الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: أحمد شوقي
حفلة التأبين الكبرى
كانت الحفلة الكبرى لتأبين سعد باشا ورثائه أفخم وأعظم وأشجى من كل ما
سبقها من أمثالها كسائر مظاهر إجلال الرجل حيًّا وميتًا ، وقد خطب فيها أعظم
رجال مصر من الوزراء والشيوخ والنواب وغيرهم ، وأنشدت القصائد لأشعر
الشعراء كما أشرنا إليه في فصل ترجمة الفقيد، وإننا ننشر في هذا الجزء مرثية
أحمد شوقي بك أمير الشعراء ، وسننشر من بعدُ بعضَ الخطب الجليلة؛ حتى لا
يحرم قراء المنار من أبلغ ما قاله أفصح العرب في هذا العصر في نابغة العرب في
السياسة والفصاحة العربية ، وهي هذه:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها
…
وانحنى الشرق عليها فبكاها
ليتني في الركب لما أفلت
…
يوشع همت فنادى فثناها
جلل الصبحَ سوادًا يومها
…
فكأن الأرض لم تخلع دجاها
انظروا تلقوا عليها شفقًا
…
من جراحات الضحايا ودماها
وتروا بين يديها عبرة
…
من شهيد يقطر الورد شذاها
آذن الحق ضحاياه بها
…
ويحه! ! حتى إلى الموتى نعاها
كفنوها حرة علوية
…
كست الموت جلالاً وكساها
ليس في أكفانها إلا الهدى
…
لُحْمة الأكفان حق وسَداها
خَطَرَ النعشُ على الأرض بها
…
يحسر الأبصار في النعش سناها
جاءها الحق ومن عاداتها
…
تؤثر الحق سبيلاً واتجاها
ما درت مصر بدفن صُبحت؟
…
أم على البعث أفاقت من كراها
صرخت تحسبها بنت الشَّرى
…
طلبت من مخلب الموت أباها
وكأن الناس لما نسلوا
…
شعب السيل طغت في ملتقاها
وضعوا الراح على النعش كما
…
يلمسون الركن فارتدت نزاها
خفضوا في يوم سعد هامهم
…
وبسعد رفعوا أمس الجباها
سائلوا (زحلة)[1] عن إعراسها
…
هل مشى الناعي عليها فمحاها
عطل المصطاف من سماره
…
وجلا عن ضفة الوادي دماها
فتح الأبواب ليلاً ديرُها
…
وإلى الناقوس قامت بيعتاها
صدع البرق الدجى تنشره
…
أرض سوريا وتطويه سماها
يحمل الأنباء تسري موهنًا
…
كعوادي الثكل في حر سراها
عرض الشك لها فاضطربت
…
تطأ الآذان همسًا والشفاها
قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم
…
كل نفس في وريديها رداها
قلت والنعش بسعد مائل
…
فيه آمال بلاد ومناها
كلما أمعن في نقلته
…
ضجت الأرض على قطب رحاها
يا عدو القيد لم يلمح له
…
شبحًا في خطة إلا أباها
لا يضق ذرعك بالقيد الذي
…
حز في سوق الأوالي وبراها
وقع الرسل عليه والتوت
…
أرجل الأحرار فيه فعفاها
يا رفاتًا مثل ريحان الضحى
…
كللت عدن بها هام رباها
وبقايا هيكل من كرم
…
وحياة أترع الأرض حياها
ودع العدل بها أعلامه
…
وبكت أنظمة الشورى صُواها
حضنت نعشك والتفت به
…
راية كنت من الذل فداها
ضمت الصدر الذي قد ضمها
…
وتلقى السهم عنها فوقاها
عجبي منها ومن قائدها
…
كيف يحمي الأعزلُ الشيخُ حماها
منبر الوادي ذوت أعواده
…
من أواسيها وجفت من ذراها
من رمى الفارس عن صهوتها
…
ودها الفصحى بما ألجم فاها
قَدَرٌ بالمدن ألوى والقرى
…
ودها الأجيال منه ما دهاها
غال (بسطورا) وأردى عصبة
…
لمست جرثومة الموت يداها
طافت الكأس بساقي أمة
…
من رحيق الوطنيات سقاها
عطلت آذانها من وتر
…
ساحر رن مليا فشجاها
أرغنٌ هام به وجدانها
…
وأَذانٌ عشقته أُذُناها
كل يوم خطبة روحية
…
كالمزامير وأنغام لغاها
دلهت مصرًا ولو أن بها
…
فلوات دلهت وحش فلاها
ذائد الحق وحامي حوضه
…
أنفذت فيه المقادير مناها
أخذت سعدًا من (البيت) يد
…
تأخذ الآساد من أصل شراها
لو أصابت غير ذي روح لما
…
سلمت منها الثريا وسُهَاها [2]
تتحدى الطب في قفازها
…
علة الدهر التي أعيا دواها
من وراء الإذْن نالت ضيغمًا
…
لم ينل أقرانه إلا وجاها
لم تصارح أصرح الناس يدًا
…
ولسانًا ورقادًا وانتباها
هذه الأعواد من آدم لم
…
يهد خفاها ولم يعر مطاها
نقلت (خوفو) ومالت (بمنا)
…
لم يَفُتْ حيًّا نصيب من خطاها
تخلط العمرين شيبًا وصبًا
…
والحياتين شقاءً ورفاها
زورق في الدمع يطفوا أبدًا
…
عرف الضفة إلا ما تلاها
تهلع الثكلى على آثاره
…
فإذا خف بها يومًا شفاها
تسكب الدمع على سعد دمًا
…
أمة من صخرة الحق بناها
من ليان هو في ينبوعها
…
وإباء هو في صم صفاها
لقن الحق عليه كهلها
…
واستقى الإيمان بالحق فتاها
بذلت مالاً وأمنًا ودما
…
وعلى قائدها ألقت رجاها
حملته ذمة أوفى بها
…
وابتلته بحقوق فقضاها
ابن سبعين تلقى دونها
…
غربة الأسر ووعثاء نواها
سفر من عدن الأرض إلى
…
منزل أقرب منه قطباها
قاهر ألقى به في صخرة
…
دفع النسر إليها فأواها
كرهت منزلها في تاجه
…
درة في البحر والبر نفاها
اسألوها واسألوا شانئها
…
لِمَ لَمْ ينف من الدر سواها
ولد الثورة سعد حرة
…
بحياتي ما جدٌّ حُرٌّ نماها
ما تمنى غيرها نسلاً ومن
…
يلد الزهراء يزهد في سواها
سالت الغابة من أشبالها
…
بين عينيه وماجت بلباها
بارك الله له في فرعها
…
وقضى الخير لمصر في جناها
أو لم يكتب لها دستورها
…
بالدم الحر ويرفع منتداها
قد كتبناها فكانت صورة
…
صدرها حق وحق منتهاها
رقد الثائر إلا ثورة
…
في سبيل الحق لم تخمد جذاها
قد تولاها صبيًّا فكوت
…
راحتيه وفتيا فرعاها
جال فيها قلمًا مستنهضًا
…
ولسانًا كلما أعيت حداها
ورمى بالنفس في بركانها
…
فتلقى أول الناس لظاها
أعلمتم بعد موسى من يد
…
قذفت في وجه فرعون عصاها
وطئت ناديَه صارخة:
…
شاهَ وجهُ الرق يا قوم وشاها
ظفرت بالكبر من مستكبر
…
ظافر الأيام منصورًا لواها
القنا الصم نشاوى حوله
…
وسيوف الهند لم تصح ظباها
أين من عيني نفس حرة
…
كنت بالأمس بعيني أراها
كلما أقبلت هزت نفسها
…
وتواصى بشرها بي ونداها
وجرى الماضي فماذا ادكرت
…
وادكار النفس شيء من وفاها
ألمح الأيام فيها وأرى
…
من وراء السن تمثال صباها
لست أدري حين تندى نضرة
…
علت الشيب أم الشيب علاها؟
حلت السبعون في هيكلها
…
فتداعى وهي موفور بناها
روعة النادي إذا جدت فإن
…
مزحت لم يذهب المزح بهاها
يظفر العذر بأقصى سخطها
…
وينال الود غايات رضاها
ولها صبر على حسادها
…
يشبه الصفح وحلم عن عداها
لست أنسى صفحة ضاحكة
…
تأخذ النفس وتجري في هواها
وحديثًا كروايات الهوى
…
جد للصب حنين فرواها
وقناة صعدة لو وهبت
…
للسماك الأعزل اختال وتاها
أين مني قلم كنت إذا
…
سمته أن يرثي الشمس رثاها
خانني في يوم سعد وجرى
…
في المراثي فكبا دون مداها
في نعيم الله نفس أوتيت
…
أنعم الدنيا فلم تنس تقاها
لا الحجى لما تناهى غَرَّهَا
…
بالمقادير ولا العلم زهاها
ذهبت أوابة مؤمنة
…
خالصًا من حيرة الشك هداها
آنست خلقًا ضعيفًا ورأت
…
من وراء العالم الفاني إلها
ما دعاها الحق إلا سارعت
…
ليته يوم (وصيف) ما دعاها
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
زحلة بلدة في جبل لبنان كان الشاعر مصطافًا فيها.
(2)
المنار: السُّهَا بالضم كوكب صغير خفي يراه حديد البصر بجانب الكوكب الأوسط من بنات نعش فهو ليس من كواكب الثريا؛ ولكن فيها مثله ، ولذلك يعدها بعض الناس ستًّا وبعضهم سبعًا.