الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكتابة أو الخط
وثيقة شرعية يجب العمل بها
أمر الله تعالى المؤمنين في أواخر سورة البقرة (282: 2) بكتابة الدين
المؤجل، وأكد الأمر بالكتابة، ونهى الكاتب الذي يدعى إلى الكتابة أن يمتنع، وأكد
ذلك بأمره بأن يكتب، ثم نهاهم عن السآمة أن تكون مانعة من الكتابة للصغير
والكبير والقليل والكثير، ثم أمر بالاستشهاد ، وعلل الأمرين بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ
عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَاّ تَرْتَابُوا} (البقرة: 282) ، وقد ذكرنا في تفسير
هذه الآية من جزء التفسير الثالث (ص 125) أن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى
قال عند تفسير {وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} (البقرة:
282) : إن هذا دليل على أن الكتابة يعمل بها، وأنها من الأدلة التي تعتبر عند
استيفاء شروطها.اهـ. وقلت هنالك: إن الآية دليل على وجوبها أيضًا ، ثم
ذكرت (في ص 133) الخلاف بين العلماء في وجوب كتابة الدين وأمثاله
أيضًا ، وأن من القائلين بالوجوب عطاء والشعبي وابن جرير في تفسيره كما هو
الأصل في الأمر عند جماهير العلماء.
وقد عقد العلامة المحقق ابن القيم فصلاً للعمل بالخط في كتابه (الطرق
الحكمية، في السياسة الشرعية) ، وعده من الطرق التي يحكم بها الحاكم، وهو
الذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل ، فاخترنا نقله لإفادة من لم يطلع عليه من الفقهاء ،
وإيجازًا لوعدنا في الفتوى 20 كما في ص 511 ج 7 الماضي وهذا نصه:
***
فصل
(الطريق الثالث والعشرون) الحكم بالخط المجرد ، وله صور ثلاث:
(الصورة الأولى) أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان ، فيطلب منه
إمضاءه ، فعن أحمد ثلاث روايات ، (إحداهن) أنه إذا تيقن أنه خطه؛ نفذه وإن لم
يذكره ، (والثانية) أنه لا ينفذه حتى يذكره ، (والثالثة) أنه إذا كان في حرزه
وحفظه؛ نفذه وإلا فلا.
قال أبو البركات: (الرواية في شهادة الشاهد بناء على خطه إذا لم يذكره) ،
والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم، ولا في الشهادة،
وفي مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظًا عندهما كالرواية
الثالثة.
وأما مذهب أبي حنيفة فقال الخفاف (؟) : قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي
في ديوانه شيئًا لا يحفظه كإقرار الرجل بحق من الحقوق ، وهو لا يذكر ذلك ، ولا
يحفظه ، فإنه لا يحكم بذلك ، ولا ينفذه حتى يذكره.
وقال أبو يوسف ومحمد: ما وجده القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا
عنده لرجل على رجل بحق ، أو إقرار رجل لرجل بحق ، والقاضي لا يحفظ ذلك ،
ولا يذكره ، فإنه ينفذ ذلك ، ويقضي به إذا كان تحت خاتمه محفوظًا، ليس كل ما
في ديوان القاضي يحفظه.
وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكر؛ لإمكان
التزوير عليه.
قال القاضي أبو محمد: إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه ، ولم يذكر أنه حكم به؛
لم يجز له أن يحكم به إلا أن يشهد عنده شاهدان ، قال: وإذا نسي القاضي حكمًا
حكم به ، فشهد عنده شاهدان أنه قضى به؛ نفذ الحكم بشهادتهما ، وإن لم يذكره.
وعن مالك رواية أخرى أنه لا يلتفت إلي البينة بذلك ، ولا يحكم بها.
وجمهور أهل العلم على خلافها ، بل إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد
الراوي على الخط المحفوظ عنده ، وجواز التحديث به إلا خلافًا شاذًّا لا يعتد به،
ولو لم يعتمد على ذلك؛ لضاع الإسلام اليوم ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فليس بأيدي الناس بعد كتاب الله إلا هذه النسخ الموجودة من السنن.
وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ ، وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم ، وتقوم بها حجته ، ولم يكن يشافه
رسولاً بكتابه بمضمونه ، ولا جرى هذا في مدة حياته صلى الله عليه وسلم ، بل
يدفع الكتاب مختومًا ، ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه ، وهذا معلوم بالضرورة لأهل
العلم بسيرته وأيامه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم له
شيء يوصي فيه ، يبيت ليتلين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ، ولو لم يجز الاعتماد
على الخط؛ لم يكن لكتابة وصيته فائدة ، قال إسحاق بن إبراهيم:(قلت) لأحمد:
الرجل يموت ويوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها ، أو أعلم
بها أحدًا ، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ ، قال: إن كان قد عرف خطه - وكان مشهور
الخط - فإنه ينفذ ما فيها ، وقد نص في الشهادة أنه إذا لم يذكرها ، ورأى خطه؛
أنه لا يشهد حتى يذكرها ، ونص فيمن كتب وصيته ، وقال: اشهدوا علي بما فيها؛
أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه ، أو تقرأ عليه فيقر بها ، فاختلف أصحابنا ،
فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى ، وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج،
ومنهم من منع التخريج ، وأقر النصين وفرق بينهما ، واختار شيخنا التفريق ، قال:
والفرق أنه إذا كتب وصيته ، وقال اشهدوا علي بما فيها فإنهم لا يشهدون؛ لجواز أن
يزيد في الوصية وينقص ويغير ، وأما إذا كتب وصيته ثم مات وعرف أنه
خطه ، فإنه يشهد به لزوال هذا المحذور.
والحديث المتقدم كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي ، وكتبه صلى
الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك ، ولأن الكتابة تدل
على المقصود ، فهي كاللفظ ، ولهذا يقع بها الطلاق.
قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم
لفعل الكتابة؛ لأنه عمل ، والشهادة على العمل طريقها الرؤية.
وقول الإمام أحمد: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط؛ ينفذ ما فيها،
يرد ما قال القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة
الفعل، وهذا هو الصحيح فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه ، فإذا
عرف ذلك ، وتيقن كان العلم بنسبة اللفظ إليه ، فإن الخط دال على اللفظ ، واللفظ
دال على القصد والإرادة ، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط ، وذلك كما يفرض من
اشتباه الصور والأصوات ، وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن
خط غيره كتميز صورته وصوته عن صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا
يستريبون فيها على أن هذا فيه خط فلان ، وإن جازت محاكاته ومشابهته ، فلا بد
من فرق ، وهذا أمر يختص بالخط العربي ، ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعًا
لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة.
وقد دلت الأدلة المتضافرة التي تقرب من القطع على قبول شهادة الأعمى فيما
طريقه السمع إذا عرف الصوت ، مع أن تشابه الأصوات إن لم يكن أعظم من
تشابه الخطوط ، فليس دونه ، وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا
وجد في دفتر مورثه: إن لي عند فلان كذا؛ جاز له أن يحلف على استحقاقه ،
وأظنه منصوصًا عنهما ، وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ما علي؛
جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته، ولم يزل الخلفاء والقضاة
والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم إلى بعض ، ولا يشهدون حاملها على
ما فيها ، ولا يَقْرءُونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن.
وقال البخاري في صحيحه (باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من
ذلك وما يضيق عليهم فيه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي) : وقال
بعض الناس [1] : كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود ، قال: وإن كان القتل خطأ؛
فهو جائز لأنه مالٌ بزعمه ، وإنما صار مالاً بعد أن ثبت القتل ، فالخطأ والعمد
واحد.
وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود ، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن
كسرت.
وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم ،
وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي ، ويروى عن ابن عمر نحوه،
وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي: شهدت عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة
وإياس بن معاوية والحسن وثمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد
الله بن بريدة وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كتب القضاة بغير
محضر من الشهود ، فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور ، قيل له: اذهب؛
فالتمس المخرج من ذلك، وأول من سأل على كتاب القاضي البينة ابن أبي ليلى
وسَوَّار بن عبد الله ، وقال لنا أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محرز: جئت بكتاب من
موسى بن أنس قاضي البصرة ، وأقمت عنده البينة أن لي عند فلان كذا وكذا وهو
بالكوفة فجئت به [2] القاسم بن عبد الرحمن ، فأجازوه، وكره الحسن وأبو قلابة
أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها ، لأنه لا يدري لعل فيها جورًا، وقد كتب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر (إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تأذنوا
بحرب) . اهـ[3] .
وأجاز مالك الشهادة على الخطوط ، فروى عنه ابن وهب في الرجل يقوم
يذكر حقًّا قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين على خط كاتب الخط ، قال:
تجوز شهادتهما على كاتب الكتاب إذا كان عدلاً مع يمين الطالب ، وهو قول ابن
القاسم ، وذكر ابن شعبان عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على
الخط ، وعد قوله شذوذًا، قال ابن حارث: ولقد قال مالك - في رجل قال: سمعت
فلانا يقول: ورأيت فلانا قتل أو قال: سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها -: إنه لا
يشهد على شهادته إلا أن يشهده، فالخط أبعد من هذا وأضعف، قال: ولقد قلت
لبعض القضاة: أتجوز شهادة الموتى، فقال: ما هذا الذي تقول؟ ، فقلت: إنكم
تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه في وثيقة ، فسكت.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن
الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور.
وقد قال مالك في الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور ،
وقد روى ابن نافع عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتيم، حتى
إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه ، فيجاز لهم حتى اتهم الناس
فصار لا يقبل إلا بشاهدين اهـ.
واختلف الفقهاء فيما إذا أشهد القاضي شاهدين على كتابه ، ولم يقرأه عليهما ،
ولا عرفهما بما فيه ، فقال مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله،
ويقول الشاهد: إن هذا كتابه دفعه إلينا مختومًا، وهذا إحدى الروايتين عن
الإمام أحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضي؛ لم
يعمل المكتوب إليه بما فيه ، وهو إحدى الروايتين عند مالك، وحجتهم أنه لا يجوز
أن يشهد إلا بما يعلم، وأجاب الآخرون بأنهما لم يشهدا بما تضمنه ، وإنما شهدا بأنه
كتاب القاضي وذلك معلوم لهما، والسنة الصريحة تدل على صحة ذلك ، وتغير
أحوال الناس وفسادها يقتضي العمل بالقول الآخر ، وقد يثبت عند القاضي من أمور
الناس ما لا يحسن أن يطلع عليه كل أحد مثل الوصايا التي يتخون الناس فيها ،
ولهذا يجوز عند مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن يشهدا على الوصية المختومة ،
ويجوز عند مالك أن يشهدا على كتاب مدرج ، ويقولا للحاكم: نشهد على إقراره
بما في هذا الكتاب.
وقال المانعون من العمل بالخطوط: الخطوط قابلة للمشابهة والمحاكاة ، وهل
كانت قصة عثمان ومقتله إلا بسبب الخط ، فإنهم صنعوا مثل خاتمه ، وكتبوا مثل
كتابه حتى جرى ما جرى ، ولذلك قال الشعبي: لا تشهد أبدًا إلا على شيء تذكره ،
فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا، قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار
فنعم ، وهاهنا أمثالها ، ولكن كان ذاك إذ الناس ناس.
وأما الآن فكلا ، إذ كان الأمر قد تغير في زمن مالك وابن أبي ليلى ، حتى
قال مالك: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم ، حتى إن القاضي ليكتب للرجل
الكتاب ، فلم يزد على ختمه حتى اتهم الناس ، فصار لا يقبل إلا شاهدان.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا هذا بالشهادة على الخط؛ لأن
الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور ، وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة
على خاتم كتاب القاضي.
فإن قيل: فما تقولون في الدابة يوجد على فخذها صدقة أو وقف أو حبس هل
للحاكم أن يحكم بذلك؟ (قيل) : نعم ، له أن يحكم ، وصرح به أصحاب مالك ،
فإن هذه أمارة ظاهرة ، ولعلها أقوى من شهادة الشاهد ، وقد ثبت في الصحيحين من
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعبد الله بن أبي طلحة؛ ليحنكه ، فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة،
وللإمام أحمد عنه دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسم غنمًا في آذانها.
وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب رضي
الله عنه: إن في الظهر ناقة عمياء ، فقال عمر: ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها ،
قال: فقلت: هي عمياء ، فقال عمر: يقطرونها بالإبل ، قال: فقلت: كيف تأكل
من الأرض؟ ، قال: فقال عمر: أمن نعم الجزية هي ، أم من نعم الصدقة؟ فقلت:
من نعم الجزية، فقال عمر: أردتم والله أكلها ، فقلت: إن عليهم وسم الجزية.
ولولا أن الوسم يميز الصدقة من غيرها ، ويشهد لما هو وسم عليه؛ لم يكن
فيه فائدة ، بل لا فائدة للوسم إلا ذلك ، ومن لم يعتبر الوسم؛ فلا فائدة فيه عنده.
فإن قيل: فما تقولون في الدار يوجد على بابها أو حائطها الحجر مكتوبًا فيه
أنها وقف أو مسجد هل يحكم بذلك؟ قيل: نعم ، يقضى به ويصير وقفًا ، صرح
به بعض أصحابنا ، وممن ذكره الحارثي في شرحه.
فإن قيل: يجوز أن ينقل الحجر إلى ذلك الموضع؟ ، قيل: جواز ذلك
كجواز كذب الشاهدين؛ بل هذا أقرب؛ لأن الحجر يشاهد جزءًا من حائط داخلاً
فيه ليس عليه شيء من أمارات النقل؛ بل يقطع غالبًا بأنه بني مع الدار ، ولا
سيما حجر عظيم وضع عليه الحائط بحيث يتعذر وضعه بعد البناء ، فهذا أقوى من
شهادة رجلين ورجل وامرأتين.
فإن قيل: فما تقولون في كتب العلم يوجد على ظهرها وهوامشها كتابة الوقف ،
هل للحاكم أن يحكم بكونها وقفًا بذلك؟ قيل: هذا يختلف باختلاف قرائن الأحوال ،
فإذا رأينا كتبًا مودعة في جراب ، وعليها كتابة الوقف ، وهي كذلك مدة متطاولة
وقد اشتهرت بذلك؛ لم نسترب في كونها وقفًا ، وحكمها حكم المدرسة التي عهدت
لذلك ، وانقطعت كتب وقفها أو فقدت، ولكن يعلم الناس على تطاول المدة كونها
وقفًا ، فيكفي في ذلك الاستفاضة ، فإن الوقف يثبت بالاستفاضة ، وكذلك مصرفه ،
وأما إذا رأينا كتابًا لا نعلم مقره ، ولا عرف من كتب عليه الوقف؛ فهذا يوجب
التوقف في أمره حتى يتبين حاله، والمعول في ذلك على القرائن ، فإن قويت؛
حكم بموجبها ، وإن ضعفت؛ لم يلتفت إليها، وإن توسطت؛ طلب الاستظهار ،
وسلك طريق الاحتياط ، وبالله التوفيق.
وقد قال أصحاب مالك في الرجلين يتنازعان في حائط ، فينظر إلى عقده أو
من له خشب أو سقف وما أشبه ذلك مما يرى بالعين: يقضى به لصاحبه ، ولا
يكلف الطالب البينة، وكذلك القنوات التي تشق الدار والبيوت إلى مستقرها إذا
سدها الذي شقت داره ، وأنكر أن يكون عليها مجرى لأحد ، فإذا نظروا إلى القناة
التي شقت داره وشهدوا بذلك عند القاضي ، ولم يكن عنده في شهادة الشهود الذين
وجههم لذلك مدفع؛ ألزموه مرور القناة على داره ، ونهي عن سدها ومنع منه،
قالوا: فإذا نظروا في القناة تشق داره إلى مستقرها ، وهي في قناة قديمة والبنيان
فيها ظاهر حتى تصب في مستقرها ، فللحاكم أن يلزمه مرور القناة ، كما وجدت في
داره.
قال ابن القاسم فيما رواه ابن عبد الحكم عنه: إذا اختلف الرجلان في جدار
بين داريهما كل يدعيه ، فإن كان عقد بنائه إليهما؛ فهو بينهما ، وإن كان معقودًا
إلى أحدهما ، ومنقطعًا من الآخر؛ فهو إلى من إليه العقد ، وإن كان منقطعًا بينهما
جميعاً؛ فهو بينهما، وإن كان لأحدهما فيه كوى ، ولا شيء للآخر فيه ، وليس
بمنعقد إلى واحد منهما؛ فهو إلى من إليه مرافقه، وإن كانت فيه كوى لكليهما؛ فهو
بينهما، وإن كانت لأحدهما عليه خشب ، ولا عقد فيه لواحد منهما؛ فهو لمن عليه
الحمل، فإن كان عليه حمل لهما جميعًا؛ فهو بينهما.
والمقصود أن الكتابة على الحجارة والحيوان وكتب العلم أقوى من هذه
الأمارات بكثير ، فهي أولى أن يثبت بها حكم تلك الكتابة ، لا سيما عند عدم
المعارض ، وأما إذا عارض ذلك بينة لا تتهم ، ولا تستند إلى مجرد التبديل بسبب
الملك والاستزادة؛ فإنها تقدم على هذه الأمارات بمنزلة البينة والشاهد ، واليد تدفع
بذلك. اهـ. الفصل.
وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ دعوة ربه إلى ملوك الآفاق بالكتابة ،
وكتبت معاهداته مع الكفار كتابة ، وكان يكتب لعماله ، وكذلك خلفاؤه، والقرآن
بلغت نسخته إلى الآفاق بالكتابة على كون حفاظه كانوا من أول الإسلام إلى الآن
يعدون بالألوف ، وسائر كتب السنة والفقه كذلك ، فالخط حجة من أقوى الحجج،
وتضعيفه باحتمال التزوير فيه ، وشهادة الزور أسهل وأكثر وأعم من تزوير الخط ،
ولذلك كان جل اعتماد كل الأمم على الخط.
_________
(1)
هو أبو حنيفة وأصحابه.
(2)
أي بالكتاب.
(3)
أي البخاري.