الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: أحمد بن تيمية
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع ما قبله)
فصل
والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعًا ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم
فعل ذلك ، أو فعله بعض أصحابه على عهده؛ فأقره عليه، وظنوا أن صلاة
المسافر ركعتين ، أو أربعًا بمنزلة الصوم والفطر في رمضان، وقد استفاضت
الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنهم
الصائم ، ومنهم المفطر ، وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته.
وأما ما ذكروه من التربيع ، فحسبه بعض أهل العلم صحيحًا ، وبذلك استدل
الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدق الله بها عليكم؛
فاقبلوا صدقته) ، فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله ، والصدقة
رخصة لا حتم من الله أن يقصر.
ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف - إن شاء المسافر - أن عائشة
رضي الله عنها قالت: (كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتم في
السفر ، وقصر) .
(قلت) : وهذا الحديث رواه الدارقطني ، وغيره من حديث ابن عاصم ،
حدثنا عمرو بن سعيد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يقصر في السفر ، ويتم، ويفطر ، ويصوم) .
قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. قال البيهقي: وهذا شاهد من حديث دلهم
بن صالح ، والمغيرة بن زياد ، وطلحة بن عمر ، وكلهم ضعيف ، وروى حديث
دلهم من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا دلهم بن صالح الكندي ، عن عطاء ،
عن عائشة قالت: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى مكة
أربعًا حتى نرجع) ، وروى حديث المغيرة وهو أشهرها ، عن عطاء ، عن عائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ، ويتم. وروى حديثَ طلحة ابنُ
عمر ، عن عطاء ، عن عائشة قالت: (كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أتم ، وقصر، وصام في السفر ، وأفطر) .
قال البيهقي: وقد قال عمر بن ذر - كوفي ثقة -: أخبرنا عطاء بن أبي
رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعًا ، وروى ذلك بإسناده ، ثم قال:
وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح ، وإن كان في رواية دلهم زيادة سند.
(قلت) : أما ما رواه الثقة ، عن عطاء ، عن عائشة من أنها كانت تصلي
أربعًا فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره ، عن عائشة دل
ذلك على ضعف المسند ، ولم يكن ذلك شاهدًا للمسند.
قال ابن حزم في هذا الحديث: انفرد به المغيرة بن زياد ، ولم يروه غيره ،
وقد قال فيه أحمد بن حنبل: (ضعيف، كل حديث أسنده منكر)، (قلت) : فقد
روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضًا ، وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن
أباه سئل عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث منكر) .
وهو كما قال الإمام أحمد، وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة
لمن احتج به كالشافعي ، ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه
وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه: كان يقصر في السفر ، وتتم، ويفطر ،
وتصوم، بمعنى أنها هي التي كانت تتم ، وتصوم ، وهذا أشبه بما روي عنها من
غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضًا.
قال البيهقى: وله شاهد قوي بإسناد صحيح. وروي من طريق الدارقطني من
طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن
أبيه ، عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في
رمضان، فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمت، وقصر، وأتممت،
فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أفطرتَ ، وصمتُ ، وقصرتَ ، وأتممتُ؟
قال: (أحسنت يا عائشة) ، ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ، ثنا
العلاء بن زهير ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن عائشة لم يذكر أباه.
قال الدارقطني: الأول متصل ، وهو إسناد حسن ، وعبد الرحمن قد أدرك
عائشة ، فدخل عليها ، وهو مراهق.
ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ، ثنا عباس
الدوري ، ثنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير ، ثنا عبد الرحمن بن الأسود ، عن
عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا
قدمت قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قصرت، وأتممت، وأفطرت،
وصمت، فقال:(أحسنت يا عائشة) ، وما عاب علي.
قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم ، عن عبد الرحمن ، عن عائشة،
ومن قال: عن أبيه في هذا الحديث؛ فقد أخطأ.
(قلت) : أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث، وكان له عناية
بالأحاديث الفقهية ، وما فيها من اختلاف الألفاظ ، وهو أقرب إلى طريقة أهل
الحديث ، والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث
المشهورين ، ولهذا رجح هذا الطريق ، وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد
منهم إلا النسائي ، ولفظه: عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي،
قصرتَ وأتممتُ وأفطرتَ وصمتُ فقال: (أحسنت يا عائشة) ، وما عاب علي.
وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين ، فتنطق له من الأدلة ما
لو خلا عن ذلك القصد؛ لم يتكلفه ، ولحكم ببطلانها.
والصواب ما قاله أبو بكر ، وهو أن الحديث ليس بمتصل ، وعبد الرحمن
إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته، وقال فيه أبو محمد بن حزم:
هذا الحديث تفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره ، وهو مجهول ، وهذا
الحديث خطأ قطعًا ، فإنه قال فيه: إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عمرة في رمضان ، ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يعتمر في رمضان قط ، ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان ، بل ولا
خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح ، فإنه كان حينئذ مسافرًا في
رمضان ، وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم ، وفي ذلك السفر
كان أصحابه منهم الصائم ، ومنهم المفطر ، فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ، ولا
نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعًا ، والحديث المتقدم خطأ كما
سنبينه إن شاء الله تعالى، وعام فتح مكة لم يعتمر، بل ثبت بالنقول المستفيضة
التي اتفق عليها أهل العلم به أنه إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عُمَر منها ثلاث في
ذي القعدة، والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون؛ فحل
بالحديبية بالإحصار ، ولم يدخل مكة، وكانت في ذي القعدة ، ثم اعتمر في العام
القابل عمرة القضية، وكانت في ذي القعدة أيضًا، ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة
اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرته في ذي القعدة أيضًا، والرابعة مع حجته، ولم
يعتمر بعد حجه لا هو ، ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت ،
وأمرها أن تهل بالحج، ثم أعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، ولهذا قيل لما
بني هناك من المساجد: مساجد عائشة ، فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة، فهذا
كله مما تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه:
عمرة من الحديبية في ذي العقدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة
من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين ، وعمرة مع حجته، وهذا لفظ
مسلم. ولفظ البخاري: اعتمر أربعًا؛ عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده
المشركون، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة حنين،
وعمرة مع حجته.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري، وأراد بذلك العمرة
التي أتمها ، وهي عمرة القضية ، والجعرانة.
وأما الحديبية ، فلم يمكن إتمامها؛ بل كان منحصرًا لما صده المشركون ،
وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم ، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما
قيل لها: إن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب.
فقالت: (يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
وهو معه ، وما اعتمر في رجب قط، ما اعتمر إلا وهو معه) ، وفي رواية عن
عائشة قالت: (لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة) ،
وكذلك عن ابن عباس. رواهما ابن ماجه ، وقد روى أبو داود عنها قالت: (اعتمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال) .
وهذا إن كان ثابتًا عنها ، فلعله ابتداء سفره كان في شوال ، ولم تقل قط: إنه
اعتمر في رمضان؛ فعلم أن ذلك خطأ محض.
وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة ، وثبت أيضًا
أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ، ودخلها إلا ثلاث مرات: عمرة القضية ، ثم
غزوة الفتح، ثم حجة الوداع ، وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة
وأحول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة
الفتح - كان كل من هذين دليلاً قاطعًا على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت
معه في رمضان ، وقالت: أتممت وصمت ، فقال:(أحسنت) ، خطأ محض، فعلم قطعًا أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه
وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من روى عني حديثًا ، وهو يرى أنه كذب ، فهو
أحد الكاذبين) ؛ ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه
كذب.
فإن قيل: فيكون قوله: (في رمضان) خطأ ، وسائر الحديث يمكن صدقه؛
قيل: بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان؛ لأنها قالت: قلت:
أفطرت وصمت وقصرت وأتممت ، فقال:(أحسنت يا عائشة) ، وهذا إنما يقال
في الصوم الواجب.
وأما السفر في غير رمضان ، فلا يذكر فيه مثل هذا؛ لأنه معلوم أن الفطر
فيه جائز ، وأيضًا فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي ، عن عائشة
أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ ففرضت ثلاثًا ، فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى ، وإذا أقام؛ زاد مع كل
ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ لأنها وتر ، والصبح؛ لأنها تطول فيها القراءة) .
أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر؛ صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين ، فلو
كان تارة يصلي أربعًا؛ لأخبرت بذلك ، وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على
عائشة، وأيضًا فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات ، وعمرها أقل من عشرين سنة ، فإنه لما بنى
بها بالمدينة كان لها تسع سنين ، وإنما أقام بالمدينة عشرًا ، فإذا كان قد بنى بها في
أول الهجرة؛ كان عمرها قريبًا من عشرين ، ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك؛ لكان
عمرها حينئذ أقل ، وأيضًا فلو كانت كبيرة؛ فهي إنما تتعلم الإسلام ، وشرائعه من
النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر
خلاف ما يفعله هو ، وسائر المسلمين وسائر أزواجه ، ولا تخبره بذلك حتى تصل
إلى مكة؟ هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين؟ وما بالها فعلت هذا في هذه
السفرة دون سائر أسفارها معه؟ وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه ،
وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: (فرض
الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، ثم أتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على
الفريضة)
وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ، ورواية أصحابه الثقات ،
ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة ، يرويه مثل ربيعة، ومن
رواية الشعبي ، عن عائشة.
وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة ، فكيف
تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه ،
وهي تراه ، والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين.
وأيضًا فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يحتج
بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها
عروة ابن أختها ، بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد ، كما رواه النيسابوري ،
والبيهقي ، وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب ابن جرير ، ثنا شعبة ، عن هشام
بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعًا ، فقلت لها: لو
صليت ركعتين؟ فقالت: (يا ابن أخي إنه لا يشق علي) .
وأيضًا ، فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه ،
عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت
صلاة السفر على ركعتين ، وأتمت في الحضر أربعًا. قال صالح: فأخبر بها عمر
بن عبد العزيز فقال: (إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر)
قال: فوجدت عروة يومًا عنده ، فقلت: كيف أخبرتني عن عائشة؟ فحدث بما
حدثني به. فقال عمر: (أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعًا في السفر؟) قال:
بلى.
وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ،
وأقرت صلاة السفر) قال الزهري: قلت: فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة؟ قال:
إنها تأولت كما تأول عثمان.
فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت: لا يشق علي.
وقال: إنها تأولت كما تأول عثمان. فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من
اجتهادها ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الإتمام ، أو كان هو قد
أتم؛ لكانت قد فعلت ذلك اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك
عثمان ، ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد.
ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر ،
وقد عرف أنه باطل ، فكيف بما هو أبطل منه؟ وهو كون النبي صلى الله عليه
وسلم كان يتم في السفر ، ويقصر، وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق
عليها أصحابه نقلاً عنه ، وتبليغًا إلى أمته.
لم ينقل عنه قط أحد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعًا ، بل تواترت
الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه.
والحديث الذي يرويه زيد العمي ، عن أنس بن مالك قال: (إنا معاشر
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا
المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر) وهو
كذب بلا ريب، وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك ، والثابت عن أنس
إنما هو في الصوم.
ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون
فرادى؛ بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم، فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر ،
فهذا الحديث من الكذب، وإن كان البيهقي روى هذا ، فهذا مما أنكر عليه ، ورآه أهل
العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له، وإنه يحتج بآثار
لو احتج بها مخالفوه؛ لأظهر ضعفها وقدح فيها، وإنما أوقعه في هذا مع علمه
ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول
واحد من العلماء دون آخر ، فمن سلك هذه السبيل؛ دحضت حججه ، وظهر عليه
نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ، ويتأولها في كثير من
المواضع بتأويلات يبين فسادها؛ ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب
شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي؛ لكن
البيهقي ينقي الآثار ، ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي.
والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد
قيل: إنه مصحف ، وإنما لفظه:(كان يقصر ، وتتم هي) بالتاء ، (ويفطر وتصوم
هي) ؛ ليكون معنى الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه ، فإنه معروف
عن عبد الرحمن بن الأسود، لكنه لم يحفظ عن عائشة.
وأما نقل هذا الآخر عن عطاء ، فغلط على عطاء قطعًا ، وإنما الثابت عن
عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا كما رواه غيره ، ولو كان عند عائشة
عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ لكانت تحتج بها، ولو كان ذلك
معروفًا من فعله؛ لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون
خلفه دائمًا في السفر ، فإن هذا ليس مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال
كقيامه بالليل ، واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه، بل أمور
السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة؛ لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره ،
فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا
أراد سفرًا أقرع بين نسائه ، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه) .
فإنما كان يسافر بها أحيانًا ، وكانت تكون مخدرة في خدرها ، وقد ثبت عنها
في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هانئ عن المسح على الخفين قالت: (سل
عليًّا ، فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في
السفر ، فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن يصليها في الحضر ، ولا في السفر إلا إمامًا بأصحابه، إلا أن يكون له عذر
من مرض ، أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب؛ ليصلح بين أهل قباء ، وكما غاب
في السفر للطهارة ، فقدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم الصبح ، ولما حضر
النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك ، وصوبه.
وإذا كان الإتمام إنما كان ، والرجال يصلون خلفه ، فهذا مما يعلمه الرجال
قطعًا ، وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، فإن ذلك مخالف لعادته في عامة
أسفاره فلو فعله أحيانًا؛ لتوفرت هممهم ، ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح
على الخفين لما فعله، وإن كان الغالب عليه الوضوء ، وكما نقلوا عنه الجمع بين
الصلاتين أحيانًا، وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص، مع
أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض ، فإن الناس لا يشعرون
بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر ، فإن هذا أمر يرى
بالعين لا يحتاج إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر ، وخروج وقت
المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل. ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان
في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وقد روي
أنه كان يجمع كذلك ، فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعًا لو فعل ذلك في
السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شهة ولا نزاع، بل كان ينقله المسلمون ، ومن جوز
عليه أن يصلي في السفر أربعًا - ولا ينقله أحد من الصحابة، ولا يعرف قط إلا
من رواية واحد مضعف ، عن آخر ، عن عائشة، والروايات الثابتة عن عائشة لا
توافقه ، بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى الفجر مرة أربعًا؛ لصدق ذلك ، ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار
التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد ، مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ،
ويعلم أنه لو كان حقًّا؛ لكان ينقل ، ويستفيض.
وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى:
(أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق
ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقًّا؛ لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ،
وذلك مثل ما روى أبو داود الطيالسي ، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن
أبي نضرة قال: سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا
قط، إلا صلى ركعتين حتى يرجع ، وشهدت مع رسول الله صلى عليه وسلم حنينًا ،
والطائف؛ فكان يصلي ركعتين، ثم قال: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم
سفر) ، ثم حججت مع أبي بكر، واعتمرت ، فصلى ركعتين ركعتين، ثم قال: (يا
أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) ، ثم حججت مع عمر ، واعتمرت ، فصلى
ركعتين، وقال: أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر ، ثم حججت مع عثمان واعتمرت ،
فصلى ركعتين ركعتين ، ثم إن عثمان أتم.
فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في
السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة
إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين.
وأما ما ذكره من قوله: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) ، فهذا
مما قاله بمكة عام الفتح ، لم يقله في حجته، وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية.
وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده، رواه البيهقي من
طريقه ولفظه: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا إلا صلى ركعتين
حتى يرجع ، ويقول:(يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين فإنا قوم سفر) وغزا
الطائف وحنين فصلى ركعتين، وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت مع
أبي بكر واعتمرت فكان يصلي ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان
يصلي ركعتين.
فلم يذكر قوله: إلا عام الفتح، قبل غزوة حنين والطائف، ولم يذكر ذلك عن
أبي بكر، وعمر، وقد رواه أبو داود في سننه صريحًا من حديث ابن علية: حدثنا
علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: عرفت مع النبي
صلى الله عليه وسلم، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي
ركعتين يقول: (يا أهل البلد صلوا أربعًا؛ فإنا قوم سفر) ، وهذا إنما كان في
غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى، وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة
في الحج ركعتين، ثم قال عمر بعدما سلم: أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر.
هذا، ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من
الصحابة، لا ممن نقل صلاته، ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي
على نقله، مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون: إن المكيين يقصرون الصلاة
بعرفة، ومزدلفة، ومنى. أفيكون كان معروفًا عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم
خلاف ذلك؟ أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع ، ولا يجهله أحد ممن حج مع
النبي صلى الله عليه وسلم؟
وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال: (صلينا مع النبي صلى الله
عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين) . حارثة هذا خزاعي وخزاعة
منزلها حول مكة.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع
ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع ، وقال: صليت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت
مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.
وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل: إنه كان؛ لأنه تأهل بمكة ، فصار مقيمًا.
وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذئب، أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات،
فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت ، وإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تأهل في بلد ، فليصل صلاة مقيم بمكة
ثلاثة أيام ، ويقصر الرابعة) ، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو
لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك، فإن عثمان كان من المهاجرين، وكان المقام
بمكة حرامًا عليهم.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة
بعد قضاء نسكه ثلاثًا، وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب
عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة؛ فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطنًا
بمكة إلا أن يقال: إنه جعل التأهل إقامة لا استيطانًا ، فيقال: معلوم أن من أقام
بمكة ثلاثة أيام، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يمكنه أن
يقيم بها أكثر من ذلك؛ لكن قد يكون نفس التأهل مانعًا من القصر، وهذا أيضًا بعيد ،
فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائها بمنى،
وأيضًا فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون اقتداءً به، ولو كان عذره
مختصًّا به؛ لم يفعلوا ذلك ، وقيل: إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع.
وهذا أيضًا ضعيف، فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
أجهل منهم في زمن عثمان، ولم يتمم الصلاة، وأيضًا فهم يرون صلاة المسلمين
في المقام أربع ركعات، وأيضًا فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم،
فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك، وعروة قد قال: إن
عائشة تأولت كما تأول عثمان ، وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها [1] .
أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر، ورأوا أن الدنيا لما اتسعت
عليهم لم يحصل لهم من الشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعًا، كما قد
جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ أن ذلك كان لأجل حاجتهم إذ
ذاك إلى هذه المتعة ، فتلك الحاجة قد زالت.
تمت
جاء في آخر النسخة التي طبعنا عنها هذه الرسالة ما نصه:
هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة، للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكان
المنقول عنها يقول كاتبها: إنه نقلها من نسخة بخط ابن القيم رحمهم الله ، وقد وقع
الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية،
وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي، والحمد لله رب العالمين.
_________
(1)
سبق مثل هذا الكلام أيضًا في الصفحة 42 من هذا الكتاب فانظره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة القبور والمشاهد عند الشيعة
مناظرة بين عالم شيعي، وعالم سني
من المعلوم في كتب التاريخ أن رفع بناء قبور آل البيت وغيرهم من
الصالحين، وبناء القباب عليها، وإيقاد السرج والقناديل فيها، وجعلها مساجد
يصلى فيها ، وشعائر يحج إليها خلافًا للأحاديث الصحيحة الزاجرة عن ذلك لعمل
الصدر الأول - كل ذلك مما ابتدعه الشيعة الباطنية والظاهرية ، وقلدهم فيه
بعض المنتسبين إلى السنة من الملوك ، والسلاطين الجاهلين ، ولا سيما الأعاجم
منهم كالجراكسة ، والترك ، ومن مشايخ الطرق الصوفية.
ويعلم قراء المنار أننا منذ أنشأناه في أواخر سنة 1315 إلى الآن ، ونحن
ننكر هذه البدع ، ونشنع على أهلها في مصر وغيرها من غير تعرض لذكر
الشيعة؛ لأن هؤلاء أشد الفرق الإسلامية تعصبًا وجدلاً ، فتوجيه الكلام إليهم قلما
يفيد إلا زيادة الشقاق الذي نسعى لإحالته وفاقًا، ولكن نشرنا في المجلد الثاني ،
والمجلد الثالث عشر من المنار رسالتين لسائحين من أهل العلم (أولاهما) عن حال
العراق تعرض فيها لدعاة الشيعة هنالك ، وذكر مسألة المتعة ، (والثانية) من
البحرين بحث فيها مرسلها في مسألة القبور والمشاهد في مذهب الشيعة ، فما زلنا
نسمع الطعن في المنار من أجل نشرهما قولاً وكتابة، وقد ألف بعض علمائهم في
سورية كتابًا سماه: (الشيعة والمنار) ، فعرقل المتعصبون منهم جهادنا في سبيل
التأليف بينهم ، وبين أهل السنة.
وجملة القول: إن بعض علمائهم المتعصبين جعلوا المنار خصمًا للشيعة ،
ولو اشتغلنا بالرد والإنكار على الشيعة عشر معشار اشتغالنا بالبدع المنتشرة في
البلاد التي يعد أهلها من متبعي السنة؛ لقضينا كل عمرنا في الجدل الذي يبغضه
الله تعالى ، ويبغض أهله.
وكنا نود أن نرى كتابة لبعض علمائهم المعاصرين يبين فيه أدلتهم في هذه
المسألة ، ولا نعثر عليها حتى زارنا في هذا الشهر عالم سني كان في العراق، وقعت
بينه وبين أحد علماء الشيعة مناظرة شفاهية فيها تلتها مناظرة قلمية اطلعنا عليها؛
فاستأذناه في نسخها ونشرها؛ فأذن لنا، وهي مبنية على الرسالة الثانية من الرسالتين
اللتين أشرنا إليهما آنفًا.
ونبدأ بنشر ما كتبه العالم الشيعي ، وهو الأستاذ الشهير (سيد مهدي الكاظمي
القزويني) ، ثم نقفي عليها برد العالم السني ، وهو (الأستاذ الشيخ محمد بن عبد
القادر الهلالي) ، ولكننا نعلق في الحواشي بعض الفوائد قبل الاطلاع على الرد كله ،
ونشره.
***
رسالة العالم الشيعي [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،
وعترته الطاهرين، وعلى صحبه المنتخبين [1] ، وعلى التابعين لهم بإحسان.
ثم تحية وسلام على جناب العام الفاضل الشيخ محمد بن عبد القادر الهلالي
سلمه الله تعالى ، ووفقه معنا ، وسائر المؤمنين لما يرضيه.
أما بعد ، فقد تناولنا بكمال الاحترام كتابكم الكريم المؤرخ لأربع خلون من
شعبان ، وسبرنا ما أوعزتم إليه مما نشره المنار عن أحد مكاتبيه في الجزء الرابع
من المجلد الثالث عشر في صفحة 311 ، وتلقينا سؤالكم عن الحقيقة بتمام السرور ،
والانشراح رغبة بكشف الالتباس ، ورفعًا لسوء التفاهم بين المسلمين، ولذا تتبعنا
كلام المكاتب فقرة فقرة ، وإن استلزم ذلك طولاً في البحث ، لكنكم ستسامحوننا عليه
إن شاء الله تعالى.
قال المكاتب: والعجب من علمائهم - يعني الشيعة - أنه لا يوجد كتاب من
فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور ، والسرج عليها ، وتجديدها ، وبناء
المساجد عليها. ثم لا نرى منهم منكرًا لذلك ، بل يعدونه من أفضل القربات انتهى.
نقول: كان على المكاتب أن يذكر على الأقل كتابًا واحدًا من كتب الشيعة في
الفقه مصرحًا فيه بعدم جواز هذه الأمور؛ ليكون شاهدًا على صدقه فيما ادعاه،
وأنى له بذلك؟ وهذه كتب الشيعة منتشرة في غاية الكثرة لم نجد في واحد منها ما
نسبه إليهم.
قال المكاتب استدلالاً بما قال الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر
المتوفى في أواسط القرن الثالث عشر على عدم جواز البناء على القبور عند ذكر
صاحب المتن: إنه لا يجوز. انتهى.
نقول: سبحانك اللهم مغفرة وعفوًا، وعجبًا من مدعي العلم كيف يحرف الكلم
عن مواضعه؟ ولم ينقله على وجهه، إن نص عبارة كتاب الجواهر هكذا: ولما
فرغ (يعني المحقق الحلي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة مصنف كتاب شرائع
الإسلام في الفقه ، وهو المتن الذي شرحه الشيخ محمد حسن النجفي ، وسمى شرحه:
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) من الكلام في المسنونات شرع في الكلام
في المكروهات ، فمنها:(إنه يكره فرش القبر بالساج إلا لضرورة) ، ثم ذكر
جملة من المكروهات إلى أن قال: (ومنها: تجصيص القبور) .
هذا نفس المتن ، فهل يتوهم أحد من هذه العبارة عدم جواز البناء على القبور
بعد تصريح المصنف بأنه يكره تجصيصها؟ حاشا ، وكلا.
ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر المتن المزبور أخذ يستدل على كراهة
التجصيص ، ومن جملة ما استدل به: الحديث المروي عن علي بن جعفر رضي
الله عنه قال: سألت أبا الحسن موسى - يعني الكاظم رضي الله عنه عن البناء
على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: (لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا
تجصيصه ولا تطيينه) .
أما وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص ، فهو أن الجلوس على القبر
ليس بمحرم عندنا ، فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة؛ للزوم تساوي
المتعاطفات في الحكم [2]، فقوله رضي الله عنه: لا يصلح؛ إنما يريد به الكراهة ،
لا التحريم بقرينة ذكر الجلوس الذي ليس بحرام.
ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث إلا قوله: لا يصلح البناء على القبر ،
وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث دال على التحريم ، ولا شك أن إسقاط
بعض الحديث خيانة في النقل، على أن لفظ الحديث:(لا يصلح) ، وهو بنفسه
لا يدل على التحريم؛ لأن نفي الصلاح في شيء لا يستلزم ثبوت الفساد فيه، فلا
تحريم إذن.
ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة التجصيص قول الصادق
رضي الله عنه: كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر؛ فهو ثقل على الميت.
وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن المفهوم منه: كراهة أن يهال
على الميت من غير تراب القبر ، فالصادق رضي الله عنه كأنه قال: لا يهال على
القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره ، ولا يؤتى بشيء من غيره ،
فيوضع في القبر [3] إلا أنه يمكن أن يفهم منه كراهة تجصيصيه (أيضًا) ؛ لأن
الجص من غير تراب القبر ، ولهذا جعل صاحب الجواهر هذا الحديث مشعرًا
بكراهة التجصيص لا دليل عليه ، ومعلوم أن الإشعار نظير الإيماء ، والتلميح ليس
من دلالات الألفاظ ، ومفهوماتها الظاهرة منها [4] .
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
في هدم القبور ، وكسر الصور ، وسنذكر فيما يأتي معنى هذا الحديث إن شاء الله ،
والمهم هنا بيان أن صاحب الجواهر ذكر هذه الأحاديث استدلالاً على كراهة
تجصيص القبور حسب ما صرح به الماتن ، ونحن وضحنا وجه الاستدلال بها.
ثم قال الماتن: ومنها؛ أي: من المكروهات (تجديد القبور بعد اندراسها) ،
وأخذ صاحب الجواهر يستدل على كراهة ذلك بما لا حاجة إلى ذكره؛ لأن مكاتب
المنار لم يتعرض له [5] ، ثم إنه لا الماتن ولا الشارح تعرض لمسألة السرج على
القبور؛ فيفهم من ذلك أنها غير مكروهة عندهما ، ولهذا أهملا ذكرها [6] ، وسائر
كتب الشيعة على هذا النسق ، فليرجع إليها من شاء ، فكيف قال مكاتب المنار: إنه
لا يوجد كتاب من فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور ، والسرج عليها ،
وتجديدها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم [7] ، ولا عجب منه ، فإنه لما تظاهر
بالتمدن الغربي ، وأدخل نفسه في عداد المتنورين بزعمه ، وتراءى للناس بمظهر
بيان الحقائق؛ سولت له نفسه أن قارئ كتابه لا يتهمه بالافتراء على تحريف كلمات
العلماء ، وساق الأحاديث على غير مساقها بعد أن لعب بها [8] كل ذلك؛ ليشوه
وجه الشيعة ، وسمعتهم عند من لم يعرف حقيقة الحال، ولم يدر ، وليته درى بأنه
سود بذلك صحيفة تاريخه وتاريخ المنار، فأين الكراهة من التحريم؟ وأين تجصيص
القبور أو البناء عليها من البناء الذي قصد التشنيع به كالقباب وغيرها [9] ؟ فإن
من الواضح أن البناء المذكور في حديث الكاظم عليه السلام سؤالاً وجوابًا؛ إنما هو
بناء نفس القبر ، وهو الذي لا يصلح كما يشهد به قوله في الحديث: (ولا الجلوس
عليه ، ولا تجصيصه ، ولا تطيينه) ، فهل يفهم من هذه الكلمات غير نفس القبر؟
وكم من فرق بين بناء نفس القبر [10] ، وبين القبة المبنية على أساسات لا دخل لها
بالقبر أصلاً.
قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكلينى عن سماعة قال: سألت
الصادق رضي الله عنه عن زيارة القبور ، وبناء المساجد عليها ، فقال: (أما
زيارة القبور ، فلا بأس ، ولا يبنى عليها مساجد) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد) انتهى.
نقول: يوجد فيما نقله المكاتب من حديث سماعة بعض تغييرات لا يختلف
بها المعنى ، ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة بصورة
توهم أن الصادق رضي الله عنه استشهد به على قوله، مع أن الحديث النبوي لا
وجود له في كتاب الكليني أصلاً، نعم توجد روايته مرسلة في بعض كتب الشيعة.
وكيف كان ، فليعلم أن جميع ما جاء من بناء المساجد ، أو اتخاذها على
القبور، أو فيها، أو عندها حسب اختلاف النقل؛ إنما يراد به النهي عن جعل
نفس القبر مسجدًا؛ أي: موضعًا يسجد عليه ، وليس المراد بالمسجد ما هو المعروف
بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه؛ لأنه حينئذ لا يكون معنى معقول لبناء
المسجد على القبر ، أو اتخاذ المسجد عليه، وهل يتصور في الإمكان بناء مسجد
على نفس القبر؟ ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي: (لا تتخذوا قبري قبلة ،
ولا مسجدًا) ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه
المصلي ولا يستقبل القبلة ، ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه ، فإن الله
لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ومن المعلوم أن ليس لليهود مساجد
بالمعنى المعرف عند المسلمين، فالمقصود إذن بيان أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم
مواضع يسجدون عليها [11] .
وفي صحيح البخاري: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، وذكر
حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لعن الله
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ولولا ذلك لأبرز قبره غير أني
أخشى أن يتخذ مسجدًا) . انتهى
فهل يفهم من هذا الحديث إلا اتخاذ نفس القبر موضعًا يسجد عليه؟ قال في
فتح الباري: قوله: (لأبرز قبره) أي: لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم
يتخذ عليه الحائل ، فهل يوجد أصرح من ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس
القبر لا يجوز، وهذا المعنى هو المنهي عنه في جميع أحاديث الباب، وربما حملها
بعض العلماء على إرادة السجود لنفس القبور؛ تعظيمًا لها ، وهذا المعنى وإن
كان غير جائز أيضًا؛ لأنه عبادة للقبور إلا أن الأحاديث ليست مسوقة للنهي عن
ذلك ، بل للنهي عن السجود على نفس القبر ، وسنذكر أقوال العلماء بالنسبة إلى
هذا المعنى فيما يأتي إن شاء الله.
وتوجد (أيضًا) معان ثلاثة غير المعنى الذي قررناه إلا أنه لا يمكن تفسير
الأحاديث بواحد منها ، (أحدها) أن يراد النهي عن وصل المساجد بمواضع القبور ،
وهذا التأويل خطأ فاحش؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل
بموضع قبره الشريف في زمن الصحابة والتابعين ، فكيف يدعى أن ذلك منهي
عنه؟ وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين.
(ثانيها) أن يراد النهي عن أن يقوم المصلي حول القبر ، ويسجد على
الأرض قريبًا من القبر، وهذا التأول أيضًا خطأ لا يصح حمل الأحاديث عليه؛
لأنه لا ريب في أن البقعة المتضمنة لقبر نبي أو إمام عادل أو ولي لله تعالى أو
غيره ممن له عند الله منزلة جليلة ، وجاه عظيم تكون أشرف ، وأفضل من
غيرها؛ لنسبة شرف المدفون فيها ، وفضله، قال النواوي في شرحه لصحيح مسلم
في باب فضل الصلاة بمسجد في مكة ، والمدينة: قال القاضي عياض: (أجمعوا
على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض) ، ولا ريب
أيضًا [12] في أن الصلاة ومثلها الدعاء وقراءة القرآن وسائر الأذكار والأعمال الشرعية في الأماكن الشريفة تكون أقرب إلى قبولها عند الله تعالى [13] ؛ ولهذا
صارت الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره ، ولأجل الحصول على
هذا الفضل كان السلف الصالح وأئمة المسلمين حتى في زماننا هذا يصلون ويدعون ، ويتضرعون إلى الله تعالى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن صفوف
الصلاة تحاذي نفس القبر الشريف [14] .
(ثالثها) أن يراد النهي عن إنشاء المساجد ، واتخاذها حول القبور ، وهذا
التأول خطأ أيضًا؛ لأنه لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله تعالى ببناء مسجد
تقام فيه الصلوات في تلك البقاع الشريفة مع ما ورد من أن من بنى مسجدًا؛ بنى
الله له بيتًا في الجنة ، وهو حديث عام لا يختص ببقعة دون بقعة ، ولا بزمان دون
زمان، بل بناؤه وإنشاؤه في البقاع الشريفة أولى؛ لكونه حينئذ يشتمل على جهتين من
الشرف شرف البقعة ، وشرف المسجدية [15] ، ففي فتح الباري في باب هل تنبش
قبور مشركي الجاهلية قال البيضاوي [16] : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون
لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ، ويجعلونها قبلة يتجهون في الصلاة نحوها واتخذوها
أوثانًا؛ لعنهم - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنع المسلمين عن مثل
ذلك ، فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح ، وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم
له ، ولا التوجه نحوه ، فلا يدخل في ذلك الوعيد انتهى.
وفي الكتاب المذكور في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي
الأرض مسجدًا وطهورًا) قال: وإيراده - يعني حديث جابر - هنا يحتمل أن
يكون أراد أن الكراهة في الأبواب المتقدمة ليست للتحريم؛ لعموم قوله صلى الله عليه
وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا) أي: كل جزء منها يصلح أن يكون مكانًا
للسجود ، أو يصلح أن يبنى فيه مكان للصلاة ، ويحتمل أن يكون أراد أن الكراهة
فيها للتحريم ، وعموم حديث جابر مخصوص بها ، والأول أولى؛ لأن الحديث
سيق في مقام الامتنان ، فلا ينبغي تخصيصه انتهى [17] .
وحيث تبين خطأ تأويل الأحاديث بأحد تلك المعاني الثلاثة؛ تعين أن يكون
المراد ما قررناه أولاً ، وهو جعل نفس القبر موضعًا يسجد عليه ، أو قبلة يصلى
إليها ، وهذا المعنى هو المنهي عنه بتلك الأحاديث حسب ما شرحناه، لكن بعض
العلماء تأولها بالسجود لنفس القبور تعظيمًا لها كما تقدم نقله عن البيضاوي.
وقال النواوي في شرح صحيح مسلم في باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد: قال
العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا
خوفًا من المبالغة في تعظيمه ، والافتتان به ، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى
لكثير من الأمم الخالية ، ثم ذكر علة زيادة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإدخال قبره فيه ، وقال: بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهر
في المسجد ، فيصلي عليه العوام ، ويؤدي إلى المحذور. انتهى.
وفي فتح الباري في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ، ويتخذ مكانها
مساجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ اليَّهُود اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبَيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ) ، قال: إن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ،
ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية ، وجرهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول من اتخذ أمكنة
قبورهم مساجد بأن تنبش ، وترمى عظامهم ، انتهى.
نقول: إن ما ذكره هؤلاء في تأويل هذه الأحاديث غير مفهوم منها ، ولا
ظاهر من سياقها، وعسى أن يكونوا لم يهتدوا إلى المعنى الذي قررناه، مع أنه في
غاية الظهور، فتأولها بذلك [18] وعلى أي حال، فلا ريب في أن السجود للقبور
تعظيمًا لها لا يجوز ، بل هو كفر وشرك؛ لكونه عبادة ، وسجودًا لغير الله جل وعلا،
ولا يتصور صدور ذلك من مسلم.
وإذ شرحنا معاني الأحاديث ، فليفصح لنا مكاتب المنار عن جهة انتقاده على
الشيعة [19] .
إن زعم أنهم يسجدون للقبور تعظيمًا لها؛ قلنا: سبحانك اللهم هذا بهتان
عظيم {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم:
90) ، وإن زعم أنهم في صلواتهم لله يسجدون على قبور أئمتهم؛ كذبه الوجدان ،
مع أن قبور الأئمة رضي الله عنهم محاطة بصناديق ، وشبابيك تمنع من وصول
أحد إلى نفس القبر، وإن زعم موافقة عمل الشيعة لأحد المعاني الثلاثة المتقدمة؛
فقد بينا أن ذلك غير منهي عنه ، ولا محذور فيه [20] بل هو راجح شرعًا ، وأهل
السنة لم يزالوا عاملين به ، فهم مشاركون للشيعة في ذلك [21] مضافًا إلى أنا لم نجد
أحدًا بنى مسجدًا حول قبر من القبور المشهورة [22] .
نعم إن الشيعة يصلون ، ويدعون ربهم ، ويطلبون منه مغفرة ذنوبهم ،
ويتضرعون إليه في مشاهد قبور أئمتهم رضي الله عنهم ، لكن مجرد الصلاة ،
والدعاء ، ونحوه لا يصيرها مساجد [23] ، ولو أن أحدًا واظب على أن يصلي ،
ويدعو ، ويقرأ القرآن مدة حياته في مكان خاص من بيته؛ فإن ذلك المكان
بالضرورة لا يصير مسجدًا بكثرة العبادة فيه [24] ، وحينئذ ما وجه تعجب مكاتب
المنار من علماء الشيعة ، وإنه لا يرى منهم أحدًا منكرًا لذلك ، فليصرح برأيه ، فإن
أي المعاني المتقدمة يجب في نظره أن ينكره علماء الشيعة؟ هل المعنى الذي لم
يرتكبه حتى الجاهل من الشيعة ، بل لا يمكن ارتكابه ، وهو السجود على نفس
القبر؟ أو أحد المعاني الثلاث التي بعضها لا وجود له أصلاً ، وبعضها مشترك
العمل بين الشيعة وأهل السنة ، وهو عمل راجح شرعًا وعقلاً ، ولو أنه فهم
معاني أحاديث بناء المساجد ، واتخاذها على القبور ، وراجع وجدانه في ذلك؛ لما
تورط في هذا الخطأ الفاحش [25] ، وأعجب منه أن صاحب المنار نشر هذا الخطأ
مع ادعائه التبحر في المعارف [26] .
أما الحديث الذي وعدنا فيما سبق ببيان معناه ، وهو المروي عن أمير
المؤمنين رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور
وكسر الصور.
فليس فيه بيان الموضع المبعوث إليه ، ولا بيان تلك القبور التي بعثه في
هدمها ، لكن متن الحديث يرشدنا إلى أن الموضع كان في بلاد المشركين يومئذ ، أو
من بلادهم ، وأن القبور قبورهم ، وأن الصور المجعولة على القبور ، أو حولها إن
لم تكن هي الأصنام التي يعبدونها؛ فهي التماثيل التي يعملونها مثالاً لعظمائهم ،
ووجدوا فيها ، أو حولها صورهم ، وتماثيلهم في مصر ، في سورية ، في نينوى ،
في العراق، ومن المعلوم أن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قبور
المسلمين مشيدة بالبناءات الصخمة حتى يبعث من يهدمها، ولم يكن المسلمون
يعملون الصور ، والتماثيل كما يشهد به التاريخ [27] .
ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عنه
رضي الله عنه قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته.
ولا شك أن التمثال من صنع المشركين ، أما تسوية القبر فهو تعديله
وتسطيحه ، يعني إذا وجدت قبرًا مشرفًا مسنمًا؛ فسوه؛ أي: عدله وسطحه ، ففي
صحيح مسلم حديث أبي علي الهمداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم
برودس ، فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوي ، وقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. قال النواوي في شرحه: قوله: يأمر بتسويتها
وفي الرواية الأخرى: ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته ، فيه أن السنة أن القبر لا يرفع
على الأرض رفعًا كثيرًا ، ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ، ويسطح ، انتهى محل
الحاجة منه ، وأشار إليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المجلد الأول من كتابه
(منهاج السنة) في صفحة 546 مستدلاًّ به للشافعي ، فإنه بعد أن ذكر أن مذهب أبي
حنيفة ، وأحمد أن تسنيم القبور أفضل قال: والشافعي يستحب التسطيح؛ لما روي
من الأمر بتسوية القبور ، ورأى أن التسوية هي التسطيح انتهى. والحق مع الشافعي
في ذلك ، وليس هو رأيًا رآه كما زعمه الشيخ ، بل التسوية في اللغة هي التعديل ، في المصباح المنير: سويته عدلته وملوكهم ، ويشهد بذلك ما نقرؤه في كثير من
الصحف والمجلات عما يستخرجه علماء الآثار من الأحافير التي عثروا فيها على
كثير من قبور الملوك القدماء. وفي مختار الصحاح: سويت الشيء تسوية فاستوى ،
ثم قال بعد ذلك: واستوى الشيء اعتدل ، وحينئذ فتسوية القبور عبارة عن تعديلها ،
ولا معنى لتعديلها إلا تسطيحها ، وهو الذي فهمه الشافعي من لفظ الحديث، وتعقبه
النواوي في كلامه المتقدم، ونطقت به اللغة ، وليس معنى تسوية الشيء قلعه وهدمه
قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر: 29) ، {فَخَلَقَ
فَسَوَّى} (القيامة: 38)، {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} (النازعات: 28) ،
{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} (البقرة: 29) ، وبمعناه كثير من كلام الفصحاء [28]
فبأي وجه يزعم من ليس له قدم راسخة في العلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم
القباب والبناءات التي تكون حول قبور الأنبياء والأئمة والشهداء والصالحين ،
ومع أن هذه لم تكن مشيدة في زمانه حتى يأمر بهدمها ، هل تقاس بقبور المشركين ،
وبالتماثيل والصور؟ حاشا وكلا ، فإن هذا من أقبح القياسات وأشنعها مضافًا إلى أن
ما عرض به مكاتب المنار من القباب ، والبناءات المعتمدة على أساسات لا دخل لها
بالقبور أصلاً ، كما يشاهده العيان كانت مشيدة منذ عدة قرون بمرأى من المسلمين ،
ومسمع لم ينكره أحد منهم حتى الذين رووا حديث أبي الهياج الأسدي؛ لعلمهم بأن هذا
ونحوه إنما ورد في المعنى الذي ذكرناه [29] ، ولكن جاء بعدهم قوم لم يتدبروا معاني
الأحاديث ، ولم يتفطنوا لما عليه أسلافهم؛ فشددوا النكير على تشييد القباب والبناءات
حول القبور زعمًا منهم أنهم فهموا من الأحاديث ما لم يفهمه الأولون الراسخون في
العلم ، وأنهم وصلوا إلى ما لم يصل إليه أئمة المسلمين ، وهيهات ذلك مع أن هؤلاء
ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية ،
ومعرفة الحلال والحرام بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد ، والأخذ بقول
أحد المذاهب الأربعة [30] .
ثم وصلت النوبة إلى مكاتب المنار فلفق أقاويل طعن بها على الشيعة بزعمه ،
ونشرها المنار مستحسنًا لها ، وقد فات المنار ، ومكاتبه أن يَطْعَنا بمثلها على أهل
السنة حيث شيدوا كالشيعة بناءات القبور ، وقبابها منذ أكثر من تسعمائة سنة [31] ،
ومن المعلوم بالوجدان أن القبور التي شيدها أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة
المنورة والطائف ومصر والشام والعراق ، وغيرها من الأقطار هي أكثر مما شيده
الشيعة سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين علي هو هارون الرشيد العباسي
خليفة المسلمين في عصره ، وتابعه على ذلك سائر الخلفاء حتى عبد الحميد خان
التركي ، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته كلما مست الحاجة إلى تجديدها.
فليت شعري! إن المنار ، ومكاتبه كيف نظرا بعين السخط إلى ما شيده
الشيعة ، وأغمضا عينًا عما شيده أهل السنة ، أو نظرا إليه بعين الرضاء [32] ، ثم
نقول: يحق للشيعة ، بل ولكل مسلم أن يعدوا تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم
القربات.
وايم الله إن مكاتب المنار صدق بهذه النسبة إليهم، وهي بكونها فضيلة أحرى
من كونها رذيلة، وهو أراد أن يذم؛ فمدح، وأن يشنع؛ فبجل، وذلك أن الجهات
القاضية برجحان زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبور أهل بيته الذين
وجبت مودتهم على كل مسلم بآية القربى تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر
الأقطار في مشاهد قبورهم ، والكون فيها للصلاة ، وسائر العبادات، وذلك موجب
لإعداد محال واسعة حول القبور تكون مجمعًا للزائرين ، وهي تفتقر إلى بناءات
فخمة واقية لنفس القبور ، والفرش التي حولها ، وللقناديل المسرجة ليلاً لقراءة
القرآن ، والأدعية في المصاحف ، والصحف، وحافظة لمن يزور تلك القبور من
الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح وتغيرات الجو ، ونحو ذلك؛ ليتمكن الزائر
أن يقوم بأنواع العبادات لله تعالى ، فإن بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيوت
أهل بيته صلى الله عليه وسلم من أعاظم البيوت التي أمر الله أن ترفع ، ويذكر
فيه اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك
البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال حياتهم فكذا قبورهم ، وإن تعظيم
بيوتهم في حال حياتهم؛ إنما هو لوجودهم فيها ، فكذا قبورهم، ولأنهم أحياء
عند ربهم يرزقون.
ومن هذا يظهر رجحان احترام قبور الشهداء والصديقين والعلماء والصالحين
خصوصًا بعد أن ورد في الحديث (إن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًّا) .
ثم لنفرض أنه لا دليل على رجحان تلك البناءات شرعًا ، لكنها مباحة ، فإن
الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المجلد الأول من كتابه (منهاج السنة) في صفحة
125 نقل عن الحنفية ، وعن كثير من الشافعية ، والحنبلية إباحة ما لم يرد فيه
نص شرعي، فإذا كان ذلك مباحًا عند هؤلاء العلماء من أهل السنة ، ولا محذور ،
ولا ضرر في وجوده ، فلماذا ينتقده مكاتب المنار؟ وإذا كانت تلك البناءات مباحة
في أنفسها ، فلماذا لا تكون راجحة بلحاظ ما يترتب عليها من الغايات الشريفة ،
والأعمال الجليلة التي ذكرناها من سائر العبادات لله جل شأنه.
وكيف لا يعد الشيعة تشييدها من أفضل القربات؟ وهل مسلم ينكر فضل
تلك الغايات المقصودة من تلك البناءات التي يضطر إليها الزائرون والمتعبدون؟
ولأجل أن الشيعة استندوا إلى ما ذكرناه ، ونحوه سوى أحاديثهم المستفيضة
جدًّا في رجحان ذلك؛ بذلوا أموالهم ، وأنفقوها في هذا السبيل سبيل العبادة لله تعالى ،
فقد أعد الله للمحسنين أجرًا عظيمًا، إذن فلا ينبغي من المنار ، ومكاتبه إن كان له
مكاتب [33] أن يوجها لومهما على الشيعة منذ قرون عديدة ، وإن زعما أنهم استندوا
إلى ما ذكرناه ونحوه ، فالحمد لله على الوفاق، وحينئذ لا وجه لتعجبهما من علماء
الشيعة، وإن زعما أنهم احترموها ، ولكن ليسألا أنفسهما عن استناد أهل السنة في
احترام القبور ، وتشييدها بغير مستند شرعي - فقد ضللا سلفهما ، وحاشا السلف من
ذلك، وإن زعما أنهم لم يحترموها ، فما وجه بنائها ، وتشييدها ، وتجديد عمارتها
طول هذه المدة، وكيف تعجبا من الشيعة ، ولم يتعجبا من أهل السنة؟ وما هذا
التحامل الذي لا يرتضيه كرم الأخلاق ، ولا أخوة دين الإسلام؟ فما بال الرجل
ينظر إلى الشعرة ، ولا شعرة ، ولا أقل في عين أخيه المؤمن ، ولا يرى الجذع
المعترض في عينه؟ قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:
10) ، وفي الحديث: (إن المؤمن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ، وإن المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، وبالختام نرجو أن تمعنوا النظر بالتأمل في
ذلك ، وإليكم الحكم بين الشيعة وبين المنار ومكاتبه؛ فأي الفريقين أهدى سبيلاً؟
وأيُّهما أحق بالنصيحة؟ وأيهما أولى بالمعذرة؟ كما أنا نرجو أن لا تنقطع سلسلة
مذاكرتكم معنا في الوقوف على الحقائق ، واستطلاع آراء الطرفين.
واقبلوا احترامنا لكم ، والحمد لله أولاً وآخرًا.
حرره سيد مهدي الكاظمي القزويني في 22 شعبان سنة 1345
(المنار)
إنما تعجلنا بتعليق بعض الحواشي الوجيزة على هذه الرسالة قبل نشر الرد
عليها من عالم السنة؛ لئلا يقرأها في المنار أحد من غير المشتركين ، فيعلق
بذهنه بعض مغالطاتها ، ثم لا يتفق له قراءة الرد عليها.
وقد علم منها أن أئمة آل البيت كسائر فقهاء السلف الصالح لا يبيحون هذه
البدع التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليها ، وإنما يتبع خلف الشيعة هذه
الآراء الواهية التي ذكرها عالمهم هذا من كون مكان الرجل الصالح أفضل من غيره ،
فتكون العبادة عنده أفضل! ! وهو رأي يصادم نص الرسول صلى الله عليه وسلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) ننشر الرسالة بنصها على غلط ما فيها.
(1)
من عادة علماء الشيعة أنهم لا يذكرون الصحابة في مثل هذا المقام إلا مع وصف يقيدون به الصلاة ، أو السلام ، أو الرضى به، والمنتخبون هنا هم الذين يعدونهم من شيعة علي رضي الله عنه على أن الذين يزعمون أنهم ارتدوا منهم ، والذين يجزمون أن إسلامهم كان رياء كأبي سفيان ، ومعاوية لا يدخلون في عموم الصحابة إن صح ذلك عنهم؛ لأن شرط صفة الصحابي عند أهل السنة أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ، ويموت على ذلك ، وهم أولى بهذا الاشتراط.
(2)
المنار: إنما يصح هذا الاستدلال إذا كان ما ذكر مرويًّا عن الإمام الكاظم نفسه، ومذهبهم الذي هم عليه لا يصح أن يكون قيدًا لكلامه يحمل عليه؛ لأنه لم يكن مدونًا في عصره ، ولم يكن هو مقلدًا لهم فيه ، وهم مخالفون في هذه المسألة نفسها؛ لأن قوله بأنه مكروه شرعًا على تفسيرهم؛ يقتضي تركه ، وما هم بتاركيه.
(3)
هذا تحريف لكلمة الإمام مخالف للمتبادر منها ، وهو ما كان عليه جميع سلف الأمة قبل المذاهب، والتفرق، أعني تسوية القبور بالأرض ، وعدم البناء عليها مخالفة للكفار ، ولا معنى لعدم وضع حفنة، أو حفنات من التراب غير ما استخرج منه ، فهذا مما يجل الإمام عن النهي عنه؛ إذ لا فائدة فيه.
(4)
هذه دعوى باطلة ، فإن معنى أشعره بالشيء؛ جعله يشعر به من الشعور ، وهو العلم والدراية ، قال في الأساس: وما يشعركم ، وما يدريكم، ويستعمل في الفصيح فيما كان مسلكه دقيقًا ، أو خفيًّا ، والإمام الصادق من فصحاء المتقدمين ، لا من أصحاب اصطلاحات المتفقهين.
(5)
لكنه محجة عليهم ، فإن درس القبور من شرائع الإسلام ، ولو كان تشييدها إن صح مطلوبًا شرعًا لما صرحوا بكراهة تجديدها.
(6)
إهمال ذكرها لا يدل على شيء.
(7)
هذا ، وما بعده طعن لا يليق بالعلماء ، فإن صح أن مراسل المنار لم ير في كتبهم مسألة السرج ، فالأقرب أن تكون سبق قلم سببه صحة الأحاديث فيها ، وذكرها في كتب السنة مع ما سبقها.
(8)
إنه هو الذي لعب بنصوص الأئمة ، وحرفها كما علم مما أشرنا ، ومما نشير إليه ، ومن رد الأستاذ الهلالي الآتي.
(9)
الكراهة ليست بعيدة عن التحريم كل هذا البعد ، فكل منهما مذموم منهي عنه شرعًا إلا أن التحريم أشد ، ومكاتب المنار لم يصرح بلفظ التحريم ، فيستحق به كل هذا التقريع ، ويشرك المنار معه فيه ، ويشوه تاريخه.
(10)
النهي عن بناء القباب ثابت في الأحاديث الصحيحة ، ومنها قول الصادق الذي ذكره المكاتب ، وحرفه الأستاذ كغيره ، والغرض منه ، ومن النهي عن بنائها نفسها واحد ، وهو سد الشرك كما فعل أهل الكتاب.
(11)
قوله: فليعلم أن جميع ما جاء في بناء المساجد إلى هنا ، وما بعده باطل أصلاً ، ودليلاً كما ستعرفه في الرد عليه ، وأغربه دعواه أن أهل الكتاب يصلون على قبور أنبيائهم.
(12)
قوله: ولا ريب أيضًا ، هو من كلامه ، لا من كلام النووي ، وكان ينبغي له الفصل بينهما بكلمة انتهى ، أو علامة أخرى كما فعل في مواضع أخرى.
(13)
قوله هذا باطل من وجهين (أحدهما) : أن ما هو الأقرب إلى القبول عند الله تعالى لا يعلم إلا بنص من كتابه ، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعبدي لا مجال للرأي فيه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم صرح لنا بفضل الصلاة في المساجد الثلاثة على غيرها على نسبة لا مجال للرأي فيها، ونهى عن شد الرحال إلى غيرها ، فلا يقاس عليها غيرها ، (وثانيهما) أنه صلى الله عليه وسلم قد نهى ، وزجر عن تعظيم قبور الأنبياء والصالحين بالصلاة فيها ، أو إليها ، وتشريف بنائها، ووضع السرج عليها ، وهو موضوع المناظرة ، فكيف يقيس ما نهي عنه على ما أمر به ، وحكمة هذا النهي ظاهرة ، وهي أن الناس عبدوا الصالحين وقبورهم كما سيأتي بيانه.
(14)
ما عزاه إلى السلف الصالح ، وأئمة المسلمين باطل قطعًا لم يستطع ، ولا يستطيع أن يأتي بنص فيه ، وما عداهم لا قيمة لفعله ، ولا سيما بعد انتشار البدع ، ولا سيما أهل زماننا هذا.
(15)
هذه مغالطة ظاهرة البطلان؛ لأنها عبارة عن منع النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيص ما كان عامًّا من أقواله ، وسيأتي تفصيله ، ومسجد الضرار حجة من الله تعالى عليه ، وما ذكره عن البيضاوي عليه ، لا له ، على أن البيضاوي ليس شارعًا ، وذلك أن المسلمين فعلوا بمساجد الأنبياء ، والصالحين كما فعل أهل الكتاب من كل وجه وفاقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) إلخ ، وهو في الصحيحين ، وغيرها ، ولكن المتأولين ، والجدليين منهم يسمون عبادتها تبركًا ، ودعاء أصحابها من دون الله توسلاً كما سيأتي.
(16)
إن حديث الباب المذكور ، وما ذكره الحافظ في شرحه من الفتح حجة على هذا العالم الشيعي ، وهادم لتأويله الباطل في المسألة ، ولكنه لا ينقل من الكتب إلا ما يوافق مذهبه؛ لأن المذاهب عنده ، وعند سائر المقلدين المتعصبين هي أصل الدين ، والكتاب والسنة فرعان إن أيد المذهب قُبِلا ، وإلا حرفا بالتأويل.
(17)
قد أسقط الأستاذ الشيعي من نقله هنا عبارة صريحة في أن المراد بالعموم الأرض لذاتها قبل طروء ما يمنع صحة الصلاة عليها كالنجاسة ، ومثلها ، وسائر المنهيات ، وهل هذا إلا خيانة في النقل لأجل العصبة المذهبية؟ .
(18)
ما قاله هؤلاء هو معناها الذي فهمه السلف ، والخلف ، وليس تأولاً ، وما قاله هو عصبية لأفعال الشيعة المتأخرين باطل ، وبطلانه في غاية الظهور ، ولعله لذلك لم يخطر في بال غيره أن يكون مثله في التعصب الذي يخفي الحقائق ، وفي ضعف العلم باللغة العربية.
(19)
قد جعل شرحه الباطل للأحاديث المجهول لغيره أصلاً فرض أنه مسلم عند خصمه؛ فبنى احتجاجه عليه، وهو تحكم عجيب، ومنطق غريب.
(20)
لكن مكاتب المنار فهم من الأحاديث ما فهمه جماهير العلماء ، وهو ما نقله هو آنفًا عن الإمامين الحافظين النووي ، وابن حجر ، ولم يكن هو عالمًا بتأويل حضرته ، ولو علمه لما قلده فيه.
(21)
إن مكاتب المنار ينكر هذه المخالفة للإسلام لذاتها ، لا لصدورها عن الشيعة ، فمن شاركهم من المنتسبين إلى السنة فيها؛ فهو مثلهم.
(22)
قوله هذا مخالف للواقع.
(23)
، (24) بل يصيرها مساجد خاصة ، ولا يشترط في المسجد أن يكون عامًّا ، وقد عقد البخاري في صحيحه بابًا خاصًّا بمساجد البيوت.
(25)
ملخص هذا أن مكاتب المنار مخطئ؛ لأنه موافق لعلماء الحديث ، ومتبع للسلف الصالح رضي الله عنهم ، ومنهم أئمة آل البيت رضي الله عنهم ، ولكنه مخالف له ، وللخلف من الشيعة! ! فكهذا تكون الحجج ، وهكذا يكون العلم.
(26)
أين ادعى هذه الدعوة صاحب المنار؟ وهل ينافي التبحر في المعارف نشر رسالة لسائح فيها شيء من الخطأ؟ ولم توجد في الدنيا مجلة ، ولا جريدة تشترط في كل ما ينشر فيها لغير صاحبها أن يكون صوابًا في نفسه ، ولا في رأي صاحبها، دع اشتراط موافقة آراء المخالفين لهما إذا فرضنا أنهم يعلمونها، إن هذا النوع من تحكم التعصب غريب جدًّا! .
(27)
الحمد لله هذا حجة عليه ، وعلى شيعته.
(28)
المتبادر من تسوية القبور هو جعلها مساوية ، ومعادلة لسطح الأرض، ومنه قوله تعالى:
[لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ](النساء: 42) ، وقد تجاهل المعترض هذا المعنى ، وهو مراد ، وجاء بالشواهد على تسوية الخلق، وتشريفها رفع بنائها ، فقوله صلى الله عليه وسلم:(ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) ، ولا قبرًا مرتفع البناء إلا هدمته ، وسويته بالأرض ، وقد رووه عن الصادق بلفظ الهدم ، وهو مع ذلك ينكر أن يكون معناه الهدم ، فأين اتباعه للإمام الصادق؟ وقد نقل النووي عن (الأم) للإمام الشافعي: إن الأئمة بمكة كانوا يأمرون بهدم ما رفع من القبور ، وكان العلماء يقرونهم على ذلك عملاً بهذا الحديث، ولم ينقل المعترض هذا عن النووي مع علمه به؛ لأنه لا ينقل إلا ما وافق هواه ، وإن عاب ذلك على مكاتب المنار ، وأما تسوية الخلق ، فلها معنى آخر ظاهر.
(29)
هذا زعم باطل كأمثاله من مزاعمه؛ فقد أنكر علماء السنة ذلك في كل عصر؛ لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهدم القبور المعظمة عند من قبلنا ، وبطمس تماثيلهم إلا سدًّا لذريعة الاقتداء بهم كما صرحت به عائشة في حديث لعن أهل الكتاب الذين فعلوا ذلك قالت:(يحذر ما صنعوا) .
(30)
في هذا القول عدة أباطيل سيأتي بيانها في الرد عليه.
(31)
هذا كسابقه من مزاعمه كما ذكرنا في المقدمة لهذه المناظرة ، والتاريخ الذي ذكره حجة على أنها مبتدعة بعد القرون الثلاثة ، ومبطل لزعمه أنها كانت في زمن السلف الصالح ، والأئمة.
(32)
قد علم مما تقدم بطلان هذه الدعوى ، وما كان صاحب المنار متعصبًا لمذهب ، ولا لفرقة ، ولا طائفة على أخرى ، فيفعل ذلك ، وإنما يتبع قوة الدليل ، وليس منه عمل هارون ، ولا عبد الحميد.
(33)
هذه الجملة صريحة في التشكيك في عزو المنار تلك المقالة إلى مكاتب، وصاحب المنار أجل بفضل الله عليه من أن يكذب حقيقة ، أو تقية إن كان ثم حاجة إلى الكذب ، فكيف ولا حاجة إليه ألبتة، وإن كثيرًا مما في تلك الرسالة لم يكن يعلمه صاحب المنار قبلها.