمين واستهواء قلوبهم،

زيادة على ملك رقابهم وأموالهم، وهناك يصبح المسلمون لا مفر لهم من الاستخذاء

للماليين، واستخدامهم في المعامل الجهنمية، وجر الأثقال، ومزاولة الأشغال الشاقة

ليلاً ونهارًا بأجور زهيدة لا يستطيعون معها أن يأكلوا الخبز والزيت، ولا يستطعيون

أن يلبسوا إلا ما يفضل عن الأورباويين من صدار وقميص وسراويل وسخة متلاشية،

ونعال بالية متعفنة، تكسو أكثر لابسيها أمراض متنوعة تذهب بأكثرهم إلى القبور،

دع عنك الحفاة والعراة والجائعين الذين هم أزيد من خمسين في المائة.

هنالك تغلق المدارس والمعاهد الدينية، وتملأ السجون والمارستانات، هناك

هناك.. إلخ، هذه نتيجة ما يدعو إليه الملحدون في مصر وغيرها.

فكان الواجب على قادة الملحدين أن يختبروا مقاصد سادتهم ومسخريهم وإلى

أي هوة يسوقونهم، وفي أي مجزرة يذبحونهم.

كان عليهم أن يتبينوا أحوال المسلمين في المستعمرات، ويبحثوا عن معايشهم

ومكاسبهم ومدارسهم ومصانعهم وصنائعهم ومتاجرهم، ثم بعد الدرس العميق

والبحث المتوالي يحكمون، فإذا وجدوا الماليين يعاملونهم معاملة جميلة، ويعلمونهم،

ويسهرون على مصالحهم كما يدعون؛ فلا بأس حينئذ بالميل إليهم كما يريد بعض

المتهاونين بالوطن.

أما والحالة على النقيض، وليس هناك إلا الفقر والجهل والإهانة والحرمان

والبؤس والشقاء، فيظهر بادئ بدء أن دعوة الملحدين لمواطنيهم إلى ما ذكر غش

وتدليس وخيانة، فتجب مقاومتهم بكل ما يمكن، ويجب الاستعداد لمحاربتهم

استعدادًا هائلاً تستحضر عدده من معامل الأزهر والمعاهد الدينية.

لذلك جاء كتاب (حقيقة الإسلام) في أشد أوقات الحاجة إليه، فأشبه النجدة

إلى المحارب الذي كاد ينهزم في المعركة النهائية الفاصلة؛ فانتصر به إلى غاية

الانتصار، وهزم جيوش الملحدين هزيمة شنعاء لا تقوم لهم بعدها قائمة.

وقد حوى حقائق الإسلام وبين أهم ما يحتاج إليه منها، بعبارة واضحة ليس

فيها تكلف ولا غموض، جلب المؤلف فيها الآيات، والأحاديث النبوية، ونصوص

الأصوليين المعتمدة، مذَيِّلاً ذلك بنقول المؤرخين، وأهل السير، وآراء فلاسفة

المسلمين المعتمدة، ولكون ذلك معروفًا عند المسلمين ومؤلفات الإسلام فيه كثيرة

جاءت عبارة الكتاب منسجمة غاية الانسجام، كأنما المؤلف يغرف من بحر فطلع

منه بِدُرَر نفيسة ينبغي - بل يتحتم - على كل مفكر أن يزين مكتبته به، ويتعين

على كل كاتب أو عالم أو فيلسوف أن ينير أفكاره بآرائه وآياته اللامعة.

...

...

...

من مراكش (مسلم غيور)

للرسالة بقية وفيها تعقب لكتاب حقيقة الإسلام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سياسة الإنكليز في الشرق

وزعماء العرب

مذهبان في سياسة بريطانية في الشرق الأوسط - قرارات لجنة لويد جورج

- إنجلترة وابن السعود - تصرفات الملك حسين - الإدريسي وبريطانية -

شكاوى الحجاج إلى الدول الأوربية - الجزيرة العربية تهم العالم الإسلامي أجمع.

إن العلائق الودية بين الحكومة البريطانية والسلطان ابن السعود التي أنتجتها

مفاوضات السير جلبرت كلايتن في بحرا، والمعاهدات السلمية التي ارتبط بها إمام

اليمن يحيى مع نفس الحكومة لا بد أن يكون لها أثر حميد في تحسين سياسة

بريطانية العظمى في الشرق الأوسط؛ إذ إن هذه السياسة كانت ولا تزال حتى

يومنا هذا متقلبة، لا يعرف لها قرار نهائي، واتفاقات بحرا هذه ليست في عالم

السياسة بأمور غير معتادة، اتفق عليها لتحسين العلائق بين إنكلترة والبلاد

العربية.

إلا أن أنصار العرب في (دوننغ ستريت) جعلوها نصب أعينهم؛ لما رأوا

لها من الأهمية، وكانت مدار حديثهم في المدة الأخيرة مع السير جلبرت كلايتن

السكرتير المدني السابق لحكومة فلسطين الذي لم يكن مسئولاً إلا عن إيصال

المفاوضات الأخيرة على علاتها إلى حكومته، وغير خافٍ أن معاهدات ذات تأثير في

حركة الاستقلال العربي، وفي توحيد السياسة الإنكليزية في الشرق الأوسط - هي

ولا شك من الوجهة التاريخية ذات بال، وأي ذات بال! ولذا يجدر بنا أن نبحث في

شأنها بعض البحث:

لما حملت إنكلترا على عاتقها مسئولية إدارة شئون إمبراطورية الشرق

الأوسط؛ تضاربت الآراء العامة، وآراء الساسة الحذاق، خاصة فيما ستؤول إليه

نتيجة هذا الأمر، ووقف في المضمار فريقان: فأما الفريق الأول، فكان من

المحافظين أرباب الفلسفة السياسية، وكان الكولونيل (لورنس) و (المس

جزتروديل) ألسنتهم الناطقة، فهؤلاء احتجوا بأن سياسة الإلحاق السرية أو

الجهرية لا توافق ولا بوجه من الوجوه روح الحماية، أو ما تمليه سياسة الإنكليز

الحق، وأخذوا يبثون آراءهم بكل الوسائل، ويطلبون استقلالاً تامًّا للممالك

والإمارات العربية التي أسست حديثًا.

وكانوا يعدون أنفسهم مسئولين بذواتهم عما كان يحدث في البلاد العربية على

يد بريطانية العظمى، ويؤنبون أولي الأيدي التي كانت عاملة آنئذ على سحب

العهود التي قطعوها للأمة العربية، وأما الفريق الثاني - وكان جله من الأحرار -

فاعتبروا ضمانة أية حماية من غير ضم البلاد المحمية رأسًا، أو بالواسطة إلى

الإمبراطورية البريطانية إنما هو تفريط في غير محله، وما هو إلا زيادة عبء

ثقيل إلى العبء البريطاني في آونة كان العالم فيها يئن من نتائج الحرب العظمى.

وظني أن كثيراً من المسائل الجوهرية البريطانية المدفونة في السجلات

السرية في وزارة الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات لم يطلع عليها الشعب،

ولن يطلع عليها إلا بعد أجيال عديدة إذ يظهرها المؤرخون.

وهذه المعجزة الإنكليزية التي تتعلق بالشئون العربية لا يسأل عنها إلا أنصار

العرب من الإنكليز ذوي الضمائر الحرة. واستدعي المفاوضون من العرب المرة

تلو الأخرى، ولكن لم يكن هنالك مفاوضات حقيقية، ولا تزال قصة استدعاء

الدكتور ناجي الأصيل السياسي السوري الذي مثل الملك حسينًا في بلاط سنت

جيمس تخدش مخيلة من يهمهم هذا الأمر.

فالعرب البسطاء هم الذين أوقعوا أنفسهم في أيدي من لا يعرفون للعهود معني،

ولما اعترف بسلالة الشريف حسين كالعائلة الوحيدة المالكة في عموم الأقطار

العربية؛ قامت الضجات والصرخات، وأصبح بعض الإنكليز يقولون: إن دولتهم

جازفت بأن راهنت على الحصان الذي لا يكسب الرهان، ولما انتخب فيصل -

أنجب أفراد هذه السلالة - للاستواء على عرش العراق رميت وزارة الخارجية

البريطانية بقصر النظر والتحزب، ولما أشار السير أوستين تشمبرلن على الملك

حسين الشيخ أن يغادر البلاد العربية إلى قبرص أيضًا هطلت الشكاوى التي يناقض

بعضها البعض مدرارًا.

دعنا الآن نعير التفاتة نحو الحقائق العارية من كل شائبة لنرى - إن أمكننا -

نتيجة الخطط التي رسمها رجال السياسة الذين يسمون أنفسهم أحرارًا:

في سنة 1921 قررت وزارة لويد جورج تشكيل لجنة وزارية (لتتعهد

بتأسيس الأقطار التي للإنكليز علاقة بها في الشرق الأدنى) ، وهذه اللجنة التي كان

يساعدها قواد القوات البحرية والحربية أتيح لها درس الحالة الإدارية والسياسية في

هذه البقاع، وكانت تستعين بنصائح من كان يحكم البلاد من العمال الإنكليز،

وأعني بهم: مندوبي فلسطين والعراق - السير هربوت صموئيل والسير برسي

كوكس - ومعتمدي عدن والبحرين.

واستطاعت هذه اللجنة بعد البحث الطويل، أن تصل إلى نتائج قدمتها

بصورة تقرير لوزارة الخارجية، ولكن مع الأسف لم تر الشمس هذا التقرير حتى

وقتنا هذا، بل خبئ في ظلمات صناديق الوزارة، مع أنه بلا شك أهم الأوراق

السياسية التي تبين مجرى الأمور في الشرق في الوقت الحاضر.

وهذه اللجنة عينت لجانًا ثانوية، وليس غرضنا هنا تعديد هذه اللجان، وعلى

كل؛ فكان غرض أحدها - وهي التي كان يرأسها سكرتير وزارة الخارجية وكان

يتألف أعضاؤها من ونستون تشرتشل والسير برسي كوكس والكولونل لورنس

والجنرال سكوت - أن تضع على بساط البحث أمورًا تتعلق بالسياسة البريطانية

الشرقية، وخصوصًا بما يتعلق بأمراء العرب، وملوكهم المسيطرين في شبه

الجزيرة العربية، وأول ما نظرت فيه هذه اللجنة هو: مسألة التقدمات المالية،

التي كانت تدفع لهؤلاء الزعماء استنادًا على أسس واهية، هذه اللجنة قررت بعد

البحث والتدقيق ما يأتي:

1-

أن تدفع الإمبراطورية البريطانية لابن السعود مائة ألف ليرا سنويًّا.

2-

أن يدفع لفهد بك الهذال مائتان وأربعون ألف روبية.

3-

أن يدفع الملك حسين مائة ألف ليرا إنكليزية سنويًّا.

4-

أن يدفع للإدريسي اثنتا عشرة ألف ليرا سنويًّا.

وبنت اللجنة حكمها على الأمور الآتية:

ابن السعود أعظم يد عاملة في السياسة العربية، وذو الشخصية البارزة،

والذكاء المفرط عقد معاهدة مع الدولة البريطانية، ولم يخطر له يومًا ما أن يحل

عقد العلائق الودية بينه وبينها، مع أنه قادر على ذلك، وفي استطاعته أن يعرقل

مساعي الدولة البريطانية، ولا يكلفه ذلك أكثر من أن يأمر أتباعه بشن الغارة على

الجنوب الغربي من بلاد ما بين النهربن، كما أنه يمكنه أن يهاجم بخيله ورجله

الكويت وجبل شمر إن أوحت إليه إرادته بذلك، والإخوان - الفريق المجاهد من

أتباعه - دومًا يحثونه على مهاجمة جيرانه المسلمين، وقد حدثت مؤخرًا أربع

غزوات من هذا القبيل.

ولابن السعود تأثير في نفوس أتباعه الإخوان، وقد تمكن من أن يردهم عن

مهاجمة جيرانهم مرارًا، وذلك بفضل تصرفه بحكمة في التقدمة المالية التي تساوي

ما تجمعه حكومته من الضرائب، وقبيل أن تضمن هذه التقدمة المالية لابن السعود

يجب عليه أن يوافق على الشروط الآتية:

1-

أن لا يهاجم العراق ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده.

2-

أن لا يهاجم الكويت ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده أيضًا.

3-

أن لا يهاجم الحجاز ولا يرسل حملات من أتباعه لمهاجمته.

وكانت التقدمة الأساسية لابن السعود ستين ألف ليرا إنكليزية، وأما الآن [1]

فازدادت حتى بلغت مائة ألف ليرا إنكليزية في السنة، ظنًّا من اللجنة أن هذه

الزيادة المالية تقوى نفوذ ابن السعود وتمكنه من أعناق أتباعه، وبذلك يتسنى له أن

يعمل على موافقة الإدارة البريطانية، وحثت اللجنة ابن السعود على إبقاء حبل

المودة متصلاً بينه وبين فيصل من جهة، وبينه وبين الملك حسين من جهة أخرى،

زد على ذلك أن اللجنة اعترفت بابن السعود سلطانًا على نجد، وأوصت من لهم

علاقة بالأمر أن يعترفوا به.

وفهد بك الهذال زعيم عشائر عنزة - التي على حدود ما بين النهرين إلى

الجهة الغربية من بغداد وكربلاء، وعلى ضفة الفرات الغربية - اعتادت حكومة

الهند أن تدفع له مقابل خدماته لها مائتي وأربعين ألف روبية، وغير خافٍ أن

الطريق الجوية الحاضرة التي تؤدي إلى فلسطين تمر بمنطقة مسافة مائتي ميل،

ولذا فلا مشاحة في أن مساعدته أمر لا بد منه، إن أرادت الحكومة البريطانية أن

تحافظ على سلامة سفنها البرية التي تمر بهذه المنطقة؛ لهذا قررت اللجنة إبقاء ما

كان على ما كان؛ أي: الاستمرار بدفع التقدمة المالية البالغة مائتين وأربعين ألف

روبية للزعيم المذكور.

أما الملك حسين فمع أنه أضعف من ابن السعود من الوجهة العسكرية، فهو

ولا شك حامي البلاد المقدسة، فمن مصلحة بريطانية أن تحافظ على ولائه،

وخصوصًا للعقيدة التي أظهرها للملأ تجاه ما قرر الحلفاء بشأن المقاطعات العربية

إن هو لم يذعن لقرار الحلفاء الجديد.

والآن فلا جدال أنه سيكون ثورة فتن وقلاقل في الحجاز ينتشر منها شرر

يشعل نيران ثورات في المناطق العربية التي تحت الحماية، ويعتقد العالم الإسلامي

أن لندن هي التي خلقته من العدم، فلذا تكون بريطانية العظمى هي الملومة، بل

المسؤولة إن أصبحت حالة الحجاج أسوأ مما كانت يوم كان بيد الأتراك عصا

السيادة في البلاد العربية.

وأما الشروط التي عرضت على الملك حسين مقابل ضمان هذه التقدمة

فتتخلص فيما يلي:

1-

أن يصادق على معاهدة فرسايل ويصادق على المعاهدة التركية، ويوقعها.

2-

أن يعترف بالمعاهدات البريطانية مع ابن السعود والإدريسي، ويحترمها،

ويمتنع من عمل كل ما يمس حقوق المذكورين، كما أنه يتعهد بأن لا يعتدي

عليهما.

3-

أن يحسن حالة الحج، وخصوصًا أن يحافظ على الأمن العام، ويحترم

حقوق الحجاج، ويعتني اعتناءً خاصًّا بالأمور الصحية، ويعيد تأسيس المستشفيات

في جدة، كما أنه يتعهد بتحسين موارد المياه.

4-

أن يعترف بحقوق الرعايا الإنكليز في الحجاز، ويحافظ على مصالحهم.

5-

أن يرحب بقنصل إنكليزي ووكيل في جدة، وإن أبى ذلك فيرحب على

الأقل بوكيل بريطاني مسلم.

6-

أن يطهر البلاد المقدسة من الذين يسعون ضد المصالح الإنكليزية،

وينشرون الدعوة للجامعة الإسلامية (Infrique Pan-lslamic) .

7-

أن يمنع عائلة الشرفاء من الإتيان بأية حركة تهدد مصالح الفرنسيين، أو

بكلمة أخرى: أن يكبح جماح أتباعه من القبائل التى تقطن سورية عن القيام بأية

مظاهرة تمس مصالح البريطانيين ومصالح حلفائهم.

وكان المتوقع أن إنشاء حكومتي العراق وشرقي الأردن سوف ينال استحسان

الملك حسين، ويغريه بقبول نصائح البريطانيين كما فعل سابقًا.

ولكن الواقع ونفس الأمر كان خلاف ذلك، فلذا أنقصت التقدمة المالية حين

رجعت المياه إلى مجاريها، وتوافد الحجاج إلى البلاد المقدسة من كل فج عميق،

غير أن هذا لم يحجز الحجاز عن أن يقع في هاوية الإفلاس مرة أخرى.

وأما الإدريسي فكان أول حاكم عربي انضم إلى بريطانية العظمى أثناء

الحرب العالمية الكبرى، وبمعاهدة سنة 1917 تعهدت له بريطانية بمده بكل ما

يلزمه من عدد حربية، وأسلحة نارية أثناء الحرب وبعدها، وكذلك تعهدت له بأن

تؤويه إلى بلادها، وتحميه إن حدث له أمر يضطره إلى الجلاء عن وطنه، بل

تعهدت له أيضا أن تبذل جهدها لإرجاعه إلى مركزه الأول دون أن تدخل في أحكام

بلاده.

ومقابل هذه الضمانات ضمن الإدريسي للدولة حليفته امتيازات في بلاده،

وهكذا استطاعت بريطانية أن تمنع تدخل غيرها من الدول في بلاد عسير.

وكان الإدريسي على وفاق تام مع ابن السعود، مع أنه كانت هناك أمور

كادت تقطع حبل المودة بينهما، لولا أن تداركاها بحكمة عجيبة.

وفي ذلك الوقت كان الإدريسي عدو إمام صنعاء وخصمه الألد، وإمام صنعاء

هذا هو أمير يماني كان خاضعًا للواء التركي، ولكنه في هذه الآونة أعلن انفصاله عن

الباب العالي، واستقلاله عن كل يد أجنبية، فأخذت الأيدي البريطانية تسعى لتكسب

وده، ولكن غناه وقف عثرة في سبيل إغرائه بالمال.

غير أن الدسائس الإنكليزية لم تقف عند حدها، بل أخذت تقدم له مبلغ ألفي

ليرا إنكليزية في الشهر، إلا أن هذه الأموال لم تؤثر إلا بعض التأثير، ولم تأخذ من

نفس الإمام ما أخذت من نفس ابن السعود.

ولما تيقنت الأيدي البريطانية من ثبات الإمام على عقيدته نحو الأمم الأجنبية

رأت أن محافظتها على ولاء الإدريسي هي أقوى العوامل التي يمكنها الحصول

عليها لنشر سياستها في أنحاء الجزيرة؛ ولهذا قررت دفع ألف ليرا إنكليزية شهرية

للإدريسي لتعزز مركزه المالي على شرط محافظته على الولاء لإنكلترا، وعلى

شرط أن لا يضمن امتيازات في بلاده لغيرها من الدول.

نعم إن حسينًا نجح في تمثيل دوره لمدة ليست بالقليلة، وكان للنصائح

الإنكليزية، والأموال البريطانية اليد الطولى في رفع مستوى شهرته، ولكن مع

الأسف أقول: إن تلك الشهرة لم تك إلا طائفية، فهو لم يكتف بأن حسب نفسه

رأس الأمة العربية، وخليفة المسلمين فقط، بل تعدى ذلك إلى أن زعم أنه أكبر يد

عاملة في العالم الإسلامي أجمع، وقد جرب أن يجعل الناس يعتقدون بأنه يحكم

بحق إلهي لا يستطيع غير العزيز الحكيم أن يسلبه إياه، ولم يكن بُعْدُ نظر اللجنة

في شأن الحجاج المسلمين إلا ليزيد التعاسة شقاء، فهم وكلوا أمرهم إلى الحسين،

وتركوا إليه أمر الاهتمام بإصلاح شؤونهم، ويحزنني أن أقول: إنه هو وحكومته

تصرفوا في حجاج بيت الله الحرام من المسلمين كما يتصرف المرء بأملاكه، بل

إن الملك حسينًا نفسه عد الأماكن الإسلامية المقدسة ملكه الموروث عن آبائه وأجداده،

فهو مطلق التصرف فيه، وليس على وجه الأرض من ينازعه.

ولما تواردت التقارير التي تنذر بسوء طالع الحجاج المسلمين على رؤساء

الوزارات الأوربية من وكلائهم في جدة؛ اهتم هؤلاء الوكلاء بهذا الأمر، وأخذوا

يسعون لتسحين الأحوال متحدين.

ورسائل المستر بولارد المعتمد السياسي البريطاني في جدة مثلت شعور كل

الدول الأوربية تجاه معاملة الملك للحجاج - إذا استثنينا حكومة السوفيت الروسية

التي كان لها معتمد بخاري مسلم في مكة، وهذا كان يتخابر مع دولته رأسًا - ولم

تكن معاملة الملك حسين للبلاد الإسلامية التي تجاوره أحسن من معاملته للحجاج،

فكان يتغطرس عليهم، ويحتقرهم معتمدًا على مركزه، مُدِلاًّ بلقب: حامي بيت الله

الحرام، متكلاً على أمواله الوافرة، ويقال: إن الملك حسينًا جمع من الضرائب ما

ينيف على مليون ليرا ذهبية، هذا عدا الأراضي التي على الساحل الأفريقي بالبحر

الأحمر.

ولذا أخذ بغضه لفرنسا ولنجد يزداد شيئًا فشيئًا، وكان من حين إلى آخر

يسرد على أعوانه قصة إخراج ابنه فيصل من الشام، وينهي القصة بقوله: إن

هذه عداوة تاريخية لا أنساها، ولن أنسى اليوم الذي احتل فيه جنود الجنرال غورو

عاصمة ولدي.

وأما موقفه تجاه ابن السعود فكان موقف امرئ يغار على مصالح العراق

وشرقي الأردن لمآرب في نفسه؛ ولأن ولديه كانا ولا يزالان في هذين القطرين،

ولقد أبدى الملك حسين عاطفة شريفة نحو فلسطين.

بينا نرى الملك حسينًا على هذه الحالة نرى أن قدم ابن السعود أصبحت تزداد

رسوخًا يومًا بعد يوم، فأسس في البلاد أنظمة لجباية الضرائب، وساعده في توطيد

أحواله المالية مستشارون بعضهم إنكليز، والبعض الآخر فرنسيون [2] وكان جراب

دراهم السلطان هو خزينة الأمة النجدية - بخلاف الملك الهاشمي - وكان ابن السعود

يسير بخطى واسعة نحو إدخال الإصلاحات، متحاشيًا في ذلك كل ما من شأنه أن

يمس المذهب الوهابي خيفة أن يثور عليه الرأي العام، فهذه الإصلاحات، وسوء

سمعة الملك حسين اشتغلت جنبًا إلى جنب في بث الدعوة لابن السعود في البلاد

الإسلامية، ولم يبق له من المعارضين إلا النزر القليل من سكان البلاد الإسلامية

البعيدة.

ولما أخذ عدد الوهابيين يزداد؛ شعر حماة البلاد المجاورة من الأوربيين

بالخطر المحدق، وخافوا انتشار سطوة ابن السعود، وخوفًا من أن تسري الدعوة

الوهابية إلى جوف سورية وفلسطين؛ اتخذت التدابير التي من شأنها منع انتشار

الدعوة الوهابية، وحظر على الوهابيين دخول هذه الأقطار [3] .

ولا شك أن أحد العوامل التي قضت على آمال الهاشميين في البلاد العربية

كان احتلال الوهابيين للبلدين الإسلاميين المقدسين، وهما: مكة المكرمة والمدينة

المنورة، وعدا هذا، فإن سقوط هذين البلدين في أيدي القوات الوهابية فتح المجال

لابن السعود ليسعى في تحسين أحوال الحجاج، والبت في أمر الخلافة - فدعا إلى

مؤتمر إسلامي عام - ولفت نظر ابن السعود أمور داخلية كثيرة لم يكن ملك الحجاز

السابق ليأبه لها، ولم يبق لدى ابن السعود وقت يصرفه للاهتمام بتوسيع منطقته

إلى ما وراء الصحراء العربية.

زد على هذا أن السعي في ترميم ما خربته الحرب النجدية الحجازية منع

الوهابيين من الانشغال بإشعال نار أية حرب مع جيرانهم.

إن هذا التاريخ هو ما سجله مؤرخو العرب أنفسهم عن أنفسهم، ولم يك أي

مجال للأيدي الأوروبية للتلاعب فيه، وما هو إلا تاريخ عداوة بين أشد القبائل

العربية تأثيرًا.

وقصارى القول: إن تأثير إحدى هذه القبائل انتشر انتشارًا كبيرًا، ولكن لم

تمض مدة زهيدة إلا وقد انعكست القضية، وأخذت ثقة الملايين من المسلمين

تضعف، وهذا لا يستلزم أن لا علاقة لإنكلترا في وضع هذه القبيلة، وإعلاء شأن

الأخرى، فهي التي تظاهرت بإعلان حيادها احترامًا لمعاهدتها مع الطرفين،

وكانت تختلس النظر من وراء حجاب متغاضيةً عما لا يمس حقوقها، وتاركة

الأمور تأخذ مجراها الطبيعي في البلاد العربية، وسرعان ما أوحت إلى الملك

حسين أن يغادر البلاد العربية حينما تيقنت أن لا تأثير بإقباله في العالم العربي

والإسلامي على السواء.

واستنادًا على ما تقدم، ليست المعاهدات الحديثة بين إنكلترا وابن السعود إلا

صدى صوت لم يكن بد من سماعه، ونتيجة درس تعلمه من له علاقة بالأمر في

المدرسة الإنكليزية الحجازية خلال تسع سنوات مررن.

فإن إنكلترا عاضدت الفئة الغالبة، وهي غير غافلة عن مصالحها، ولا شك

أننا سنرى من نتائجها: إما صلاح الخطط التي يتبعها الآن ابن السعود، أو فسادها.

وعما قريب سوف نرى الحد الذي تنتهي إليه إصلاحاته، ولكن ليس هنالك

مجال للشك في شرف مقصد ابن السعود، وحسن نيته نحو العرب.

هذا إن تذكرنا أننا إنما نبحث في شأن بلاد - بل عالم - لم يحلم أحد بأنه رأى

في صفحات تاريخه روح اللاحزبية يظهرها للملأ حكامه.

ولم تعد بعد الآن مسألة الجزيرة العربية، والأماكن المقدسة مسألة تهم الدول

الأوروبية فقط، بل إنها أصبحت مسألة هي مدار البحث الإسلامي أجمع، ولا شك

أن إنكلترا التي ترفرف رايتها فوق رءوس القسم الأكبر من الذين يعتنقون الديانة

الإسلامية هي أول من يهمه هذا الأمر، كما تظهر لرعاياها من المسلمين اهتمامها

بشؤونهم، فهي لا تتخلى بعد اليوم عن الجزيرة العربية أيًّا كان حكامها.

وأما الدول الأوربية الأخرى بما فيها إيطاليا التي لها مصالح كثيرة على

الساحل الأفريقي المجاور للبلاد العربية - فلديها من القلاقل في مستعمراتها ما

يردعها عن أن تجازف بالخوض في البحث في شئون غير بلادها، أو بطلب

الاستيلاء على مستعمرات جديدة.

فأمل إنكلترا وطيد بأن نفوذها سينتشر يومًا ما في كل أنحاء البلاد العربية؛

وذلك لأن الدول الأوربية الأخرى لا تنازعها هذا، ولأنها تخلق مشاغل لأتباعها من

المسلمين؛ فتجعلهم بذلك يغفلون عما تنويه للبلاد العربية التي فيها قبلتهم.

...

...

...

جامعة بيروت الأمريكية

...

...

...

تعريب محمد يونس الحسيني

...

...

... عن مجلة (affairs Foreign)

(المنار)

هذه المقالة من أهم ما كتب أحرار الإنكليز في المسألة العربية،

والشؤون الإسلامية تحقيقاً وتمحيضًا للتاريخ، وإنما كتبت لإنارة الرأي العام

الإنكليزي، لا الرأي العام العربي أو الإسلامي، وإنما العرب والمسلمون في شغل

عن الاستفادة بهذه الحقائق بالنظريات الوهمية كنظرية شوكت علي، ومحمد علي

من ساسة الهند بإنشاء جمهورية إسلامية في الحجاز يدير نظامها أفراد ينتخبون من

جميع الأقطار الإسلامية.

ألا فليعتبر المسلمون الصادقون بما قرر صاحب هذه المقالة من قوة ابن

السعود وقومه، ووجل المستعمرين والطامعين منها، فمن عقل هذا علم أنه يجب

على العالم الإسلامي تأييد هذا الرجل بالمال والرجال، والألسنة والأقلام، فإن عقد

ألف مؤتمر، وتأليف ألف جمعية لا تعطي المسلمين من القوة والإصلاح ما سخره

الله تعالى لهذا الرجل، واستعمله فيه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة:

269) .

_________

(1)

يعني عند وضع هذا التقرير بدليل أن من شروطها عدم الاعتداء على العراق والحجاز.

(2)

هذا لم نقرأه في صحيفة، ولا سمعنا به قبل هذه المقالة، ولا يمكن أن يراد به أنه كان عنده بنجد مستشارون موظفون، بل المراد إن صح الخبر أنه استشار بنفسه أو بواسطة بعض رجاله أناسًا من هؤلاء ومن غيرهم وسنبحث عن حقيقة ذلك.

(3)

ليتأمل القراء هذا وليعلموا سبب استعمال الإنكليز عبد الله بن حسين على شرق الأردن.

ص: 54

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إثبات شهر رمضان

وبحث العمل فيه وفي غيره بالحساب

ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين

يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان؛

لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال؛ لأجل الفطر الواجب في يوم العيد،

وكذا هلال ذي الحجة؛ لأجل وقوف عرفة، وقد سبق لنا الكتابة في هذه المسألة في

بعض المجلدات السابقة، وقد عرض لنا في هذا اليوم (الجمعة 30 شعبان) أن

سمعنا قبيل ذرور قرن الشمس دوي المدافع تنفجر من قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات

شهر رمضان، وكان الحاسبون من الفلكيين قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما

دون في جميع التقاويم (النتائج) لهذه السنة الهجرية من أن أول رمضان فيها ليلة

السبت 5 مارس (آذار) ؛ لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات

ونصف ساعة ودقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة

الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت، وما كان من الممكن إثبات

رمضان بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، كدأبهم في حال عدم الرؤية؛ لأن يوم

الجمعة هو اليوم الثلاثون من شعبان بحسب التقاويم، ولم يثبت خلافه بحكم شرعي،

فكان الناس موقنين بأن أول رمضان يوم السبت، وإن أعلنت الحكومة أن رجال

القضاء يجتمعون ليلة الجمعة في المحكمة الشرعية لأجل سماع شهادة من عساه

يشهد أنه رأى الهلال كعادتهم.

وقد تساءلنا كيف كان إثبات الشهر؟ فعلمنا أن برقية جاءت من العريش بأن

قاضيه الشرعي قد حكم بأن يوم الخميس (أمس) الموافق لليوم الثالث من شهر

مارس هو الثلاثون من شهر شعبان، وهذا مبني على أنه قد ثبت عنده أن أول

شعبان كان يوم الأربعاء الموافق 2 فبراير (شباط) ، وأنه صدر بذلك حكم شرعي،

وهم لا يعتدون برؤية الهلال وإثبات الشهور إلا بصدور حكم شرعي به، ولأجل ذلك

يلفقون دعوى صورية يتوسلون بها إلى هذا الحكم.

وهي طريقة مبتدعة منتقدة غرضهم منها إزالة الخلاف في إثبات الشهر،

وصيام بعض الناس، وإفطار بعض في القطر الواحد، وفي البلد الواحد أيضًا،

ولكن هذا لم يرفع الخلاف بين الأقطار البعيدة، ولا القريبة التي لا تختلف مطالع

الهلال فيها.

فما زال هذا الإثبات بهذه الطريقة يتخذ في كل محكمة شرعية من المحاكم،

فتختلف أحكامها فيه، ويتعذر إبلاغ أسبقها حكمًا، وأحقها بالتقديم إلى سائر البلاد،

فلهذا نقرأ في الجرائد كل عام أن أهل الشام صاموا يوم كذا، وأهل مصر يوم كذا،

وأهل مكة يوم كذا إلخ يتفقون تارة، ويختلفون أخرى، ولا يرجعون إلى إمام واحد

يتبعون حكمه.

وأهل القطر المصري وملحقاته هم الذين يصومون ويفطرون في يوم واحد؛

لأن محاكمهم تعمل بخبر البرق كما حدث لنا اليوم، وقد تبرم الناس بهذا الإثبات

اليوم؛ لأن جميع أهل المعرفة منهم يعتقدون أن هذا اليوم من شعبان، فإن ما أثبته

الحاسبون من اليقينيات القطعية، وهو أصح وأثبت من تحديدهم لوقت طلوع الفجر

من كل يوم الذي نعمل به في صيام كل يوم وصلاة فجره، والشهادة برؤية الهلال

إذا انحصرت في واحد أو اثنين أو ثلاثة لا تفيد إلا الظن لكثرة مايقع فيها من

الاشتباه.

وقد وقع لي في بعض السنين، وأنا في سورية أن رأيت الشمس غربت

كاسفة في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ثم شهد شاهدان ذوا عدل بعد غروبها

بساعة زمانية أنهما رأيا الهلال، فحكم القاضي الشرعي بإثبات الشهر بالرؤية،

ومن المعلوم باليقين أن رؤية الهلال كانت من المحال؛ لأنه غرب مع الشمس، فلا

يمكن أن يكون عاد ورأياه، وأنا أعتقد أن ذينك الشاهدين لم يتعمدا الكذب فهما من

أهل التقوى والعلم، ولكنهما تخيلا الهلال تخيلاً، ولأجل مثل هذا الاشتباه قال

المحققون من الفقهاء في هذه المسألة: إن الشهادة برؤية الهلال في أيام الصحو لا

تثبت إلا برؤية جمع كثير، وينبغي تقييد هذا بما إذا تراءى الهلال كثيرون كما هي

العادة، وذلك أن العبرة في الرؤية رؤية معتدل البصر، لا أمثال زرقاء اليمامة في

حدة البصر.

وأما إكمال عدة الشهر ثلاثين فهو أضعف من شهادة الآحاد برؤية الهلال؛

لأن الأشهر القمرية وإن كان بعضها 29 وبعضها 30 كما هو معروف في الحساب

ويشير إليه حديث: (الشهر هكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بالعقد إلى

عددي 30 و 29) وهو في الصحيحين.

قد يتتابع شهران منها تامين، وشهران ناقصين، والعمل بإكمال العدة في حال

عدم رؤية الهلال، مقيدة في الحديث بما إذا غم علينا الهلال.

والأصل في المسألة حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: (صوموا

لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم - وللبخاري غبي - عليكم فأكملوا عدة شعبان

ثلاثين) هذا لفظ البخاري، ولم يذكر مسلم والجمهور لفظ: شعبان، وقال بعضهم:

إنه تفسير من شيخ البخاري لا مرفوع. وفي رواية لأحمد والنسائي زيادة (وانسكوا

لها) وزيادة (فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا) وفي حديث ابن عباس

عند أحمد والنسائي وغيرهما: (فان حال بينكم وبينه سحاب؛ فأكملوا عدة شعبان،

ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ولا تَصِلُوا رمضان بيوم من شعبان) وهو حديث صحيح،

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر

رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم

عليكم فاقدروا له) ، وروي بلفظ آخر بمعناه.

فهذه الأحاديث، وما في معناها تقيد العلم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا بما

إذا غم الهلال، وغبي على الناس بأن حال دونه سحاب، ولم يكن أمس في السماء

قزعة من سحاب، دع علم أهل العلم بأن الهلال لا يمكن أن يرى.

وقد اختلف علماء السلف والخلف بما يجب عمله إذا لم ير الهلال، فقد روى

الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر راوي الحديث الأخير أنه كان إذا مضى من

شعبان 29 يومًا يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون

منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرًا، وإن حال؛ أصبح صائمًا. وروى عنه

الثوري في جامعه أنه قال: (لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه) .

وقال عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) ، ذكره البخاري

تعليقًا، ورواه أصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وغيرهم موصولاً، وهو صريح

في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو مرفوع في المعنى.

وجمهور السلف من علماء الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار على عدم

صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال، مع عدم المانع من رؤيته كالغيم والقتر،

وقد صرحت به الأحاديث الصحيحة، وكان بعضهم يصومه احتياطًا، وهو منهي

عنه في الأحاديث المتفق عليها، بل المروي بعضها عند الجماعة كلهم كما سيأتي،

فعدم رؤية الهلال في حال الصحو دليل على عدم وجوده، وفي هذه الحالة لا نؤمر

بإكمال شعبان 30 يومًا، وإنما نؤمر بذلك إذا وجد المانع من الرؤية كالغيم

والضباب.

وقال الحافظ - في شرح حديث: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) إلخ -:

وهو ظاهر في النهي عن صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم

وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى بذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ

الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة، وهو قوله:(فإن غم عليكم فاقدروا له)

فاحتمل أن يكون المراد: التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على

الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل عدم التفرقة، ويكون

الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور

اهـ.

وقد ذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي جملة الأحاديث الواردة في رؤية

الهلال، أو إكمال شعبان إذا حال دون رؤيته سحاب أو قتر، والأحاديث في النهي

عن صيام يوم الشك، أو آخر يوم من شعبان في غير الحالتين المنصوصتين آنفًا،

ثم ذكر اختلاف عمل السلف في هذه الأحوال، ومداركهم التي ظاهرها اختلاف

النصوص؛ إذ كان بعضهم يصوم آخر يوم من شعبان مع عدم تحقق إحدى الحالتين؛

لأجل الاحتياط، ولكن النهي يشمل الاحتياط كما سيأتي، ثم قال في آخر البحث:

فهذه الآثار (أي: في ترك الصوم) إن قدر أنها معارضة لتلك الآثار التي رويت

عنهم في الصوم فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظًا ومعنى، وإن قدر

أنها لا تعارض بينها، فههنا طريقان من الجمع:(أحدهما) : حملها على غير

صورة الإغمام، أو على الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم،

(والثاني) : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابًا لا وجوبًا.

وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة

النصوص وقواعد الشرع. اهـ.

وقال الحافظ في الكلام على حديث ابن عمر: (لا تصوموا حتى تروا الهلال)

إلخ من الفتح ما نصه: قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة -

وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال:

(أحدها) يجب صومه على أنه من رمضان. (ثانيها) لا يجوز فرضًا ولا نفلاً

مطلقًا، بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك

وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز عما سوى ذلك. (ثالثها) المرجع إلى

رأي الإمام في الصوم والفطر. اهـ

وذكر بعد ذلك أن عمل راوي الحديث يؤيد الأول، وقد تقدم ما ذكره عنه

وهو لا يؤيد القول الأول مطلقًا بل في حال الإغمام، والراجح في هذه الأقوال

الثاني، وأضعفها الأول.

وأما الأحاديث في النهي عن صيام آخر يوم من شعبان فأشهرها قوله صلى

الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل

كان يصوم صومًا فليصم ذلك الصوم) رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وفي

بعض ألفاظه عند بعضهم: (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم - ولا تقدموا صوم

رمضان بصوم - ولا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله) ، قال الحافظ في شرحه

للحديث من الفتح: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على

نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: (العمل على هذا عند أهل العلم،

كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ.

واعتمد الحافظ مما قيل في حكمة هذا النهي قول من قال: إن الحكم علق

بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.

أقول: فعلم مما ذكرنا أن الحكم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا مقيد بما إذا غم

الهلال، وحال دون رؤيته مانع، وفي هذه الحال يقبل في إثبات الرؤية إخبار رجل

عدل واحد؛ لاحتمال أنه لم يظهر من خلال السحاب إلا لحظة رآه فيها دون غيره،

وخلاصة القول: إن إثبات أول رمضان هذا ليس عملاً بنص حديث الرؤية، وإنما

هو عمل بقول تقليدي، يقابله قول من قال من الفقهاء بالعمل بالحساب واعتبار

اختلاف المطالع، ولنا كلمة فيه.

إن حكمة نوط الشارع أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج بالرؤية معروفة لا

تنكر، وحسنها لا يجحد، وذلك أن الإسلام دين عام للبشر، من بدو وحضر، ليس

فيه رياسة دينية تقيد العبادات برجالها، وتخضع الدهماء لإرادتهم (أو هو دين

ديمقراطي كما يقال في عرف هذا العصر) وناهيك بأنه ظهر أولاً في أمة أمية -

كما ورد في الحديث الصحيح - فمن اليسر والاستقلال الشخصي فيه، وعدم

الاختلاف أن تكون أوقات العبادات فيه مما يسهل على كل فرد من أهله أن يعرف

طرفيها بنفسه، بدون توقف على شيء من العلوم والفنون التي لا يعرفها إلا بعض

الناس في المدائن وأمصار الحضارة، أو على رياسة رجال يتحكمون في العبادة

بأهوائهم.

فأول وقت الفجر يعرف برؤية النور المستطير المنتشر من موضع طلوع

الشمس من المشرق، وبه يدخل الصائم في صيامه ويصلي الفجر، وينتهي بغروب

الشمس الذي تجب به صلاة المغرب، وينتهي وقتها بغيبة الشفق الأحمر، وكذلك

أول وقت وقتي الظهر والعصر، كل ذلك يعرف برؤية البصر، وبذلك تكون الأمة

متفقة متحدة لا تختلف مواقيت عباداتها لله تعالى، لا في حال الانفراد، ولا في

حال الاجتماع، إلا ما يكون من اختلاف الأقطار باختلاف الرؤية فيها، فليل أناس

نهار عند آخرين، وكذلك تختلف مطالع الأهلة.

***

(مباحث العمل بالحساب في مواقيت العبادة)

قال الحافظ في شرح الحديث المتفق عليه: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب،

الشهر هكذا وهكذا: يعني مرة 29 ومرة 30) من فتح الباري ما نصه: والمراد

هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا (أي: كالكتابة) إلا

النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية؛ لرفع الحرج عنهم في معاناة

حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل

ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً.

ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)

ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه: كون العدد عند الإغماء يستوي فيه

المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع عنهم ا. هـ.

ثم ذكر أن الروافض وبعض الفقهاء قالوا بالرجوع إلى أهل التسيير في ذلك،

ورده بما ورد من النهي عن علم النجوم (قال) : (لأنها حدث وتخمين ليس فيها

قطع، ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق؛ إذ لا يعرفها إلا قليل) .

وأقول: إن ما ذكره من حكمة التشريع صحيح الأصل، فالاتفاق مطلوب

شرعًا، وكون أوقات العباة منوطة بما يعرفه كل الناس، والحساب الفلكي لا يعرفه

إلا قليل منهم صحيح أيضًا، ولكن المسلمين على زعمهم أنهم يعملون بنصوص هذه

الأحاديث مختلفون غير متفقين، فهم في حال الصحو التام الذي يمكن أن يرى

الهلال فيه السواد الأعم من الناس إن كان موجودًا يستهلون - أي: يتراءون -

الهلال فرادى وجماعات في مواضع كثيرة من كل بلد فلا يراه أحد، وبعد انصرافهم

يشهد واحد أو اثنان برؤيته؛ فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الظاهر خطؤها بعدم رؤية

الجماهير، أو يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا بعد العلم بعدم وجود الهلال؛ إذ لو

كان موجودًا لرآه الجمهور، والعبرة برؤية معتدلي البصر؛ لأنه هو الذي يشترك

فيه الناس، ويرتفع به الخلاف، ولا عبرة برؤية حديد البصر وحده؛ لأنه أندر من

العالم بالحساب، فلا يكون مناطًا عامًّا، ولا يمكن معه اتفاق، وليس فيه قطع، ولا

ظن غالب إلا في حالة الإغمام مع عدالة الشهود، وعدم مخالفة شهاداتهم للعلم

القطعي.

وقوله: (إن ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً) إلخ،

غلط ظاهر، وما ذكر من توضيحه بالأمر بإكمال العدة دون الأمر بسؤال أهل

الحساب غير واضح، بل خلاف المتبادر من منطوق الحديث، وهو أن الأمة أمية

لا تعرف الحساب، وهذا بيان لما كانت عليه، وهو قد بعث لإخراجها منه بنص

القرآن) ، فكيف تؤمر بما لا تعرف؟ ! ومفهومه الظاهر أنه لو وجد الحاسبون

لصح الرجوع إليهم، وما احتج به من النهي عن الخوض في علم النجوم - لأنها

حدث وتخمين ليس فيها قطع، ولا ظن غالب - لا يرد على الحساب الذي نعنيه،

فإن علم النجوم الذي ذكره هو استنباط أخبار الغيب من حركاته وتنقلاتها، ومقارنة

بعضها لبعض، وليس منه حساب البروج والمنازل للشمس والقمر الثابتة باليقين

القطعي، والمشروع العمل بها في قوله تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5)، مع قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ

لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5) ، فهو صريح في إثبات هذا النوع من

الحساب، وإفادته للعلم بضبط السنين والشهور، ولهذا قال بعض العلماء - في حديث

(فإن غم عليكم فاقدروا له) -: فاقدروه بحساب المنازل. قال الحافظ: قاله العباس

بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين، وقتيبة من المحدثين. نقله

الحافظ عنهم، وذكر أن ابن عبد البر لم يعبأ بقولهم، ثم قال: ونقل ابن العربي عن

ابن سريج أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) خطاب لمن خصه الله بهذا

العلم، وأن قوله:(فأكملوا العدة) خطاب للعامة، فصار وجوب رمضان عنده

مختلف الحال، يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد،

قال: وهذا بعيد عن النبلاء اهـ.

وأقول: إنه يمكن حمل اختلاف الحالين على اختلاف الأوقات، فإذا وجد

الحاسبون عمل بقولهم؛ لأنه علم يقيني قطعي، وإن لم يوجدوا أكملت عدة الشهر

ثلاثين بشرطه؛ إذ لا يمكن الاتفاق على غيره.

ومثل ما ذكر - من الاستدلال على منع العمل بالحساب بأنه لا يفيد علمًا ولا

ظنًّا غالبًا - ما ذكره الحافظ عن ابن بطال، قال في شرحه للحديث المذكور: في

الحديث رفع لمراعاة النجوم بقانون التعديل، وإنما المعول عليه رؤية الأهلة، وقد

نهينا عن التكلف، ولا ريب أن ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.

اهـ. من الفتح.

وهو رد لا يرد على الحساب الذي نقول به؛ لأن هذا لا تكلف فيه ولا

غموض، وهو يدرك باليقين لا بالظنون، بل أقول: إن حساب التعديل الذي أشار

إليه صحيح في نفسه، وإنما التكلف في حفظ قواعده، والنظر في الزيج

والإصطرلاب، وقد استغني عن ذلك في هذا الزمان.

وقد اختلف فقهاء الشافعية في العمل بالحساب على أقوال:

(1)

يجوز ولا يجزئ عن الفرض.

(2)

يجوز ويجزئ.

(3)

يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.

(4)

يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم.

(5)

يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً.

ذكر هذه الأقوال الحافظ في الفتح، وقال بعدها: وقال الصباغ: (أما

بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا) .

(قلت) : ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في (الأشراف) :

(صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة،

وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته) .

هكذا أطلق، ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجًا

بالإجماع قبله اهـ.

وظاهر هذا القول الذي اعتمد عليه الحافظ في الإجماع، بل نص منطوقه أنه

لا يجوز إكمال عدة شعبان ثلاثين في حال الصحو مطلقًا، ولا يعتد بقول أحد يجيزه

كائنًا من كان؛ لأنه محجوج بالإجماع قبله، فإثبات رمضان هذا العام في هذا اليوم

(الجمعة) مخالف للإجماع، فهو باطل، ويجب إبطال هذا النوع من إثباته.

وأما الحساب فيظهر أنه لم يكن في عهد السلف الذين أجمعوا على ما ذكر قد

وصل إلى الدرجة المعهودة عندنا في هذا العصر من العلم اليقيني، والصورة التي

أجمعوا عليها لا يمكن أن تخالف الحساب، أعني أنه لا يمكن أن لا يرى الهلال في

مساء اليوم الذي يثبت الفلكيون الحاسبون إمكان رؤيته فيه عند انتفاء المانع، فهم

يبينون وقت ولادة الهلال - أي: مفارقته للشمس - في آخر الشهر بالساعات

والدقائق، ومنه يعلم إمكان رؤيته لمعتدلي البصر وعدم إمكانها، فإذا كان من الدقة

بحيث لا يرى لا يثبتون الشهر الشرعي بولادته، وإذا كان بحيث يرى قطعًا عند

انتفاء المانع من غيم أو قر يثبتون الشهر، فهنا يقال: إن الشهر قد ثبت برؤية

الهلال حقيقة أو حكمًا، وذلك أنهم إذا تراءوه رأوه قطعًا، فلا يكون إثبات وجوب

الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما هم يبينون للناس متى يرى،

وقد ظهر باختبار السنين صدقهم لكل من يرى تقاويمهم، ونحن في أشد الحاجة

إلى علمهم في حال وجود المانع من رؤية الهلال؛ لأنه علم يقيني كرؤية الهلال،

وإكمال عدة الشهر كثيرًا ما تكون خطأ كما تقدم بيانه، وهي تبنى في كل شهر على

رؤية هلاله، وإلا كانت مسألة حسابية، وقد تمر في بعض الأقطار التي تكثر فيها

الأمطار عدة أشهر لا يرى فيها هلال، فكيف يمكن العمل فيها بإكمال عدة الشهر

ثلاثين؟ ! ومن المعلوم حسابًا وشرعًا أن الشهر يكون تارة 30 وتارة 29.

إذا تمهد هذا فنحن نلخص الكلام في هذا الموضوع في مسائل:

(1)

إن إثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو كإثبات أوقات

الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل العلم به على البدو والحضر؛ لما

تقدم من بيان حكمة ذلك، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات، لا التعبد

برؤية الهلال، ولا بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أي: انفصال

كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المستطير من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل

الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، لا برؤية غروب

الشمس وغيبة الشفق لوقتي العشاءين، فغرض الشارع من مواقيت العبادة معرفتها،

وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال، أو إكمال العدة

بشرطه قد علله بكون الأمة في عهده كانت أمية، ومن مقاصد بعثته إخراجها من

الأمية لا إبقاؤها فيها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو

عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) ، وفي معناها ما ذكره من دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك

في سورة البقرة، ويؤخذ منه أن لعلم الكتابة والحكمة حكمًا غير حكم الأمية.

(2)

إن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها ما أمكن الاتفاق وسيلة

ومقصدًا، فإما أن تتفق كلها، أو أهل كل قطر منها على العمل بظواهر نصوص

الشرع، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت

الصلاة والصيام والحج من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند

الإمكان، وبالتقدير، أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان، وفي هذه الحالة لا يجوز

لمؤذن الفجر أن يؤذن إلا إذا رأى ضوءه معترضًا في جهة المشرق، وهو يختلف

باختلاف الليالي، ففي النصف الثاني من الشهر - ولاسيما أواخره - يرى متأخرًا

عن الوقت الذي يرى فيه ليالي النصف الأول المظلمة بقدر تأثير نور القمر في جهة

المشرق، وقد قال صلى الله عليه وسلم في رمضان: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا

واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) ، قال بعض رواته: وكان رجلاً أعمى

لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. رواه الشيخان وغيرهما. وإما أن تعمل

بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت التي جرى عليها

العمل في جميع بلاد الحضارة الإسلامية في الصلاة مع المحافظة على الاستهلال

ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته؛ للجمع بين ظاهر النص والمراد منه،

ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة عماد الدين، فهي أفضل من الصوم

وأعم، وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال يكون إثبات الشهر

بإكمال العدة ثلاثين ظنيًّا، أو دون الظني، ومن قواعد الشريعة المتفق عليها: إن

العلم مقدم على الظن، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا

يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد.

(3)

إذا قيل: إن إفادة الحساب للعمل القطعي بوجود الهلال، وإمكان

رؤيته خاص بالفلكي الحاسب، وقد اختلف العلماء في العلم به كما ذكرتم، ولا

يكون علمهم حجة على غيرهم. قلنا: إن الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد عللوه

بأنه ظن وتخمين لا يفيد علمًا ولا ظنًّا، كما نقلناه عن شرح البخاري للحافظ ابن

حجر آنفًا، والحساب المعروف في عصرنا هذا يفيد العلم القطعي كما تقدم، ويمكن

لأئمة المسلمين وأمرائهم الذين ثبت ذلك عندهم أن يصدروا حكمًا بالعمل به فيصير

حجة على الجمهور، وهذا أصح من الحكم بإثبات الشهر بإكمال عدة شعبان ثلاثين

يومًا، مع عدم رؤية الهلال ليلة الثلاثين، والسماء صحو ليس فيها قتر ولا سحاب

يمنع الرؤية، فإن هذا مخالف لنصوص الأحاديث الصحيحة كما تقدم في هذا المقال،

فهو حكم باطل.

(4)

يؤيد هذا الوجه الأخير القول الثالث للإمام أحمد فيما يجب العمل به

إذا غم على الناس رؤية الهلال وهو: أن يرجعوا إلى رأي الإمام (أي: السلطان

ولي الأمر الشرعي) في الصوم والفطر، وقد تقدم مع القولين الآخرين.

(5)

إذا تقرر لدى أولي الأمر بالعمل بالتقاويم الفلكية في مواقيت شهري

الصيام والحج كمواقيت الصلاة وصيام كل يوم من الفجر إلى الليل امتنع التفرق

والاختلاف بين المسلمين في كل قطر، أو في البلاد التي تتفق مطالعها، وهذه لا

ضرر في الاختلاف في صيامها، كما أنه لا ضرر في الاختلاف في صلواتها.

وجملة القول أننا بين أمرين: إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادات

أخذًا بظواهر النصوص وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن

حتى يرى نور الفجر الصادق مستطيرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال

والغروب إلخ، وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به؛ لأنه أقرب إلى مقصد الشارع،

وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام

تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر عند عدم المانع من

الرؤية وتوزع في العالم، فإذا زادوا عليها استهلال جماعة في كل مكان، فإن رأوه

كان ذلك نورًا على نور، وأما هذا الاختلاف وترك النصوص في جميع المواقيت

عملاً بالحساب ما عدا مسألة الهلال فلا وجه ولا دليل عليه، ولم يقل به إمام مجتهد،

بل هو من قبيل {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85)

والله أعلم وأحكم.

_________

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنباء العالم الإسلامي

(الحجاز ونجد)

هما خير الأقطار الإسلامية في هذا العصر أمانًا في الأنفس والآفاق، وعدلاً في

الأحكام، وطاعةً للإمام، وقد شرعت حكومة الحجاز السعودية في رصف الحجارة في

المسعى بين الصفا والمروة لمنع الغبار، وتسهيل فريضة السعي على الحجاج، وهو

عمل قد فضلت به هذه الحكومة جميع ما قبلها من حكومات الإسلام، وشرعت أيضًا

في نشر التعليم، فناطت إدارة المعارف العامة بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد كامل

قصاب الشهير، فأنشأ المعهد السعودي العلمي الجامع للتعليم الديني والدنيوي

وبعض اللغات الأجنبية، وناط إدارته بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد بهجت البيطار

فأحسن الاختيار، وأنشأ مدارس جديدة، وسنبين تفصيل ذلك في باب التربية

والتعليم من جزء آخر، وإدارة الصحة هنالك مجدة في عملها.

وقد انتشر صيت الإمام السعودي في بلاد الغرب، وزار ثغر جدة بعض

الأوربيين والأميركانيين، فأثنوا عليه وعلى إدارته وأحكامه الإسلامية ثناءً لم يكن

يتصوره أحد، حتى شبهه كاتب ألماني يراسل كثيرًا من صحف بلاده بالبرنس

بسمارك أعظم ساسة أوربة في عصره، مع الشهادة بالنقل عن جميع قناصل الدول

بصراحته وصدقه، وأثنى عليه وعلى حكمه الإسلامي المستر كراين سفير الولايات

المتحدة في الصين من قبل، فقال: (لو رجع النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى

الدنيا لما رأى دينه الذي جاء به من النور والهدى إلا في بلاده نجد) . وقد نشر

ثناؤهما في أشهر الجرائد المصرية.

***

(اليمن)

يسوءنا من أخبارها رسوخ أقدام الدولة الإيطالية فيها يومًا بعد يوم، بإقدام رجلها

الطماع الطماح الضاري باستعمار البلاد العربية السنيور موسوليني

الجريء، وما تلا تدخل هذه الدولة من استعداد الإمام يحيى للحرب والكفاح، ولا

مجال للحرب هنالك إلا قتال جيرانه من العرب والمسلمين، ويقال: إن موعد

زحف جيوشه على جاره السيد الإدريسي شهر شوال الآتي. أعاذ الله العرب

والمسلمين من هذه الفتنة التي أجمعوا على كراهتها، والخوف من سوء عاقبتها،

ولا نزال نستبعد على حكمة الإمام يحيى إيقاد نارها؛ لما نعهد من بصيرته وأخلاقه،

وقد شرحنا ذلك في الجزء الماضي من المنار.

***

(مصر)

يعمل برلمانها عمله بهدوء واتفاق، وتسير حكومتها سيرها في إدارة البلاد،

مؤيدة بتضامن الأحزاب، وهي تتمتع فيها باستقلال إداري تام، ولكنه مقيد

بالامتيازات الأجنبية، والمراقبة البريطانية، وقد رزئت البلاد بعسرة مالية، كانت

عثرة في سبيل الغلو الفاحش في الإسراف والزينة، وانتشر وباء الإلحاد، وفساد

الأخلاق، وتهتك النساء، وفشو المسكرات والمخدرات، فهو يفتك بالأرواح

والأجساد، ويجرف ثروة البلاد، وقد أبت النيابة محاكمة داعية هذا الإلحاد

ولوازمه القاتلة الدكتور طه حسين، وأبت وزارة المعارف إخراجه من مدرسة

الجامعة، فنابتة الجامعة المصرية الجديدة خطر عظيم على مصر.

***

(العراق)

تسير حكومته كما تحب الدولة البريطانية وترضى في الظاهر، والشعب

مضطرب الباطن، وأداء فريضة الحج ممنوع إرضاءً للملك فيصل وأخيه، وتغليبًا

لأهواء متعصبي الشيعة، وقد حدثت في بغداد ثورة مدرسية فصحفية أيدها أحرار

البلاد بسبب اضطهاد وزير المعارف الشيعي لأستاذ سوري ألف كتابًا في التاريخ

يفضل به خلافة معاوية على خلافة أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه،

وذكر رأيه هذا في المدرسة للطلبة، فهاجت التلاميذ من الشيعة؛ فعزله الوزير،

وعزل سائر المدرسين السوريين، وأخرجتهم الحكومة من البلاد العراقية، وعزلت

بعض المدرسين البغداديين أيضًا، وطردت بعض الطلبة المتظاهرين لحرية العلم

على الوزارة طردًا، هكذا بلغتنا الحادثة ولم نر الكتاب المذكور.

***

(سورية)

تنتظر البلاد السورية ما عسى أن يكون من دراسة المندوب السامي الأخير

(موسيو بونسو) لأحوالها، وسماعه لآراء كبرائها وأحزابها، وزعماء الثورة

ينتظرون مع الأمة آخر أمل لهم في وحدة البلاد وحريتها واستقلالها؛ فلذلك هدأت

الثورة ، ولكن لم تنطفئ جذوتها.

***

(فلسطين)

أسوأ ما يسوء من حوادثها تخاذل المسلمين بعد اتحاد كان مثار الإعجاب،

ومضيّ المستعمرين في عملهم بمنتهى النجاح، ودخول الصهيونيين لمأربهم الأسمى

من كل باب، وقيام الأمير عبد الله (الحسين علي) بخدمته لمستعمليه على شرق

الأردن بمنتهى الاجتهاد، فقد قضى على استقلالها، وجعلها ملحقة بفلسطين في

انتدابها، واقتطع بالتواطؤ مع أخيه (علي) الذي كان مملَّكًا في جدة قطعة من أثمن

أرض الحجاز المقدسة، فألصقها بها، ومكن بها الأجانب مقاتلها، بل مقاتل الحجاز

أيضًا، وألقى الشقاق بين أعرابها وبين جيرانهم من أهل نجد والحجاز إلخ " وكل

الصيد في جوف الفرا ".

***

(جاوه)

مسلمو جاوه يسيرون في نشر العلم والإصلاح في بلادهم سيرًا حسنًا ، ولم

تؤثر في بلادهم دعاية الرفض والشقاق شيئًا، ولكن حدث في بلادهم ثورة بلشفية لم

تكن منتظرة منهم؛ لأن هداية الإسلام أقوى من نزعات التفرنج فيهم، وقد نكلت

حكومتهم الهولندية بكثير من رجال الثورة والمتهمين بها، فنحن ننصح لرجال الدين

أن يبينوا للشعب ما بين البلشفية والإسلام من الخلاف والتباين، وننصح للحكومة

الهولندية أن تكف من غلواء دعاة النصرانية في هذه البلاد ، فإنه لا شيء يبغضها إلى

المسلمين ويعدهم لقبول الثورات البلشفية ، وغيرها من الفتن إلا الطعن في دينهم ،

واضطهادهم فيه.

وليعلم أحرار هذه الأمة أن نقل شعب مسلم من أفق التوحيد إلى حظيرة

التثليث غاية لا تدرك، وأكبر ما فعله دعاة النصرانية في البلاد الإسلامية تشكيك

بعض المسلمين في دينهم ، وفي كل دين بالأولى، ومتى ضاع دين المسلم صار

قابلاً لجميع الآراء والأفكار العصرية، التي هي أشد خطرًا على الدول الاستعمارية

بما حدث في الشرق من اليقظة العامة والجرأة التامة.

***

(الهند)

كان مسلمو الهند في السنين التي تلت الحرب أحسن حالاً مما كانوا قبلها في

اتفاقهم مع الوثنيين من أهل وطنهم على الحكومة الإنكليزية، كما كانوا أحسن حالاً

في شؤونهم الإسلامية الخاصة بهم، فساء الحالان كلاهما في هذا العام، واشتد الشقاق

والخصام، ومما ينتقد على أهل الهند في مسألتهم الوطنية أن أكبر مثار للشقاق بين

المسلمين والهندوس هو إصرار المسلمين على ذبح البقر على مرأى من الهندوس

وأكلها، ومرور هؤلاء بمعازفهم على مساجد أولئك للتهويش عليهم في أثناء

صلواتهم، ولو ترك كل من الفريقين ما يسوء الآخر من هذين الأمرين لم يكن آثمًا

في حكم دينه، والأولى بالإثم من يعمل عملاً مباحًا في الدين وهو يعلم أنه يفضي إلى

شقاق وقتال تسفك فيه الدماء ، إن الله تعالى أحل للمسلمين أكل البقر ، ولم يفرضه

عليهم، وإن أكثر المسلمين الذين عرفنا بلادهم لا يأكلون لحم البقر ، ولا يحرمونه.

وأما الشقاق بين المسلمين أنفسهم ، فقد بدأ بإثارته غلاة التعصب من الشيعة ،

واستخدموا جمعية خدام الحرمين في (لكهنو) ، ولكن تأثير هؤلاء بدعاية ملكي

مكة الشريف حسين وولده الشريف علي كان ككيد الشيطان ضعيفًا، فنفخ في ناره

الزعيمان السياسيان شوكت علي ومحمد علي بتحولهما عن سياستهما السابقة في

تأييد ابن السعود إلى سياسة الإسراف والإفراط في عداوته؛ لأنه لم ينفذ لهما رأيهما

في جعل حكومة الحجاز جمهورية بالشكل الذي يقترحانه، وهو ما لا يوافقهما عليه

العالم الإسلامي ، وإنما يوافقهم عليه الشيعة وبعض المقلدين لهما من عوام الهنود،

وسنبين ذلك بالتفصيل في رحلتنا الحجازية إن شاء الله تعالى.

ونقول هنا: إنه لا يوجد شيء أضر على الأمم والشعوب من الخلاف

والشقاق، فإن فرضنا أن رأي الزعيمين الكبيرين حسن في نفسه، فإن مساوي

الوسيلة التي يتوسلان بها إليه تزيد على حسنه أضعافًا كثيرة، وهذه المساوي دينية

وسياسية، من أقبحها تجديد النزاع والتباغض بين أهل السنة والشيعة بعد أن خبت

نارهما بسعي العقلاء المصلحين، بدعوة حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني

ومريديه من الفريقين - ولعلنا أشدهم اجتهادًا في ذلك - ومنها الدعوة إلى ترك أداء

فريضة الحج ما دام ابن سعود مستوليًا على الحجاز، ومن استحل هذا يرتد عن

الإسلام بإجماع أهل السنة والشيعة ، وقد كان من مفاسد هذا الشقاق سعي بعض

الهنود لدى الدولة البريطانية بقتال ابن السعود في حرم الله ورسوله ، وإخراجها إياه

منه.

وزعيم هذه الجناية على الإسلام والمسلمين زعيم الشيعة محمد علي راجا

محمود آباد - فهل يجهل أجهل مسلم في الدنيا أن خصوم ابن السعود أعدى أعداء

الإسلام؟ ؟

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

مجلات جديدة

(لغة العرب)

(مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية - بيد الآباء الكرمليين المرسلين. صاحب

امتيازها الأب أنستانس ماري الكرملي) .

أنشئت هذه المجلة ببغداد سنة 1329 الموافقة سنة 1911، وصدر الجزء

الأول في منتصف هذه السنة الميلادية ، وقرظناها في الجزء الثامن من المجلد

الرابع عشر ، واستمرت ثلاث سنين ، ثم حجبت في سنة 1914 ميلادية بسبب

الحرب العظمى ونكباتها ، وقد استؤنف إصدارها في منتصف السنة الماضية

(1926)

، وهي تصدر في بغداد كل شهر (وبدل اشتراكها في بغداد 12 ربية

(هندية) ، وفي الديار العربية اللسان 13 ربية، وفي الديار الأجنبية 15 ربية

تدفع كلها سلفًا) ، فعسى أن تلقى في جميع البلاد العربية ، وعند أهل العلم والأدب

العربي في كل قطر ما تستحقه من الرواج، ويكافئ عناية صاحب امتيازها المدقق

بهذه اللغة الجليلة.

***

(الجامعة)

مجلة علمية تاريخية فلسفية أدبية تصدر في بغداد من قبل المدرسة العالية

التي أنشئت في ضواحي بغداد باسم (جامعة آل البيت) ، وفي طرتها أنها

مختصة بمحاضرات الأساتذة ، ومقالات المنتمين إلى الجامعة، وأنه يقوم بطبعها

طلبة الجامعة، وأنها تصدر في الشهر مرة أو مرتين، وأن بدل الاشتراك فيها

عن اثني عشر عددًا 15 ربية (هندية) ، وقد صدر العدد الأول منها في 30 شعبان

سنة 1344 الموافق 15 آذار (مارس) سنة 1926 ، وصفحاته 96 من القطع

الكامل ، وصدر العدد الثاني في 5 صفر سنة 1345 الموافق 15 آب (أغسطس) ،

ولم نطلع على غير هذين العددين.

جامعة آل البيت هذه أثر للملك فيصل يحفظه له التاريخ ، فهو الذي اقترحها ،

وينفذ اقتراحه بالتدريج ، وسنتكلم عنها في فرصة أخرى بعد الوقوف على ما يجب

من شؤونها ، وفي المجلة جل المباحث العلمية منه ، وإن لنا لعودة إليه إن شاء الله

تعالى.

***

(الوحي)

مجلة شهرية تبحث في الأدب والدين لمنشئيها: محمود عثمان، وزاكي

عثمان تصدر في مدينة (حماه) ، وقيمة اشتراكها في حماه وسورية 40 قرشًا

ذهبًا ، وفي بقية الأقطار 30 قرشًا مصريًّا ، ويحسم ربع القيمة لمعلمي المدارس

وتلاميذها ، والجزء منها مؤلف أربع كراريس (ملازم) من القطع الوسط (أي: 32

صفحة) .

***

(مرآة المحمدية)

مجلة اجتماعية أخلاقية تصدر مرة في كل شهر أصدرها مؤلفات الكتب

للجمعية المحمدية في (جكجاكرتا - جاوه) باللغة العربية في هذا العام ، فصدر

العدد الأول منها في عاشر ربيع الأول منه ، ومحررها السيد (محمد علي قدس)

ومديرها المالي السي (محمد أسلم بن زين الدين) ، وهي ترسل لكل من يطلبها

مجانًا؛ لأن اشتراكها على أريحية المحسنين ، فبارك الله بمحسني الجاويين.

وأما الجمعية المحمدية نفسها فقد أُلِّفت منذ بضع عشرة سنة بإرشاد داعية

الإصلاح الحاج أحمد دحلان - رحمه الله تعالى - ونجحت نجاحًا عظيمًا، ولها في

مركزها العام مكتبة مفتوحة للمطالعين فيها المختارات النافعة من المطبوعات

العربية والجاوية ، وقد أنشأت جماعة النساء المنتسبات إلى الجمعية مسجدًا خاصًّا

بهن يصلين فيه الصلوات ، وللجمعية أيضًا فرقة كشافة تتولى تربيتها على الأساليب

الحديثة زادها الله نجاحًا وتوفيقًا.

***

(التمدن الإسلامي)

مجلة تبحث في الدين والأدب وشؤون الاجتماع، شعارها: {إِنَّ اللَّهَ لَا

يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ، أنشأها في طرابلس الشام

كل من عبد الحليم بك مراد صاحب الامتياز بها والمدير المسؤول عنها ، وعبد الله

أفندي الشامي رئيس تحريرها ، وهي تصدر في كل شهر قمري مرتين ، كل جزء

منها عشرون صفحة كبيرة ، وقيمة الاشتراك فيها مدة سنة كاملة ثلاثون قرشًا سوريًّا

ذهبًا في سورية، وخمسون قرشًا في خارجها ، وقد رأينا فيما صدر منها مقالات في

أهم المسائل الإسلامية التي تهم مسلمي هذا العصر لعلماء طرابلس وأدبائها، تبشر

بإمدادهم إياها ، وعنايتهم بها، فنتمنى لها سعة الانتشار والتوفيق.

***

(الكشاف)

مجلة علمية أدبية مصورة غايتها: الاجتماعي عن طريق التربية والتهذيب ،

يصدرها في بيروت مقر الكشاف العام. مديرها المسئول محمود أفندي أحمد عيتاني،

ومدير شؤونها بهاء الدين أفندي الطباع، واشتراكها السنوي في البلاد السورية 75

قرشًا ذهبيًّا ، وفي الخارج عشرون شلنًا (جنيه إنكليزي) ، وللكشافة في سورية 60

قرشًا ، وفي الخارج 17 شلنًا ، وقد صدر الجزء الأول منها في رجب الماضي في 64

صفحة حافلة بالفوائد. والرجاء في ثباتها ، والانتفاع بها قوي بهمة الكشافة ،

واستعداد الشعب.

***

(اللطائف العصرية)

مجلة علمية أدبية روائية فكاهية تصدر في بيروت مرتين في الشهر-

لصاحبها عبد الرحمن أفندي عكاوي مديرها المسؤول ، وعزت أفندي الطيان ،

واشتراكها السنوي 40 قرشًا ذهبًا في سورية ولبنان ، وفي الخارج 75 قرشًا ، أو

ما يعادلها قروشًا سورية ، مع خصم 15 بالمائة لطلبة المدارس ومعلميها.

كان صدر منها بضعة أجزاء ، ثم حجبت عن قرائها ، ثم عادت إلى الظهور ،

وبين يدينا الآن الجزآن 8 و 9 ، وينتهيان بالصفحة 2889 ، وقد صدرا في جمادى

الآخرة من هذا العام.

***

(غابر الأندلس وحاضرها)

تاريخ وجيز للأستاذ محمد كرد علي أفندي رئيس المجمع العلمي في دمشق،

أودعه خلاصة تاريخية جامعة مفيدة مما طالعه في الكتب العربية ، والإفرنجية في

ذلك التاريخ العربي الذهبي في بدايته ، الناري في نهايته ، ومما أُطلِعَ عليه واستفاده

في سياحته ، وقد طبع سنة 1341 بالمطبعة الرحمانية بمصر ، وثمن النسخة منه

خمسة قروش.

***

(مجلة كلية الحقوق)

للمباحث القانونية والاقتصادية ، يصدرها في مصر جماعة من كبار رجال

القوانين ، وطلبة كلية الحقوق ، ورئيس تحريرها الأستاذ حسني عبده الشنتناوي ،

وقد صدر الجزآن الأولان منها ، وفي صدورهما مقالان لصديقنا الأستاذ الشيخ

أحمد إبراهيم مدرس الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق ، أفقه فقهاء مصر في هذا

العصر ، فهو من محرري هذه المجلة ، وهي تطبع على ورق جيد من القطع

الكامل، ومن الغريب الشاذ أن الأرقام العددية لصحائفها غير متسلسلة في أجزائها ،

بل جعل للجزء الثاني أرقامًا مستأنفة كأنه كتاب مستقل.

***

(البلاغ الجزائري)

جريدة علمية إرشادية دفاعية ، يصدرها في مدينة الجزائر مديرها وصاحب

امتيازها السيد حدوني محمد بن محيي الدين في ورقة ذات صفحتين، وهي تُنَوِّهُ

بالصوفية ، وتدافع عن مشايخ الطرق الذين قامت عليهم قيامة أهل هذا العصر من

المسلمين ، وقيمة اشتراكها في الجزائر 30 فرنكًا ، وفي بقية الأقطار 35 فرنكًا.

_________

ص: 78