الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: أحمد بن تيمية
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما قبله)
مذهب عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة:
وأما إتمام عثمان ، فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول، لا على ما لم
يثبت عنه ، فقوله: (إنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة، وإما لجباية، وإما
لجَرِيمٍ يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو) ،
وقوله بين فيه مذهبه، وهو: أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية، أو
مَصْرٍ إلا إذا كان خائفًا بحضرة عدو، وإنما يقصر من كان شاخصًا؛ أي: مسافرًا،
وهو الحامل للزاد ، والمزاد؛ أي: للطعام والشراب، والمزاد: وعاء الماء،
يقول: إذا كان نازلاً مكانًا فيه الطعام والشراب؛ كان مترفهًّا بمنزلة المقيم، فلا
يقصر؛ لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان، وهذا لا تلحقه مشقة،
فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد، وللخائف.
ولما عمرت مِنَى ، وصار بها زاد ومزاد؛ لم ير القصر بها لا لنفسه، ولا
لمن معه من الحاج، وقوله في تلك الرواية:(ولكن حدث العام) لم يذكر فيها ما
حدث ، فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب ،
وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع، فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه
الزاد والمزاد أربعًا، وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة؛ فيكون هذا
أيضًا موافقًا، فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد، وهو لا يرى القصر لمن
كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا؛ فجميع ما ثبت في هذا
الباب من عذره يصدق بعضه بعضًا.
وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم أعمر من منى في زمن عثمان ، فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه
وسلم في عمرة القضية، ثم في غزوة الفتح، ثم في عمرة الجعرانة كان خائفًا من
العدو، وعثمان يجوِّز القصر لمن كان خائفًا ، وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد
والمزاد ، فإنه يجوِّزه للمسافر ، ولمن كان بحضرة العدو، وأما في حجة الوداع ،
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنًا لكنه لم يكن نازلاً بمكة ، إنما كان نازلاً
بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه، فلم يكونوا نازلين بدار إقامة، ولا بمكان فيه
الزاد والمزاد.
وقد قال أسامة: أين ننزل غدًا؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك
لنا عقيل من دار؟ ! ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر. وهذا المنزل
بالأبطح بين المقابر ومنى.
وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها: أنها إنما تتم؛ لأن القصر
لأجل المشقة ، وأن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في
جنسه وفي قدره ، فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها.
وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر، مع أن عثمان قد خالفه علي ،
وابن مسعود ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وابن
عباس ، وغيرهم من علماء الصحابة، فروى سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن
محمد ، عن أبيه قال: اعتل عثمان - وهو بمنى - فأتى علي، فقيل له: صل
بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله ركعتين. قالوا: لا إلا صلاة
أمير المؤمنين - يعنون أربعًا - فأبى ، وفي الصحيحين عن ابن مسعود
…
[1]
***
(الخلاف في جواز تمام الرباعية في السفر)
وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: (أحدهما) : إن ذلك
بمنزلة صلاة الصبح أربعًا، وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف ، وهو مذهب
أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة: إذا جلس مقدار
التشهد؛ تمت صلاته، والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد
مقدار التشهد؛ بطلت صلاته ومذهب ابن حزم ، وغيره: إن صلاته باطلة، كما لو
صلى عندهم الفجر أربعًا.
وقد روى سعيد في سننه ، عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس:
(من صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين)، قال ابن حزم: وروينا
عن عمر بن عبد العزيز ، وقد ذكر له الإتمام في السفر لمن شاء ، فقال: كلا،
الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما. وحجة هؤلاء أنه: قد ثبت أن
الله إنما فرض في السفر ركعتين، والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ، ولا سنة،
وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى أربعًا ، أو أقر من صلى
أربعًا ، فإنه كذب.
وأما فعل عثمان ، وعائشة ، فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض
الأسفار دون بعض، كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد، ثم
قد خالفهما أئمة الصحابة ، وأنكروا ذلك.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة تصدق الله بها عليكم ،
فاقبلوا صدقته) ، فأمر بقبولها ، والأمر يقتضي الوجوب.
ومن قال: يجوز الأمران؛ فعمدتهم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:
101) قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: {وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (النساء: 102)، وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة: 236) ، ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم
من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها، وبما روي من أنه فعل ذلك ،
واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة ، فأتموا خلفه ، وهذه كلها
حجج ضعيفة.
أما الآية ، فنقول: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان
يصلي في السفر ركعتين ، وكذلك أبو بكر ، وعمر بعده، وهذا يدل على أن
الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله ،
وهو أفضل من غيره، لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه،
ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبًّا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورًا به أمر إيجاب،
وقد قال تعالى في السعي: {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} (البقرة: 158)، والطواف بين الصفا والمروة هو: السعي المشروع
باتفاق المسلمين، وذلك إما ركن ، وإما واجب ، وإما سنة، وأيضًا فالقصر - وإن
كان رخصة استباحة المحظور - فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر، والتيمم
لمن عدم الماء، ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في
الآية ثلاثة أقوال: قيل: المراد به قصر العدد فقط، وعلى هذا فيكون التخصيص
بالخوف غير مفيد، (والثاني) : أن المراد به قصر الأعمال ، فإن صلاة الخوف
تقصر عن صلاة الأمن ، والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف
جائزة حضرًا وسفرًا ، والآية أفادت القصر في السفر، (والقول الثالث) - وهو
الأصح -: أن الآية أفادت قصر العدد ، وقصر العمل جميعًا، ولهذا علق ذلك
بالسفر والخوف ، فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف؛ أبيح القصر الجامع لهذا
ولهذا، وإذا انفرد السفر؛ فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف؛ فإنما يفيد قصر
العمل.
ومن قال: إن الفرض في الخوف والسفر ركعة. كأحد القولين في مذهب
أحمد ، وهو مذهب ابن حزم، فمراده: إذا كان خوف وسفر، فيكون السفر والخوف
قد أفاد القصر إلى ركعة، كما روى أبو داود الطيالسي، ثنا المسعودي هو عبد الرحمن
ابن عبد الرحمن بن عبد الله، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله
عن الركعتين في السفر: أقصرهما؟ قال جابر: (لا، فإن الركعتين في السفر ليستا
بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال) .
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان
نبيكم في الحضر أربعًا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة) قال ابن حزم:
ورويناه أيضًا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة.
قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة ،
وإن شاء ركعتين؛ لأنه جاء في القرآن بلفظ: {لَا جُنَاحَ} (النساء: 102) ، لا
بلفظ الأمر والإيجاب، وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط ،
ومرة ركعتين ، فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر.
وأما صلاة عثمان ، فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ، ومع هذا فكانوا
يصلون خلفه؛ بل كان ابن مسعود يصلي أربعًا وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر.
وكان ابن عمر إذا انفرد صلى ركعتين.
وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعًا مكروهة عندهم ، ومخالفة للسنة، ومع
ذلك فلا إعادة على من فعلها، وإذا فعلها الإمام؛ اتبع فيها؛ وهذا لأن صلاة المسافر
ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن
الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع ، فقال: (صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة
الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر
على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى) . رواه أحمد والنسائي من حديث
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجزة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد
ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي [2] عن عبد الرحمن، فهذه الأربعة ليست من جنس
الفجر.
ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلي ركعتين تارة ، ويصلي أربعًا أخرى، ومن
فاتته الجمعة؛ إنما يصلي ركعتين، وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة ،
وجمهور العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(من أدرك ركعة من الصلاة ، فقد أدركها) وإذا حصلت شروط الجمعة؛ خطب
خطبتين ، وصلى ركعتين، فلو أنه خطب ، وصلى الظهر أربعًا؛ لكان تاركًا للسنة،
ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعًا، ولهذا يجوز للمريض والمسافر ، والمرأة ،
وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعًا أن يأتم به في الجمعة؛
فيصلي ركعتين، فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين ، وله أن يأتم بمقيم ، فيصلي
خلفه أربعًا ، فإن قيل: الجمعة يشترط لها الجماعة ، فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف
حكم المؤتم وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي ، وطائفة من أصحاب أحمد، قيل لهم:
اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، والأقوى أنه
شرط مع القدرة، وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة ، فلزمه
اتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل: فللمسافرين أن يصلوا جماعة، قيل: ولهم أن
يصلوا يوم الجمعة جماعة ، ويصلوا أربعًا، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه
استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعًا: ركعتين للسنة، وركعتين لكونهم لم
يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة، وصلاة العيدين تفعل تارة اثنتين،
وتارة أربعًا، كصلاة المسافر، بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة،
فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعًا ، ويصلون خلفه، كما في حديث
سلمان ، وحديث ابن مسعود ، وغيره مع عثمان، ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي
الفجر أربعًا؛ لما استجازوا أن يصلوا أربعًا، كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر
أربعًا.
ومن قال: إنهم لما قعدوا قدر التشهد؛ أدوا الفرض ، والباقي تطوع. قيل له:
من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضًا فإن
ذلك ليس بمشروع، فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين، بل قد أنكر النبي
صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة، وقال: الصبح أربعًا. وقد
صلى قبل الإمام، فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة؟ ! وقد ثبت في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام ،
أو قيام.
وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة ، وغيرها بصلاة تطوع،
فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر ، إن كان لا يجوز إلا ركعتان بصلاة
تطوع؟ ! وأيضا فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلى أربعًا؟ كما ثبت
ذلك عن الصحابة ، وقد وافق عليه أبو حنيفة ، وأيضًا فيجوز أن يصلي المقيم أربعًا
خلف المسافر ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه يفعلون ذلك ،
ويقولون: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سفر) .
وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم ، فإنه قد سلم جماهير
العلماء أن يصلي هذا خلف هذا، كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة ، وليس
هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر.
وأما من قال: إن المسافر فرضه أربع ، وله أن يسقط ركعتين بالقصر.
فقوله مخالف للنصوص ، وإجماع السلف والأصول، وهو قول متناقض ، فإن
هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل ، ولا إلى نظيره، وهذا يناقض
الوجوب، فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجبًا على العبد ، ومع هذا لا يلزمه فعله، ولا
فعل بدله ، ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط، وهذا
الذي يدل عليه كلام أحمد ، وقدماء الصحابة ، فإنه لم يشترط في القصر نية ، وقال:
لا يعجبني الأربع، وتوقف في إجزاء الأربع.
ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية. وإنما هذا من قول
الخرقي ، ومن اتبعه، ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك، قاله جماهير
العلماء، وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره ، بل والأثرم ،
وأبي داود ، وإبراهيم الحربي ، وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر، ولا
في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين ، فإذا أتى بهما؛ أجزأه ذلك، سواء نوى القصر،
أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك ، وأبي حنيفة ، وعامة السلف ، وما علمت
أحدًا من الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر ، ولا في جمع، ولو
نوى المسافر الإتمام؛ كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعًا؛ كان ذلك
مكروهًا كما لم ينوه.
ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ،
ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه ، وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن
المأمومين ، أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة
ركعتين ، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا معه يحجون معه ، وكثير
منهم لا يعرفون صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد،
لا سيما النساء الذين صلوا معه، ولم يأمرهم بنية القصر ، وكذلك جمع بهم بعرفة ،
ولم يقل لهم: إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: ههنا بياض بالأصل ، والمروي فيهما عنه بهذه المسالة أنه قيل له في منى: إن عثمان صلى بالناس أربعاً ، فاسترجع ، وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
(2)
كذا والصواب اليامي، قال في تقريب التهذيب: زبيد بموحدة مصغر ابن الحارث أبو عبد الله الكريم بن عمرو بن كعب اليامي بالتحتانية، أبو عبد الرحمن الكوفي ثقة ثبت عابد من السادسة مات سنة ثنتين وعشرين ، أو بعدها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
يتشابه مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فيما فشا فيهما من الجهل والبدع
والخرافات التي أضعفت جميع شعوب الأمة، ويتشابهان أيضا فيما يشعر به العقلاء
السليمو الفطرة من الحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يتوقف عليه الإصلاح
الاجتماعي والسياسي، مع بقاء هداية الإسلام جامعة لهذه الشعوب مميزة، كالفصل
المنطقي المميز للنوع دون أنواع جنسه القريب.
ولدينا من مواد المجلد الثامن والعشرين من المنار رسالتان طويلتان في
موضوع الإصلاح في المغرب الأقصى: إحداهما لأستاذ من شيوخه، والأخرى
لسائح تغلغل في تلك البلاد، وهما ممن يرجع بهداية الدين إلى مذهب السلف
الصالح في العصر الأول، ويُعَوِّل في المدنية وعزة الأمة على أحدث فنون العصر،
ونظمه الملائمة لتلك الهداية، وإننا ننشرهما بالتدريج للتعاون بين الملوين،
وتبادل الشعور الذي تخفق له قلوب الأمة في الخافقين. ونبدأ بالأولى وهي:
نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سابقًا
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنِيَ المسلمون في جميع بقاع الأرض بفئة ضالة تقمصت الإسلام على
ظهرها، وأما قلوبها فقد ملئت عليه حقدًا وحسدًا حملاها على النكاية به، والعمل على
نقضه من أساسه، ولولا أن الإسلام قوي بنفسه وبتعاليمه، ولولا أنه نور من نور الله
لا ينطفئ أبدًا ولو كره الملحدون الحاقدون، لكانت المصيبة أدهى وأمر، ولكن العاقبة
للمسلمين، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) وقال:
عمران: 85) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى
يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة في
كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين على الحق يقاتلون) ؛ (وهم أهل العلم) .
وقد اختارت هذه الفئة الضالة في كل عصر من أول الإسلام إلى يومنا هذا
أقوامًا لنشر دعوتها من أعظم الأبالسة، وأبلغ الخطباء المصاقيع، وأجرئهم على
ذلك، فلبسوا لبوس الإسلام، ولابسوا قادة المسلمين من ملوك وعلماء، وتظاهروا
بالزهد ومحبة الإٍسلام والغيرة عليه وعلى أهله، وصاروا يزيدون فيه ما ليس منه،
ويستظهرون على ذلك برواية أحاديث بعضها صحيح؛ ليستدرجوا الناس إلى قبول
الموضوع، ويتظاهرون بأن ذلك من تعظيم الإسلام، فاستحوذوا بذلك على قلوب
العامة لأنهم تبع للخاصة، حتى كاد زمام العامة يصير في يدهم، فصارت لهم بذلك
مكانة ومنزلة عند الملوك وكبار الدولة، وصاروا يتداخلون في كل شيء حتى في
نصب الوزراء والقضاة، وما أدراك ما هذه المكيدة! وصاروا يحلون ويحرمون
للملوك، ويفتونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام، كل ذلك تحت ستار الزهد
والتقشف، ومكيدة ما يشيعه أتباعهم من الكرامات الكاذبة الباردة إلخ.
وطوائف منهم خالطت عامة الناس، ودونت لهم أقاويل، وأوراقًا كلها
مشعوذة، وتقوُّل على الدين، ومحاربة له، وهدم لبنيانه، وما قصة الحلَاّج
بمجهولة.
وبعد خراب البصرة، استفاق العلماء من الغفلة وتجردوا للرد عليهم، كابن
حزم والغزالي وأبي بكر بن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم والإمام محمد
بن عبد الوهاب في نجد وغيرهم، إلى أن قذف الله بنور من عنده بنابغة الدهر
(السيد) جمال الدين الأفغاني فنبه الأمة الإسلامية من رقادها الطويل، وصدع
فيهم بأمر القرآن، كأنه المعني بقوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر:
94) وجاهد في الله حق جهاده، ونشر علومه وهديه في الهند والفرس والأفغان
ومصر والآستانة، وخلف رحمه الله تلاميذ نبغاء في هذه الأقطار:
أعظمهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والعلامة السيد رشيد رضا صاحب
المنار، وسعد زغلول باشا، وغيرهم كثير.
فقامت هذه الفئة القليلة بنشر محاسن الإسلام، وببيان أصوله وسهولته،
وموافقته لكل زمان ومكان، وبالرد على المبتدعة والملحدة والجاحدة؛ فغلبت فئات
كثيرة بإذن الله؛ لأنها صبرت والله مع الصابرين، قال جل علاه: {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وما مناظرة جمال الدين الأفغاني
لرينان ببعيدة، وأقرب منها رد الشيخ محمد عبده على هانوتو، وردود صاحب
المنار على الجامدين والملحدين في كل عدد من أعداد المنار معروفة، وفي مقالات
سعد باشا وخطبه وردوده القاهرة على دهاقين السياسة أكبر شاهد على ما قلنا.
في تلك الأيام المحلولكة كان علماء الدين في الأزهر، وأيا صوفيا والجامع
الأموي، والزيتونة ملازمين لظلهم، يخافون من خياله رغمًا عما نفخ فيهم الشيخ
محمد عبده من كهرباء روحه الطاهرة، وعما قرعهم به ووعظهم بالحجج الساطعة،
والآيات القاطعة، إلى أن قام صاحب كتاب الإسلام وأصول والحكم فضرب على
وجهه صفيحة من نحاس.
ولم يشهد التاريخ لها شيئًا في العالمين، فغضب لذلك أسد الإسلام ومؤسس
مناره السيد رشيد رضا، وصفعه صفعة قضت على أمثاله، ونبه مشيخة الأزهر
لعمل الواجب ضد ضلاله، وإذا غضب رشيد رضا رأيت العلماء العاملين كلهم
غضابًا، فقام حينئذ علماء الأزهر بالأمر خير قيام، وأسقطوه من زمرة علماء
المسلمين.
حينئذٍ تنبه الأزهريون فرأوا أنفسهم مسوقين بحبال الملحدين إلى حيث ألقت
رحلها أم قشعم، فتحفزوا للوثوب إلى الميدان وبرزوا للمعركة أسودًا شم العرانين
منشدين:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول
وأول من برز للميدان وبز، وحاز قصب السبق وأحرز، الأستاذ الشيخ محمد
بخيت دام بقاؤه، فقد شحذ سيفه البتار (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) ، وضرب
الملحدين ضربة قاضية أسقطتهم من صياصيهم التي كانت موضوعة على شفا
جرف هار من آراء الضالين الإباحيين الذين يستدرجون الأمة الإسلامية؛ ليزيغوها
عن دينها الذي هو أعظم حصن واقف للضالين بالمرصاد، فإذا أزاحوها عنه،
وتقمصت عقائد الإباحيين، وفرطت في أثمن سلوة لها، وابتليت بالإباحة المطلقة،
واستحلت الربا والخمر والزنا، ورفعت الحجاب عن فتياتها، واختلط الحابل
بالنابل، هنالك يجد الماليون مفاتيح الاستيلاء على المسلمين واستهواء قلوبهم،
زيادة على ملك رقابهم وأموالهم، وهناك يصبح المسلمون لا مفر لهم من الاستخذاء
للماليين، واستخدامهم في المعامل الجهنمية، وجر الأثقال، ومزاولة الأشغال الشاقة
ليلاً ونهارًا بأجور زهيدة لا يستطيعون معها أن يأكلوا الخبز والزيت، ولا يستطعيون
أن يلبسوا إلا ما يفضل عن الأورباويين من صدار وقميص وسراويل وسخة متلاشية،
ونعال بالية متعفنة، تكسو أكثر لابسيها أمراض متنوعة تذهب بأكثرهم إلى القبور،
دع عنك الحفاة والعراة والجائعين الذين هم أزيد من خمسين في المائة.
هنالك تغلق المدارس والمعاهد الدينية، وتملأ السجون والمارستانات، هناك
هناك.. إلخ، هذه نتيجة ما يدعو إليه الملحدون في مصر وغيرها.
فكان الواجب على قادة الملحدين أن يختبروا مقاصد سادتهم ومسخريهم وإلى
أي هوة يسوقونهم، وفي أي مجزرة يذبحونهم.
كان عليهم أن يتبينوا أحوال المسلمين في المستعمرات، ويبحثوا عن معايشهم
ومكاسبهم ومدارسهم ومصانعهم وصنائعهم ومتاجرهم، ثم بعد الدرس العميق
والبحث المتوالي يحكمون، فإذا وجدوا الماليين يعاملونهم معاملة جميلة، ويعلمونهم،
ويسهرون على مصالحهم كما يدعون؛ فلا بأس حينئذ بالميل إليهم كما يريد بعض
المتهاونين بالوطن.
أما والحالة على النقيض، وليس هناك إلا الفقر والجهل والإهانة والحرمان
والبؤس والشقاء، فيظهر بادئ بدء أن دعوة الملحدين لمواطنيهم إلى ما ذكر غش
وتدليس وخيانة، فتجب مقاومتهم بكل ما يمكن، ويجب الاستعداد لمحاربتهم
استعدادًا هائلاً تستحضر عدده من معامل الأزهر والمعاهد الدينية.
لذلك جاء كتاب (حقيقة الإسلام) في أشد أوقات الحاجة إليه، فأشبه النجدة
إلى المحارب الذي كاد ينهزم في المعركة النهائية الفاصلة؛ فانتصر به إلى غاية
الانتصار، وهزم جيوش الملحدين هزيمة شنعاء لا تقوم لهم بعدها قائمة.
وقد حوى حقائق الإسلام وبين أهم ما يحتاج إليه منها، بعبارة واضحة ليس
فيها تكلف ولا غموض، جلب المؤلف فيها الآيات، والأحاديث النبوية، ونصوص
الأصوليين المعتمدة، مذَيِّلاً ذلك بنقول المؤرخين، وأهل السير، وآراء فلاسفة
المسلمين المعتمدة، ولكون ذلك معروفًا عند المسلمين ومؤلفات الإسلام فيه كثيرة
جاءت عبارة الكتاب منسجمة غاية الانسجام، كأنما المؤلف يغرف من بحر فطلع
منه بِدُرَر نفيسة ينبغي - بل يتحتم - على كل مفكر أن يزين مكتبته به، ويتعين
على كل كاتب أو عالم أو فيلسوف أن ينير أفكاره بآرائه وآياته اللامعة.
…
...
…
...
…
...
…
من مراكش (مسلم غيور)
للرسالة بقية وفيها تعقب لكتاب حقيقة الإسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________