المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جمادى الأولى - 1346ه - مجلة المنار - جـ ٢٨

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (28)

- ‌شعبان - 1345ه

- ‌فاتحة المجلد الثامن والعشرين

- ‌تعدد الزوجات

- ‌استقلال مملكة ابن السعود

- ‌البناء على القبورومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌سياسة الإنكليز في الشرقوزعماء العرب

- ‌إثبات شهر رمضان

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رمضان - 1345ه

- ‌حكمة تعدد أزواج النبي ص

- ‌مال الزكاة لإعانة المدارس الخيرية الإسلامية

- ‌سماع الغناء والتلاوة من آلة الفونغراف

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى(2)

- ‌مشروع بريطاني جديد لتنصير جزيرة العرب

- ‌تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية

- ‌آثار المساجد في إصلاح الأمة

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌شوال - 1345ه

- ‌حكم بناء فنادق المسافرينوإجارتها لغير المسلمين

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى(3)

- ‌نساء العرب السياسيات

- ‌خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي

- ‌البيت الحرام وسدنتهبنو شيبة وحقوقهم ، والهدايا له ولهم

- ‌دعوة مفسدي الرافضةيحيَى إلى قتال ابن السعود

- ‌حجاج الشيعة الإيرانيين ومصر

- ‌لا بد من قتل صاحب المنار

- ‌ر - 1345ه

- ‌استفتاء في فتوى وطلب إقرارها وتصحيحها

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى(4)

- ‌السعي لمنع الحج ومفاسد البدع

- ‌الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك

- ‌مسألة نفقات مؤتمر الخلافة في مجلس النواب

- ‌صاحب المنار وجريدة السياسة

- ‌ذو الحجة - 1345ه

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌قرار النيابة العامةفي قضية الدكتور طه حسين

- ‌ما يسمى النهضة النسائية بمصر

- ‌الشيخ أحمد عباس الأزهري البيروتيوفاته وترجمته

- ‌المسلمون في أميركا يطلبون أستاذًا من الأزهر

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌الحج في هذا العام

- ‌صفر - 1346ه

- ‌أسئلة من البحرينفي الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي

- ‌الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربيةعند خواص أمريكا

- ‌أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار

- ‌أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين

- ‌مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة

- ‌ربيع الأول - 1346ه

- ‌خيرية القرون الثلاثة مع وقوع الفتن فيها

- ‌زكاة الفطر وقت وجوبها وحكم تعجيلها

- ‌حظر أخذ العلم الشرعي من الكتب بدون توقيف

- ‌الصريح والكناية في الطلاقوكتاب الرجل بطلاق امرأته

- ‌الطلاق الثلاث باللفظ الواحد

- ‌كيف تنهض اللغة العربية(2)

- ‌دعاية المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية

- ‌بول الصبي وبول الصبيةحكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائيالأحاديث التي وردت فيهما

- ‌الاحتفال الخمسيني لدار العلوم

- ‌ربيع الآخر - 1346ه

- ‌حل أموال أهل الحرب

- ‌المراد بالطعن في الدينوكون مخالفة القرآن كفرًا

- ‌سعد زغلول(1)

- ‌أول كتاب من سعد إلى الأستاذ الإمام

- ‌معاهدة جدةبين جلالة ملك بريطانيا وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

- ‌الكتابة أو الخطوثيقة شرعية يجب العمل بها

- ‌زيارة القبور للتبرك

- ‌تقريظ الأستاذ الكبير صاحب الفضيلة الشيخ:مصطفى نجا - مفتي بيروت

- ‌حفلة التأبين الكبرى

- ‌شعر في وصفة طبية قديمةجواب عن سؤال

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌جمادى الأولى - 1346ه

- ‌سمت القبلةوأدلتها وأقواها بيت الإبرة والقطب الشمالي

- ‌تعريف الأمراض بالأوهاموسؤال عن 3 أحاديث

- ‌الاعتماد على كتب ابن تيمية والطاعن فيه

- ‌افتراء عقائد في عالم الغيب

- ‌طلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌رسالة من يحيى محمد البكري

- ‌التمدن الآثم، القاضي مترنيخ، تلقيح القضاء المصري

- ‌لماذا دخلت في الإسلام

- ‌سعد زغلول(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌رجب - 1346ه

- ‌أسئلة من تونس

- ‌الإصلاح الحقيقيوالواجب للأزهر والمعاهد الدينية [*]

- ‌نظرة عامة في حالة الإسلام

- ‌رحلة جلالة ملك الأفغان (أمان الله خان)

- ‌جمعية الشبان المسلمين

- ‌وفيات الأعيان

- ‌تفسير:] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [[*]

- ‌خاتمة المجلد الثامن والعشرين من المنار

الفصل: ‌جمادى الأولى - 1346ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الثامن والعشرين

وفيها بيان علاقتنا بالإمام عبد العزيز

ملك الحجاز وسلطان نجد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم

خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الصالحين المصلحين، والتابعين لهم في ذلك إلى

يوم الدين.

أما بعد: فقد تم للمنار سبعة وعشرون مُجلَّدًا صدرت في مدى 30 سنة

هجرية (توافق 29 سنة شمسية) إذ عجزنا عن إصداره في كل شهر من سني

الحرب العظمى، وما تلاها من سِنِي الغلاء والعسرة، التي تضاعفت فيها النفقات،

وكثرت أفراد الفصيلة العامة، وتكونت الأسرة الخاصة، ونضبت الموارد التي

كانت تسِحُّ من الخارج، وشحَّت الموارد التي كانت تنبجس في الداخل، ولم يتم لنا

لمُّ الشعث إلا منذ عامين ونصف عام، وتلاه بفضل الله تنظيم العمل بأحسن مما كان

منذ كان، وما أضعنا على المشتركين شيئًا بهذا الإدغام؛ لأننا نتقاضى قيمة

الاشتراك بحساب الأجزاء لا بحساب الأعوام؛ ولكن من لا وفاء لهم قد اتخذوا

عجزنا عن إصدار المنار في كل شهر من سني العسرة حجةً على هضم حقنا،

ونحن ما زلنا نكلهم إلى وجدانهم، واستفتاء قلوبهم، وهداية إيمانهم، وحسابهم على

الله تعالى، فهو يقضى بالحق بيننا وبينهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

على أننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في القابل لاستدراك ما نقص من المجلدات

عن عدد السنين إلى أن يتفقا في العدد، وأن يعيننا على إكمال النظام في العمل،

والزيادة من الفوائد في العلم، وأن يوفق قراء المنار لمساعدتنا على ذلك بحسن

الوفاء، ولا يحقق معنى الاشتراك إلا تعجيل الأداء، وقد اقترح علينا بعضهم أن

نزيد في أبوابه مباحث في الآداب، والتاريخ، وبعض الفنون الحديثة، ومنهم من

يريد بذلك ترويجه، وكثرة سواد المشركين فيه، ورأيهم هذا صحيح، وإننا على

علمنا بصحته كنا نختار أن تملأ صفحات المنار بما لا تكاد الأمة تجده في غيره من

الصحف إلا قليلاً، ونحن نستفتي جمهور القراء في ذلك، ونعمل بما يراه الأكثرون

أقوى حجةً، وأقوم قيلاً، وإن كانت فائدته المالية أقل، وقد بينا في فاتحة السنة

الأولى أننا فيما اخترناه من الخطة الإصلاحية لا نرضي إلا القليل من الناس {وَإِن

تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) لو أنشأنا

المنار لأجل الكسب؛ لما اخترنا هذه الخطة، أو لما اقتصرنا عليها.

لو كنا نعمل للمال؛ لاتبعنا أهواء الجماهير في اختيار الهزل على الجد،

وإيثار الإفساد على الإصلاح، وترجيح أهواء الناس على هداية كتاب الله، ولهو

الحديث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصور القِيَانِ والراقصات،

والبغايا، والممثلات، ومن وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كوشف به

من أنباء الغيب بالكاسيات العاريات، المائلات المميلات، وما دون ذلك من

المسليات، وصور الحيوانات والحشرات، وغرائب الآلات والمخترعات التي

يصورها أهلها لأغراض عليمة صناعية، وتجارية، ونصورها للَّهو، والتسلية.

أو لو كنا نعمل للمال؛ لصانعنا رجال المال من الأفراد والجماعات،

كالأحزاب والحكومات، ولوجد من الحجج علينا في ذلك ما لا نستطيع رده، ولا

كتمانه، ونحمد الله تعالى أننا لم نسلك طريقًا في الإصلاح الخاص بالحكام الباذلين،

والأمراء والملوك والسلاطين، وجماعات الدينيين والسياسيين، إلا كان نقصًا في

دنيانا، وكمالاً في شرفنا وديننا، وانتهى الجماهير فيه إلى رأينا، وفي مقدمتهم

الذين كانوا ينكرونه علينا، تلك سيرتنا في نقد الحكومة الحميدية، ثم في التشنيع

على الجمعية الاتحادية، وخليفتها الحكومة الكمالية، وفي جهاد الملك حسين بن

على ، وأولاده، وفي إنكارنا على متعصبي المذاهب من الشيوخ الجامدين، ورجال

الطرق الخرافيين.

نعم إنه قد عرضت في هذه الأيام شبهة علينا في تأييدنا للحكومة السعودية،

والطريقة الوهابية، فتحدث بعض الذين لا يعقلون أنه يوجد في البشر أحد ينصر

عقيدة دينية، أو يؤيد طريقة إصلاحية إلا لأجل منفعة شخصية، بأننا نأخذ من ابن

السعود أجرًا على تأييدنا لحكومته، والدفع عن قومه، وشيعته، ثم تجلى هذا

التصور في صورة الواقع، وظهر هذا الرأي في مظهر الرواية، فصدقه من رآه

من الناس معقولاً، حتى إن بعض كبار علماء الأزهر قال لي في مجلس من مجالس

الخواص في هذه الأيام: يقال: إنك أخذت من ابن السعود خمسة آلاف جنيه - فقال

أحد كبار الوجهاء الحاضرين: بل أنا سمعت في أوربة أنه أخذ منه عشرة آلاف

جنيه، وليس هذا بكثير، فإن فلاناً خدم ابن سعود وقومه منذ سنين خدمة لا تكثر

هذه المكافأة عليها، فما كان أحد يسمع في هذا الرجل، ولا في هؤلاء القوم كلمة

خير قبل مقالاته الرنانة في مناره، وفي بعض الجرائد اليومية.

***

الوهابية ودعوة المنار إلى مذهب السلف:

أقول: لو صح ما تخيله هؤلاء معقولاً؛ فخالوه أمرًا مفعولاً، فأحدثوا فيه قالاً

وقيلاً - وما هو بصحيح -؛ لما صح أن يجعل حجة على أن المنار أنشئ لجمع

المال، لا يبالي أجمعه من حرام أو حلال، وإنما كان يعد مساعدة على خطة دينية

قديمة في خدمة الإسلام وهدايته، كما يدعو إلى فنون العصر، وسنن الخلق في

سياسته، وقوته، ولم يكن في ذلك الوقت ملك، ولا سلطان نتهم بالطمع في

مساعدته، بل لم نكن يومئذ نعلم أن الوهابية يعتصمون بمذهب السلف، بل كنا

نصدق الدعاية التركية التي أذيعت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث عشر

للهجرة النبوية، وجددها السلطان عبد الحميد منذ أوائل القرن الرابع عشر لأسباب

سياسية من أن الوهابية فرقة مبتدعة معادية للسنة وأهلها.

وأول رجل سمعت منه أن هؤلاء الوهابية قوم مصلحون أرادوا إعادة هداية

الإسلام إلى عهدها الأول، وأنه كان يرجى أن يجددوا مجد الإسلام والعرب، هو

محمد مسعود (بك) المصري الكاتب المؤلف المشهور، ثم قرأت ما كتبه في

نشأتهم مؤرخ عصر ظهورهم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري، ثم ما كتبه

محمود فهمي المهندس المصري في تاريخه (البحر الزاخر) ، وصاحب

(الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى) ، ثم ما كتبه الشيخ عبد الباسط

الفاخوري مفتي بيروت في (تاريخ الإسلام) له، كما أنه أتيح لي الاطلاع في

أثناء ذلك على كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات للشيخ الإمام المجدد الشيخ

محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم على غيره من كتبهم بالتدريج، وأطلعت

شيخنا الأستاذ الإمام على كتاب التوحيد وكشف الشبهات، فأثنى عليهما، ورأيته

موافقًا لرأي محمد مسعود، وأنه لم تظلم طائفة من المسلمين في التاريخ بمثل ما

ظلم به هؤلاء القوم، على كثرة طعن أعوان الدول، والمذاهب بعضهم في بعض.

وكنت أسمع من والدي قبل هجرتي إلى مصر شيئًا مما افتراه على الوهابية

أحمد زيني دحلان، وأمثاله من صنائع شرفاء مكة، والترك، وثناءً على محمد

علي باشا الذي أخرجهم من الحجاز بالدين والتقوى، وأنه كنس الكعبة المعظمة،

ومرغ لحيته بها، أو بكناستها.

وفي شهر صفر سنة 1320 احتفل ديوان الأوقاف العامة بمرور مائة عام

على تأسيس محمد على باشا للإمارة المصرية، واحتفلت به مشيخة الأزهر في

الجامع الأزهر؛ فانتقدت ذلك في المنار من حيث صرف أموال الأوقاف الإسلامية،

وتزيين المساجد بذكر أمراء الدنيا، وسلاطينها، والأوقاف إنما وقفت؛ للتقرب

إلى الله تعالى، والمساجد إنما أُنشِأَت؛ لذكره تعالى، وعبادته.

وذكرت يومئذ حرب محمد علي للوهابية، واعتقاد عموم المسلمين الجاهلين

بالتاريخ أنها كانت خدمة للإسلام، واعتقاد الخواص العارفين أنها جناية عليه،

وبينت فيما كتبته ما كنت وقفت عليه من حقيقة أمر الوهابيين في اتباعهم للسلف،

واعتصامهم بالسنة، وسبب الطعن فيهم - وكل ما كتبته في هذه السنين الأخيرة

يدور حوله لا يزيد في بيان حقيقتهم عليه، فأنا أدافع عن الوهابية، وأثني عليهم

منذ ربع قرن.

كتبت ذلك يومئذ لوجه الله، وخدمة للإسلام، وأنا لا آمن إيذاء أمير البلاد لي

على ذلك - وقد فعل بقدر الإمكان في ذلك الزمان - وما كنت أرجو أن يكون لي

تجاه هذا الإيذاء أدنى نفع من أحد من الوهابيين، ولا أدري أن لهم أميرًا يحسن أن

أرسل إليه ما كتبت عنهم، وقد صار للوهابيين حزب كبير في القطر المصري من

نجباء علماء الأزهر، وغيره من المعاهد الدينية، وغيرها بإرشاد المنار لا تشوبه

أدني شائبة دنيوية.

***

علاقتنا بصاحب نجد وسببها:

بعد هذا التاريخ ببضع سنين بدأت المكاتبة بيني، وبين الأمير عبد العزيز بن

السعود في مسألة العرب، وجزيرة العرب ، ووجوب الولاء والتحالف بين أمرائها؛

لأجل حفظها من تدخل الأجانب، وإعلاء شأنها بالعمران، والثروة، والقوة - كما

كاتبت في ذلك نفسه الإمام يحيى بن حميد الدين، والسيد محمد علي الإدريسي

(رحمه الله تعالى) ، وأرسلت رسلاً إلى كل منهم، وأنفقت في هذه السبيل مالاً

يعد كثيرًا عليَّ، وأذكر أن في أول كتبي إلى ابن السعود إنكارًا شديدًا على شيء

بلغني عنه عاتبني عليه بأنه لا يقبل مثله من غيري، وإنما قبله مني لِمَا بلغه من

خدمي للسُنَّةِ، واعتقاده أنه صدر عن إخلاص الله تعالى، وتَحَرٍّ لخدمة الإسلام

والعرب.

أجابني كل واحد من هؤلاء الأئمة باستحسان ما دعوتهم إليه، إلا أن الإمام

يحيى استثنى الاتفاق مع جاره الإدريسي مُعَلِّلاً ذلك بأنه كان قد عقد معه اتفاقًا؛

فغدر، (وحالف أعداء الله الطليان) ، وأما الإمام عبد العزيز السعود، فرغب إليَّ

أن أرسل إليه رسولاً بصيرًا عارفًا؛ ليشرح له هذا المشروع من الوجهة الشرعية

والسياسية؛ لإقناع أهل الحل، والعقد من قومه به - وقد أرسلت إليه رسولاً،

وحمَّلتُهُ صندوقًا من الكتب الدينية، وغيرها هدية للإمام، وفي أثناء ذلك استَعَرَت

نار الحرب العامة الكبرى، فتعذَّر وصول الرسول إلى نجد، وأخذ منه صندوق

الكتب في (بمبي) من ثغور الهند، أُخِذَ لأجل تفتيشه، ثم لم يعرف عنه شيء،

ولعلهم أحرقوه.

ثم قضت الحرب الكبرى بانقطاع المراسلة بيني، وبين أمراء العرب

المذكورين، وكان من أحداثها دخول أمير مكة الشريف الحسين بن علي في حلف

البريطانيين، وكنت قد بلغته مشروع الاتفاق الحلفي بين أئمة الجزيرة بمشافهة ولده

الشريف عبد الله في مصر أطلع طِلعَه فيه، وقد استحسنه، ووعد بإقناع والده به،

وكان من عواقبها أن صار حسين ملكًا سماه الإنكليز، وأحلافهم ملك الحجاز،

وسمى نفسه ملك العرب، وقد أظهرنا له الولاء؛ لأجل إقناعه بإتمام مشروع

الاتفاق الحلفي مع سائر الأمراء، فلما تعذر ذلك، وسار في الحجاز تلك السيرة

السوءى اضطررت إلى مقاومته بما علمه القراء، وغير القراء، وكان قد جدد

الدعوى إلى الطعن في دين الوهابية، وتنحل لنفسه دعوى الإمامة الرافضية

الباطنية، وأقامها في مقام التشريع الذي يراه إرثًا للهاشمية العلوية، فأريناه أن بني

عمه من أنصار السنة فيهم رماح، وكلنا له الصاع عدة أصواع.

ثم إنني عدت بعد الحرب إلى دعوة إمامي اليمن ، ونجد إلى الولاء، وأفتيت

في أواخر سنة 1341 بوجوب إنقاذ الحجاز من إلحاد حسين بالظلم فيه، وجعله

قطرًا حرًّا حياديًّا بضمان العالم الإسلامي كله، وكتبت في ذلك مقالاً طويلاً نشر في

بعض الجرائد اليومية، وفي المنار (ج 8 م24) بينت فيه أن المخاطب بالقيام

بهذا الواجب أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية، وأن أولاها بذلك أقربها إلى الحجاز،

ومن جُمَلِهِ: (إن كلاًّ من إمام اليمن وسلطان نجد قادر على إنقاذ الحجاز من هذا

الرجل، فكيف إذا اجتمعا) ، ثم بينت سبب امتناع كل منهما، وأنه إن لم تفعل

الحكومات ذلك؛ فالواجب على العالم الإسلامي أن يسعى له بتأليف جمعية إسلامية

وضعنا لها نظامًا بمساعدة بعض الأصدقاء، ونشرناه في المنار.

ولم أكتف بالنشر بل سعيت سعيًا سريًّا لحمل الإمامين يحيى، وعبد العزيز

على الاشتراك والتعاون على ذلك، وإلا فليقم به أحدهما على انفراد.

ثم تصدى الثاني لأداء هذه الفريضة للأسباب الإسلامية العامة، والأسباب

الخاصة بنجد التي نشرها في العالم، ونقلناها في المنار، فوجب علينا تأييده فيها،

وهل يعقل أن نفتيه بافتراض هذا العمل عليه حتى إذا ما اصْطَلَى بناره، وشرع

يجاهد في سبيله بماله ورجاله، وانبرى المبتدعون، والمفسدون للطعن فيه وفي

قومه، نترك لهم الحبال على الغوارب، ولا نقوم بقسطنا من الجهاد الواجب، جهاد

القلم واللسان، وإقامة الحجة والبرهان؟ !

إنني لم أفضل ابن السعود على غيره من أمراء العرب في شيء من ذلك

السعي العام للعرب ولجزيرة العرب، ولا من هذا السعي الخاص بالحجاز

والإسلام، وقد كان رجائي في غيره أولاً أقوى من رجائي فيه، ثم كان ثنائي على

الإمام يحيى حميد الدين أكبر من ثنائي عليه، حتى قالت بعض الجرائد المصرية في

أثناء الخوض في مسألة الخلافة: إن صاحب المنار يدعو إلى الإمام يحيى، ويسعى

لتوسيد منصب الخلافة إليه. على أنني كنت أعتقد أن الإمام عبد العزيز ابن السعود

أرجى لخدمة الإسلام، وإعلاء شأن العرب إذا هو خرج من عزلته، وترك القبوع

في ربوع إمارته، وإنما كنت أشك في خروجه منها، كما كنت أشك في ميل الإمام

يحيى إلى تجاوز حدود اليمن إلا إلى عسير التي يعدها هو منها.

كان من عناية الله تعالى في ابن السعود أن استعمله وحده في إنقاذ حرمه،

وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ممن سمى نفسه المنقذ ، وقضى الله أمرًا كان

مفعولاً، فلم يستجب لنا غيره من أمراء المسلمين وملوكهم، ولا من جماعاتهم،

ودهمائهم إلا أننا أسسنا الجمعية بمصر من رجال مختارين من أولي الكفاءة،

والكفاية علمًا، وعملاً، وهمةً، فنقَّحُوا نظامها في مجالسَ كثيرةٍ عقدوها لذلك،

وبتنا ننتظر سنوح الفرصة للعمل، فكفانا الله تعالى ذلك بهذا الرجل العظيم الذي

أنقذ الحجاز، وأمنه تأمينًا لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام، ثم ألف فيه

المؤتمر الإسلامي العام، وقد كان هذا المؤتمر أهم مقاصد جمعيتنا هذه، فلم نحتج

إلى استيكاف الأكف لجمع المال له، ولا لدعوة رجال الخافقين إليه، فقد أنفق هو

بسخائه، وجوده الواسع على إنشاء المؤتمر، وضيافة رجاله هم ومن كان مع

بعضهم من أهل وخدم منذ وصلوا إلى الحجاز إلى أن خرجوا منه ما لم يكن يتيسر

لنا جمع بعضه من العالم الإسلامي إلا في عدة سنين.

كيف لا أنصر ابن السعود، وأناضل خصومه من المبتدعين والخرافيين، وقد

فعل كل هذا، ويُرجَى أن يفعل ما هو أتم منه وأكمل؟ ! وهو ما أفنيت شبابي،

وكهولتي في الدعوة إليه، فإنني أدعو إلى مؤتمر إسلامي يعقد في مكة من زهاء

ثلاثين سنة، وهو من وسائل الإصلاح الذي أدعو إليه من التوحيد، وإقامة السنن،

وتقويض هياكل الوثنية والبدع، وتجديد إصلاح الإسلام، ومجد العرب، وقد أيقنا

بطول الاختبار، وبما ورد في دلائل النبوة من الأخبار، أن هذا الإصلاح والتجديد

لا يأتي إلا من الحجاز، وأن كل ما قمنا به من الدعوة إليهما لم يكن إلا تمهيدًا لتأييد

العالم الإسلامي لهما، فقد صح في الحديث: إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا

كما بدأ، وإنه يَأْرِزُ إلى الحجاز - وفي رواية في الصحيحين - إلى المدينة كما

تَأْرِزُ الحية إلى جحرها، وإنه يعقل بين المسجدين معقل الوعول من رؤوس الجبال.

إنني أشهد الله تعالى، وكل من يطلع على قولي هذا أنني أشعر في سريرتي،

وما يكن قلبي بتقصيرٍ في الثناء على هذا الرجل بالجهر بكل ما أعتقده، وما أرى

فيه من المصلحة، والنصيحة للمسلمين، وكم طالبتني نفسي في مجالسه العامة

الحافلة، التي حضرتها بعد صلوات الجمع بمكة المكرمة بإلقاء خطاب في شكره،

والثناء عليه كما فعل أمامي بعض علماء الهند، وفصحاء المصريين وغيرهم،

ولكنني كنت أستحي أن أقف مواقفهم، وإن كنت أجدر بها منهم، فقد أقمت بمكة

زهاء ثلاثة أشهر، ولم يسمع خطابتي، وربما كنت أقدر على البيان، وأعلم بما

يحسن بيانه بالحق من كل من سمعت، إذا كان من الدعوى والغرور المذمومين أن

أقول أكثر من ذلك، وما أبرئ نفسي من كراهة الاتهام بالتملق والتزلف أن يَعْلَقَ

ببعض النفوس الصغيرة، وأنا آمن أن يلوح في جانب من جوانب نفسه الكبيرة.

وجملة القول: إن مجلدات المنار السبعة والعشرين برهان على أنه لا يعقل أن

يكون ما كتبته في تأييد ابن السعود، والدفاع عنه لغرض منفعة دنيوية؛ لأنه عين

ما كنت أكتبه قبل قيامه بما نصرته فيه، وقبل علمي بوجوده أيضًا، وقد لقيت فيه

من الأذى ما يجهل أقرب الناس مني كل ظاهره، وباطنه عند الله تعالى وحده.

اضطررت إلى بيان هذا كله في فاتحة هذا المجلد تذكيرًا لقرائه بفصل من

فصول تاريخ المنار في الإصلاح على السنن الذي نتناوبه منذ أعوام، وتقوية

لعزيمة إخواني أنصار الكتاب والسنة، على أنني لا أريد بهذا التنصل، والتبرؤ

مما قيل بغير حق من أن مساعدة هذا الإمام، أو غيره من ملوك المسلمين،

وأمرائهم إيانا على علمنا في خدمة الملة، والأمة مما يقبح منهم فعله، أو يحرم

علينا قبوله، بل نحن من أحق الناس به، ولكن الإخلاص لله تعالى، ونزاهة

النفس، وتحليها بأدب الشرع، تحول دون استشرافنا له، بله السعي له، أو

التعريض به، وقد قال شيخ الصوفية الأكبر في مال السلاطين الذي يعدون من

شروط طريقتهم التنزه عنه:

هو عنده للمسلمين أمانة

فإذا حباك فخذه إنك صاحبه

لا أقول هذا تعريضًا بطلب المساعدة من أحد، وإنما افترصت هذه المناسبة

للرد على جريدة من جرائد القاهرة التي جعلت هجيراها الطعن في علماء الدين،

واستكثار كل ما يأخذونه من ريع الأوقاف الخيرية مع العلم بأن ألوف الجنيهات من

أموال هذه الأوقاف ينفق في أعمال غير شرعية، فقد ذكرت هذه الجريدة أن شيخ

الأزهر قد أنفق زهاء ثلاثة آلاف جنيه في أعمال مؤتمر الخلافة كان منها لفلان من

العلماء كذا، ولفلان كذا من أول هذه الحركة (كما كان لفضيلة الأستاذ الورع الشيخ

رشيد رضا صاحب المنار ثلاثون جنيهًا حتى في الوقت الذي كان فيه بالمدنية

المنورة عند ابن السعود) .

أقول فيما يعننيي: إنني لم أكن في أول هذه الحركة كما قال، ولم أكن آخذ

شيئًا أيام وجودي في (مكة المكرمة) كما توهم، وإنما بعض المؤسسين لمؤتمر

الخلافة من العلماء كانوا قد دعوني إلى مشاركتهم فيه، فأبيت، ثم أقنعني بعضهم

بأنه يمكنني فيه خدمة الإسلام؛ فقبلت.

وقد دعيت بعد الدخول في مجلس المؤتمر إلى المساعدة على إنشاء مجلة له

تحريرًا، أو تصحيحًا، ونشرًا.

وهو ما تعد هذه المكافأة عليه نزرًا، ولولا أن قيل لي: إن هذه خدمة إسلامية

نعدها تبرعًا منك؛ لما رضيت بها، وقد كنت أعطى منذ بضع عشرة سنة ثلاثة

جنيهات من إدارة (الجريدة) مكافأة على كل مقالة من مقالات كلفني إياها مديرها،

وكنت أكتب المقالة منها في ساعة واحدة، ولم يكن لدى من الأعمال في ذلك الوقت

ربع ما لدي الآن منها، فهل يستكثر علي الآن زميلي صاحب البلاغ الأغر 30

جنيهًا في الشهر في مثل ما ذكرت؟

هذا، وإننا ندعو أهل العلم المخلصين إلى الكتابة إلينا بما يرون أننا أخطأنا فيه

من أمور الدين، أو مصلحة الأمة كما هو دأبنا في كل عام - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ

وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعدد الزوجات

وجدت بين أوراق شيخنا الأستاذ الإمام الفتاوى الآتية ، فأحببت نشرها؛

لتصدي الحكومة المصرية لتقييد إباحة التعدد ، وكثرة الكلام فيه وهي:

(السؤال الأول)

ما منشأ تعدد الزوجات في بلاد العرب (أو في الشرق على الجملة) قبل

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟

(ج) ليس تعدد الزوجات من خواص المشرق، ولا وحدة الزوجة من

خواص المغرب، بل في المشرق شعوب لا تعرف تعدد الزوجات كالتبت ، والمغول،

وفي الغرب شعوب كان عندها تعدد الزوجات كالغولوا ، والجرمانيين، ففي زمن

سيزار كان تعدد الزوجات شائعًا عند الغولوا، وكان معروفًا عند الجرمانيين في

زمن ناسيت، بل أباحه بعض البابوات لبعض الملوك بعد دخول الدين المسيحي إلى

أوربة كشرلمان ملك فرانسا، وكان ذلك بعد الإسلام [1] .

كان الرؤساء ، وأهل الثروة يميلون إلى تعدد الزوجات في بلاد يزيد فيها عدد

النساء على عدد الرجال توسعًا في التمتع، وكانت البلاد العربية مما تجري فيها

هذه العادة لا إلى حد محدود، فكان الرجل يتزوج من النساء ما تسمح له ، أو تحمله

عليه قوة الرجولية، وسعة الثروة للإنفاق عليهن ، وعلى ما يأتي له من الولد.

وقد جاء الإسلام ، وبعض العرب تحته عشر نسوة، وأسلم غيلان رضي

الله عنه، وعنده نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساك أربعة منهن ،

ومفارقة الباقيات، وأسلم قيس بن الحارث الأسدي وتحته ثمان نسوة؛ فأمره

بأن يختار منهن أربعًا، وأن يخلي ما بقي، فسبب الإكثار من الزوجات إنما هو

الميل إلى التمتع بتلك اللذة المعروفة ، وبكثرة النساء، وقد كان العرب قبل البعثة

في شقاق ، وقتال دائمين، والقتال إنما كان بين الرجال، فكان عدد الرجال ينقص

بالقتل ، فيبقى كثير من النساء بلا أزواج، فمن كانت عنده قوة بدنية ، وسعة في

المال كانت تذهب نفسه وراء التمتع بالنساء، فيجد منهن ما يرضي شهوته، ولا

يزال يتنقل من زوجة إلى أخرى ما دام في بدنه قوة، وفي ماله سعة، وكان العرب

ينكحون النساء بالاسترقاق، ولكن لا يستكثرون من ذلك، بل كان الرجل يأخذ

السبايا ، فيختار منهن واحدة، ثم يوزع على رجاله ما بقي واحدة واحدة ، ولم

يعرف أن أحدًا منهم اختار لنفسه عدة منهن، أو وهب لأحد رجاله كذلك دفعة واحدة.

***

(السؤال الثاني)

على أي صورة كان الناس يعملون بهذه العادة في بلاد العرب خاصة؟

(ج) كان عملهم على النحو الذي ذكرته: إما بالتزوج واحدة بعد واحدة،

أو بالتسري ، وأخذ سرية بعد أخرى، أو جمع سرية إلى زوجة، أو زوجة إلى

سرية، ولم يكن النساء إلا متاعًا للشهوة لا يرعى فيهن حق، ولا يؤخذ فيهن بعدل،

حتى جاء الإسلام؛ فشرع لهن الحقوق ، وفرض فيهن العدل.

***

(السؤال الثالث)

كيف أصلح نبينا صلى الله عليه وسلم هذه العادة ، وكيف كان يفهمها؟

(ج) جاء صلى الله عليه وسلم ، وحال الرجال مع النساء كما ذكرنا لا فرق

بين متزوجة وسرية في المعاملة، ولا حد لما يبتغي الرجل من الزوجات، فأراد

الله أن يجعل في شرعه صلى الله عليه وسلم رحمةً بالنساء ، وتقريرًا لحقوقهن،

وحكمًا عدلاً يرتفع به شأنهن، وليس الأمر كما يقول كتبة الأوربيين: (إن ما

كان عند العرب عادة جعله الإسلام دينًا) ، وإنما أخذ الإفرنج ما ذهبوا إليه من سوء

استعمال المسلمين لدينهم ، وليس له مأخذ صحيح منه.

حكم تعدد الزوجات جاء في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ

تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ

تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) .

كان الرجل من العرب يكفل اليتيمة ، فيعجبه جمالها ومالها ، فإن كانت تحل

له؛ تزوجها ، وأعطاها من المهر دون ما تستحق ، وأساء صحبتها ، وقتَّر في

الإنفاق عليها ، وأكل مالها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك ، وشدد عليهم في الامتناع

عنه، وأمرهم أن يؤتوا اليتامى أموالهم، وحذرهم من أن يأكلوا أموالهم، ثم قال

لهم: إن كان ضعف اليتيمات يجركم إلى ظلمهن ، وخفتم ألا تقسطوا فيهن إذا

تزوجتموهن ، وأن يطغى فيكم سلطان الزوجية ، فتأكلوا أموالهن ، وتستذلوهن،

فدونكم النساء سواهن ، فانكحوا ما يطيب لكم منهن من ذوات جمال ومال من واحدة

إلى أربع، ولكن ذلك على شرط أن تعدلوا بينهن، فلا يباح لأحد من المسلمين أن

يزيد في الزوجات على واحدة إلا إذا وثق بأن يراعي حق كل واحدة منهن ، ويقوم

بينهن بالقسط ، ولا يفضل إحداهن على الأخرى في أي أمر حسن يتعلق بحقوق

الزوجية التي تجب مراعاتها، فإذا ظن أنه إذا تزوج فوق الواحدة لا يستطيع العدل؛

وجب عليه أن يكتفي بواحدة فقط، فتراه قد جاء في أمر تعدد الزوجات بعبارة

تدل على مجرد الإباحة على شرط العدل، فإن ظن الجور؛ منعت الزيادة على

الواحدة، وليس في ذلك ترغيب في التعدد ، بل فيه تبغيض له، وقد قال في الآية

الأخرى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ

فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:

129) فإذا كان العدل غير مستطاع ، والخوف من العدل يوجب الاقتصار على

الواحدة؛ فما أعظم الحرج في الزيادة عليها! فالإسلام قد خفف الإكثار من

الزوجات ، ووقف عند الأربعة، ثم إنه شدد الأمر على المكثرين إلى حد لو عقلوه

لما زاد واحد منهم على الواحدة.

وأما المملوكات من النساء؛ فقد جاء حكمهن في قوله تعالى: {أَوْ مَا

مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) ، وهو إباحة الجمع بينهن، وإن لم يكن من الرجل

عدل فيهن؛ لأن المملوكة لا حق لها، ولمالكها أن يتركها للخدمة، ولا يضاجعها

ألبتة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز للرجل أن يأخذ من الجواري ما يشاء

بدون حصر، ولكن يمكن لفاهم أن يفهم من الآية غير ذلك، فإن الكلام جاء

مرتبطًا بإباحة العدد إلى الأربعة فقط، وإن الشرط في الإباحة التحقق من العدل،

فيكون المعنى أنه إذا خيف الجور؛ وجب الاقتصار على الواحدة من الزوجات، أو

أخذ العدد المذكور مما ملكت الإيمان، فلا يباح من النساء ما فوق الأربع على

حال، ويباح الأربع بدون مراعاة للعدل في المملوكات دون الزوجات؛ لأن

المملوكات ليس لهن حقوق في العشرة على ساداتهن، إلا ما كان من حقوق العبد

على سيده.

وحق العبد على سيده أن يطعمه، ويكسوه، وأن لا يكلفه من العمل في

الخدمة ما لا يطيق، أما أن يمتعه بما تتمتع به الزوجات فلا. [2]

وقد ساء استعمال المسلمين لما جاء في دينهم من هذه الأحكام الجليلة ،

فأفرطوا في الاستزادة من عدد الجواري، وأفسدوا بذلك عقولهم ، وعقول ذراريهم

بمقدار ما اتسعت لذلك ثروتهم.

أما الأسرى اللاتي يصح نكاحهن ، فهن أسرى الحرب الشرعية التي قصد بها

المدافعة عن الدين القويم ، أو الدعوة إليه بشروطها ، ولا يكن عند الأسر إلا غير

مسلمات، ثم يجوز بيعهن بعد ذلك ، وإن كن مسلمات، وأما ما مضى المسلمون

على اعتياده من الرق ، وجرى عليه عملهم في الأزمان الأخيرة ، فليس من الدين

في شيء ، فما يشترونه من بنات الجراكسة المسلمين اللاتي يبيعهن آباؤهن ،

وأقاربهن طلبًا للرزق، أو من السودانيات اللاتي يتخطفهن الأشقياء السلبة المعرفون

(بالأسيرجية) ؛ فهو ليس بمشروع ، ولا معروف في دين الإسلام ، وإنما هو من

عادات الجاهلية، لكن لا جاهلية العرب، بل جاهلية السودان ، والجركس.

وأما جواز إبطال هذه العادة - أي: عادة تعدد الزوجات - فلا ريب فيه.

***

(السؤال الرابع)

هل يجوز تعدد الزوجات إذا غلبت مفسدته؟ [3]

(ج) أما (أولاً) ؛ فلأن شرط التعدد هو التحقق من العدل ، وهذا الشرط

مفقود حتمًا ، فإن وجد في واحد من الميليون ، فلا يصح أن يتخذ قاعدة؛ ومتى

غلب الفساد على النفوس ، وصار من المرجح أن لا يعدل الرجال في زوجاتهم؛

جاز للحاكم ، أو للعالم [4] أن يمنع التعدد مطلقًا مراعاةً للأغلب.

(وثانيًا) قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد ، وحرمانهن من

حقوقهن في النفقة ، والراحة ، ولهذا يجوز للحاكم ، وللقائم على الشرع أن يمنع

التعدد دفعًا للفساد الغالب.

(وثالثًا) قد ظهر أن منشأ الفساد ، والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم ،

فإن كل واحد منهم يتربى على بغض الآخر ، وكراهته ، فلا يبلغ الأولاد أشدهم

إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر ، ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا

بيوتهم بأيديهم ، وأيدي الظالمين، ولهذا يجوز للحاكم ، أو لصاحب الدين أن يمنع

تعدد الزوجات والجواري معًا؛ صيانةً للبيوت عن الفساد.

نعم، ليس من العدل أن يمنع رجل لم تأت زوجته منه بأولاد أن يتزوج

أخرى؛ ليأتي منها بذرية، فإن الغرض من الزواج التناسل ، فإذا كانت الزوجة

عاقرًا ، فليس من الحق أن يمنع زوجها من أن يضم إليها أخرى.

وبالجملة فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلا

لضرورة تثبت لدى القاضي ، ولا مانع من ذلك في الدين ألبتة ، وإنما الذي يمنع

ذلك هو العادة فقط اهـ.

(المنار)

هذا نص الفتوى ، وهي مبنية على قاعدة جواز منع كل مباح ثبت

ضرر استعماله لدى أولي الأمر، ومنه منع حكومة مصر لصيد بعض الطيور التي

تأكل حشرات الزرع؛ فيسلم من الهلاك، ومنع ذبح عجول البقر أحيانًا للحاجة إليها

في الزراعة مع قاعدة إعطاء الفساد الغالب حكم العام ، ثم استثنى من منع تعدد

الزوجات ما كان لغرض شرعي صحيح ، وهو طلب النسل.

أقول: ومثله ما كان لضرورة أخرى تثبت لدى الحاكم الشرعي، وهذه

الضرورات لا يسهل حصرها في عدد معين.

ومن أظهرها: أن تصاب الزوجة الأولى بمرض يحول دون الاستمتاع الذي

يحصل به الإحصان، ومنها وصولها إلى سن اليأس مع إمكان النسل منه،

فالإحصان المانع من العنت - أي: اندفاع الطبع إلى الزنا - من أغراض الزواج

الشرعية. ومفاسد الزنا ومضاره أكبر من مفاسد تعدد الزوجات ومضاره؛ فإنه

يولد الأمراض ، ويقلل النسل ، ويوقع العداوة بين الأزواج، ويفسد نظام البيوت ،

ويضيع الثروات، وإنما أباح الإسلام التعدد المعين بشرط إرادة العدل، والقدرة

على النفقة لدفع مفاسد، وتقرير مصالح متعددة جعلته من الضرورات الاجتماعية

في أمة ذات دولة وسلطان فرض عليها تنفيذ شريعتها، وحماية بيضتها، وتدين

الله بالفضيلة، فهي تحرم الزنا، وهي عرضة لأن يقل فيها الرجال ، ويكثر النساء

بالحروب وغيرها حتى يكون من مصلحتهن أن يكفل الرجل اثنتين ، أو أكثر

منهن.

وما ذكره رحمه الله من مفاسد التعدد ليس سببه التعدد وحده لذاته، بل يضم

إليه فساد الأخلاق، وضعف الدين، وقد كان يعرف من ذلك ما يقل أن يعرفه غيره

من أهل البصيرة والخبرة لشدة غيرته ، وعنايته بالإصلاح، وهو الذي كان يؤلم

قلبه ، ويذهله عما لهذه الضرورة الاجتماعية من الفوائد التي أشرنا إلي أهمها.

ولعمري إن ما عرفناه نحن هنا من قلة احترام ميثاق الزوجية، ومن كثرة

تعدد الزوجات، وكثرة مفاسده لا نعرف له نظيرًا في غير هذه البلاد المصرية من

بلاد الإسلام، وقد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير آية النساء بعد أن أوردنا

ما قاله شيخنا في تفسيرها في درسه ، فليراجعه في الجزء الرابع من التفسير من

شاء أن يزداد بيانًا في المسألة.

***

حكمة تعدد أزوج النبي صلى الله عليه وسلم:

جاءنا السؤال الآتي من الباحثة الفاضلة صاحبة الإمضاء من طنطا مع كتاب

قالت فيه: إنها عرضته على الأستاذ الشيخ محمود الغراب المحامي؛ فأجابها

بجواب ارتاحت له بعض الارتياح ، وتود أن تزداد علمًا ، وبصيرةً في موضوعه ،

فأرسلته إلينا مع الجواب؛ لننشره في المنار ، ونعلق عليه بما عندنا في موضوعه ،

وهذا نص السؤال ، ويليه الجواب:

سيدي الأستاذ:

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: لما كان أساس ديننا القويم اليقين؛ فقد أباح

لنا البحث والسؤال، بل وحثنا عليهما، ولما أعرفه عنكم من وافر العلم ، وسعة

الاطلاع؛ أتقدم إلى فضيلتكم بسؤال أرجو التكرم بالإجابة عليه؛ ليرتاح ضميري ،

ولكم مني وافر الشكر ، ومن الله عظيم الأجر، أما السؤال فهو:

ما هي الحكمة في أن الله تعالى أباح للنبي عليه السلام التزوج بأكثر من

أربع؟

إن عللنا ذلك بكثرة النسل؛ فإنه لم يرزق من بعضهن بولد، وإن عللناه بأن

الله أراد أن يمتعه (ولا مؤاخذة) ؛ قلنا: إن مقام النبوة أرفع من ذلك ، وإني

أعرف سبب زواجه بواحدة كانت زوج شخص تبناه؛ إذ جاء ذكر زواجها في القرآن

الكريم {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37) إلخ.

وأما غيرها فلا أعرف سبب زواجه بهن وحكمته، وأنى لمثلي أن تدركه؟

وهذا النوع من البحث لا يدركه إلا العلماء والباحثون ، فلعلكم مجيبون ببيان وافٍ ،

ولفضيلتكم عظيم احترامي.

بهيجة ضيا

(جواب الأستاذ الشيخ محمود الغراب)

سيدتي المحترمة

سألت عن مسألة كثر فيها الكلام ، وزلَّت فيها أقدام، وهي بين قائل بأنه

عليه الصلاة والسلام خُصَّ من الله بإباحة الزيادة على أربع في الزوجات، وأن ذلك

ثبت له إلى وفاته، وبين مستنكر لذلك قائلاً: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم شرع

للناس ما لم يعمل به في خاصة نفسه.

ولكني يا سيدتي مؤمن على كل حال بأن هذا الرسول الذي قال فيه الكبير

المتعال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، والذي قال فيه: {مَا ضَلَّ

صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:

2-

4) كل عمل يصدر منه لا يكون إلا عن حكمة علمناها ، أو عجزنا عن إدراكها،

إلا أن طبيعة الإنسان تأبى إلا أن تعرف سر الكائنات، فمنهم من يصل ، ومنهم

من يعجز، وهذا الفريق منه المسَلِّمُ بعجزه، ومنه من يلقي تبعة جهله على غيره،

وليس في البحث لقصد العلم ما يعد غَضَاضةً على النفس.

ولكن نفوسًا دأبها الشك حتى في أسمى المقامات، وأعلى طبقات المخلوقات،

فتلك لا يريحها بيان، ولا يقنعها إنسان، فمن العبث الاسترسال معها في جدل.

وأنت بحمد الله ذات نفس مطمئنة ، فما وصلت إلى تعرف أسراره؛ كان لك

أجر اجتهاده، وما لم تصلي إليه ، وسلمت فيه بالعجز؛ كان لك حسن الاعتقاد أكبر

شفيع.

هذه المسألة يا سيدتي كل ما أعلمه فيها عمن تعرض لهذا البحث أنها من

خصوصياته عليه السلام، بمعنى أنه عليه السلام بعد أن شرع قصر الرجال على

أربع من النساء، كان يحل له التزوج من غير أن يتقيد بهذا العدد، ولكن يا سيدتي

من تتبع أصل التشريع في ذلك؛ يرى أن النبي عليه السلام كان مضيقًا عليه في

هذا أكثر من أمته، ولم يكن له تشريع خاص؛ لقصد التوسعة عليه في هذا الأمر.

إذ من المعلوم أنه قبل أن يشرع تحديد عدد الزوجات بأربع؛ كان يحل لكل

رجل أن يجمع في عصمته من النساء ما شاء من العدد، لا فرق بين نبي ، وغيره،

بل الكل كان في ذلك سواء، فلما جاء التشريع الخاص بالعدد؛ أمر النبي صلى

الله عليه وسلم مَن عنده زيادة على أربع أن يمسك أربعًا ، ويفارق الباقي، وشرع

الطلاق، وحل استبدال المرأة بغيرها، أما بالنسبة للنبي عليه السلام؛ فجاء

التخيير من الله تعالى لزوجاته: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ

الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:

28-

29) فاخترن الطرف الثاني؛ فأكرمن بأن اعتبرن أمهات المؤمنين، وقصر

عليه السلام عليهن فقط من بين نساء المؤمنين كزوجات، وحرم عليه طلاقهن،

ومنع من استبدالهن بغيرهن، وفي ذلك تضييق شديد بالنسبة لما أجيز لأمته، وفي

ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَاّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ

وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ

خَالاتِكَ اللَاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (الأحزاب:

50) {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ

إِلَاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (الأحزاب: 52) .

وكان في عصمته إذ ذاك تسع من النساء بقين في عصمته إلى أن لحق

بالرفيق الأعلى، ولم يمسك النبي عليه السلام أربعًا ، ويفارق من عداهن، كما أمر

غيره بذلك لحكمة ظاهرة ، وهي أن الله اعتبرهن أمهات المؤمنين؛ فحرمن على

الغير. فلو جاز طلاقهن ، وصرن لا إلى أزواج؛ لكان في ذلك حرج شديد يأباه

الشرع، ولأنهن لما خيرن ، واخترن الله ورسوله؛ حرم طلاقهن، ولو أن إحداهن ،

أو كلهن اخترن فراقه عليه السلام؛ لوجب عليه فراقها قبل أن يشرع في حقهن

هذا التشريع الخاص بهن، فالخصوصية في الحقيقة إنما كانت لأزواجه عليه السلام

لا له، لما قدمنا من الحكمة.

فالحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يتزوج بأكثر من أربع

بعد التشريع الخاص بذلك، ولم يكن عليه السلام ممن يرغبون في الإكثار من

الزوجات لغرض الرجل من المرأة، يدلك على ذلك أنه اقترن بالسيدة خديجة أولى

زوجاته، وكانت ممن يولد مثله عليه السلام لمثلها، وقضى معها زهرة شبابه حتى

شغل بأمر الوحي ، والتبليغ، وكان زواجه بها عن رغبة منها هي ، ولو أراد

غيرها؛ لكان.

ولكن ظروف الدعوة إلى الدين قضت بأن يصاهر كثيرًا، وبالأخص كان

أصحابه يعرضون عليه بناتهم كأبي بكر لغرض أن ينال بمصاهرته أكبر شرف،

وكان النسب والمصاهرة عند العرب من دواعي النصرة والحماية، ولم يكن ذلك

محظورًا؛ فلم ير مانعًا من أن يحقق هذه الرغبات، حتى جاء التشريع الخاص بذلك،

فكان هو في حالة لا تعتبر تيسيرًا بالنسبة لمن عداه.

هذا هو رأيي يا سيدتي أقدمه بكل احترام ، وأرجو الله تعالى أن أكون قد

وفقت فيما بحثت، والسلام.

...

...

...

...

... محمود الغراب

(المنار)

سبق لنا بيانٌ لحكمة تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم بالإجمال والتفصيل،

وسنعود إلى تلخيصه مع زيادة بعض الفوائد في جزءٍ تالٍ إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: كان شرلمان معاصراً للخليفة المهدي وابنه الرشيد ، وحارب العرب؛ فانكسر.

(2)

هذا هو المنصوص في فقه المذاهب المشهورة ولكن قالوا: بأن ما يجب للزوجة يستحب للسرية، وفي كتب الحنابلة قول بأنه يجب على السيد أن يحصن مملوكه ومملوكته بالزواج بشرطه.

(3)

ذكر السؤال الرابع ليس من الأصل الذي عندنا ، بل زدناه للإيضاح ، وكونه مقصودًا لذاته.

(4)

المنار: أي جاز للحاكم حكمًا ، وللعالم إفتاءً.

ص: 29

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استقلال مملكة ابن السعود

(س1) من صاحب الإمضاء في (بونس أيرس) عاصمة الأرجنتين:

جناب حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا الأفخم، من بعد التحية والسلام:

أرجو الإفادة على سؤالي الآتي ، ولكم منا مزيد الثناء بذلك: هل مملكة ابن سعود

مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا في كل شؤونها الداخلية والخارجية ، أم لا؟ وإذ لم كانت ،

من هي الدولة الوصية عليها؟ والسلام.

...

...

...

... الداعي سعيد يوسف مراد

...

...

...

... من شركة مراد إخوان

(ج) إن مملكة ابن السعود مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا، لا وصاية عليها

لدولة من الدول، وليس فيها موظف أجنبي إلا بعض قناصل للدول التي لها رعايا

من المسلمين في جدة من عهد حكم الترك، وقد سئلت مجلة المقتطف هذا السؤال ،

فأجابت بمثل هذا الجواب، ومن الأدلة على فسخ الاتفاق القديم مع الإنكليز الخاص

بنجد أنه أخذ بلاد الحجاز بالسيف ، وعقد معاهدة سابقة مع السيد الإدريسي ، ثم

معاهدة أخرى جعلت بلاد الإدريسى كلها تحت حمايته.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البناء على القبور

ومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين

(س2) لصاحب الإمضاء في (أوغاندة) .

إلى حضرة جلالة (؟) الأستاذ الكامل الشيخ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، وسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛

أما بعد: فهذا سؤال موجه لحضرتكم الشريفة عن البناء على القبور من

كتاب تنوير القلوب لصاحبه محمد أمين الكردي نسبًا النقشبندي مذهبًا بصحيفة

213 ما نصه: (ويحرم البناء على المقبرة الموقوفة إلا لنبي ، أو شهيد ، أو عالم ،

أو صالح) ، هل المراد من فحوى كلامه هنا الحوش المستدير على قبر النبي، أو

الشهيد، أو العالم، أو الصالح كما يفيده استثناؤه، أو نفس البناء عليه بالجصِّ ،

والآجر؟ وعلى كلا الحالين لأي شيء يحل له ويحرم لما عداه؟ وهل يحل أيضًا لما

عدا قبر غير النبي ، أو العالم فيما إذا كانت المقبرة غير موقوفة؟ أليس منع البناء

على المقابر مطلقًا كما علم بالضرورة؟ ومع هذا إنكم صرحتم بعدم الجواز في عدة

مواضع بمجلتكم الغراء، أفيدونا بالجواب ، ولكم الأجر والثواب ، والسلام.

...

...

...

...

مقبل فاضل

...

...

...

...

أوغاندة، مبالي

(ج) إن كلام هذا الكردي شرع لم يأذن به الله، ولا أصل له في كتاب

الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لنا أن نبحث عن مراده منه،

بل هو مردود عليه، وأنتم في غنى عنه بما نشرناه في المنار مرارًا من الأحاديث

الصحيحة في تحريم البناء على قبور الأنبياء والصالحين، ويؤخذ منها أن قبورهم

هي المقصودة بالحظر أولاً وبالذات؛ لافتتان الأولين والآخرين بها، وعبادتها

بالتعظيم والطواف والدعاء، وغير ذلك كالحديث المتفق عليه في أهل الكتاب:

(أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ، أولئك شرار الخلق

عند الله) ، وعند ابن سعد: (إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم

مساجد ، فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك) ، وسواء فيما بني على قبر

النبي ، أو الصالح ، أكان مسجدًا ، أم غير مسجد؟ فإن مقصد الشارع سد ذريعة

تعظيم قبورهم ، أو تعظيمهم بما لا يبيحه الشرع من الدعاء والنذر ، وأمثال ذلك مما

هو خاص بالله تعالى كالحلف ، أو خاص ببيته كالطواف.

وما ذكره الفقهاء من تحريم البناء في المقبرة المسبلة، فله مدرك آخر

يشمل الصالح والطالح، وهو تصرف الإنسان في الوقف بغير ما وقف عليه،

ومثله التصرف في ملك غيره كما هو ظاهر.

_________

ص: 39

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما قبله)

مذهب عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة:

وأما إتمام عثمان ، فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول، لا على ما لم

يثبت عنه ، فقوله: (إنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة، وإما لجباية، وإما

لجَرِيمٍ يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو) ،

وقوله بين فيه مذهبه، وهو: أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية، أو

مَصْرٍ إلا إذا كان خائفًا بحضرة عدو، وإنما يقصر من كان شاخصًا؛ أي: مسافرًا،

وهو الحامل للزاد ، والمزاد؛ أي: للطعام والشراب، والمزاد: وعاء الماء،

يقول: إذا كان نازلاً مكانًا فيه الطعام والشراب؛ كان مترفهًّا بمنزلة المقيم، فلا

يقصر؛ لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان، وهذا لا تلحقه مشقة،

فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد، وللخائف.

ولما عمرت مِنَى ، وصار بها زاد ومزاد؛ لم ير القصر بها لا لنفسه، ولا

لمن معه من الحاج، وقوله في تلك الرواية:(ولكن حدث العام) لم يذكر فيها ما

حدث ، فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب ،

وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع، فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه

الزاد والمزاد أربعًا، وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة؛ فيكون هذا

أيضًا موافقًا، فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد، وهو لا يرى القصر لمن

كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا؛ فجميع ما ثبت في هذا

الباب من عذره يصدق بعضه بعضًا.

وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه

وسلم أعمر من منى في زمن عثمان ، فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه

وسلم في عمرة القضية، ثم في غزوة الفتح، ثم في عمرة الجعرانة كان خائفًا من

العدو، وعثمان يجوِّز القصر لمن كان خائفًا ، وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد

والمزاد ، فإنه يجوِّزه للمسافر ، ولمن كان بحضرة العدو، وأما في حجة الوداع ،

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنًا لكنه لم يكن نازلاً بمكة ، إنما كان نازلاً

بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه، فلم يكونوا نازلين بدار إقامة، ولا بمكان فيه

الزاد والمزاد.

وقد قال أسامة: أين ننزل غدًا؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك

لنا عقيل من دار؟ ! ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر. وهذا المنزل

بالأبطح بين المقابر ومنى.

وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها: أنها إنما تتم؛ لأن القصر

لأجل المشقة ، وأن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في

جنسه وفي قدره ، فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها.

وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر، مع أن عثمان قد خالفه علي ،

وابن مسعود ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وابن

عباس ، وغيرهم من علماء الصحابة، فروى سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن

محمد ، عن أبيه قال: اعتل عثمان - وهو بمنى - فأتى علي، فقيل له: صل

بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله ركعتين. قالوا: لا إلا صلاة

أمير المؤمنين - يعنون أربعًا - فأبى ، وفي الصحيحين عن ابن مسعود

[1]

***

(الخلاف في جواز تمام الرباعية في السفر)

وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: (أحدهما) : إن ذلك

بمنزلة صلاة الصبح أربعًا، وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف ، وهو مذهب

أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة: إذا جلس مقدار

التشهد؛ تمت صلاته، والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد

مقدار التشهد؛ بطلت صلاته ومذهب ابن حزم ، وغيره: إن صلاته باطلة، كما لو

صلى عندهم الفجر أربعًا.

وقد روى سعيد في سننه ، عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس:

(من صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين)، قال ابن حزم: وروينا

عن عمر بن عبد العزيز ، وقد ذكر له الإتمام في السفر لمن شاء ، فقال: كلا،

الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما. وحجة هؤلاء أنه: قد ثبت أن

الله إنما فرض في السفر ركعتين، والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ، ولا سنة،

وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى أربعًا ، أو أقر من صلى

أربعًا ، فإنه كذب.

وأما فعل عثمان ، وعائشة ، فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض

الأسفار دون بعض، كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد، ثم

قد خالفهما أئمة الصحابة ، وأنكروا ذلك.

قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة تصدق الله بها عليكم ،

فاقبلوا صدقته) ، فأمر بقبولها ، والأمر يقتضي الوجوب.

ومن قال: يجوز الأمران؛ فعمدتهم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ

فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:

101) قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: {وَلَا

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (النساء: 102)، وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ

تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة: 236) ، ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم

من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها، وبما روي من أنه فعل ذلك ،

واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة ، فأتموا خلفه ، وهذه كلها

حجج ضعيفة.

أما الآية ، فنقول: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان

يصلي في السفر ركعتين ، وكذلك أبو بكر ، وعمر بعده، وهذا يدل على أن

الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله ،

وهو أفضل من غيره، لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه،

ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبًّا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورًا به أمر إيجاب،

وقد قال تعالى في السعي: {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ

بِهِمَا} (البقرة: 158)، والطواف بين الصفا والمروة هو: السعي المشروع

باتفاق المسلمين، وذلك إما ركن ، وإما واجب ، وإما سنة، وأيضًا فالقصر - وإن

كان رخصة استباحة المحظور - فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر، والتيمم

لمن عدم الماء، ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في

الآية ثلاثة أقوال: قيل: المراد به قصر العدد فقط، وعلى هذا فيكون التخصيص

بالخوف غير مفيد، (والثاني) : أن المراد به قصر الأعمال ، فإن صلاة الخوف

تقصر عن صلاة الأمن ، والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف

جائزة حضرًا وسفرًا ، والآية أفادت القصر في السفر، (والقول الثالث) - وهو

الأصح -: أن الآية أفادت قصر العدد ، وقصر العمل جميعًا، ولهذا علق ذلك

بالسفر والخوف ، فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف؛ أبيح القصر الجامع لهذا

ولهذا، وإذا انفرد السفر؛ فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف؛ فإنما يفيد قصر

العمل.

ومن قال: إن الفرض في الخوف والسفر ركعة. كأحد القولين في مذهب

أحمد ، وهو مذهب ابن حزم، فمراده: إذا كان خوف وسفر، فيكون السفر والخوف

قد أفاد القصر إلى ركعة، كما روى أبو داود الطيالسي، ثنا المسعودي هو عبد الرحمن

ابن عبد الرحمن بن عبد الله، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله

عن الركعتين في السفر: أقصرهما؟ قال جابر: (لا، فإن الركعتين في السفر ليستا

بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال) .

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان

نبيكم في الحضر أربعًا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة) قال ابن حزم:

ورويناه أيضًا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن

النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة.

قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة ،

وإن شاء ركعتين؛ لأنه جاء في القرآن بلفظ: {لَا جُنَاحَ} (النساء: 102) ، لا

بلفظ الأمر والإيجاب، وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط ،

ومرة ركعتين ، فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر.

وأما صلاة عثمان ، فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ، ومع هذا فكانوا

يصلون خلفه؛ بل كان ابن مسعود يصلي أربعًا وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر.

وكان ابن عمر إذا انفرد صلى ركعتين.

وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعًا مكروهة عندهم ، ومخالفة للسنة، ومع

ذلك فلا إعادة على من فعلها، وإذا فعلها الإمام؛ اتبع فيها؛ وهذا لأن صلاة المسافر

ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن

الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع ، فقال: (صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة

الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر

على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى) . رواه أحمد والنسائي من حديث

عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجزة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد

ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي [2] عن عبد الرحمن، فهذه الأربعة ليست من جنس

الفجر.

ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلي ركعتين تارة ، ويصلي أربعًا أخرى، ومن

فاتته الجمعة؛ إنما يصلي ركعتين، وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة ،

وجمهور العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(من أدرك ركعة من الصلاة ، فقد أدركها) وإذا حصلت شروط الجمعة؛ خطب

خطبتين ، وصلى ركعتين، فلو أنه خطب ، وصلى الظهر أربعًا؛ لكان تاركًا للسنة،

ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعًا، ولهذا يجوز للمريض والمسافر ، والمرأة ،

وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعًا أن يأتم به في الجمعة؛

فيصلي ركعتين، فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين ، وله أن يأتم بمقيم ، فيصلي

خلفه أربعًا ، فإن قيل: الجمعة يشترط لها الجماعة ، فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف

حكم المؤتم وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي ، وطائفة من أصحاب أحمد، قيل لهم:

اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، والأقوى أنه

شرط مع القدرة، وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة ، فلزمه

اتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل: فللمسافرين أن يصلوا جماعة، قيل: ولهم أن

يصلوا يوم الجمعة جماعة ، ويصلوا أربعًا، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه

استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعًا: ركعتين للسنة، وركعتين لكونهم لم

يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة، وصلاة العيدين تفعل تارة اثنتين،

وتارة أربعًا، كصلاة المسافر، بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة،

فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعًا ، ويصلون خلفه، كما في حديث

سلمان ، وحديث ابن مسعود ، وغيره مع عثمان، ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي

الفجر أربعًا؛ لما استجازوا أن يصلوا أربعًا، كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر

أربعًا.

ومن قال: إنهم لما قعدوا قدر التشهد؛ أدوا الفرض ، والباقي تطوع. قيل له:

من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضًا فإن

ذلك ليس بمشروع، فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين، بل قد أنكر النبي

صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة، وقال: الصبح أربعًا. وقد

صلى قبل الإمام، فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة؟ ! وقد ثبت في الصحيح أن

النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام ،

أو قيام.

وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة ، وغيرها بصلاة تطوع،

فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر ، إن كان لا يجوز إلا ركعتان بصلاة

تطوع؟ ! وأيضا فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلى أربعًا؟ كما ثبت

ذلك عن الصحابة ، وقد وافق عليه أبو حنيفة ، وأيضًا فيجوز أن يصلي المقيم أربعًا

خلف المسافر ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه يفعلون ذلك ،

ويقولون: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سفر) .

وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم ، فإنه قد سلم جماهير

العلماء أن يصلي هذا خلف هذا، كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة ، وليس

هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر.

وأما من قال: إن المسافر فرضه أربع ، وله أن يسقط ركعتين بالقصر.

فقوله مخالف للنصوص ، وإجماع السلف والأصول، وهو قول متناقض ، فإن

هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل ، ولا إلى نظيره، وهذا يناقض

الوجوب، فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجبًا على العبد ، ومع هذا لا يلزمه فعله، ولا

فعل بدله ، ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط، وهذا

الذي يدل عليه كلام أحمد ، وقدماء الصحابة ، فإنه لم يشترط في القصر نية ، وقال:

لا يعجبني الأربع، وتوقف في إجزاء الأربع.

ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية. وإنما هذا من قول

الخرقي ، ومن اتبعه، ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك، قاله جماهير

العلماء، وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره ، بل والأثرم ،

وأبي داود ، وإبراهيم الحربي ، وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر، ولا

في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين ، فإذا أتى بهما؛ أجزأه ذلك، سواء نوى القصر،

أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك ، وأبي حنيفة ، وعامة السلف ، وما علمت

أحدًا من الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر ، ولا في جمع، ولو

نوى المسافر الإتمام؛ كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعًا؛ كان ذلك

مكروهًا كما لم ينوه.

ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ،

ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه ، وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن

المأمومين ، أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم

لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة

ركعتين ، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا معه يحجون معه ، وكثير

منهم لا يعرفون صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد،

لا سيما النساء الذين صلوا معه، ولم يأمرهم بنية القصر ، وكذلك جمع بهم بعرفة ،

ولم يقل لهم: إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: ههنا بياض بالأصل ، والمروي فيهما عنه بهذه المسالة أنه قيل له في منى: إن عثمان صلى بالناس أربعاً ، فاسترجع ، وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.

(2)

كذا والصواب اليامي، قال في تقريب التهذيب: زبيد بموحدة مصغر ابن الحارث أبو عبد الله الكريم بن عمرو بن كعب اليامي بالتحتانية، أبو عبد الرحمن الكوفي ثقة ثبت عابد من السادسة مات سنة ثنتين وعشرين ، أو بعدها.

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى

يتشابه مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فيما فشا فيهما من الجهل والبدع

والخرافات التي أضعفت جميع شعوب الأمة، ويتشابهان أيضا فيما يشعر به العقلاء

السليمو الفطرة من الحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يتوقف عليه الإصلاح

الاجتماعي والسياسي، مع بقاء هداية الإسلام جامعة لهذه الشعوب مميزة، كالفصل

المنطقي المميز للنوع دون أنواع جنسه القريب.

ولدينا من مواد المجلد الثامن والعشرين من المنار رسالتان طويلتان في

موضوع الإصلاح في المغرب الأقصى: إحداهما لأستاذ من شيوخه، والأخرى

لسائح تغلغل في تلك البلاد، وهما ممن يرجع بهداية الدين إلى مذهب السلف

الصالح في العصر الأول، ويُعَوِّل في المدنية وعزة الأمة على أحدث فنون العصر،

ونظمه الملائمة لتلك الهداية، وإننا ننشرهما بالتدريج للتعاون بين الملوين،

وتبادل الشعور الذي تخفق له قلوب الأمة في الخافقين. ونبدأ بالأولى وهي:

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم

لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي

مفتي الديار المصرية سابقًا

بسم الله الرحمن الرحيم

مُنِيَ المسلمون في جميع بقاع الأرض بفئة ضالة تقمصت الإسلام على

ظهرها، وأما قلوبها فقد ملئت عليه حقدًا وحسدًا حملاها على النكاية به، والعمل على

نقضه من أساسه، ولولا أن الإسلام قوي بنفسه وبتعاليمه، ولولا أنه نور من نور الله

لا ينطفئ أبدًا ولو كره الملحدون الحاقدون، لكانت المصيبة أدهى وأمر، ولكن العاقبة

للمسلمين، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) وقال:

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل

عمران: 85) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى

يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة في

كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي

ظاهرين على الحق يقاتلون) ؛ (وهم أهل العلم) .

وقد اختارت هذه الفئة الضالة في كل عصر من أول الإسلام إلى يومنا هذا

أقوامًا لنشر دعوتها من أعظم الأبالسة، وأبلغ الخطباء المصاقيع، وأجرئهم على

ذلك، فلبسوا لبوس الإسلام، ولابسوا قادة المسلمين من ملوك وعلماء، وتظاهروا

بالزهد ومحبة الإٍسلام والغيرة عليه وعلى أهله، وصاروا يزيدون فيه ما ليس منه،

ويستظهرون على ذلك برواية أحاديث بعضها صحيح؛ ليستدرجوا الناس إلى قبول

الموضوع، ويتظاهرون بأن ذلك من تعظيم الإسلام، فاستحوذوا بذلك على قلوب

العامة لأنهم تبع للخاصة، حتى كاد زمام العامة يصير في يدهم، فصارت لهم بذلك

مكانة ومنزلة عند الملوك وكبار الدولة، وصاروا يتداخلون في كل شيء حتى في

نصب الوزراء والقضاة، وما أدراك ما هذه المكيدة! وصاروا يحلون ويحرمون

للملوك، ويفتونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام، كل ذلك تحت ستار الزهد

والتقشف، ومكيدة ما يشيعه أتباعهم من الكرامات الكاذبة الباردة إلخ.

وطوائف منهم خالطت عامة الناس، ودونت لهم أقاويل، وأوراقًا كلها

مشعوذة، وتقوُّل على الدين، ومحاربة له، وهدم لبنيانه، وما قصة الحلَاّج

بمجهولة.

وبعد خراب البصرة، استفاق العلماء من الغفلة وتجردوا للرد عليهم، كابن

حزم والغزالي وأبي بكر بن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم والإمام محمد

بن عبد الوهاب في نجد وغيرهم، إلى أن قذف الله بنور من عنده بنابغة الدهر

(السيد) جمال الدين الأفغاني فنبه الأمة الإسلامية من رقادها الطويل، وصدع

فيهم بأمر القرآن، كأنه المعني بقوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر:

94) وجاهد في الله حق جهاده، ونشر علومه وهديه في الهند والفرس والأفغان

ومصر والآستانة، وخلف رحمه الله تلاميذ نبغاء في هذه الأقطار:

أعظمهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والعلامة السيد رشيد رضا صاحب

المنار، وسعد زغلول باشا، وغيرهم كثير.

فقامت هذه الفئة القليلة بنشر محاسن الإسلام، وببيان أصوله وسهولته،

وموافقته لكل زمان ومكان، وبالرد على المبتدعة والملحدة والجاحدة؛ فغلبت فئات

كثيرة بإذن الله؛ لأنها صبرت والله مع الصابرين، قال جل علاه: {إِن تَنصُرُوا

اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وما مناظرة جمال الدين الأفغاني

لرينان ببعيدة، وأقرب منها رد الشيخ محمد عبده على هانوتو، وردود صاحب

المنار على الجامدين والملحدين في كل عدد من أعداد المنار معروفة، وفي مقالات

سعد باشا وخطبه وردوده القاهرة على دهاقين السياسة أكبر شاهد على ما قلنا.

في تلك الأيام المحلولكة كان علماء الدين في الأزهر، وأيا صوفيا والجامع

الأموي، والزيتونة ملازمين لظلهم، يخافون من خياله رغمًا عما نفخ فيهم الشيخ

محمد عبده من كهرباء روحه الطاهرة، وعما قرعهم به ووعظهم بالحجج الساطعة،

والآيات القاطعة، إلى أن قام صاحب كتاب الإسلام وأصول والحكم فضرب على

وجهه صفيحة من نحاس.

ولم يشهد التاريخ لها شيئًا في العالمين، فغضب لذلك أسد الإسلام ومؤسس

مناره السيد رشيد رضا، وصفعه صفعة قضت على أمثاله، ونبه مشيخة الأزهر

لعمل الواجب ضد ضلاله، وإذا غضب رشيد رضا رأيت العلماء العاملين كلهم

غضابًا، فقام حينئذ علماء الأزهر بالأمر خير قيام، وأسقطوه من زمرة علماء

المسلمين.

حينئذٍ تنبه الأزهريون فرأوا أنفسهم مسوقين بحبال الملحدين إلى حيث ألقت

رحلها أم قشعم، فتحفزوا للوثوب إلى الميدان وبرزوا للمعركة أسودًا شم العرانين

منشدين:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

وأول من برز للميدان وبز، وحاز قصب السبق وأحرز، الأستاذ الشيخ محمد

بخيت دام بقاؤه، فقد شحذ سيفه البتار (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) ، وضرب

الملحدين ضربة قاضية أسقطتهم من صياصيهم التي كانت موضوعة على شفا

جرف هار من آراء الضالين الإباحيين الذين يستدرجون الأمة الإسلامية؛ ليزيغوها

عن دينها الذي هو أعظم حصن واقف للضالين بالمرصاد، فإذا أزاحوها عنه،

وتقمصت عقائد الإباحيين، وفرطت في أثمن سلوة لها، وابتليت بالإباحة المطلقة،

واستحلت الربا والخمر والزنا، ورفعت الحجاب عن فتياتها، واختلط الحابل

بالنابل، هنالك يجد الماليون مفاتيح الاستيلاء على المسلمين واستهواء قلوبهم،

زيادة على ملك رقابهم وأموالهم، وهناك يصبح المسلمون لا مفر لهم من الاستخذاء

للماليين، واستخدامهم في المعامل الجهنمية، وجر الأثقال، ومزاولة الأشغال الشاقة

ليلاً ونهارًا بأجور زهيدة لا يستطيعون معها أن يأكلوا الخبز والزيت، ولا يستطعيون

أن يلبسوا إلا ما يفضل عن الأورباويين من صدار وقميص وسراويل وسخة متلاشية،

ونعال بالية متعفنة، تكسو أكثر لابسيها أمراض متنوعة تذهب بأكثرهم إلى القبور،

دع عنك الحفاة والعراة والجائعين الذين هم أزيد من خمسين في المائة.

هنالك تغلق المدارس والمعاهد الدينية، وتملأ السجون والمارستانات، هناك

هناك.. إلخ، هذه نتيجة ما يدعو إليه الملحدون في مصر وغيرها.

فكان الواجب على قادة الملحدين أن يختبروا مقاصد سادتهم ومسخريهم وإلى

أي هوة يسوقونهم، وفي أي مجزرة يذبحونهم.

كان عليهم أن يتبينوا أحوال المسلمين في المستعمرات، ويبحثوا عن معايشهم

ومكاسبهم ومدارسهم ومصانعهم وصنائعهم ومتاجرهم، ثم بعد الدرس العميق

والبحث المتوالي يحكمون، فإذا وجدوا الماليين يعاملونهم معاملة جميلة، ويعلمونهم،

ويسهرون على مصالحهم كما يدعون؛ فلا بأس حينئذ بالميل إليهم كما يريد بعض

المتهاونين بالوطن.

أما والحالة على النقيض، وليس هناك إلا الفقر والجهل والإهانة والحرمان

والبؤس والشقاء، فيظهر بادئ بدء أن دعوة الملحدين لمواطنيهم إلى ما ذكر غش

وتدليس وخيانة، فتجب مقاومتهم بكل ما يمكن، ويجب الاستعداد لمحاربتهم

استعدادًا هائلاً تستحضر عدده من معامل الأزهر والمعاهد الدينية.

لذلك جاء كتاب (حقيقة الإسلام) في أشد أوقات الحاجة إليه، فأشبه النجدة

إلى المحارب الذي كاد ينهزم في المعركة النهائية الفاصلة؛ فانتصر به إلى غاية

الانتصار، وهزم جيوش الملحدين هزيمة شنعاء لا تقوم لهم بعدها قائمة.

وقد حوى حقائق الإسلام وبين أهم ما يحتاج إليه منها، بعبارة واضحة ليس

فيها تكلف ولا غموض، جلب المؤلف فيها الآيات، والأحاديث النبوية، ونصوص

الأصوليين المعتمدة، مذَيِّلاً ذلك بنقول المؤرخين، وأهل السير، وآراء فلاسفة

المسلمين المعتمدة، ولكون ذلك معروفًا عند المسلمين ومؤلفات الإسلام فيه كثيرة

جاءت عبارة الكتاب منسجمة غاية الانسجام، كأنما المؤلف يغرف من بحر فطلع

منه بِدُرَر نفيسة ينبغي - بل يتحتم - على كل مفكر أن يزين مكتبته به، ويتعين

على كل كاتب أو عالم أو فيلسوف أن ينير أفكاره بآرائه وآياته اللامعة.

...

...

...

من مراكش (مسلم غيور)

للرسالة بقية وفيها تعقب لكتاب حقيقة الإسلام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سياسة الإنكليز في الشرق

وزعماء العرب

مذهبان في سياسة بريطانية في الشرق الأوسط - قرارات لجنة لويد جورج

- إنجلترة وابن السعود - تصرفات الملك حسين - الإدريسي وبريطانية -

شكاوى الحجاج إلى الدول الأوربية - الجزيرة العربية تهم العالم الإسلامي أجمع.

إن العلائق الودية بين الحكومة البريطانية والسلطان ابن السعود التي أنتجتها

مفاوضات السير جلبرت كلايتن في بحرا، والمعاهدات السلمية التي ارتبط بها إمام

اليمن يحيى مع نفس الحكومة لا بد أن يكون لها أثر حميد في تحسين سياسة

بريطانية العظمى في الشرق الأوسط؛ إذ إن هذه السياسة كانت ولا تزال حتى

يومنا هذا متقلبة، لا يعرف لها قرار نهائي، واتفاقات بحرا هذه ليست في عالم

السياسة بأمور غير معتادة، اتفق عليها لتحسين العلائق بين إنكلترة والبلاد

العربية.

إلا أن أنصار العرب في (دوننغ ستريت) جعلوها نصب أعينهم؛ لما رأوا

لها من الأهمية، وكانت مدار حديثهم في المدة الأخيرة مع السير جلبرت كلايتن

السكرتير المدني السابق لحكومة فلسطين الذي لم يكن مسئولاً إلا عن إيصال

المفاوضات الأخيرة على علاتها إلى حكومته، وغير خافٍ أن معاهدات ذات تأثير في

حركة الاستقلال العربي، وفي توحيد السياسة الإنكليزية في الشرق الأوسط - هي

ولا شك من الوجهة التاريخية ذات بال، وأي ذات بال! ولذا يجدر بنا أن نبحث في

شأنها بعض البحث:

لما حملت إنكلترا على عاتقها مسئولية إدارة شئون إمبراطورية الشرق

الأوسط؛ تضاربت الآراء العامة، وآراء الساسة الحذاق، خاصة فيما ستؤول إليه

نتيجة هذا الأمر، ووقف في المضمار فريقان: فأما الفريق الأول، فكان من

المحافظين أرباب الفلسفة السياسية، وكان الكولونيل (لورنس) و (المس

جزتروديل) ألسنتهم الناطقة، فهؤلاء احتجوا بأن سياسة الإلحاق السرية أو

الجهرية لا توافق ولا بوجه من الوجوه روح الحماية، أو ما تمليه سياسة الإنكليز

الحق، وأخذوا يبثون آراءهم بكل الوسائل، ويطلبون استقلالاً تامًّا للممالك

والإمارات العربية التي أسست حديثًا.

وكانوا يعدون أنفسهم مسئولين بذواتهم عما كان يحدث في البلاد العربية على

يد بريطانية العظمى، ويؤنبون أولي الأيدي التي كانت عاملة آنئذ على سحب

العهود التي قطعوها للأمة العربية، وأما الفريق الثاني - وكان جله من الأحرار -

فاعتبروا ضمانة أية حماية من غير ضم البلاد المحمية رأسًا، أو بالواسطة إلى

الإمبراطورية البريطانية إنما هو تفريط في غير محله، وما هو إلا زيادة عبء

ثقيل إلى العبء البريطاني في آونة كان العالم فيها يئن من نتائج الحرب العظمى.

وظني أن كثيراً من المسائل الجوهرية البريطانية المدفونة في السجلات

السرية في وزارة الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات لم يطلع عليها الشعب،

ولن يطلع عليها إلا بعد أجيال عديدة إذ يظهرها المؤرخون.

وهذه المعجزة الإنكليزية التي تتعلق بالشئون العربية لا يسأل عنها إلا أنصار

العرب من الإنكليز ذوي الضمائر الحرة. واستدعي المفاوضون من العرب المرة

تلو الأخرى، ولكن لم يكن هنالك مفاوضات حقيقية، ولا تزال قصة استدعاء

الدكتور ناجي الأصيل السياسي السوري الذي مثل الملك حسينًا في بلاط سنت

جيمس تخدش مخيلة من يهمهم هذا الأمر.

فالعرب البسطاء هم الذين أوقعوا أنفسهم في أيدي من لا يعرفون للعهود معني،

ولما اعترف بسلالة الشريف حسين كالعائلة الوحيدة المالكة في عموم الأقطار

العربية؛ قامت الضجات والصرخات، وأصبح بعض الإنكليز يقولون: إن دولتهم

جازفت بأن راهنت على الحصان الذي لا يكسب الرهان، ولما انتخب فيصل -

أنجب أفراد هذه السلالة - للاستواء على عرش العراق رميت وزارة الخارجية

البريطانية بقصر النظر والتحزب، ولما أشار السير أوستين تشمبرلن على الملك

حسين الشيخ أن يغادر البلاد العربية إلى قبرص أيضًا هطلت الشكاوى التي يناقض

بعضها البعض مدرارًا.

دعنا الآن نعير التفاتة نحو الحقائق العارية من كل شائبة لنرى - إن أمكننا -

نتيجة الخطط التي رسمها رجال السياسة الذين يسمون أنفسهم أحرارًا:

في سنة 1921 قررت وزارة لويد جورج تشكيل لجنة وزارية (لتتعهد

بتأسيس الأقطار التي للإنكليز علاقة بها في الشرق الأدنى) ، وهذه اللجنة التي كان

يساعدها قواد القوات البحرية والحربية أتيح لها درس الحالة الإدارية والسياسية في

هذه البقاع، وكانت تستعين بنصائح من كان يحكم البلاد من العمال الإنكليز،

وأعني بهم: مندوبي فلسطين والعراق - السير هربوت صموئيل والسير برسي

كوكس - ومعتمدي عدن والبحرين.

واستطاعت هذه اللجنة بعد البحث الطويل، أن تصل إلى نتائج قدمتها

بصورة تقرير لوزارة الخارجية، ولكن مع الأسف لم تر الشمس هذا التقرير حتى

وقتنا هذا، بل خبئ في ظلمات صناديق الوزارة، مع أنه بلا شك أهم الأوراق

السياسية التي تبين مجرى الأمور في الشرق في الوقت الحاضر.

وهذه اللجنة عينت لجانًا ثانوية، وليس غرضنا هنا تعديد هذه اللجان، وعلى

كل؛ فكان غرض أحدها - وهي التي كان يرأسها سكرتير وزارة الخارجية وكان

يتألف أعضاؤها من ونستون تشرتشل والسير برسي كوكس والكولونل لورنس

والجنرال سكوت - أن تضع على بساط البحث أمورًا تتعلق بالسياسة البريطانية

الشرقية، وخصوصًا بما يتعلق بأمراء العرب، وملوكهم المسيطرين في شبه

الجزيرة العربية، وأول ما نظرت فيه هذه اللجنة هو: مسألة التقدمات المالية،

التي كانت تدفع لهؤلاء الزعماء استنادًا على أسس واهية، هذه اللجنة قررت بعد

البحث والتدقيق ما يأتي:

1-

أن تدفع الإمبراطورية البريطانية لابن السعود مائة ألف ليرا سنويًّا.

2-

أن يدفع لفهد بك الهذال مائتان وأربعون ألف روبية.

3-

أن يدفع الملك حسين مائة ألف ليرا إنكليزية سنويًّا.

4-

أن يدفع للإدريسي اثنتا عشرة ألف ليرا سنويًّا.

وبنت اللجنة حكمها على الأمور الآتية:

ابن السعود أعظم يد عاملة في السياسة العربية، وذو الشخصية البارزة،

والذكاء المفرط عقد معاهدة مع الدولة البريطانية، ولم يخطر له يومًا ما أن يحل

عقد العلائق الودية بينه وبينها، مع أنه قادر على ذلك، وفي استطاعته أن يعرقل

مساعي الدولة البريطانية، ولا يكلفه ذلك أكثر من أن يأمر أتباعه بشن الغارة على

الجنوب الغربي من بلاد ما بين النهربن، كما أنه يمكنه أن يهاجم بخيله ورجله

الكويت وجبل شمر إن أوحت إليه إرادته بذلك، والإخوان - الفريق المجاهد من

أتباعه - دومًا يحثونه على مهاجمة جيرانه المسلمين، وقد حدثت مؤخرًا أربع

غزوات من هذا القبيل.

ولابن السعود تأثير في نفوس أتباعه الإخوان، وقد تمكن من أن يردهم عن

مهاجمة جيرانهم مرارًا، وذلك بفضل تصرفه بحكمة في التقدمة المالية التي تساوي

ما تجمعه حكومته من الضرائب، وقبيل أن تضمن هذه التقدمة المالية لابن السعود

يجب عليه أن يوافق على الشروط الآتية:

1-

أن لا يهاجم العراق ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده.

2-

أن لا يهاجم الكويت ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده أيضًا.

3-

أن لا يهاجم الحجاز ولا يرسل حملات من أتباعه لمهاجمته.

وكانت التقدمة الأساسية لابن السعود ستين ألف ليرا إنكليزية، وأما الآن [1]

فازدادت حتى بلغت مائة ألف ليرا إنكليزية في السنة، ظنًّا من اللجنة أن هذه

الزيادة المالية تقوى نفوذ ابن السعود وتمكنه من أعناق أتباعه، وبذلك يتسنى له أن

يعمل على موافقة الإدارة البريطانية، وحثت اللجنة ابن السعود على إبقاء حبل

المودة متصلاً بينه وبين فيصل من جهة، وبينه وبين الملك حسين من جهة أخرى،

زد على ذلك أن اللجنة اعترفت بابن السعود سلطانًا على نجد، وأوصت من لهم

علاقة بالأمر أن يعترفوا به.

وفهد بك الهذال زعيم عشائر عنزة - التي على حدود ما بين النهرين إلى

الجهة الغربية من بغداد وكربلاء، وعلى ضفة الفرات الغربية - اعتادت حكومة

الهند أن تدفع له مقابل خدماته لها مائتي وأربعين ألف روبية، وغير خافٍ أن

الطريق الجوية الحاضرة التي تؤدي إلى فلسطين تمر بمنطقة مسافة مائتي ميل،

ولذا فلا مشاحة في أن مساعدته أمر لا بد منه، إن أرادت الحكومة البريطانية أن

تحافظ على سلامة سفنها البرية التي تمر بهذه المنطقة؛ لهذا قررت اللجنة إبقاء ما

كان على ما كان؛ أي: الاستمرار بدفع التقدمة المالية البالغة مائتين وأربعين ألف

روبية للزعيم المذكور.

أما الملك حسين فمع أنه أضعف من ابن السعود من الوجهة العسكرية، فهو

ولا شك حامي البلاد المقدسة، فمن مصلحة بريطانية أن تحافظ على ولائه،

وخصوصًا للعقيدة التي أظهرها للملأ تجاه ما قرر الحلفاء بشأن المقاطعات العربية

إن هو لم يذعن لقرار الحلفاء الجديد.

والآن فلا جدال أنه سيكون ثورة فتن وقلاقل في الحجاز ينتشر منها شرر

يشعل نيران ثورات في المناطق العربية التي تحت الحماية، ويعتقد العالم الإسلامي

أن لندن هي التي خلقته من العدم، فلذا تكون بريطانية العظمى هي الملومة، بل

المسؤولة إن أصبحت حالة الحجاج أسوأ مما كانت يوم كان بيد الأتراك عصا

السيادة في البلاد العربية.

وأما الشروط التي عرضت على الملك حسين مقابل ضمان هذه التقدمة

فتتخلص فيما يلي:

1-

أن يصادق على معاهدة فرسايل ويصادق على المعاهدة التركية، ويوقعها.

2-

أن يعترف بالمعاهدات البريطانية مع ابن السعود والإدريسي، ويحترمها،

ويمتنع من عمل كل ما يمس حقوق المذكورين، كما أنه يتعهد بأن لا يعتدي

عليهما.

3-

أن يحسن حالة الحج، وخصوصًا أن يحافظ على الأمن العام، ويحترم

حقوق الحجاج، ويعتني اعتناءً خاصًّا بالأمور الصحية، ويعيد تأسيس المستشفيات

في جدة، كما أنه يتعهد بتحسين موارد المياه.

4-

أن يعترف بحقوق الرعايا الإنكليز في الحجاز، ويحافظ على مصالحهم.

5-

أن يرحب بقنصل إنكليزي ووكيل في جدة، وإن أبى ذلك فيرحب على

الأقل بوكيل بريطاني مسلم.

6-

أن يطهر البلاد المقدسة من الذين يسعون ضد المصالح الإنكليزية،

وينشرون الدعوة للجامعة الإسلامية (Infrique Pan-lslamic) .

7-

أن يمنع عائلة الشرفاء من الإتيان بأية حركة تهدد مصالح الفرنسيين، أو

بكلمة أخرى: أن يكبح جماح أتباعه من القبائل التى تقطن سورية عن القيام بأية

مظاهرة تمس مصالح البريطانيين ومصالح حلفائهم.

وكان المتوقع أن إنشاء حكومتي العراق وشرقي الأردن سوف ينال استحسان

الملك حسين، ويغريه بقبول نصائح البريطانيين كما فعل سابقًا.

ولكن الواقع ونفس الأمر كان خلاف ذلك، فلذا أنقصت التقدمة المالية حين

رجعت المياه إلى مجاريها، وتوافد الحجاج إلى البلاد المقدسة من كل فج عميق،

غير أن هذا لم يحجز الحجاز عن أن يقع في هاوية الإفلاس مرة أخرى.

وأما الإدريسي فكان أول حاكم عربي انضم إلى بريطانية العظمى أثناء

الحرب العالمية الكبرى، وبمعاهدة سنة 1917 تعهدت له بريطانية بمده بكل ما

يلزمه من عدد حربية، وأسلحة نارية أثناء الحرب وبعدها، وكذلك تعهدت له بأن

تؤويه إلى بلادها، وتحميه إن حدث له أمر يضطره إلى الجلاء عن وطنه، بل

تعهدت له أيضا أن تبذل جهدها لإرجاعه إلى مركزه الأول دون أن تدخل في أحكام

بلاده.

ومقابل هذه الضمانات ضمن الإدريسي للدولة حليفته امتيازات في بلاده،

وهكذا استطاعت بريطانية أن تمنع تدخل غيرها من الدول في بلاد عسير.

وكان الإدريسي على وفاق تام مع ابن السعود، مع أنه كانت هناك أمور

كادت تقطع حبل المودة بينهما، لولا أن تداركاها بحكمة عجيبة.

وفي ذلك الوقت كان الإدريسي عدو إمام صنعاء وخصمه الألد، وإمام صنعاء

هذا هو أمير يماني كان خاضعًا للواء التركي، ولكنه في هذه الآونة أعلن انفصاله عن

الباب العالي، واستقلاله عن كل يد أجنبية، فأخذت الأيدي البريطانية تسعى لتكسب

وده، ولكن غناه وقف عثرة في سبيل إغرائه بالمال.

غير أن الدسائس الإنكليزية لم تقف عند حدها، بل أخذت تقدم له مبلغ ألفي

ليرا إنكليزية في الشهر، إلا أن هذه الأموال لم تؤثر إلا بعض التأثير، ولم تأخذ من

نفس الإمام ما أخذت من نفس ابن السعود.

ولما تيقنت الأيدي البريطانية من ثبات الإمام على عقيدته نحو الأمم الأجنبية

رأت أن محافظتها على ولاء الإدريسي هي أقوى العوامل التي يمكنها الحصول

عليها لنشر سياستها في أنحاء الجزيرة؛ ولهذا قررت دفع ألف ليرا إنكليزية شهرية

للإدريسي لتعزز مركزه المالي على شرط محافظته على الولاء لإنكلترا، وعلى

شرط أن لا يضمن امتيازات في بلاده لغيرها من الدول.

نعم إن حسينًا نجح في تمثيل دوره لمدة ليست بالقليلة، وكان للنصائح

الإنكليزية، والأموال البريطانية اليد الطولى في رفع مستوى شهرته، ولكن مع

الأسف أقول: إن تلك الشهرة لم تك إلا طائفية، فهو لم يكتف بأن حسب نفسه

رأس الأمة العربية، وخليفة المسلمين فقط، بل تعدى ذلك إلى أن زعم أنه أكبر يد

عاملة في العالم الإسلامي أجمع، وقد جرب أن يجعل الناس يعتقدون بأنه يحكم

بحق إلهي لا يستطيع غير العزيز الحكيم أن يسلبه إياه، ولم يكن بُعْدُ نظر اللجنة

في شأن الحجاج المسلمين إلا ليزيد التعاسة شقاء، فهم وكلوا أمرهم إلى الحسين،

وتركوا إليه أمر الاهتمام بإصلاح شؤونهم، ويحزنني أن أقول: إنه هو وحكومته

تصرفوا في حجاج بيت الله الحرام من المسلمين كما يتصرف المرء بأملاكه، بل

إن الملك حسينًا نفسه عد الأماكن الإسلامية المقدسة ملكه الموروث عن آبائه وأجداده،

فهو مطلق التصرف فيه، وليس على وجه الأرض من ينازعه.

ولما تواردت التقارير التي تنذر بسوء طالع الحجاج المسلمين على رؤساء

الوزارات الأوربية من وكلائهم في جدة؛ اهتم هؤلاء الوكلاء بهذا الأمر، وأخذوا

يسعون لتسحين الأحوال متحدين.

ورسائل المستر بولارد المعتمد السياسي البريطاني في جدة مثلت شعور كل

الدول الأوربية تجاه معاملة الملك للحجاج - إذا استثنينا حكومة السوفيت الروسية

التي كان لها معتمد بخاري مسلم في مكة، وهذا كان يتخابر مع دولته رأسًا - ولم

تكن معاملة الملك حسين للبلاد الإسلامية التي تجاوره أحسن من معاملته للحجاج،

فكان يتغطرس عليهم، ويحتقرهم معتمدًا على مركزه، مُدِلاًّ بلقب: حامي بيت الله

الحرام، متكلاً على أمواله الوافرة، ويقال: إن الملك حسينًا جمع من الضرائب ما

ينيف على مليون ليرا ذهبية، هذا عدا الأراضي التي على الساحل الأفريقي بالبحر

الأحمر.

ولذا أخذ بغضه لفرنسا ولنجد يزداد شيئًا فشيئًا، وكان من حين إلى آخر

يسرد على أعوانه قصة إخراج ابنه فيصل من الشام، وينهي القصة بقوله: إن

هذه عداوة تاريخية لا أنساها، ولن أنسى اليوم الذي احتل فيه جنود الجنرال غورو

عاصمة ولدي.

وأما موقفه تجاه ابن السعود فكان موقف امرئ يغار على مصالح العراق

وشرقي الأردن لمآرب في نفسه؛ ولأن ولديه كانا ولا يزالان في هذين القطرين،

ولقد أبدى الملك حسين عاطفة شريفة نحو فلسطين.

بينا نرى الملك حسينًا على هذه الحالة نرى أن قدم ابن السعود أصبحت تزداد

رسوخًا يومًا بعد يوم، فأسس في البلاد أنظمة لجباية الضرائب، وساعده في توطيد

أحواله المالية مستشارون بعضهم إنكليز، والبعض الآخر فرنسيون [2] وكان جراب

دراهم السلطان هو خزينة الأمة النجدية - بخلاف الملك الهاشمي - وكان ابن السعود

يسير بخطى واسعة نحو إدخال الإصلاحات، متحاشيًا في ذلك كل ما من شأنه أن

يمس المذهب الوهابي خيفة أن يثور عليه الرأي العام، فهذه الإصلاحات، وسوء

سمعة الملك حسين اشتغلت جنبًا إلى جنب في بث الدعوة لابن السعود في البلاد

الإسلامية، ولم يبق له من المعارضين إلا النزر القليل من سكان البلاد الإسلامية

البعيدة.

ولما أخذ عدد الوهابيين يزداد؛ شعر حماة البلاد المجاورة من الأوربيين

بالخطر المحدق، وخافوا انتشار سطوة ابن السعود، وخوفًا من أن تسري الدعوة

الوهابية إلى جوف سورية وفلسطين؛ اتخذت التدابير التي من شأنها منع انتشار

الدعوة الوهابية، وحظر على الوهابيين دخول هذه الأقطار [3] .

ولا شك أن أحد العوامل التي قضت على آمال الهاشميين في البلاد العربية

كان احتلال الوهابيين للبلدين الإسلاميين المقدسين، وهما: مكة المكرمة والمدينة

المنورة، وعدا هذا، فإن سقوط هذين البلدين في أيدي القوات الوهابية فتح المجال

لابن السعود ليسعى في تحسين أحوال الحجاج، والبت في أمر الخلافة - فدعا إلى

مؤتمر إسلامي عام - ولفت نظر ابن السعود أمور داخلية كثيرة لم يكن ملك الحجاز

السابق ليأبه لها، ولم يبق لدى ابن السعود وقت يصرفه للاهتمام بتوسيع منطقته

إلى ما وراء الصحراء العربية.

زد على هذا أن السعي في ترميم ما خربته الحرب النجدية الحجازية منع

الوهابيين من الانشغال بإشعال نار أية حرب مع جيرانهم.

إن هذا التاريخ هو ما سجله مؤرخو العرب أنفسهم عن أنفسهم، ولم يك أي

مجال للأيدي الأوروبية للتلاعب فيه، وما هو إلا تاريخ عداوة بين أشد القبائل

العربية تأثيرًا.

وقصارى القول: إن تأثير إحدى هذه القبائل انتشر انتشارًا كبيرًا، ولكن لم

تمض مدة زهيدة إلا وقد انعكست القضية، وأخذت ثقة الملايين من المسلمين

تضعف، وهذا لا يستلزم أن لا علاقة لإنكلترا في وضع هذه القبيلة، وإعلاء شأن

الأخرى، فهي التي تظاهرت بإعلان حيادها احترامًا لمعاهدتها مع الطرفين،

وكانت تختلس النظر من وراء حجاب متغاضيةً عما لا يمس حقوقها، وتاركة

الأمور تأخذ مجراها الطبيعي في البلاد العربية، وسرعان ما أوحت إلى الملك

حسين أن يغادر البلاد العربية حينما تيقنت أن لا تأثير بإقباله في العالم العربي

والإسلامي على السواء.

واستنادًا على ما تقدم، ليست المعاهدات الحديثة بين إنكلترا وابن السعود إلا

صدى صوت لم يكن بد من سماعه، ونتيجة درس تعلمه من له علاقة بالأمر في

المدرسة الإنكليزية الحجازية خلال تسع سنوات مررن.

فإن إنكلترا عاضدت الفئة الغالبة، وهي غير غافلة عن مصالحها، ولا شك

أننا سنرى من نتائجها: إما صلاح الخطط التي يتبعها الآن ابن السعود، أو فسادها.

وعما قريب سوف نرى الحد الذي تنتهي إليه إصلاحاته، ولكن ليس هنالك

مجال للشك في شرف مقصد ابن السعود، وحسن نيته نحو العرب.

هذا إن تذكرنا أننا إنما نبحث في شأن بلاد - بل عالم - لم يحلم أحد بأنه رأى

في صفحات تاريخه روح اللاحزبية يظهرها للملأ حكامه.

ولم تعد بعد الآن مسألة الجزيرة العربية، والأماكن المقدسة مسألة تهم الدول

الأوروبية فقط، بل إنها أصبحت مسألة هي مدار البحث الإسلامي أجمع، ولا شك

أن إنكلترا التي ترفرف رايتها فوق رءوس القسم الأكبر من الذين يعتنقون الديانة

الإسلامية هي أول من يهمه هذا الأمر، كما تظهر لرعاياها من المسلمين اهتمامها

بشؤونهم، فهي لا تتخلى بعد اليوم عن الجزيرة العربية أيًّا كان حكامها.

وأما الدول الأوربية الأخرى بما فيها إيطاليا التي لها مصالح كثيرة على

الساحل الأفريقي المجاور للبلاد العربية - فلديها من القلاقل في مستعمراتها ما

يردعها عن أن تجازف بالخوض في البحث في شئون غير بلادها، أو بطلب

الاستيلاء على مستعمرات جديدة.

فأمل إنكلترا وطيد بأن نفوذها سينتشر يومًا ما في كل أنحاء البلاد العربية؛

وذلك لأن الدول الأوربية الأخرى لا تنازعها هذا، ولأنها تخلق مشاغل لأتباعها من

المسلمين؛ فتجعلهم بذلك يغفلون عما تنويه للبلاد العربية التي فيها قبلتهم.

...

...

...

جامعة بيروت الأمريكية

...

...

...

تعريب محمد يونس الحسيني

...

...

... عن مجلة (affairs Foreign)

(المنار)

هذه المقالة من أهم ما كتب أحرار الإنكليز في المسألة العربية،

والشؤون الإسلامية تحقيقاً وتمحيضًا للتاريخ، وإنما كتبت لإنارة الرأي العام

الإنكليزي، لا الرأي العام العربي أو الإسلامي، وإنما العرب والمسلمون في شغل

عن الاستفادة بهذه الحقائق بالنظريات الوهمية كنظرية شوكت علي، ومحمد علي

من ساسة الهند بإنشاء جمهورية إسلامية في الحجاز يدير نظامها أفراد ينتخبون من

جميع الأقطار الإسلامية.

ألا فليعتبر المسلمون الصادقون بما قرر صاحب هذه المقالة من قوة ابن

السعود وقومه، ووجل المستعمرين والطامعين منها، فمن عقل هذا علم أنه يجب

على العالم الإسلامي تأييد هذا الرجل بالمال والرجال، والألسنة والأقلام، فإن عقد

ألف مؤتمر، وتأليف ألف جمعية لا تعطي المسلمين من القوة والإصلاح ما سخره

الله تعالى لهذا الرجل، واستعمله فيه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة:

269) .

_________

(1)

يعني عند وضع هذا التقرير بدليل أن من شروطها عدم الاعتداء على العراق والحجاز.

(2)

هذا لم نقرأه في صحيفة، ولا سمعنا به قبل هذه المقالة، ولا يمكن أن يراد به أنه كان عنده بنجد مستشارون موظفون، بل المراد إن صح الخبر أنه استشار بنفسه أو بواسطة بعض رجاله أناسًا من هؤلاء ومن غيرهم وسنبحث عن حقيقة ذلك.

(3)

ليتأمل القراء هذا وليعلموا سبب استعمال الإنكليز عبد الله بن حسين على شرق الأردن.

ص: 54

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إثبات شهر رمضان

وبحث العمل فيه وفي غيره بالحساب

ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين

يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان؛

لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال؛ لأجل الفطر الواجب في يوم العيد،

وكذا هلال ذي الحجة؛ لأجل وقوف عرفة، وقد سبق لنا الكتابة في هذه المسألة في

بعض المجلدات السابقة، وقد عرض لنا في هذا اليوم (الجمعة 30 شعبان) أن

سمعنا قبيل ذرور قرن الشمس دوي المدافع تنفجر من قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات

شهر رمضان، وكان الحاسبون من الفلكيين قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما

دون في جميع التقاويم (النتائج) لهذه السنة الهجرية من أن أول رمضان فيها ليلة

السبت 5 مارس (آذار) ؛ لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات

ونصف ساعة ودقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة

الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت، وما كان من الممكن إثبات

رمضان بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، كدأبهم في حال عدم الرؤية؛ لأن يوم

الجمعة هو اليوم الثلاثون من شعبان بحسب التقاويم، ولم يثبت خلافه بحكم شرعي،

فكان الناس موقنين بأن أول رمضان يوم السبت، وإن أعلنت الحكومة أن رجال

القضاء يجتمعون ليلة الجمعة في المحكمة الشرعية لأجل سماع شهادة من عساه

يشهد أنه رأى الهلال كعادتهم.

وقد تساءلنا كيف كان إثبات الشهر؟ فعلمنا أن برقية جاءت من العريش بأن

قاضيه الشرعي قد حكم بأن يوم الخميس (أمس) الموافق لليوم الثالث من شهر

مارس هو الثلاثون من شهر شعبان، وهذا مبني على أنه قد ثبت عنده أن أول

شعبان كان يوم الأربعاء الموافق 2 فبراير (شباط) ، وأنه صدر بذلك حكم شرعي،

وهم لا يعتدون برؤية الهلال وإثبات الشهور إلا بصدور حكم شرعي به، ولأجل ذلك

يلفقون دعوى صورية يتوسلون بها إلى هذا الحكم.

وهي طريقة مبتدعة منتقدة غرضهم منها إزالة الخلاف في إثبات الشهر،

وصيام بعض الناس، وإفطار بعض في القطر الواحد، وفي البلد الواحد أيضًا،

ولكن هذا لم يرفع الخلاف بين الأقطار البعيدة، ولا القريبة التي لا تختلف مطالع

الهلال فيها.

فما زال هذا الإثبات بهذه الطريقة يتخذ في كل محكمة شرعية من المحاكم،

فتختلف أحكامها فيه، ويتعذر إبلاغ أسبقها حكمًا، وأحقها بالتقديم إلى سائر البلاد،

فلهذا نقرأ في الجرائد كل عام أن أهل الشام صاموا يوم كذا، وأهل مصر يوم كذا،

وأهل مكة يوم كذا إلخ يتفقون تارة، ويختلفون أخرى، ولا يرجعون إلى إمام واحد

يتبعون حكمه.

وأهل القطر المصري وملحقاته هم الذين يصومون ويفطرون في يوم واحد؛

لأن محاكمهم تعمل بخبر البرق كما حدث لنا اليوم، وقد تبرم الناس بهذا الإثبات

اليوم؛ لأن جميع أهل المعرفة منهم يعتقدون أن هذا اليوم من شعبان، فإن ما أثبته

الحاسبون من اليقينيات القطعية، وهو أصح وأثبت من تحديدهم لوقت طلوع الفجر

من كل يوم الذي نعمل به في صيام كل يوم وصلاة فجره، والشهادة برؤية الهلال

إذا انحصرت في واحد أو اثنين أو ثلاثة لا تفيد إلا الظن لكثرة مايقع فيها من

الاشتباه.

وقد وقع لي في بعض السنين، وأنا في سورية أن رأيت الشمس غربت

كاسفة في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ثم شهد شاهدان ذوا عدل بعد غروبها

بساعة زمانية أنهما رأيا الهلال، فحكم القاضي الشرعي بإثبات الشهر بالرؤية،

ومن المعلوم باليقين أن رؤية الهلال كانت من المحال؛ لأنه غرب مع الشمس، فلا

يمكن أن يكون عاد ورأياه، وأنا أعتقد أن ذينك الشاهدين لم يتعمدا الكذب فهما من

أهل التقوى والعلم، ولكنهما تخيلا الهلال تخيلاً، ولأجل مثل هذا الاشتباه قال

المحققون من الفقهاء في هذه المسألة: إن الشهادة برؤية الهلال في أيام الصحو لا

تثبت إلا برؤية جمع كثير، وينبغي تقييد هذا بما إذا تراءى الهلال كثيرون كما هي

العادة، وذلك أن العبرة في الرؤية رؤية معتدل البصر، لا أمثال زرقاء اليمامة في

حدة البصر.

وأما إكمال عدة الشهر ثلاثين فهو أضعف من شهادة الآحاد برؤية الهلال؛

لأن الأشهر القمرية وإن كان بعضها 29 وبعضها 30 كما هو معروف في الحساب

ويشير إليه حديث: (الشهر هكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بالعقد إلى

عددي 30 و 29) وهو في الصحيحين.

قد يتتابع شهران منها تامين، وشهران ناقصين، والعمل بإكمال العدة في حال

عدم رؤية الهلال، مقيدة في الحديث بما إذا غم علينا الهلال.

والأصل في المسألة حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: (صوموا

لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم - وللبخاري غبي - عليكم فأكملوا عدة شعبان

ثلاثين) هذا لفظ البخاري، ولم يذكر مسلم والجمهور لفظ: شعبان، وقال بعضهم:

إنه تفسير من شيخ البخاري لا مرفوع. وفي رواية لأحمد والنسائي زيادة (وانسكوا

لها) وزيادة (فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا) وفي حديث ابن عباس

عند أحمد والنسائي وغيرهما: (فان حال بينكم وبينه سحاب؛ فأكملوا عدة شعبان،

ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ولا تَصِلُوا رمضان بيوم من شعبان) وهو حديث صحيح،

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر

رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم

عليكم فاقدروا له) ، وروي بلفظ آخر بمعناه.

فهذه الأحاديث، وما في معناها تقيد العلم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا بما

إذا غم الهلال، وغبي على الناس بأن حال دونه سحاب، ولم يكن أمس في السماء

قزعة من سحاب، دع علم أهل العلم بأن الهلال لا يمكن أن يرى.

وقد اختلف علماء السلف والخلف بما يجب عمله إذا لم ير الهلال، فقد روى

الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر راوي الحديث الأخير أنه كان إذا مضى من

شعبان 29 يومًا يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون

منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرًا، وإن حال؛ أصبح صائمًا. وروى عنه

الثوري في جامعه أنه قال: (لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه) .

وقال عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) ، ذكره البخاري

تعليقًا، ورواه أصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وغيرهم موصولاً، وهو صريح

في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو مرفوع في المعنى.

وجمهور السلف من علماء الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار على عدم

صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال، مع عدم المانع من رؤيته كالغيم والقتر،

وقد صرحت به الأحاديث الصحيحة، وكان بعضهم يصومه احتياطًا، وهو منهي

عنه في الأحاديث المتفق عليها، بل المروي بعضها عند الجماعة كلهم كما سيأتي،

فعدم رؤية الهلال في حال الصحو دليل على عدم وجوده، وفي هذه الحالة لا نؤمر

بإكمال شعبان 30 يومًا، وإنما نؤمر بذلك إذا وجد المانع من الرؤية كالغيم

والضباب.

وقال الحافظ - في شرح حديث: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) إلخ -:

وهو ظاهر في النهي عن صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم

وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى بذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ

الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة، وهو قوله:(فإن غم عليكم فاقدروا له)

فاحتمل أن يكون المراد: التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على

الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل عدم التفرقة، ويكون

الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور

اهـ.

وقد ذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي جملة الأحاديث الواردة في رؤية

الهلال، أو إكمال شعبان إذا حال دون رؤيته سحاب أو قتر، والأحاديث في النهي

عن صيام يوم الشك، أو آخر يوم من شعبان في غير الحالتين المنصوصتين آنفًا،

ثم ذكر اختلاف عمل السلف في هذه الأحوال، ومداركهم التي ظاهرها اختلاف

النصوص؛ إذ كان بعضهم يصوم آخر يوم من شعبان مع عدم تحقق إحدى الحالتين؛

لأجل الاحتياط، ولكن النهي يشمل الاحتياط كما سيأتي، ثم قال في آخر البحث:

فهذه الآثار (أي: في ترك الصوم) إن قدر أنها معارضة لتلك الآثار التي رويت

عنهم في الصوم فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظًا ومعنى، وإن قدر

أنها لا تعارض بينها، فههنا طريقان من الجمع:(أحدهما) : حملها على غير

صورة الإغمام، أو على الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم،

(والثاني) : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابًا لا وجوبًا.

وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة

النصوص وقواعد الشرع. اهـ.

وقال الحافظ في الكلام على حديث ابن عمر: (لا تصوموا حتى تروا الهلال)

إلخ من الفتح ما نصه: قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة -

وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال:

(أحدها) يجب صومه على أنه من رمضان. (ثانيها) لا يجوز فرضًا ولا نفلاً

مطلقًا، بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك

وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز عما سوى ذلك. (ثالثها) المرجع إلى

رأي الإمام في الصوم والفطر. اهـ

وذكر بعد ذلك أن عمل راوي الحديث يؤيد الأول، وقد تقدم ما ذكره عنه

وهو لا يؤيد القول الأول مطلقًا بل في حال الإغمام، والراجح في هذه الأقوال

الثاني، وأضعفها الأول.

وأما الأحاديث في النهي عن صيام آخر يوم من شعبان فأشهرها قوله صلى

الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل

كان يصوم صومًا فليصم ذلك الصوم) رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وفي

بعض ألفاظه عند بعضهم: (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم - ولا تقدموا صوم

رمضان بصوم - ولا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله) ، قال الحافظ في شرحه

للحديث من الفتح: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على

نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: (العمل على هذا عند أهل العلم،

كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ.

واعتمد الحافظ مما قيل في حكمة هذا النهي قول من قال: إن الحكم علق

بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.

أقول: فعلم مما ذكرنا أن الحكم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا مقيد بما إذا غم

الهلال، وحال دون رؤيته مانع، وفي هذه الحال يقبل في إثبات الرؤية إخبار رجل

عدل واحد؛ لاحتمال أنه لم يظهر من خلال السحاب إلا لحظة رآه فيها دون غيره،

وخلاصة القول: إن إثبات أول رمضان هذا ليس عملاً بنص حديث الرؤية، وإنما

هو عمل بقول تقليدي، يقابله قول من قال من الفقهاء بالعمل بالحساب واعتبار

اختلاف المطالع، ولنا كلمة فيه.

إن حكمة نوط الشارع أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج بالرؤية معروفة لا

تنكر، وحسنها لا يجحد، وذلك أن الإسلام دين عام للبشر، من بدو وحضر، ليس

فيه رياسة دينية تقيد العبادات برجالها، وتخضع الدهماء لإرادتهم (أو هو دين

ديمقراطي كما يقال في عرف هذا العصر) وناهيك بأنه ظهر أولاً في أمة أمية -

كما ورد في الحديث الصحيح - فمن اليسر والاستقلال الشخصي فيه، وعدم

الاختلاف أن تكون أوقات العبادات فيه مما يسهل على كل فرد من أهله أن يعرف

طرفيها بنفسه، بدون توقف على شيء من العلوم والفنون التي لا يعرفها إلا بعض

الناس في المدائن وأمصار الحضارة، أو على رياسة رجال يتحكمون في العبادة

بأهوائهم.

فأول وقت الفجر يعرف برؤية النور المستطير المنتشر من موضع طلوع

الشمس من المشرق، وبه يدخل الصائم في صيامه ويصلي الفجر، وينتهي بغروب

الشمس الذي تجب به صلاة المغرب، وينتهي وقتها بغيبة الشفق الأحمر، وكذلك

أول وقت وقتي الظهر والعصر، كل ذلك يعرف برؤية البصر، وبذلك تكون الأمة

متفقة متحدة لا تختلف مواقيت عباداتها لله تعالى، لا في حال الانفراد، ولا في

حال الاجتماع، إلا ما يكون من اختلاف الأقطار باختلاف الرؤية فيها، فليل أناس

نهار عند آخرين، وكذلك تختلف مطالع الأهلة.

***

(مباحث العمل بالحساب في مواقيت العبادة)

قال الحافظ في شرح الحديث المتفق عليه: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب،

الشهر هكذا وهكذا: يعني مرة 29 ومرة 30) من فتح الباري ما نصه: والمراد

هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا (أي: كالكتابة) إلا

النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية؛ لرفع الحرج عنهم في معاناة

حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل

ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً.

ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)

ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه: كون العدد عند الإغماء يستوي فيه

المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع عنهم ا. هـ.

ثم ذكر أن الروافض وبعض الفقهاء قالوا بالرجوع إلى أهل التسيير في ذلك،

ورده بما ورد من النهي عن علم النجوم (قال) : (لأنها حدث وتخمين ليس فيها

قطع، ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق؛ إذ لا يعرفها إلا قليل) .

وأقول: إن ما ذكره من حكمة التشريع صحيح الأصل، فالاتفاق مطلوب

شرعًا، وكون أوقات العباة منوطة بما يعرفه كل الناس، والحساب الفلكي لا يعرفه

إلا قليل منهم صحيح أيضًا، ولكن المسلمين على زعمهم أنهم يعملون بنصوص هذه

الأحاديث مختلفون غير متفقين، فهم في حال الصحو التام الذي يمكن أن يرى

الهلال فيه السواد الأعم من الناس إن كان موجودًا يستهلون - أي: يتراءون -

الهلال فرادى وجماعات في مواضع كثيرة من كل بلد فلا يراه أحد، وبعد انصرافهم

يشهد واحد أو اثنان برؤيته؛ فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الظاهر خطؤها بعدم رؤية

الجماهير، أو يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا بعد العلم بعدم وجود الهلال؛ إذ لو

كان موجودًا لرآه الجمهور، والعبرة برؤية معتدلي البصر؛ لأنه هو الذي يشترك

فيه الناس، ويرتفع به الخلاف، ولا عبرة برؤية حديد البصر وحده؛ لأنه أندر من

العالم بالحساب، فلا يكون مناطًا عامًّا، ولا يمكن معه اتفاق، وليس فيه قطع، ولا

ظن غالب إلا في حالة الإغمام مع عدالة الشهود، وعدم مخالفة شهاداتهم للعلم

القطعي.

وقوله: (إن ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً) إلخ،

غلط ظاهر، وما ذكر من توضيحه بالأمر بإكمال العدة دون الأمر بسؤال أهل

الحساب غير واضح، بل خلاف المتبادر من منطوق الحديث، وهو أن الأمة أمية

لا تعرف الحساب، وهذا بيان لما كانت عليه، وهو قد بعث لإخراجها منه بنص

القرآن) ، فكيف تؤمر بما لا تعرف؟ ! ومفهومه الظاهر أنه لو وجد الحاسبون

لصح الرجوع إليهم، وما احتج به من النهي عن الخوض في علم النجوم - لأنها

حدث وتخمين ليس فيها قطع، ولا ظن غالب - لا يرد على الحساب الذي نعنيه،

فإن علم النجوم الذي ذكره هو استنباط أخبار الغيب من حركاته وتنقلاتها، ومقارنة

بعضها لبعض، وليس منه حساب البروج والمنازل للشمس والقمر الثابتة باليقين

القطعي، والمشروع العمل بها في قوله تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5)، مع قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ

لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5) ، فهو صريح في إثبات هذا النوع من

الحساب، وإفادته للعلم بضبط السنين والشهور، ولهذا قال بعض العلماء - في حديث

(فإن غم عليكم فاقدروا له) -: فاقدروه بحساب المنازل. قال الحافظ: قاله العباس

بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين، وقتيبة من المحدثين. نقله

الحافظ عنهم، وذكر أن ابن عبد البر لم يعبأ بقولهم، ثم قال: ونقل ابن العربي عن

ابن سريج أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) خطاب لمن خصه الله بهذا

العلم، وأن قوله:(فأكملوا العدة) خطاب للعامة، فصار وجوب رمضان عنده

مختلف الحال، يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد،

قال: وهذا بعيد عن النبلاء اهـ.

وأقول: إنه يمكن حمل اختلاف الحالين على اختلاف الأوقات، فإذا وجد

الحاسبون عمل بقولهم؛ لأنه علم يقيني قطعي، وإن لم يوجدوا أكملت عدة الشهر

ثلاثين بشرطه؛ إذ لا يمكن الاتفاق على غيره.

ومثل ما ذكر - من الاستدلال على منع العمل بالحساب بأنه لا يفيد علمًا ولا

ظنًّا غالبًا - ما ذكره الحافظ عن ابن بطال، قال في شرحه للحديث المذكور: في

الحديث رفع لمراعاة النجوم بقانون التعديل، وإنما المعول عليه رؤية الأهلة، وقد

نهينا عن التكلف، ولا ريب أن ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.

اهـ. من الفتح.

وهو رد لا يرد على الحساب الذي نقول به؛ لأن هذا لا تكلف فيه ولا

غموض، وهو يدرك باليقين لا بالظنون، بل أقول: إن حساب التعديل الذي أشار

إليه صحيح في نفسه، وإنما التكلف في حفظ قواعده، والنظر في الزيج

والإصطرلاب، وقد استغني عن ذلك في هذا الزمان.

وقد اختلف فقهاء الشافعية في العمل بالحساب على أقوال:

(1)

يجوز ولا يجزئ عن الفرض.

(2)

يجوز ويجزئ.

(3)

يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.

(4)

يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم.

(5)

يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً.

ذكر هذه الأقوال الحافظ في الفتح، وقال بعدها: وقال الصباغ: (أما

بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا) .

(قلت) : ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في (الأشراف) :

(صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة،

وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته) .

هكذا أطلق، ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجًا

بالإجماع قبله اهـ.

وظاهر هذا القول الذي اعتمد عليه الحافظ في الإجماع، بل نص منطوقه أنه

لا يجوز إكمال عدة شعبان ثلاثين في حال الصحو مطلقًا، ولا يعتد بقول أحد يجيزه

كائنًا من كان؛ لأنه محجوج بالإجماع قبله، فإثبات رمضان هذا العام في هذا اليوم

(الجمعة) مخالف للإجماع، فهو باطل، ويجب إبطال هذا النوع من إثباته.

وأما الحساب فيظهر أنه لم يكن في عهد السلف الذين أجمعوا على ما ذكر قد

وصل إلى الدرجة المعهودة عندنا في هذا العصر من العلم اليقيني، والصورة التي

أجمعوا عليها لا يمكن أن تخالف الحساب، أعني أنه لا يمكن أن لا يرى الهلال في

مساء اليوم الذي يثبت الفلكيون الحاسبون إمكان رؤيته فيه عند انتفاء المانع، فهم

يبينون وقت ولادة الهلال - أي: مفارقته للشمس - في آخر الشهر بالساعات

والدقائق، ومنه يعلم إمكان رؤيته لمعتدلي البصر وعدم إمكانها، فإذا كان من الدقة

بحيث لا يرى لا يثبتون الشهر الشرعي بولادته، وإذا كان بحيث يرى قطعًا عند

انتفاء المانع من غيم أو قر يثبتون الشهر، فهنا يقال: إن الشهر قد ثبت برؤية

الهلال حقيقة أو حكمًا، وذلك أنهم إذا تراءوه رأوه قطعًا، فلا يكون إثبات وجوب

الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما هم يبينون للناس متى يرى،

وقد ظهر باختبار السنين صدقهم لكل من يرى تقاويمهم، ونحن في أشد الحاجة

إلى علمهم في حال وجود المانع من رؤية الهلال؛ لأنه علم يقيني كرؤية الهلال،

وإكمال عدة الشهر كثيرًا ما تكون خطأ كما تقدم بيانه، وهي تبنى في كل شهر على

رؤية هلاله، وإلا كانت مسألة حسابية، وقد تمر في بعض الأقطار التي تكثر فيها

الأمطار عدة أشهر لا يرى فيها هلال، فكيف يمكن العمل فيها بإكمال عدة الشهر

ثلاثين؟ ! ومن المعلوم حسابًا وشرعًا أن الشهر يكون تارة 30 وتارة 29.

إذا تمهد هذا فنحن نلخص الكلام في هذا الموضوع في مسائل:

(1)

إن إثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو كإثبات أوقات

الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل العلم به على البدو والحضر؛ لما

تقدم من بيان حكمة ذلك، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات، لا التعبد

برؤية الهلال، ولا بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أي: انفصال

كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المستطير من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل

الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، لا برؤية غروب

الشمس وغيبة الشفق لوقتي العشاءين، فغرض الشارع من مواقيت العبادة معرفتها،

وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال، أو إكمال العدة

بشرطه قد علله بكون الأمة في عهده كانت أمية، ومن مقاصد بعثته إخراجها من

الأمية لا إبقاؤها فيها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو

عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) ، وفي معناها ما ذكره من دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك

في سورة البقرة، ويؤخذ منه أن لعلم الكتابة والحكمة حكمًا غير حكم الأمية.

(2)

إن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها ما أمكن الاتفاق وسيلة

ومقصدًا، فإما أن تتفق كلها، أو أهل كل قطر منها على العمل بظواهر نصوص

الشرع، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت

الصلاة والصيام والحج من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند

الإمكان، وبالتقدير، أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان، وفي هذه الحالة لا يجوز

لمؤذن الفجر أن يؤذن إلا إذا رأى ضوءه معترضًا في جهة المشرق، وهو يختلف

باختلاف الليالي، ففي النصف الثاني من الشهر - ولاسيما أواخره - يرى متأخرًا

عن الوقت الذي يرى فيه ليالي النصف الأول المظلمة بقدر تأثير نور القمر في جهة

المشرق، وقد قال صلى الله عليه وسلم في رمضان: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا

واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) ، قال بعض رواته: وكان رجلاً أعمى

لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. رواه الشيخان وغيرهما. وإما أن تعمل

بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت التي جرى عليها

العمل في جميع بلاد الحضارة الإسلامية في الصلاة مع المحافظة على الاستهلال

ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته؛ للجمع بين ظاهر النص والمراد منه،

ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة عماد الدين، فهي أفضل من الصوم

وأعم، وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال يكون إثبات الشهر

بإكمال العدة ثلاثين ظنيًّا، أو دون الظني، ومن قواعد الشريعة المتفق عليها: إن

العلم مقدم على الظن، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا

يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد.

(3)

إذا قيل: إن إفادة الحساب للعمل القطعي بوجود الهلال، وإمكان

رؤيته خاص بالفلكي الحاسب، وقد اختلف العلماء في العلم به كما ذكرتم، ولا

يكون علمهم حجة على غيرهم. قلنا: إن الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد عللوه

بأنه ظن وتخمين لا يفيد علمًا ولا ظنًّا، كما نقلناه عن شرح البخاري للحافظ ابن

حجر آنفًا، والحساب المعروف في عصرنا هذا يفيد العلم القطعي كما تقدم، ويمكن

لأئمة المسلمين وأمرائهم الذين ثبت ذلك عندهم أن يصدروا حكمًا بالعمل به فيصير

حجة على الجمهور، وهذا أصح من الحكم بإثبات الشهر بإكمال عدة شعبان ثلاثين

يومًا، مع عدم رؤية الهلال ليلة الثلاثين، والسماء صحو ليس فيها قتر ولا سحاب

يمنع الرؤية، فإن هذا مخالف لنصوص الأحاديث الصحيحة كما تقدم في هذا المقال،

فهو حكم باطل.

(4)

يؤيد هذا الوجه الأخير القول الثالث للإمام أحمد فيما يجب العمل به

إذا غم على الناس رؤية الهلال وهو: أن يرجعوا إلى رأي الإمام (أي: السلطان

ولي الأمر الشرعي) في الصوم والفطر، وقد تقدم مع القولين الآخرين.

(5)

إذا تقرر لدى أولي الأمر بالعمل بالتقاويم الفلكية في مواقيت شهري

الصيام والحج كمواقيت الصلاة وصيام كل يوم من الفجر إلى الليل امتنع التفرق

والاختلاف بين المسلمين في كل قطر، أو في البلاد التي تتفق مطالعها، وهذه لا

ضرر في الاختلاف في صيامها، كما أنه لا ضرر في الاختلاف في صلواتها.

وجملة القول أننا بين أمرين: إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادات

أخذًا بظواهر النصوص وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن

حتى يرى نور الفجر الصادق مستطيرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال

والغروب إلخ، وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به؛ لأنه أقرب إلى مقصد الشارع،

وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام

تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر عند عدم المانع من

الرؤية وتوزع في العالم، فإذا زادوا عليها استهلال جماعة في كل مكان، فإن رأوه

كان ذلك نورًا على نور، وأما هذا الاختلاف وترك النصوص في جميع المواقيت

عملاً بالحساب ما عدا مسألة الهلال فلا وجه ولا دليل عليه، ولم يقل به إمام مجتهد،

بل هو من قبيل {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85)

والله أعلم وأحكم.

_________

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنباء العالم الإسلامي

(الحجاز ونجد)

هما خير الأقطار الإسلامية في هذا العصر أمانًا في الأنفس والآفاق، وعدلاً في

الأحكام، وطاعةً للإمام، وقد شرعت حكومة الحجاز السعودية في رصف الحجارة في

المسعى بين الصفا والمروة لمنع الغبار، وتسهيل فريضة السعي على الحجاج، وهو

عمل قد فضلت به هذه الحكومة جميع ما قبلها من حكومات الإسلام، وشرعت أيضًا

في نشر التعليم، فناطت إدارة المعارف العامة بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد كامل

قصاب الشهير، فأنشأ المعهد السعودي العلمي الجامع للتعليم الديني والدنيوي

وبعض اللغات الأجنبية، وناط إدارته بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد بهجت البيطار

فأحسن الاختيار، وأنشأ مدارس جديدة، وسنبين تفصيل ذلك في باب التربية

والتعليم من جزء آخر، وإدارة الصحة هنالك مجدة في عملها.

وقد انتشر صيت الإمام السعودي في بلاد الغرب، وزار ثغر جدة بعض

الأوربيين والأميركانيين، فأثنوا عليه وعلى إدارته وأحكامه الإسلامية ثناءً لم يكن

يتصوره أحد، حتى شبهه كاتب ألماني يراسل كثيرًا من صحف بلاده بالبرنس

بسمارك أعظم ساسة أوربة في عصره، مع الشهادة بالنقل عن جميع قناصل الدول

بصراحته وصدقه، وأثنى عليه وعلى حكمه الإسلامي المستر كراين سفير الولايات

المتحدة في الصين من قبل، فقال: (لو رجع النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى

الدنيا لما رأى دينه الذي جاء به من النور والهدى إلا في بلاده نجد) . وقد نشر

ثناؤهما في أشهر الجرائد المصرية.

***

(اليمن)

يسوءنا من أخبارها رسوخ أقدام الدولة الإيطالية فيها يومًا بعد يوم، بإقدام رجلها

الطماع الطماح الضاري باستعمار البلاد العربية السنيور موسوليني

الجريء، وما تلا تدخل هذه الدولة من استعداد الإمام يحيى للحرب والكفاح، ولا

مجال للحرب هنالك إلا قتال جيرانه من العرب والمسلمين، ويقال: إن موعد

زحف جيوشه على جاره السيد الإدريسي شهر شوال الآتي. أعاذ الله العرب

والمسلمين من هذه الفتنة التي أجمعوا على كراهتها، والخوف من سوء عاقبتها،

ولا نزال نستبعد على حكمة الإمام يحيى إيقاد نارها؛ لما نعهد من بصيرته وأخلاقه،

وقد شرحنا ذلك في الجزء الماضي من المنار.

***

(مصر)

يعمل برلمانها عمله بهدوء واتفاق، وتسير حكومتها سيرها في إدارة البلاد،

مؤيدة بتضامن الأحزاب، وهي تتمتع فيها باستقلال إداري تام، ولكنه مقيد

بالامتيازات الأجنبية، والمراقبة البريطانية، وقد رزئت البلاد بعسرة مالية، كانت

عثرة في سبيل الغلو الفاحش في الإسراف والزينة، وانتشر وباء الإلحاد، وفساد

الأخلاق، وتهتك النساء، وفشو المسكرات والمخدرات، فهو يفتك بالأرواح

والأجساد، ويجرف ثروة البلاد، وقد أبت النيابة محاكمة داعية هذا الإلحاد

ولوازمه القاتلة الدكتور طه حسين، وأبت وزارة المعارف إخراجه من مدرسة

الجامعة، فنابتة الجامعة المصرية الجديدة خطر عظيم على مصر.

***

(العراق)

تسير حكومته كما تحب الدولة البريطانية وترضى في الظاهر، والشعب

مضطرب الباطن، وأداء فريضة الحج ممنوع إرضاءً للملك فيصل وأخيه، وتغليبًا

لأهواء متعصبي الشيعة، وقد حدثت في بغداد ثورة مدرسية فصحفية أيدها أحرار

البلاد بسبب اضطهاد وزير المعارف الشيعي لأستاذ سوري ألف كتابًا في التاريخ

يفضل به خلافة معاوية على خلافة أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه،

وذكر رأيه هذا في المدرسة للطلبة، فهاجت التلاميذ من الشيعة؛ فعزله الوزير،

وعزل سائر المدرسين السوريين، وأخرجتهم الحكومة من البلاد العراقية، وعزلت

بعض المدرسين البغداديين أيضًا، وطردت بعض الطلبة المتظاهرين لحرية العلم

على الوزارة طردًا، هكذا بلغتنا الحادثة ولم نر الكتاب المذكور.

***

(سورية)

تنتظر البلاد السورية ما عسى أن يكون من دراسة المندوب السامي الأخير

(موسيو بونسو) لأحوالها، وسماعه لآراء كبرائها وأحزابها، وزعماء الثورة

ينتظرون مع الأمة آخر أمل لهم في وحدة البلاد وحريتها واستقلالها؛ فلذلك هدأت

الثورة ، ولكن لم تنطفئ جذوتها.

***

(فلسطين)

أسوأ ما يسوء من حوادثها تخاذل المسلمين بعد اتحاد كان مثار الإعجاب،

ومضيّ المستعمرين في عملهم بمنتهى النجاح، ودخول الصهيونيين لمأربهم الأسمى

من كل باب، وقيام الأمير عبد الله (الحسين علي) بخدمته لمستعمليه على شرق

الأردن بمنتهى الاجتهاد، فقد قضى على استقلالها، وجعلها ملحقة بفلسطين في

انتدابها، واقتطع بالتواطؤ مع أخيه (علي) الذي كان مملَّكًا في جدة قطعة من أثمن

أرض الحجاز المقدسة، فألصقها بها، ومكن بها الأجانب مقاتلها، بل مقاتل الحجاز

أيضًا، وألقى الشقاق بين أعرابها وبين جيرانهم من أهل نجد والحجاز إلخ " وكل

الصيد في جوف الفرا ".

***

(جاوه)

مسلمو جاوه يسيرون في نشر العلم والإصلاح في بلادهم سيرًا حسنًا ، ولم

تؤثر في بلادهم دعاية الرفض والشقاق شيئًا، ولكن حدث في بلادهم ثورة بلشفية لم

تكن منتظرة منهم؛ لأن هداية الإسلام أقوى من نزعات التفرنج فيهم، وقد نكلت

حكومتهم الهولندية بكثير من رجال الثورة والمتهمين بها، فنحن ننصح لرجال الدين

أن يبينوا للشعب ما بين البلشفية والإسلام من الخلاف والتباين، وننصح للحكومة

الهولندية أن تكف من غلواء دعاة النصرانية في هذه البلاد ، فإنه لا شيء يبغضها إلى

المسلمين ويعدهم لقبول الثورات البلشفية ، وغيرها من الفتن إلا الطعن في دينهم ،

واضطهادهم فيه.

وليعلم أحرار هذه الأمة أن نقل شعب مسلم من أفق التوحيد إلى حظيرة

التثليث غاية لا تدرك، وأكبر ما فعله دعاة النصرانية في البلاد الإسلامية تشكيك

بعض المسلمين في دينهم ، وفي كل دين بالأولى، ومتى ضاع دين المسلم صار

قابلاً لجميع الآراء والأفكار العصرية، التي هي أشد خطرًا على الدول الاستعمارية

بما حدث في الشرق من اليقظة العامة والجرأة التامة.

***

(الهند)

كان مسلمو الهند في السنين التي تلت الحرب أحسن حالاً مما كانوا قبلها في

اتفاقهم مع الوثنيين من أهل وطنهم على الحكومة الإنكليزية، كما كانوا أحسن حالاً

في شؤونهم الإسلامية الخاصة بهم، فساء الحالان كلاهما في هذا العام، واشتد الشقاق

والخصام، ومما ينتقد على أهل الهند في مسألتهم الوطنية أن أكبر مثار للشقاق بين

المسلمين والهندوس هو إصرار المسلمين على ذبح البقر على مرأى من الهندوس

وأكلها، ومرور هؤلاء بمعازفهم على مساجد أولئك للتهويش عليهم في أثناء

صلواتهم، ولو ترك كل من الفريقين ما يسوء الآخر من هذين الأمرين لم يكن آثمًا

في حكم دينه، والأولى بالإثم من يعمل عملاً مباحًا في الدين وهو يعلم أنه يفضي إلى

شقاق وقتال تسفك فيه الدماء ، إن الله تعالى أحل للمسلمين أكل البقر ، ولم يفرضه

عليهم، وإن أكثر المسلمين الذين عرفنا بلادهم لا يأكلون لحم البقر ، ولا يحرمونه.

وأما الشقاق بين المسلمين أنفسهم ، فقد بدأ بإثارته غلاة التعصب من الشيعة ،

واستخدموا جمعية خدام الحرمين في (لكهنو) ، ولكن تأثير هؤلاء بدعاية ملكي

مكة الشريف حسين وولده الشريف علي كان ككيد الشيطان ضعيفًا، فنفخ في ناره

الزعيمان السياسيان شوكت علي ومحمد علي بتحولهما عن سياستهما السابقة في

تأييد ابن السعود إلى سياسة الإسراف والإفراط في عداوته؛ لأنه لم ينفذ لهما رأيهما

في جعل حكومة الحجاز جمهورية بالشكل الذي يقترحانه، وهو ما لا يوافقهما عليه

العالم الإسلامي ، وإنما يوافقهم عليه الشيعة وبعض المقلدين لهما من عوام الهنود،

وسنبين ذلك بالتفصيل في رحلتنا الحجازية إن شاء الله تعالى.

ونقول هنا: إنه لا يوجد شيء أضر على الأمم والشعوب من الخلاف

والشقاق، فإن فرضنا أن رأي الزعيمين الكبيرين حسن في نفسه، فإن مساوي

الوسيلة التي يتوسلان بها إليه تزيد على حسنه أضعافًا كثيرة، وهذه المساوي دينية

وسياسية، من أقبحها تجديد النزاع والتباغض بين أهل السنة والشيعة بعد أن خبت

نارهما بسعي العقلاء المصلحين، بدعوة حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني

ومريديه من الفريقين - ولعلنا أشدهم اجتهادًا في ذلك - ومنها الدعوة إلى ترك أداء

فريضة الحج ما دام ابن سعود مستوليًا على الحجاز، ومن استحل هذا يرتد عن

الإسلام بإجماع أهل السنة والشيعة ، وقد كان من مفاسد هذا الشقاق سعي بعض

الهنود لدى الدولة البريطانية بقتال ابن السعود في حرم الله ورسوله ، وإخراجها إياه

منه.

وزعيم هذه الجناية على الإسلام والمسلمين زعيم الشيعة محمد علي راجا

محمود آباد - فهل يجهل أجهل مسلم في الدنيا أن خصوم ابن السعود أعدى أعداء

الإسلام؟ ؟

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

مجلات جديدة

(لغة العرب)

(مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية - بيد الآباء الكرمليين المرسلين. صاحب

امتيازها الأب أنستانس ماري الكرملي) .

أنشئت هذه المجلة ببغداد سنة 1329 الموافقة سنة 1911، وصدر الجزء

الأول في منتصف هذه السنة الميلادية ، وقرظناها في الجزء الثامن من المجلد

الرابع عشر ، واستمرت ثلاث سنين ، ثم حجبت في سنة 1914 ميلادية بسبب

الحرب العظمى ونكباتها ، وقد استؤنف إصدارها في منتصف السنة الماضية

(1926)

، وهي تصدر في بغداد كل شهر (وبدل اشتراكها في بغداد 12 ربية

(هندية) ، وفي الديار العربية اللسان 13 ربية، وفي الديار الأجنبية 15 ربية

تدفع كلها سلفًا) ، فعسى أن تلقى في جميع البلاد العربية ، وعند أهل العلم والأدب

العربي في كل قطر ما تستحقه من الرواج، ويكافئ عناية صاحب امتيازها المدقق

بهذه اللغة الجليلة.

***

(الجامعة)

مجلة علمية تاريخية فلسفية أدبية تصدر في بغداد من قبل المدرسة العالية

التي أنشئت في ضواحي بغداد باسم (جامعة آل البيت) ، وفي طرتها أنها

مختصة بمحاضرات الأساتذة ، ومقالات المنتمين إلى الجامعة، وأنه يقوم بطبعها

طلبة الجامعة، وأنها تصدر في الشهر مرة أو مرتين، وأن بدل الاشتراك فيها

عن اثني عشر عددًا 15 ربية (هندية) ، وقد صدر العدد الأول منها في 30 شعبان

سنة 1344 الموافق 15 آذار (مارس) سنة 1926 ، وصفحاته 96 من القطع

الكامل ، وصدر العدد الثاني في 5 صفر سنة 1345 الموافق 15 آب (أغسطس) ،

ولم نطلع على غير هذين العددين.

جامعة آل البيت هذه أثر للملك فيصل يحفظه له التاريخ ، فهو الذي اقترحها ،

وينفذ اقتراحه بالتدريج ، وسنتكلم عنها في فرصة أخرى بعد الوقوف على ما يجب

من شؤونها ، وفي المجلة جل المباحث العلمية منه ، وإن لنا لعودة إليه إن شاء الله

تعالى.

***

(الوحي)

مجلة شهرية تبحث في الأدب والدين لمنشئيها: محمود عثمان، وزاكي

عثمان تصدر في مدينة (حماه) ، وقيمة اشتراكها في حماه وسورية 40 قرشًا

ذهبًا ، وفي بقية الأقطار 30 قرشًا مصريًّا ، ويحسم ربع القيمة لمعلمي المدارس

وتلاميذها ، والجزء منها مؤلف أربع كراريس (ملازم) من القطع الوسط (أي: 32

صفحة) .

***

(مرآة المحمدية)

مجلة اجتماعية أخلاقية تصدر مرة في كل شهر أصدرها مؤلفات الكتب

للجمعية المحمدية في (جكجاكرتا - جاوه) باللغة العربية في هذا العام ، فصدر

العدد الأول منها في عاشر ربيع الأول منه ، ومحررها السيد (محمد علي قدس)

ومديرها المالي السي (محمد أسلم بن زين الدين) ، وهي ترسل لكل من يطلبها

مجانًا؛ لأن اشتراكها على أريحية المحسنين ، فبارك الله بمحسني الجاويين.

وأما الجمعية المحمدية نفسها فقد أُلِّفت منذ بضع عشرة سنة بإرشاد داعية

الإصلاح الحاج أحمد دحلان - رحمه الله تعالى - ونجحت نجاحًا عظيمًا، ولها في

مركزها العام مكتبة مفتوحة للمطالعين فيها المختارات النافعة من المطبوعات

العربية والجاوية ، وقد أنشأت جماعة النساء المنتسبات إلى الجمعية مسجدًا خاصًّا

بهن يصلين فيه الصلوات ، وللجمعية أيضًا فرقة كشافة تتولى تربيتها على الأساليب

الحديثة زادها الله نجاحًا وتوفيقًا.

***

(التمدن الإسلامي)

مجلة تبحث في الدين والأدب وشؤون الاجتماع، شعارها: {إِنَّ اللَّهَ لَا

يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ، أنشأها في طرابلس الشام

كل من عبد الحليم بك مراد صاحب الامتياز بها والمدير المسؤول عنها ، وعبد الله

أفندي الشامي رئيس تحريرها ، وهي تصدر في كل شهر قمري مرتين ، كل جزء

منها عشرون صفحة كبيرة ، وقيمة الاشتراك فيها مدة سنة كاملة ثلاثون قرشًا سوريًّا

ذهبًا في سورية، وخمسون قرشًا في خارجها ، وقد رأينا فيما صدر منها مقالات في

أهم المسائل الإسلامية التي تهم مسلمي هذا العصر لعلماء طرابلس وأدبائها، تبشر

بإمدادهم إياها ، وعنايتهم بها، فنتمنى لها سعة الانتشار والتوفيق.

***

(الكشاف)

مجلة علمية أدبية مصورة غايتها: الاجتماعي عن طريق التربية والتهذيب ،

يصدرها في بيروت مقر الكشاف العام. مديرها المسئول محمود أفندي أحمد عيتاني،

ومدير شؤونها بهاء الدين أفندي الطباع، واشتراكها السنوي في البلاد السورية 75

قرشًا ذهبيًّا ، وفي الخارج عشرون شلنًا (جنيه إنكليزي) ، وللكشافة في سورية 60

قرشًا ، وفي الخارج 17 شلنًا ، وقد صدر الجزء الأول منها في رجب الماضي في 64

صفحة حافلة بالفوائد. والرجاء في ثباتها ، والانتفاع بها قوي بهمة الكشافة ،

واستعداد الشعب.

***

(اللطائف العصرية)

مجلة علمية أدبية روائية فكاهية تصدر في بيروت مرتين في الشهر-

لصاحبها عبد الرحمن أفندي عكاوي مديرها المسؤول ، وعزت أفندي الطيان ،

واشتراكها السنوي 40 قرشًا ذهبًا في سورية ولبنان ، وفي الخارج 75 قرشًا ، أو

ما يعادلها قروشًا سورية ، مع خصم 15 بالمائة لطلبة المدارس ومعلميها.

كان صدر منها بضعة أجزاء ، ثم حجبت عن قرائها ، ثم عادت إلى الظهور ،

وبين يدينا الآن الجزآن 8 و 9 ، وينتهيان بالصفحة 2889 ، وقد صدرا في جمادى

الآخرة من هذا العام.

***

(غابر الأندلس وحاضرها)

تاريخ وجيز للأستاذ محمد كرد علي أفندي رئيس المجمع العلمي في دمشق،

أودعه خلاصة تاريخية جامعة مفيدة مما طالعه في الكتب العربية ، والإفرنجية في

ذلك التاريخ العربي الذهبي في بدايته ، الناري في نهايته ، ومما أُطلِعَ عليه واستفاده

في سياحته ، وقد طبع سنة 1341 بالمطبعة الرحمانية بمصر ، وثمن النسخة منه

خمسة قروش.

***

(مجلة كلية الحقوق)

للمباحث القانونية والاقتصادية ، يصدرها في مصر جماعة من كبار رجال

القوانين ، وطلبة كلية الحقوق ، ورئيس تحريرها الأستاذ حسني عبده الشنتناوي ،

وقد صدر الجزآن الأولان منها ، وفي صدورهما مقالان لصديقنا الأستاذ الشيخ

أحمد إبراهيم مدرس الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق ، أفقه فقهاء مصر في هذا

العصر ، فهو من محرري هذه المجلة ، وهي تطبع على ورق جيد من القطع

الكامل، ومن الغريب الشاذ أن الأرقام العددية لصحائفها غير متسلسلة في أجزائها ،

بل جعل للجزء الثاني أرقامًا مستأنفة كأنه كتاب مستقل.

***

(البلاغ الجزائري)

جريدة علمية إرشادية دفاعية ، يصدرها في مدينة الجزائر مديرها وصاحب

امتيازها السيد حدوني محمد بن محيي الدين في ورقة ذات صفحتين، وهي تُنَوِّهُ

بالصوفية ، وتدافع عن مشايخ الطرق الذين قامت عليهم قيامة أهل هذا العصر من

المسلمين ، وقيمة اشتراكها في الجزائر 30 فرنكًا ، وفي بقية الأقطار 35 فرنكًا.

_________

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حكمة تعدد أزواج النبي ص

لى الله عليه وسلم

وهي الفتوى الثالثة الخاصة بنا في هذا المجلد

نشرنا في الجزء الماضي سؤالاً عن حكمة تعدد أزواج النبي صلى الله عليه

وسلم، بإمضاء الباحثة الفاضلة (بهيجة ضيا) من طنطا ، كان أجابها عنه الأستاذ

الشيخ محمود غراب وأرسلت إلينا جوابه؛ لنبين رأينا فيه، فنشرناه ووعدنا بالعود

إلى إبداء رأينا فيه بعد ما سبق لنا من بيان ذلك في المنار والتفسير فنقول:

إن ما أجاب به الأستاذ المذكور حسن ، ولكن يتوقف تحقيقه من كل وجه على

العلم بتاريخ نزول آية حصر تعدد الأزواج في أربع ، وآية تخيير الرسول صلى الله

عليه وسلم لأزواجه.

ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن التخيير كان سنة تسع من الهجرة، ولم نقف

على تاريخ نزول آية سورة النساء في التعدد، إلا أن المذكور في كتب المصاحف أن

سورة الأحزاب المشتملة على آية التخيير قد نزلت قبل سورة النساء، فإن كانت

سورة الأحزاب نزلت دفعة واحدة لكان التخيير وقع قبل تقييد التعدد بالأربع ، وقد ورد

أن غيلان بن سلمة الثقفي لما أسلم كان عنده عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه

وسلم أن يختار منهن أربعًا، وكان إسلامه عند فتح الطائف بلده سنة ثمان من

الهجرة، وروي أن قيس بن الحارث أسلم وله ثمان نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه

وسلم أن يمسك أربعًا منهن أيضًا، ولكننا لا نعرف سنة إسلامه، وكان آخر زواج له

صلى الله عليه وسلم هو زواج ميمونة في أواخر سنة سبع ، وذلك بعد نزول سورة

النساء فيما يظهر.

وقد اتفق العلماء على خصائصه صلى الله عليه وسلم ، وأن منها عدم التقييد

بالأربع ، وذهب بعضهم إلى نسخ تحريم النساء عليه بعد اختيار أزواجه التسع له،

ولكن هذا ضعيف بالرغم من ترجيح بعض المتأخرين له، والتحقيق المختار أنها

محكمة ، وأن الله تعالى حرم عليه أن يتزوج على نسائه التسع اللاتي خيرهن فاخترن

الله ورسوله ، أو أن يستبدل بهن غيرهن بالطلاق كما يباح لغيره ، وهذا قول ابن

عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن البصري وابن سيرين وأبي بكر بن

عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير. قاله في فتح البيان ورجح

غيره.

ومن أدلة الأول ما رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي

حاتم ، عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ

أَزْوَاجٍ} (الأحزاب: 52) قال: (ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل، وقد كان

ينكح بعدما نزلت هذه الآية ما شاء) قال: (ونزلت وتحته تسع نسوة ، ثم تزوج بعد

أم حبيبة رضي الله عنها بنت أبي سفيان ، وجويرية بنت الحارث. اهـ.

وأقول: إن هذا غلط ، والرواية معلقة فيما يظهر؛ لأن التخيير كان سنة تسع

من الهجرة كما تقدم آنفًا، وكان تزوجه بجويرية بنت الحارث سنة خمس وبأم حبيبة

سنة ست ، وقيل سبع ، وهما من التسع اللاتي خيرهن كما رواه ابن جرير وابن

المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن قالا: (وكان تحته تسع نسوة: خمس من

قريش عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة

بنت أبي أمية ، وأما الأربع الباقيات فهي: صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت

الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجورية بنت الحارث من بني

المصطلق (قالا أو قال قتادة) : وبدأ بعائشة ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة

رؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتابعن كلهن على ذلك، فلما

خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة شكرهن الله على ذلك أن قال: {لَا يَحِلُّ

لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب:

52) فقصره الله عليهن وهن القسم اللاتي اخترن الله ورسوله. اهـ.

وخبر التخيير والبدء بعائشة في الصحاح، وذكره البخاري في عدة مواضع.

وأما الشق الثاني من سؤال الباحثة الفاضلة (بهيجة ضيا) وهو السبب ، أو

الحكمة في تزوجه صلى الله عليه وسلم بغير السيدة زينب بنت جحش المعروف سبب

زواجها بالنص ، وهو ما لم يقل فيه الشيخ محمود الغراب شيئًا ، فقد سبق لنا بيانه في

المجلد الخامس من المنار في تفسير آية النساء، من جزء التفسير الرابع ، فنعيده مع

زيادة في الفائدة ، فنقول: إن أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة هي

سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية، وأمها الشموس بنت قيس

بن زيد الأنصارية من بني عدي ابن النجار، وهي من المؤمنات السابقات إلى الإيمان

المهاجرات الهاجرات لأهاليهم خوف الفتنة في دينها، توفي زوجها، وهو ابن عمها

بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، ولو رجعت إلى أهلها لعذبوها ليفتنوها عن

الإسلام كغيرها ، فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها ، وتزوج بها في مكة عام

الهجرة، وفي هذا الاختيار تأليف لبني عبد شمس أعدائه ، وأعداء بني هاشم كلهم من

قبله، وتشريف لبني النجار أخوال عترته الهاشمية وأكرم أنصاره، وقد هاجر على

أثر بنائه بها إلى المدينة. روى عنها ابن عباس وغيره. وفي السنة الثانية من

الهجرة تزوج بعائشة بنت أبي بكر الصديق الأكبر ، وأول من آمن به من الرجال،

وفداه بالنفس والمال، وصاحبه في الغار، ورفيقه الوحيد في الهجرة من الدار، ولم

يتزوج بِكْرًا غيرها، وكانت من أذكى البشر عقلاً، وأزكاهم نفسًا، وهي أكثر أمهات

المؤمنين وغيرهن روايةً وفقهًا في الدين.

وفي السنة الثالثة ، وقيل الثانية: تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب وزيره

الثاني بعد أبي بكر، وأعز صحبه، ومظهر دينه، وكان عمر عرضها بعد وفاة

زوجها الأول على أبي بكر رضي الله عنهما ، فعلم بذلك النبي صلى الله عليه

وسلم ، فاختارها لنفسه؛ ليساوي بين وزيريه في تشريفهما بمصاهرته، ولم يكن من

الممكن أن يكافئهما في هذه الحياة الدنيا بأكبر من هذا الشرف ، ويقابل ذلك إكرامه

لعثمان وعلي (رضي الله تعالى عنهما) بتزويجهما ببناته، وهؤلاء الأربعة أعظم

أصحابه في حياته، وخلفاؤه في إقامة دينه ونشر دعوته بعد وفاته ، روى عن حفصة

أخوها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية وكثيرون.

وفي السنة الثالثة ، وقيل الخامسة: تزوج زينب بنت جحش الأسدية ، وهي

ابنة عمته أميمة ، بعد أن زوجها بمولاه (عتيقه) زيد بن حارثة الذي كان تبناه في

الجاهلية ، فلما حرم الله التبني في الإسلام، وأبطل كل ما كان يتعلق به من أحكام،

ومن أهمها: تحريم زوجة الدعي على متبنيه كحرمتها على والده ، وكان العمل بإلغاء

هذه الأحكام شاقًّا على الأنفس ، لا يسهل على الجمهور إلا إذا بدأ به من يشرف كل

كبير وصغير بالاقتداء به ، فلا يعيره أحد ، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن

يزوج زيدًا بزينب هذه؛ لعلمه تعالى بأنهما لا يثبتان على هذه الزوجية؛ لأنها بطبعها

ونسبها تترفع عليه ، وتسيء عشرته ، ففعل ، فاشتد الشقاق بينهما ، فطلقها ، فأنزل

الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37) الآية.

ولشيخنا مقال طويل في هذه المسألة ، ولنا مقال وضحناه فيه ، وهما منشوران

في المجلد الرابع من المنار ، ومع تفسير سورة الفاتحة الذي طبع مرارًا.

وفي سنة أربع تزوج بهند أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية، وكان أبوها من

أجواد العرب المشهورين، وتزوجت ابن عمها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي وكان

من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم بعد عشرة أنفس، وهو ابن عمة رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وكان أول من هاجر إلى الحبشة،

وكانت معه، وولدت له سلمة في أثناء ذلك ، ثم عاد إلى مكة، ولما أراد الهجرة بها

إلى المدينة صدها قومها، وانتزعوها منه هي وابنها سلمة، ثم انتزع بنو عبد الأسد

آل زوجها ابنها سلمة من آلها بالقوة حتى خلعوا يده، فكانت كل يوم تخرج إلى الأبطح

تبكي، حتى شفع فيها شافع من قومها، فأعطوها ولدها، فرحَّلت بعيرًا، ووضعت

ابنها في حجرها، وهاجرت عليه؛ فكانت أول امرأة هاجرت إلى الحبشة، ثم كانت

أول ظعينة هاجرت إلى المدينة ، وكانت تجل زوجها أيما إجلال، حتى إن أبا بكر

وعمر خطباها بعد وفاته من جرح أصابه في غزوة أحد، فلم تقبل، وعزاها النبي

صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (سلي الله بأن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا)

فقالت: ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟ فلم ير لها - صلوات الله تعالى عليه وعلى

آله - عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها ترضاه غيره، ولما خطبها لنفسه اعتذرت بأنها

مسنة، وأم أيتام، وذات غيرة، فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سنًّا،

وبأن الغيرة يذهبها الله تعالى، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله ، فالنسب الشريف،

والسبق إلى الإسلام، والمتانة فيه، وعلو الأخلاق، وكفالة الأيتام لمثل هذا البيت كل

منها سبب صحيح لاختيار صاحب الخلق العظيم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق لهذه

المرأة الفضلى، على أن لها فوق ذلك فضيلة أخرى هي جودة الفكر وصحة الرأي،

وحسبك من الشواهد على هذا استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في أهم ما

أحزنه، وأهمه من أمر المسلمين في مدة البعثة، وما أشارت به عليه، ذاك أن

الصحابة رضي الله عنهم كان قد ساءهم صلح الحديبية الذي عقده صلى الله عليه وسلم

مع المشركين، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط المعلومة التي تدل في ظاهرها

على أن المسلمين مغلوبون، ولم يكونوا بمغلوبين، وإنما حبه صلى الله عليه وسلم

للسلم، ولاختلاط المسلمين بالمشركين، وكان دونه خرط القتاد ، كان من أثر هذا

الاستياء أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير،

والعود إلى المدينة، فلم يمتثل أمره أحد، فلما استشارها رضي الله عنها في ذلك

وقال: (هلك الناس) هونت عليه الأمر وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق

رأسه، وجزمت بأنهم لا يلبثون أن يقتدوا به، وكذلك كان.

وروى عنها كثيرون من الرجال والنساء، فهي تلي عائشة في كثرة الرواية.

وفي سنة خمس تزوج برة بنت الحارث سيد بني المصطلق وسماها جويرية،

وكان أبوها هو وقومه قد ساعدوا المشركين على المؤمنين في غزوة أحد سنة أربع ،

ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع الجموع لقتاله؛ فخرج له ، فالتقى الجمعان

في المريسيع وهو ماء لخزاعة ، فأحاط بهم المسلمون ، وأخذوهم أسرى بعد قتل

عشرة منهم ، وكانت برة بنت سيدهم في الأسرى ، فكاتب عليها من وقعت في سهمه ،

فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم ، فتعرفت إليه بأنها بنت سيد قومها ، وذكرت

بلاياها ، واستعانته على كتابتها لتحرير نفسها فقال: (أو خير من ذلك؟ أؤدي عنك

كتابتك ، وأتزوجك) ، قالت: نعم. ففعل، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى

الله عليه وسلم. فأعتقوا جميع الأسرى والسبايا، فأسلموا كلهم، فكانت أعظم امرأة

بركة على قومها، وكان لهذا العمل أحسن التأثير في العرب كلها. وروي أن أباها

جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنتي لا يسبى مثلها، فخل سبيلها. فأمره

صلى الله عليه وسلم أن يخيرها، فسر بذلك، فخيرها؛ فاختارت الله ورسوله،

وكانت من أعبد أمهات المؤمنين، وروى عنها ابن عباس وجابر وابن عمر وعبيد بن

السباق وابن أختها الطفيل وغيرهم.

وفي سنة ست، تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية ذرية نبي الله

هارون أخي موسى عليهما السلام، كانت من بني النضير، وأسرت بعد قتل زوجها

في غزوة خيبر، فأخذها دحية في سهمه، فقال أهل الرأي من الصحابة: يا رسول

الله، إنها سيدة بني قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك. فاستحسن رأيهم ، وأبى أن

تذل هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها ، فاصطفاها ، وأعتقها ، وتزوجها، كراهة

لرق مثلها في نسبها وقومها، ووصل سببه ببني إسرائيل لعله يخفف مما كان من

عدواتهم له ، وكان بلال قد مر بها وبابنة عم لها على قتلى اليهود ، فصكت ابنة عمها

وجهها ، وحثت عليه التراب ، وهي تصيح وتبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(أنزعت الرحمة من قبلك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟) رواه ابن إسحاق.

وفي حديث الترمذي: أن صفية بلغها أن عائشة وحفصة قالتا: نحن أكرم على رسول

الله منها. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا قلت: وكيف تكونان

خيرًا مني وزوجي محمد، وأبي هارون ، وعمي موسى؟) ، روى عنها ابن أخيها ،

وموليان لها ، وعلي بن الحسين بن علي وغيرهم.

وفي سنة ست ، أو سبع ، تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموي أشد

أعدائه تأليبًا عليه وحربًا له صلى الله عليه وسلم ، وكانت أسلمت بمكة ، وهاجرت مع

زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك ، وفارقها ، فأرسل

النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار

مع هدايا نفيسة ، ولما عادت إلى المدينة بنى بها ، ولما بلغ أبا سفيان الخبر قال: هو

الفحل لا يقدح أنفه. فهو لم ينكر كفاءته صلى الله عليه وسلم ، بل افتخر به ، ولكنه

ما زال يقاتله حتى يئس بفتح مكة ، وكان من تأليفه صلى الله عليه وسلم له، أن قال

يوم الفتح: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)

روى عنها ابنتها ، وأخواها، وابن أخيها ، وابن أختها ، ومولياها ، وآخرون.

وفي أواخر سنة سبع ، تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية وكان

اسمها برة ، فسماها ميمونة ، وكان ذلك في إبان عمرة القضاء ، وهي آخر أزواجه

أمهات المؤمنين زواجًا وموتًا ، كما في بعض الروايات ، وقد قالت فيها عائشة: (أما

إنها كانت من أتقانا لله ، وأوصلنا للرحم) .

ولم أقف على سبب، ولا حكمة لتزوجه بها، ولكن ورد أن عمه العباس رغبه

فيها، وهي أخت زوجه لبابة الكبرى أم الفضل، وهو الذي عقد له عليها بإذنها.

روى عنها أبناء أخواتها، ومواليهم، وآخرون، أجلهم: ابن عباس، هذا،

وإنني قلت في أواخر الفتوى الأولى (سنة 1320) ما نصه: وجملة الحكمة في

الجواب أنه صلى الله عليه وسلم راعى المصلحة في اختيار كل زوج من أزواجه -

عليهن الرضوان - في التشريع والتأديب، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم،

وعلم اتباعه احترام النساء، وإكرام كرائمهن والعدل بينهن، وقرر الأحكام بذلك،

وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم من الأحكام ما يليق بهن مما ينبغي

أن يتعلمنه من النساء دون الرجال، ولو ترك واحدة فقط لما كانت تغني في الأمة غناء

التسع، ولو كان عليه السلام أراد بتعدد الزواج ما يريده الملوك والأمراء من التمتع

بالحلال فقط، لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات المكتهلات (منهن) كما قال

لمن اختار ثيبًا: (هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك) وفي رواية زيادة (وتضاحكها

وتضاحكك) وهو من حديث جابر في الصحيحين. اهـ.

وأذكر القارئ بأن تعدد الزوجات في ذلك العصر كان من الضروريات؛ لكثرة

القتلى من الرجال، وحاجة نسائهم إلى من يكفلهن؛ لأن أكثر أهلهن من المشركين.

_________

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مال الزكاة لإعانة المدارس الخيرية الإسلامية

(س4) من صاحب الإمضاء في بلدة الشيخ سعيد (عدن)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، المقتدى بهم رضي الله عنهم فيمن

دفع شيئًا من زكاة ماله المفروضة لإعانة مدرسة خيرية ، تعلم أولاد الفقراء العاجزين

عن أجرة تعليم القرآن والكتابة والنحو والصرف والحساب والفقه ، وغيره من

العلوم الشرعية ، هل تجزئ الدافع ، وتسقط عنه الفرضية لمشروعنا المذكور ، أم

لا؟ أفيدونا زادكم الله علمًا وهدًى.

...

...

...

السائل عبد الله بن عمر مدحج

ناظر الإدارة والمدرسة الإسلامية في بلدة الشيخ عثمان من ملحقات عدن.

(ج) الجمهور على أن الإنفاق على المدارس ليس مصارف الزكاة الثمانية،

وهنالك قول بأن قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 195) عام يشمل ما

يرضي الله تعالى من أعمال البر ، ويدخل فيه التعليم المشروع ، واختاره شيخنا

الأستاذ الإمام ، ومن يقلد الجمهور يمكنه أن يعطي ما يريد إنفاقه على تعليم أولاد

فقراء المسلمين لأوليائهم إن كانوا قاصرين لينفقوه على تعليمهم ، ولهم أنفسهم إن

كانوا راشدين ، والله أعلم وأحكم.

_________

ص: 119

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سماع الغناء والتلاوة من آلة الفونغراف

(س5) من صاحب الإمضاء في دنقلا (السودان)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة، الأستاذ الجليل، العلامة السيد محمد رشيد

رضا ، حفظه سرمدًا، وجعله منارًا للأنام ومرشدًا، وبعد: أريد أن أوجه لفضيلتكم

سؤالاً لإرشادنا بالإجابة عنه للوقوف على الحقيقة، وها هو السؤال، ونرجو نشره

في مجلتكم المنار الغراء:

ما قولكم - دام فضلكم - في الغناء بالآلة المسماة بالفونوغراف، هل هو

محرم أو مكروه؟ وإن كان، فما نوع الكراهة؟ وما حكم قراءة القرآن به؟ هل

يترتب عليها ما يترتب على القارئ من نحو سجود التلاوة، أو الموانع التي تترتب

على منع القارئ من القراءة؟ وهل يجوز استعماله إن كان لا يمنع صاحبه من

أداء الفرائض في أوقاتها كالصلاة، ونحوها مع حفظ مجلسه من استعمال المحرمات

فيه كالخمر وما شاكله، وإنما يقصد مسمعه منه ترويح النفس من عناء الأعمال،

وإدخال السرور على المستمعين له من الأصدقاء والأحباب والأهل والعشيرة؟

أفيدونا الجواب، ولكم الأجر والثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ودمتم

في حفظه تعالى.

...

...

...

... المخلص

...

...

محمود حسين الحكم طالب علم بدنقلا

(ج) سبق لنا فتوى في سماع القرآن من الفونغراف، وما يتعلق من الأحكام،

نشرت في (ج6: م 10 من المنار سنة 1325) ، ذكرت فيها أن بعض

أصحاب العمائم تجرأ على القول بإباحته مطلقًا، وأن شيخنا الأستاذ الإمام كان يتأثم

من ذلك مطلقًا، وأن الأقرب أن يكون ذلك تابعًا لقصد المستعمل للآلة، فإذا قصد

بذلك الاتعاظ والاعتبار بسماع القرآن؛ فلا وجه لحظره، وإذا قصد به التلهي،

وهو ما عليه الجماهير في كل ما يسمعونه من الفونغراف؛ فلا وجه لاستباحته،

وأخشى أن يدخل صاحبه في عداد الذين اتخذوا دينهم هزوًا ولعبًا، وذكرت بعض

الآيات في هذا المعنى، وأنه يترتب على ما ذكر كل ما يتعلق به من وجوب احترام

الألواح التي تنقش فيها آيات القرآن، وسجود التلاوة، وغير ذلك.

هذا، وإنني لا تطيب نفسي لاستعمال الفونغراف في تلاوة القرآن، ولكن

تحريمه على من يمكن أن يتعظ به ويستفيد ليس بالأمر السهل.

وأما سماع الغناء والشعر من هذه الآلة، فحكمه حكم السماع من مُغَنٍّ ليس في

غنائه فتنة، ولا تحريض على معصية، ولا شغل عن واجب، وهو في هذه الحال

التي تسألون عنها مباح، ومن العلماء من شدد في السماع، ولا سيما للمعازف

تشديدًا عظيمًا، وقد محصنا المسألة في المجلد التاسع من المنار بذكر أدلة الحظر

والإباحة كلها وترجيح الحق فيها، وهو الإباحة.

_________

ص: 120

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما قبله)

(2)

فصل

الخلاف في السفر الشرعي، وحكمه:

السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق ، ثم قد تنازع

الناس في جنس السفر وقدره ، أما جنسه فاختلفوا في نوعين:(أحدهما) حكمه ،

فمنهم من قال: (لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو) ، وهذا قول داود

وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم: وهو قول جماعة من السلف ، كما روينا

من طريق ابن أبي عدي، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ،

عن الأسود ، عن ابن مسعود ، قال:(لا يقصر الصلاة إلا حاج ، أو مجاهد) ،

وعن طاوس أنه كان يُسأَلُ عن قصر الصلاة ، فيقول: (إذا خرجنا حجاجًا ، أو

عُمَّارًا؛ صلينا ركعتين) ، وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في

حج ، أو عمرة ، أو جهاد. وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر

للمسافر ، فإن القرآن ليس فيه إلا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا ،

وهذا سفر الجهاد ، وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه

وعُمَرِه وغزواته ، فثبت جواز هذا ، والأصل في الصلاة الإتمام ، فلا تسقط إلا

حيث أسقطتها السنة.

ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة ، فلا يقصر في مباح كسفر

التجارة. وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي

يجوز فيه الفطر، وهو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله

وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، رواه عنه أنس بن مالك الكعبي،

وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد، وأيضًا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن

يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ

الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) فقد أمن الناس. فقال:

عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال:

(صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ، وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه

قصر العدد، وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها.

وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها ، وإن شئنا لم

نقبلها ، فإن قبول الصدقة لا يجب؛ ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين ، وهذا غلط ، فإن

النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا ، والأمر للإيجاب ، وكل

إحسانه إلينا صدقة علينا ، فإن لم نقبل ذلك؛ هلكنا ، وأيضًا فقد ثبت عن عمر بن

الخطاب أنه قال: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ، وقد

خاب من افترى) ، كما قال: (صلاة الجمعة ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ،

وصلاة الفطر ركعتان) ، وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن

للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين ، كما سن الجمعة والعيدين ، ولم يخص

ذلك بسفر نسك ، أو جهاد ، وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت:

(فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر) ، وهذا

يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط ، وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي

أربعًا ، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه

أربع، وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعًا ، فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله.

فإن قيل: قوله: وضع، يقتضي أنه كان واجبًا قبل هذا ، كما قال: إنه

وضع عنه الصوم ، ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط ، لكن لما

انعقد سبب الوجوب ، فأخرج المسافر من ذلك؛ سمي وضعًا لأنه كان واجبًا في

المقام ، فلما سافر وضع بالسفر ، كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية ، مع أنها

لا تجب على مسلم بحال، وأيضا فقد قال صفوان بن محرز: قلت لابن عمر:

(حدثني عن صلاة السفر)، قال:(أتخشى أن يكذب علي؟) قلت: (لا) ،

قال: (ركعتان ، من خالف السنة كفر) ، وهذا معروف ، رواه أبو التياح ، عن

مورق العجلي، عنه ، وهو مشهور في كتب الآثار ، وفي لفظ: (صلاة السفر

ركعتان، ومن خالف السنة كفر) ، وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،

فبين أن صلاة السفر ركعتان ، وأن ذلك من السنة التي من خالفها ، فاعتقد خلافها؛

فقد كفر، وهذه الأدلة دليل على أن من قال: إنه لا يقصر إلا في سفر واجب ، فقوله

ضعيف.

ومنهم من قال: لا يقصر في السفر المكروه ، ولا المحرم ، ويقصر في

المباح. وهذا أيضا رواية عن أحمد ، وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد

روايتان ، وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: لا يقصر فيه ،

وأما أبو حنيفة ، وطوائف من السلف والخلف ، فقالوا: يقصر في جنس الأسفار.

وهو قول ابن حزم وغيره، وأبو حنيفة ، وابن حزم ، وغيرهما يوجبون القصر

في كل سفر وإن كان محرمًا ، كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر

المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم.

والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعًا في جنس السفر ، ولم يخص

سفرًا من سفر ، وهذا القول هو الصحيح ، فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر ، قال

تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185) ،

كما قال في آية التيمم: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: 43) الآية ،

وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفرًا من سفر ، مع علمه بأن السفر يكون

حرامًا ومباحًا ، ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من

الواجبات ، ولو بين ذلك لنقلتها الأمة ، وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا.

وقد علق الله ورسوله أحكامًا بالسفر ، كقوله تعالى في التيمم: {وَإِن

كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: 43)، وقوله في الصوم: {وَمَن كَانَ

مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (البقرة: 185)، وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:

101) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ،

وقوله: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج ، أو ذي محرم ،

وقوله: (إن الله وضع عن المسافر الصوم ، وشطر الصلاة) ، ولم يذكر قط في

شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن

يكون الحكم معلقًا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟ بل يكون بيان

الله ورسوله متناولاً للنوعين، وهكذا في تقسيم السفر إلى: طويل وقصير، وتقسيم

الطلاق بعد الدخول إلي: بائن ورجعي، وتقسيم الأيمان إلى: يمين مكفرة،

وغير مكفرة ، وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام ،

فجعله بعض الناس نوعين: نوعًا يتعلق به ذلك الحكم ، ونوعًا لا يتعلق من غير

دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة ، لا نصًّا ولا استنباطًا.

والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم ، عمدتهم قوله تعالى في الميتة:

{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) ، وقد ذهب طائفة

من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله ، والعادي هو

العادي على المسلمين ، وهم المحاربون قطاع الطريق، قالوا: فإذا ثبت أن الميتة

لا تحل لهم ، فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره؛ أمرناه أن

يتوب ويأكل ، ولا نبيح له إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي

وأحمد ، وأما أحمد ومالك ، فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا:

ولأن السفر المحرم معصية ، والرخص للمسافر إعانة على ذلك ، فلا تجوز الإعانة

على المعصية.

وهذه حجج ضعيفة ، أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي: الذي

يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال ، والعادي: الذي يتعدى القدر الذي

يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام والنحل ، وفي المدنية، ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل ،

والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر ، فليس السفر المحرم مختص

بقطع الطريق، والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه

وسلم إمام يخرج عليه ، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرًا ، والبغاة الذين أمر

الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية

فيهم أولاً مسافرين ، بل كانوا من أهل العوالي المقيمين ، واقتتلوا بالنعال والجريد ،

فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص السفر؟ وليس فيها كل سفر محرم ،

فالمذكور في الآية لو كان كما قيل ، لم يكن مطابقًا للسفر المحرم ، فإنه قد يكون بلا

سفر ، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضًا فقوله:{غَيْرَ بَاغٍ} (البقرة:

173) حال من {اضْطُرَّ} (البقرة: 173) ، فيجب أن يكون حال اضطراره

وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد ، فإنه قال:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:

173) ، ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل ، لا عن نفس الحاجة

إليه ، فمعنى الآية: فمن اضطر؛ فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود

أنه لا يبغي في أكله ، ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان ، فالبغي ما

جنسه ظلم ، والعدوان مجاوزة القدر المباح ، كما قرن بين الإثم في قوله: {وَتَعَاوَنُوا

عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، فالإثم جنس

الشر ، والعدوان مجاوزة القدر المباح، فالبغي من جنس الإثم، قال تعالى: {وَمَا

تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14)، وقال تعالى:

{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 182) ،

فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد ،

وبغير عمد ، لكن قال كثير من المفسرين: الجنف: الخطأ ، والإثم: العمد؛ لأنه لما

خص الإثم بالذكر - وهو العمد - بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من

باب التعدي للحدود ، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ

نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) ، ونحو ذلك، ومما يشبه هذا قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا

وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (آل عمران: 147)، والإسراف: مجاوزة الحد في

المباح ، وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.

وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية ، فغلط ، لأن المسافر مأمور بأن

يصلي ركعتين ، كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم ، وإذا عدم الماء في السفر المحرم

كان عليه أن يتيمم ويصلي ، وما زاد على الركعتين ليست طاعة ، ولا مأمورًا بها أحد

من المسافرين ، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيًّا عنه ، فصار صلاة الركعتين مثل

أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن ، فهل يصليها إلا ركعتين ، وإن كان

عاصيًا بسفره ، وان كان إذا صلى وحده صلى أربعًا؟ وكذلك صومه في السفر ليس

برًّا ، ولا مأمورًا به ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (ليس من

البر الصيام في السفر) ، وصومه إذا كان مقيمًا أحب إلى الله من صيامه في سفر

محرم ، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا

اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي؟ ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عريانًا؟

فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين ، والمشروع في

حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام ، هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على

أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون:

من صلى أربعًا ، أو صام رمضان في السفر المحرم لم يجزئه ذلك ، كما لو فعل ذلك

في السفر المباح عندهم.

وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع ، وصوم رمضان، وكذلك أكل

الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر ، وسواء كانت

ضرورية بسبب مباح أو محرم ، فلو ألقى ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة

كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفرًا محرمًا ، فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى

قاعدًا، ولو قاتل قتالاً محرمًا حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعدًا، فإن قيل:

فلو قاتل قتالاً محرمًا هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل: يجب عليه أن يصلي ، ولا

يقاتل ، فإن كان لا يدع القتال المحرم ، فلا يبيح له ترك الصلاة ، بل إذا صلى صلاة

خائف كان خيرًا من ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن

فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن

خرج الوقت ، ولم يفعل ذلك، ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 121

الكاتب: مسلم غيور من مراكش

‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى

(2)

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم

لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي

مفتي الديار المصرية سابقًا [*]

ولكن هذا العمل من الجهة التي اشتمل عليها لا تمنع من ملاحظتنا على بعض

جمل ، من ملاحظة لا تمس جوهر الموضوع الذي خرج لمَّاعًا لمعان الشمس برزت

تختال بعد احتجابها أيامًا فوق سحب كثيفة ، انهملت أمطارًا وسيولاً أنطقت شاعر

البداوة أن يقول:

وحديثها كالقطر يسمعه

راعي سنين تتابعت جدبا

فأصاخ يرجو أن يكون حيًّا

ويقول من فرح هيا ربا

جاء في صفحة 13 نقلاً عن ابن خلدون: (وإذا نظرت بعين الإنصاف

عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان ، واختلاف الصحابة من بعده ،

وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة) إلخ، نقول: ونحن لا نشك ، ولا

نرتاب أبدًا في نزاهة الصحابة وحسن نيتهم ، وسلامة طويتهم ، كما هو معلوم من

ضروريات الدين ، كما نعلم وجوب محبتهم على المسلمين لقوله صلى الله عليه

وسلم: (فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) .

ولكن لا بأس أن يلاحظ المسلم الباحث الغيور أنهم رضي الله عنهم كانوا

مخطئين في السكوت ، كما أخطأ عثمان في استسلامه للثوار ، وكف جماعة من

الصحابة عن نصرته والدفاع عنه؛ لأن حق الخلافة وفائدتها غير مقصورة على

الخليفة وحده، بل الدفاع عن نصرته ، وحفظه حفظ للإسلام والمسلمين ، {وَلَوْلا

دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) .

وقد فسدت أمور المسلمين فعلاً باستسلامه ، وعدم الدفاع عنه ، ونشأت عن

ذلك فتن لا تزال آثارها ماثلة للعيان ، فكان مقتضى الشريعة أن يقوم رضي الله عنه

لحماية الخلافة ، التي هي حماية للإسلام والمسلمين ، ويقابل الثوار ، ويستنصر

عليهم بكل ما يمكن إن كانوا محاربين ، كما هو الواقع الذي أيدته الأخبار الصحيحة ،

أو يعتزل الخلافة إن كانت معهم شبهة حق ، أو عجز عن حماية بيضة الإسلام ، فهو

راع للأمة ، يجب أن ينظر لها بما فيه صلاحها، فقد أخرج البخاري في كتاب الأحكام

من صحيحه ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا

كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع ، وهو مسؤول

عن رعيته) الحديث.

فأنت ترى استسلامه رضي الله عنه كيف جر على المسلمين رزايا متسلسلة

إلى الآن لا زلنا نرزح من شدة ثقلها.

وقد دافع الإمام أبو بكر بن العربي المعافري في كتابه: (العواصم والقواصم)

عن استسلام سيدنا عثمان دفاعًا مجيدًا بقلمه السيال ، وبلاغته النادرة مستندًا في

دفاعه هو وغيره على ما جاء في الحديث الصحيح في البخاري ، وغيره بأن النبي

صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهي الشهادة ، إلخ ، ونقول:

إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالاستسلام ، بل غاية الأمر أنه بشره بالشهادة ،

ولو دافع عن نفسه ، وقاتل الثوار المحاربين ، واستشهد في قتالهم لحصلت النتيجة؛

لأنها غير متوقفة على الاستسلام ، فهو رضي الله عنه مجتهد (مخطئ) في

استسلامه.

وأما سكوت الصحابة رضي الله عنهم ، فهم مخطئون فيه أيضًا؛ لأن الله

جلت عظمته بين لنا ما نفعل في مثل هذه الأزمة في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ

مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي

تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، ثم أكد ذلك بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) ، وفي

صحيح مسلم ، عن عرفجة ، عنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أتاكم ، وأمركم

جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم ، فاقتلوه) .

فكان الواجب كما هو صريح الآية والحديث أن يدافعوا عنه بقوة السيف ، أو

بحكمة السياسة والموعظة الحسنة، ولا يساعدوه في الاستسلام؛ لأن الدفاع عنه كما

قلنا دفاع عن الإسلام والمسلمين، فظهر بذلك أنهم مخطئون في سكوتهم ، والله أعلم

بغيبه.

وإننا نحمد الله على أن المسلمين ابتدأوا يفهمون سر هذه الآية ، ويعملون

بها، فمن ذلك ما حصل من اجتماع قادة الأحزاب المؤتلفة في مصر السعديون ،

والوطنيون والدستوريون ، فلو لم يوفقوا لذلك الاتفاق المحبوب ويسقطوا الاتحاديين

أو الاحتلاليين؛ لكانت حركة مصر الناهضة ذاهبة إلى الشلل والانحلال ،

أدام الله وفاقهم وتوفيقهم.

ومن ذلك ما قيل - ولا نظنه إلا صادقًا - من اتفاق السلطان عبد العزيز بن

السعود والإمام يحيى صاحب اليمن ، فقد انشرحت الصدور لهذا الاتفاق المتين الذي

سيكون بمثابة سياج لجزيرة العرب ، حقق الله الآمال.

ومن ذلك ما شاع من تأسيس عصبة أسيوية في بلاد آسيا تضاهي عصبة

الأمم الغربية في جنيف لربط أواصر الشرقيين ، وإحياء الحضارة الآسيوية من

الوجهتين العقلية والمادية إلخ.

وفي صفحة 15 نقلاً عن ابن خلدون أيضًا: (وهكذا كان شأن الصحابة في

رفض الملك ، ونسيان عوائده حذرًا من التباسها بالباطل، فلما استحضر رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، استخلف أبا بكر على الصلاة؛ إذ هي أهم أمور الدين،

وارتضاه الناس للخلافة ، وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة، ولم يجر للملك

ذكر.. إلخ) .

(نقول) : إن قوله: (ولم يجر للملك ذكر) إلخ، إن كان المراد به الملك

الطبيعي الذي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة ، فقد كان يذكره دائمًا

بالذم والتنفير منه ، ومحاربته للملك الطبيعي المبني على القسوة معروفة في غير ما

حديث، ومنذ مكاتبته لقيصر ، وكسرى ، وغيرهما يدعوهم {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا

وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64) إلخ، وإن كان المراد به الملك السياسي المندرج في الخلافة ،

فقد جرى ذكره في أحاديث كثيرة لو امتثل المسلمون ما جاء فيها؛ لما أصيبوا

بشيء مما أصيبوا به، فقد أخرج البخاري في باب: الأمراء من قريش، عن

معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الأمر - أمر

الخلافة - في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين) ،

وأخرج في باب: الاستخلاف، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

من حديث قد جاء في آخره: (لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، فأعهد، أن

يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون) ، قال

القسطلاني: قوله: (فأعهد ، أو أوصي بالخلافة لأبي بكر) كراهة أن يقول

القائلون: الخلافة لفلان أو لفلان، أو يتمنى المتمنون الخلافة، فأعينه قطعًا للنزاع ،

وقد أراد الله أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد.

وجاءت أحاديث كثيرة في هذا الباب ، فأنت تراه كما اعتنى بالخلافة جدًّا ،

واهتم بها في حال صحته وفي مرضه ، وأوصى بالخليفة ممن يكون، وأوجب

طاعته ، وشرط فيها وفي ولايته إقامة الدين ، وهو قوله:(ما أقاموا الدين) أوصى

بذلك ، وكرر الوصاية بالخلافة في مناسبات كثيرة، وفي أحاديث شهيرة، بلغت

بمجموعها حد التواتر.

...

...

...

... من مراكش

...

...

...

... مسلم غيور

(المنار)

الظاهر أن عثمان رضي الله عنه كان يحسن الظن بالذين ثاروا عليه ، كما

أحسن الظن بعترته من بني معيط المفتونين بحب الرياسة والملك، ولذلك كان

يرى أن إقناع الثائرين بما يجب اتباعه ممكن، وكان جمهور الصحابة مخالفين له

في ظنه ورأيه ، فوقعوا في الحيرة: لا يمكنهم القتال بدون أمره؛ لما فيه من سنن

الخروج والافتيات على ولي الأمر ، وهي أم المفاسد، ولا يسهل عليهم خلعه إجابة

لمطالب الثوار؛ لأنهم مفسدون، ولأن بني أمية يقاتلون دونه، كما فعلوا في

القتال بعده لمن هو دونه ، وما فعله المصريون ألجأتهم إليه الضرورة، وليس من

العمل بالآية ، وأما الإمامان يحيى وعبد العزيز فيحبان الاتفاق دينًا وسياسة،

ولكن المفسدين من الأجانب ، والروافض ، ومفسدي الهنود يغرون الأول بقتال

الثاني، وعسى الله أن يسلمه من وسواسهم وخناسهم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لصاحب الإمضاء الرمزي.

ص: 128

الكاتب: مستر كراين

محاضرة مستر كراين

عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن

في جمعية الرابطة الشرقية [*]

لأسباب عديدة قمت في هذا الشتاء برحلة في البحر الأحمر ، وقد سبق لي أن

زرت قبل هذه المرة (جدة) ، وأعجبت كثيرًا بمناظر البحر، وإني طفت معظم

بحار العالم ، فلم أر له مثيلاً بينها، فبينما ترى فيه الزرقة القاتمة تراها تخضرّ ، ثم

تحمرّ وتميل إلى لون الذهب، وترى شاطئًا رمليًّا أصفر ، ومن ورائه سلاسل

طويلة من الجبال الوردية القفراء.

إن طراز الحياة في مواني البحر الأحمر الصغيرة لا يزال كما كان عليه منذ

قرون عديدة، ففي عرض هذا البحر تمخر السفن العظيمة بين السويس وعدن دون

أن تحدث أثرًا في هذه المواني القديمة التي ما زالت تحتفظ بعاداتها الأولى لعلاقاتها

بالحج والحجاج.

إني مولع برؤية الحياة الإسلامية القديمة التي شاهدتها في مصر والشام،

والقسطنطينية عندما أتيت هذه البلاد منذ خمسين عامًا، ولكن هذه البلاد الآن

أضاعت رونقها القديم، وتغير فيها طراز الحياة تغيرًا محسوسًا، ويقال: إن

(بخارى) أيضًا أضاعت سابق أسواقها الجميلة القديمة، ولذلك سررت كثيرًا منذ

أربعة أعوام لما رأيت أن جدة لا تزال محتفظة ببهائها الإسلامي القديم، وبحجاجها

المحرمين، وبوسائط نقليتها القديمة ، ألا وهي: الجمل والفرس والأتان، وأن

أسواقها المعوجة الصغيرة لا تزال ملأى بالتجار الشرقيين يروحون ويغدون فيها،

وتنحصر تجارتهم في بعض الأشياء الضرورية ، وبعض المصنوعات اليدوية.

إن شبه جزيرة العرب هي مهد الأنبياء ، ومهبط الوحي، ولما كنت أهتم

كثيرًا بهذه الشؤون؛ شئت أن أتقرب بقدر الإمكان إلى حياة هذه الجزيرة التي كانت

تنجب الأنبياء آونة بعد أخرى، ومن البديهي أن البلاد المتمدنة لا تنجب أنبياء.

ومن أهم الأشياء في الجزيرة الآن الحركة الوهابية التي ترمي إلى الرجوع

لحياة التقشف كما كانت عليه الحال أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

نحن في الغرب نقول: إن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن لهذه القاعدة شواذ في

الصحراء، فالحياة فيها دائمًا تعيد نفسها.

يقال: إن الدين في العالم منشؤه بعض الشخصيات البارزة التي تضيء

كالأنوار مثل بوذا [1] ، والمسيح ومحمد، وهذه الشخصيات لها حياة خاصة ،

وتعاليم خاصة ، وأتباع خاصة، ولكنها عندما تختفي؛ يقوم بعدها بعض الأتباع

الذين كانوا مقربين إليها كثيرًا ، ويفسرون أعمالها ، وينشرون أخبارها، وهم

المعروفون بالتلاميذ أو الصحابة، ولكن النور الأصلي يضعف عندما ينتقل إليهم،

ومن بعدهم تقوم الهيئات الدينية ، وتنشر أعمال تلك الشخصيات حسب ما يتراءى

لها؛ وبذلك يزداد ضعف النور، ولا شك أن بوذا لو بعث حيًّا الآن لا يوافق على

أن الصينيين واليابانيين يتبعون حياته وتعاليمه ، وخصوصًا متى شاهد البون

الشاسع بين تعاليمه الصحيحة ، وبين تعاليم كهنوت اللاميين [2] ، وإنه لا يمكن

للمسيح أن يعترف بأن أوربا الحديثة المعروفة بمسيحيتها ، والتي يقال: إنها تتبع

حياته وتعاليمه هي حقيقة مسيحية [3] .

لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمر هذا التحريف الذي لعب

دورًا مهمًّا في تاريخ الديانات القديمة على ممر الأيام؛ ولذلك حدد أقواله بحديثه ،

وأظهر بصورة واضحة علاقة المسلم مع خالقه، ولم يترك ميدانًا واسعًا لتدخل

الهيئات الدينية من بعده ، ومع هذا كله رأينا أن الدين الإسلامي عندما ابتعد عن

مركزه الأصلي في الصحراء ، وأخذ يتزاحم مع غيره من الديانات والمدنيات في

العجم والصين مثلاً؛ خرج عن الصراط المستقيم، وأضاع شيئًا كثيرًا من بساطته

وبهائه.

ولما كانت الحياة في نجد بعيدة عن مثل هذا الضغط ، وبعيدة عن المدنية

الحاضرة ، فلا شك أن هذه البلاد هي المكان الوحيد المعد لحفظ علاقة المسلم

الحقيقية بخالقه بصفة لا تشوبها شائبة، وقد ظهر الآن أشياء عديدة تثبت جميعها أن

القاعدة الأساسية في الدين الإسلامي ، والمسيحي ، واليهودي هي علاقة الإنسان

بخالقه ، وأصبح الاعتراف بهذه الحقيقة أمرًا لازبًا؛ لأن البولشفيك ينظمون دعاية

ضد جميع الديانات ، وقد وجهوا سهامهم إلى قلب هذه الحقيقة الظاهرة ، ألا وهي:

وجود الخالق ، وتدبيره لهذا الكون، وقد أدرك العالم المسيحي هذا الخطر ، وأصبح

ميَّالاً إلى ترك الجزئيات ، والتمسك بالكليات، ويوجد في الغرب أناس كثيرون

يعتقدون أن في الإمكان التأليف بين العالم المسيحي ، وغيره من البشر ممن يعتقدون

بوجود الخالق ، ويسعون لطاعته.

ولاشك أن العالم ليشهد منذ أول التاريخ إلى عهدنا هذا ثورة شديدة على الدين ،

كالثورة التي يديرها البولشفيك.

يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد ، وتشابه عقائد هذه الطائفة

من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة، وقد ظهر بين أفرادها كثير من العظماء

الذين أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، ففي النمسا مثلاًُ ظهر بعض أفراد منها للعالم،

وشغلوا وظائف سامية، وكانوا موضع إعجاب جميع من عرفهم، وفي أمريكا ظهر

أيضًا بعض أتباع هذا المذهب المحترم ، وكان في مقدمتهم الرئيس (إيليوت) الذي

بقي مدة أربعين سنة رئيسًا لأعظم جامعة أميريكية ألا وهي: جامعة (هارفرد)

وقد توفي في السنة الماضية عن عمر جاوز اثنين وتسعين عامًا ، ولا شك أنه كان

أحد رجال أمريكا العظام [4] ، وقد كان يهتم كثيرًا برحلاتي إلى البلاد الإسلامية،

وشعر أنه من الواجب أن يحصل تعارف بين الموحدين المسيحيين ، وبين المسلمين،

وكنت دائمًا عند عودتي أزوره ، وأطلعه على جميع اختباراتي الحديثة.

إنه بقي محافظًا على قواه العقلية إلى آخر دقيقة من حياته، وكان لصوته

أعظم وقع على الأميركيين ، كما أنه كان الخادم الأمين لحفظ الضمير الأميركي

الحي، وعندما كان يتكلم في موضوع سياسي ، أو تهذيبي ، أو اجتماعي كان يتكلم

دون خجل ، أو وجل.

وقبلما أنشبت المنون أظفارها فيه شعر بدنو أجله ، فقلت له: اسمع هذه

الصلاة الإسلامية الجميلة ، وقرأت له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ

الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) ، وقد

أعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا ، وكانت هي آخر العهد بيننا، وكان صديقي هذا

دائمًا يتمنى الحج إلى شواطئ البحر الأحمر ، والتقرب من الحركة الوهابية؛ لأنه

هو نفسه كان يعيش عيشة بسيطة ، ويعتقد بعظم فائدة الصلاة ، وتأثيرها في

العالم ، ولكنه كان بعيدًا عن الظواهر الدينية الميكانيكية [5] ، وسأرسل إليكم عندما

أعود إلى أمريكا جميع ما قاله عظماء الأميركيين بشأن هذا الرجل الجليل عند

وفاته.

إن بوذا ، والمسيح عاشا عيشة روحية ، ولم يكونا يومًا من الأيام إداريين ،

ولا فكرا أن ينظما الحياة الدينية، وأما محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان نبيًّا

وإداريًّا عظيمًا، وقد مد الله في أجله إلى أن تمكن من تنظيم الحياة الاجتماعية على

أسس دينية، وها هو ذا ابن سعود ينسج اليوم على منواله، ويتبع سننه في كل

خطوة بحزم وعزم، وهو يسعى لأن يوفق بين الحياة الاجتماعية ، وبين الشريعة

الغراء ، ولست مغاليًا إذا قلت لكم: إنه لا جنايات في مملكة ابن سعود، وإن البدو

الذين مازالوا منذ الأزل يضربون في بلاد الله الواسعة ، ويغزو بعضهم بعضًا أخذوا

في عهده يبنون البيوت الثابتة، ويشتغلون بالأشغال النافعة.

ولاشك أن الأمن في الطرقات أصبح مستتبًّا، والتجارة في البلاد محمية،

ومال الحاج مضمونًا، وأسعار الحاجيات محددة.

***

فليحيا ابن سعود

إن الحماسة التي تدعم حركة كحركة ابن سعود الوهابية ، والتي ترمي إلى

إرجاع الدين الحنيف ، كما كان عليه قديمًا ، تتعارض في بعض الأحيان مع العادات

الإسلامية الحاضرة، وليس بالعجيب أن نرى (الإخوان) في حماستهم قد هدموا

أشياء كثيرة ذات قيمة تاريخية ومعنى ديني للحجاج الذين يحجون إلى هذه البلاد

المقدسة ، وقد قتلوا أثناء حماستهم بضعة آلاف حاج من حجاج اليمن ، بينما كانوا

قادمين إلى مكة بقصد الحج، واعتذروا عن عملهم بأن نيتهم كانت سيئة نحو

الإخوان [6] ، ومع ذلك ، لا شك أن الأحوال الآن أحسن من ذي قبل، وإذا مد الله

في عمر ابن سعود؛ فالحالة تزداد تقدمًا، والروح الاجتماعية تنتشر أكثر فأكثر بين

العرب مستمدة نشاطها من بعد ابن سعود من روحه.

نزلت بجدة في دار السيد محمد نصيف ، وهي كأنها مجمع علمي يحتوي على

مكتبة عامرة ، يؤمه جميع أقطاب جدة وأشرافها.

والسيد محمد نصيف عالم محقق ، ورجل شريف يزوره جميع من يمر بجدة

من العلماء والنبلاء قبل ذهابهم إلى مكة، وقد اجتمعت عنده بأناس كثيرين ،

وتكلمت معهم بصراحة زائدة، وكانوا جميعهم عنوان اللطف بي ، والعطف علي،

وأفهموني حقيقة سير الحياة بالحجاز في هذه الأيام، وبعد وصولي إلى جدة جاء

سمو الأمير فيصل من مكة ، ورحب بي ، وتأكد بنفسه أن راحتي مضمونة ، وقال

لي: إن كل شيء في جدة تحت أمري.

في الليل كنت أدعو الكثيرين؛ ليسمعوني الأناشيد الوطنية والغناء العربي

القديم والحديث ، وكان بين هؤلاء المنشدين شيخان ضريران يترددان دائمًا على

دار السيد محمد نصيف، وقد أسمعاني مرارًا ترتيل القرآن، والحق يقال: إن

ترتيلهما كان في غاية الإبداع.

لا يسمح الوهابيون لأحد أن يغني غناءً عاديًّا ، ولا أن يستعمل معازف

موسيقية، وقد منعوا الحجاج المصريين من جلب المحمل التي كانت العادة أن

يجلبوه مع موسيقى الحج [7] ، ولكنهم لا يتعرضون لترتيل القرآن ، وقد تسامحوا

معي في بعض الشؤون ، ولم يمنعوني من دعوة بعض البدو إلى داري ، وسماع

أناشيدهم، وقد أسمعني أحد أصحاب القوافل بعض الأناشيد التي ينشدها الحداة من

رجال القافلة أثناء سيرهم في البادية.

كان ابن سعود يوم زرت جدة في طرف البادية [8] ، ولم أتمكن من مقابلته،

ولكنه تلطف ، وأرسل لي عدة برقيات تنم جميعها عن عطفه علي، وقبل سفري

ببضعة ساعات أخذت وأنا على ظهر الباخرة برقية منه أعرب لي فيها كثرة أشغاله،

وأفصح عن أسفه الشديد؛ لعدم تمكنه من مقابلتي، وتمنى لي سفرًا سعيدًا [9] .

والحق يقال: إن ابن السعود كالإمام يحيى لا يوجد حوله رجال عاملون

يساعدونه في إدارة دفة الحكم ، فهو يعتمد على نفسه في كل شيء.

وقد مضى عليه ثلاث سنوات ، ولم يزر في خلالها أرض نجد؛ ولذلك ذهب

هذه السنة؛ ليزورها، ولينظر في شؤون الإخوان ، وتنظيم أعمالهم.

***

السيد أحمد السنوسي

كان من جملة الأسباب التي حملتني على القيام برحلتي هذه؛ رغبتي في

مقابلة صديقي القديم السيد أحمد السنوسي ، الطائر الصيت الذي تعرفت إليه في

بورصة في صيف سنة 1919 ، وكانت تلك الرحلة التي تعرفت إليه في خلالها من

أهم الرحلات التي قمت بها في هذا العالم.

قلت: إني قمت برحلات عديدة في هذه الأرض ، وكنت دائمًا أدرس نفسية

البشر في أطرافها، وقد أعجبت مرارًا ببعض العقول التي لم تبلغها أيدي التهذيب ،

وقابلت كثيرًا من أصحاب هذه العقول ، ولا غرو أن مقابلتهم ساعة عملهم كانت

نهاية الإبداع ، وهذه العقول لا تنمو إلا بين أصحاب الفيافي والقفار ، وكل ذرة ، لا

بل كل خلية من خلايا دماغ هؤلاء الأشخاص هي حية في ذاتها، وحساسة لكل

عارض يعرض لها، وسريعة في تنفيذ أحكامها ، وحكيمة في استنتاجاتها.

وأحمد السنوسي هو أحد أصحاب هذه العقول النيرة، ودليلي على ذلك أنه

تمكن في برهة وجيزة من إيجاد مملكة تحيط بها القفار من كل الأطراف.

منع الحلفاء عامة ، والتليان خاصة هذا الزعيم الكبير من العودة إلى بلاده

وأهله بعد الحرب العظمى؛ فاضطر أن يذهب من تركية إلى سورية ، فالصحراء.

ولا يزال إلى يومنا هذا هائمًا على وجهه من بلاد إلى بلاد بعيدًا عن أهله

وعائلته [10] ، ومع الأسف الشديد لم يهتم به أحد ، وهو اليوم في العسير ، وقد

أرسل أحد عماله إلى جدة؛ ليفاوض ابن سعود ، فرأيت أن أراه لأطلع منه على

أخبار السنوسي؛ لأني قلت سابقًا: إن من جملة الأسباب التي حملتني على هذه

الرحلة هي مقابلة هذا الرجل العظيم ، ولكن لم يؤذن لي أن أقابل ذلك الرسول ، ويا

حبذا لو اهتمت بعض الحكومات الإسلامية بشأن هذا الرجل العظيم ما دام شعبه قد

حرم من زعامته ، وحرم هو من بلاده.

للمحاضرة بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) مستر تشارلس كراين من أكارم رجال الأمة الأميركية ، وتولى مناصب عالية في دولتها نعرف منها أنه كان سفيرًا للولايات المتحدة في الصين، وعهدت إليه رياسة اللجنة الأميركية التي أرسلت لاستفتاء أهل سورية وغيرهم في مصير بلادهم بعد الحرب بناء على مبادئ صديقه مستر ولسن الذي كان رئيس جمهورية حكومته ، وكان صاحب الكلمة العليا لدى دول الحلف البريطاني اللاتيني؛ لأنه هو الذي أنقذ هذه الدول من بطشة ألمانية الكبرى، ومستر كراين قد طاف أقطار الشرق ، واختبر المسلمين؛ فأحبهم ، وعرف فضل دينهم ، وعرف به كما يعلم من محاضرته هذه ، وقد آلمت بعض من سمعها من متعصبي أبناء جلدته وإخوان ملتهم ، وقد حضرها في نادي جمعية الرابطة الشرقية جمهور منهم ومن المصريين والسوريين وغيرهم ، وكان يترجم كلامه بالعربية جعفر ولي باشا المشهور جملة جملة. وما ننشره هنا هو ترجمة ما كان كتبه لإلقائه، ولكنه زاد في أثناء الإلقاء مسائل وإيضاحات أخرى ، فنشير إلى بعضها في الحواشي.

(1)

هو زعيم الدين الذي ينتمي إليه مئات الملايين في الهند والشرق الأقصى، والظاهر أنه كان من الأنبياء الذين ضاعت كتبهم؛ فتمكنت الوثنية من أتباعهم.

(2)

هم أهل التبت نسبة إلى اللام ، وهو لقب رئيسهم الديني.

(3)

قد خص بالذكر سوء حال أوربة بعد الحرب الكبرى؛ إذ صار البعد بينها وبين تعاليم المسيح أشد مما كان قبلها ، كما أنه صرح بأنه رأى في هذا العهد أن الإسلام قد ضعف وصول نوره في مصر والشام والآستانة عما كان عهده من عشرات السنين في هذه الأمصار ، وقوله هذا يؤيده قوله تعالى في المسلمين:[ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون] .

(4)

زاد في الإلقاء هنا: ورؤساء المدارس عندنا أجل من رؤساء الجمهورية؛ لأنهم الذين يربون رؤساء الجمهوريات وسائر الرجال العظام.

(5)

يعني بهذا تقاليد الكنيسة النصرانية، وكل من عرف دين الفطرة بعد عن دين الصنعة.

(6)

السبب الصحيح لهذه الحادثة أن الملك حسينًا كان قد أثار فتنة في العسير لانتزاعها من ابن السعود والإدريسي ، وفي أثناء القتال بين ثواره ، وبين الإخوان وصل حجاج اليمن ، فظن الإخوان أنهم مدد من الملك حسين لابن عايض الذي أثاره لحربهم ، فأصلوهم نارًا حامية، ثم حزنوا لما علموا أنهم من اليمن ، واعتذر ابن السعود للإمام يحيى ، ورد إليه جميع ما كان قد أخذه الإخوان من جماعته.

(7)

الصواب إنهم منعوا حرس المحمل من استصحاب معازف الموسيقى العسكرية فتركوها في جدة وأعادوها معهم إلى مصر عند عودة المحمل.

(8)

الصواب أنه كان في المدينة المنورة.

(9)

جاء في البلاغ 310 من بلاغات مكتب الاستعلامات السوري الذي صدر في 20 يناير سنة 1927 نص البرقيتين اللتين تبودلتا بين مستر كراين ، وملك الحجاز ابن السعود في رسالته للمكتب من جدة مؤرخة في 10 يناير وهذا نصها: برقية المستر كراين: اسمح لي يا صاحب الجلالة قبل أن أبرح بلادكم أن أقدم لجلالتكم عظيم الامتنان لما لاقيته من الحفاوة من قبل نجلكم الكريم ، ومن قبل رجال حكومتكم الموقرة ، ولا سيما السيد محمد نصيف ، وإنني أضرع إليه تعالى أن يوفقكم لتوحيد صفوف شعبكم خاصة ، والمسلمين عامة، وعساكم تعطفون على جميع الذين يعملون على إطاعة الله ، ويراقبون أعمالكم المجيدة باهتمام زائد ، والذين يعرفون أن لشعبكم الكريم المعتصم من مفاسد العالم بصحرائه الشاسعة خدمات جليلة مقدسة في هذه الدنيا ألا وهي: حفظ كيان الدين الصحيح ، ونشره بين العالم خاليًا من كل شائبة وتفضلوا في الختام بقبول فائق الاحترام (جواب جلالة الملك على برقية المستر كراين) أشكركم على حسن ظنكم بنا ، وأحيي فيكم هذه العاطفة الشريفة نحو أمتنا ، ورغبتكم في نجاحها ، وهذا أكبر دليل على طيب سريرتكم ، وسمو مبادئكم ، فالله أسأل أن يعلي الحق ويؤيده، وإني آسف أن الظروف لم تمكننا من مقابلتكم ، فأتمنى لكم سفرًا سعيدًا.

(10)

(المنار) كان قد ألقى رحله بمكة المكرمة؛ فأكرم الملك عبد العزيز مثواه ، ثم سافر إلى عسير حيث آل الإدريسي من ذوي القربى ، وهو الذي وضع أساس معاهدة مكة المكرمة التي جعلت بلاد عسير ، وأمرائها تحت حماية ابن السعود.

ص: 132

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع بريطاني جديد لتنصير جزيرة العرب

(هذه ترجمة المنشور الذي أذاعته جمعية لندن كما نشروها في فلسطين

وغيرها) .

يسوع المسيح لبلاد العرب الآن

(ها أنا ذا صانع أمرًا جديدًا، الآن ينبت. ألا تعرفونه، أجعل في البرية طريقًا في القفر أنهارًا)(أشعيا 43 - 19) .

صلوا من أجل العرب

بلاد العرب تبلغ مساحتها مليون ميل مربع، لم يدخلها التنصير بعد، وفيها

من السكان من أربعة ملايين إلى اثني عشر مليونًا [1] ، يموتون ميتة وثنية ، لم

تبلغهم دعوة الإنجيل بعد، بلاد العرب هي مهد الإسلام ومنبعهم، وفيها مكة التي

هي القبلة زهاء [2] مائتين وعشرين مليونًا من المسلمين يتوجهون نحوها (بإغراء

الشيطان؛ ليصلوا صلاة كاذبة كل يوم) . صلوا من أجل العرب كي ينجيهم الله (هم

مخدوعون من الشيطان الذي اخترع لهم كتابًا مزيفًا هو القرآن الذي) حل محل (كلمة

الله الحية) ، الكلمة القادرة على تخليص نفوسهم، فمن يحمل كلمة الدعوة إلى

العرب؟ فمن يخرج، ويبكي، ويزرع زرعا جيدًا؛ يعود فرحًا، ويقطف ثمار زرعه

جنيًّا. ويسوع المسيح يأمر بما يلي:

1-

وها أنا أرسل إليكم موعد أبي، فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا

قوة من الأعالي. (لوقا 24 - 49) .

2-

وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة

كلها (مرقص 16 - 15) .

3-

فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب، والابن، والروح القدس (متى 28 - 19 - 20) ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها

أنا ذا معكم كل الأيام لانقضاء الدهر.

(قدرتنا على طاعة أمره) : فتقدم يسوع، وكلمهم قائلاً: دفع إلي كل سلطان

في السماء وعلى الأرض، وأنا معكم لانقضاء الدهر (متى 28 - 18) . (استعدادنا

لذلك) : وها أنا معكم كل الأيام لانقضاء الدهر (متى 28 - 20) . إن كلمة (و) ،

وكلمات (إلى انقضاء الدهر) تبين أن كلمات المسيح موجهة إلى كل تلاميذه خلال كل

العصور، وهي تعنينا إيانا، المسيح مات فدية عن الجميع، ثم قام من الموت، هو

مات عنكم وعني وعن العرب، فمن يطيع أمر المسيح، فيذهب إلى العرب بهذه

الرسالة؟

إن حجاجًا لا يحصيهم عد يقطعون فلوات الجزيرة؛ ليحجوا إلى مكة، (وفيها

ولد النبي)

[3] ، وليزوروا المدينة، وفيها قبره، فمن يذهب إلى هناك أيضًا

من حجاج المسيح، ويهدي أولئك الحجاج الذين لا يحصيهم عد هداية بنعمة الله

حتى يصيروا حجاج المسيح وحده [4] ؟ فإذا نحن شاركنا المسيح في تحمل

العذاب، فإننا سنشاركه أيضا في الملكوت، وقال الله للابن: عرشك باق إلى

الأبد، يا حجاج المسيح هبوا. فلنذهب، ولنأت بالملك.

هؤلاء سيحاربون الخاروف (؟) ، والخاروف يغلبهم؛ لأنه رب الأرباب [5] ،

وملك الملوك، والذين معه مدعوون، ومختارون، ومؤمنون (رؤيا 17 - 14) .

وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم، نعمة ربنا يسوع المسيح معكم

(روميا 16 - 20) .

قل إلى أبناء إسرائيل [6] أن يتقدموا إلى الأمام - إلى بلاد العرب - إلى كل

العالم، لأن

لأن أمر الملك كان معجلاً (صموئيل الأول 21 - 8) .

مع المسيح صليت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في، فما أحياه الآن في

الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي،

وأحرقوا المدينة بالنار. (يشوع 6 - 4) .

إن الحاجة شديدة الآن إلى مائة مبشر: يذهبون إلى قبائل بلاد العرب المهملة

التي لم تبلغها الدعوة بعد، هناك نحو مائة قبيلة في بلاد العرب يمكن تبليغهم

الدعوة، وهم يسكنون بلادًا غير إنجيلية، مساحتها ثلثا مساحة الهند، وهم يعيشون

في الخيام كما كان يعيش إبراهيم من قبل [7] . إحدى هذه القبائل هي (الصليبية)

المنتمية إلى أهل الصليب حصل لها زيارة مرتين، وهي تريد أن تزار أكثر من

ذلك.

إن رجال هذه القبيلة هم من نسل الصليبيين القدماء الذين أسرهم العرب،

وهم لا يزالون إلى اليوم يستعملون بضع كلمات إنكليزية مثل: (غو) أي:

اذهب. إن العاملين قلال العدد، أيجوز ترك هذه القبائل؛ فتفنى؟ ألا يليق

بكنيسة الله التي اشتراها بدمه أن تلبي نداء الله؟ فمن أرسل (أشعيا - 6 - 8) ،

فماذا يكون جوابك أيها القارئ، أتريد أن تسقط في الخجل، وتحتقر احتقارًا

مؤبدًا؟ أو تبادر إلى أن تعمل عملاً مجيدًا يرضي الذي أحبنا، وفدى نفسه عنا،

وهو غسلنا بدمه من خطايانا.

أتريد أن يقال عنك، وعن الآخرين: من الآن إلى الأبد، إنك أنت

وإخوانك قد غسلتم من خطاياكم بأثمن دماء المسيح، وقد اطلعتم على أوامره،

وقد عرفتم الحاجة، وقد سمعتم نداء الله، وقد اتخذتم من المسيح قوة وكفاية، وبعد

كل هذا لا تذهبون. أرجو منك أن تصلي من أجل العرب.

اذهب أنت نفسك إلى بلاد العرب، أرسل غيرك أيضا إلى بلاد العرب، احمل

الكتاب المقدس إلى العرب، لا تقطع صلاتك لأجل بلاد العرب، والعرب إلى

المسيح، ادع ال220 مليونًا من المسلمين ليتدينوا بديانة المسيح، صل من أجل

مائة مبشر، الحاجة شديدة إليهم ليذهبوا إلى بلاد العرب، وليسدوا ما العرب بحاجة

إليه، صل؛ لكي يصل الكتاب المقدس إلى بلاد العرب، وصل أن يبارك الله

المائة مبشر، يقول المسيح: سآتي بسرعة، آمين.

***

عنوان الجمعية ناشرة هذه الدعاية

الجمعية العالمية الصليبية للتنصير في العالم، وبلاد العرب:

19-

هيلندرود أبر نورود لندن 19.

...

... الرئيس:

...

... المراقب:

...

... مستر أستد

...

القس باركلين

(المنار)

قد بذلت هذه الجمعية، وأمثالها مئات الملايين من الدنانير الذهبية؛

لتنصير المسلمين، فما استطاعوا أن ينصروا شعبًا من شعوبهم، ولا مدينة من

مدنهم، ولا قرية من قراهم، وإنما لجأ إليهم في بعض البلاد أفراد من تحوت الفقراء

الجياع الذين لا يعرفون من الإسلام إلا بعض ما يسمعونه، ويرونه في الطرقات

من التقاليد التي مزج فيها بعض تعاليم الإسلام بنزغات الخرافات النصرانية التي

يتبرأ منها المسيح، ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد دخل في الإسلام من كرام

الشعب الإنكليزي أضعاف من تنصر من هؤلاء التحوت الجائعين، وأرى أن من

حماقة هذه الجمعية أنها تريد أن تبدأ عملها بالدعوة إلى النصرانية في الحرمين

الشريفين المحميين بجند الله النجديين الموحدين، أليس من الحكمة والأناة الإنكليزية

أن يصبروا ليروا ما يفعل دعاتهم في عرب العراق، وفلسطين بحماية صنيعتي

دولتهم: الملك فيصل، والأمير عبد الله نجلي الملك حسين بن علي؟ إن المعاهدة

البريطانية العراقية قد ضمنت لدعاة النصرانية الحرية المطلقة، ولن يمضي لهم

الإمام عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز ونجد معاهدة مثلها، كما أمضى الملك

فيصل بن حسين، بل لا يأذن لمبشر واحد أن يدخل بلاده، فكان من العقل أن لا

يعجلوا بتنبيهه، وتنبيه أهل القطرين الخاضعين إلى سوء نيتهم. هذا، وإننا نعلم أن

هذا العمل عمل سياسي وتجاري، لا ديني، ونعلم أن تعاليم الإسلام تنشر في بلاد

الإنكليز، وأبناء عمهم الأميركان نفسها بطبيعة البحث الحر الذي ينتهي بأصحابه إما

إلى عقيدة القرآن، وكما ترى في محاضرة مستر كراين في هذا الجزء، وإما إلى

الكفر، وإنكار الوحي كما يعلم من المقال الآتي.

_________

(1)

المنار نبشر هؤلاء المبشرين بأنهم يزيدون على ضعف هذا العدد، فليضاعفوا مبشريهم ونفقاتهم.

(2)

في الأصل حوالي، وأصل هذه الشهادة انفراد.

(3)

ههنا كلمة أثيمة وصفت بها هذه الجمعية البذيئة خاتم الأنبياء، وإمام المرسلين بضد أظهر صفاته، ولا عجب، فهم الذين يكذبون على الله بقولهم: إنه اتخذا ولدًا (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) كذبتم أيها السفهاء بل هو أصدق الخلق الذي برأ الله على لسانه مريم أم المسيح من تهمة الزنا، وبرأ المسيح نفسه من الكذب على الله، فمن كذبه، فقد صدق اليهود في الطعن فيهما.

(4)

المسلمون يحجون لله وحده لا لمحمد، ولا للمسيح، فهم الموحدون، وهذا المسيحي الكذاب يريد أن يجعلهم وثنيين يحجون للمخلوق ابن الإنسان.

(5)

لا يؤمن بربوبية الخاروف إلا الخرافيون، ولله در المعري حيث يقول:

... أعباد المسيح يخاف صحبي

ونحن عبيد من خلق المسيحا.

(6)

إن أبناء إسرائيل هم أعدى أعداء المسيح عليه السلام، ومكذبيه، والطاعنين في عرضه، ورسالته وأنتم أيها الإنجليز عبيد لهم استخدموكم، بل اشتروكم بأموالهم، فبعتم دينكم؛ لإعادة ملكهم، والعرب، وسائر المسلمين عبيد الله، وأصدقاء المسيح عليه السلام، وأصدق المؤمنين به.

(7)

نعم، وهم الذين حفظوا من دونكم ما كان عليه إبراهيم من توحيد الله تعالى، وعبادته وحده.

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية

جاء في جريدة الديلي إكسبريس التي صدرت في لندن بتاريخ 21 نوفمبر

سنة 1925 تحت هذا العنوان ما ترجمته:

القسيس أنج ينكر المعجزات

قنبلة مصوبة إلى قلب الكنيسة

اتركوا التضليل

اعتقاد التلاميذ (الحواريين) : أن المسيح نزل في جوف الأرض ، ثم قام من

قبره في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء بجسده.

قال القسيس أنج:

أليس من اللائق بالكنيسة أن تفكر في هذه المشكلة التي ظلت نحوًا من 400

سنة وهي ترغم الناس على الاعتقاد بها؟

من الراجح أن ما أحدثه أكبر مناقشة دينية منذ أيام (بوسي) و (ينومان) هو

كتاب جديد اسمه: (العلم والدين والحقيقة) يصوب به صاحبه القس (أنج) قنبلة

تصيب شظاياها جميع الكنائس المسيحية.

ويطالب هذا القس الكنيسة بأن تدع التضليل جانبًا، وأن تنبذ كثيرًا من تعاليمها

التقليدية القديمة ، كما يطالب بترك فكرة وجود سماوات بالمعنى الذي اصطلح عليه

الجغرافيون ، ويبني على ذلك عدم الاعتقاد بصعود جسم المسيح كما يرى أن هذه

المسألة مرتبطة ارتباطًا تامًّا بمسألة البعث نفسها ، وهو يوافق العلماء (نسبة إلى قسم

علمي) في رفضهم للمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه، ومع أنه

يتجنب البحث في مسألة مولد المسيح ، فإن قراء كتابه قد يصلون إلى أن القس يرفض

الاعتراف بهذا الأمر كما ينكر الصعود أيضًا، وهو فوق ذلك يقترح الابتعاد التام عن

نسبة صفات البشر إلى الله.

وكتابه هذا (الذي تقوم بنشره مطبعة شلدون) يتكون من ثماني مقالات بقلم

أساتذة مشهورين في موضوعات وأبحاث علمية ودينية، وله مقدمة بقلم اللورد بلفور،

ويتلو ذلك ملخص مؤلف من 40 صفحة شائقة بقلمه هو.

ويقول اللورد بلفور بأنه: ليس بين القراء من يعتقد أن الكتاب المقدس ليس إلا

كتابًا تاريخيًّا ومرجعًا للعلوم الكونية لا يمتاز عن غيره إلا بأنه موحى به، وبذلك

يكون منزهًا عن الخطأ، ويضيف إلى ذلك أن القس أنج يسلم بأنه موحى به، وأما

مسألة تنزيهه عن الخطأ فينكرها ألبتة.

ويعلن القس أنج في صراحة تامة وبلا أدنى خوف أن هناك معركة اشتد وطيسها

بين العلم والدين، وأن أصل هذه المعركة يرجع في الحقيقة إلى اكتشاف أن الأرض

تدور حول الشمس، وفي الأربعة القرون التالية لذلك الاكتشاف وصفت الكنيسة

البحث في المشاكل الدينية التي أثارها هذا الاكتشاف جانبًا، فلم يبذل أي مجهود

لتخفيف العبء عن كاهل العالم المسيحي الذي أثقل عقله وضميره.

وحقيقة ما يقصده (أنج) أن بعض العقائد المسيحية أصبحت لا يمكن التصديق

بها علميًّا؛ فلا يمكن التصديق بها دينيًّا، وهو يقول:

(إن هؤلاء القساوسة الذين يصرون على أنه ليس ثمة تناقض بين العلم والدين

إما أن يكونوا ذوي عقول ضيقة، أو متعامين عن الحقيقة، والحق الواقع أن هناك

صراعًا عنيفًا بين العلم والدين لا يرجع تاريخه إلى أيام داروين، ولكنه يرجع إلى

عهد كوبرنيكوس وغاليليو) .

***

الخريطة المسيحية

ويقول: (إن التوصل إلى معرفة أن الأرض ما هي إلا كوكب يدور حول

الشمس التي هي نفسها واحدة من ملايين الأجرام السماوية، ذلك الاكتشاف قد مزق

النظرية المسيحية التي تقول بأن الأرض هي مركز العالم، وأنها كطبق يحدده غطاؤه.

وإلى ذلك الوقت كان الناس سواء منهم العالم والجاهل يصورون العالم كبناء

ذي ثلاث طبقات أعلاها السماء مسكن الإله والملائكة والأرواح الطاهرة، ويتلو هذه

الطبقة الأرض التي نسكنها، والطبقة السفلى مسكن الشيطان وأتباعه، وحيث تعذب

الأرواح الشريرة في سجنها، وكان للجنة والنار في عرفهم حقيقة جغرافية.

وتؤكد العقائد الدينية مسألة نزول المسيح إلى الجحيم، ثم صعوده إلى السماء

ومن الواضح الجلي أن مسألة بعث المسيح بجسده مرتبطة تمامًا بمسألة صعوده

بجسده أيضًا، وعلى ذلك فقد مست العلوم الكونية بالعقائد الدينية مساسًا عظيمًا.

ويزيد على ذلك أن الكنيسة إنما بشرت بهذه التعاليم؛ لأنها نقلتها حرفيًّا عن

نصوص الإنجيل، ويستدل على ذلك بالنص الإنجيلي القائل: (إن المسيح قد صعد

إلى السماء حيث هو الآن بلحمه وعظامه، وكافة الأشياء المتعلقة بالكيان الإنساني

البشري الطبيعي.

ونظرية أن المسيح ناسوتًا ولاهوتًا، والتي تقول بأن جسد المسيح في السماء

ينكرها تناقضها مع القانون القائل: باستحالة وجود الجسم الطبيعي في أكثر من مكان

واحد في وقت واحد.

كما أن نظرية كوبرنيك الفلكية، وكافة معلوماتنا عن السماء التي بنيت على هذه

النظرية لا تدع مجالا للقول بوجود سماء جغرافية.

وهو يقول: يخيل إلي أن الفراغ السماوي لا نهائي، ولا يمكنني أن أتصور أنه

قد وقع الاختيار على أحد هذه النجوم والسدم والكواكب المنتثرة بلا نظام في رقعة

السماء؛ لتكون مقرًّا للخالق، ومكانًا لأورشليم السماوية.

ويضيق إلى ذلك قوله: (أما القول بوجود مكان سفلي مخصص للتعذيب فقد

اندثر وانمحى بدون أن يكلف العلم مشقة الإجهاز عليه) .

وهناك مشكلات أخرى في مسألة الزمن، ولكن الذين يقولون بحيوية هذه

المسألة قليلون، وإن المسيحي الذي رفض بنظرية الوحي اللفظي لا يجد صعوبة في

تصديق نظرية النشوء والارتقاء.

على أن النظرية القديمة لا تزال مضطربة فقد قرأت منذ زمن يسير كتابًا يعتبر

من أهم كتابنا اللاهوتيين فوجدت فيه هذه الجملة: (إن المسيحيين لم يعودوا يعتقدون

بوجود سماء محلية فوق رءوسنا) ، وقد رحبت بهذا الاعتراض على وجود سماء

جغرافية؛ لصدوره من رجل يعتبر من أئمة الأرثوذكسية ودعائمها.

ولشد ما عجبت عندما علمت أن الكاتب قد ادعى أني ألحقت به وبسمعته ضررًا

عظيمًا لحذفي بعض كلماته، ولكني لا أنكر أنه قال: بأنه يعتقد بوجود سماء محلية

(ولكنها ليست فوق رءوسنا)(ولكن غاب عنه أن الأرض تدور) .

وقد قال إمام آخر في الأمور اللاهوتية في معرض حديثه عن صعود المسيح:

(إن كلمة: إلى السماء قد يمكن أن تحمل على المجاز، ولكن يلزم أن نعتقد أن جسد

المسيح الطبيعي قد رفع إلى مسافة شاسعة البعد عنا) .

وإني لأتساءل بكل جد وإخلاص: هل من الممكن احتمال مثل هذا التحكك

بالألفاظ بعد؟

أَوَليس من الضروري أن تواجه الكنسية هذه المسألة التي ظلت حوالي 400

سنة وهي تجبر الناس على التسليم بها، وتقهرهم على التصديق بها؟

هل للمسيحي أن يعتقد بتلك النظريات والتعديلات التي أدخلها رجال الكنيسة

على الأساطير الدينية ، وفرضوا عليه الإيمان بها؟ أم عليه أن يصدق تلك النظريات

الفلكية المبنية على أسس مدعمة ثانية؟ ألا إن التحكك بالألفاظ لم يعد يرضي أحدًا.

واستطرد القس أنج فقال: إنه ليس أمام المسيحيين إلا إحدى ثلاث طرق:

(1)

أن يحكموا على العلوم الفلكية بالتحريف والزيغ والكفر.

(2)

أن نعتبر أن هذه الأساطير الدينية لا تتمشى مع روح العلم ، ولكنها

تحمل على أنها رموز عن حقائق أزلية.

(3)

أن نعترف أن كل التعاليم اللاهوتية المؤسسة على النظرية التي تقول:

بأن الأرض هي مركز العالم يجب أن تنبذ ما دامت لا تتفق مع النتائج العلمية

الصحيحة.

وأضاف إلى ذلك قوله: ولا إخالني جاهلاً ما في هذه الخطوة ، ولا غافلاً عما

يعترض الأخذ بها من المصاعب، ولكني أعتقد أن القيام بأي عمل كائنة ما كانت

العقبات التي تقف في سبيل تنفيذه خير من محاولة ستر قرحة تنغص علينا حلاوة

الاعتقاد والإيمان.

على أننا إذا أخذنا بالوجه الثالث؛ فإننا نكون مساقين إلى عدم تشبيه الإله

بالإنسان، وإسناد خصائص الإنسان له، كما نفكر في السماء بأنها أقرب إلى الروحية

منها إلى المادية؛ أي: أنها حالة لا مكان.

حالة أعمق في معنى الخلود من أن تحدد بتعاقب الأيام وكر السنين.

ويظهر أنه ليس للمعجزات نصيب في فلسفة أنج؛ لأنه يقول:

إذا كان كل شيء في العالم قد وضع لغرض، فإنني لا أستطيع أن أفهم، أو أن

أنتظر نشوء نتائج خاصة من حالات معينة.

إن قوانين الطبيعة الموافقة لهذه النظرية هي كغيرها قوانين صحيحة ذات

غرض معين، وهي قائمة بوظيفتها تمامًا، وإذا كانت من صنع إله قدير عالم، فإنا لا

ننتظر منها إلا أن تؤدي وظيفتها بنجاح ، وانتظام على وتيرة واحدة.

إن الآله التي تحتاج إلى إصلاحها لهي آلة فاسدة ، وأما تلك التي لم تصنعها يد

حكيمة ، فمن الصعب أن نطلق عليها اسم آلة على الإطلاق، على أن كل ما عمله

العلم ليثبت أن للعالم نظامًا مطردًا واحدًا يدل أصدق دلالة على أن هنالك قوة خالقة

واحدة.

وأما فيما يتعلق بنظرية الآلهة، أو وجود قوتين قوة للخير وقوة للشر تتنازعان

الغلبة بأسلحة متساوية، فإنه يقول:

(إن الرجال العلميين ، وأولئك الذين لا يستطيعون أن يلقبوا أنفسهم بهذا اللقب؛

إنما يحتجون على ذلك الصراع بين إله الخير وإله الشر ، وعلى نظرية تعدد الآلهة

عندما يرفضون الاعتراف بالمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه؛

لأنهم لا يجدون دليلاً صحيحًا على هذا الإيقاف ، ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن

تقسيم الأشياء والحوادث إلى طبيعية وغير طبيعية يبعد النظام الطبيعي عن دائرة

النفوذ الإلهية المباشرة) . اهـ.

(المنار)

لا مخرج للقسيس أنج وغيره من الذين تطالبهم فطرتهم وعقولهم بدين يتآخى

فيه العقل والقلب، ويؤيده المنطق والعلم، إلا باتباع دين القرآن، المبني على

أساس الحجة والبرهان، ويا ليته يطلع على ما كتبناه من وجوه إعجازه، وإذًا لا يرى

بدًّا من أن يكون من دعاته.

_________

ص: 144

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌آثار المساجد في إصلاح الأمة

الخطبة المنبرية

(خطبة منبرية ألقاها صديقنا الأستاذ: محمد عبد العزيز الخولي المدرس

بمدرسة القضاء الشرعي في افتتاح معالي وزير الأوقاف لجامع الخازنداره بشبرا،

بمصر، في يوم الجمعة 8 شعبان سنة 1345هـ، الموافق 11 فبراير سنة

1927م، ويعد ذلك الجامع من أهم جوامع القاهرة نظامًا واتساعًا) .

الحمد لله يجزي كل امرئ مما عمل، فمن عمل صالحًا؛ فله جزاء الحسنى،

ومن عمل سيئا فله سوء العقبى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ

سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) .

أشهد أن لا إله إلا الله، يعلم نفوسًا طيبة طاهرة مخلصة صادقة أنفقت مالها

في سبيل دينه، وإظهار شعائره، وإعلاء كلمته {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ

هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22) ، ويعلم نفوسًا أخرى غرتها زخارف الدنيا حتى

ألهتها عن الأخرى، فأنفقت مالها في سبيل المظاهر الكاذبة، والدعاية الباطلة

{أَوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) ،

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسوتنا في مكارم الأخلاق، قدوتنا في صالح

الأعمال، سباقنا إلى الخيرات، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه

الذين رووا من علمه، واستنوا به في عمله (جزاهم الله أحسن ما كانوا يعملون) .

(أما بعد) : فإن من أبر الأعمال، وأعظمها منزلة عند الله بناء المساجد،

وتعمير بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *

رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً

تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ

يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36-38) ? كيف لا تكون المساجد خير

ما يبنى، وفيها تقام الصلاة التي هي عماد الدين؟ ومن أقامها أقامه، ومن هدمها

هدمه، الصلاة التي حسب الجاهلون أنها حركات رياضية لا صلة لها بالأخلاق،

وسياسة الكون، وما دروا أن بالصلاة توثيق العلاقات بين أهل السماء وأهل

الأرض، وتوثيق العلاقات بين المخلوقين وأحكم الحاكمين، إن مصر لتسعى

جهدها في توثيق العلاقات بينها وبين الدول الأجنبية؛ لتأمن شرها، وتستجلب

خيرها، فهل تلكم الدول أعظم خطرًا وأعز جندًا من دولة السماء التي على رأسها

رب العالمين، وأعدل الحاكمين، الذي له جنود السموات والأرض، الذي بيده

ملكوت كل شيء، الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن؛ فيكون؟ فإذا كنا ننفق

الكثير من أموالنا في سبيل توثيق العلاقات، وإقامة المؤتمرات، فهلا ننفق القليل

من وقتنا في القيام بصلوات نوثق بها الروابط بيننا وبين ربنا وخالقنا؛ فيمدنا بجنده

الذي لا يغلب، وجيشه الذي لا يقهر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ

وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما آذاه قومه في سبيل الدعوة، ولم ير في

مكة جوًّا صالحًا لتتم له الكلمة؛ هاجر منها إلى المدينة حيث الأنصار الذين

{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى

أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، فلما أن وصل إلى قباء أول

ضاحية من ضواحي المدينة مكانتها من المدينة مكانة شبرا من القاهرة، كان أول

عمل قام به بناء مسجد قباء الذي يقول الله فيه: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ

أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة: 108) ، وكان صلى الله عليه وسلم يعمل فيه بنفسه، ولما أتمه، تحول

إلى المدينة، فتلقاه أهلها فرحين مستبشرين، وخرجت ذوات الخدر يقلن:

أشرق البدر علينا

واختفت منه البدور

مثل حسنك ما رأينا

قط يا وجه السرور

وكان أول ما عمله أن شرع في إقامة مسجده المعروف، وكان مكانه لغلامين

يتيمين، فاشتراه منهما بخمسة جنيهات، ثم أخذ يبني فيه مع أصحابه، وكان صلى

الله عليه وسلم ينقل الطوب والحجارة، ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة *

فاغفر للأنصار والمهاجرة) ، فأنتم ترون أن أول أعمال الرسول صلى الله عليه

وسلم في المدينة إقامة مسجدين، فلم يبدأ بفتح المدارس، أو إقامة المستشفيات،

أستغفر الله، بل فتح المساجد، وأقام المدارس، وبنى المستشفيات.

هل المساجد إلا مدارس تكون فيها الأخلاق، وتهذب الأرواح، وتلقى فيها

الدروس العلمية والعملية؟ ألست في المساجد تسمع آيات لله تتلى؟ وتسمع الحكم

العالية، والنصائح الغالية من كلام خاتم النبيين وسيد المرسلين، وإن ذلك شفاء لما

في الصدور، وهل مداواة الأجسام خير، أم مداواة الأرواح؟

إن المساجد بحق بيوت للعبادة، مدارس للتعليم الصحيح، مستشفيات لأمراض

النفوس.

إن المدارس الأولية التي تسعى الحكومة في نشرها جهد الطاقة، إنما تعم

الصبيان، وإن المساجد يعلم فيها الصبيان والشباب والشيوخ، بل يعلم فيها النساء

والرجال، وإن أنواع المدارس الأخرى، إنما تعلم بالأجر، والمساجد فتحت أبوابها

لكم لا تتقاضى منكم على التعليم أجرًا ولا ثمنًا.

فالمساجد في الأمة تؤدي خدمة عظيمة، لا تماثلها خدمة أخرى لو أن القائمين

فيها ممن عرفوا الدين حق معرفته، ودرسوا أصلية كتاب الله والسنة، لو أنهم ممن

خبروا الحياة، وعرفوا شؤونها، وكان لهم بجانب ذلك أرواح طاهرة، وعقول نيرة،

وحكمة بالغة، وعسى أن يكون ذلك قريبًا {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا

مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف: 10) .

روى البخاري ومسلم، عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى

الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له مثله في الجنة) .

_________

ص: 150

الكاتب: محمد رشيد رضا

قانون الأحوال الشخصية في مصر

والتنازع بين جمود الفقهاء

وإلحاد زنادقة المتفرنجين

(1)

لقد بيَّنَّا في مقالات كثيرة من مجلدات المنار منذ سنته الأولى إلى الآن ما كان

من تقصير علماء المسلمين فيما يجب عليهم للإسلام وأهله، واشتراكهم مع الحكام

والمتصوفة في أسباب إضعافه ، وإضاعة ملكه.

وبيَّنَّا في مقالات أخرى مفاسد ملاحدة المتفرنجين من المسلمين، وإضاعتهم

بقايا تراث الإسلام في شعوبهم من أدب وفضيلة ودين، وكنا نبين في أثناء بعض

هذه المقالات ، وفي مقالات مستقلة شدة حاجة المسلمين إلى حزب إصلاحي معتدل

يعرف أهله حقيقة الإسلام الصحيح الخالي من الخرافات والبدع، الداعي إلى

الصلاح والإصلاح والسعادة والسيادة والملك، ويعرفون ما يتوقف عليه الجمع بين

هذين الأمرين في هذا العصر من علوم وفنون ونظام ، وليكونوا هم أهل الحل

والعقد في شعوب الإسلام، ثم فصلنا القول في هذه الأحزاب الثلاثة في كتاب

(الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي كتبناه ، ونشرناه عند شروع الترك في هدم خلافة

آل عثمان الصورية؛ لبيان ما يجب على المسلمين في هذه الحال.

كان الفقهاء المقلدون أعوان الملوك، والسلاطين المستبدين، والحكام

المفسدين، وكان هؤلاء أنصارهم ورافعي شأنهم، وكان الغبن في ذلك على الشعوب

الإسلامية التي ابتليت برياسة الفريقين ، ثم اشترك مع الفقهاء في هذه المكانة من

الأمراء والملوك، وأعوانهم شيوخ طرق الصوفية بعد أن صارت رياسة للعوام في

الاحتفالات البدعية ومآدب الطعام، ليس فيها شيء من التصوف ولا من هداية

الإسلام، فلولا الملوك الجاهلون وأوقافهم؛ لما تفرق المسلمون شيعًا وأحزابًا باسم

المذاهب، بل كانوا يستقيمون على هدي السلف الصالح، أمة واحدة متحدة في دينها

ودنياها، تستفيد من علم كل نابغ مجتهد فيها من غير تعصب، ولا تحزب لأفراد من

العلماء يرجح كل حزب منهم ظن إمامه على نصوص الشارع، بل جعلوا أقوال

شيوخهم المتأخرين من مقلدي مقلدي المقلدين، كنصوص القرآن فيما يشبه التعبد

بألفاظها، وعدم الخروج عن معانيها، وإن خالفت نصوص الكتاب والسنة، ونافت

جميع مصالح الأمة، حتى ضاق من الحكام بهم كل ذرع، واضطروا إلى مخالفة ما

تعارفوا على أنه هو الشرع، إلى أن انقلب ذلك الوضع، وصار الحكام على هؤلاء

الجامدين ضدًّا، بعد أن كانوا ردءًا لهم ورفدًا. فأما الترك فقد تركوا الشرع كله،

ونبذوا فرعه وأصله، وألغوا محاكمه ومدارسه الشرعية، واستبدلوا به تشريع

الغرب ، وقوانينه الوضعية.

وأما مصر فقد سبقت الترك إلى أخذ القوانين المدنية والجزائية عن الإفرنج،

ثم جهر ملاحدتها في أثناء وضع القانون الأساسي للحكومة الدستورية ، وفي أثناء

وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الأول بأنهم يطلبون حكومة لا دينية ،

وقانونا مدنيًّا للأحوال الشخصية يكون عامًّا نافذًا على جميع المصريين، من ملاحدة

ودينيين، مسلمين وغير مسلمين، ثم نشرت جريدتهم (السياسة) مقلات كثيرة

إلحادية بقلم تحريرها ، وبأقلام أنصارها من غيرهم، ونصروا كتاب الشيخ علي

عبد الرزاق وهو من أركان حزبهم، نصرًا مؤزرًا؛ لجحده التشريع الإسلامي ،

وزعمه أن الإسلام ليس له دولة ولا حكومة ولا تشريع؛ لأنه دين روحاني محض،

ومن ذلك الحين طفق كُتَّابُ جريدة السياسة يطعنون في جميع علماء الدين

ويحقرونهم، وكان الدكتور طه حسين أول طاعن في الإسلام والمسلمين من أركان

محرري السياسة، ومنهم: محمود أفندي عزمي أول من كتب في الجرائد مقترحًا

أن تكون الحكومة المصرية لا دينية ، والأحكام الشخصية فيها مدنية، وهو الآن

إمام هذه الدعاية من محرري السياسة.

ثم نجم قرن الإلحاد في مجلس البرلمان في دورته السابقة ، ثم في دورته

الحاضرة من أفراد من الأعضاء لم يجدوا لهم مفندًا، بل وجدوا مؤيدًا ، طلب بعض

المسلمين منهم في الدورة الماضية فرصة لصلاة المغرب ، وتخصيص مكان

يصلون فيه كما كانت تفعل الدولة العثمانية، فقال بعض الأعضاء: إننا لا نريد

صلاة ، أو ما هذا معناه فنفذ قوله.

وفي الدورة الحاضرة طرحت مسألة تكذيب الدكتور طه حسين للقرآن ،

وطعنه في الإسلام في مجلس النواب الحاضر ، فأنحى بعض الأعضاء باللائمة على

الحكومة؛ لتركها إياه معلمًا لأولاد الأمة في أعلى مدارسها (الجامعة المصرية) ،

وعدم عقابه على الطعن في دينها الرسمي؛ فتصدى للرد عليهم صاحب الدولة

رئيس الوزارة عدلي باشا يكن ، ولكن شايعهم في إدارة نظام المفاوضات صاحب

الدولة سعد زغلول باشا رئيس المجلس حتى كاد يلجئ رئيس الوزارة إلى الاستقالة ،

فتلافى ذلك بعض النواب ، وأجلوا البحث إلى أن اجتمع الرئيسان ، واتفقا على

ترك هذه المسألة للقضاء ، ثم لم يفعل القضاء شيئا.

وبقي الدكتور طه حسين يلقن نابتة الأمة التشكيك في الدين ، ويجرئهم على

الإلحاد فيه.

وصاح عضو من أعضاء مجلس النواب في إحدى جلساته: بأنه يجب

القضاء على الدين الذي يبيح تعدد الزوجات - يعني دين الإسلام - وقال آخر:

(إن مصطفى كمال باشا لم يفعل إلا إزالة تكايا أهل الطريق الخرافيين) ، فلم ينكر

عليهما المسلمون منهم ، ومعناهما واحد ، ولكن قال قائل في هذا المجلس: (إنني

بصفتي مسلمًا) أقول كذا ، في مسألة إسلامية خاصة بالمسلمين، فصاح بعضهم في

وجهه: لا تقل: إنني مسلم ، ليس ههنا إلا مصري يمثل جميع المصريين ، أو ما

هذا معناه؛ فلم ينكر هذا أحد على قائله بأن تمثيل النائب لجميع المصريين يحرم

على المسلم أن يصرح بدينه، فههنا مسألة غفل عنها هؤلاء المتفرنجون ، وهي أن

هذا المجلس يضع قوانين شرعية إسلامية خاصة بالمسلمين ، وهي موضوع مقالنا

هذا ، فيجب أن يعلم المسلمون بأي صفة ، أو بأي حق يشرعونها.

ثم إن المعاهد الأزهرية كانت قد نالت من الحكومة المصرية مطالب كانت

تعدها ثمرة؛ لاشتراكها في الأعمال الوطنية التي قامت بها الأمة منذ ثورة سنة

1919 ، فسلبتها إياها الحكومة الائتلافية الدستورية الحاضرة؛ فثار طلاب الأزهر ،

وملحقاته بإغراء بعض المدرسين ثورة شؤمى سددوا فيها سهامهم إلى الدستور،

على ما يعتقد الجمهور، فنصح لهم العقلاء من أساتذتهم بترك هذا التهور ،

والإعراض عمن أغراهم به، فغرتهم كثرتهم ، وشقشقة ألسنتهم ، فلم تغنيا عنهم

شيئًا، كبحت الحكومة كل ما كان لهم من جماح، وقصصت كل ما كان لهم من

جناح؛ فأصبحوا في معاهدهم جاثمين، وانطلقت ألسنة الجرائد في أعراضهم،

وطفقت النيابة العامة تبحث عن موجبات العقاب القانوني من أقوالهم، وتدعو إلى

دور القضاء المتهمين من طلابهم وأساتذتهم، ثم حكمت على بعضهم؛ فغلبوا هنالك ،

وانقلبوا صاغرين، ولم يكونوا في ثورتهم ، ولا في سكونهم بمهتدين.

ثُم نقب بعض النواب عما أخذ الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر من وزارة

الأوقاف من المال الذي أنفق في سبيل مؤتمر الخلافة الذي تولى مع هيئة كبار

العلماء الدعوة إليه، فجاءهم وزير الأوقاف ببيانه، وقدره 2500 جنيه؛ فهاجت

الأحزاب الائتلافية الساخطة على شيخ الأزهر، وعلى العلماء العاملين في مؤتمر

الخلافة، وأنشأت جرائدها تشايع من بالغ من النواب في إنكار هذا العمل، وكان

لذلك سببان سياسي ، وإلحادي؛

(السبب الأول) أن الأحزاب البرلمانية المؤتلفة التي تمثلها الحكومة

الحاضرة تعد شيخ الجامع الأزهر، وكبار علمائه من أنصار حزب الاتحاد الذي

كان يؤيد الوزارة التي تولت أمر الحكومة في عهد تعطيل الدستور بقوة الاحتلال

القاهرة؛ إذ كان يعد نفسه ويعدونه هم حزب السراي) العامرة، وكان حسن نشأت

باشا وكيل وزارة الأوقاف، ورئيس الديوان الملكي بالنيابة، هو المرجع لشيخ

الأزهر، والسكرتير العام للمعاهد الدينية في أمر الدعوة إلى تأليف مؤتمر الخلافة،

ولذلك كان حزب الاتحاد وحده هو المؤيد لهذا المؤتمر ، وهو الذي لا يزال يدافع

عنه وعن أهله في جريدته إلى اليوم كما بلغنا ، وكانت الجرائد الوفدية ،

والدستورية تطعن فيه، وهي التي أثارت مسألة نفقاته من بعد، وألبسوها ثوبًا من

التدليس ، أو التزوير، تولى كبره بزعمهم الأستاذ الأكبر، وشاركه في وزره كل

من أصابه شيء من المال للمساعدة على هذا العمل، ذلك بأنه وجد في الوثائق

الرسمية أن الشيخ طلب من وزير الأوقاف مبلغًا من أموال الأوقاف الخيرية؛ لينفق

على بعض (الأعمال السائرة) في المعاهد الدينية ، وهو (لا يدخل في ميزانيتها) ،

فأعطاه وزير الأوقاف خمسمائة جنيه من فضل وقف يسمى وقف أم حسين عملاً

برأي لجنة الأوقاف الاستشارية، ثم طلب مبلغًا بعد مبلغ ، فكان جملة ما أخذه

2500 جنيهًا أنفقها في هذه السبيل، وهو زهاء.

(السبب الثاني) أن حزب الملاحدة افترض هذه الحملة وما ألبسته من ثوبي

زور؛ للانتقام من رجال الدين وتحقيرهم، وإبطال ثقة العامة بدينهم وعلمهم،

فطفق كتابه يحبرون المقالات في إثر المقالات، ويوالون الصيحات الهيعات: أيها

المسلمون، انظروا ما فعل علماؤكم الدينيون، أكلوا أموال الفقراء والمساكين،

واستحلوا ما حرم رب العالمين، فأثبتوا لكم أنه لا ذمة لهم ولا دين، وإننا نحن

الذين ينبذوننا بألقاب الإلحاد والزندقة، والإباحة المطلقة، نغار على دينكم وأوقافكم،

ونضرب على أصابعهم أن تسدر أخلافكم ، الأوقاف الأوقاف، ذهبت الأوقاف،

هلك مستحقو الأوقاف ، فعاقبوا شيخ الأزهر، على ما دلس وزوّر ....

هل يصدق أحد من علماء الدين، أو رجل مستقل الفكر، ولو من غير

المسلمين، أن أحدًا من هؤلاء الصائحين النائحين، يغار على الأوقاف، أو يدافع

عن الفقراء والمساكين، وهم يعلمون أن عشرات الألوف من الجنيهات تصرف

منتها كل عام في غير مصارفها الشرعية، ولا يرون جريدة تقول كلمة في ذلك؟

أم يعتقد عاقل أن شيخ الأزهر خدع وزير الأوقاف العالم القانوني، وغشه بإيهامه

إياه أن ما طلبه من المال لبعض الأعمال السائرة في المعاهد الدينية كان يريد إنفاقه

على العلم والتعليم بشرط أن لا يدخل ميزانية المعاهد؟ أيجهل أحد من رجال

الحكومة وأصحاب الصحف ومحرريها ، أو من الواقفين على الشؤون العامة من

أعضاء البرلمان وغيرهم أن وزير الأوقاف ، ووكيل وزارته ، ولجنة الشورى فيه

كانوا يعلمون أن شيخ الأزهر قد طلب المال؛ لأجل النفقة على مؤتمر الخلافة الذي

شرع في دعوة العالم الإسلامي إليه؟

كلا ، إنهم يعلمون ذلك ، ولكنهم يغشون من لا يعلم من النواب والعوام، فإن

كان في الطلب تزوير ، فالمسئول الأول عنه وزير الأوقاف ، لا شيخ الجامع الأزهر.

والحق أن شيخ الأزهر طلب ما يعتقد أنه حق مشروع ، وأنفقه في سبيله،

وإن أساءت السكرتارية في تفصيله، فإن مسألة الخلافة من أهم المسائل الإسلامية

التي يجوز الإنفاق في سبيلها من أموال الأوقاف الخيرية العامة ، وأما الشكل الذي

أبرز الطلب فيه ، وبنى الدفع عليه ، فالظاهر أنه أمر شكلي وضعته لجنة الاستشارة

في الأوقاف.

كان مجموع ما أجملناه من حوادث مصادمة الدين، وتحقير رجاله موسعًا

لمسافة الخلف، وسوء الظن بين رجال الدين، وبين دعاة الإلحاد الذين صرحوا في

مقالات عديدة نشرت في جريدة السياسة بأن ثقافة التفرنج الجديدة التي ترفع أركانها

مدرسة الجامعة المصرية ستقضي على الثقافة الإسلامية التي كان ينبوعها الجامع

الأزهر.

في أثناء هذا التنازع، والتصارع بين الإسلام والإلحاد قامت الحكومة

بمشروع قانون الأحكام الشخصية الذي نص فيه على: منع عقد المسلم التزوج على

زوج ثانية إلا بشروط فوض الأمر فيها إلى القاضي ، وعلى أحكام أخرى مخالفة

للمذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر ، وأمثاله من مدارس أهل السنة، فأوجس

جمهور علماء الأزهر وغيرهم خيفة منه، وعدوه خطوة أو خطوات في الطريق

التي سبقت إليها الحكومة التركية من تحديد سن الزواج في كل من الزوجين الذي

تبعتها فيه الحكومة المصرية ، ومن وضع (قانون العائلة) الذي هي بصدد اتباعها

فيه، وأخوف ما يخيفهم منه هو جعل الأحكام قانونًا، وجعل الشارع له البرلمان

المصري المؤلف من المسلمين، وغير المسلمين، وبناء تنفيذه على هذا لا على

كون الشارع له هو الله ورسوله.

ومن سوء حظ الأزهر أن الجامدين على التعصب لكتب معينة في فقه

المذاهب الأربعة ليسوا أصحاب حجة ولا برهان، ولا يقدرون على الدفاع عن

الدين بالسلاح العلمي القاطع في هذا الزمان، بل يريدون أن يكونوا على ما عهدوا

في الزمن الماضي من التسليم لهم بما يقولون أنه حكم الله، وهم يفتون في مسائل

حادثة لم تكن في عصر التنزيل ، ولا في عصور الاجتهاد المطلق أو المقيد ، أو

التخريج ، أو التصحيح ، واجتهاد المجتهد ظن له لا حكم لله، والتخريج عليه أبعد

منه عن ذلك، والتصحيح لأحد قولين مخرجين على نصوص المجتهد ، أو قواعده،

لا يرتقي صاحبه إلى درجة المخرج له، ودون هذه الطبقة طبقة ناقلي التصحيح،

ومنهم أفقه فقهاء هذا العصر على حسب عرف هؤلاء المقلدين، فهم في الدرجة

الخامسة عند طائفة ، والسادسة عند أخرى، وبينهم وبين معرفة حكم الله تعالى

خمسة حجب ، أو ستة باعترافهم.

ألا إن العالم يحتاج إلى إصلاح، ولن يستطيع شعب إسلامي أن يتحمل أثقال

تقليد هؤلاء المقلدين لمذهب واحد، ولا أن يجعلوا مصالحهم الزوجية والمنزلية

والمالية منوطة بفهمهم لكتب مذهب واحد في عسره ويسره، وقد آن للمستقلين في

فهم الدين أن يبينوا يسر الشرع الإلهي للمسلمين، فقد زالت دولة هؤلاء الجامدين

المشددين، ويخشى أن يدال منها لملاحدة المتفرنجين، وفي الأزهر وغيره من

المعاهد الدينية أنصار لهذا الإصلاح سيجدون أعوانًا من جميع الطبقات.

(للموضوع تتمة)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 153

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنباء العالم الإسلامي

(دعاة الشقاق للحرب بين الإمامين يحيى وعبد العزيز)

لا تزال إشاعات الشر عن استعداد الإمام يحيى لإيقاد نار الحرب تطوف

الأقطار؛ فتشغل الصحف وقراءها، ويتردد في بعض المجالس الخاصة ما هو

شر مما تنشر الصحف منها.

ومن هذا النوع ما ورد في مكتوبات خاصة من عدن ، وغيرها من أن محاضيء

الفتنة من روافض الأعاجم، وأنصارهم من الهنود السياسيين قد أرسلوا إلى الإمام

يحيى وفدًا يعرض عليه إمداده بألف ألف جنيه مساعدة له على قتال الملك ابن السعود

لإخراجه من الحجاز، ويقال: إن مع العضو الإيراني من هذا الوفد عضوًا أفغانيًّا.

فيا ليت شعري! هل هو عضو ملفق في الهند أم استطاع شاه إيران استمالة أمير

الأفغان السني المصلح المدني؛ ليساعده على هدم السنة، ومعاداة أنصارها؟ الراجح

عندنا أن الوفد كله ملفق بإغواء أعداء الإسلام والعرب راجا محمود آباد ، وأعوانه

الساعين في منع الحج، ولهؤلاء حزب في بعض بلاد الشرق.

وفي سورابايا (جاوه) جريدة عربية لهذا الحزب، تجهر بالدعوة إلى

هذه الحرب، وهي التي كان قد أسسها بعض غلاة الرفض من علوية

الحضارم؛ لدعايته في تلك البلاد التي ينتمي جميع أهلها إلى مذهب الإمام

الشافعي من أئمة السنة، فأحدثوا بينهم من الشقاق ما اشتهر أمره، وكان سببًا

لتأليف عدة جمعيات تطعن في العلويين أقبح الطعن بعدما كان الإجماع على

تعظيمهم وتكريمهم، وفاء لأسلافهم الذين نشروا الإسلام، ومذهب الشافعي هنالك.

تعظم هذه الجريدة أمر الإمام يحيى حميد الدين، وتكبر قوته، وتغلو في

استعداده الحربي، وتحبذ ما عقده من الاتفاق مع الدولة الإيطالية، وتطعن في

الإمام عبد العزيز ابن السعود، وتهون أمره، وتحقر قوته، ولا عجب فقد

سمع بعض علماء مصر ، وفضلائها من زعيم من أشهر رجال هذا الحزب أنه

يفضل استيلاء دولة أوربية على الحجاز ، ويراه أضعف ضررًا من استيلاء

ابن سعود عليه، ولكن الإمام يحيى أعلم من هؤلاء المتهورين بحقيقة قوته،

وقوة ملك الحجاز ونجد، وأعلم منهم بمصلحته، ومصلحة بلاده، وسيرى العالم

منتهى شوطهم في إغرائه، وتوريطه.

وأما نحن، فإننا نرى أن السياسة المثلى التي يجب أن يتبعها الإمامان

في الجزيرة العربية هي سياسة التآلف، والتحالف، والتعاون على حفظ

استقلال مهد الإسلام أن تمتد إليه يد الاستعمار، ونفوذ الأجانب، ونرى أن

من يوقد نار الحرب منهما على الآخر هو أكبر المجرمين، ولا يقبل له عذر

من الأعذار، ونرى مع هذا أن الخطر على اليمن أقوى وأقرب من الخطر

على الحجاز ونجد، ولعل الإمام يحيى قد شعر بزلته في الاتفاق مع إيطالية،

وإذًا لا يختار لنفسه الدخول في مأزق يضطره إلى تمكينها من قياده، ورسوخ

قدمها في بلاده.

***

(الحج في هذا العام)

نحمد الله تعالى أن أرى حزب الجريدة (الحضرموتية) بوادر خذلانه في

الدعوة إلى هدم ركن الإسلام الركين (الحج) في البلاد التي ينفث سمومه

الرفضية فيها، وهي جزائر جاوه ، وما جاورها، فإن المسلمين قد لبوا دعوة الله

تعالى على لسان رسوله وخليله إبراهيم، ولسان رسوله وحبيبه محمد صلوات الله

وسلامه عليهما وعلى آلهما إلى حج بيته الحرام ألوفًا وراء ألوف ، وداسوا

بأرجلهم دعوة هذا الحزب الذي كان يرفض السنة؛ فانتهى إلى رفض الفرض،

كما خذل أمثالهم في الهند الإنكليزية أيضًا بالرغم من أنف المتجرين بالدين في سوق

السياسة شوكت علي ، ومحمد علي، والمرجو أن لا يقل حجاج هذا العام من البحر

عن مائة وخمسين ألفًا، وقد بلغنا أن حكومة العراق لم تمنع الحج رسميًّا، ولكن

بعض الزعماء من أعداء السنة، ومن أصدقاء الملك هم الذين يصدون عنه صدودًا،

فانحصر المنع الرسمي لأداء هذه الفريضة في الدولة الإيرانية، فأين علماء الشيعة

في بلادها في الهند، والعراق، وجبل عامل؟ كيف يسكتون عنها في هذا العام،

بعد أن ثبت بالتواتر بطلان ما بنت عليه المنع في العام الماضي من عدم الثقة

بالأمن، ودعوى إلزام الناس أن يؤدوا المناسك على مذهب الحاكم دون مذاهبهم؟

ونحن نطلب من علماء النجف، وكربلاء، وجبل عامل إصدار بيان ينشر في

الصحف بأركان الحج، وشروط وجوبه؛ لنعلم هل لحكومة إيران عذر في المذهب

الجعفري ، أو الاثني عشري في منع المسلمين من إقامة هذا الركن من أركان الدين

بنص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ

فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) .

_________

ص: 159

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حكم بناء فنادق المسافرين

وإجارتها لغير المسلمين

(س5) جاءنا من عمر بك الداعوق أحد أعضاء جمعية المقاصد الخيرية

الإسلامية العاملين في بيروت كتابًا يتضمن: الاستفتاء في بناء فندق للجمعية كفنادق

مصر الكبرى ، وتأجيره

، فأجبناه بالجواب الآتي المتضمن للسؤال:

من محمد رشيد رضا إلى حضرة الوطني العمراني العامل عمر بك الداعوق،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فقد كتبت إلي بأن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت قد

طلب منها إنشاء فندق على الطراز الحديث كفنادق القطر المصري الكبرى؛

لاستثماره بالإجارة، وصرف أجرته السنوية في تعليم أولاد فقراء المسلمين،

وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة.

وسألتني: هل في تأجير الفندق محذور شرعي يحرمه؟ ولم تذكر لي ما

عرض لك من الشبهة على تحريمه؛ فكانت سبب السؤال، وما تأجير الفندق إلا

كتأجير دور السكنى للأفراد ، وأهل بيوتهم ، وحوانيت التجارة ومخازنها، وأنا

أعلم أن للجمعية شيئًا من ذلك تؤجره، كما أن لبعض أعضائها مثل ذلك، فما بالكم

تؤجرون هذه المباني ، ولا تستفتون في تأجيرها؛ لأن الإجارة من العقود المعلوم

حلها من الدين بالضرورة، وخصصتم إجارة الفندق بالاستفتاء.

والحال أن المراد صرف أجرته في أشرف الأعمال وأفضلها ، ويتسامح في

المصالح العامة ما لا يتسامح في المنافع الخاصة.

فإذا كانت الشبهة على هذا أن بعض المسافرين الذين ينزلون في هذه الفنادق

قد يشربون الخمر فيها، والمستأجر يعدها لهم ، ويبيعهم إياها، فسكان البيوت

والدور وغيرها ، وتجار الحوانيت منهم من يشربون الخمر ، ويفعلون غير ذلك

من المعاصي كالبيوع الباطلة ، أو الفاسدة ، والغش، ولا نعلم أن أحدًا من أئمة الفقه

اشترط في صحة إجارة الدار أن يكون المستأجر مسلمًا من الصالحين المتقين؛ لئلا

يرتكب فيها محرمًا.

فالتأجير لغير المسلم ، وللمسلم الفاسق جائز بالإجماع، وإننا نرى وزارة

الأوقاف بمصر ، ونظار الأوقاف الخاصة في هذه البلاد ، وغيرها من بلاد الإسلام

يؤجرون الدور الموقوفة للمسلمين وغير المسلمين ، ولا يبحثون عن عقائدهم ،

ولا عن أعمالهم، وأوقاف المساجد ، والأعمال الخيرية في ذلك سواء ، والفنادق

الكبرى في مصر يستأجرها ، ويدير نظامها أناس ليسوا من المسلمين ، ولا من دار

الإسلام.

وقد نص الفقهاء على أن غير المسلم لا يكلف مراعاة الأحكام الشرعية

الإسلامية المدنية في غير دار الإسلام، كشروط البيع ، والإجارة ، والشركات،

وكذلك يكون فندق جمعيتكم في بيروت غالبًا ، وإن كان فيها فنادق أخرى صغيرة

محلية يتولى إدارتها بعض المسلمين.

وأنتم تعلمون أن بيروت ، وسائر سورية الآن ليست دار إسلام ، أي: الأحكام

المدنية فيها ليست على الشرعية الإسلامية، والسلطة فيها ليست في أيدي المسلمين،

هذا ، وإن أكثر أحكام المعاملات المدنية في الشريعة الإسلامية اجتهادية مبنية

على ضبط المعاملات التي تدور على حفظ المصالح ، ودرء المفاسد، وقد أفتى

الفقهاء بحل جميع أموال أهل الحرب ، فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها، فما كان

برضاهم ، أو عقودهم؛ فهو حلال لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح، ويجري

على هذا مسلمو بعض الأقطار كالصين ، وكذا بعض بلاد الهند فيما بلغنا. ومن أفظع

الجهل بأحكام شريعتنا ، وحكمها أن نجعلها - وهي الحنيفية السمحة التي غايتها

سعادة الدارين - سببًا لشقاء المسلمين ، وفقرهم ، واستيلاء غيرهم على ثروتهم في

دارهم وغير دارهم، وهم يعلمون أن جميع الأحكام المالية حتى الدينية منها كالزكاة لم

تشرع إلا بعد أن صار للمسلمين دار تنفذ فيها أحكامها بعد الهجرة النبوية.

فإن قلت: هل يحل للمسلم أن يبني معبدًا؛ ليؤجره لأهل ملة يعبدون فيه غير

الله تعالى؟ أو حانة للخمر ، أو ماخورًا للفسق يؤجرهما لغير المسلمين؛ لينتفع

بمالهم؟ قلت: لا يحل له ذلك؛ لأنه يبني لأجل الشرك بالله ، ونشر الفسق الذي

حرمه الله؛ ابتداءً وقصدًا لذلك.

والفندق ليس كذلك؛ إذ لا يبنى لأجل الشرك ، ولا لأجل الفسق ، ولا يؤجر

لأجلهما مباشرة وقصدًا، بل القصد منه إيواء المسافرين ، فهو كالدور التي يسكنها

الأفراد والأسر، والمستشفيات التي تعد لمداواة المرضى، وفي كل من الدور

والمستشفيات قد يقع بعض المحرمات من شرب الخمر، وغيره من المكلفين بفروع

الشريعة ، وغيرهم، ولكن الدار لم تبن، ولم تؤجر لأجل هذه المحرمات التي قلما

يخلو منها مكان في هذا العصر، وكذلك المستشفى.

وههنا مدرك آخر للنازلة المسؤول عنها ، وهي مراعاة حال العصر التي يعبر

عنها الفقهاء بعموم البلوى ، فمن المعلوم أن مدينة بيروت أكثر أهلها من غير

المسلمين ، وأن المسلمين فيها قد فشت فيهم ضروب من الفسق كشرب الخمر ،

والزنا من الكبائر، والظهور على عورات النساء المحارم ، وغير المحارم من

الصغائر التي هي ذرائع الكبائر، والكثير من دورها ، وحوانيتها ، أو أكثرها

للمسلمين، فإذا لم يبح لهم إجارة دورهم ، وحوانيتهم إلا لمسلم صالح تقي يرجح

المستأجر أنه لا يرتكب فيها محرمًا ، فإن أكثرها يصير معطلا ًخاليًا لا ينتفع به ،

بل يسرع إليه الخراب، كما يسرع إلى أهله الفقر والفناء؛ لأن المسلم الصالح

التقي المأمون فسقه قليل ، وربما يكون مالكًا لبيت يسكنه.

وهذا حجة الإسلام الغزالي من أكبر فقهاء الشافعية ، وصوفية المسلمين

الورعين قد أفتى بأن المال إذا حرم كله في بلد ، أو قطر حل كله ، وقال هو وغيره:

(إن البلاد التي يغلب ، أو يعم المال الحرام بالمعاملات الباطلة ، والفاسدة لا يؤخذ

فيه بقول من قال: إنه يتعدى ، بل يكفي المسلم الورع فيه أن يأخذ المال من طريق

حلال ، وإن كان أصله حرامًا) .

فإذا راعينا مع هذا قاعدة إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -

في كون العبادات يؤخذ فيها بظواهر النصوص من الكتاب والسنة ، وكون مدار

أحكام المعاملات على المصلحة ، وأن النصوص ترد إليها، وتذكرنا مع هذا أنه

ليس لدينا نص من الكتاب ، ولا من السنة في تحريم بناء الفنادق ، ولا تحريم

إجارتها يعارض أصل الإباحة ، أو يعارض المصلحة المعلومة بالقطع؛ لم يبق

لديك احتياج إلى دليل آخر على الحل الذي لا تشوبه شبهة.

وفوق هذا كله خطر تحريم ما لم يحرمه الله تعالى في كتابه ، ولا على لسان

رسوله بنص قطعي لا شبهة فيه.

هذا الخطر أكبر ، وأشد ، وأعظم من خطر اتقاء شبهة في عمل حلال في الأصل

كالشبهة التي فرضناها في نازلتنا.

يقول علماء الأصول: إن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا،

فأين هذا الخطاب في مسألتنا؟ قد أنزل الله تعالى في أم الخبائث ، وأضر الرذائل

قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ

كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) ، وما كان ضرره

أكبر من نفعه ، والمفسدة فيه أكبر من المصلحة بتجارب الناس ، فهو محرم عند

جميع فقهائنا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الخمر والقمار على

جميع المسلمين بهذه الآية التي أخبر فيها رب العالمين المحيط بكل شيء علمًا بأن

إثمهما أكبر من نفعهما، فعلم منه أن هذا لا يقتضي ترك جميع الناس لهما اقتضاء

قطعيًّا جازمًا؛ إذ بقي فيه مجال لاجتهاد الأفراد في الموازنة بين النفع والضرر؛

ولذك ترك الخمر والميسر بعض الصحابة؛ لأنهم فهموا منها التحريم ، وظل

بعضهم يشرب الخمر ، ويأكل مال الميسر، وظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بيانًا) حتى إذا ما نزلت آيات سورة المائدة آمرة

باجتنابها أمرًا صريحًا لا يحتمل التأويل مؤكدة له ببيان علته ، وبقوله تعالى:

{فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) قال جميع المسلمين: قد انتهينا يا ربنا.

وصار كل من عنده خمر يهرقها حتى سالت بها شوارع المدينة كأودية السيل.

إن التحريم الديني على العباد حق الله وحده ، وقد قال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا

تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116)، وقال في بيان أصول الكفر والمعاصي الكلية:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) قال بعض المحققين: إن هذه المحرمات قد ذكرت على طريقة الترقي في الغلظة ،

والشدة كل نوع أغلظ مما قبله، وذلك أن كلاًّ من المعاصي ، والشرك ، والكفر

قسمان: قاصر على فاعله، ومتعد إلى غيره ، فمعصية البغي على الناس أشد من

الفاحشة والإثم القاصر على فاعله، والشرك بالقول على الله تعالى بغير علم

أغلظ من الشرك القاصر على فاعله، وقد صرح الكتاب العزيز بأن القول في

الشرع بغير وحي من الله تعالى شرك به في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم

مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) ، وقد فسرها النبي صلى الله

عليه وسلم نفسه في حديث عدي بن حاتم بأنهم كانوا يحلون لهم ، ويحرمون

عليهم ، فيتبعونهم، فهذا معنى اتخاذهم أربابًا، ويراجع النص في التفسير المأثور

من شاء.

أكتفي بهذا في بيان دحض شبهة تحريم بناء الفندق ، وتحريم إجارته {وَاللَّهُ

يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

_________

ص: 161

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما قبله)

(النوع الثاني) من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافرًا إلا من حمل

الزاد والمزاد دون من كان نازلاً ، فكان لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر ، والتاني [1] ،

والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك ، ولم يُقَدِّر عثمان للسفر

قدرًا ، بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر ، وكذلك قيل: إنه لم ير نفسه والذين معه

مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة.

وذكر ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: (السفر الذي

تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد) ، ومأخذ هذا القول - والله أعلم -

أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام ، والرجل إذا كان مقيمًا في مكان يجد فيه

الطعام والشراب، لم يكن مسافرًا ، بل مقيمًا بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل

الطعام والشراب ، فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر ،

وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة ، والمشقة إنما تكون لمن

يحتاج إلى حمل الطعام والشراب، وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس

وجنس ، روى ابن شيبة عن علي بن مسهر ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن

قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله بن مسعود قال: (لا يغرنكم

سوادكم هذا من صلاتكم ، فإنه من مصركم) .

فقوله: (من مصركم) يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان

تابعًا له ، وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ،

عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن ، فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي ،

وشرط علي أن لا أفطر ، ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه ، وبينهما نيف وستون

ميلاً ، وعن حذيفة:(أن لا يقصر إلى السواد) ، وبين الكوفة والسواد تسعون

ميلاً ، وعن معاذ بن جبل ، وعقبة بن عامر: (لا يطأ أحدكم بماشية أحداب

الجبال ، أو بطون الأودية ، وتزعمون أنكم سفر ، لا ولا كرامة ، إنما التقصير في

السفر من الباءآت [2] من الأفق إلى الأفق) .

(قلت) : هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان ، ولا بالمكان

لكن جعلوا هذا الجنس من السير سفرًا كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد

ومزاد ، فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل

فيه الزاد والمزاد ، فهو كالمقيم ، فقد وافقوا عثمان ، لكن ابن مسعود خالف عثمان

في إتمامه بمنى، وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة ، وإنما

المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق ، فهذا هو

الظاهر؛ ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: (فإنه من مصركم) ، وهذا كما أن ما

حول المصر من البساتين ، والمزارع تابعة له ، فهم يجعلون ذلك كذلك ، وإن طال ،

ولا يجدون فيه مسافة ، وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من

هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير.

وفي حديث معاذ: (من خرج من مخلاف إلى مخلاف) يدل على ذلك ما

رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، سمعت قيس بن

عمير يحدث عن أبيه ، عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على

بغلة له مسيرة أربعة فراسخ ، فصلى الظهر ركعتين، قال شعبة: أخبرني بهذا

قيس بن عمران ، وأبوه عمران بن عمير شاهد ، وعمير مولى ابن مسعود. فهذا

يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة ، ولكن اعتبر أمرًا آخر

كالأعمال ، وهذا أمر لا يحد بمسافة ، ولا زمان لكن بعموم الولايات،

وخصوصها، مثل من كان بدمشق ، فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها؛

كان مسافرًا.

وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر؛ إنما رخص فيه

للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتياجه إلى الرخصة، وعلموا أن المنتقل في

المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر ، وكذلك الخارج إلى ما حول المصر ،

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، ولم

يكن يقصر ، وكذلك المسلمون كانوا ينتابون الجمعة من العوالي ، ولم يكونوا

يقصرون ، فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم.

وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة،

ومزدلفة، ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة ، ومضافة إليها ، وهي أكثر تبعًا لها من

السواد للكوفة ، وأقرب إليها منها ، فإن بين باب بني شيبة ، وموقف الإمام بعرفة

عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة ، وهذا السير وهم

مسافرون ، وإذا قيل: المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام؛ قيل: بل كان

هناك قرية نمرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بها ، وكان بها أسواق ،

وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة ، ولأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام

فيه ، وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ،

والمسلمين سافروا إلى مكة ، وهي بلد يمكن الإقامة فيه ، وما زالوا مسافرين في

غزوهم وحجهم وعمرتهم ، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف

مكة عام الفتح وقال: (يا أهل مكة ، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، وكذلك عمر

بعده فعل ذلك ، رواه مالك بإسناد صحيح ، ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه

وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر بمنى [3] ، ومن نقل ذلك عنهم؛ فقد غلط ، وهذا

بخلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا ،

وخروجه إلى الصلاة على الشهداء ، فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم ،

وبخلاف ذهابه إلى البقيع ، وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة؛ ليجمعوا [4] بها ،

فإن هذا كله ليس بسفر ، فإن اسم المدينة متناول هذا كله ، وإنما الناس قسمان:

الأعراب ، وأهل المدينة ، ولأن الواحد منهم يذهب ، ويرجع إلى أهله في يومه من

غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر ، فلا يحمل زادًا ، ولا مزادًا لا في طريقه ، ولا في

المنزل الذي يصل إليه؛ ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافرًا؛ ولهذا

تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء ، وهو يقدر بسماع النداء

وبفرسخ ، ولو كان ذلك سفرًا لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرًا ، فإن الجمعة

لا تجب على مسافر ، فكيف يجب أن يسافر لها.

وعلى هذا ، فالمسافر لم يكن مسافرًا لقطعه مسافة محدودة ، ولا لقطعه أياما

محدودة؛ بل كان مسافرًا لجنس العمل الذي هو سفر ، وقد يكون مسافرًا من مسافة

قريبة ، ولا يكون مسافرًا من أبعد منها ، مثل أن يركب فرسًا سابقًا ، ويسير مسافة

بريد ، ثم يرجع من ساعة إلى بلده ، فهذا ليس مسافرًا ، وإن قطع هذه المسافة في

يوم وليلة ، ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد؛ فكان مسافرًا كما كان سفر أهل

مكة إلى عرفة ، ولو ركب رجل فرسًا سابقًا إلى عرفة ، ثم رجع من يومه إلى مكة؛

لم يكن مسافرًا ، يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (يمسح

المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، والمقيم يومًا وليلة) ، فلو قطع بريدًا في ثلاثة أيام؛

كان مسافرًا ثلاثة أيام ولياليهن؛ فيجب أن يمسح مسح سفر ، ولو قطع البريد في

نصف يوم؛ لم يكن مسافرًا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة

أيام سواء كان سفره حثيثًا ، أو بطيئًا ، سواء كانت الأيام طوالاً ، أو قصارًا.

ومن قدره ثلاثة أيام ، أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والأقدام ، وجعلوا

المسافة الواحدة حدًّا يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم؛ جعلوه مسافرًا

ولو قطع ما دونها في عشرة أيام؛ لم يجعلوه مسافرًا ، وهذا مخالف لكلام النبي

صلى الله عليه وسلم.

وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى قباء ، والعوالي وأُحُد ،

ومجيء أصحابه، من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين

الأبنية، والحوائط التي هي النخيل، وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر،

والمسافر لا بد أن يسفر؛ أي: يخرج إلى الصحراء، فإن لفظ السفر يدل على ذلك،

يقال: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته ، فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف

فيها من بين المساكن؛ لا يكون مسافرًا ، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ

مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101)، وقال تعالى:

{مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا

يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} (التوبة: 120)، فجعل الناس قسمين: أهل المدينة

والأعراب.

والأعراب: هم أهل العمود ، وأهل المدينة: هم أهل المدر، فجميع من كان

ساكنًا في مدر، كان من أهل المدينة ، ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من

خارجها ، بل كانت محال، محال، وتسمى المحلة دارًا، والمحلة: القرية الصغيرة

فيها المساكن ، وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة، فبنو مالك بن النجار في

قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك، وبنو

مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك ، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن

الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك ، وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون

الأنصار كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار دار بني

النجار ، ثم دار بني الحارث ، ثم دار بني ساعدة ، وفي كل دور الأنصار

خير) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار ، وهناك

بنى مسجده ، وكان حائطًا لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور ، فأمر بالنخل

فقطعت ، وبالقبور فنبشت ، وبالخرب فسويت ، وبنى مسجده هناك ، وكانت سائر

دور الأنصار حول ذلك ، قال ابن حزم: ولم يكن هناك مصر. قال: وهذا أمر لا

يجهله أحد ، بل هو نقل الكوافي عن الكوافي ، وذلك كله مدينة واحدة ، كما جعل

الله الناس نوعين: أهل المدينة ، ومن حولهم من الأعراب، فمن ليس من الأعراب ،

فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجًا وسورًا وربضًا كما يقال

مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة

بريدًا في بريد ، والمدينة بين لابتين، واللابة: الأرض التي ترابها حجارة سود ،

وقال: (ما بين لابتيها حرم) ، فما بين لابتيها كله من المدينة ، وهو حرم ، فهذا

بريد لا يكون الضارب فيه مسافرًا.

وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافرًا فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري

خارجة عن مكة ، ليست كالعوالي من المدينة ، وهذا أيضًا مما يبين أنه لا اعتبار

بمسافة محدودة ، فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة؛ لم يكن

مسافرًا ، والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا ، فعلم أنه لا

بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان ، فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا

سكان فيها يحمل فيها الزاد والمزاد؛ فهو مسافر ، وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان

الذي يقصده.

وكان عثمان جعل حكم المكان يقصده حكم طريقه ، فلا بد أن يعدم فيه الزاد

والمزاد ، وخالفه أكثر علماء الصحابة ، وقولهم أرجح ، فإن النبي صلى الله عليه

وسلم قصر بمكة عام فتح مكة ، وفيها الزاد والمزاد ، وإذا كانت منى قرية فيها زاد

ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرًا من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها ،

ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفًا؛ لأنه

لما فتح مكة والكفار كثيرون ، وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له ، وعثمان يُجَوِّزُ

القصر لمن كان بحضرة عدو ، وهذا كما يحكى عن عثمان أنه - يعني النبي صلى الله

عليه وسلم - إنما أمرهم بالمتعة؛ لأنهم كانوا خائفين ، وخالفه علي ، وعمران بن

حصين ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة ، وقولهم هو الراجح ، فإن

النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان آمنًا لا يخاف إلا الله ، وقد أمر

أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ، والقصر. وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر ، ولكن

إذا اجتمع الخوف والسفر؛ أبيح قصر العدد ، وقصر الركعات ، وقد قال النبي صلى

الله عليه وسلم هو وعمر بعده لما صليا بمكة: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم ، فإنا قوم

سفر) ، بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفرًا؛ فلهذا الحكم تعلق

بالسفر ، ولم يعلقه بالخوف.

فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال ، وكلام الصحابة ، أو أكثرهم

من هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة ، أو زمان محدود

يشترط فيه جميع الناس ، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل ، فمن رأوه مسافرًا

أثبتوا له حكم السفر ، وإلا فلا.

ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان ، فروى وكيع ، عن الثوري ، عن

منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: (إذا سافرت يومًا إلى

العشاء ، فإن زدت؛ فقصر) ، ورواه الحجاج بن منهال، ثنا أبو عوانة ، عن

منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: (لا يقصر المسافر في

مسيرة يوم إلى العتمة إلا في أكثر من ذلك) ، وروى وكيع ، عن شعبة ، عن شبيل ،

عن أبي جمرة الضبعي قال: قلت لابن عباس: أقصر إلى الأيلة؟ قال: تذهب

وتجيء في يوم؟ قلت: نعم. قال: لا إلا يوم متاح، فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع

إلى أهله في يوم ، هذه مسيرة بريد ، وأذن في يوم ، وفي الأول نهاه أن يقصر إلا

في أكثر من يوم ، وقد روي نحو الأول عن عكرمة مولاه قال: (إذا خرجت من عند

أهلك؛ فاقصر ، فإذا أتيت أهلك؛ فأتمم) ، وعن الأوزاعي: (لا قصر إلا في يوم

تام) ، وروى وكيع ، عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي ، عن عطاء بن أبي

رباح قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: (لا ، ولكن إلى الطائف وعسفان ،

فذلك ثمانية وأربعون ميلاً) ، وروى ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء

قلت لابن عباس: أقصر إلى منى أوعرفة؟ قال: لا ، ولكن إلى الطائف ، أو جدة ،

أو عسفان ، فإذا وردت على ماشية لك ، أو أهل؛ فأتم الصلاة. وهذا الأثر قد اعتمده

أحمد والشافعي. قال ابن حزم: من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان

وثلاثون ميلاً.. قال: وأخبرنا الثقاة أن من جدة إلى مكة أربعين ميلاً. (قلت) :

نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ، ويرجع من يومه

إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه ، ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى

عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر

في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ، ومزدلفة.

وابن عباس من أعلم الناس بالسنة ، فلا يخفى عليه مثل ذلك ، وأصحابه

المكيون كانوا يقصرون في الحج إلى عرفة ، ومزدلفة ، كطاوس ، وغيره ، وابن

عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج ، وكان

أصحاب ابن عباس كطاوس يقول أحدهم: أترى الناس - يعني أهل مكة - صلوا في

الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه حجة قاطعة ، فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقًا

كثيرًا ، وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه ، وإنما صلى بمنى أيام منى قصرًا ،

والناس كلهم يصلون خلفه، أهل مكة ، وسائر المسلمين ، لم يأمر أحدًا منهم أن يتم

صلاته ، ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح ، ولا ضعيف ، ثم أبو بكر ، وعمر

بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة ، وغيرهم كذلك ، ولا يأمران أحدًا بإتمام،

مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال: (يا أهل مكة ، أتموا

صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) ، وهذا أيضًا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في

أهل مكة عام الفتح لا في حجة الوداع ، فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلي بمكة ،

بل كان يصلي بمنزله ، وقد رواه أبو داود وغيره ، وفي إسناده مقال.

والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ، ومزدلفة ،

ومنى بأهل مكة ، وغيرهم ، وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام؛ علم قطعًا

أنهم كانوا يقصرون خلفه ، وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس ، ولا

غيره ، ولهذا لم يعلم أحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى

ركعتين ، فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى ، أو

عرفة سفرًا لا ينزل فيه بمنى وعرفة ، بل يرجع من يومه ، فهذا لا يقصر عنده؛

لأنه قد بين أن من ذهب ، ورجع من يومه لا يقصر ، وإنما يقصر من سافر يومًا ،

ولم يقل: مسيرة يوم. بل اعتبر أن يكون السفر يومًا ، وقد استفاض عنه جواز

القصر إلى عسفان ، وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلاً ، وغيره يقول: أربعة

برد ثمانية وأربعون ميلاً ، والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلاً عمدتهم قول ابن

عباس ، وابن عمر.

وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك ، فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يأخذ

ببعض أقوالهما دون بعض ، بل إما أن يجمع بينهما ، وإما أن يطلب دليلاً آخر ،

فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر ، ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخًا

من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول: لم أجد أحدًا قال

بأقل من القصر فيما دون هذا ، فيكون هذا إجماعًا. وهذه طريقة الشافعي ، وهذا

أيضًا منقول عن الليث بن سعد ، فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال

بأقل من ذلك ، وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كذا بالأصل.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أي لم يأمروا أهل مكة بالإتمام؛ لأنهم يعدون في منى مسافرين.

(4)

أي: ليصلوا الجمعة.

ص: 186

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى

(3)

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم

لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي

مفتي الديار المصرية سابقًا [*]

وفي صفحة 16: (وكان أبو موسى الأشعري يتجافى عن أكل الدجاج؛ لأنه

لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ) إلخ، نقول: وكذلك كان صلى الله عليه وسلم

يتجافى عن أكل المباح الذي لم يتعوده كما في قصة الضب إلخ. ففي الموطأ عن

خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي

صلى الله عليه وسلم، فأتي بضب محنوذ ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه

وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله

عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه. فقيل هو ضب يا رسول الله. فرفع يده ، فقلت:

أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: لا ولكنه لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه.

قال خالد: فاجتررته ، فأكلته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.. اهـ.

فانظر إلى هذه الوطنية [1] الصادقة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لم

يكن بأرض قومي) ، وإلى امتناع أبي موسى الأشعري عن أكل الدجاج؛ لأنه لم

يعهدها للعرب.. إلخ.

ومن الغريب أن يتجافى الرسول وأصحابه عن أكل طعام مباح؛ لعدم اعتياد

فقط ، بينما ترى كثيرًا من المسلمين وبعض فقهائهم وزعمائهم يتساقطون على

قصاع الخنزير ومأكولات الإفرنج، ويتغالون في شراء علب المربيات والسمك

والضفادع والحشرات رغمًا عما يرد يوميًّا في الكتب والمجلات الطبية من النهي

عن أكلها ، والتحذير من قربانها؛ لتعفنها من جهة ، ولغشها بخلطها بمواد أخرى

الله أعلم من أين يؤتى بها.

وفي صفحة 16 فانظر تجد أن النكبة إنما جاءت على المسلمين من مخالفتها

ما تقتضيه الخلافة إلخ، نقول: وعليه ، فيجب على جميع العلماء في العالم

الإسلامي السعي العظيم لإرجاع الخلافة ، وبذل أعظم المجهودات؛ لجمع مؤتمر

الخلافة ثانيًا ، وتنظيمه لانتخاب الخليفة ومحاربة الملك الطبيعي أين وجد.

وفي صفحة 48: (وحكم مثل هذا الإجماع أن يكون المجمع عليه عقيدة ،

ويكون منكره كافرًا [2] ) إلخ، نقول: إن ذلك صار عقيدةً راسخةً عند المسلمين

اهتم العلماء بها ، وبحثوها في مؤلفاتهم الدينية في الحديث والأصول والكلام ،

وأودعوها حتى في التآليف التعليمية والأراجيز الابتدائية التي تؤلف للمبتدئين قديمًا

وحديثًًا؛ لتنشئتهم على العلم بأنها من المعتقدات الدينية ، قال في الجوهرة:

وواجب نصب إمام عدل

بالشرع فاعلم لا بحكم العقل

فإلى متى يعتذر عن هذا الأصم المتخرج من الأزهر الذي يحارب الدين

بالبهتان والسفسطة ، {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ} (الأنفال: 22) .

وفي صفحة 65: (وإن لم يكن إلا ما كان في القرآن من سياسة ، وإلا ما

في كتب الفقه من سياسة ، وتقسيمه الأحكام إلى مغلظة وغير مغلظة إلخ) ، نزيد

على ذلك أن كتب الحديث الستة ، والموطأ قد استقصت أكثر الأحكام السياسية

الشرعية المدنية والجنائية، ففي صحيح البخاري ما يناهز 4000 ترجمة بعضها

في العبادات: الإيمان والتوحيد والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج،

وأكثرها في الأحكام السياسية الشرعية المدنية والجنائية.

ففي كتاب العلم نحو 55 ترجمة، وفي كتاب الزكاة نحو 80 ترجمة، وفي

كتاب البيوع وما شاكلها كالصرف والمرابحة والسلم والشفعة والإجارة وأجور

العملة، والسماسرة، وأهل الحرف اليدوية وشبهها، والكراء، والجعل الحوالات

نحو 170 ترجمة.

وفي المعاملات وما ألحق بها كالوكالة ، والشركة ، والمزارعة ، والمساقاة،

والقرض ، والقراض، وأداء الديون، والحجر ، والتفليس، والخصومات،

والصلح، والإصلاح، والرهن، والضمان، والإقرار، والاستحقاق، والوديعة،

والعارية ، والغصب، والاستحقاق، والمظالم ، والكتابة، والعتق ، والهبة،

والشهادات، والشروط؛ أي: التوثيق نحو 390 ترجمة، وفي كتاب الوصايا

والأوقاف نحو 40 ترجمة، وفي كتاب النكاح والطلاق والنفقات نحو 195 ترجمة،

وفي كتاب الأطعمة والأشربة والذبائح والصيد نحو 130 ترجمة، وفي كتاب

المرضى والطب نحو 80 ترجمة، وفي كتاب اللباس نحو 100 ترجمة، وفي

كتاب الآداب العامة كصلة الرحم ، والاستئذان، وآداب الزيارة ، والضيافة،

والصحبة ، والمعاشرة، وحفظ السر ، وإفشاء السلام، والتواد ، والإيثار على

النفس، والتواصي بالصبر والمرحمة نحو 180 ترجمة، وفي كتاب الجهاد

وأحكامه نحو 240 ترجمة، وفي كتاب النكاح.. إلخ ، وفي كتاب الحدود والديات

والعفو عنها نحو 95 ترجمة، وفي كتاب الحيل والخداع في البيوع والمعاملات

نحو 15 ترجمة، وفي كتاب الأحكام والخلافة والاستخلاف نحو 55 ترجمة.

***

هذه نبذة مما اشتمل عليه صحيح البخاري رحمه الله

وقد اشتمل كتاب الموطأ على أزيد من 600 ترجمة.

وصحيح مسلم على أزيد من 1000 ترجمة.

وسنن الترمذي على ما يناهز 2000 ترجمة.

وسنن أبي داود علي ما يناهز 200 ترجمة.

وسنن النسائي على ما يناهز 1000 ترجمة.

وسنن ابن ماجه على زهاء 200 ترجمة.

هذه أمهات كتب الحديث الصحيحة المعترف بها المسلمة عند جميع أهل

السنة، أما غيرها من كتب الحديث ، فلا تحصى، وكذلك كتب الأصول ، ومدونات

الفقه لا حصر لها، فهل مع هذا يتمادى الملحدون ، وأذنابهم على إصرارهم وقولهم:

إن حظ العلوم السياسية عند المسلمين كان سيئًا، وإن وجودها بينهم كان أضعف

وجودًا، وإنهم لم يجدوا للمسلمين مؤلفًا في السياسة، ولا يعرفون لهم بحثًا في شيء

من أنظمة الحكم. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

وإذا لم يتفق للمأجور علي عبد الرازق هو وأربابه الملحدون أن يطالعوا

مؤلفات الإسلام وأمهات الدين، أفلم يقف على كتاب كشف الظنون ، وفهارس دار

الكتب السلطانية ، وخزائن الأزهر وغيره، والخزانتين التيمورية والزكية، وإذا

كان لم ير شيئًا من ذلك، فكيف ساغ له أن يهاجم حصون الإسلام المنيعة ، وهو

خاوي الوفاض من كل شيء إلا سلاح الإلحاد والقحة {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 59) .

وفي صفحة 100: (والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد؛ إنما هو

مراعاة المصلحة إلخ) ، نقول: هذا الرأي هو الرأي السديد الذي أنتجته قرائح

المفكرين من جهابذة العلماء؛ فيتحتم قبوله ، واعتقاده [3] ، وأما ما في بعض كتب

التاريخ والأدب من أن معاوية أغرى بعض قادة الأمة ، ورؤساءها بأن يسألوه في

المجلس العمومي أن يوصي بولاية العهد إلى ابنه يزيد كما يقع اليوم بين رؤساء

الوزارات ، وبين أقطاب الأحزاب في أوربا وأميركا في المسائل الهامة كالانتخابات

وإبرام المعاهدات ، أو نقضها ، فذلك كله من الروايات المدخولة، وآتٍ فقط من

خصوم معاوية غير النزيهين ، ومن أعداء الأمويين كذلك ، فلا يوثق بها أصلاً.

فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان من الفراسة بمكان لا يلحق،

وكان يعلم من حال معاوية أكثر مما يعرفه غيره، فلو كان يظن به الهوادة في أدنى

شيء لما ولاه أعظم قطر وهو الشام بعد موت أخيه يزيد ، وقد تركه في منصبه

بقية حياته - أي: حياة عمر - التي تزيد على أربع سنين.

وناهيك بشدة عمر على عماله ، وما كان يعاملهم به من المراقبة الشديدة ،

ومحاسبتهم على النقير ، والقطمير ، وكثرة عزلهم من وظائفهم لأقل سبب، وقد

ولَّى معاوية مع وجود أساطين الصحابة السابقين للإسلام ، والمهاجرين من أجله ،

أفلا يكون ذلك منه أعظم تزكية لمعاوية؟ وأعظم شهادة له على حسن سيرته [4] .

وفي الاستيعاب عن عبد الله بن عمر قال: (ما رأيت أحدًا بعد رسول الله

صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية) ، فقيل له: فأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ،

وعلي؟ فقال: (كانوا والله خيرًا من معاوية ، وكان أسود منهم) .

وفي صفحة 114: (وإن عصر النبي لم يخل أصلاً من مخايل الملك إلخ) ،

نقول: إن المخايل التي عناها الشيخ بخيت ، وسطرها لم يخل منها عصر النبوة ،

نعم إنه خلا من المخايل التي يريدها أهل الغطرسة من بناء القصور الشامخة ،

واشتمالها على الفرش الوثيرة، والرياش الثمين، والأواني الفضية المزخرفة التي

يظنها صغار الأحلام هي عنوان الملك.

وقد خلا عصر النبوة أيضًا من كثرة الخدم ، والحجاب، والأعوان الظلمة

بالباب ، وحيلولتهم بين الراعي ، والرعية، ومنعهم للمتظلمين من رفع ظلاماتهم

للملك ، وخلا أيضًا من اشتغالهم بسفاسف الأمور ، ومصاريف دار الملك التي تأخذ

أكبر قسط من الميزانية على عاتق الرعية، ومن اشتغالهم بغصب أرزاق الناس من

اللحوم ، والفواكه ، وأطيب الأطعمة بلا ود ، ولا حساب.

خلا أيضًا من الشرطة حملة الرماح ، والسيوف ، والبنادق أمام الملك؛

لإرهاب الرعية ، وتعوديها على الذلة ، والمسكنة أمام الولاة الجائرين مما لم يعهد

في عصره صلى الله عليه وسلم ، وعصر الخلفاء الراشدين ، فذلك وما أشبهه من

المخايل الكسروية التي جاء عليه السلام لمحاربتها ، والقضاء عليها قد خلا منه

عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وطهره الله من أرجاسه ، وهناته ، وقد صدق

الشيخ علي عبد الرازق في هذه فقط ، وقد يصدق الكذوب.

***

(الملاحدة بين أمرين)

فظهر مما تقدم أن الملاحدة واقعون بين أمرين:

(أحدهما) أن يكونوا عارفين حقيقة الإسلام ، وما أتى به من المنافع

الدنيوية والأخروية ، وأنه صالح لكل زمان ومكان ، وأنه دين الفطرة الذي تنشده

الإنسانية ، وتصبو إليه.

إلا أن ما جاء به من بعض التكاليف الخفيفة التي تربي الناس على الثبات

والشجاعة ، وما أوجبه من ترك المنكرات التي تخدش وجه الهيئة الاجتماعية قد

ثقل حمله على عاتقهم ، وجبنوا عن معاناته؛ فحملهم ذلك على الانسلاخ منه ،

والانحلال، والفرار من أداء الواجبات القليلة في مقابلة ما منحهم من الحقوق العامة،

والحرية الطاهرة النظيفة.

فالتكاليف الخفيفة مثل الطهارة التي لا يغيب عن أحد ما لها من المزايا

العظيمة ، وأهمها المحافظة على الصحة التي هي رأس مال الحياة.

(2)

ومثل الصلاة التي أخبر سبحانه أنها شاقة على الملاحدة المبعدين ،

فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) الآية، ولو لم يكن فيها

إلا تعويد الناس على الثبات ، وضبط الوقت ، واطّراح الكسل الذي هو علة الفشل

لكفى.

(3)

ومثل الصوم الذي فيه تعويد الناس على الصبر ، وتذكيرهم بما يكابده

الفقراء من آلام الجوع عند اشتداد الأزمات ، خصوصًا عند انحباس الأمطار ، وفي

أوقات البرد الشديد التي يحتاج الناس فيها للأكل أكثر من أيام الحر ، فجوع الصائم

يحمله على رحمة الضعفاء ، وإعانتهم على مكاره الحياة ، ويفتح قلبه لولوج نسمات

الرحمة ، والرأفة بالمحتاجين.

(4)

أما الزكاة ، فقد حسدنا عليها عقلاء الأورباويين ، وفلاسفتهم حتى قال

لي أحدهم: لو كانت مشروعة عندهم؛ لما سمعت بالاشتراكية ، والشيوعية أبدًا ،

ولما وقعوا في مصائب الاعتصابات المتوالية.

(5)

وأما الحج ، ففوائده بارزة تكاد تلمس باليد ، فالأسفار عند الإفرنجيين

لا تنقطع صيفًا وشتاءً ، وهي التي أكسبتهم ما هم فيه من الرخاء ، وبسطة العيش

زيادة على ما يكتسبه المسافر من الأرباح إن كان تاجرًا ، والعلوم إن كان مفكرًا

وباحثًا ، وزيادة على ما ينعم به من الصحة التامة ، والنزهة البهجة.

هذه بعض فوائد التكاليف الإسلامية التي عمي الملحدون عن إدراكها ،

وعجزوا عن احتمالها؛ لضعفهم وجبنهم ، وقد عد الغزالي كثيرًا من أسرارها في

كتابه: الإحياء.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لصاحب الإمضاء الرمزي.

(1)

عيافة النفس طبيعية لا وطنية.

(2)

هذا الإطلاق ممنوع وفي المسألة تفصيل.

(3)

لا يتحتم على أحد اعتقاد ما أنتجت قريحة غيره.

(4)

حقق الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري أن عمر كان يختار للولاية القادرين عليها ، ويقدمهم على من هم أفضل منهم علمًا ودينًا ، وضرب المثل لذلك بتقديم معاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة على علماء المهاجرين ، وصلحائهم.

ص: 196

الكاتب: مستر كراين

محاضرة مستر كراين

عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن

في جمعية الرابطة الشرقية

(2)

(مدينة سواكن)

زرت بعض المواني الواقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر ، وكان

القصد من هذه الزيارة مشاهدة مدينة (سواكن) القديمة التي اعتاد الحجاج أن يأتوا

إليها من قبل إفريقية؛ ليبحروا منها إلى مكة وكانت قديمًا بلدة تجارية عظيمة ،

ولكنها اليوم خالية خاوية. ولا تمر بعض السنين عليها حتى تنعق فيها البوم

والغربان، وذلك بسبب مزاحمة بور سودان ومصوع لها، ويوجد في ضاحيتها

قريتان من القش ، وأصل سكانهما من الحجاج الذين انقطعوا في الطريق ، ولم

يصلوا لا إلى مكة ولا إلى بلادهم، وكانت علامات الفقر الشديد بادية عليهم ، فلا

زراعة ، ولا صناعة لهم ، ولا هم يتقنون كأهل الساحل صيد الأسماك.

***

(الكلام على اليمن)

(من الحديدة إلى صنعاء)

ذهبت من مصوع إلى الحديدة ميناء صنعاء ، وقد أعد لي الإمام جميع أسباب

الراحة ، واستقبلني حاكم الحديدة أحسن استقبال.

وهذه البلاد اليمانية الإسلامية العجيبة منزوية عن العالم أكثر من القطب

الشمالي ، ولا يزال طراز الحياة فيها كما كان عليه قبل مئات السنين ، ولكنه

يختلف كثيرًا عنه في نجد لوجود جبال عالية بين صنعاء والحديدة.

ركبنا في رحلتنا البغال؛ لأن البغال تسلك حيث لا تسلك الخيل ولا الجمال ،

وبعد ما انقضى على سفرنا من الحديدة يومان ابتدأنا نشاهد هندسة البناء في اليمن

تختلف اختلافًا كليًّا عن هندسة البناء في الحجاز ، وقد شاهدنا في طريقنا حقول

شجر البن في بطون الجبال والوديان.

إن هندسة البناء في جدة ، ومكة متقنة ، وجميلة، وتدل نوافذها الكثيرة

الواسعة ، وأبوابها الكبيرة التي تفتح ، وتغلق بسهولة على حب القوم للضيافة،

وعلى عراقتهم في المدنية ، وميلهم إلى ضبط الأمن، بعكس اليمن التي تدل عزلة

قراها ، وانفرادها في الأماكن العالية الوعرة التي لا يصل الإنسان إليها إلا بصعوبة

على خوف اليمانيين من غزو بعضهم بعضًا ، وعلى عدم استتباب الأمن [1] وتشبه

أبنية هذه القرى القلاع الحصينة ، والدور الأول منها يخصص للحيوانات ، والدور

الثاني للحبوب والذخيرة ، ولا يوجد في هذين الدورين منافذ للنور ولا الهواء ، وأما

الأدوار الباقية ، وهي عادة اثنان فما فوق؛ فتخصص للسكن ، ونوافذها صغيرة جدًّا

لا يكاد يدخل منها الهواء ، ولا النور ، وجميع هذه الأعمال تدل أن تلك الأبنية على

هذا الشكل؛ قصد الدفاع عن النفس.

ومن المعلوم أن القطرين اليمن والحجاز يختلف بعضهما عن بعض اختلافًا

عظيمًا ، ففي الحجاز سهول واسعة ، وصحار مقفرة ، وأما اليمن ، ففيه الجبال

المرتفعة ، والوديان المنخفضة [2] ، وتختلف الحياة الاجتماعية فيهما اختلافًا عظيمًا ،

فالحجاز المقدس بنظر المسلمين تأتيه الحجاج من جميع أطراف المعمورة سنويًّا؛

لقضاء مناسك الحج ، ولذلك ترى أهل الحجاز مضطرين بحكم الضرورة إلى ضمان

راحة سكان الأرض ، وقلما يأتيها الزوار ، أو السياح ، وأهلها يخشى بعضهم من

بعض ، ويخشون الدسائس التي يدسها لهم جيرانهم؛ فلذلك تراهم معتادين شظف

العيش ، ومعتصمين بالقلاع في رؤوس الجبال.

على أن الإمام أعد لي جميع وسائل السفر ، وكنت أينما حللت بالمساء؛ أجد

غرفة معدة لنزولي بها ، ولكنني اضطررت أحيانًا إلى النزول في بعض الخانات

القديمة الواقعة على طريق القوافل بين عدن والقدس.

ولهذه الخانات أبواب ، ولكن لا نوافذ لها ، وفيها ممر طويل ، وغرفة واسعة

خصص قسم منها بالحيوانات ، والقسم الآخر بالعائلة صاحبة الخان ، وبديهي أن

كثيرًا من الأولاد يولدن في هذه الخانات ، وقد خطر لي عند ما رأيتها أن المسيح

ولد في مزود خان كهذه الخانات.

إن المناظر الطبيعية بين الحديدة وصنعاء جميلة للغاية ، وقد مررنا بطرقات

تعلو تسعة آلاف قدم عن سطح البحر ، ونزلنا في وديان عميقة حارة ، وقد وصلنا

إلى صنعاء في الليل على حين غرة ، ولما كانت الشوارع لا تضاء بالأنوار؛

وصلنا إلى الدار المعدة لسكنانا بصعوبة شديدة على ما كان من معونة أنوار الجند لنا.

وأما الدار التي نزلنا بها ، فهي مؤلفة من دورين مبنيين بناءً حديثًا جيدًا ،

وفيها حديقة تبلغ مساحتها أكثر من فدان أرض ، وقيل لنا: إن هذه الدار بيعت منذ

بضعة أشهر بمبلغ (150) ريال أميركي أي: ثلاثين جنيهًا مصريًّا. وقد أخبرنا

بعض الجنود الذين رافقونا في الطريق أن الجندي منهم يتناول راتبًا يبلغ ريالين

ونصف أميركيين في الشهر ، ويتناول ثلاثة أرغفة من الخبز لا يبلغ وزنها تسعمائة

غرام ، ولا يأكل الجند تقريبًا غير الخبز ، ولكن بعضهم يشتركون مع بعض أحيانًا ،

ويبتاعون شيئًا من اللحم ، ويطبخونه لأنفسهم مرة أو مرتين في الأسبوع ، ومن

العجب العجاب أن يرى الإنسان هذه الجنود رغم تناولها المقادير القليلة من الغذاء

تحمل البنادق الثقيلة ، وتتمنطق بالعتاد الكثير ، وتركض على أرجلها مسافات

شاسعة غير مبالية بالتعب ، أو شاعرة بالجوع.

زارنا ذات يوم أحد أمناء سر الإمام المدعو محمد راغب بك ، وهو تركي

الأصل ، ولد في القسطنطينية ، وترعرع في ضواحي البوسفور قرب المدارس

الأميركية التي لي بها علاقات منذ زمن بعيد ، وقد حدثني عنها حديثًا طويلاً ، ومما

قاله: إن بعض أقربائه درسوا فيها ، وهذا كان لحسن حظي؛ إذ أدخلني إلى حالة

الوئام مع حضرة الإمام ، وكان باستطاعته أن يتوسط بيننا بطريق حكيمة.

وفي اليوم الثاني قابلنا الإمام على انفراد في غاية الحفاوة والإكرام ، فقال لي

أنه يأذن لي أن أذهب حيث شئت بتمام الحرية ، وأن آخذ رسم ما أريد أيًّا كان ما

عدا رسم شخصه ، وأنه لم يسمح لأحد غيري قدر ما سمح لي من الحرية في

صنعاء.

إن الإمام في أوائل العقد الخامس من عمره قوي البنية نشيط الحركة ، ولما

كانت ولاية حكمه ضيقة الرقعة؛ كان شديد الرغبة في أن يتولى إدارة شؤونها كلها

بيده من جليلها إلى حقيرها.

فهو يجلس كل صباح في مجلس يقصده فيه من يشاء؛ ليسأل ما يشاء ،

ويعرض ما لديه من أنواع الشكاوى والدعاوى ، وعلاوة على ذلك ، فإنه يذهب

يوميًّا إلى أحد الأماكن العامة دون حارس ، ولا تابع من الجند ، فيصرف فيه نحو

ساعة ، وقد يكون منفردًا تحت أشعة الشمس ، ولا يرافقه إلا رجل بمظلة الشمسية

حيث يستمع الدعاوى ، وينظر في المعروضات المرفوعة إليه ، فهو بذلك جامع في

شخصه بين مقامي السلطان ، والخليفة معًا مستمدًّا قوة نفوذه من أنه سلالة الإمام

علي الصحيح الخلافة.

وأما ساعة ذهابه إلى المسجد يوم الجمعة ، فتلك ساعة خطيرة الشأن جلالاً

وبهاءً يشترك في إقامة معالمها الناس أجمعون؛ لأنه يوم المهرجان كل أسبوع ،

وعندما يمر راكبًا في العربة عائدًا من الصلاة ، فلأقل إشارة يبديها أحد الشعب يقف

المركبة؛ ليتقبل أي معروض ، أو يعنى بأي أمر يرى الناس فيه على أتم استعداد

لقبوله ، والخضوع له.

وفي المملكة اليمانية جيش نظامي ، وجند من المتطوعة ، وكثيرًا ما يشتركان

بالإنشاد العسكري يضجان فيه بأصوات خشنة ، وهو يتضمن أبياتًا يرنمون بها بما

أعطوا من قوة وحماسة ، ويقال: إنها أنشودة قديمة العهد.

ثم إن الإمام - وإن أبدى لي حين مقابلته مزيد المجاملة ، وأباح لي الحديث

على غاية الإخلاص - لم ير من الحكمة أن يظهر فرط العناية بي أمام الجمهور؛ إذ

كان من الضروري له أن يحتفظ بمقام الاستقلال العظيم ، بل بشيء من الاستخفاف

بالأجانب مراعاة القبائل الحربية المتعصبين في الحدود الشرقية من البلاد.

فإن سلطانه ، وأحكامه نافذة في مملكته نظير ابن السعود؛ لمجيئها عن طريق

الدين ، وعليها مسحة من الشدة فيه كأنه يتخذ في السلطة نوع الحكم المتحد المزدوج؛

لأنه مع كونه زيدي المذهب شخصيًّا ، ومدار أحكامه على هذه القاعدة، فإن ثلث

شعبه [3] على جانب البحر الأحمر من أهل السنة ، ومنهم عدد معين يشغل بعض

المقامات الصغرى في حكومته.

***

(الضرائب)

أهل اليمن من ذوي الفقر والبؤس الشديد، ولكنهم لانزوائهم في بقعتهم ،

وانحباسهم عن العالم الخارجي لا يشعرون بهذه الحال.

وإن المرء ليأخذه العجب: كيف يستطاع في هذه الفاقة أن تفرض الضرائب

على اليمنيين ، وتجبى إلى الحد المؤذن بإقامة حكومة ، ولا سيما في تجهيز جيش

في تلك المملكة كبير؟

ذلك لا ريب عائد إلى حذق من الإمام فريد ، والظاهر أن معظم واردات

الحكومة هو من ضريبة العشر المفروضة على الحاصلات في عامة أنواعها، على

أن الناس باحوا لي أن العشر قد يترقى - بعسرهم والتضييق عليهم - إلى الربع!

وإنهم لذلك متألمون ناقمون.

***

(المباني)

قل أن ترى في مباني اليمن ما يقل عن ست من الطباق (أو الأدوار) ، وأما

البناء فعلى درجة عظيمة من مخالفات الجمال ، ولم أر إلا القليل مما يدل على حسن

الذوق سواء أكان في هيئة البناء ، أو مواده ، أم في ملابس الناس وغنائهم ، وإنما

يستثنى من ذلك بناء الجوامع ، فإن منها عددًا يبدو فيه شيء من الجمال النسبي

على ما فيه من بساطة الهندسة ، والرسم خلافًا لبناء المنازل.

وبعض تلك الجوامع يرجع تاريخ تشييدها إلى عدة قرون ، وقد ظننت لأول

الأمر أن البنائين أتوا من القسطنطينية لهندستها ، وبنائها، ولكنهم أكدوا لي أن كلا

الأمرين من صنع أهل البلاد أنفسهم.

***

(تعرفي إلى الناس)

لم يكد يستقر بي المقام في صنعاء حتى بادر إلى زيارتي الجم الغفير من أهلها،

وكلما أردت أن أدرس وجهًا من وجوه حياة اليمن كان أمري ينتشر بين الطبقات ،

فكان يوافيني واحد ، أو جماعة من أهل ذلك الشأن ، فقابلت الرؤساء ، والبنائين ،

والتجار ، ورجال العسكرية ، ولا سيما العلماء ، وفيهم القاضي الكبير الذي يحمل

سمة المسلم التاريخي القديم ، وبلغ بيننا التعرف مبلغه حتى أقبل لزيارتي المرار

العديدة.

ولقب (القاضي) في اليمن له معنى خاص؛ فإنه يطلق عادة على طائفة

ممتازة من جميع طلاب العلم ، كما أن كلمة (شيخ) تستعمل كذلك في الشمال.

***

(سبأ وسد مأرب)

كنت شديد الرغبة في الرحلة إلى سبأ ، وعلى الخصوص لمشاهدة السد القديم

الذي كان مصدر خصبها ، وزهوها.

إن مؤسس هذه المدينة هو (عبد شمس) الذي ابتدع عبادة البعل ، أو

الشمس ، ثم أضاف إليها القمر ، وخمسة كواكب سيارة أخرى ، فتم بذلك عددها؛

أي: السيارات السبع ، فكان هذا العدد أصل تلك المدينة (سبأ) ، وقد بنى أيضًا سدًّا

عظيمًا بين جبلين بحيث ينشأ به خزان من الماء يحيي المدينة ، وما حولها من

الأرجاء ، ويهب لها الخصب والنماء.

ثم بعد 1500 عام تصدعت جوانب السد؛ فطغى الماء على المدينة ، وما

جاورها من البلاد ، ودمر كثيرًا من القرى ، ولعل هذه الكارثة كانت أصل الحديث

(الطوفان) .

وأما الإمام ، فمع أنه شديد الحرص على إعطائي كل ما أطلب إلا أنه قال لي

في شأن هذه الأمنية: إن هذه الرحلة من المستحيلات ، ومع أن سبأ لا تبعد عن

صنعاء أكثر من 75 ميلاً ، فهو لم يتمكن من الذهاب إليها إلا بعد أن اتخذ أشد

الاحتياط لما أن قبائل تلك الناحية على أعظم جانب من التعصب (الذميم) يعدون

ذواتهم حراس الكنز العظيم المقدس الباقي من آثار تلك العاصمة القديمة ، فلا

يأذنون لأجنبي أن تطأها قدمه ، أو يقترب منها ، ومما قال لي الإمام: إن بعثة

ألمانية ذهبت للبحث في تلك الناحية قبل الحرب العالمية ، فلم يبق البدو على أحد

من رجالها.

***

(حفلة استقبال لرجوع ابن الإمام من سفره)

لم ينقض على نزولي صنعاء عدة أيام حتى ورد نبأ بمجيء ابن الإمام ولي

عهد إمامته بعد يوم واحد ، وكان غائبًا عنها ثلاث سنين على رأس فرقة من الجند

في القسم الشمالي من البلاد - أي (صعدة) - حيث يتشعب الطريق شعبتين:

إحداهما تتجه إلى مكة ، والأخرى إلى نجد، فكانت عودته بالطبع حادثة ذات شأن ،

فخرجت إلى بعد خمسة أميال من المدينة مع أكثر الأهالي ، ولا سيما الجيش ،

وقفتا لاستقبال القادم الكريم على أحسن ما يقال في الإجلال ، والاحتفال مما يدل

على سمو مكانة ذلك الشاب عند عامة الشعب ، ذلك أن الإمام إنما يرتقي سدة

الإمامة والحكم بانتخاب العظماء من شيوخ البلاد في اجتماع خاص.

ولما كان ولي عهده في الحكم أحد بنيه الأحياء حق له هذا الاحتفاء والإكرام.

وبعد قدوم ذلك الأمير الخطير بأيام زرته ، فتوسمت فيه مخايل الحزم ،

والعزم ، ودلائل الجد في الأعمال على شخصية جذابة ، ولكنها على صورة أضعف

من شخصية والده العظيم.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: إنما كان أكثر خوف أهل اليمن من الترك الذين ظلوا يغزونهم أربع قرون.

(2)

في الحجاز من الجبال والوديان مثل ما في اليمن ، وإنما الفرق بين القطرين أن اليمن قطر كثير النبات والشجر خلاف الحجاز.

(3)

المنار: كذا في نسخة الترجمة التي أخذناها من الرابطة الشرقية ، والصواب: الأكثرية الساحقة من سكان تلك السواحل شافعيون ، ويندر وجود الزيدية فيها.

ص: 202

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

‌نساء العرب السياسيات

مقتبس من كتاب سيرة السيدة (خديجة أم المؤمنين)[*]

للشهيد الشهير السيد عبد الحميد الزهراوي

رحمه الله تعالى

ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة ، والأمور العمومية ،

وناهيك أن الحرب التي ظلت مستمرة نحوًا من أربعين سنة بين بني ذبيان ، وبني

عبس لم يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأة ، ولم تتمكن من إطفائها إلا بما لها من

المكانة ، وحسن الرأي ، وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما

زوجها أبوها من الحارث بن عوف المري ، وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ

للنساء ، والعرب يقتل بعضها بعضًا؟ - تعني بني عبس وبني ذبيان - فقال لها:

ماذا تقولين؟ قالت: (اخرج إلى هؤلاء القوم ، فأصلح بينهم ، ثم ارجع إلي) ،

فخرج وعرض الأمر لخارجة بن سنان ، فاستحسن ذلك ، وقاما كلاهما بهذا الأمر ،

فمشيا بالصلح ، ودفعا الديات من أموالهم.

وحسبك من اشتهرن من العربيات في السياسة، منهن اللاتي كن من شيعة

الإمام علي أيام مناصبة معاوية له كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية، وبكارة

الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن خرشة

المذحجية، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير

بنت الحريش بنت سراقة البارقي ، وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية.

وفدت سودة على معاوية بعد موت علي ، فاستأذنت عليه؛ فأذن لها ، فلما

دخلت عليه؛ سلمت سودة ، فقال لها:(كيف أنت يا ابنة الأشتر؟)، قالت:

(بخير يا أمير المؤمنين)، قال لها: آنت القائلة لأخيك:

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة

يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر عليًّا ، والحسين ، ورهطه

واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخا النبي محمد [1]

علم الهدى ومنارة الإيمان

فقد الجيوش ، وسر أمام لوائه

قِدَمًا بأبيضَ صارمٍ وسنان

قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد

نسي) ، فقال:(هيهات ، ليس مثل مقام أخيك ينسى)، قالت: (صدقت والله يا

أمير المؤمنين، ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:

وإن صخرًا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: (قد فعلت ،

فقولي حاجتك) ، فقالت: (يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلد، والله

سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط

بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة،

ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا

الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته؛ فشكرناك، وإما لا؛ فعرفناك) ، فقال

معاوية: (إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس ،

فينفذ حكمه فيك) ، فسكتت ، ثم قالت:

صلى الإله على روح تضمنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا

فصار بالحق والإيمان مقرونا

قال: (ومن ذلك؟)، قالت:(علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى)، قال:

(ما أرى عليك منه أثرًا)، قالت: (بلى أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا ، فكان

بيننا وبينه ما بين الغث والسمين ، فوجدته قائمًا ، فانفتل من الصلاة ، ثم قال برأفة

وتعطف: (ألك حاجة؟) ، فأخبرته خبر الرجل ، فبكى ، ثم رفع يديه إلى السماء

فقال: (اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك) ، ثم أخرج من جيبه قطعة

من جراب ، فكتب فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

{قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) ، {وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن

كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود: 85-86) ، إذا أتاك كتابي هذا ،

فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك ، والسلام) .

قال معاوية: (اكتبوا لها بالإنصاف لها ، والعدل عليها)، فقالت: (أَلِي

خاصة ، أم لقومي عامة؟) فقال:(ما أنت وغيرك؟) قالت: (هي والله الفحشاء

واللؤم؛ إن كان عدلاً شاملاً ، وإلا يسعني ما يسع قومي) ، قال: (اكتبوا لها

بحاجتها) .

ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي ، فدخلت عليه ، وكان

بحضرته عمرو بن العاص ، ومروان ، وسعيد بن العاص ، فجعلوا يذكرونه

بأقوالها التي قالتها في مشايعة علي ، ومعاداة معاوية ، فقالت: (أنا والله قائلة ما

قالوا ، وما خفي عنك مني أكثر) ، فضحك ، وقال:(ليس يمنعنا ذلك من برك) .

وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس

الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها ، وعدة من فرسان قومها ، وأن يوسع لها في

النفقة ، فلما وفدت على معاوية؛ قال: (مرحبًا قدمت خير مقدم قدمه وافد ، كيف

حالك؟) فقالت: (بخير يا أمير المؤمنين)، ثم قال لها: (ألست الراكبة الجمل

الأحمر ، والواقفة بين الصفين تحضين على القتال ، وتوقدين الحرب ، فما حملك

على ذلك؟ قالت: (يا أمير المؤمنين، مات الرأس ، وبتر الذنب، ولا يعود ما

ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر؛ أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر) . قال لها:

(أتحفظين كلامك يومئذ؟) قالت: (لا - والله - لا أحفظه)، قال: (لكني

أحفظه) ، وتلا عليها خطبة من خطبها التي هي في منتهى البلاغة ، ثم قال لها:

(والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه)، قالت: (أحسن الله بشارتك ،

وأدام سلامتك؟ فمثلك يبشر بخير ، ويسر جليسه) ، قال:(أو يسرك ذلك؟) ،

قالت: (نعم والله) فقال: (والله لوفاؤكم له بعد موته، أعجب من حبكم له في

حياته، اذكري حاجتك) ، فقالت: (يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل

أميرًا أعنت عليه أبدًا ، ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد عن غير طلبة) ،

قال: (صدقت) وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز.

ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة ، وعكرشة بنت الأطرش، ولما حج

سأل عن دارمية الحجونية ، فجيء بها إليه ، فقال لها: بعثت إليك؛ لأسألك:

علام أحببت عليًّا وأبغضتني ، وواليته وعاديتني؟ فاستعفته؛ فلم يفعل ، فقالت

له: (أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من

هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت عليًّا على حبه المساكين،

وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك

بالهوى. ثم قال لها: يا هذه هل رأيت عليًّا؟ قالت: (إي والله) قال: (فكيف

رأيته؟) قالت: (رأيته - والله - ولم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي

شغلتك) ، قال:(فهل سمعت كلامه؟) قالت: (نعم - والله - فكان يجلو القلوب

من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست) قال: (صدقت ، فهل لك من حاجة؟)

قالت: (نعم تعطيني مائة ناقة حمراء) قال: (ماذا تصنعين بها؟) فقالت: (أغذو

بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين

العشائر) قال: (فإن أعطيتك ذلك ، فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟)

قالت: (سبحان الله ، أو دونه؟)، فقال: (أما والله لو كان علي حيًّا ما أعطاك منها

شيئًا) ، قالت:(لا والله ، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين) .

وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة ، ووفدت عليه أروى بنت

الحارث ، وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم.

فهكذا كان مقام المرأة العربية، من أخوات سيدتنا القرشية، وهكذا كان

حظهن من الفصاحة ، والحصافة، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية ،

والأخذ بالأسباب، والمشايعة لبعض الأحزاب، وما أتينا إلا باليسير؛ توطئة

لمعرفة مقام السيدة خديجة في قومها.

_________

(*) هذه السيرة خير ما كتب فقيدنا الشهيد إنشاءً ، وابتكارًا ، وبيانًا لفضائل العرب بالتبع لفضائل فضلى نسائهم ، بل نساء العالمين مع ابنتها سليلة الرسول ، ومريم البتول - وهي تطبع للمرة الثانية.

(1)

أخوة الدين.

ص: 208

الكاتب: إسعاف النشاشيبي

‌خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي

مفتش معارف فلسطين، وعضو المجمع العلمي العربي في الشام

ألقيت في دار الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة العربية

وشاعرها الأكبر أحمد شوقي بك

ليست دار العربية رمال الدهناء ، أو هضبات نجد ، أو الحجاز ، أو إقليم

الشام ، أو أرض العراق ، بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب

محمد - صلوات الله عليه - قراؤه.

وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية ، فأهل مصر إذًا

هم القبيل المقدم في العربية ، وهم سادات العرب.

وليست اللغة العربية يا أيها الراجع من لندن ، أو من برلين ، أو من باريس ،

وقد لبث في تلك المدائن حينًا؛ ففتنته مدنية المغاربة السحرة ليست اللغة العربية

بلغة بدوية، بلغة صحراوية، حتى تعرض عنها إعراضك هذا ، وحتى تؤثر عليها

غيرها حين جهلتها، ولكنها لغة سَامِيَةٌ سَامِيَّةٌ - إن كان ثمة سامٍ - قد نشأت من

قبل في جنات النعيم عند دجلة ، ولم تنبت في القفر فتظمأ وتضحى، وقد جاورت كل

ذات مدنية (* إن العلا تعدي *) كما قال أبو تمام، وقد سطر أيوب الصابر بها في

ذلك الزمان سفره ، أو قصيدته (كما قال فولتير في المعجم الفلسفي) وسفر أيوب

أجمل سفر في التوراة، وأيوب العربي كهومير هو من أكبر شعراء العالم.

ثم جاءت هذه اللغة مواطن الحجاز (وكم في الهجرات من خيرات) ، فنشأها

الدهر هنا أفضل تنشئة ، وهذبها خير تذهيب.

وإن البيئة التي أخرجت في الدنيا عظيمها هي التي جلت لغته ، ولن تكون

لغة ذلك العظيم لغة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عظيمة. على أن قد تخبث البيئة

بعد طيبها وصلاحها ، فلا تقذف إلا خبيثًا {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} (الأعراف: 58) كما قال الله.

ليست العربية بلغة بدوية صحراوية (كما قالوا لك) ، بل هي اللغة الحضرية

كل الحضرية ، بل هي (إن استكثرت هذا النعت) لغة الأناسية الكملة الألى سوف

يخلفون هذا الإنسان بعد أزمان كما خلف هو قدمًا الذين هم أدنى منه من جماعة

الربابيح المحاكية.

ولقد دعا العربية من قبل قرآنها (وهو القرآن هو القرآن) ؛ لتكتب معجزاته ،

فما وهنت ، ولا عجزت ، ولا ضاقت ، بل اتسعت ، وهذا الكتاب ، وهذه آياته ،

وهذه ألفاظ في المصاحف تتكلم ، وهذه معاني الكتاب ، الكتاب العبقري ، كتاب

الدهر، قد تجسدت ، وتجسمت ، وعهدنا بالمعاني معنوية لا تتجسم ، فلن تعجز لغة

كتب بها الله [1] كتابه عن أن يكتب بها البشر.

ولقد دعا العربية في الزمان الأول كل علم وكل فن - ولا كتاب علم واحدًا عند

القوم في ذاك الوقت - فلباهما منها خير ندب وخير ظهير، وشهد الأقوام في برهة

من الدهر أكداسًا من الكتب مكدسة بل أجيالاً.

قال غستاف لوبون في فاتحة كتابه مدنية العرب: (إذا بحث الباحث عن آثار

العرب في العلم ، وعما ابتدعوه؛ علم أن ليس هناك أمة ضارعتهم ، فجاءت في

الزمن القصير بمثل صنعهم الكبير) .

فلو لم يك عند العربية عساكر من الثروة في اللفظ والأسلوب؛ ما أنفقت هذا

الإنفاق على علوم أصحابها ، وعلوم سواهم ، والفقير المسكين في الدنيا (يا

صاحب) لا يقدر أن يعول نفسه ، بله أن يمون الناس.

وقد أغرق التتر طوائف من تلكم الكتب في النهر ، وحرق الأسبان نفائس منها

بالنار ، لكن الباقي (والحمد لله) كثير ، وجلت العرب عن أن تجرم إجرام ذينك

الجيلين.

وكذاب أي كذاب من قال: إنا حرقنا دار كتب في الإسكندرية. وكيف يقرفنا

القارفون بهذا ظلمًا ، وما ندب الناس إلى العلم كمثل كتابكم كتاب، ولا دعا إلى

التفكير ، وحب الدنيا كزعيمكم محمد زعيم.

وآوى إلى هذه العربية في آونة كثيرات كل أديب ، وكل عالم ، وكل شاعر ،

وكل كاتب ، فبوأت معانيهم في أكرم مبوأ ، وألبستها أفتن ثوب ، وقرتها (وهي

المضيافة ، وهي الكريمة بنت الكرام) خير قرى ، فاجتلى الناس من تلكم المعاني

السماويات، في هذى الحلل العدنيات، حورًا عينًا رضوانيات.

فإذا لاقيتم في عصور المولدين ، أو في عصور المتأخرين قبحًا في القول

يمض الأذن أن تسمعه ، وتقتحمه العين إما أبصرته.

وإذا ألفيتم كلامًا بهرجًا قد وهت أعضاده ، وتشوه تركيبه ، وفقد ذاك الرونق.

وإذا وجدتم شعرًا سخيفًا قد عميت معانيه، وقد استعجم على تاليه، وإذا

سمعتم سجعًا غير طبيعي مرتجًا زحافًا متدحرجًا قد لعنته العربية - إذا وجدتم ذلك؛

فلا تلومن العربية ، ولا تتنقصنها، ولوموا أمة ضعفت؛ فضعف قولها، وذلت؛

فذل شعرها، وحارت في دنياها؛ فاستجار كلامها.

لا تلوموا العربية ، ولوموا أمة ركضت إلى الدعة - قبح الله الدعة - ثم قعدت.

ليس المروءة أن تبيت منعمًا

وتظل معتكفًا على الأقداح

ما للرجال وللتنعم إنما

خلقوا ليوم عظيمة وكفاح

(والحركة - كما قالوا -: ولود ، والسكون عاقر)، وقد قال أبيقور: أي

معنى للكون بالسلم لفقدان الحركة؟ ولام هذا الحكيم (المظلوم والله بتلك التهمة)

هومير حين سأل الآلهة أن تصطلح كي تزول الحروب.

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت

حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا

وفريدريك ننشه، يرى أن عمل الرجال إنما هو القتال ، وعمل النساء هو

تمريض الجرحى ، ولا عمل لهما غير هذا.

وليس القصد يا بني أن تغلب ، أو أن تغلب ، بل القصد أن تكون حرب، أن

تكون حركة.

ألا أيها الباغي البراز تقربن

أُساقِكَ بالموت الذُّعَافَ المُقَشَّبَا

فما في تساقي الموت في الحرب سبة

على شاربيه فاسقني منه واشربا

لا تلوموا العربية ، ولوموا أمة تعبدها حاكمها ، وتفرعن عليها ، و (استجار

كيدها وعدا مصالحها) كما قال ذاك الشيخ ، فلم تغضب ، ولم تمش إليه بالسيف ،

وقد علم أوائلها التلميذ الثاني لشائد الوحدة العربية طريقة تقويم الملوك.

لا تلوموا العربية ، ولوموا أمة صغرت هممها ، وتضاءلت عزائمها وتهزعت

(تكسرت) أخلاقها (يا أسفى على صوادق الأخلاق ، يا أسفى على الأخلاق

الجيدة) ، وكان ابن الخطاب يقول لها: (ولا تصغرن هممكم ، فإني لم أر أقعد عن

المكرمات من صغر الهمم) ، وكان معاوية كاتب وحي النبي يقول: (يا قوم، إن الله

قد اختاركم من الناس ، وصفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها ،

فصونوا أخلاقكم ، ولا تدنسوا أعراضكم ، فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه،

والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه) .

لا تلوموا العربية ، ولوموا أمة اجتزأت بالقليل ، وقنعت من دهرها بالدون ،

وأنامها (قتلها) هذا القول الخبيث الأفيوني الكوكيني: (القناعة كنز لا يفنى) ،

وكانت ما ترضى قبل من شيء الكثير، وكانت ما تقبل حالاً وسطًا، لا شيء أو

كل شيء كما يريد نتشه.

ونحن أناس لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

وقالوا: عليك وسيط الأمور

فقلت لهم أكره الأوسطا

وكان دستورها في دنياها: (القناعة من طباع البهائم) ، و (عليك بكل أمر

فيه مزلقة ومهلكة) ؛ أي: بجسام الأمور.

وصاحب هذا القول الكريم هو ابن مصر صاحب رسول الله صلى الله عليه

وسلم سيدنا عمرو بن العاص (سلام الله عليه ورضوانه) .

وقد راع تقهقر هذه الأمة ، وتدهورها حين تقهقرت وتدهورت شاعريها

الأكبرين في عهد انحطاطها؛ فأنكرا الحال ، واستفظعاها ، وراح ابن الحسين يقول:

أحق عاف بدمعك الهمم

أحدث شيء عهدًا بها القدم

وإنما الناس بالملوك وما

تفلح عرب ملوكها عجم

لا أدب عندهم ولا حسب

ولا عهود لهم ولا ذمم

في كل أرض وطئتها أمم

ترعى بعبد كأنها غنم

وقعد رهين المحبسين في كسر بيته:

يكفيك حزنًا ذهاب الصالحين معاً

وأننا بعدهم في الأرض قطان

إن العراق وإن الشام مذ زمن

صفران ما بهما (للعدل) سلطان

ساس الأنام شياطين مسلطة

في كل قطر من الوالين شيطان

من ليس يحفل خمص الناس كلهم

إن بات يشرب خمرًا وهو مبطان

متى يقوم (زعيم) يستقيد لنا

فتعرف العدل أجيال وغيطان

صلوا بحيث أردتم فالبلاد أذى

كأنما كلها للإبل أعطان.

فليست اللغة العربية (والحالة في تلكم العصور كما سمعتم عنها) بمستأهلة

أن تلام ، أو أن تعاب ، فإنها لابست ضعفاء؛ فلبست كساء ضعف، وعاشرت

وضعاء؛ فارتدت شعار ضعة، وما الضعف وما الضعة (والله) من خلائقها.

ولو استمرت تلك القوة ، ولو استمرت تلك المدنية ، ولو لم يكن ما كتب في

اللوح أن يكون لملأت بدائع العربية الدنيا، فإنها معدن البدائع، ومنجم كل عبقري

رائع.

على أن لغة العلم في العربية (وللعلم لغة وللأدب لغة) لم تضم ضيم أختها ،

وما المقاصد والمواقف ، وشرحاهما ، وأقوال ابن الخطيب ، ومقدمة ابن خلدون

(على مغربيتها) ، وكلها في العصور المتأخرة بالتي تذم (في أسلوب اللغة العلمي)

جملتها.

ويخيل إلي أن نفوس الحكماء العلماء تكون في أحايين الضعف أقوى من

نفوس الأدباء، فلا تهن وهنها، ولا تهون هوانها، أو كأن العلماء في الدنيا وليسوا

في الدنيا ، ومن الناس وليسوا من الناس ، وقد يلاقي هؤلاء القوم المساكين ربهم ، ولا

أثر لحوادث دهرهم فيهم، وقد يقتحمون ميادين الحياة؛ فيتأخرون ولا يتقدمون ، وكل

منهم ينشد متحسرًا:

وأخرني دهري وقدم معشرًا

على أنهم لا يعلمون وأعلم

يئست من اكتساب الخير لما

رأيت الخير وُفِّرَ للشرار

وربما لبسوا التبان للمصارعة؛ فيصرعون، وقد نازل أمس صاحبنا ولسن

ذينك العفريتين لويد جورج ، وكلمنصو ، فعقلاه عقلة في السياسة شغزبية [2] ،

فصرعاه سريعًا {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} (طه: 86) كما قال الله،

وأضحى جميع الناس ضحكة ، ثم قضى كمدًا.

***

أين الأمم المحررة يا ولسن؟

ليست العربية يا سادة بالمقصرة ، ولا العاجزة ، وليس الضعف ، وليس

العجز ، وليس القبح من طبائعها.

وقد كانت تنشد في هذا الدهر الأطول في أرجاء الأرض كافة هممًا بعيدات،

ونفوسًا سرياتٍ أبِيَّاتٍ، وارتقاء في أمة عربية وعلاء، كيما تتجلى في الدنيا تجليها،

وكي تضيء كعادتها إضاءتها، فلما ألفت في أرض مصر مرغبها، لما وجدت

(محمدًا ومحمودًا) ظهرت ، بل ائتلقت ، بل قد تحاقر عند ضياها نور الشمس ،

فكان (يوم التجلي) كما يقول إخواننا النصارى ، وكان عيده ، وأصبحت الدنيا ،

وقد علت كلمة العربية ، وأعلن الدهر سلطانها.

وغدا محمود سامي يحمل الشعر ، ويبشر الحال برسول في القريض يأتي من

بعد محمود اسمه (أحمد) ، ولا تسأل يا هذا قوة سامي الشعرية أن تعطيك أكثر

أكثر مما أعطتك ، فبحسبك ما أخذت ، وحسب الرجل ما جاء منه، ولا تجود يد إلا

بما تجد.

وغدا الشيخ محمد عبده يحمل علم النثر ، ويد جمال الدين عند محمد ، وعند

مصر ، وعند المشرق لا تكفر.

* فاذكر في الكتاب جمال الدين *

وأثن عليه بالذي هو أهله

ولا تكفرنه لا فلاح لكافر

إن جمال الدين لم يكن شخصًا فذًّا، إن جمال الدين كان أمة، وإنه لم يتنبه

من أمم الشرق في ذاك الوقت إلا أمتنان لا ثالثة معهما ، الأولى: هي الأمة اليابانية

والأمة الثانية: هي جمال الدين ، فجمال الدين أمة وحده.

وقد أراد ابن الحريري في البدء، أن يقتل الإمام ، فنجاه كتاب الله ، وحديث

رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.

فارجع يا فتى إلى أسلوب القرون الثلاثة الأولى ، إلى الأسلوب الطبيعي

العربي ، إلى الأسلوب الباريسي ، إلى أسلوب القرن العشرين ، بل الثلاثين ، بل

الأربعين، وانبذ انبذ مقامات الحريري ، ومقامات الهمذاني ، وما شاكلها، ولا

تتصفحنها إما ابتغيت تعرفها، إلا خائفًا، وحذار بك أن يستعبدك متقدم في الزمان ،

أو متأخر، وإياك وأن تقلد في القول أحدًا، فالمقلد عبد ، ولا يرضى بالعبودية

حر، والعاقل لا يهب كينونته لسواه، وإن ساواه أو علاه، وبعضهم لا يهبها لله

عز وجل ، والتقليد عدم، والاستقلال كون، فلا يؤثر على الثاني الأول إلا

أحمق.

وقد دارت حول الأستاذ الإمام (العبارات الفقهية ، والقوانين العلمية الخارجة

عن أسلوب البلاغة ، والنازلة عن الطبقة كما يقول ابن خلدون ، فما استطاعت

لبلاغته إضرارًا ، ولا خدشت لملكته وجهًا) .

ولا يضر الفقهاء ، وأهل العلوم تقصيرهم في هذا النمط من البلاغة ، فللعلم

(كما ذكرت آنفًا) لغة ، وللأدب لغة.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: (وقد استعملت في كثير من فصوله فيما

يتعلق بكلام المتكلمين ، والحكماء خاصة ألفاظ القوم ، مع علمي بأن العربية لا

تجيزها) ، وقال أيضا: (استهجنا تبديل ألفاظهم ، وتغيير عبارتهم ، فمن كلم قومًا

كلمهم باصطلاحهم ، ومن دخل ظفار حمَّر) [3] .

وقد كتب الأستاذ في العلم بلغة الأدب (كدأب هنري بركسن فيلسوف فرنسة

وكفلامريون العالم في الفلك) ، فراحت رسالته في التوحيد في هذا العصر معجزة.

ظهر محمد ، وظهر محمود ، فتقوت العربية بعد أن تضعفها الخصوم ،

وتعززت بعد إذلال ، فغدا الدهر عند ذلك يعبد لنابغة يطلع على الدنيا طريقه.

ومن سنن الله ، ومن دساتير الطبيعة ألا يفاجئ نابغة ، أو عظيم فيما قدر له

أن ينبغ أو يعظم فيه قومه مفاجأةً دون أن يستعدوا له؛ إذ النابغة في شيء ما إنما

هو جوهر أمته ، ولا يلخص خير إلا من خير ، وما حدث كون من عدم.

وقد أشار إلى مثل هذا واضع علم الاجتماع ابن خلدون حين ذكر أمر البعثة

المقدسة.

غدا الدهر يعبد لنابغة في القريض يطلع على الدنيا طريقة، وغدا أهل الدهر

يرتقبون شعرًا يسمى شعر النبوغ قد عدموه منذ عصور ، ولم يجئ من بعد القرون

الثلاثة الأولى ، ومن بعد الذي يقول:

وما تسع الأيام علمي بأمرها

وما تحسن الأيام تكتب ما أملي

إلا مقصدات معدودات ، وإلا مقطعات قليلات ، وأبيات نوادر.

غدا أهل الدهر يرتقبون شعرًا يشع مثل الماس إشعاعًا ، ويزهر كالدراري

المتوهجة زهورًا ، بل يضيء كما تضيء الشمس ، وقد جمل ، بل قد تجسم من

الجمال ، وقد نوره القرآن ، فبان بيانًا.

غدا أهل الدهر يرتقبون شعرًا هو فوق الشعر ، وكلامًا هو فوق الكلام ، كان

ابن نباتة السعدي ، وقد سمع مثله من شعر أحمد بن الحسين ، فقال: (نحسن أن

نقول ، ولكن مثل هذا لا نقول) شعرًا متنبيًّا غوتيًّا شكسبيريًّا يعلق به الخلود إذا

قيل ، وينشده الدهر الناقد إذ سمعه.

انتظرت الأمم العربية برهة هذا الشعر النابغ ، وخروج هذا الشاعر والأقوام

كلهم أجمعون متطاولون ، والأعناق مشرئبة ، والوجوه الناضرة كما قال الله:

{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (عبس: 38-39) ، والعيون ناظرة

شاخصة ، والقلوب في الصدر راقصة ، والدهر الذي قد ضن أمس ، وجاد اليوم

يبتسم؛ فتبلج (وقد تفتحت أبواب السماء بالدعاء) نور

***

أحمد

يملأ الدنيا وطلع على أهلها (شوقي) :

حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت

تلكِ الدجى وانجاب ذاك العثير

فافتن فيك الناظرون فأصبع

يُوما إليك بها وعين تنظر

يجدون رؤيتك التي فازوا بها

من أنعم الله التي لا تكفر

وظهرت معه أمه اللغة العربية آخذة بيمينه ، وقد انحدرت من مقلتيها دمعتان ،

(ومن السرور بكاء) كما قال المتنبي.

جاء (أحمد شوقي) ، وقد أضاء عصر الكهرباء ، وخرج هؤلاء العفاريت

من الإفرنج يسحرون الناس بالذي يأتونه.

وإن أعمالهم - والله - لساحرة، وإن مبتدعاتهم (كظلمهم العبقري) عبقرية

باهرة، وأقبلت هذه المدنية الغربية ناسخة المدنيات، وصاحبة المعجزات المجننات.

وما هو إلا أن تراها (بدارها)

فتبهت لا عرف لديك ولا نكر

مدنية عجيبة مدهشة قد حار في أمرها القائلون ، فما يقولون، وقد أعجزت

شعراءها ، فما عادوا يبدعون ، وقل ، أو اضمحل فيهم في الشعر النابغون، فلم

يعزز شكسبير ، وغوتي في الغرب بثالث.

جاء ذلك ، وجاء أحمد شوقي ، فما فر من أمام ما شهد فرار الجبان ، ولا أفحم

إفحام العاجز، بل مشى مشية الليث (كمشي ذلك الحماسي) ، ونادى لغته العربية؛

فأجابته، وأهاب بقوته الشعرية؛ فلبته.

هما عتادي الكافياني فقد ما

أعددته فلينأ عني من نأى

فجاء في الشعر بهذا السحر الذي رأيتموه، وقال ذلك القول الذي سمعتموه،

وقذف بالشطر بنصف البيت قد اجتافه تاريخ أمة [4] .

وسير البيت يعرض فيه للناظرين السامعين دولة

وابتدأ القصيدة في شأن فهاج قبيلاً، أو أهدأ قبيلاً ، أو نشط لما يعلي ، أو ثبط

عما يدني ، فذهبت تلك القصيدة في الناس دستورًا.

وغاص ، وحلق ، فأتى (كما قال ابن الأثير في حق حبيب) بكل معنى

مبتكر، لم يمش فيه على أثر.

وعرف الشرق ، وعرف الغرب ، وعرف العصر (وقد جهل غيره عصره) ،

واكتنه سر التأخر والتقدم ، فأعطي الحقيقة في الشعر، وهدى بالكلم الطيب ذي

الحكمة إلى الطريق الأقوم.

فكن كشوقي يا شاعرًا في هذا العصر ، فشيع المجاز بالحقيقة (على أن ليست

حقيقة هذا الكون والله إلا مجازًا) واعلم أن علم الأقدمين دينهم، ودين المعاصرين

خاصتهم علمهم، و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) كما قال الله، وإن الدهر

دهر حقائق ، بل لا تثبت الحقيقة فيه إلا في دار الاختبار بالشهود العدول، وإن

الحال كما قال، وإن الحال كما قال ذاك الشيخ ذاك الشاك:

فقلنا للهزبر: أأنت ليث؟

فشك وقال: علي أو كأني.

فحلق حين التحليق في طيارة، وغص عند الغوص في غواصة، وناج

حبيبك بالمسرة اللاسلكية [5] ، أو (بالرادي) ، فإنهما أسرع من خاطرك.

ورب معان يهمهم بها الزمان همهمة ، ولا يفصح، وتختلج في الصدور ، ولا

تبدو ، ويجهلها العالم ، وهي منه مقتربة، وتغيب عن الألمعي ، وهي لم تبعد عنه،

قد اجتذبتها قوة شوقي الشعرية ، وبينتها أي التبيين للعالمين، فعجب الناس بل ما

كادوا يقضون العجب.

وقد حالف قصيد أبى علي [6] الفن محالفة صدق ، فاتضح اتضاحًا وتآخت

أبياته تآخيًا، فهي بنو أعيان ، لا بنو علات ، ولا أخياف ، ولا أبناء عم، وتعانقت

معانيه عناق العاشقين ، وتجلت مقاصده ، وصرحت صراحة الوطني ذي الإخلاص.

وقد جمله ، وقواه ، وخلده عربيته، متانته، لغته ديباجته، وإن لهذا كما للمعنى

لقدرًا، وإن له لبهجة ، وإن له في النفوس لأثرًا، وإنما المعنى واللفظ شيء واحد ،

فهما كالجسم والنفس، والنفس والجسم، كائن فرد لا كائنان متباينان.

واللفظ والمعنى كمادة الكون ، وقوته ، فليس هناك مادة قد انفرقت عن القوة،

وليس هناك قوة قد زايلت المادة، كما يقول (كنت) وغير (كنت) من المثنويين ،

أو الإثنيين (dualistes les) .

عمدتم لرأي المثنوية بعد ما

جرت لذة التوحيد في اللهوات

ليس ثمة مفترقان، إن هناك إلا اتصال، إن هناك إلا الوحدة، كما يقول

محيي الدين ، وسبنوزة ، وأرنست هيكل:

إذا تبدى حبيبي

بأي عين أراه

بعينه أم بعيني [7]

فما يراه سواه

بل ليس هذان المعدودان اثنين (أي: اللفظ والمعنى) إلا صاحبهما يتجلى

فيهما ، ومن أجل ذلك يضعف قول ، أو يقوى، ويقبح ، أو يجمل، ويصغر ، أو

يكبر، ويلتبس ، أو يتضح.

واتل أقوال الأمم العربية في كل عصر؛ تنبئك بأحوالها ، فأحوالها المتغيرة

ذات الضعف ، وذات القوة هي في أقوالها ، فاعرف أقوالها تعرف أحوالها.

وإذا لم يتجل ذو القول في قوله ، فليس بذي كينونة ، وإنه لسواء والعدم ،

وما قوله قولاً ، وإذا تشاكس ذات مرة لفظ قول ومعناه ، فما هو إلا مخلوق شائن

نعوذ بالله من مرآه.

وإني أقسم بالقرآن وبلاغته وإعجازه وعبقريته وعجائبه التي لن تحصى أن لو

لم يكرم لفظ شوقي في الشعر كما كرم معناه ، ولو لم تشرق هذه الديباجة الشوقية

المليحة ذات الحفلة ذلك الإشراق؛ ما كان أحمد شوقي شاعر العربية الأكبر ، وما كان

ملك الشعر ، وما كنتم أظفرتموه بهذا اليوم ، ولكنه عاقل حكيم عرف كيف يقول ،

وكيف يبني قصيده ، ويشيد أهرامه؛ ليخلد فيها، وقد قلت قدمًا: (ما يقي المعاني من

الدثور إلا متانة ألفاظها، وما يخدمها الدهور إلا تحقيق كلامها) ، والدهر أثبت ما

كنت قد قلته.

وما التجدد يا قوم بصاد صاحبه عن الاحتفال في اللغة الأدبية بديباجة القول ،

وإحكامه ، وصيانته من كل خلل، وتجليه أنيقًا ذا نضارة طبيعيًّا عربيًّا، بل التجدد

يحدو على ذلك؛ لأن التجدد أخو التقدم ، وخصيم التأخر.

ومن التجدد أن تهيم بالفن ، وهذا فن ، ومن التجدد أن تقول القول الجيد

المضبوط؛ ليفهم الناس ما تقول ، ومن التجدد أن تختار خير طريق في الإنشاء

والقريض ، فتسير فيهما مستقلاًّ؛ لتبلغ ، وتبلغ قومك من الارتقاء ما يجب بلوغه ،

ومن التجدد أن تشيد الأمة المتنبهة بنيانها على الأساس القوي؛ لئلا ينهار ، ومن

التجدد أن تتقن يا هذا ما تعمل ، وترصن ما تعلم ، وأن تعد لكل أمر عدته ،

وللكتابة والشعر عدد، فقل لي: هل أعددتها؟ ومن التجدد أن يعلم أنه لا يجيء من

الضعف والانحطاط إلا الضعف والانحطاط ، ولا يجيء من القوة والتقدم إلا القوة

والتقدم، والمتجدد الأريب إنما يريد أن يزداد قوةً وتقدمًا ، ومن التجدد أن يعرف من

يروم تغييرًا كيف يغير ، فلا يدع الحسن المجمع على حسنه إلى قبيح لا ريب في

قبحه.

ولقد أبهج كل أديب عربي أن عرف المجددون في مصر كيف يجددون ، وأي

دين في التجدد يتبعون.

إن لم تكن القاهرة حاضرة الأمم العربية السياسية ، و {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ

وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) ، فإن القاهرة حاضرة الأمم اللغوية، ملك

الشعر فيها (شوقي) ، والأقاليم العربية في المشرق والمغرب قاطبة من أعمالها،

وأدباؤها عماله، وأهلها رعية إحسانه.

وإن لهذا الملك علينا السمع، وإن لنا عليه الإجادة في القول، وقد (والله)

أجاد، وقد سمعنا وأطعنا، وجئت أحتفي به (يوم تكريمه) في المحتفين ،

وأعترف بقدرته المتعالية في القريض مع المعترفين.

جاء محمد [8] ، وجاء خليفته [9] ، وجاء محمود [10] ، وخرج نابغة الشعر

العربي (أحمد شوقي) ، وكان المقتطف [11] ، وجاءت هذه الدولة الأدبية العربية

المصرية ، ومن رجالها الكاتب الأكبر، والشاعر الأكبر، والمفكر الأكبر، والأديب

الأكبر، والخطيب الأكبر ، والنقاد الأكبر، والباحث الأكبر، والفقيه الأكبر،

والمتفنن الأكبر، والعالم الأكبر، وكل كبير في علمه وفنه ، فصات في أرجاء

الكون هذا الصوت:

ألا إن محمدًا [12]

وذكر محمد

وقرآن محمد

ولغة محمد

وعربية محمد

وأدب محمد

كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد ، وفي الدنيا - مصر

...

...

...

... (إسعاف النشاشيبي)

_________

(1)

في الأصل: إله.

(2)

الشغربية ، وبالزاي: اعتقال المصارع رجله برجل خصمه ، وصرعه إياه بذلك.

(3)

حمَّر بتشديد الميم: تكلم بالحميرية ، وظفار: بلد باليمن.

(4)

اجتافه: دخل في جوفه.

(5)

الِمسرَّة - بكسر الميم وتشديد الراء -: آلة المسارة ، والمراد بها التلفون ، وقد قلت في آخر قصيدتي الشرقية التي نظمتها ، وأنا تلميذ بطرابلس الشام منذ ثلث قرن:

تتلى فيطرب من بالضاد ينطق من

أرجاء فاس إلى القطر العماني

كأنما أنا أشدو بالمسرة أو

... أملي على رب سلك كهربائي

(6)

المنار: هو أحمد شوقي نفسه.

(7)

الرواية التي نحفظها (: لا بعيني) وهي التي تطابق * فما يراه سواه * وإن كانت العين واحدة على مذهب الوحدة.

(8)

يعني الأستاذ الإمام.

(9)

عندما قال الخطيب هذا أشار بيده إلى صاحب المنار ، وكان في الصف الأول جهة موقفه اليمنى.

(10)

يعني محمود سامي البارودي.

(11)

أي: ووجد المقتطف كل هؤلاء مصريون بيئة واستيطانًا قديمًا أو حديثًا وليس فيهم أحد قبطي النسب قطعًا، فالنهضة المصرية الحاضرة ليست قبطية، ولا فرعونية، بل عربية، وللقبط أنفسهم حظ عربي منها لا ينكر.

(12)

لعل المراد من كلمة (محمدًا) الأولى هذه الاسم لأن خبرها مع ما عطفت عليه قوله بعدها: (كل ذلك لن يزول) وهذا يمنع إرادة المسمى وقوله بعدها وذكر محمد يراد به ذكر مناقبه وشمائله وسنته.

ص: 213

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البيت الحرام وسدنته

بنو شيبة وحقوقهم ، والهدايا له ولهم

(س7 10) جاءتنا الأسئلة الآتية من صاحب الفضيلة الشيخ عبد القادر

الشيبي رئيس سدنة البيت الحرام بمكة المكرمة، فرأينا وقد تم باب الفتوى من هذا

الجزء أن ننشرها هنا مع الأجوبة عنها هنا؛ ليطلع عليها حجاج هذا العام.

بسم الله الرحمن الرحيم

صاحب السماحة مولانا العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

(1)

إن ما نتناوله من الصلة والإكرام من زوار بيت الله الحرام بطلب ،

وبغير طلب بدون جبر ، هل يجوز لنا نحن سدنة بيت الله أخذه أم لا؟ أفتونا

مأجورين ولكم الثواب من رب العباد.

(ج) يحل ما يعطى عن طيب نفس بغير طلب إجماعًا، وأما الطلب

وسؤال ما ليس بحق للسائل ، فهو مذموم لغير المضطر، وسنفصل القول في ذلك

فيما نجيب به عن السؤال الرابع ، وهو فتاوى بعض مفتي مكة المكرمة في المسألة.

(2)

هل من يتناولنا بالتشنيع والتنقيد في وظيفتنا؛ لتقديم ناس وتأخير ناس

آخرين في دخول البيت المشرف كما تقتضيه الحالة، وفيما يصلنا من الزوار، هل

على ولاة الأمر منع المتعرضين والمنتقدين؛ لما رواه يونس عن الزهري، عن

بلال، وعثمان بن طلحة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا؛

فاحترموه، واحترموا سدنته) ؟ ، أفتونا مأجورين ولكم الثواب.

(ج) التشنيع والانتقاد على سبيل الإهانة من الغيبة المحرمة بالإجماع، فلا

حاجة إلى الاستدلال عليها بمثل هذا الحديث الذي ليس من الأحاديث التي تقوم بها

الحجة في الرواية، وإن كان معناه صحيحًا، بل لم أره في شيء من كتب السنة،

وصيغة الاحترام لم ترد فيها، ولا في القرآن، وقد استعملها الفقهاء، وأراها مولدة،

ويجب على ولاة الأمور منع من يعتدي عليهم، ويؤذيهم عند الإمكان.

(3)

ما قولكم دام فضلكم فيمن يصل إلى بيوت السدنة لبيت الله الحرام،

ويطلب منهم ورقة تتضمن الفسح (الإذن) لدخول البيت المعظم، وتبين الوقت

الذي يفتح فيه، وعند دخوله تؤخذ منه الورقة التي أعطيت له، هل يجوز ذلك أم

لا؟ أفتونا لا زلتم مأجورين.

(ج) إن هذا العمل يقصد به النظام، وعدم الازدحام المخل به فيما يظهر،

فهو بهذا القصد حسن لا بأس به في كل حال، وقد يكون ضروريًّا في حال

الازدحام.

(4)

مولانا، أقدم إلى مقامكم طي هذه صورة فتاوى من أسلافكم مفاتي مكة

المكرمة وعلمائها الأعلام، وهي من قديم الأعوام، ونحن متمسكون بما احتوت

عليه من الأحكام ، والنصوص الشرعية في سدانتنا ، وفي أعمالنا ، وإجراء وظيفتنا ،

نسترحم اطلاعكم عليها ، والتصديق على ما احتوت عليه من الحق والصواب

الذي نرجوكم أن ترشدونا إليه ليكون عملنا عليه. ولكم الثواب.

وهذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

صورة سؤال قدم لمفاتي مكة المكرمة

ما قول العلماء الأعلام في ولاية الكعبة المعظمة ، وخدمتها ، وما يوجد فيها،

وما يهدى لها ، وما تكسى به خارجها وداخلها، وفتحها وإغلاقها، وما يأخذونه من

النذور ، وزوارها ، والهدايا ، ونحو ذلك؟ ، هل يجوز لبني شيبة أخذه، ولا

يشاركهم أحد في خدمتها أم لا؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب حضرة العلامة السيد عبد الله المرغني مفتي مكة المكرمة بقوله:

الحمد لله رب العالمين، رب زدني علمًا، اللهم يا من لا هادي لنا سواك،

أنطقنا بما فيه رضاك، فليعلم السائل أرشدنا الله وإياه للصواب، ووفقنا لما جاءت

به السنة ونطق به الكتاب، أنه يختص بما ذكر بنو شيبة الموجودون الآن وإلى يوم

القيامة؛ لما أرشد إليه الكتاب من الخطاب ، وأورده من السنة أجلاء الأصحاب ،

والفقهاء الأعلام، ومفاتي بلد الله الحرام، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر

المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه، فمن فعل شيئًا من

ذلك؛ استحق الطرد والإبعاد، والخزي والنكال من رب العباد؛ لدخوله في سلك

من ظلم، بصريح قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويجب على ولاة الأمر

تأييدهم وردع من يتصدى لذلك؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ لينالوا بركة

اتباعه ، ويكونوا ممن أحبهم الله لقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي

يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) ، وقد ذكر العلامة أبو السعود في تفسيره كغيره

من المفسرين عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) بعد أن ذكر أنه خطاب يعم المكلفين قاطبة ما نصه: ورد في شأن

عثمان بن أبي طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة ، وذكر القصة إلى آخرها ،

والله سبحانه وتعالى أعلم.

...

...

كتبه المفتقر عبد الله بن محمد المرغني

... مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مستغفرًا مصليًا مسلمًا

وأفتى في عين هذا السؤال حضرة العلامة الشيخ جمال الحنفي مفتي مكة

المكرمة بقوله: سدانة البيت الشريف خدمته ، وتولي أمره ، وفتح بابه وغلقه،

فسدنتها هم خدمتها، ومن يتولى أمرها الشيبيون العبدريون الثابت نسبهم ما بقي

الزمان، وتوالى الملوان، المتصل نسبهم إلى ابن أبي طلحة ، وأبو طلحة اسمه

عبد الله بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الثابتة

لهم هذه المباشرة الشريفة جاهلية وإسلامًا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وقد

صح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ المفتاح من عثمان يوم فتح مكة حتى

ظن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدفعه إليه ، وقال العباس بن عبد

المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعطنا المفتاح مع السقاية فأنزل الله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ، قال عمر رضي

الله عنه: فما سمعتها من رسول الله قبل تلك الساعة. فتلاها ، ثم دعا عثمان بن

أبي طلحة ودفع إليه المفتاح ، وقال:(غيبوه)، ثم قال: (خذوها خالدة تالدة يا

بني أبي طلحة بأمانة الله ، واعملوا فيها بالمعروف، فلا ينزعها منكم إلا ظالم)

وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناول

المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح. وإنما

استوردت هذه الأحاديث؛ ليستنبط منها أحكام الشيبيين، وما به جرت عادتهم القديمة

منها هذه الولاية لهم من الله ورسوله جاهلية وإسلامًا فيا لها من مزية، لا تضاهيها

قضية.

ومنها أن لهم تغييب المفتاح ، وعلى ولاة الأمر الحلم عليهم ، والصفح عن

زلاتهم اقتداءً به عليه الصلاة والسلام، وأخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم:

(كلوا بالمعروف) .

إن ما يهدى إليهم من الصلات والإحسان على وجه التبرع يحل لهم أخذه ،

وهو من الأكل بالمعروف كما وضحه في البحر العميق [1] ، وكذا ما رث من كل ما

أبدل، وعمر فيها كما جرت به العادة القديمة لهم بالأخذ.

ومما يؤيد ذلك، ويدل عليه ما ذكره الفاكهي أنه لما حج الناصر محمد بن

قلاون في سنة سبعمائة وثلاث وثلاثين أمر بقلع باب البيت المعظم، فأخذه الحجبة.

ثم قال الفاكهي: (يؤخذ من هذا أن ما أزيل من البيت الشريف من المؤمن

وعمل بدله يكون لبني شيبة لا يشاركهم فيه غيرهم قد شاهدناهم على مثل هذا،

وإنهم يصرحون بأن هذا حقنا بالقواعد القديمة.

وقد أجاب خاتمة المفتين ببلد الله الأمين حضرة السيد عبد الله المرغني في

عين هذا السؤال، وقد رفع إليه في ضمن كلام طويل بما لفظه: فلا يحل لمن

يؤمن بالله واليوم الآخر المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه،

فمن فعل شيئًا من ذلك استحق الطرد والإبعاد، والخزي، والنكال من رب العباد؛

لدخوله في سلك من ظلم، والله أعلم.

أمر برقمه راجي لطف ربه الخفي جمال بن عبد الله شيخ عمر الحنفي.

مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا.

وأفتى في عين هذه المسألة حضرة الشيخ عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة

المكرمة بقوله: الحمد لله على نعمة الإيجاد والإمداد ، والصلاة والسلام على من

حث على حفظ أمانة العباد.

بنو شيبة الصحابي هم سدنة الكعبة المعظمة إلى يومنا، وإلى يوم القيامة

لما صرَّحت به السنة ، وليس لأحد مشاركتهم في فتحها ، وإغلاقها وخدمتها؛

لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ،

وذكر أكثر المفسرين ، والإمام أحمد في تفسيره الكبير عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ

يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) أنها نزلت في عثمان بن أبي

طلحة الحجبي سادن الكعبة المعظمة ، وروى جبير بن مطعم: قال جبريل عليه

السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما دام هذا البيت ، أو لبنة من لبناته قائمة؛

فإن المفتاح ، والسدانة في أولاد عثمان بن أبي طلحة إلى يوم القيامة) ، وروى بشر

بن السري في المناسك عن نافع الحجبي ، وعن أبيه عبد الرحمن أن أباه حدثه

أن الإمام أبا حنيفة لما حج ، ودخل البيت الشريف ، وصلى فيه ، وأعطا له [2]

ألف دينار ، وقال: (بنو شيبة هم سدنة البيت إلى يوم القيامة لا يشاركهم أحد

في خدمتها) .

وأعظم الإمام مالك أن لا يشرك [3] مع الحجبة أحد في الخزانة لأنها ولاية من

النبي صلى الله عليه وسلم إذ دفع المفتاح لعثمان.

قال القاضي عياض: (الخزانة أمانة البيت ، وما ينذر ، وما يأخذونه من

الزوار ، فلهم أخذه؛ لأنه من الأكل بالمعروف) ، كما أوضحه في البحر العميق ،

وأما ما رث من كسوتها ، وجدد فيها ، فهو لهم ، وقول عائشة رضي الله عنها للنبي

صلى الله عليه وسلم: ما بال بابه مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليمنعوا من

شاءوا) وقولها: يا رسول الله كل زوجاتك دخل الكعبة غيري. فقال: (اذهبي

لقرابتك شيبة؛ يدخلك) ، فذهبت له فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا

رسول الله، إنها لم تفتح ليلاً في جاهلية ، ولا في إسلام ، فإن أمرتني؛ فتحتها ،

فأخذها ، وأمرها أن تصلي في الحجر ، رواه البخاري في صحيحه ، وأما تغييب

مفتاح الكعبة ، فلهم تغييبه كما رواه الفاكهي ، عن جبير بن مطعم أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم لما ناول المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) .

قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح ، ولا يجوز عزل صاحب المفتاح ، ولو

كان غير مرضي الحال كما صرح به مفاتي مكة المشرفة؛ لأنها وظيفة من الله ،

ورسوله ، فيا لها من مزية لا تقاس بوظيفة ، أو قضية! والله أعلم.

قال بفمه ، وأمر برقمه خادم الشريعة ، والمناهج عبد الله سراج الحنفي.

وأفتى بما يؤيد ذلك ابنه العلامة الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة المكرمة

بقوله: قد اطعلت على ما أجاب به والدي عبد الله سراج الحنفي ، وما أجاب به

شيخي الشيخ جمال بن عبد الله مفتي الأحناف بمكة ، والعلامة السيد عبد الله

المرغني؛ فوجدته هو الحق والصواب ، ولا يعول على سواه ، وجوابي كما أجابوا

والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتبه خادم الشرعية والمنهاج عبد الرحمن بن عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة

المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا.

***

علاوة لهذه الفتوى من مرسلها فيما يظهر

أخرج الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: (الأنصار، ومزينة، وجهينة، وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبد

الدار موالي ليس لهم مولى دون الله، والله ورسوله مولاهم) ، قال أبو عيسى: هذا

حديث حسن صحيح.

وما أشار إليه العلامة الشيخ عبد الله سراج في فتواه السابقة إلى قول المحقق

مفتي مكة المكرمة في القرن العاشر العلامة ابن ظهيرة في فتواه ما نصه بلفظه: إذا

اختلف حجبة البيت بما جرت به العادة، هل يقضى لهم بتقديم أكبرهم، وربما كان

غير مرضي الحال؟ يقضي للأكبر ، وإن كان غير مرضي الحال، وإنما يجعل

معهم مشرفًا منهم، والقضاء بما جرت به العادة تشهد له بمسائل كثيرة لا تقاس

بوظيفة ما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أدفعها لكم، ولكن الله دفعها لكم) ،

صح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مأثرة تحت قدمي هاتين إلا سدانة

البيت) ، ولما رواه يونس ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال: أخبرني بلال

وعثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا فاحترموه

واحترموا السدنة) ، وأيضًا أخرج الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عند دخول

النبي صلى الله عليه وسلم من أعلا مكة: روى ابن عابد من طريق ابن جريح أن

عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية؛ فنزلت: {إِنَّ

اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ، فدعا عثمان ، فقال:

(خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، وفي طريق علي بن أبي

طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني شيبة كلوا مما يصل إليكم من

هذا البيت بالمعروف. قال الإمام فخر الرازي في تفسيره (ج3 ص238) قوله:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) إلى أن قال الإمام

- بعد أن ذكر القصة يوم الفتح -: وطلب صلى الله عليه وسلم المفتاح، وأخذه من

عثمان، وقال:(يا عثمان، خذ المفتاح على أن للعباس نصيبًا معك) ؛ فأنزل الله

هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها

منكم إلا ظالم) . اهـ.

***

تعليق المنار على ما تقدم

إن في بعض عبارات هذه الفتاوى ما يؤخذ على أصحابه كإطلاق بعضهم

فيمن ينازع بني شيبة، أو يعارضهم بما يؤذيهم في عملهم قوله: (فمن فعل شيئًا

من ذلك استحق الطرد ، والإبعاد، والخزي ، والنكال من رب العباد؛ لدخوله في

سلك من ظلم) ، فهذا غلو ، وجرأة في أمر لا يمكن أن يعلم إلا بنص عن الله

ورسوله، وما كل من ظلم أحدًا بقول أو فعل يطرده الله من رحمته ، ويبعده كما

طرد إبليس ، وأبعده، أو يخزيه ، وينكل به، كما يفعل بالمشركين به، فإن من

الظلم ما هو من الصغائر ، ومنها ما هو من الكبائر كما هو معلوم ، وقد شرح في

المنار من قبل. (وفيها) تساهل في إيراد بعض الروايات بعدم بيان مخرجيها من

أهلها، وعدم بيان المسند المرفوع من غيره، والصحيح من غيره، كما هي عادة

المفتين منذ القرون الوسطى ينقلون من كل كتاب يقع في أيديهم من غير تمحيص ،

(وفيها) إبهام لبعض المسائل كتغييب مفتاح البيت ، ومسألة تعليل رفع بابه من

عهد الجاهلية، هذه المسائل باختصار ، فنقول:

(أما السدانة) فهي حق بني شيبة بلا نزاع ، وقد ثبت ذلك بالعمل المتواتر،

وقد شذ في بعض القرون بعض أمراء مكة بأخذ مفتاح البيت الحرام من الشيخ

الشيبي ، فكان ذلك في نظر الناس أمرًا إمرًا، وشيئا نُكرًا، ولم يطل الأمد على

ذلك حتى ردت الأمانة إلى أهلها وقد فصلت هذه المسألة في الرحلة الحجازية

الأولى ، وذكرت بعض الأحاديث الواردة فيها معزوة إلى مخرجيها ، وهي في

(ص 152 و153 و154 من المجلد العشرين من المنار) ، وفيها أن لأهل هذا

البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة الثابتة من قبل الإسلام،

التي أقرها لهم الله ورسوله

إلخ، أي: ليس في الناس أهل بيت لهم مثل المزية ،

ومثل هذه الوظيفة الثابتة حكمًا وفعلاً ، وقد حفظ بها نسبهم مع كرامة حسبهم، وقد

فاتني أن أسأل كبيرهم الشيخ محمد صالح رحمه الله في أيام رحلتي الأولى ،

والشيخ عبد القادر صاحب الاستفتاء في الرحلة الثانية عن نسبهم وعددهم، فإنا لا

نعلم شيئًا عن حفظ نسبهم الذي تضطرهم إليه هذه الوظيفة، فإن كانوا قد كثروا كما

كثر العلويون على ممر القرون، فيكف ضبطوا أنسابهم؛ ليعلم أكبرهم سنًّا، فيكون

صاحب المفتاح ، ورئيس الحجاب لبيت الله تعالى ، وأين يقيمون؟ وإن كانوا

قليلين ، فما سبب ذلك؟ إننا نرجع إلى كبيرهم في طلب البيان ، ولعله يجيبنا على

ذلك كتابة بالاختصار.

(وأما هدايا الكعبة والنذور لها) ، فهي تختلف باختلاف ما تهدى ، وتنذر له ،

وبالعرف ، وأطلق بعضهم القول بأنها خاصة بها تحفظ؛ لينفق منها على عمارتها

عند الحاجة ، وصرحوا بأنه لا يجوز إنفاق شيء منها على الفقراء ، ولا في

المصالح.

وروى البخاري - واللفظ له - وأبو داود وابن ماجه عن أبي وائل قال:

جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر رضي

الله عنه ، فقال:(لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ، ولا بيضاء إلا قسمته) ،

قلت: إن صاحبيك لم يفعلا. قال: (هما المرآن أقتدى بهما) . وفي بعض

الروايات عن شيبه أنه قال لعمر: ما أنت بفاعل. قال: (ولم ذاك؟) قلت:

لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه ، وأبو بكر ، وهما أحوج إلى

المال ، فلم يحركاه.

والمراد بهذا الكنز الذي كان فيها مما يهدى إليها ، وكان في صندوق في البيت.

وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في بناء الكعبة: (لولا أن

قومك حديثو عهد بكفر؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله) ، فظاهر هذا التعليل أن

الامتناع من إنفاق الكنز كالامتناع من نقض بناء الكعبة ، وإقامتها على أساس

إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وإلصاق بابها بالأرض ، وفتح باب آخر في مقابله ،

فقد علل ذلك صلى الله عليه وسلم في كلامه مع عائشة بحداثة عهد قومها بالكفر ،

وبالجاهلية ، وخوف إنكار قلوبهم ذلك، وفي رواية:(خشية انكسار قلوبهم) ،

والروايات عنها في هذا ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهذا التعليل قد زال بتمكن

الإسلام ، وهو يدل على عدم امتناع إنفاق كنزها في سبيل الله لذاته ، فما بال الفقهاء

حرموا ذلك؟ وقد يقال: إن ذلك الكنز كان من أموال المشركين في الجاهلية ،

وما ذكروه من الهدايا والنذور في عهد الإسلام يخالفه في حكمه ، فيجب صرفه فيما

وقف ، أو نذر له ، وهو مصالح البيت وحدها.

وقد روى الأزرقي في تاريخ مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في

الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى للبيت، فقال

له علي رضي الله عنه: (يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك! فلم

يحركه) .

وفي هذه المسألة فروع ذكروا فيها أن لحجبة البيت (وهم آل شيبة) أن

يتصرفوا ببعض النذور التي جرى بها العرف.

ننقل الفروع الثلاثة الآتية منها عن كتاب (الجامع اللطيف، في فضل مكة

وأهلها وبناء البيت الشريف) للشيخ جمال الدين محمد جاد الله القريشي المخزومي

الحنفي من علماء مكة في القرن العاشر قال: فروع:

(الأول) تختص الكعبة الشريفة بما يهدى إليها ، وما ينذر لها من الأموال ،

وامتناع صرف شيء منها إلى الفقراء ، والمصالح إلا أن يعرض لها نفسها عمارة ،

فيصرف فيه ، وإلا فلا يغير شيء عن وجهه.

نبه عليه الزركشي من الشافعية.

(الثاني) إذا نذر شمعًا يشعله فيها ، أو زيتًا ، ونحوه؛ وضعه في مصابيحها.

وإن كان لا يستعمل فيها؛ بيع وصرف الثمن في مصالحها ، صرَّح به

الماوردي.

(الثالث) نقل الجد في منسكه مسألة تعم بها البلوى ، فقال: شخص نذر أن

يوقد شمعًا على باب الكعبة ، فأرسل به مع غيره؛ ليوقده ، فجاء المرسل به ،

وأوقده على الباب قليلاً ، فجاء الحجبة ، فأخذوه ، ومنعوا استمرار وقوده ، وقالوا:

هذه عادتنا مع كل أحد. وربما سرقه نوابهم على غفلة بعد إيقاده قليلاً ، فهل تبرأ

ذمة الناذر والمرسل معه ، أو ذمة الناذر دون المرسل معه ، أم كيف الحال؟

(الجواب) : الناذر خلص عن عهدة المنذور؛ لبلوغه محله ، وكون الحجبة

يأخذونه أمر آخر لا يتعلق ببقاء النذر في ذمة الناذر ، ولا المرسل معه، وإن كان

على الحجبة إبقاؤه موقودًا إلى نفاده ، ولا خفاء أن الناذر نفسه لو حضر بالشمع ،

فكان ما تقدم؛ كان الحكم كذلك، ومحل صحة هذا النذر من أصله أن ينتفع بهذا

الموقود ، ولو على ندور مصل هناك ، أو غيره ، وإلا فإن كان المقصد بالنذر ،

وهو الغالب تعظيم البقعة ، ففيه وقفة.

ومقتضى كلام النووي عدم الصحة ، وصرَّح به الأذرعي وتبعه الزركشي.

انتهى.

(أقول) : مقتضى مذهبنا أن المرسل بالشمع لا يخلص عن العهدة بمجرد

إيصال الشمع إلى المحل، بل ولا بوقوده قليلاً ما لم يوقد ثلثاه ، فأكثر، وأما

الحجبة ، فلهم أخذه بغير إذن المرسل إذا جرى العرف بذلك بعد أن وقد معظمه.

نصَّ عليه في القنية من كتب المذهب ، انتهى بحروفه.

(تنبيه) إن الشمع الذي يوقد الآن على باب الكعبة لا ينتفع به أحد؛ لأن

الحرم كله يضاء بقناديل الكهرباء ، وقناديل أخرى غازية، وبوضعه على عتبة

الباب يستقبله المصلون ، واستقبال النار في الصلاة محظور؛ لما فيه من شبه

المجوس كما صرحوا به، ولعلهم تساهلوا فيه؛ لأن المراد به تعظيم الكعبة مع كون

شبه المجوس نسي ، فلا يخطر بالبال.

(وأما كسوة الكعبة المعظمة) ، فالأصل فيها أن أمرها إلى الإمام الأعظم ،

ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقسمها على الحجاج كما يأتي، ثم ترك الأئمة

والأمراء أمرها إلى بني شيبة حجبة الكعبة.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح - في شرح حديث عمر في كنز الكعبة الذي

تقدم آنفًا نقلاً عن ابن المنير -: (والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة؛ إذ في

بقائها تعريض لإتلافها ، ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية) ، (قال) : (ويؤخذ

من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة ، لكن

الكسوة في هذه الأزمنة أهم) (قال) : واستدلال ابن بطال بالترك (أي: ترك

عمر لكنز الكعبة اتباعًا) على إيجاب بقاء الأحباس (أي: الأوقاف) لا يتم إلا إن

كان القصد بمال الكعبة إقامتها ، وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك ، ويحتمل أن

يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة ، وسدنتها، أو إرصاده لمصالح الحرم ، أو لأعم

من ذلك، وعلى كل تقدير؛ فهو تحبيس (أي: وقف) لا نظير له ، فلا يقاس عليه

انتهى.

(ثم قال الحافظ) عقب نقل هذا: (ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة

(أي: مع عمر) هذا ما يتعلق بالكسوة ، إلا أن الفاكهي روى في كتاب مكة من

طريق علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل

علي شيبة الحجبي ، فقال: يا أم المؤمنين ، إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا؛ فننزعها ،

ونحفر بئرًا ، فنعمقها ، وندفنها؛ لكي لا تلبسها الحائض والجنب. قالت:

(بئسما صنعت، ولكن بعها ، فاجعل ثمنها في سبيل الله ، وفي المساكين ، فإنها إذا

نزعت عنها؛ لم يضر من لبسها من حائض ، أو جنب) ، فكان شيبة يبعث بها إلى

اليمن؛ فتباع، فيضعها حيث أمرته.

وأخرجه البيهقي من هذا الوجه ، لكن في إسناده راو ضعيف ، وإسناد الفاكهي

سالم منه.

وأخرج الفاكهي أيضًا من طريق ابن خثيم: حدثني رجل من بني شيبة قال:

رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين.

وأخرج من طريق ابن نجيح ، عن أبيه أن عمر كان ينزع كسوة الكعبة كل

سنة؛ فيقسمها على الحاج اهـ.

وقد نقل القسطلاني في شرحه لهذا الحديث أقوالاً للشافعية في الكسوة ختمها

بنقله عن (المهمات) للإسنوي التفصيل الآتي:

واعلم أن للمسألة أحوالاً (أحدها) : أن توقف على الكعبة ، وحكمها ما مر،

وخطأه غيره بأن الذي مر محله إذا كساها الإمام من بيت المال، أما إذا وقفت ،

فلا يتعقل عالم جواز صرفها في مصالح غير الكعبة.

(ثانيها) أن يملكها مالكها للكعبة ، فلقيمها أن يفعل فيها ما يراه من تعليقها

عليها ، أو بيعها ، وصرف ثمنها إلى مصالحها.

(ثالثها) أن يوقف شيء على أن يؤخذ ريعه ، وتكسى به الكعبة في عصرنا ،

فإن الإمام قد وقف على ذلك بلادًا.

(قال) : وقد تلخص لي في هذه المسألة أنه إن شرط الواقف شيئًا من بيع ،

وإعطاء لأحد أو غير ذلك؛ فلا كلام، وإن لم يشترط شيئًا إن لم يقف الناظر تلك ،

فله بيعها ، وصرف ثمنها في كسوة أخرى ، وإن وقفها فيأتي فيه ما مر من الخلاف

في البيع. نعم بقي قسم آخر ، وهو الواقع اليوم في هذا الوقف ، وهو أن الواقف لم

يشرط شيئًا من ذلك، وشرط تجديدها كل سنة مع علمه بأن بني شيبة كانوا يأخذونها

كل سنة لما كانت تستكسى من بيت المال ، فهل يجوز لهم أخذها الآن ، أو تباع

ويصرف ثمنها إلى كسوة أخرى؟ فيه نظر ، والمتجه الأول. اهـ.

أقول: ذكرت هذا التفصيل؛ لأن المطلعين على كتب الفقه يرون فيها أقوالاً

مختلفة في المسألة سببها اختلاف التاريخ ، والأحوال ، والحالة الأخيرة التي ذكرها

القسطلاني هنا هي الثابتة إلى الآن، وهي أن الملك الصالح إسماعيل بن الناصر

ابن قلاوون صاحب مصر وقف قرية بيسوس (ويقال الآن: بسوس) من نواحي

القاهرة على كسوة الكعبة سنة 243 ، ومن ذلك العهد تصنع الكسوة في مصر في

كل عام، وهل العبارة في القسطلاني له وهو قد توفي في سنة 923 ، أم للأسنوي ،

وهو قد توفي سنة 772؟ ، الأظهر الأول، والحالة واحدة.

وفي الجامع اللطيف: نقل الفاسي رحمه الله أن أمراء مكة كانوا يأخذون من

السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة مع جانب كبير من كسوتها ، أو ستة آلاف

درهم كاملة عوضًا عن ذلك إلى أن رفع ذلك عنهم السيد عنان بن مقاس لما ولي

أمر مكة سنة 788 ، وتبعه أمراء مكة في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان

بعد سنين من ولايته صار يأخذ منهم الستارة ، وكسوة المقام ، ويهديها لمن يريد من

الملوك ، وغيرهم. انتهى (أي: كلام الفاسي) ، وقد استمر الأمر كذلك من أمراء

مكة إلى يومنا هذا (أي: سنة 950) اهـ.

وأقول: إن أمراء مكة صاروا يأخذون الكسوة العتيقة كل سنة ، ويتصرفون

فيها إلى عهد الملك حسين بن علي ، ثم ردها الملك عبد العزيز بن السعود إلى

الشيبي.

ثم أورد صاحب الجامع اللطيف فروعًا في المسألة، أولها في مسألتنا وهو:

(يجوز بيع ثياب الكعبة عندنا إذا استغنت عنه) ، وقال به جماعة من فقهاء

الشافعية ، وغيرهم ، ويجوز الشراء من بني شيبة؛ لأن الأمر مفوض إليهم من قبل

الإمام. نص عليه الطرسوسي من أصحابنا في شرح منظومته، ووافقه السبكي من

الشافعية ، ثم قال: وعليه عمل الناس، والمنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها

إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا، وإعطاءً، واستدل بما تقدم

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي قواعد صلاح الدين خليل بن الكندي أنه

لا يتردد في جواز ذلك الآن لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها

في كسوة الكعبة ، والوقف بعد استقرار هذه العادة ، والعلم بها ، فينزل لفظ

(الواقف) عليها، واستحسن النووي الجواز أيضًا ، قال الجد رحمه الله: هذا في

الستور الظاهرة، وأما الستور الداخلة فلا تزال، بل تبقى على ما هي عليه؛ لأن

الكلام إنما هو في الستور التي جرت العادة أن تغير في كل عام، فلو قُدِّرَ جريان

العادة بمثل ذلك في الستور الباطنة؛ سلك بها مسلك الظاهرة؛ انتهى.

(وأما مسالة ارتفاع باب الكعبة) : فقد كان من استبداد قريش ، وترفعهم ،

وأثرتهم على الناس، وإنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة منكرًا له ، لا

مجيزًا ، ولم يذكر في السؤال ، ولا في الفتاوى المسئول عنها نص الحديث كله في

ذلك ، وهو في الصحيحين ، ولفظه في البخاري عنها سألت النبي صلى الله عليه

وسلم عن الجَدَر (هو بالفتح الجِدار بالكسر والمراد به: الحجر، وقد ورد الحديث

في غيرهما بهذين اللفظين) أمن البيت هو؟ قال: (نعم)، قلت: فما لهم لم

يدخلوه في البيت؟ قال: (إن قومك قصرت بهم النفقة [4] )، قلت: فما شأن بابه

مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليدخلوا من شاءوا ، ويمنعوا من شاءوا، ولولا

أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر؛ أفعل

ذلك) ، كما زاد قوله:(ويمنعوا من شاءوا) ، فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها

يدعونه يرتقي حتى إذا كاد يدخل دفعوه؛ فسقط.

وفي حديث آخر للبخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة لولا

أن قومك حديث عهد بجاهلية؛ لأمرت بالبيت ، فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه ،

وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين بابًا شرقيًّا ، وبابًا غربيًّا ، فبلغت به أساس

إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، قال: فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه إلخ.

وأقول: إن عبد الله بن الزبير فعل كل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم

يحب أن يفعله ، فأعاده إلى أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورأى ذلك الأساس

المتين ، ورآه الناس ، وجعل له بابين، ولكن الحجاج هدم ما بناه، وأعاده كما كان،

ونقلوا أن عبد الملك بن مروان ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعنه، وكان

اتهم ابن الزبير بالكذب على عائشة، فأخبره الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أنه

سمع ذلك منها؛ فندم، وأراد بعض خلفاء بني عباس أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير،

فناشده الإمام مالك أن لا يفعل؛ لئلا تصير ملعبة للملوك، فلهذا بقيت على وضعها إلى

الآن.

(وأما تغييب المفتاح) فلا أذكر أن أحدًا بحث في سببه، أو حكمته ،

فأراجع قوله، وكان الذي يسبق إلى فهمي كلما قرأت ذلك أن سببه مطالبة كل من

العباس وعلي رضي الله عنهما له بجعله لبني هاشم، فحسب صلى الله عليه وسلم

أنه ربما يراه أحد من بني هاشم مع طلحة ، فينتزعه منه لعدم علمه بتخصيصه به

هو وآله من بعده ، فتكون فتنة ، وقد زال هذا السبب منذ العصر الأول ، ولم يبق

لتغييب المفتاح معنى إلا إبقاء الباب مقفلاً في معظم الأوقات ، وفتحه في أقلها ،

وهو خلاف ما كان يريده صلى الله عليه وسلم من فتح بابين لها مساويين للأرض؛

ليدخل الناس من أحدهما ، ويخرجون من الآخر، والظاهر أن أئمة الحكم ، وأئمة

العلم رأوا أن المصلحة العامة التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم الخلفاء

الراشدين من تنفيذ ذلك ، وبقاء الحال على ما كانت عليه من علو الباب ، ووحدته

لا تزال تقتضي ذلك في كل زمان ، وإن اختلفت العلة، فلو جعل الباب الآن مفتوحًا

في كل وقت لامتهن البيت ، وقل احترامه ، وحدثت فيه بدع ومنازعات عند

الازدحام ، ففتحه في بعض الأوقات ، وتخصيص بعض الناس بدخوله دون بعض

يقي من ذلك كله مع مراعاة الشيبيين للحكمة ، ومداراة الناس في ذلك.

وجملة القول أن السدانة ثابتة لبني شيبة بالتواتر ، والله أعلم.

_________

(1)

المنار: (البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى البيت العتيق) لأبي البقاء المكي العمري الحنفي من فقهاء القرن التاسع.

(2)

كذا في الأصل ولعل الصواب (أعطاه) .

(3)

كذا في الأصل المرسل إلينا.

(4)

قال الحافظ في الفتح أي الطيبة التي أخرجوها لذلك وذكر أنهم لم يدخلوا في النفقة على بنائها شيئًا من كسب بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.

ص: 225

الكاتب: ابن زمزم

‌دعوة مفسدي الرافضة

يحيَى إلى قتال ابن السعود

وأهلَ الحجاز إلى الثورة

ننشر هذه الأبيات الآتية من قصيدة نشرتها جريدة حضرموت بإمضاء ابن

زمزم؛ ليعلم حزبها أننا نعلم أنه لا قيمة له ، ولا تأثير لفتنته عند الإمام يحيى ، ولا

عند غيره بالأولى، فلم يبق لهم ملجأ بعد خذلان أبي الأشبال لهم إلا أن يتضرعوا

لإخوانهم في إيران ، فيقيموا لهم ملكًا كالملك الذي أقاموه لأئمة آل البيت من قبلهم! !

قال الناظم الأحمق:

يا نفس ذوبي ، ويا قلب اتقد ألمًا

وأمطري الدم يا عيني منسجما

ويا قضاء إلهي لا تذر أبدًا

في القوم من ناطق بعد الذي دهما

دهى الجزيرة خطب لا حدود له

أعيا النهى وأثار الشر والنقما

خطب يعيد بلاد العرب أندلسًا

أخرى ويرمي على طول المدى حمما

فلست مستصرخًا بالمسلمين وهم

يرون ما فاض في بيت الهدى وطمى

وما أصيب به دين النبي ضحى

والأمر لله يجزيه بما حكما

لكنني [1] سوف أدعو من إذا كشفت

عن ساقها الحرب كان الصارم الخذما

ومن تحدر من بيت محانده

إن أجدب الناس كانوا فيهمو ديما

ومن أتى جده الهادي وعترته

من بعده ما بقوا بين الورى نعما

نفسي الفداء لأهل البيت لا بقيت

نفس إذا لم تسر في حبهم قدما

يا ملجئي وأمير المؤمنين ومن

نلقي عليه من الآمال ما عظما

يا راعي اليمن الخضراء يملؤها

تقًى وعدلاً وإيمانًا بها اعتصما

يا تاج يعرب والإسلام قاطبة

يا من يجير الحمى والدين والذمما

ويا شديد العرى في كل نائبة

أدعوك مولاي للأمر الذي قصما

يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه

حتام يهدم في الإسلام من هدما

حتام يعبث في قلب الجزيرة؟ لا

خوف من الله لا صدق ولا شمما

سكت للمعتدي يستن مندفعًا

كيما يكون هو البادي الذي ظلمًا

ثم قال يحث أهل الحجاز على الثورة تمهيدًا للزحف الموهوم:

فلن يحل لكم در الحجاز وقد

قنعتموا بالردى لا عزم لا همما

بالله موتوا فقد ماتت شمائلكم

ولا حياة لجسم يفقد الشيما

أولاً فأحيوا زمانًا كنتمو شهبًا

فيه وثوروا سراعًا واحملوا العلما

كأنكم بأبي الأشبال سيدنا

يحيى الإمام يقود البحر ملتطما

كأنكم بحميد الدين يهتف في

أكناف مكة: زال البؤس منتقما

من خلفه ضيغم الفتيان أحمد قد

خاض العجاج ففر الخصم وانهزما

وخلص البيت مما قد أحاط به

ورد للعرب والإسلام ما عدما

_________

(1)

مفهوم هذا الاستدارك أن الإمام الذي يدعوه ، وجماعته ليسوا من المسلمين! ! .

ص: 238

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حجاج الشيعة الإيرانيين ومصر

تعددت الأخبار من سورية بأن كثير من حجاج الشيعة الإيرانيين قد وفدوا

عليها في طريقهم إلى الحجاز عصيانًا لحكومتهم في طاعة الله تعالى.

وذلك أن هؤلاء الحجاج قد رأوا أن الأراجيف التي نشرت في العام الماضي

لمنع الشيعة من الحج كانت كاذبة خاطئة، فالوهابيون لم يسألوا أحدًا من الحجاج

عن مذهبه ، ولا عن حجه ، ولا كلفوا أحدًا اتباع مذهبهم ، والبلاد كلها آمنة مطمئنة ،

فلا عذر لمسلم في ترك الفريضة مع القدرة اتباعًا لهوى حكومته ، وقد روى

الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه مرفوعًا إلى النبي

صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف) ،

ولكن بعض الملاحدة في مصر يدسون الدسائس؛ لإقناع حكومة مصر باتباع

حكومة إيران في منع الحج ، وتحبيذ عملها، والمسلمون لا يثقون بأقوالهم في أمر

الدين؛ لأنهم خصومه.

_________

ص: 239

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌لا بد من قتل صاحب المنار

بلغنا أن الكاتب المغرور، محمد حسين هيكل بك رئيس تحرير جريدة

السياسة الغرور، لسان حال الحزب الحر الدستوري وحزب الملاحدة قد قرر

لمرؤوسيه محرري جريدة السياسة لا بد من قتل صاحب المنار فوافقوه، وهم يعنون

بهذا القتل ما يكون بأسنة أقلامهم الطعانة ، فالمتبادر أنهم يعنون القتل المعنوي ، أو

ما يسمونه الأدبي ، وإن كانوا لا يدخرون وسعًا إذا قدروا على إيذائه بغير ذلك كما

فعلت السياسة حين اتهمته من قبل أنه يعمل مع جمعية سرية دينية سياسية بإغراء

الأمير عباس حلمي (الخديوي السابق) ، ولولا أن كذبت الحكومة هذه التهمة تكذيبًا

رسميًّا عقب إذاعة جريدة السياسة لها لانتزع صاحب المنار من بين أهله ، ووضع

في غيابة السجن رهن التحقيق ، فكان ذلك أطرب لرئيس تحرير السياسة من

الصبوح والغبوق، وبلوغ العيوق.

كان ذنب صاحب المنار لدى جريدة السياسة يومئذ إنكاره على علامتها

المحقق الشيخ علي عبد الرازق كتابه الذي أنكر فيه التشريع الإسلامي من أساسه.

وقد تضاعفت ذنوب صاحب المنار من هذا النوع ، فهو بالمرصاد لجميع

أنواع الدعاية الإلحادية التي تبثها جريدة السياسة باسم التجديد والثقافة العصرية التي

تزعم أن مصر بدعايتها وبعناية مدرسة الجامعة المصرية ستنسخ بها ثقافة الإسلام

التي مصدرها الأزهر وغيره، وتحل محلها، ويتبعها في ذلك سائر العرب بزعمها.

يظن محرر السياسة أن الذي يطلق لسانه وقلمه من كل قيد من قيود الحق

والصدق والأدب يستطيع إذا كان ذا خلابة أن يجعل الحق باطلاً والنور ظلامًا

والشرف خسة والفضيلة رذيلة، ويظنون أنهم فعلوا بخلابتهم بسعد ووفده ما لم يفعله

جيش الاحتلال ، وفعلوا لحزبهم ما لا يسمح لنا ببيانه المجال.

هذا وإن سعدًا قد بلغ من ارتفاع المكانة في مصر ما لم يبلغه أحد يعرفه

التاريخ ، فماذا يكون رشيد رضا الغريب السوري الضعيف؟ يقولون: إنا قتلناه

نصف قتلة بما كتبناه في مسألة مؤتمر الخلافة ، وكما قتلنا الأزهر نفسه ، فهو الآن

مثخن جراحًا ، وسنقضي عليه ببضع مقالات أخرى.

غرور كبير، ما قتلوا ولن يقتلوا إلا حزبهم وأنفسهم، وسنقضي بحول الله

وقوته على أباطيلهم {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ

الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 240

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استفتاء في فتوى وطلب إقرارها وتصحيحها

(س6) من صاحب الإمضاء في (أمرتسر - الهند)

ما قولكم سادة العلماء الكرام (كثر الله سوادكم) في رجل فسر آية الاستواء،

وغيرها من آيات الصفات على طريق المتكلمين ، هل هو من أهل السنة ، أو أهل

الكفر ، أو أهل البدع؟ بينوا الحق والصواب تؤجروا من الله الوهاب يوم

الحساب.

أقول الجواب طالبًا من الله توفيق الصواب:

إن مسألة الصفات الإلهية عقدة عجز عن حلها بنان العقول، وحقيقة تحير في

إدراكها أذهان الفحول، قال الإمام الرازي:

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وكان يقول أعلم خلق الله بالله صلى الله عليه وسلم في دعائه: (لا أحصي

ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك) ، فلأجل إشكال الأمر ، وصعوبة الخطب؛

سلك علماء السنة ، وأئمة الأمة مسلكين: التفويض ، والتأويل، لا يكفر صاحب

أحدهما الآخر ، ولا يبدعه؛ إذ مطمح نظر كلا الفريقين تنزيه ذات الله تعالى عن

مشابهة المحدثات، وعن أن يكون ذاتًا مجردة عن الصفات، وكلا المسلكين منقول

عن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الأئمة المتبوعين، كما قال القاضي

الشوكاني:

وإذا عرفت معنى الظاهر [1] فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين: (أحدهما)

يقبل التأويل ، وهو قسم من النص مرادف للظاهر، والقسم (الثاني) لا يقبله ،

وهو النص الصريح) ، ثم أخذ بعد ذلك في تفصيل ما يقبل التأويل ، فقال:

(الفصل الثاني) فيما يدخله التأويل ، وهو قسمان:(أحدهما) أغلب

الفروع ، ولا خلاف في ذلك ، (والثاني) الأصول كالعقائد ، وأصول الديانات ،

وصفات الباري عز وجل ، وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب:(الأول)

أنه لا دخل للتأويل فيها، بل يجرى على ظاهرها ، ولا يؤول شيء منها ، وهذا

قول المشبهة. (والثاني) أن لها تأويلاً ، ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن

التشبيه ، والتعطيل؛ لقوله تعالى:{وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران: 7) ،

قال ابن برهان: وهذا قول السلف. ثم قال بعد ذلك: (والمذهب الثالث) أنها

مؤولة ، قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل ، والآخران منقولان عن

الصحابة ، ونقل هذا المذهب الثالث عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأم

سلمة (إرشاد الفحول صفحة 164) .

ثم قال رحمه الله: وقال ابن دقيق العيد: والذي نقوله في الألفاظ المشكلة:

إنها حق ، وصدق على الوجه الذي أراده الله، ومن أوَّل شيئًا منها ، فإن كان تأويله

قريبًا على ما يقتضيه لسان العرب تفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ، ولم نبدعه،

وإن كان تأويله بعيدًا؛ توقفنا عليه ، واستبعدناه ، ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان

بمعناه مع التنزيه ، وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي

في البحر (صفحة 165 إرشاد) .

ثم ذكر الشوكاني شروط التأويل؛ ليبين المقبول من التأويل مما هو مردود

فقال: (الفصل الثالث) في شروط التأويل ، (الأول) : أن يكون موافقًا لوضع

اللغة ، أو عرف الاستعمال ، أو عادة صاحب الشرع ، وكل تأويل خرج عن هذا ،

فليس بصحيح، ثم قال: والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قد يكون قريبًا؛

فيترجح بأدنى مرجح، وقد يكون بعيدًا؛ فلا يترجح إلا بمرجح قوي ، ولا يترجح

بما ليس بقوي ، وقد يكون متعذرًا لا يحتمله اللفظ؛ فيكون مردودًا لا مقبولاً

(إرشاد صفحة 165) .

وقال خاتمة الحفاظ في الفتح:

قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغًا في

لسان العرب ، وكان له وجه في العلم (جزء 28 [2] باب ما جاء في المتأولين) ،

وقال مولانا حكيم الأمة ، وأستاذ الهند في الحجة [3] : وقال الحافظ ابن حجر: لم

ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من الصحابة من طريق صحيح

التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك - يعني المتشابهات - ، ولا المنع من

ذكره.. إلخ (جلد أول صفحة 62) .

وذكر حكيم الأمة قبل ذلك كلامًا رصينًا جامعًا يحل معضلات الباب ،

ومشكلات الخطاب في آيات الصفات ما نصه:

واعلم أن الحق تعالى أجل من أن يقاس بمعقول ، أو محسوس ، أو يحل فيه

صفات كحلول الأعراض في محالها، أو تعالجه العقول العامية، أو تتناوله الألفاظ

العرفية، ولا بد من تعريفه إلى الناس؛ ليكملوا كمالهم الممكن لهم، فوجب أن

تستعمل الصفات بمعنى وجود غاياتها ، لا بمعنى وجود مباديها، فمعنى الرحمة

إفاضة النعم ، لا انعطاف القلب والرقة ، وأن تستعار ألفاظ تدل على تسخير الملك

لمدينة؛ لتسخيره لجميع الموجودات؛ إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من هذه،

وأن تستعمل تشبيهات بشرط أن لا يقصد إلى أنفسها ، بل إلى معان مناسبة لها في

العرف ، فيراد ببسط اليد: الجود مثلاً ، وبشرط أن لا يوهم المخاطبين إيهامًا

صريحًا أنه في ألواث البهيمية (حجة الله باب الإيمان بصفات الله تعالى صفحة

62) .

أيها الناظر! إن كان لك مسكة من علم الكلام ، أو ملكة في بلوغ المرام ،

فتدبر عبارة حكيم الأمة كيف سلك مسلك التأويل ، وأيد مذهب المتكلمين في فهم

المراد من الألفاظ الدالة على صفات الله عز وجل فلله دره! حيث أفاد وأجاد.

فظهر بفضل الله مما ذكر ظهورًا بينًا أن علماء السنة لا ينكرون التأويل مطلقًا ،

بل هم (أنار الله براهينهم) يميزون الصحيح من الفاسد، والرائج من الكاسد،

كيف ولم يزل العلماء بعد الصحابة يؤولون بعض آيات الصفات ، والأحاديث إلى

يومنا هذا كما تشهد النقول الآتية ، والله ولي الهداية، وقد أطنب الإمام الحافظ أبو

محمد بن حزم الظاهري وكفى به قدوة في كتاب الفصل له ، والمحدث الحافظ أبو

بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات له ، ونحن نلتقط لك نبذًا من كلامهما ،

وشيئًا يسيرًا من كلام غيرهما.

(1)

قوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) إنما

معناها: فثم الله بعلمه ، وقبوله لمن توجه إليه (كتاب الفصل ص 166 مجلد 2) ،

وقال البيهقي: وأما قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

اللَّهِ} (البقرة: 115) ، فقد حكى المزني ، عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال

في هذه الآية: يعني - والله أعلم - فثم وجه الله الذي وجهكم الله إليه (كتاب

الأسماء والصفات ص 227) ، وقال البيهقي ، عن مجاهد في قوله عز وجل:

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر: 56) : يعني

ما ضيعت من أمر الله (ص261) .

(2)

، وقال ابن حزم رضي الله عنه في حديث النزول: وصح عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الله ينزل كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى

السماء الدنيا ، (قال أبو محمد) وهذا إنما هو فعل يفعله الله في سماء الدنيا من

الفتح؛ لقبول الدعاء ، وإن تلك الساعة من مظان القبول ، والإجابة للمجتهدين ،

والمستغفرين ، والتائبين.. إلخ (ص172 ج2) ، ثم ذكر أدلة صحة هذا التأويل ،

واستشهد بالعقل ، والنقل ، ثم قال: فهذا كله على ما بينا من أن المجيء ، والإتيان

يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم يسمى ذلك الفعل مجيئًا وإتيانًا، وقد

روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر: 22) إنما

معناها: وجاء أمر ربك (ص 173 ج3)، وقال البيهقي: وأما الاقتراب والإتيان

المذكوران في الخبر ، فإنما يعني بهما إخبارًا عن سرعة الإجابة ، والمغفرة كما

رويناه عن قتادة (ص 212)، وقال الشهيد الدهلوي في العبقات (عبقة 24) : من

التجليات المثالية الشهودية تجلي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ، وهو ظهور

للتجلي.. إلخ (ذكر الإشارة في التجليات ص 88) .

(3)

وقال الإمام أبو محمد بن حزم في القول في المكان والاستواء (قال

أبو محمد) : ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان ، واحتجوا

بقول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) ،

وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16)، وقوله تعالى:

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) - قال أبو محمد -:

وقد تأول المسلمون في هذه الآية آية الاستواء أربعًا ، (والقول الرابع) في معني

الاستواء هو أن معنى قوله تعالى: {عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) أنه فعل

فعله في العرش ، وهو انتهاء خلقه إليه ، فليس بعد العرش شيء ، ويبين ذلك أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنات ، وقال: (فاسألوا الله الفردوس الأعلى ،

فإنه وسط الجنة ، وفوق ذلك عرش الرحمن) ، فصح أنه ليس وراء العرش خلق ،

وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ، ولا ملاء ، ومن أنكر أن يكون

للعالم نهاية من المساحة ، والزمان ، والمكان؛ فقد لحق بقول الدهرية ، وفارق

الإسلام. والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء ، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى

السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) أي: إن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن

رتب الأرض على ما هي عليه ، وبالله التوفيق ، وهذا هو الحق ، وبه نقول؛

لصحة البرهان به ، وبطلان ما عداه (125ج2) .

وقد أطنب ، وأطال الحافظ المحدث أبو بكر البيهقي في مسألة الاستواء ،

وسرد أقوال السلف ، ثم قال: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة ، وعلى هذه

الطريقة يعمل مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وإليها ذهب أحمد بن حنبل ،

والحسين بن الفضل البجلي ، ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي ، وذهب أبو

الحسن على بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلاً

سماه استواءً كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقًا ، أو نعمة ، أو غيرها من أفعاله ، ثم

لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل؛ لقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) ، وثم للتراخي ، والتراخي إنما يكون في الأفعال ، وأفعال الله

تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ، ولا حركة (ص292 كتاب الأسماء) ، ثم قال

الإمام البيهقي بعد ذلك بأسطر ما نصه: وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي

أيوب: إن كثيرًا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر ، والغلبة ،

ومعناه أن الرحمن غلب العرش ، وقهره ، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته ،

وأنها لم تقهره ، وإنما خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المملوكات ، فنبه بالأعلى

على الأدنى ، قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة كما يقال: استوى

فلان على الناحية إذا غلب أهلها ، وقال الشاعر في بشر بن مروان:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

يريد أنه غلب أهله من غير محاربة ، قال: وليس ذلك في الآية بمعنى

الاستيلاء؛ لأن الاستيلاء غلبة مع توقع ضعف. قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز

وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) ، والاستواء إلى

السماء هو القصد إلى خلق السماء ، فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء استواءً؛

جاز أن تكون القدرة على العرش استواء (ص293 كتاب الأسماء والصفات) .

وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الحراني رحمه الله في المنهاج ما نصه:

ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ، ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل

ذلك عن إسحاق بن راهويه ، وحماد بن زيد ، وغيرهما ، ونقلوه عن أحمد بن

حنبل في رسالته [4] إلى أبي مدر ، وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء ،

وأنه لا يُعْلَمُ كيف ينزل ، ولا تمثل صفاته بصفات خلقه، وقد تنازعوا في النزول:

هل هو فعل منفصل عن الرب في المخلوق أو فعل يقوم به؟ على قولين معروفين

لأهل السنة من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وغيرهم من أهل الحديث ،

والتصوف، وكذلك تنازعهم في الاستواء على العرش هل هو بفعل منفصل عنه

يفعله بالعرش كتقريبه إليه ، أو فعل يقوم بذاته على قولين ، (والأول) قول ابن

كلاب الأشعري ، والقاضي أبي يعلى ، وأبي الحسن التميمي ، وأهل بيته ، وأبي

سليمان الخطابي ، وأبي بكر البيهقي ، وابن الزاغوني ، وابن عقيل ، وغيرهم ممن

يقول: إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته ، (والثاني) قول أئمة أهل

الحديث ، وجمهورهم كابن المبارك ، وحماد بن زيد ، والأوزاعي ، والبخاري ،

وحرب الكرماني ، وابن خزيمة ، ويحيى ، وأبي عمار السجستاني ، وعثمان بن سعيد

الدارمي ، وابن حامد ، وأبي بكر عبد العزيز ، وأبي عبد الله بن منده ، وأبي إسماعيل

الأنصاري ، وغيرهم (ص 262 ج2) .

(تنبيه) لعلك تفطنت مما نقلنا أن منشأ الاختلاف في مسألة الاستواء أن

الاستواء على العرش هل هو من جنس صفة الذات ، أو من صفة الفعل.

فالمفوضون حسبوه من صفة الذات ، فوكلوا الكيفية إلى علم الله مثل قولهم في

سائر صفات الذات، والذين أولوا ، وعينوا المراد به جعلوه من صفة الفعل ،

وحجتهم أن العرش عند الفريقين مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن ، فالاستواء

عليه لا يكون من صفات الذات، وهذا لا يحتاج إلى البيان ، وأن الله ذكر الاستواء

بحرف (ثم) ، وهي للتراخي ، والتراخي إنما يكون في الأفعال ، فالاستواء من

صفات الفعل.

وهذا الطريق قد جعله شيخ الإسلام طريق بعض أئمة أهل السنة كما ترى

في عبارته ، وإن كان مختاره طريق التفويض ، فكيف تظن بالذين جعلوه من صفة

الفعل ، فأولوه أنهم أهل البدع؟ والحال أن منهم الإمام أبا سليمان الخطابي ، والإمام

أبا بكر البيهقي ، وهما محدثان كبيران ، وإمامان جليلان لا يسأل عن مثلهما ، ولا

ينكر سعة علمهما ، ولا صحة فهمهما ، وسلامة عقيدتهما ، ورعايتهما للسنة ،

واجتنابهما عن البدعة.

وكفاك في جواز مسلك التأويل الصحيح أن علماء أهل السنة قد اجتمعوا ، أو

كادوا أن يجتمعوا على أن المراد من المعية في آيات المعية إنما هو العلم ، والقدرة ،

والعون والنصرة ، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ثم قال تعالى مخبرًا عن

إحاطة علمه بخلقه ، واطلاعه عليهم ، وسماعه كلامهم ، ورؤيته مكانهم حيث كانوا ،

وأين كانوا ، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ

وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: 7) أي: مطلع عليهم يسمع كلامهم

وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك يكتبون ما يتناجون به مع علم الله به ،

وسمعه له، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ

عَلَاّمُ الغُيُوبِ} (التوبة: 78)، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ

وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف: 80) ، ولهذا حكى غير واحد

الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن

سمعه أيضًا مع علمه بهم ، وبصره نافذ فيهم ، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه

لا يغيب عنه من أمورهم شيء (مجلد 9 صفحة 412) ، وقال الإمام البغوي في

تفسير الآية: {إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) بالعلم ، وقال في سورة الواقعة:

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) بالعلم ، والقدرة ، والرؤية. وقال

في سورة ق: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} (ق: 16) أعلم به. والبغوي ، وابن كثير

محدثان معظمان من أصحاب العلم والفهم، وأنت خبير بأن التأويل لو كان فاسدًا

مطلقًا ما أول أئمة السنة آيات المعية بالعلم ، والقدرة ، والإحاطة، والجزئي لا بد أن

يكون مندرجًا تحت كلي يشمله وغيره ذهنًا أو خارجًا مفهومًا ، أو عينًا كيفما كان.

وقال حامل لواء التوحيد في الهند الشهيد الدهلوي: نعم له نحوٌ آخر من

القرب ، وهو القرب بالتجليات ، فيوصف بحسب ذلك بأنه على العرش ، وبأنه

يحول بين المرء ونفسه ، وبأنه بين المصلي وقبلته (عبقات صفحة 36 عقبة 25) .

فلاح لك واتضح مثل ضحوة النهار مما نقلنا أن التأويل الصحيح مسلك

سلكها أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والتابعين لهم بإحسان ،

ومن بعهدهم ، فهل يجترئ أحد أن يكفر أو يبدع مثل هؤلاء الأعلام؟ فوالله الذي تقوم

السماء بإذنه لا، فلا يكفر أو يبدع أحد بمجرد التأويل، والمتكلمون اختاروا مسلك

التأويل؛ لصيانة الدين من الطعن ، لا لفساد العقيدة كما توهم.

قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله: الأصل الثامن: العلم بأنه

تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله بالاستواء ، وليس ذلك إلا بالقهر ،

والغلبة كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

(إحياء العلوم جلد أول ص 79 هندي)، وقال الشيخ ابن الهمام: أما كون

المراد به؛ أي: استوائه اسيتلاءه على العرش كما جرى عليه بعض الخلف ، وقد

اقتصر حجة الإسلام (الغزالي) في هذا الأصل ، فأمر جائز الإرادة (المسامرة

صفحة 32) ، قال المفسر البيضاوي: استوى أمره ، أو استولى (سورة أعراف) ،

قال الشيخ عمر النسفي صاحب التفسير (المدارك) : استوى استولى (أعراف) ،

قال سليمان الجمل: طريقة الخلف التأويل ، فيؤولون الاستواء بالاستيلاء؛ أي:

التمكن. والتصرف بطريق الاختيار. حاشية على الجلالين (سورة أعراف) ، وقال

الإمام الرازي: قال القفال: العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك،

ثم جعل ثل العرش كناية عن نقص الملك ، يقال: ثل عرشه؛ أي: انتقض ملكه ،

وإذا استقام ملكه ، واطرد أمره ، ونفذ حكمه؛ قالوا: استوى عرشه ، واستوى

على سريره. هذا ما قاله القفال ، والذي قال القفال حق ، وصواب (تفسير الرازي

منقول في الخازن - الأعراف) ، وقال صاب السراج المنير: استواء يليق به

تعالى لم تعهدوا مثله ، وهو أنه تعالى أخذ في تدبير ما حوله بنفسه لا شريك له ،

ولا نائب فيه ، ولا وزير (الم سجدة) ، وقال العارف الشعراني بعد ذكر آيات

الاستواء: المعنى في هذه الآيات كلها: ثم استوى الخلق على العرش؛ أي: استتم

خلقه بالعرش ، فما خلق بعد العرش شيئًا (اليواقيت والجواهر جلد أول صفحة

92) .

فالقول الفصل أن الرجل المسئول عنه مؤمن من أهل السنة لا يصير بمجرد

التأويل من أهل الكفر ، ولا من أهل البدعة ، فمن كفره ، أو بدعه ، فقد أخطأ، عفا

الله عنا وعنه وعن سائر المسلمين ، ووفقنا لنصح المؤمنين ، والله ولي الهداية ،

ومنه البداية ، وإليه النهاية ، وصلى الله على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ،

وآله وأصحابه أجمعين غدوة وعشية.

...

...

... شهر رجب سنة 1345 هـ

...

...

...

... المجيب

...

أنا العبد الأثيم محمد إبراهيم مير السيالكوتي الهندي

حضرة الأستاذ السلام عليكم، المرجو من حضرتكم تصحيح هذه الفتوى منكم ،

ومن أصحابكم بالعجلة. وإن الله يحب المحسنين.

عنوان الإرسال: - عطاء الله رضاء الله من بلدة أمرت سر (هند)

...

...

...

... كثره بهائي سنت سنكه

***

تعليق المنار على هذه الفتوى

الحق أن من فسر آيات الاستواء ، وغيرها من آيات الصفات على طريقة

المتكلمين لا يعد من أهل الكفر، وأما كونه يعد من أهل السنة أو لا ، ففيه نظر ،

فمن يقول: إن أهل السنة هم الذين يستمسكون بظواهر نصوص الكتاب والسنة في

مسائل العقائد ، ويتبعون السلف الصالح من علماء الصحابة والتابعين وأئمة

الأمصار في الحديث والفقه كالفقهاء الأربعة المتبعين أبي حنيفة ومالك والشافعي

وأحمد بن حنبل وأقرانهم كالأوزاعي والثوري والبخاري ومسلم.. إلخ في الإمساك

عن الخوض في صفات الله تعالى بالرأي ، والتأويل المخرج للنصوص عن

المتبادر من معانيها اللغوية حقيقتها ومجازها - من يقول:

إن هؤلاء هم أهل السنة - لا يعدون من يتأول جميع آيات الصفات على

طريقة المتكلمين من أهل السنة، وأما من يتأول بعضها دون بعض كآيات الاستواء

على العرش وحدها دون ما هو في معناها من الآيات ، والأحاديث الصحيحة في علو

الله على خلقه ، وغير ذلك - فلا يأبى أن يعده من أهل السنة إذا كان يتبع

جمهور السلف في سائر صفات الله تعالى ، أو أكثرها ، ولا سيما صفات الذات، وهو

الذي يوافق ما نقله أخونا الأستاذ محمد إبراهيم مير السيالكوتي الهندي ، من تأويل

بعض علماء السلف لبعض الصفات دون أكثرها، على أن بعض تلك التأويلات التي

كثر القائلون بها من الخلف الناصرين للسنة المحاربين للبدع ظاهرة البطلان،

كتأويلهم للرحمة الإلهية بما اتخذوا منه قاعدة لتأويل أمثالها ، وهو قولهم: إن

الصفات التي تدل على انفعالات في المبدأ ، وأفعال في الغاية تفسر بغايتها لا

بمبدئها كتفسير الرحمة بالإحسان، فهذا تحكم في صفات الله تعالى.

وبعض ما ذكره من النقول لا قيمة له ، ولا لقائليه.

وسبب هذا التحكم الملجئ لهم إلى التأويل هو أنهم أرادوا التفصي من تشبيه

الله تعالى بخلقه، وظنوا أنه يلزمهم هذا في مثل صفات الرحمة والغضب والمحبة

والبغض؛ ففسروها بحسب غاياتها ، فصارت معانيها معطلة أو متداخلة ، فالرأفة

والرحمة والمحبة والرضا والفرح ، وما في معناها لا مدلول لها عندهم إلا الإحسان ،

والإثابة مثلاً - كما ظنوا أنه لا يلزمهم في صفات العلم والقدرة والإرادة والحق أن

معاني هذه في أصل اللغة محدث تجل عنه صفات الله تعلى ، فإن لم تكن انفعالات

فينا ، فهي على مقربة منها، بل العلم البشري إنما يحصل بانطباع صور المعلومات

في ذهن الإنسان ، فهو نوع من الانفعال.

وإنما الطريقة المثلى في الجمع بين العقل والنقل في الصفات أن يقال: إنه

قد ثبت بهما أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وثبت عقلاً أن خالق العالم لا بد أن

يكون متصفًا بصفات الكمال، وثبت نقلاً عن الوحي الذي جاء به الرسل وصفه

تعالى بالعلم ، والقدرة ، والرحمة ، والمحبة ، والعلو فوق الخلق كله ، والاستواء

على العرش ، وتدبير أمر العالم كله - فنحن نتخذ قوله تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) قاعدة ، ومرآة لفهم جميع ما وصف به

تعالى نفسه ، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو أنه ليس كمثله شيء ،

وأنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، وبصير ببصر ليس كبصرهم، وعليم

بعلم ليس كعلمهم، ورحيم برحمة ليست كرحمتهم، ويحب بمحبة ليست كمحبتهم،

ومستو على عرشه استواءً ليس كاستواء ملوكهم على عروشهم، ويدبر أمورهم

تدبيرًا ليس كتدبير ملوكهم ، ورؤسائهم ، ودهمائهم لما يدبرونه إلخ.

هذا مذهب أهل السنة والجماعة الذي كان عليه أهل الصدر الأول ، وهو لا

ينافي كون بعض النصوص في الصفات ، ولا سيما صفات الأفعال ورد بطريق

المجاز كتأويل الإمام أحمد لآيات المعية، فمن قال بذلك في بعضها مع التزامه هذه

القاعدة في جملتها لأنه رأى أسلوب اللغة يقتضي ذلك؛ لم يكن به خارجًا عن مذهب

السنة ، وهدي السلف، وإن أخطأ في ذلك ، فهو مغفور له إن شاء الله تعالى.

وكيف يكون من يلتزم طريقة المتكلمين في تأويل جميع الصفات كما هو

ظاهر عبارة السؤال (آية الاستواء وغيرها) من أهل السنة ، والكلام في جملته

بدعة ، وقد قال أبو حامد الغزالي من أكبر نظار المتكلمين: إنه ليس من الدين ،

وإنما اضطر إليه؛ لرد شبهات الفلاسفة ، والمبتدعة؛ لحماية العقيدة ، فهو كحرس

الحاج عند وجود قطاع الطريق ليس من أركان الحج ، ولا من واجباته ، بل تلجئ

إليه الضرورة من الخارج؛ ولكن المتوغلين في علم الكلام كانوا وما زالوا يفتنون

بها؛ ولكن فحولهم رجعوا في أواخر أعمارهم إلى طريقة السلف ، وهي السنة

الصحيحة كما ثبت عن أبي الحسن الأشعري ، وأبي المعالي إمام الحرمين وأبي

حامد الغزالي والفخر الرازي وغيرهم رحمهم الله تعالى.

وهنالك اصطلاح آخر ، وهو أن أهل السنة فريقان: سلف وخلف، فالسلف من

يتبعون في آيات الصفات التفويض، والخلف من يتبعون التأويل، ولكن مع حصر

الخلف الداخل في مذهب أهل السنة في بعض المتكلمين وهم الأشاعرة والماتريدية

دون المعتزلة والخوارج والشيعة.

فعلى هذا الاصطلاح قد يعد المسؤول عنه من أهل السنة إذا كان يستثني من

التأويل صفات المعاني التي لا يتأولها هؤلاء مثلاً - وهو الذي جرى عليه المفتي

السيالكوتي ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

_________

(1)

المنار: يعني معنى كلمة الظاهر في مصطلح أصول الفقه.

(2)

يعني 28 من أجزاء الطبعة الهندية لفتح الباري.

(3)

يعني كتاب حجة الله البالغة للشيخ ولي الله الدهلوي وهو الذي يلقبه بحكيم الأمة بحق.

(4)

قال مصحح النسخة المصرية: قوله: أبي مدر كذا في الأصل وليحرر 12 منه.

ص: 241

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما قبله)

(والطريقة الثانية) أن يقولوا: هذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، ولا

مخالف لهما من الصحابة؛ فصار إجماعًا.

وهذا باطل ، فإنه نقل عنهما هذا وغيره ، وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة

ما يخالف ذلك، وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد ، وهي أن هذا

التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في مختصر

المختصر ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أهل مكة

لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) ، وهذا ما يعلم أهل المعرفة

بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن هو من كلام ابن عباس،

أَفَتَرَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنَّما حدَّ مسافةَ القصر لأهل مكة دون أهل

المدينة التي هي دار السنة ، والهجرة ، والنصرة ، ودون سائر المسلمين؟ وكيف

يقول هذا ، وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى؟ !

ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر لا بمسافة ، لا بريد ، ولا غير بريد ،

ولا حدها بزمان.

ومالك قد نقل عنه أربعة بُرُدٍ كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه.

قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها؛ فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة؛

للثقل ، قال:(وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي)، وقد ذكر عنه: (لا قصر

إلا في خمسة وأربعين ميلاً ، فصاعدًا) ، وروي عنه: (لا قصر إلا في اثنين

وأربعين ميلاً ، فصاعدًا) ، وروي عنه:(لا قصر إلا في أربعين ميلاً ، فصاعدًا) ،

وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس: (لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً

قصدًا) .

ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط، ورأى

لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى ، فما فوقها ، وهي

أربعة أميال ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء

وغيرهم ، فتأول؛ فأفطر في رمضان:(لا شيء عليه إلا القضاء فقط) ، وروي

عن الشافعي أنه: (لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي) .

والآثار عن ابن عمر أنواع، فروى محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن

مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول:

لو خرجت ميلاً؛ لقصرت الصلاة.

وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا مسعر، عن محارب بن زياد،

سمعت ابن عمر يقول: (إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ؛ يعني الصلاة.

محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة ، ومسعر أحد الأئمة.

وروى ابن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر ، عن أبي إسحاق الشيباني ،

عن محمد بن زيد بن خليدة ، عن ابن عمر قال: (تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة

أميال) .

قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي ، وَلَاّهُ محمد بن أبي طالب القضاء

بالكوفة مشهور من كبار التابعين.

وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب ، قال:

وكنت أسافر مع ابن عمر البريد ، فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من

المدينة على ثمانية عشر ميلاً ، فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ ، وأنه

كان يسافر بريدًا - وهو أربعة فراسخ - فلا يقصر ، وكذلك روي عنه ما ذكره

غندر ، حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن

الخطاب قال: (خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب ، وهي

من المدينة على ثمانية عشر ميلاً ، فلما أتاها؛ قصر الصلاة) ، وروى معمر ،

عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد.

وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا ، وفي ما هو أقل منه ،

وروى وكيع ، عن سعيد بن عبيد الطائي ، عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال:

سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة ، قال:(حاج أو معتمر أو غاز؟) فقلت:

لا ، ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد، فقال:(تعرف السويداء؟) فقلت:

سمعت بها ، ولم أرها. قال: (فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع، إذا خرجنا إليها؛

قصرنا) قال ابن حزم: من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلاً أربعة

وعشرون فرسخًا.

(قلت) : فهذا مع ما تقدم؛ يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديدًا؛ لكن بين

بهذا جواز القصر في مثل هذا؛ لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في

السواد؛ فأجابه ابن عمر بجواز القصر.

وأما ما روي [1] من طريق ابن جريج، أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما

يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر ، وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه،

وكذلك ما وراه حماد بن سلمة ، عن أيوب بن حميد كلاهما ، عن نافع ، عن ابن

عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر ، وهي بقدر الأهواز من البصرة

لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم: بين المدينة وخيبر كما بين البصرة

والأهواز ، وهي مائة ميل غير أربعة أميال ، قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن

عمر ، ثم على نافع أيضًا ، عن ابن عمر.

(قلت) : هذا النفي ، وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعًا ليس هذا

حكاية عن قوله حتى يقال: إنه اختلف اجتهاده ، بل نفي لقصره فيما دون ذلك ،

وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع ، وغيره أنه قصر فيما دون ذلك ،

فهذا قد يكون غلطًا ، فمن روى عن أيوب - إن قدر أن نافعًا روى هذا - فيكون

حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك ، فإنه قد ثبت عن نافع

عنه أنه قصر فيما دون ذلك.

وروى حماد بن زيد ، حدثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك

إلى أرضه ، وهي على رأس خمسة فراسخ ، فصلى بنا العصر في سفينة ، وهي

تجري بنا في دجلة قاعدًا على بساط ركعتين ، ثم سلم ، ثم صلى بنا ركعتين ، ثم

سلم.

وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة ، ولم يكن سفره إلى غيرها حتى

يقال: كانت من طريقه ، فقصر في خمسة فراسخ ، وهي بريد وربع ، وفي صحيح

مسلم: حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؛ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال ، أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك -؛ صلى

ركعتين. ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؛ لأن السائل سأله عن

قصر الصلاة ، وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها ،

ثم إنه لم يقل أحد: إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال ، أو أكثر من

ذلك ، فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك ، ولم يقل ذلك أحد؛ فدل على أن

أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة؛ قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه

وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر ،

أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر؟ فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره ،

فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر ، فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه

يقصر إليه إذا كان هو السفر ، يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر ، فلولا أن قطع

هذه المسافة سفر؛ لما قصر.

وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا لا يكتفي

مجرد قصده المسافة التي هي سفر ، وهذا قول ابن حزم ، وداود ، وأصحابه،

وابن حزم يحد مسافة القصر بميل. لكن دواد ، وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في

حج ، أو عمرة ، أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم

عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة ، وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر

بخلاف القصر؛ لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع ، وإنما فيه فعله

أنه قصر في السفر ، ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً

عن ابن عمر.

وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة؛ لكن قد علم أن النبي

صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط،

والناس معه، فلم يقصروا، ولم يفطروا، فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، ولم

يحدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً؛ لقصرت

الصلاة، فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلا منها يسمى سفرًا؛

جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر؛

فلا يقصر فيه ، ولا يفطر، وإذا بلغ الميل، فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة،

ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع، فكان على أقل من ميل؛

فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.

(قلت) : جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة قالوا: وأقل ما سمعنا أنه

يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف، أما

الشارع فلم يحده، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما

يسمى سفرًا وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة

باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون

من حدود القرية المختصة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من

ميل من محله في الحجاز ، ولا يقصر، ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع

الذي يشمله اسم مدينة ميلاً؛ قيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر،

والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم،

وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا

يقصرون كخروجهم إلى قباء ، والعوالي ، وأحد ، ودخولهم للجمعة وغيرها من

هذه الأماكن.

وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل ، فإن حرم المدينة بريد

في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا،

وهذا يومًا، وقول ابن عمر:(لو خرجت ميلاً؛ قصرت الصلاة) هو كقوله:

(إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ، وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من

المسافة التي يقصدها، فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة،

وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهاراً؛ لم يقصر إلى الليل.

وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر

بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وقد يحمل حديث أنس على هذا،

لكن فعله يدل على المعنى الأول، أو يكون مراد ابن عمر: من سافر؛ قصر هذه

المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن

هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من

الميل بعشرة أذرع، فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا

لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما

يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على

عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا

بأميال، ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به،

فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من

يذهب، ويرجع من يومه؛ فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد

والمزاد، بخلاف الثاني، فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة

البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا، فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله.

والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه، فاحتاج إلى ما يحتاج

إليه المسافر من الزاد والمزاد؛ سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر

العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة،

فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان؛ فيعتبر العمل

الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس

بعاداتهم ليس له حد في الشرع، ولا اللغة، بل ما سموه سفرًا؛ فهو سفر.

***

فصل

وأما الإقامة، فهي خلاف السفر، فالناس رجلان: مقيم، ومسافر، ولهذا

كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم، وإما حكم

مسافر، وقد قال تعالى:{يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (النحل: 80) ، فجعل

للناس يوم ظعن ويوم إقامة، والله تعالى أوجب الصوم، وقال: {فَمَن كَانَ مِنكُم

مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) ، فمن ليس مريضًا،

ولا على سفر؛ فهو الصحيح المقيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن

الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، فمن لم يوضع عنه الصوم،

وشطر الصلاة؛ فهو المقيم.

وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته بمكة أربعة أيام، ثم ستة أيام

بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه، فدل على أنهم كانوا مسافرين

وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا

يقصر الصلاة، ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة، وتبوك لم يكن ينقضي في

ثلاثة أيام، ولا أربعة حتى يقال: إنه كان يقول: اليوم أسافر، غدًا أسافر؛ بل

فتح مكة، وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها

ذلت الأعداء وأسلمت العرب وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم، ومثل

هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها

لا تنقضي في أربعة، وكذلك في تبوك.

وأيضًا فمن جعل للمقام حدًّا من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة وإما

اثني عشر وإما خمسة عشر؛ فإنه قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع، وهي

تقديرات متقابلة، فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر،

وإلى مقيم مستوطن، وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به

الجمعة، وتجب عليه، وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع، فإنه المقيم المقابل

للمسافر، (والثالث) مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام،

وأوجبوا عليه الجمعة، وقالوا: لا تنعقد به الجمعة، وقالوا: إنما تنعقد الجمعة

بمستوطن.

وهذا التقسيم - وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن، وغير مستوطن - تقسيم لا

دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنها تجب على من لا تنعقد به، بل من

وجبت عليه؛ انعقدت به، وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيمًا يجب عليه الإتمام والصيام،

ووجدوه غير مستوطن، فلم يمكن أن يقولوا: تنعقد به الجمعة، فإن الجمعة إنما تنعقد

بالمستوطن، لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي

يقال: إنه لا دليل عليه، بل هو مخالف للشرع، فإن هذه حال النبي صلى الله عليه

وسلم بمكة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، وحاله بتبوك، بل وهذه حال جميع

الحجيج الذين يقدمون مكة؛ ليقضوا مناسكهم، ثم يرجعوا، وقد يقدم الرجل بمكة رابع

ذي الحجة، وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام، وقد يقدم بعد ذلك، وهم كلهم مسافرون لا

تجب عليهم جمعة، ولا إتمام، والنبي صلى الله عليه وسلم قدم صبح رابعة من ذي

الحجة، وكان يصلي ركعتين، لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم،

ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك، ولو كان هذا حدًّا

فاصلاً بين المقيم، والمسافر؛ لبينه للمسلمين كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ

قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} (التوبة: 115) ، والتمييز بين المقيم،

والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع، ولا لغة، ولا

عرف، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه

ثلاثًا، والقصر في هذا جائز عند الجماعة، وقد سماه إقامة، ورخص للمهاجر أن

يقيمها، فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن له ذلك،

وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم، بل المهاجر ممنوع

أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك.

إن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس، قال صلى الله عليه

وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا

على زوج) ، وقال:(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، وجعل ما تحرم

المرأة بعده من الطلاق ثلاثًا، فإذا طلقها ثلاث مرات؛ حرمت عليه حتى تنكح

زوجًا غيره؛ لأن الطلاق في الأصل مكروه، فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه

الحاجة، وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة، ثم المهاجر لو قدم مكة قبل

الموسم بشهر؛ أقام إلى الموسم، فإن كان لم يبح له إلا فيما يكون سفرًا كانت إقامته

إلى الموسم سفرًا، فتقصر فيه الصلاة، وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم،

وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذي الحجة، فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاث؛

كان لهم ذلك، ولو أقاموا أكثر من ثلاث؛ لم يجز لهم ذلك، وجاز لغيرهم أن يقيم

أكثر من ذلك، وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريبًا

من عشرين يومًا بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر، ولا

كانوا ممنوعين؛ لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام الجهاد، وخرجوا منها إلى غزوة

حنين ، وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك، فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث.

فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر، ولا بتحديد السفر، والذين حدوا ذلك

بأربعة؛ منهم من احتج بإقامة المهاجر، وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب،

ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم المصر أن يكون مقيمًا يتم

الصلاة، لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، فإنه أقامها،

وقصر، وقالوا في غزوة الفتح، وتبوك: إنه لم يكن عزم على إقامة مدة؛ لأنه

كان يريد عام الفتح غزو حنين، وهذا الدليل مبني على أنه من قدم المصر، فقد

خرج عن حد السفر، وهو ممنوع، بل هو مخالف للنص، والإجماع، والعرف،

فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة، أو يبيعها، ويذهب هو مسافر عند الناس،

وقد يشتري السلعة، ويبيعها في عدة أيام، ولا يحد الناس في ذلك حدًّا.

والذين قالوا: يقصر إلى خمسة عشر، قالوا: هذا غاية ما قيل، وما زاد

على ذلك، فهو مقيم بالإجماع، وليس الأمر كما قالوه، وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد

على الأربعة احتياطًا، واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم،

أو يقصر؟ لتردد الاجتهاد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرابع، فإن

كان صلى الفجر بمبيته، وهو ذو طوى ، فإنما صلى بمكة عشرين صلاة، وإن

كان صلى الصبح بمكة، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة، والصحيح أنه إنما

صلى الصبح يومئذ بذي طوى، ودخل مكة ضحى، كذلك جاء مصرحًا به في

أحاديث، قال أحمد في رواية الأثرم: إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك؛ أتم،

واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة قال: فأقام اليوم الرابع،

والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، وكان يقصر

الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي

صلى الله عليه وسلم؛ قصر، فإذا أجمع على أكثر من ذلك؛ أتم، قال الأثرم:

قلت له: فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك؟ قال: لأنهم اختلفوا؛ فيؤخذ بالأحوط؛

فيتم ، قال: قيل لأبي عبد الله: يقول: أخرج اليوم أخرج غداً ليقصر؟ فقال:

هذا شيء آخر، هذا لم يعزم.

فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط، وهذا لا يقتضي

الوجوب، وأيضًا، فإنه معارض بقول من يوجب القصر، ويجعله عزيمة في

الزيادة، وقد روى الأثرم ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا مسعر ، عن حبيب بن

أبي ثابت ، عن عبد الرحمن بن المسور قال: أقمنا مع سعد بعمّان - أو بعُمان -

شهرين ، فكان يصلي ركعتين ، ونصلي أربعًا ، فذكرنا ذلك له ، فقال:(نحن أعلم) ،

قال الأثرم: حدثنا سليمان أن ابن حرب حدثنا ، عن أيوب ، عن نافع أن ابن عمر

أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول ، قال

بعضهم: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام ، فقد أجمع

إقامة أكثر من أربع ، قال الأثرم: حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام، حدثنا

يحيى ، عن حفص بن عبيد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة.

قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا هشام ، حدثنا ابن شهاب ، عن

سالم قال: كان ابن عمر إذا أقام بمكة؛ قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن

أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة ، وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى

إنه كان أحيانًا يحرم بالحج من هلال ذي الحجة ، وهو كان من المهاجرين ، فما كان

يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث ، ولهذا أوصى لما مات أن يدفن

بسرف؛ لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها، وقال الأثرم:

حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع قال: ما كان

ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام، ولهذا أقام مرة ثنتي عشر

يصلي ركعتين، وهو يريد الخروج ، وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين

مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم، وكان ابن عمر كثير الحج، وكان كثيرًا ما يأتي

مكة قبل الموسم بمدة طويلة، قال الأثرم: حدثنا ابن الطباع ، حدثنا القاسم بن

موسى الفقير ، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن

ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري ، وأبا صرمة الأنصاري ، وعقبة بن عامر

شتوا بأرض الروم؛ فصاموا رمضان ، وقاموه ، وأتموا الصلاة، قال الأثرم:

حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل قال: خرج مسروق إلى

السلسلة؛ فقصر الصلاة ، فأقام سنين يقصر حتى رجع ، وهو يقصر ، قيل: يا أبا

عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: (اتباع السنة) .

للكلام بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ينظر أين جواب أما؟ .

ص: 272

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى

(4)

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم

أقل الشيء الذي لم يطيقوه ، وعجزوا عن معاناته عجزًا تامًّا ، فهو ما في

الإسلام من محاربة الاستبداد ، والاحتكار ، والغش ، والقمار ، والربا ، والبغاء ،

والخمر أمهات الرذائل ، والجرائم الاجتماعية التي أَنَّتْ منها الإنسانيةُ.

فهم يريدون الانحلال من هذه التكاليف؛ للمسارعة خفافًا وثقالاً إلى الانهماك

في الآثام والشرور، وملازمة الحانات ، والمواخير، وليعيشوا عيشة البهائم والكلاب

يسكرون ، ويتسافدون على قارعة الطريق، ويرابون ، ويقامرون جهارًا كما يقامر

الماليون ويرابون في البنوك والبورصة يحتكرون الأرزاق والأقوات ، ويستبدون بها

وبأسعارها إلى ما لا يحصى من الموبقات والمحاكم الإباحية تؤيدهم بحرابها

وجنودها.

وثانيهما أن يكونوا جاهلين حقيقة الإسلام ، ومزاياه إلا ما يعرفونه مما كتبه

عنه الاستعماريون المعطلون ، والرهبان المتنطعون الحاقدون ، فإذا كانوا كذلك ،

وهو ما تدل عليه كتاباتهم المشوشة ، وخطبهم المعقدة ، فينبغي تعليمهم من جديد إن

كانوا حسني النية ، وإرشادهم إلى الكتب النافعة ، وجدالهم بالتي هي أحسن حتى

يرجعوا إلى طريق الهدى ، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ

يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

لذلك استنسبنا أن نختم هذه الملاحظات على كتاب حقيقة الإسلام بلاحقة ، أو

نداء عام للأزهريين ، وسنتابع ملاحظتنا على الكتاب حتى تمامه متى ساعدتنا

الفرصة.

لاحقة

أو نداء عام لعلماء الأزهر والمعاهد الدينية

ليسمح لنا مشايخ الأزهر وقرهم الله ، وأبد حرمتهم أن ننبههم لبعض الواجبات

المتعين عليهم القيام بها؛ عملاً بالحديث الذي أخرجه مسلم ، عن تميم الداري أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة)، قلنا: لمن؟ قال: (لله ،

ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم) ، فنقترح على ساداتنا الأزهريين

اقتراحين:

(أحدهما) إحداث جمعيات من علماء الأزهر ، والمعاهد الدينية في القطر

المصري كله تكون وظائفها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر امتثالاً لقوله تعالى:

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) ، وذلك بإنشاء جرائد ، ومجلات ،

ومنشورات دورية توزعها بأرخص ثمن ، والبعض مجانًا ، وبإذاعة ذلك على لسان

التلاميذ في المعاهد والمدارس ، وبتبليغ التلاميذ لأوليائهم وأقاربهم وجيرانهم

وجلسائهم ، وبإلقاء الخطب والمسامرات في المساجد والمدارس والمنتديات

والاحتفالات.

وأول وظائفها: حض الحكومة على إزالة المنكرات ، والمحرمات ، وإرشاد

مشايخ الطرق لتبديل تعاليمهم لتابعيهم بأن يعلموهم قواعد الإسلام الخمس ، ومحاسن

الأخلاق ، وأن يحضوهم على التعلم والتعليم ، ومزاولة الصنائع النافعة ، فذلك خير

من الشطح ، والرقص ، وتضييع الوقت بتلاوة أوراد ما أنزل الله بها من سلطان

أكثرها لا يفهم ، ولا معنى له.

وقد أحسن المصلح الكبير السلطان عبد العزيز بن السعود أعانه الله في سبقه

العالم الإسلامي إلى هذه المنقبة الجليلة ، فأصدر أمره بتأسيس جماعات للقيام بالأمر

بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

(وثانيهما) إحداث جمعيات تشتغل بالسياسة العامة؛ لتظهر للعالم أجمع أن

الإسلام دين ودولة ، وذلك بإحضار المعدات اللازمة لذلك من كل وجه ، وأهمها:

إصدار الجرائد والمجلات على نفقة الجمعيات يومية وأسبوعية وشهرية ودخول

معترك الحياة السياسية بسلاح متين ، وإذا قلنا: السياسة ، فمرادنا بها السياسة

الشرعية المنزهة عن التدجيل والتضليل وقلب الحقائق والكذب والبهتان وقول

الإنسان ما يعتقد بطلانه ، أو تكذيب ، وإبطال ما يعتقده حقًّا ، وصوابًا ، فهذه السياسة

سياسة الختل ، والمراوغة لا يعرفها الإسلام.

وأول ما يتحتم عليهم دخول الحياة النيابية ، فإن أعظم وظائف مجلس النواب

هو التشريع ، ومراقبة الحكومة ، وذلك معنى (الإسلام دين ودولة) ، فإذا لم تكن

قوانين المجلس مرتكزة على آراء علماء الدين ، فتكون قوانين مبتورة ، ومجحفة

معًا.

وإذا تقاعستم يا شموس الأزهر أو جبنتم فإنكم تضيعون نفوسكم ومكانتكم

ووجودكم زيادة عن ضياع الدين الذي أنتم حراسه وحماته.

فلو أنكم كنتم دخلتم المعترك في أيام سعيد ، وإسماعيل؛ لكان مرجع التشريع

اليوم كله ، أو جله إليكم ، ولكنكم فرطتم تفريطًا أضاع عليكم أكبر وظيف كان من

أول واجباتكم ، فيجب أن تتداركوا ذلك ما أمكن ما دام رجل الإسلام ، وأبو

المصريين سعد باشا معكم ، وما دام هو روح مصر ، وشمسها المنيرة مساعدًا ،

ومظاهرًا لما يعتقد أنه الواجب.

بقي أن يقال: أين المال اللازم لتأسيس هذه الأعمال؟ فنقول: إن في علماء

مصر أغنياء كثيرين بحمد الله ، فيجب أن يتنازلوا عن بعض أموالهم لذلك اقتداء

بكرام الصحابة رضي لله عنهم ، فأبو بكر تنازل عن أمواله كلها لمصلحة الإسلام ،

وكان من أغنياء قريش، وعمر تنازل عن أكثر أمواله، وعثمان تنازل عن أموال

كثيرة جدًّا ، وجهز جيش العسرة ، وكان كل واحد من الصحابة يتنازل عن المال

اختيارًا رغبة لا رهبة؛ فإذا لم يتنازل أغنياء العلماء فيكونون مقصرين ، ويسوغ

للوطني الغيور أن يظنهم أو يعدهم جبناء خائنين.

إذا تنازل بعض أغنياء العلماء في مصر ، فإن الأمور تسهل جدًّا ، فإنكم

ستجدون من بقية العلماء ، ومن جمهور المصريين أناسًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه

يناصرون مشروعكم ، ويؤيدونكم إن صبرتم ، وأحسنتم النية ، فإن الله مع الذين

اتقوا ، والذين هم محسنون.

أمامكم وأمام أنصاركم ومريديكم عقبات لا تزال إلا بتضحيات، والمشاريع

النافعة العامة لا تقام إلا على تضحيات في أول الأمر وقد قال تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ

حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، لا يهولنكم الأمر فإنه سهل مع الثبات

والصبر ، فإن الشاب الكامل مصطفى كامل رحمه الله أسس الحزب الوطني وجرائده

في القطر المصري من شبان أكثرهم ليسوا بأغنياء ، ثم دارت الأيام دورتها حتى

صار الحزب الوطني في أيامه وأيام المرحوم محمد فريد بك هو قلب مصر النابض،

وقبض على زمام الرأي العام يأتمر بأمره ، وينتهي بنهيه.

لا فائدة في المال إذا لم يثمر مجدًا خالدًا ، أو عزًّا أبديًّا ، فهذا جمال الدين

الأفغاني ، والشيخ محمد عبده قد أنفقا مالهما ، وروحهما لإحياء مجد الإسلام ، وماتا ،

ولم يخلفا درهمًا ، وإنما خلفا من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم ،

والهدى ، والإرشاد ، ولو توجها للمال لخلفا الملايين.

وهذا أسد الإسلام السيد رشيد رضا صاحب المنار لا يملك دارًا للسكنى التي

يقول الفقهاء فيها: إنها أول ما يشترى ، وآخر ما يباع ، وقد أنفق ماله ، وراحته ،

وحياته أطالها الله في الدفاع عن الإسلام ، ونشره ، وتأييده ، ولو توجه للمال؛ لكان

من أصحاب الأملاك ، والأطيان ، والأموال الكثيرة.

فالبدار البدار يا علماء الأزهر قبل الفوت ، واستعدوا كما أمركم الله بقوله:

{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) إلخ ، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ

كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (الأنعام: 152) .

وأول ما يلزمكم في الحال أن تطهروا أنفسكم من تعاطي ما يخل بالمروءة

مهما كان فيه من وفور المال، فقد أضحكني، وأبكاني ما نشره فكري أباظه في رده

على الشيخ أبو العيون الذي امتثل ما أمره الله به ، ورفع لائحة للحكومة يأمرها

بإلغاء البغاء الرسمي.

جاء في آخر الرد تشنيع على العلماء بأن بعضهم يتعامل بالربا ، وبعضهم

يأكل أموال المحاجير ، واليتامى إلخ ، فهؤلاء إذا ثبت عليهم ذلك يجب التشهير بهم

والتشنيع عليهم بخصوصهم ومحاسبتهم بما أكلوه.

ونقول لفكري أباظه: إن ذلك لا يكون لك حجة في إبقاء البغاء ، وإذا كان

بعض العلماء يتعاطى بعض المحرمات؛ فإنهم بشر وليسوا بمعصومين ، ولأمثالهم

وغيرهم من الحكام الجائرين شرعت الحسبة والمراقبة ، وأسست مجالس

الشورى والنواب ، فلا يكون تلطخهم بتلك الهنات مسوغًا لإهمال النزيهين للأمر

بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل إنهم إذا أخلوا بذلك يكونون آثمين ، وتكون

رواتبهم التي يتقاضونها من الأوقاف ، ومن الأمة سحتًا.

وعجيب من فكري أباظه كيف ينعي على الشيخ أبي العيون قيامه بواجب

النهي عن منكر البغاء الذي نهت عنه جميع الشرائع ، مع أنه يمتدح تؤدة الشعب

الإنكليزي ، وتعقله لدى إصدار القوانين التشريعية ، ومراعاة حكومته لأميال

المتدينين منهم ، فقد عُلِم أنه لما اكتشف تلقيح الجدري سنَّت حكومة الانكليز قانونًا

للعمل به على وجه الإلزام ، فقاومها الذين رأوا تحريمه دينًا ولم يسكن الاضطراب

حتى أضيف للقانون مادة خاصة بإعفاء من يعتقدون حرمته من إلزامهم به ، ولا يزال

هذا الإعفاء مستمرًّا إلى الآن.

فما يقوله فكري أباظة لو قام أبو العيون أو غيره ، وقاوم تلقيح الجدري

الذي كاد الأطباء يتفقون على فائدته العظمى ونفعه العام، إذًا لطبق السموات

والأرضين بالعويل والصريخ هو وزملاؤه ورموا الدين الإسلامي بأعظم المفتريات ،

والمفتي بالبله ، والجنون.

ثم نقول لفكري أباظه أخيرًا: يظهر أن جنابكم من جماعة الاحتلاليين؛ لأن

حكومة الاحتلال هي التي سنَّت هذه السنة السيئة المشئومة ، فالمؤيد لأعمالها محبذ

للاحتلال وأذنابه ، وبالتالي يكون خائنًا لدينه ووطنه.

وفي الختام أرجو بإلحاح من مشايخ الأزهر الكرام أن يسارعوا إلى إعداد

المعدات ، ويتداركوا ما فاتهم ، وليتشبهوا بالرسل أولي العزم ، ويتدبروا قوله

تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:

159) ، وليستعينوا بالله ، فهو نعم المولى ، ونعم النصير.

...

...

...

...

...

مسلم غيور

(المنار)

إنه ليحزننا أن نضطر إلى إخبار أخينا المصلح المراكشي أن علماء الأزهر

أضعف منةً وإرادة من أن يقوموا بمثل ما دعاهم إليه وأن سعد باشا ليس معهم

وليسوا معه ، وأن الحزب الوطني لم يكن كما تصور في نفسه فصور بقلمه، وأن

الخديو هو الذي كان يستخدم المرحوم مصطفى كامل بماله ونفوذه ، ونخبره أيضًا

بأن فكري بك أباظه ليس احتلاليًّا كما ظن ، ولا يتسع هذا التعليق لبيان الحقيقة فيما أنكره عليه. وسيرى في المنار ما يجب على المسلمين لحفظ الإسلام في هذا العهد.

_________

ص: 285

الكاتب: مستر كراين

محاضرة مستر كراين

عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن

في جمعية الرابطة الشرقية

(3)

(يهود اليمن)

إن قسمًا يذكر من أهالي صنعاء يهود، وهم يسكنون في حي خاص بهم ،

ويقولون: إنهم لقرنين مضيا كان يؤذن لهم بالسكون فيها حيث أرادوا ، ولكن الحاكم

في ذلك الحين أمر بذلك الفصل. وإنهم مع السماح لهم بالطواف أين شاؤوا لقضاء

الأعمال لم يكن يؤذن لهم بركوب غير الحمير من الدواب.

وقد زرت حيَّ اليهودِ هناك مرارًا عديدة وقابلت ربانيهم ومعابدهم فرأيتهم

كسائر مواطنيهم من أهل الفاقة؛ ولكنهم بفضل ما أوتوا من الحذق والقبض على

أزمة الحرف تراهم أرقى شيئًا من إخوانهم مما ينيلهم شيئًا من عطف الحكام مع

ما بينهم وبين المسلمين من بلوى التفرقة المذهبية.

وقد تعسر عليك التفرقة بين اليهودي والمسلم العربي لولا فارق من الشعر

يتحتم عليه اتخاذه شعارًا له.

ثم إن هناك مسألة تاريخية تتعلق باليهود ، ولا سيما أول ظهورهم في اليمن ،

قال لي الإمام والشيوخ: إن اليهود كانوا في اليمن منذ فجر التاريخ ، ويروى أن

(يارم) يعرب الملك الذي ملك قبل المسيح بألفي سنة فصل العبرية عن العربية ،

على أن الربانيين يقولون: إن اليهود أتوا إلى اليمن من أورشليم سنة 200 قبل

المسيح تقريبًا.

وكنت حيث أذهب في اليمن نحو الجنوب؛ أجد يهودًا حتى في أحقر القرى ،

وأفقرها ، وقد كان من بواعث دهشتي أني لقيت في قرية غاية في الفقر مبنية من

القش يهوديًّا مر عليه فيها ثلاث سنين في حالة لا بأس بها يشتغل فيها صائغًا ، فلم

يكن ينجلي لي كيف يمكن وجود سوق للصياغة في مثل تلك القرية من بلاد الدنيا؟

ولكني فطنت للأمر لما علمت أن اليمينين مولعون بزينة واحدة تستهوي أفئدتهم ،

وهي الخناجر المنحنية ذات المقابض والأغماد المزينة أو المموهة بصنع الصياغ.

***

(أعمال الإمام العمرانية)

لقد وضح أن هم الإمام الأعظم هو جيشه العزيز ، ومع ذلك فهو يقول: إنه

كثير العناية ، والاهتمام بأمر التعليم - والحق أن ذلك على قياس ضئيل محدود -

وبإصلاح الطرق أيضًا. فقال لي: إنه أصدر الأوامر لكل حاكم مدينة أن يقوم

بشغل معين كل سنة يتعلق بإصلاح الطرق التي في نطاق حكمه ، ويظهر أن بعض

الحكام أتوا شيئًا من هذا الإصلاح مع بناء الجسور (الكباري) ، وكنا في طريقنا

إلى عدن نسلك في الأحايين آثارًا من طرق قديمة لا بد أن تكون قد بنيت بحذق ،

وحسن نظر قبل الإسلام بنحو ألفي سنة على ما قيل.

وفي سفرنا نحو الجنوب ، وعلى إحدى طرق القوافل المستغرقة في القدم

الآتية من عدن إلى أورشليم كان من بواعث دهشتنا كثرة ما وجدنا من آثار التجارة ،

فكثيرًا ما كنا نمر وسط قافلة صغيرة من الجمال أو الحمير أو البغال وهي تسير

بغاية المشقة بسبب رداءة الطرق ، فكان مشيها شديد الإيلام ، والتعسر ، وهي تتسلق

المسالك العالية الوعرة.

والظاهر أن من أسباب تلك التعسيرات في الطرق هو أن يجعلوها صعبة

السلوك على الأجانب الذين يقصدن تلك الجهات.

***

(من كلامي في وداع الإمام)

في حديثي الأخير مع الإمام قبل الوداع تكلمنا في كثير من الشؤون المتعلقة

ببلاده عسى أن أجد شيئًا أستطيع فيه خدمة ما له، فذكر أنه يوجد في اليمن قدر

وافر من المعادن الثمنية ، وأنه يرغب في الحصول على أهل العلم الواسع في

المعدنيات؛ ليقوموا بدرس الموجود فيها.

إنه يعسر جدًّا على هؤلاء الفقراء أن يزيدوا كثيرًا على ما عندهم من أدوات

الزينة ، وكل ما يأتونه من الجهود العقلية في هذا السبيل يؤسف له ، ويرثى؛ فإن

الجندي هناك شديد الولوع بأن يشكل في وعاء رأسه عذقًا صغيرًا أخضر اللون،

وأما الرجال والنساء، فلرغبتهم في زيادة التجمل؛ كثيرًا ما يلجؤون إلى النيلة ، وما

تجديهم إلا قليلاً.

إن حاكم (صعدة) السابق المؤتلف الآن مع الإمام أنبأنا أن في (صعدة) ،

وحولها اعتاد الناس من قرون أن يرقصوا نوعين من الرقص يشترك فيها الرجال ،

والنساء يشبهان نوعين آخرين من رقص أهل الغرب.

يوجد في اليمن جنسان آخران من الشعوب ، أو القبائل غير اليهود (أحدهما)

يزعم أنه من سلالة قحطان ، أو (يقطن) ، وهو من أخلص الأجناس البشرية،

حسن البنية والشكل، وقوي البأس، عادم اللحية، ربعة القوام ، عريض الجهة،

يميل جلده إلى اللون النحاسي على اختلاف في المقدار، وآحاد هذه القبيلة يقلون من

الملابس بحكم البيئة حتى إن شيوخهم ومقدميهم الذين يذهبون إلى عدن يضطرون

اضطرارًا إلى زيادة شيء من الملابس المصنوعة لهذا الغرض ، وأما الجنس

الثاني ، فإنسانه أطول قامة ، وعليه مسحة من الجمال ، وتراه على الغالب كامل

اللحية كثير الملابس.

ولما كانت درجة الحرارة الجوية واحدة في كل من البقعتين؛ نرى أن مذهب

الفيلسوف هربوت سنبسر تنجلي حقيقته في حال هذا الشعب ، (وهو أن الزينة

تسبق الاكتساء) ، وأما أصل هذا الجنس الثاني فيقال: إنه من ذرية إسماعيل صلى

الله عليه وسلم، وإنه أتى من الشمال ، وإن دمه ودم اليهود مشتركان.

***

(همة اليمني في العمل)

إن اليمني بما يتيسر له من عدة العمل الحاضرة؛ يمكنه زيادة إنتاجه بكده ،

وكدحه في العمل الذي يمتد من شروق الشمس إلى غروبها حالة كون الأميركي بما

له من تفوق العدة ، والأدوات تقدر قوته قوة أربعين حصانًا ، أو ما يعادل 250 من

قوة اليمني ، وتكون نتاج عمله على هذه النسبة.

وإن من اعتاد حياة الغرب ليحار في هذا السؤال وهو: كيف يتأتى لشعب

كأهل اليمن أن يعيشوا في بيئة كبيئته حيث أحوال الحياة تكاد تكون واحدة للإنسان ،

والحيوان؟ وكيف يستطيعون تحمل مشاقها وشظفها؟ لكنا بالرغم من ذلك كله نراهم

عائشين مع قلة وسائل العيشة والراحة ونصب العمل دون أن تبدو منهم أمارات

الشكوى المؤلمة، ولقد انقضى على سكان اليمن القرون وهم في هذه الحالة من بؤس

العيش وخلوهم من مادة البقاء لا يدرون شيئًا من حالة غيرهم في أمور المعيشة ،

ومع ذلك تراهم على الجملة قانعين راضين يحمون أرضهم وحكومتهم التي منها

وعن يدها تنتج لهم هذه الأحوال.

أما بلاد الغرب ، فهي مع وجود أسباب الراحة ، والهناء حتى لا أقول:

معدات اللذات ، والمسرات؛ ترى الناس لا ينقطعون عن التشكي ، والتبرم من

أحوالهم ، وهم أبدًا على قدم الانفجار ، والقيام بإيقاد نيران الثورات كلما أتاحت لهم

الفرصة ، وأتاحت لهم الأقدار ذلك.

إن سكان الجبال في جميع الأرض معروفون بحب الاستقلال ، وإيثاره على

كل ما سواه من أمور الحياة ، مشهورون بقوة البدن ، وشدة البأس على نسبة بيئتهم ،

وشظف حياتها ، ومما يحسن ذكره ووقعه على الخواطر أني لقيت رجلين يمنيين:

أحدهما يهودي ، والآخر مسلم زارا أميركا ، وبعد أن أقاما فيها عدة أعوام غلبهما

الحنين إلى تلك الجبال اليمنية التي ولدا فيها ورضعا لبانها وغذيا بهوائها ومائها؛

وإذ جد بهما الوجد واستحكم الهيام؛ عادا أخيرًا إلى تلك الربوع؛ ليقضيا فيها ما

كتب لهما من بقية العمر.

ثم إن اليمنيين لم يكونوا يطيقون حكم الأتراك بحال ، ولا بوجه من الوجوه ،

فلم يحولوا عن الاعتقاد بأن إمامهم هو الخليفة الحقيقي ، وأن لا خليفة إلا من تحدر

من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم.

على أن هناك من ذراريه قومًا يدعون بالأسياد (على ما تعلمون) .

***

(الطب والعلاج في اليمن)

ليس في اليمن شيء يسمى دواءً وطبًّا حتى أن أحقر عشبة من أعشاب الأرض

التي يتداوى بها أحيانًا غير معروفة ، فإذا أصيب أحدهم بألم؛ لم يجد مفرًّا من

تحمله، وإذا غلبته عادية الداء؛ قضى نحبه بحكم الطبع بلا علاج ، ولا دواء.

على أن هناك عشبة يغلب استعمالها عندهم هي (القات) ، فقد أتي بها من

بلاد الحبشة أيام أتي بشجرة القهوة أيضًا.

وعلى مقربة من ساحل البحر مدينة أشهر ، فيها شجرتان غرستا فيها في بادئ

الأمر ، وهما شجرة (القات) ، وشجرة (القهوة) ، وقد تمكنت في اليمني عادة

كعادة الإنكليز ، وهي أنهم في نحو الساعة الرابعة من ظهر كل يوم يجلسون

جماعات؛ لتناول (القات) ؛ إذ يعدونه ممضوغًا منبهًا ، ويزيدونه بهجة ولذة

بتعاطي أقداح الحديث كما يتعاطى الندامى كؤوس المدام.

ومع ما في هذا النبات من أذى إضعاف الأعصاب ، فإن كل يمني حتى

الجندي العادي على أجره الذي لا يستحق الذكر يجتهد في اقتصاد شيء ما في سبيل

تناول (القات) وكأن ذلك يذكرنا بعادة الكوكايين عند أهل الغرب.

***

(عند ولادة الأولاد)

إن طريقة ولادة الأم في اليمن شديدة القسوة ، فالأمر الوحيد المساعد لها حينئذٍ

هو الإتيان بمن ترقص على بطن المتألمة البائسة مدة المخاض ، ومع كثرة النسل ،

فإن متوسط الوفيات منهم وافر جدًّا ، وقد قال لي أحد حكام المدن الكبيرة: إنه قد

فقد 22 صبيًّا وهو عدد يستحق الذكر ويستلفت الأنظار حتى في أسرة عادية

أمريكية ، ومع ذلك فقد أبقت له العناية ثمانية أولاد على حالة حسنة من الصحة.

_________

ص: 289

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السعي لمنع الحج ومفاسد البدع

إن استيلاء إمام السنة في هذا العصر عبد العزيز السعود على الحجاز ،

وشروعه في تطهير الحرمين الشريفين من بدع الضلالة ، وقيامه بتجديد السنة قد

كشف لأهل البصيرة من المسلمين أن ما كان من تساهل القرون الوسطى في مقاومة

أهل البدع؛ قد جر على الإسلام وأهله من الأرزاء ، والفساد ما هو شر من تلك

البدع نفسها حتى إن طوائف من المسلمين الجغرافيين صاروا يفضلون بعض تلك

البدع على أركان الإسلام ، ويحاولون تعليق أداء فريضة الحج ، وهو ركن الإسلام

الجامع لشعوبه على بعض تلك البدع بحيث تترك الفريضة ، ويهدم الركن الإسلامي

إذا لم يسمح ملك الحجاز بإقامة تلك البدع.

بدأ هذا الإمام منذ تم له السلطان على الحجاز بإبطال بدع القبور ، والمباني

التي افتتن عامة المسلمين بصبغها بصبغة الإسلام التعبدية الذي كان بعمل

سلاطين الأعاجم وأمرائهم؛ فقامت عليه قيامة الشيعة أو أعاجمهم وبعض زعماء

الأهواء السياسية في الهند والخرافيين عبدة القبور وطلاب الحياة من الموتى ،

فمنعت حكومة إيران رعاياها من أداء فريضة الحج وبثت الدعاية في الهند لذلك ،

وتولى الإنفاق على الدعاية غني من أكبر أغنياء الشيعة هو محمد علي راجا محمود

آباد ، ونصره في عمله في هذا العام السياسيان الزعيمان شوكت علي ومحمد

علي، ورئيس جمعية خدام الحرمين وبعض أعضائها الخرافيين المأجورين ، وقد

بلغ من طغيان هذه الفئة أن طلبت باسم زعيمها من الحكومة الإنكليزية التدخل في أمر

الحجاز بالقوة لإزالة الحكومة السعودية منه ، وهم يعلمون أن هذا لا يتم إلا بمحاربة

هذه الدولة النصرانية له في حرم الله تعالى، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم؛

ولكن اتباع الهوى ، ونصر البدعة أركسهم بما كسبوا؛ فاستحلوا أكبر الكبائر من صد

المسلمين عن فريضة الحج إلى دعوة خصوم الإسلام لانتهاك أعظم حرمات الإسلام ،

واستحلال ذلك كفر بالإجماع ، ولكن الله تعالى خذلهم ، ونصر دينه ، وسنة رسوله

صلى الله عليه وسلم على عداوتهم لهما ، وأقبل الألوف من أهل الهند ، وكذا أهل

إيران على بيت الله تعالى؛ لإقامة ركن الإسلام ، واعترفت الدولة البريطانية بملكية

ابن السعود على الحجاز ، ونجد ، واستقلاله المطلق رسميًّا.

بعد هذا كله حدث في مصر ما لم يكن ينتظره مسلم ولا عاقل من السعي

لمنع أداء فريضة الحج بأراجيف اختلقها حزب الإلحاد والزندقة ، وبحجة الانتصار

لبدعة المحمل ، والإصرار عليها.

وكان قد ظهر فضل مصر ، وسائر البلاد العربية على بلاد الأعاجم كلها بأنه

لم تظهر فيها معارضة لما قام به ملك الحجاز ، ونجد من إزالة البدع ، ونصر السنة

على كثرة الخرافيين فيها من أهل الطرق وغيرهم بل أيده رؤساء العلماء على

حكومتهم فيما طلب منعه من عزف الموسيقى في مشاعر النسك ، وفي شرب الدخان

في مكة ، أو الحجاز كله.

بدأت بذلك جريدة السياسة المشهورة بدعايتها الإلحادية ، ومحاربتها للأزهر،

وسائر رجال الدين ، ونصرها للطاعنين في الإسلام كعلي عبد الرازق وطه

حسين ، فزعمت أنه جاءها نبأ من (مقيم في جزيرة العرب) بأن رؤساء الوهابيين

اجتمعوا في عاصمة نجد (في 20 رجب) بحضرة الملك عبد العزيز بن السعود ،

وأنكروا عليه في وجهه إخلاف وعده لهم بإقامة شرع الله في الحجاز ، وتطهير

البلاد ، ومما قالوه له بزعم الكاتب: (ألم ترخص لصنم مصر المسمى بالمحمل

بدخول الحجاز مع أولئك العسكر الكفار؟ ألم تدافع عن أولئك الكفار حينما أردنا

أن نقوم بالواجب الشرعي من إنكار المنكر؟ إلخ ، واستدلت جريدة السياسة بهذا

الحديث على أن الوهابيين أخذوا يفلتون من سلطة الملك ابن السعود ، ورتبت عليه

أنه يجب على الحكومة المصرية أن تأخذ (الضمانات اللازمة) ؛ للاطمئنان على

أرواح الحجاج المصريين ، وعلى كرامة مصر من غير ابن السعود قبل أن تأذن

بالحج في هذا العام - تعني أنه يجب أخذ الضمانات من رؤساء الوهابيين الذين في

نجد ، وهي تعلم أن هذا لا سبيل إليه - فالمراد دعوة الحكومة إلى منع الحج.

وقد كتب إليها رئيس ديوان جلالة ملك الحجاز ونجد (محمد طيب الهزاز)

الحجازي كتابًا كذَّب فيه خبر ذلك الاجتماع تكذيبًا رسميًّا قال فيه: إنه في التاريخ

الذي ذكرت اجتماع رؤساء النجديين فيه كان في خدمة جلالة الملك بنجد ، ولو

حصل ذلك الاجتماع لكان من أعلم الناس به ، فهو لم يحصل ، وأكد فيه أن طاعة

رؤساء النجديين ودهمائهم لإمامهم الملك على أكلمها؛ لأنها عقيدة دينية ، فكتبت

جريدة السياسة مقالاً آخر أصرت فيه على دعوتها الأولى مرجحة النبأ الذي زعمت

أنه جاءها من رجل مقيم في جزيرة العرب على هذا البلاغ الرسمي. ونحن على علمنا بأن الذي كتب ذلك النبأ هو رجل مصري مقيم في القاهرة حانق على الحكومة

الحجازية ، وله صديق كان في الكويت يوهم أنه هو الذي كتبه.

قد كتبنا مقالاً في الرد على جريدة السياسة نشرناه في جريدة كوكب الشرق

تجاهلنا فيه ذلك ، وتكلمنا بلسان الشرع ، والعقل ، والمصلحة الإسلامية ، وذكرنا

في آخره أننا نعلم أن المسلمين لا يبالون بما تنشره جريدة السياسة ، فلا نخشى أن

يؤثر في أنفس مريدي الحج من المصريين ، فيصرفهم عنه ، ولكننا ننتظر؛ لنرى

تأثير كلامها في الحكومة المصرية ، وكانت جريدة السياسة ذكرت أن الحكومة

المصرية عهدت إلى قنصلها في جدة أن يبلغ جلالة ملك الحجاز ونجد ما تشترطه

لإرسال المحمل ، وما يتعلق به في هذا العام ، وتنتظر جوابه.

ثم لم تلبث الحكومة أن نشرت البلاغ الرسمي التالي الذي قرره مجلس

الوزراء مجتمعًا ، ووافق عليه جلالة الملك:

بلاغ رسمي

وصل إلى علم الحكومة المصرية أن حكومة الحجاز تشترط في حج هذا العام

شروطًا معينة، فخابرت وزارة الخارجية حضرة قنصل المملكة المصرية في جدة؛

للاستيثاق من مبلغ هذا الخبر من الصحة ، وكلفته بمفاوضة جلالة الملك ابن السعود

في ذلك شخصيًّا.

وقد ورد إلى الحكومة نبأ برقي من حضرة القنصل المذكور يفيد أن جلالة

ملك الحجاز يشترط لحج هذا العام:

أولاً: تجريد الحامية المصرية التي تصحب المحمل عادة من سلاحها؛ تفاديًا

من حصول مصادمات بينها ، وبين الوهابيين.

ثانياً: منع عرض المحمل بالحرم الشريف ، وكذلك تسيير المواكب المعتادة.

واشترط فوق ذلك شروطًا أخرى تغاير التقاليد المتبعة من قديم ، وتقيد حرية

الحجاج.

وترى الحكومة مع هذه الاشتراطات أنه لا يمكن الاطمئنان على سلامة ركب المحمل والحجاج.

ولما عرضت هذه المسألة على مجلس الوزراء قرر بجلسة 10 ذي القعدة سنة

1345 (12 مايو سنة 1927) العدول عن إرسال المحمل في هذا العام ، وإعلان

الحجاج المصريين بأنهم بسفرهم قد يستهدفون لبعض المخاطر ، وأنهم إذا رأوا مع

ذلك السفر في هذه الظروف ، فإن ذلك يكون تحت مسؤوليتهم. اهـ.

وقد استغربنا من هذا البلاغ قول الحكومة: إن الحجاج المصريين يستهدفون

لبعض الأخطار في الحجاز؛ إذ فيه تثبيط ، وصد عن أداء الفريضة بالإيهام الذي

لا دليل عليه ، ثم ازداد استغرابنا بما أجاب به رئيس الوزارة عبد الخالق ثروت

باشا عن سؤال في مجلس النواب: لماذا لم تمنع الحكومة المصريين من الحج ،

وهي تعتقد أنهم يستهدفون فيه للخطر ، وحمايتهم واجبة عليها؟ فأجاب بأن سبب

عدم المنع اعتبارات دينية.

يعني أن دعوى الحكومة الاستهداف للخطر لم يمكنها من أخذ فتوى شرعية

بمنع الحج ، فلم تستطع حمل تبعة منع المسلمين من أداء فريضتهم!

وبعد ذلك نشرت وكالة المملكة الحجازية النجدية بمصر البلاغ الرسمي

التالي:

بلاغ الحكومة الحجازية

ننشر هذا البلاغ تنويرًا للرأي العالم المصري الكريم، ودحضًا لأقوال مثيري

الضحة بمناسبة عدم سفر المحمل والبعثة الطبية والصدقات المراد إرسالها إلى

الحجاز؛ فنقول:

إن الحكومة المصرية كانت طلبت من حكومة الحجاز ونجد وملحقاتها أن

يرافق أمين الحج أورطه كاملة بملحقاتها من طوبجية ، وسواري ، وهجانة ،

وغيرها من المعدات ، وأن ترافق القوة المذكورة المحمل في كل مكان ، وأن تكون

دورة المحمل بالمراسم المعتادة كالمتبع سنويًّا بغير أي تعديل ، فقد كان جواب

الحكومة الحجازية النجدية على هذه النقطة ما يأتي:

إن الحكومة الحجازية تحب أن تتأكد للحكومة المصرية رغبتها؛ لأنها

مستعدة لإجراء جميع التسهيلات الممكنة للمحمل وركبه؛ بل لسائر الحجاج على

القواعد التي تحفظ الأمن ، وتصون حرمة الدين الإسلامي المقدس الذي جاء به

الكتاب المنزل على لسان النبي المرسل صلى الله عليه وسلم ، وأنها - أي: الحكومة

الحجازية النجدية - لا يخامرها الريب في أنها ستجد في الأمة المصرية الكريمة ،

وعلى الأخص في علماء الدين أعظم منشط ومساعد على إقامة شرع الله في أقدس

بلاد الله ، وأنها مستعدة للعمل بما يقره الدين ، ويقرره علماء المسلمين ، وأن ذلك

سيكون مقبولاً لديها ، ومرعي الحرمة.

وبما أن جلالة الملك قد منع التجول بالسلاح في البلاد المقدسة لكائن من كان

من أهل نجد وغيرهم ، وعلى الأخص أيام الحج ، ومنع أيضًا إتيان أي عمل لم

يأذن الله به من الأعمال المخالفة للشرع ، والتي ينبغي أن يكون المرد فيها إلى

كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيمكن للمحمل ، وركبه شهود الحج

هذا العام بعد مراعاة أمور ثلاثة دعت إليها العبر من حوادث العام الفائت ، وهي:

أولا: أن لا يكون مع ركب المحمل سلاح ما أسوة بحجاج سائر بلاد الإسلام.

ثانياً: أن لا يعرض المحمل لأن يكون سببًا في تبرك الناس به تبركًا دينيًّا لم

يأذن الله به ، ولا جاء في شرع الإسلام.

ثالثاً: أن يكون سير المحمل في أيام الحج كسير الناس جميعًا حفظًا لراحة

سائر الحجاج.

وفيما عدا ذلك فسيلقى المحمل وركبه كل إكرام ورعاية من الحكومة المحلية ،

وإن الحكومة الحجازية النجدية تحب أن تتأكد الحكومة المصرية أنها لم تشترط

مراعاة هذه الأمور إلا صيانةً لراحة المصريين ، وراحة حجاج المسلمين من سائر

بلاد الله.

وقد كان جواب الحكومة النجدية الحجازية على طلب الحكومة المصرية فيما

يتعلق بالبعثات الطبية؛ للاعتناء بحالة الحجاج الصحية ، وإسعافهم أثناء تأدية

الفريضة ، والزيارة أنها ترحب بهم ، وحبًّا وكرامة بقدومهم.

وكذلك أجابت الحكومة الحجازية طلب الحكومة المصرية بالموافقة على أن

تشكل لجنة من مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والحجازية؛ لتوزيع المرتبات

المخصصة للفقراء ، والمحتاجين بدون قيد ولا شرط ، وعلاوة على ما سردناه أعلاه ،

فإننا حبًّا في تطمين آل الحجاج ، وذويهم من المصريين الكرام ، وإزالة للمساوئ ،

والمخاوف التي علقت بأذهانهم ننشر خلاصة كتاب ورد إلينا من جلالة ملك الحجاز

ونجد وملحقاتها ، وهي: وبما أننا نرغب في إجراء التسهيلات اللازمة لجميع وفود

بيت الله الحرام ، وعلى الأخص الحج المصري الذي تربطنا بأهله روابط عديدة ،

فليكن المصريون واثقين بأن حجاجهم سيلقون الحفاوة التامة ، والرعاية الكاملة ،

والتسهيلات المطلوبة.

نرجو الله أن يحسن العواقب في جميع الأمور.

...

...

...

... (فوزان السابق)

(المنار)

في أثناء هذه المدة أسرفت جريدة السياسة في الطعن في الوهابيين؛ لتقوية

الأوهام في الأنفس ، وإثارة المخاوف في القلوب لمنع الحج ، ومن أشد مقالاتها

إسرافًا في البهتان ما نشرته في 21 ذي القعدة (23 مايو) من تصوير الوهابيين

بصورة الحيوانات المفترسة التي تستحل افتراس كل من ليس بوهابي ، وأنه (لا

يمكن أن يردعها عن ذلك أحد مهما سما مقامه) - أي: وإن كان إمامهم الديني ،

وملكهم السياسي - حتى قال الكاتب في مسألة شرب الدخان: (فكثيرًا ما فقئت

أعين ، وكسرت أذرع ، وهشمت رؤوس بأيدي الإخوان على هذا المنكر ، وإن كان

كثير منهم يرتكب هذا المنكر ، وأشد منه في الإثم!) .

وخاضت جرائد أخرى في ذلك حتى إن جريدة الأهرام نشرت مقالاً افتتاحيًّا

زعمت فيه أن الخطر على البشر من البلشفية والوهابية بعد أن أفتت في مقال آخر بأن

المحمل المصري أمر مشروع.

فوجدت من الواجب بيان حقائق جميع هذه المسائل ، فكتبت مقالاً نشر في

جريدتي الأخبار ، والبلاغ قطع به كل لسان يصد عن حج بيت الله الحرام ، وكسر

كل قلم يخوض في ذلك بالباطل ، فلم يستطع أحد أن يرد كلمة حتى إن جريدة

السياسة على استباحتها للإفك والبهتان لم تستطع أن تقول فيه إلا أنه ضد على

الحكومة المصرية والمصريين ، وذلك أن مذهبها أن دين المصريين مجموع تقاليد

عامتهم وحكومتهم كالمحمل والموالد لا ما يتدارسونه في الأزهر ، وغيره من المعاهد

الدينية - وهذا نصه:

الحج ومسائل الخلاف

بين حكومتي مصر والحجاز

اضطربت آراء الكتاب ، وأهواؤهم في مسألة الخلاف بين حكومتي مصر ،

والحجاز في أمر المحمل ، وحرسه ، وموسيقاه ، وأمر أداء فريضة الحج وخدمة

الحجاج ، وأوقاف الحرمين ، والصدقات الثابتة في ميزانية المالية المصرية لأهل

الحرمين ، وكسوة الكعبة المعظمة ، ومذهب النجديين ، وسيرتهم ، وسائر مذاهب

أهل السنة ، لم أر أحدًا كتب في ذلك عن معرفة صحيحة ، وبيان للحقيقة الشرعية ،

ولكنني أعتقد أن صاحب جريدة (الأخبار) كتب ما يعتقد أنه الحق بالإخلاص

الذي لا يمتري فيه أحد يعرفه ، وأعتقد أن بعض الكتاب من علماء المسلمين قال

الحق في مسألة المحمل ، وكونه بدعة ، وأن بعض الكتاب من غير المسلمين خلط

ما يدري بما لا يدري ، وغالط فيه بما يحدث الشقاق بين المسلمين ، أو يقويه ، ولا

أتعرض لبيان حال الدعاة إلى ترك الحج من أدعياء المسلمين ، وإنما أكتب ما أظن ،

بل أعتقد أن الحق لا ينجلي في هذه المسألة وفروعها بدونه من الوجهتين

الحقوقية والشرعية ، وما يحتف بهما من اختباراتي الشخصية ، ووقوفي على

الوقائع المهمة ملخصًا ذلك في المسائل الآتية: -

1-

كان الحجاز ومصر تابعين لحكومة عدة من الخلفاء والدول من صدر

الإسلام إلى عهد الخلافة العثمانية ، وكانت مصر في بعض القرون الوسطى مستقلة ،

وكان الحجاز تابعًا لها ، ولما كانت مصر تحت سيادة الدولة العثمانية كان جيشها

يعد جيشًا عثمانيًّا يحدد عدده السلطان العثماني ، وعلمه علم الجيش العثماني ،

ورتبه عين رتبه.

وقد صار الحجاز بعد الحرب العالمية الكبرى دولة ملكية مستقلة استقلالاً دوليًّا

تامًّا مطلقًا من كل قيد ، على حين كانت مصر تحت الحماية البريطانية ، ثم اعترف

لها باستقلال مقيد بقيود تجعله اسميًّا فقط.

وقد تودد جلالة ملك الحجاز لجلالة ملك مصر وحكومته بما استطاع من

أنواع التودد ، ولكن الحكومة المصرية لم تعترف الآن بملكيته وحكومته ، ويقال:

إنها بلغت مستشاره الشيخ حافظ وهبه [1] شفويًّا أن يبلغه أنها تشترط لاعترافها به

شروطًا يعد قبولها منافيًا لاستقلاله ، ويجعله كالتابع لها.

وسواء أصح هذا أم لم يصح؟ فملك الحجاز يرى أن استقلاله أتم من استقلال

مصر ، وأن مملكة مصر دولة أجنبية ليس لها حق في أن تدخل في مملكته جيشًا

مسلحًا ، ولا غير مسلح ، وأن تقاليد حرس المحمل قد بطلت بتغير شكل الحكومتين ،

وأن لا فرق في هذه التقاليد بين المحمل المصري ، والمحمل الشامي ، فلو طلبت

حكومة الشام منه الإذن لها بإرسال محملها مع حرس شامي كالعادة السابقة ، وقد كان

له المنزلة الأولى في الحجاز؛ لما أذن لها مطلقًا.

ولكن جلالة ملك الحجاز شديد الحرص على موادة مصر وموالاتها وإرضاء

جلالة ملكها وحكومتها وشعبها وشديد التقوى ، والحذر من وقوع أقل شقاق بينه

وبينها.

ولذلك أذن لها في الموسم الماضي بإدخال حرس المحمل بسلاحه وأعلامه ،

وباستعمال حريته في جميع أعماله العسكرية ، وهتافه به لملكه كما اعترف به أمير

الحج شاكرًا إلا الموسيقى التي استفتت فيها الحكومة المصرية رؤساء الدين - شيخ

الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية - وعملت بفتواهما فيها وفي مسألة المجاهرة

بشرب الدخان؛ فقبلت ما طلبه ملك الحجاز من منعهما.

***

(حكم المحمل سياسة وشرعًا)

2-

المحمل ، وما أدراكم ما المحمل!! نعني بالمحمل هذا الشي الذي يوضع

على الجمل كالمحفة أو الهودج أو الخيمة المجلل بالنسيج الحريري الموضون

بالنصب الذي يتبرك به العوام ، ويعدونه من شعائر الإسلام ، ومشاعر الحج إلى

بيت الله الحرام ، الذي يحمل إلى مكة المكرمة ، فمنى ، فعرفات ، ثم من عرفات إلى

المزدلفة فمنى فالحرم الشريف بمكة؛ فيطاف به في معاهد النسك كلها وآخرها

الكعبة المشرفة كأنه أحد الحجاج ، ثم يوضع قبالتها فيتبرك به العوام الجاهلون

بأحكام الإسلام وشرعه كما كانت الجاهلية تتبرك بالأصنام المنصوبة حولها.

هذا هو المحمل الذي نعنيه ، والذي هو محل الخلاف بين الحكومتين في

هاتين السنتين دون غيره ، هو بهذه الصفة بدعة دينية؛ لأنه عمل يشبه المشروع ،

وما هو بمشروع ، هو محدثة في مناسك الدين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة

كما كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه على المنبر ، وإنما

البدعة التي تكون حسنة أو سيئة ، ويختلف فيها اجتهاد الناس باختلاف آرائهم في

النفع والضر والحسن والقبح ، فهي البدعة في غير التعبدات التي تتوقف على نص

الكتاب والسنة وإلا لما كان قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة) صحيحًا

(راجع الصفحة 206 من الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر) ، وبناءً على هذه

القاعدة؛ قال صاحب منهاج الفقه: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان

مذمومتان) .

فإذا كانت الصلاة لله تعالى على وجه غير مشروع في توقيتها ، وما يقرأ

بدعة قبيحة مذمومة ، وهي عبادة لله تعالى فكيف يكون حكم البدعة في عبادة غيره

سبحانه؟ وكل عمل يعمل تدينًا ، ويقصد به القربة والثواب أو جلب نفع ، أو كشف

ضر من غير طريق الأسباب؛ فهو عبادة ، وقد حكى الله تعالى عن المشركين أنهم

كانوا يقولون في أصنامهم وأوثانهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية ، فكل من يتبرك بالمحمل تدينًا ، ويعد ما ذكرنا في شأنه

مشروعًا؛ فهو مثلهم.

هذه مسألة لا يختلف فيها أحد يعرف أحكام الإسلام ، فيجب على المسلم أن

يدع أقوال غير العارفين بها ، وأقوال غير المسلمين في ذلك بالأولى ، وأن يفرق

بين الأمور الدينية والأمور الدولية والحكومية، فلا يتعصب للمحمل لأجل حكومة

مصر ، فلهذه الحكومة أمور كثيرة مخالفة للشرع لا يجوز لمسلم أن يوافقها عليها ،

بل يجب عليه دائمًا أن يطالبها بتركها ، فقد صار متمكنًا من ذلك في عهد الدستور.

***

(سبب إذن ابن السعود بدخول المحمل)

(3)

كان يجب على ملك الحجاز أن يمنع دخول المحمل في بلاد الحجاز

ألبتة كما قال أمين بك الرافعي؛ لأنه يعتقد أنه بدعة وضلالة؛ ولكنه خشي في

العام الماضي أن تمنع الحكومة المصريين من أداء فريضة الحج ، وتمنع ما لأهل

الحجاز من الغلال والأموال المفرقة ، ويكون ذلك سببًا للتعادي بين الحكومتين

والشعبين؛ فاختار ما رآه بحسب القاعدة الشرعية ارتكاب أخف الضررين عند

تعارضهما ، فأذن بدخول المحمل وحاول منع منكراته؛ ولكن ترتب على ذلك ما

ترتب عليه من إنكار بعض النجديين الذين تربوا على إنكار كل منكر في بلادهم

عملاً بحديث: (من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم

يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ، رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن

الأربعة ، ومن إطلاق حرس المحمل الرصاص والرشاشات ، وقتل كثير من

المعتدين على المحمل وغيرهم.

وهذه فتنة جديدة نشير إلى حكمها الشرعي بصرف النظر عن كونها فتنة بين

حكومتين إسلاميتين يجب اتقاء الوقوع في مثلها.

***

(تحريم القتل والقتال وحمل السلاح بمكة)

(4)

من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن حرم مكة المعروف

بحدوده ، والذي تدخل فيه (منى) الذي وقعت فيها حادثة المحمل قد حرم الله تعالى

فيه القتل والقتال؛ بل حرم فيه الصيد ، وقتل الحيوانات والحشرات إلا ما استثنى من

الفواسق الخمس بنص الحديث ، وما ألحق بها من الوحوش المفترسة ، وكذا قطع

الأشجار ، وقلع النبات إلا إلاذخر الذي يضعونه على الموتى عند الدفن ، وفي سقوف

البيوت.

والأحاديث في تحريم القتال في حرم مكة مشهورة في الصحيحين والسنن

منها: قوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في خطبة له: (إن مكة حرمها الله ، ولم

يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ، ولا

أن يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛

فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي

ساعة من نهار ، وقد عادت اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب) . قال

الماوردي في الأحكام السلطانية: من خصائص الحرم ألا يحارب أهله (أي من فيه؛

لأن الحرمة له) ، فإن بغوا على أهل العدل (أي: على حكومة الإمام الأعظم)

قال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم ، بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ،

ويدخلوا في أحكام أهل العدل - وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم إذا لم

يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال إلخ ، فانظر إلى هذا القيد بل قال القفال من فقهاء

الشافعية: (حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها؛ لم يجز لنا قتالهم فيه) ،

وغلطه النووي ثم قال: وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا (أي: في صحيح

مسلم في إطلاق تحريم القتال) ، فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الوافدين -

أن معناها تحريم نصب القتال عليهم، وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن

إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر، فإنه يجوز

قتالهم على كل وجه، وبكل شيء، والله أعلم اهـ.

فانظر إلى هذه القيود في قتال البغاة الخارجين على الخليفة، وقتال الكفار في

أرض الحرم، وكيف منعه بعضهم مطلقًا، ولا يخفى أن إطلاق الرشاشات والمدافع

هي مما يعم كالمنجنيق لا كالسيف، والرمح الذي لا يقتل به إلا من قصد قتله

بشخصه ، ومنه تعلم أن إطلاق الرصاص الذي استعمل في حادثة المحمل من المحرم

بالإجماع الذي لا يباح بحال ما، ولا عذر ما.

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله

عليه وسلم يقول: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ".

إذا كان هذا حكم الله في حرم مكة في كل حال، فكيف يكون تأكيده في الشهر

الحرام، وفي حال الإحرام، وأداء المناسك؟ وكيف يكون حكم حمل السلاح إذا

كان يقصد به الاستعداد للقتال دفاعًا عن بدعة المحمل؟

***

(منع النجديين والمصريين من حمل السلاح بمكة وحرمها)

(5)

قد رأى جلالة ملك الحجاز الاحتياط؛ لمنع هذه الجريمة العظمى

المحرمة بإجماع المسلمين لذاتها، بصرف النظر عما يتبعها من العداوة بين الممالك

الإسلامية، ومن تعطيل إقامة ركن الدين العام بمنع حمل السلاح مطلقًا ، منع

النجديين، ومنع المصريين جميعًا ، فهل يرضي مسلمًا، أو منصفًا غير عدو

للمسلمين، والحال على ما علمنا، أن يمنع النجديين من ذلك وحدهم، ويسمح به

للمصريين مع العلم بأن الحكومة المصرية إنما تطلب زيادة حرس المحمل، وزيادة

سلاحه، وسير الموسيقى معه؛ لأجل التنكيل ممن يتعرض له من النجديين.

أليس الواجب المحتم أن نتفادى من هذه الشرور، والجنايات المحرمة

بالإجماع بالاستغناء عن إرسال المحمل، وإرسال الجيش لأجله! بلى، وإن ملك

الحجاز كان يرجو أن تفعل الحكومة ذلك من تلقاء نفسها تكريمًا لها وحرصًا على

مودتها، وقد دفع في العام الماضي دية جميع قتلى النجديين من ماله، ودفع لهم ثمن

ما قتل لهم من الأباعر أيضًا ، ولم يطالب الحكومة المصرية بشيء ، ولا كتب لها

بذلك فيما نعلم.

فيأيها المسلمون المعتصمون بعروة دينهم المخلصون لربهم ، افرضوا أن

هودج المحمل ليس بدعة محرمة بالمعنى الذي تقدم ، وأنه من تقاليد الحكومة

المباحة؛ أيجوز لنا أن نتعصب لإرساله للحجاز بالصفة التي ينتظر أن تثير الفتنة

بيننا ، وبين النجديين ، وتتحول بها العبادة المفروضة إلى جرائم سفك الدماء ، وانتهاك

حرمات الله تعالى ، وإهانة حرمة الدين الذي فرض علينا تعظيمه؟

هبوا أن النجديبن مخطئون في الإنكار على المحمل؛ لقلة علمهم، ولغلوهم

في دينهم، وأنه يجب على ملكهم أن يصحح لهم معلوماتهم في ذلك.

ألستم تعلمون أن هذا عمل يتعذر في مدة قصيرة لو كان صحيحًا، وفي وسع

الحكومة المصرية السياسية أن تترك هذا المظهر من تقاليدها كما تريد ترك تقليد

الأئمة الأربعة في بعض أحكام الأمور الشخصية؟ والمصلحة في ترك تقليد ابتدعته

امرأة كان حكمها لمصر غير صحيح شرعًا أظهر من المصلحة فيما تريد من مخالفة

الأئمة الأربعة به.

دع ما هي مخالفة فيه للكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس من إباحة البغاء،

وأمثاله.

***

(إبطال إيهام الخطر على الحجاج المصريين)

(6)

أوهم كلام بعض الجرائد الداعية إلى منع الحج أن على حجاج

المصريين خطرًا من تعدي النجديين عليهم أخذًا بثأر من قتل منهم في العام الماضي،

ومن الأسف أن جاء بلاغ الحكومة الرسمي يؤيد هذا الوهم، وهو مدفوع من

وجوه:

(أولها) إن أولياء الدم من النجديين طالبوا جلالة الملك بعد انتهاء أعمال

الحج الماضي بالقود من قاتليهم، فأجابهم بأنه قتل خطأ لا قصاص فيه، بل تجب

فيه الدية فقط، فطلبوا منه أن يجمع لهم علماءهم الخمسة الذين كانوا بمكة؛

لاستفتائهم، فجمعهم، فأفتوا بوجوب الدية، فدفعها جلالته من ماله مع التعويض

كما تقدم.

(ثانيها) إن مسلمي نجد قد أبطلوا مسألة أخذ الثأر الجاهلية، وهم خاضعون

في ذلك لأحكام الشريعة، وهي لا تبيح عقاب كل مصري بذنب أمير الحج،

وعسكره.

(ثالثها) إنهم لا يخرجون عن أمر إمامهم؛ لأن علماءهم نشروا في جميع

البلاد أن مذهب أهل السنة لا يجوز الخروج على الإمام، وإن ظلم إلا إذا أعلن

الكفر.

(رابعها) إن المصريين إذا كانوا حجاجًا غير مسلحين يتعذر التمييز بينهم،

وبين سائر الحجاج كما قال حضرة أمين بك الرافعي في أخباره الإسلامية، فكيف

يعرفهم الوهابيون، فينتقموا منهم؟

(خامسها) إن حرس المحمل لم يكن في العام الماضي حارسًا للحجاج ، ولا

كانوا هم ملازمين له ، وقد ذهب بعد أداء الحج كثير منهم إلى المدينة المنورة ، ولم

يذهب المحمل إليها ، ولم يتعرض أحد من النجديين ، ولا من غيرهم لهم بسوء.

(سادسها) إنه قد ثبت بالتواتر لدى شعوب العالم الإسلامي ، وغيره أنه لم

يعرف في تاريخ الحجاز أن أحدًا من حكامه السابقين كان أقدر من الملك عبد العزيز

السعود على حفظ الأمن فيه أو مثله أو على مقربة منه؛ فهو إن عجز في هذا العام

عما كان قادرًا عليه فيما قبله؛ فلن تستطيع الحكومة المصرية أن تغني غناءه بحرس

محملها.

(سابعها) إن الحكومة المصرية لم تقم دليلاً على الخطر الموهوم الذي ادعته ،

وقد طالبها حضرة أمين بك الرافعي ببيان ذلك؛ فلم تجب مع أن المقرر في

أصول الفقه الإسلامي عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

(ثامنها) إن الحكومة المصرية قالت في موسم سنة 1334: إنه قد ثبت

لديها أن طريق الحج غير آمن بسبب الحرب بين الشريف علي ، وابن السعود.

وأمكنها بتلك الشبهة أخذ فتوى شرعية رسمية بجواز تأخير الحج ، ثم ظهر للعالم

كله أن طريق رابغ التي أعلن ابن السعود أنه كافل للأمن فيها كانت آمنة لم يصب

أحد ممن سلكها إلى مكة المكرمة بسوء في نفسه ، ولا في ماله.

(تاسعها) جاء في رسالة من مكة المكرمة إلى جريدة المقطم أن جلالة ابن

السعود عقد مؤتمرًا كبيرًا في نجد حضره زهاء ثلاثة آلاف رجل منهم جميع قواد

قواته الحربية ، وجددوا مبايعته على السمع والطاعة ، وأنه أمرهم بعدم حمل السلاح

في الحجاز ، وأن الإخوان قرروا بعد ذلك عدم الحج في هذا العام؛ توسعة على حجاج

البحار الكثيرين. على أنه قلما يوجد منهم أحد يجب عليه الحج ، ولم يحج في هذه

السنين التي استولى فيها إمامهم على الحجاز.

(عاشرها) إن السواد الأعظم من الراغبين في الحج ، والمستعدين له لم

يبالوا ببلاغ الحكومة ، ولا بإرجاف جريدة السياسة ، فهم يتهافتون على البواخر

التي تحملهم إلى الحجاز كما نطقت بذلك جميع الجرائد - بلغهم الله السلامة -.

***

(مكانة المصريين بالحجاز)

(7)

أختم هذه المباحث بالشهادة لله تعالى: إنني لم أر جلالة الملك عبد

العزيز بن السعود أحرص على مودة شعب من الشعوب الإسلامية حرصه على

مودة الشعب المصري ، ولا على مصافاة حكومة كمصافاته للحكومة المصرية،

إن القنصل المصري في جدة لأشد تعاليًا في الحجاز من المندوب السامي البريطاني

في مصر ، وإن ناظر التكية المصرية بمكة حاول الاحتفال بالمولد بتزيين الشارع

العام أمام الحرم الشريف من جهة التكية ، وهنالك دار الحكومة الحجازية ، وهو يعلم

أن هذه الاحتفالات المبتدعة بما لها من الصبغة الدينية ممنوعة في الحجاز ، ولما

بلغت الحكومة جلالة الملك ذلك مستأمرة له بمنع الزينة؛ تولى جلالته بنفسه

مخاطبة حضرة الناظر بالتليفون يرجوه بأن يترك تزيين الشارع ، وأبواب الحرم ،

ويفعل في التكية ما شاء؛ فلن يعارضه أحد.

أتعلمون بماذا قابل حضرة الناظر هذا التواضع ، واللطف من الملك؟ قابله

بعدم المبالاة به ، وعدم الكف عن تزيين الشارع؛ فاضطر جلالته إلى أمر إدارة

الأمن العام بإزالة الزينة من الشارع فقط.

وإنما جرأ ناظر التكية على هذه المخالفة لكل شرع وقانون وأدب أنه رأى

الحكومة الحجازية في موسم الحج الماضي تأمر بمنع سير الأتومبيلات في شوارع

مكة؛ لنفور الأباعر التي تحمل شقادف الحجاج من صوتها ، وحركتها - وضرر

ذلك ظاهر -؛ فامتثل جميع الناس الأمر ، وفي مقدمتهم رجال الحكومة أعضاء

المؤتمر الإسلامي إلا أمير الحج المصري ورجاله؛ فإنهم ظلوا يغدون

ويروحون بأتوموبيلاتهم!! .

وأنشئت في الحجاز شركة أوتوموبيلات مصرية بين جدة ومكة بشروط كلها

في مصلحة المصريين والغبن على حكومة الحجاز ، وكان من تعزز الشركة

بمصريتها أنها لم تقم بالشروط الرسمية المفروضة عليها ، وأهمها إصلاح الطريق ،

ومنه مواضع ضرورية؛ فأنذرتها الحكومة المحلية المرة بعد المرة بإلغاء الامتياز

إذا لم تفعل ، فلم تحفل بالإنذار؛ فألغته الحكومة بعد الإنذار الثالث في جريدة أم

القرى على ما نتذكر.

مع هذا كله نرى جريدة مصرية [2] تتهم الحجاز ، وحكومة الحجاز ، وملك

الحجاز بحرمان المصريين من الاشتراك في حكومة الحجاز ، وتفضيل السوريين

عليهم ، ولم يخطر في بال حكومة الحجاز أمر التفاضل بين قطرين شقيقين في

الجامعات الدينية واللغوية ، والجوار إلا أن أحدهما في بحبوحة الثروة والأمان ،

والآخر منكوب تدمر مدائنه وقراه ومزارعه ويشرد خيار رجاله ويموت ضعفاؤه

جوعًا وعطشًا وعريًا.

على أنني قد أرسلت في هذا العام عدة أساتذة من المصريين إلى مكة المكرمة ،

وأوصيت بهم ، فمنهم المدرسون في المعهد السعودي الجديد ، وهو أعلى معاهد

التعليم العصري في الحجاز ، وبعضهم مدرسون في الحرم الشريف.

ومما يجب ذكره والتنويه به أن أحدهم يقرأ عقائد الإسلام لبعض النجديين

الذين يتهمون بتكفير المصريين كافة عامة ، ومما يجب أن يذكر أن الإمام الحنبلي

النجدي في الحرم الشريف سافر ، فوكل هذا الأستاذ المصري بأن ينوب عنه

بالإمامة.

***

(المصريون والنجديون)

(8)

إن النجديين كانوا يعيشون في عزلة عن العالم كله إلا قليلاً من

مهاجري التجار في الهند والشام ومصر، وقد فتح لهم باب آخر للتعارف مع سائر

الشعوب الإسلامية باتحاد حكومتهم بحكومة الحجاز في السياسة العامة دون الإدارة

الخاصة ، وصار من الضروري أن يسعى أهل الرأي والبصيرة لإزالة ما كان من

سوء التفاهم بينهم وبين هذه الشعوب ، ولا سيما الشعب المصري.

المعلوم عند أهل نجد بالإجمال أن الشعوب الإسلامية التي غلب عليها حكم

الإفرنج على حكم الإسلام قد فشت فيها حرية الكفر ، والفسق؛ فكثر فيها التاركون

لأركان الإسلام ، والمستحلون لمحرماته المعلومة من الدين بالضرورة ، واستحلالها

كفر بإجماع المسلمين ، ناهيكم بما تكثر فيها من البدع التي لا دخل للإفرنج فيها

حتى كثر فيها المرتدون ، والجاهلون بالدين الصحيح الذي كان عليه السلف الصالح -

فبهذا قلت ثقتهم بدين أهل هذه البلاد ، وصاروا يطعنون فيهم على الإطلاق إلا

من ساح منهم في البلاد أو عاشر السائحين.

وكان المشهور عن أهل نجد في مصر ، والشام ، والعراق ، والهند ، وغيرها

من الأقطار أنهم مبتدعة أصحاب مذهب خامس اخترعه لهم دجال يسمى محمد

عبد الوهاب، من أصوله: تكفير جميع المسلمين الذين لا يتبعون مذهبهم ، واستحلال

دمائهم وأموالهم وتحريم جميع العلوم والفنون العمرانية.

ومن أهل هذه الأمصار من كان يزيد على ذلك بهتانًا أنهم يطعنون في الرسول

الأعظم ، وينكرون شفاعته ، ويحرمون الصلاة والسلام عليه إلخ ، وإنما كان يعلم

بطلان هذه الدعاوى ، والمطاعن فيهم المطلعون حق الاطلاع على التاريخ ، وأعلمهم

بذلك المطلعون على كتبهم.

قد زال في هاتين السنتين كثير من خطأ الفريقين، والواجب السعي للإصلاح ،

والتأليف التام ، والمصريون أجدر الناس بذلك؛ لأنهم أعلم بوجه الحاجة إليه ،

فإن الأساس المحكم الذي وضع لاتحاد الشرقيين كافة ، والمسلمين خاصة إنما وضع

بمصر بيد الحكيمين المصلحين الشهيرين السيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد

عبده المصري ، وهما اللذان أذاعاه في العالم كله بجريدة العروة الوثقى التي نشراها

في باريز وظلت دعوتها مستمرة في المؤيد، فالمنار، وغيرهما من الصحف، وقد

ألفت في هذه السنين جمعية مصرية لإحياء الرابطة الشرقية، فانبذوا أيها

المصريون المصلحون كل دعوى للشقاق، وكل طعن في إخوانكم النجديين، ولا

توسعوا الخرق على الراقعين، فالاتفاق خير لكم ولهم، والتعادي شر للجميع،

ومصلحة لخصوم الجميع.

قد اتفقت كلمة جميع الكتاب والباحثين على حسن نية جلالة ملك الحجاز،

ونجد عبد العزيز آل سعود، وإخلاصه في خدمة الإسلام والمسلمين، وقوة نفوذه

في شعبه كما دلهم على ذلك مسلكه في أعماله كلها، وفي المقاصد التي أعلنها في

المؤتمر الإسلامي العام، فعلينا أن نكل إلى حكمته، وحزمه، وحلمه نشر ما ينقص

النجديين من المعارف العصرية من طريق الدين ، وقد بدأ بذلك بما أسسه من المعهد

السعودي للعلوم والفنون واللغات بمكة المكرمة ، ولا تهوشوا عليه في سعيه.

أيها المسلمون لا يغرنكم كلمة من يقول: إن الحجاز للمسلمين عامة. فهي كلمة حق

يراد بها باطل قد صرح به قائلوه ، وهو جعل حكومة الحجاز مؤلفة من هيئة

إسلامية مؤلفة من جميع الممالك الإسلامية ، وأن يكون كل من ينتسب إلى الإسلام

حرًّا في رأيه وعلمه ، وقوله فيه بحيث يصح لمثل الدكتور طه حسين أن يصرح

في حرم الله تعالى أمام بيته بإنكار ما في كتابه العزيز من إثبات بناء إبراهيم صلى

الله عليه وسلم ، وإسماعيل صلى الله عليه وسلم له إلخ.

إن حرم الله تعالى ، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم مثابة لجميع المسلمين

في أداء مناسك الحج ، والصلاة ، وزيارة مهد الإسلام ، وأفضل مساجده ، وقبر

خاتم رسله ، ومن المستحب لمن وصل إلى تلك البقاع زيارة قبور من دفن هنالك

من الصحابة ، وغيرهم من السلف الصالح.

ولكن ليس لأحد إحداث بدعة دينية فيه ليست في كتاب الله ، ولا في سنة

رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهدي السلف الصالح ، وليس لحكومة حق الاشتراك

في حكم البلاد؛ لأن ذلك مثار فتن لا أسوأ من عاقبتها ، وحادثة المحمل في العام

الماضي ، وفي هذا العام أظهر دليل على ذلك.

لا خلاف بين المصريين ، والنجديين في شيء مما ذكر من أعمال الحج ،

ومناسكه إذا كانوا يتبعون ما في كتب مذاهبهم دون البدع التي ينكرها جميع علمائهم

إذا سئلوا عنه.

وقد صرح الملك مرارًا بأنه يخضع لكل ما ثبت عن الأئمة الأربعة ، وإذا

كابر دعاة الفتنة في المسألتين ، فإننا نوضحهما في مقال آخر ، والسلام على من

اتبع الهدى ، ورجح الحق على الهوى.

***

كسوة الكعبة المعظمة

بعد أن قررت الحكومة المصرية منع إرسال المحمل إلى الحجاز ، فأحسنت

صنعًا ، وما أساءت إلا تعليلاً ، وتأويلاً ، قررت منع إرسال كسوة الكعبة ، فسئل

رئيس الوزراء عن ذلك في مجلس النواب؛ فقال: إن الحكومة بعد أن قررت

إرسالها لتصريح ملك الحجاز بقبولها عادت ، ففكرت أن الوهابيين ربما يعدونها

بدعة؛ فقررت عدم إرسالها! فأساءت الحكومة بهذا عملاً ، وتعليلاً ، فنشرت مقالاً

طويلاً في جريدة البلاغ في ذلك أودعته فصلاً للحافظ ابن حجر في تاريخ كسوة

الكعبة قبل الإسلام ، وبعده.

_________

(1)

ويظن المصريون أن لقب مستشار الذي تحلى به الشيخ حافظ هو بمعنى المستشار الإمبراطوري الذي كان للإمبراطورية الألمانية ، وأنه هو رئيس الحكومة الحجازية النجدية ، وليس الأمر كذلك ، ولا يزيد هذا اللقب في الحكومة السعودية على ما يدل عليه معناه اللغوي ، وللأمير فيصل رئيس الحكومة الحجازية عدة مستشارين.

(2)

هي جريدة السياسة التي تحاول نشر الثقافة المصرية اللادينية ، والإلحاد في الحجاز.

ص: 293

الكاتب: محمد رشيد رضا

قانون الأحوال الشخصية بمصر

والتنازع بين جمود الفقهاء المقلدين

وإلحاد زنادقة المتفرنجين

(2)

قد تضمن مقالنا الأول في هذه المسألة أن الذين يتكلمون في الأمور الإسلامية

العامة باسم الإسلام ثلاث جماعات:

(1)

جماعة الفقهاء المقلدين للمذاهب الإسلامية المدونة التي جرى عليها

العمل، ولا يزال السواد الأعظم من عوام المسلمين يتبعونهم، ويثقون بهم، وأما

الخواص من جميع الطبقات؛ فهم يعرضون عنهم، وينبذونهم عامًا بعد عام.

(2)

جماعة المتفرنجين، ويكثر فيها الزنادقة، ويقل المجاهرون بالإلحاد

والكفر قلة تتحول بالتدريج إلى كثرة، وأقل منهم المسلمون الصادقون فيها، وهذه

الجماعة بأصنافها الثلاثة: الزنادقة المنافقون، والملحدون المجاهرون، والمسلمون

الصادقون - هي الجماعة التي تتغلب على مصالح الحكومة وأعمالها يومًا بعد يوم،

وينتصر فيها الإلحاد على الإسلام في مسألة بعد مسألة، كما ثبت في مسألة

الدكتور طه حسين، فقد امتنعت النيابة العامة من محاكمته مع تصريحها الرسمي

بطعنه في الإسلام طعنًا صريحًا لا يحتمل التأويل، وامتنعت وزارة المعارف من

عزله من وظيفة التدريس في الجامعة، وإفساد عقائد النشء المصري ، ونصره

أحمد لطفي بك السيد مدير الجامعة نصرًا مؤزرًا.

(3)

جماعة المستقلين في فهم الإسلام من كتابه وسنته وسيرة سلفه الصالح

العارفين بمصلحة المسلمين في هذا العصر ، وهذه الجماعة هي الوسطى المرجوة

للوصل بين عقلاء المسلمين الصادقين من الطرفين الآخرين إلا من كان إلحاده

وزندقته لا عن شبهة عارضة ، أو توهم تعارض بين الإسلام ، وبين حضارة القوة ،

والعزة ، والثروة، فإن الملاحدة ثلاثة أصناف:

(1)

أولو شبهات سببها الجهل بحقيقة الإسلام ، ورجوع هؤلاء إلى حظيرة

الإسلام ، ولو بنصر آدابه وسياسته مرجوة.

(2)

مصطنعون لخدمة الأجانب ، وهم الذين يطعنون في الإسلام بترجمتهم

لأقوال أعدائه فيه من المبشرين والسياسيين حتى إنهم لينصرون اليهود الصهيونيين

على عرب فلسطين من المسلمين ، والنصارى - كما يراه المطلعون على جريدة

السياسة المصرية فيها - وهم إلى إلحادهم ، وتعطيلهم مأجورون.

(3)

الذين يعلمون أنهم بترك الأمة للإسلام يكون لهم فيها مقام الزعماء،

والرؤساء، والحكام على فسقهم، وفجورهم الذي لا يمكنهم تركه - وأنهم بتجديد

هداية الإسلام يكونون محتقرين لا قيمة لهم.

بعد هذا الإيضاح لحال الجماعات الثلاث نذكر نص مشروع القانون الجديد،

ثم نقفي عليه بوجهة نظر كل جماعة منهم - وهذا نصه: -

مشروع مرسوم بقانون

خاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية

1-

(تعدد الزوجات) :

(المادة 1) لا يجوز لمتزوج أن يعقد زواجه بأخرى ، ولا لأحد أن يتولى

عقد هذا الزواج ، أو يسجله إلا بإذن من القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه

مكان الزوج.

(المادة 2) لا يأذن القاضي بزواج متزوج إلا بعد التحري ، وظهور القدرة

على القيام بحسن المعاشرة ، والإنفاق على أكثر ممن في عصمته ، ومن تجب

نفقتهم عليه من أصوله وفروعه.

(المادة 3) لا تسمع عند الإنكار أمام القضاء دعوى زوجية حدثت بعد

العمل بهذا القانون إلا إذا كانت ثابتة بورقة رسمية.

***

2-

(الطلاق) :

(المادة 4) لا يقع طلاق السكران والمكره.

(المادة 5) لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء ،

أو تركه.

(المادة 6) الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلا واحدة.

(المادة 7) كنايات الطلاق ، وهي ما تحتمل الطلاق ، وغيره لا يقع بها

الطلاق إلا بائنًا.

(المادة 8) كل طلاق يقع رجعيًّا إلا المكمل للثلاث ، والطلاق قبل الدخول ،

والطلاق على مال ، وما نص على كونه بائنًا في هذا القانون رقم 25 سنة 1920.

***

3-

(الفسخ بإخلال الزوج بالشروط) :

(المادة 9) إذا اشترطت الزوجة في عقد الزواج شرطًا على الزوج فيه

منفعة لها ، ولا ينافي مقاصد العقد كألا يتزوج عليها ، أو أن يطلق ضرتها ، أو أن

لا ينقلها إلى بلدة أخرى؛ صح الشرط ، ولزم ، وكان لها حق فسخ الزواج إذا لم

يف لها بالشروط ، ولا يسقط حقها في الفسخ إلا إذا أسقطته ، أو رضيت بمخالفة

الشرط.

***

4-

(الشقاق بين الزوجين والتطليق للضرر) :

(المادة 10) إذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بما لا يستطاع معه دوام

العشرة عادةً بين أمثالها ، وطلبت التفريق طلقها القاضي طلقة بائنة إن ثبت الضرر ،

وعجز عن الإصلاح بينهما ، وإن لم يثبت الضرر؛ بعث القاضي حكمين ،

وقضى بما يريانه على ما هو مبين بالمواد (11 و 12 و 13 و 14 و 15

و16) .

(المادة 11) يشترط في الحكمين أن يكونا رجلين عدلين من أهل الزوجين

إن أمكن ، وإلا فمن غيرهم ممن لهم خبرة بحالهما ، وقدرة على الإصلاح بينهما

عالمين بأحكام النشوز ، ولو بتعليم القاضي.

(المادة 12) على الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين ، ويبذلا

جهدهما في الإصلاح ، فإن أمكن على طريقة معينة قرراها.

(المادة 13) إذا عجز الحكمان عن الإصلاح ، وكانت الإساءة من الزوج ،

أو منهما ، أو جهلا الحال؛ قررا التفريق بلا عوض بطلقة بائنة.

(المادة 14) إذا كانت الإساءة من الزوجة؛ قررا - الحكمان - ما تعينت فيه

المصلحة من بقاء الزوجة في عصمة زوجها ، وائتمانه عليها ، أو التفريق بينهما

بعوض عليها بطلقة بائنة ، وعند عدم تعيين المصلحة يكون للحكمين الخيار في

تقرير التفريق ، أو البقاء إن لم يرد الزوج الطلاق ، فإن أراد الطلاق؛ قرراه

بعوض عليها.

(المادة 15) إذا اختلف الحكمان؛ أمرهما القاضي بمعاودة البحث، فإن

استمر الخلاف بينهما؛ حكم غيرهما.

(المادة 16) على الحكمين أن يرفعا إلى القاضي ما يقررانه في جميع

الأحوال ، وعلى القاضي أن يمضيه.

(المادة 17) إذا غاب الزوج سنة فأكثر؛ كان لزوجته أن تطلب من

القاضي أن يطلقها بائنًا إذا تضررت من بُعْدِه عنها ، ولو ترك مالاً تستطيع الإنفاق

منه.

(المادة 18) إن أمكن وصول الرسائل إلى الغائب؛ ضرب له القاضي

أجلاً ، وأعذر إليه بأنه يطلقها عليه إن لم يحضر للإقامة معها ، أو ينقلها إليه ، أو

يطلقها ، فإذا انقضى الأجل ، ولم يفعل؛ فرق القاضي بينهما بتطليقة بائنة ، وإن لم

يمكن وصول الرسائل إلى الغائب؛ طلق القاضي عليه بلا إعذار وضَرْبِ أجل.

(المادة 19) لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائيًّا بعقوبة مقيدة للحرية مدة

ثلاث سنين فأكثر؛ أن تطلب إلى القاضي بعد مضي سنة من حبسه التطليق عليه

بائنًا للضرر ، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.

***

5-

(دعوى النسب) :

(المادة 20) لا تسمع دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها ،

وبين زوجها من حين العقد.

(المادة 21) لا تسمع دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة

الزوج عنها إذا ثبت عدم التلاقي بينهما في هذه المدة.

(المادة 22) لا تسمع دعوى النسب لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا

أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة.

***

6-

(النفقة) :

(المادة 23) تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا ،

وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة.

(المادة 24) لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد عن سنة من تاريخ

الطلاق.

***

7-

(سن الحضانة) :

(المادة 25) للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى

تسع ، وللصغيرة بعد تسع سنين إلى إحدى عشرة سنة إذا تبين له أن مصلحتهما في

ذلك.

(المنار)

هذا نص المشروع ، ونرجئ التعليق عليه إلى الجزء التالي.

_________

ص: 310

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك

ومشروع مؤتمر أدبي عربي عام

دعا صديقنا صاحب السعادة أحمد شفيق باشا وكيل جمعيتنا (الرابطة الشرقية)

رهطًا من أهل العلم والأدب للاجتماع في نادي الرابطة للتشاور في تكريم أحمد

شوقي بك لنبوغه في الشعر؛ فلبوا دعوته ، واستحسنوا اقتراحه ، وأنشؤوا لجنة

للسعي لتنفيذه اختاروه رئيسًا لها، واختاروا أحمد حافظ بك عوض صاحب جريدة

كوكب الشرق سكرتيرًا عامًّا لها ، وقرروا نشر ذلك في الجرائد، ولم يلبثوا بعد

نشره أن أقبل عليهم المحبذون يطلبون الدخول في زمرتهم كالعادة، حتى زاد عدد

اللجنة على الخمسين، وألفت منهم لجنة تنفيذية تولت نشر الدعوى، وقررت جعل

هذا الاحتفال ذريعة لمؤتمر عام لترقية الأدب العربي واللغة.

وقد أرسل إلى اللجنة كثير من القصائد والخطب في موضوع الاحتفال ،

وخطب وأبحاث علمية أدبية (محاضرات) لأجل المؤتمر، وكان صاحب المنار

عضوًا في اللجنة التنفيذية ، ثم في اللجنة العلمية التي نظرت فيما أرسل؛ فجعلته

أقسامًا ثلاثة، قسمًا يتلى في جلسات الأسبوع الذي سمي أسبوع شوقي ، وقسمًا

ينشر في الكتاب الذي يؤلف في هذا الموضوع ، وقسمًا يطرح ويهمل.

واشترك في هذا الاحتفال سورية ، وفلسطين ، ولبنان بإرسال وفود منها،

والناديان العربيان اللذان في جزيرة البحرين ، وثغر بمبي (الهند) بإرسال هديتين

نفيستين، خيرهما نخلة من الذهب على أرض من حجر الكهرباء حملها خمسة

عثاكيل بسرها من اللؤلؤ - وهي من نادي جزيرة البحرين ، وقد أعجب بها كل من

رآها ، وأثنى على الذوق العربي ، والجود العربي.

وجاءتنا خطبة نفيسة من أحد علماء المغرب الأقصى باسم أهل العلم والأدب

في ذلك القطر، وقصائد من أقطار أخرى.

وكان بدء الاحتفال يوم الجمعة 27 شوال الموافق 29 إبريل (نيسان) في

دار الأوبرة الملكية برعاية جلالة الملك ، ورياسة الشرف لدولة سعد باشا زغلول ،

فألقى صاحب المعالي محمد فتح الله باشا كلمة لدولته في شأن اشتراكه في الاحتفال ،

واعتذاره بضعف البدن عن الحضور - وكان خطباء الحفلة 3: رئيسها أحمد شفيق

باشا، والأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي بدمشق ووفده الرسمي ،

والآنسة إحسان أحمد حفيدة المرحوم الشيح علي الليثي الشهير ، وهي أول فتاة عربية

مصرية برزت في محفل أدب للرجال ، وخطبت فيهم في هذا العصر.

وكان شعراؤها شبلي بك ملاط شاعر لبنان ووفده ، ومحمد حافظ بك إبراهيم

شاعر مصر ، وخليل بك مطران شاعر القطرين، وختمت الحفلة بقصيدة شكر

لشوقي نفسه ، وتلاها حفلات أخرى في الجمعية الجغرافية الملكية ، وجمعية

الاقتصاد السياسي والجامعة المصرية وجمعية الرابطة الشرقية ومسرح التمثيل

العربي ، وكازينو الجزيرة ، وكرمة ابن هاني (أي: دار أحمد شوقي بك) ، وختمت

هذه الحفلات بدعوة محمد شوقي بك الخطيب العضو في مجلس النواب لضيوف

مصر في هذا الاحتفال ، وأعضاء لجنته إلى قصر المرحوم المنشاوي في بلدة

القرشية ، وأعد لهم في جنينة المنشاوي الكبرى موائد الطعام ، والمثلوجات في ظلال

تلك الأشجار التي تجري من تحتها الأنهار، وهنالك ألقيت الخطب والقصائد

في الموضوع، ثم انفض الجمع.

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة نفقات مؤتمر الخلافة في مجلس النواب

أسرف بعض النواب في تكبير أمر نفقات مؤتمر الخلافة بتأثير النزعة

الإلحادية في مصر، وبما كان من انتماء بعض كبار شيوخ الأزهر إلى حزب

الاتحاد الممقوت عند الأكثرية الساحقة في المجلس وغيره حتى طلب بعض النواب

محاكمة الشيخ الأكبر رئيس الأزهر والمعاهد الدينية بما أنفقه في مؤتمر الخلافة،

وتغريمه إياه.

ولما عاد المجلس إلى المناقشة في (الاستجواب) المقدم من النائب خليل بك

إبراهيم أبو رحاب إلى وزير الأوقاف بها؛ أجاب الوزير بما ننقله عن جريدة

السياسة التي هي أشد خصم في الموضوع؛ لأنه حجة عليها - مع عدم ثقتنا

بتحريها الأمانة في النقل - وهذا نصه: -

وزير الأوقاف: تقدمت في جلسة ماضية ببيان جميع الوقائع المتعلقة بهذا

الموضوع من واقع المخاطبات الرسمية التي دارت بين فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ

الجامع الأزهر ، ووزارة الأوقاف ، وليس عندي فيما يتعلق بهذه الوقائع ما أزيده

على بياني السابق.

وإذا كان لا بد من بيان في هذا الصدد بعدما سمعته من حضرة العضو

المحترم المستجوب ، فإنه يخيل لي أن من واجبي أن أشرح للمجلس وجهة نظر

فضيلة شيخ الجامع الأزهر في صرف المبلغ على النحو الذي صرفه به ، وبينه

المجلس.

وما كان يدور بخلدي قبل أن أحضر إلى هذه الجلسة أنني سأكون في حاجة ،

أو أنه سيكون هناك أي داع لأن أشرح للمجلس الموقر موقف شيخ الجامع.

ولكن بعدما سمعت من حضرة العضو المحترم ، وهو يتكلم عن هيئة مهما

كان تصرف أحد المنتسبين إليها ، ومهما كان مركز ذلك الشخص كبيرًا كان أو

صغيرًا؛ فإنها هيئة ندين لها جميعًا ، وأظن أن المجلس الموقر يشاركني في ذلك

في وجوب

.

فقاطعه الدكتور ماهر: ندين بالأكاذيب.

الوزير - فإنها مهما قيل هيئة دينية.

أصوات - لا لا ، ما فيش هيئة دينية. دينية إيه؟

الوزير - هل لا يزال المجلس في حاجة إلى وزير الأوقاف.

أحمد عبد الغفار - أيوه

الوزير - إذن أطلب من المجلس أن يفتح لي صدره ، أقول: إنه ما كان

يخطر ببالي قبل أن أتشرف بالوجود بينكم في هذه الجلسة أنني سأكون بحاجة إلى

أن أبين وجهة نظر شيخ الجامع الأزهر ، ولكني بعدما سمعته من حضرة العضو

المحترم وهو يتكلم عن شخص ينتسب إلى هيئة أرى من واجبي - إن لم ير غيري

- أننا ندين لها بالاحترام ، أو نقف إزاءها موقف الاحترام، أقول: إني مضطر

لأن أسفر عن وجهة نظر شيخ الجامع ، وللمجلس الموقر حريته التامة في توجيه

دفاعه.

وليس معنى هذا أني أوافق ، أو لا أوافق على وجهة النظر هذه، ولكن من

حق المروءة ، ومن حق الإنسانية أنه إذا مس شخص ، أو نوقش شخص في غيبته

أن يقوم من يعرض وجهة نظره على الأقل.

فإن قمت بهذا الواجب؛ فإني مدفوع فيه بعامل الإنسانية ، والمروءة ،

والشعور بأن من واجبي أن أقدم وجهة نظر شخص قوبل بألفاظ قاسية.

والذي يؤخذ على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أنه طلب صرف المبالغ التي

طلب صرفها على شؤون المعاهد الدينية في حين أنه تبين من الحساب الذي قدمه

للوزارة أنه صرف تلك المبالغ على مؤتمر الخلافة؛ فيؤخذ عليه ، وقد يكون ذلك

(كذا في جريدة السياسة) أنه صرف المبالغ في وجه غير الوجه الذي أثبته في

كتابه [1] .

أصوات - يبقى معناه إيه؟

أظن أن لي الحق بصفتي عضوًا نائبًا على الأقل في هذا المجلس أن ألقي

رأيًا؛ لأني لم أقصد لهذا الموضوع قبل أن يستوفوا كلامهم، بل هم الذين طلبوا مني

الكلام قبلهم.

يرى فضيلة شيخ الجامع أنه لا تناقض بين تصرفه ، وبين صيغة طلبه ،

يرى ذلك ، وقد يكون مخطئًا فيما يراه ، وقد أكون أول من يخطئه في ذلك ، لكن

هذا لا يمنع من أن تعرفوا عقليته - (أعضاء يضحكون) - قبل أن تحكموا على

هذا التصرف حكمًا قاسيًا.

إنه يقول: إن الخلافة الإسلامية كانت شاغرة ، وإنه كان يحسن بل يجب

ملؤها ، فكان الواجب أن يتفاهم مع كبار رجال المسلمين في العالم.

فهذا إذا كان أنفق مبالغ طلبها للمعاهد الدينية؛ أنفقها للخلافة الإسلامية ،

فإنما قام بعمل هو في رأيه من أعمال المعاهد الدينية.

فإن أنتم دهشتم فاسمحوا لي أن أؤكد لكم أنه أيضًا - ولا أدري إذا كان مخطئًا ،

أو مصيبًا - قد دهش عندما سمع أنه يتهم بأنه طلب مبالغ لعمل ، وأنه صرفها في

عمل آخر.

ولو كنت من شيخ الجامع - (كذا في السياسة) - لطلبت من وزارة

الأوقاف المبلغ بعد أن أخبرها بوضوح ، وصراحة عن أبواب الصرف حتى لا يقع

مثل هذا اللبس الذي نحن فيه الآن.

على أن شيخ الجامع لا يكون هو المسئول الأول عن الكتب التي يمضيها ،

وهو شيخ كما تعرفون في سنه ، وفي مشاغله العديدة ، وبحكم وظيفته

الدكتور ماهر - ما تطلعوه (المنار: أي أخرجوه من المشيخة) .

الوزير - إن كانت صيغة الكتاب جاءت موجزة إيجازًا معيبًا ، أو أنها لم تعبر

عن أفكار شيخ الجامع ، فأرجو أن تكتفوا بما شرحته لحضراتكم ، وأن تكون ماثلة

أمام حضراتكم جميع الظروف التي أحاطت بالموضوع.

وقبل أن أختم كلامي أصرح أني عندما كنت عضوًا بالوزارة السعدية؛ لم

يتصل بعلمي أن ذلك المبلغ كان له علاقة بمؤتمر الخلافة.

كما أني أصرح بأني لم أجد في الوزارة ما يدل على شيء من هذه العلاقة،

ولذلك فإن البيانات التي أدليت بها في الجلسة السابقة هي كل البيانات التي أستطيع

تقديمها.

بعد ذلك لي كلمة أعتقد من واجبي أن أدلي بها أيضًا ، وهي خاصة بسؤال

حضرة النائب المحترم عما اعتزمته وزارة الأوقاف إزاء شيخ الجامع.

يطلب حضرة العضو المحترم مني ، وأنا وزير الأوقاف أن أحاكم شيخ

الجامع على تصرفه، ولكني أنبه حضرته إلى أن المعاهد الدينية ليست تابعة

لوزارة الأوقاف ، ولو سلمت جدلاً قبل أي بحث بأن موقف أحد موظفي المعاهد

يستوجب مؤاخذته ، فليس من شأني ، ولا من اختصاصي ، ولا في استطاعتي أن

أحاكمه تأديبيًّا؛ لأنه ليس من موظفي وزارتي ، ولأنه تابع لسلطة مستقلة ، فهذا

خارج عن سلطاني واختصاصي ، وتكليفي به هو تكليفي بالمستحيل.

وأما فيما يختص بالمبلغ ، وهو الذي لوزارة الأوقاف شأن فيه ، فقد ثبت

لحضراتكم أن وزارة الأوقاف قد تبرعت بهذا المبلغ إلى المعاهد الدينية.

فوزارة الأوقاف ترى أن صرف المبالغ في مؤتمر الخلافة مخالف لما طلب

لأجله ، وشيخ الجامع يرى أنه صرف للغرض الذي طلب من أجله ، ولم أتبين

وجهًا قانونيًّا يساعدني على مطالبة شيخ الجامع برد المبلغ ما دام له وجهة النظر

التي قدمتها.

أعضاء - يضجون

الوزير - افرضوا أن الوزارة اقتنعت ، ورفعنا الدعوى ، وجاء شيخ الجامع ،

وقد ثبت أنه لم يصرف المبلغ في شؤونه الخاصة ، ولكن في موضوع مادي وجد

فعلاً هو مؤتمر الخلافة ، وعلى أي حال فأنا كشخص أعرف شيئًا من القانون لا

أرى أني في موقف يسمح لي بأن أرفع الدعوى في هذا الموضوع على شيخ الجامع ،

وأن أكون مطمئنًّا على القضية. اهـ بيان الوزير في المسألة.

(المنار)

هذا ما صرَّح به وزير الأوقاف في مجلس النواب ، وهو من علماء

الحقوق والقوانين ، فأثبت أن شيخ الأزهر رئيس مؤتمر الخلافة لا يُؤاخَذ قانونًا

في إنفاقه ما أخذه من الأوقاف الخيرية ، وأنفقه برأيه في شأن مؤتمر الخلافة، وأن

كل ما في الأمر من المؤاخذة خاص بصيغة الطلب ، وأنه يراها لا تخل بغرضه

منه، وكل من له إلمام بالمسألة؛ يعلم أن إيهام الطلب ، وعدم التصريح به ، وهو مما

كان من التواطؤ بين وكيل وزارة الأوقاف السابق ، وبين السكرتير العام للأزهر

ولمؤتمر الخلافة، ولكن بعض النواب لا يعلمون الحقائق ، وبعضهم لا ينطقون

بها.

وممن كان يعرفها (الأستاذ الجنيدي)، فقال في المجلس: إن كتاب شيخ

الجامع الأول صدق عليه في اليوم الذي قدم فيه من وكيل الوزارة - وكان حسن

نشأت باشا - ، فسأل عن وجود المبلغ؛ فأحيب بأنه يوجد ، فجمع اللجنة

الاستشارية فيه ، وعرض عليها الأمر ، فوافقت عليه ، وتقرر صرفه في الحال ،

وكان هناك نائب حر أشار إليها ، فقال كلمة حق ننقلها عن جريدة السياسة ، وإن

جاءت بها ملخصة فاقدة لبعض قوتها ، وهي:

الأستاذ فكري أباظه: المسألة خطيرة ، والمسألة تستدعي أن تعالج بشيء غير

قليل من الصراحة.

كلكم تعلمون أنه في ذلك الوقت ظنت الحواشي - والحاشية دائما تصدر منها

المصائب - ظنت الحاشية أن إرادة سامية كانت تريد الخلافة، ففي وزارة سنة

1924 وسنة 1925 كانت المبالغ تصرف بسرعة ، وبغير الإجراءات المتبعة في

وزارة الأوقاف، إذن بأي حق ، وعلى أي أساس من العدل ، والشريعة نصُبُّ جام

غضبنا على الشيخ ، والرؤوس باقية لا يحاسبها أحد؟

يقول الناس: سيعاقبون شيخ الجامع ، وهم يعلمون أنه كان محركًا بقوة لا

يمكن لمجلس النواب أن يمنعها، فماذا فعلتم بالنسبة للوزراء السابقين ، وقد ارتكبوا

من الجرائم ما ارتكبوا؟

لم تستطيعوا أن تعملوا شيئًا؛ لأنه لم يكن هناك قانون يسمح بعقابهم.

يقول وزير الأوقاف: أنه بحث الموضوع ، وهو يرى كشخص يعرف القانون

أنه لا يستطيع مقاضاته ، فلا تحصروا المسئولية في دائرة ضيقة ، وضعوا يدكم على

المسئول الحقيقي.

أنقذوا كرامة المجلس، فالناس يعلمون كل التفاصيل اهـ.

(المنار)

وكان في الجلسة من عارفي الحقيقة النائب أحمد حافظ عوض بك ، فارتأى

الاكتفاء ببيان معالي وزير الأوقاف، وكذلك كان.

وانتهت هذه الضجة التي كانت مما يحزن المسلمين ، ويسر الملحدين ، وإن

باءوا بالخيبة ، وسوء الخاتمة.

_________

(1)

قد فات الوزير أن الذي كتبه الشيخ لوزارة الأوقاف هو أن المراد صرف المبلغ في بعض الشؤون (السائرة) في المعاهد، وليس فيه أنه يصرف على المعاهد نفسها ، بل فهي تصريح بعدم دخوله في ميزانيتها ، وهو ظاهر في أنه لا يصرف عليها.

ص: 315

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌صاحب المنار وجريدة السياسة

ذكرنا في الجزء الماضي ما بلغنا من قول رئيس تحرير السياسة: إنه لا بد

من قتل صاحب المنار.

ذكرناه تعجبًا من غروره ، وتمهيدًا لإثبات سوء نيته فيما سيكتبه ويعده

قاتلاً، وإذا به قد كتب مقالة في جريدة السياسة اليومية بقلمه ، ثم استكتب بعض

أجرائه مقالاً آخر في مرآة السياسة الأسبوعية صورت آدابهما أوضح تصوير ،

وأدقه؛ قذع بأفحش الهجو الشعري ، وجرأة على البهتان الصريح وقلب الحقائق

استغربهما الناس من السياسة بعد أن انتشرت ، وصارت تقرأ ، وقد بَعُد عهدهم بما

سبق لها من هذا النحو أيام كانت تحمل أمثال هذه الحملات على الرئيس الجليل

سعد باشا زغلول؛ لامتهان الأمة لها ، ولحزبها الحر الدستوري المشاق له ، وللوفد

المصري حتى إنه قلما كان يوجد من يقرؤها.

ولكن حنق رئيس تحريرها ، وبعض مرءوسيه على صاحب المنار إنما هو

في شيء لا يمس أرزاقهم ، ولا رواج جريدتهم ، فما باله حملهم على قذع وبهتان

أشد من كل ما عهد منهم ومن غيرهم من أصحاب الجرائد التي يلقبونها بالساقطة؟

حتى أجمع كل من اطلع من العارفين ، ولا سيما رجال القانون أننا إذا حاكمنا

الكاتبين عليه؛ يحكم عليها بالعقاب قطعًا؛ لأنه لا يمكن أن يعتذر عنه بأنه خلاف

علمي ، أو سياسي ، أو غير ذلك من أنواع الخلاف الذي يؤيد فيه كل فريق رأيه.

إن بين المنار ، والسياسة خلافًا أهم مما كان بين حزبها ، وبين الوفد المصري ،

وهو أن المنار داعية الدين الإسلامي ، والمدافع عنه، والسياسة تقوم بدعاية إلحادية

تريد أن تنسخ بها هداية الإسلام ، وتقطع الرابطتين الإسلامية والعربية بما تعبر عنه

بالثقافة المصرية ، والتجديد، ولكن ليس في شيء من المقالتين تخطئة للمنار في شيء

من رأيه في ذلك ، ولا دفاع عن ثقافتها وتجديدها، وإنما كله بهت في مثالب شخصية

مختلقة كزعمها أن صاحب المنار ليس ليه دين ولا عقيدة ولا مذهب ، فتارة يكون

مسلمًا سنيًّا أو شيعيًّا أو وهابيًّا ، وتارة بوذيًّا أو برهميًّا وتارة ملحدًا! ! وما أشبه هذا.

لعل جريدة السياسة تريد أن تستدرجنا بهذا إلى منازلتها في هذا الميدان الذي

تعلم علم اليقين أننا لسنا من فرسانه ، وإن جميع فرسانه المبرزين ينهزمون أمامها

فيه، وقد سبق لنا أن قلنا في تفسير قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ

وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) : إن الجرائد البذيئة في هذا العصر

قد بذت الشعراء الهجائين في العصور الخالية ، فيجب الإعراض عنها، وإذا نحن

عاتبنا ، أو عتبنا على أحد في هذا المقام ، فإنما نعتب على الحزب الحر الدستوري

الذي جعل أمثال هؤلاء الكتاب لسان حاله ، ومحررين لجريدته، فهو المسؤول عن

قذعهم ، وبذاءتهم ، وعن إلحادهم أيضًا ، فإن كنا لا نعرف رأي زعمائه كلهم ، أو

أكثرهم في الأمر الثاني ، فإننا نجزم بنزاهتهم كلهم عن الأول، ومن يمتري في

آداب عدلي باشا ، وثروت باشا ، والدكتور حافظ بك عفيفى إلخ.

نعم إن الأحزاب لا بد لها من جرائد تنشر دعوتها ، وتحمي حماها ، ولو

بالطعن الشخصي في خصومها كما كانت القبائل تختار لها شاعرًا هجاء يدافع عنها

إذا هجيت يلقب بسفيه القوم، وكان خصوم القبيلة يهجونها في جملتها دون سفيهها

عملاً بقول الشاعر:

ومن يربط الكلب العقور ببابه

فكل بلاء الناس من رابط الكلب

ونحن لم نكن من خصوم الحزب الدستوري ، ولا هجونا رجلاً من زعمائه ،

ولا من دهمائه ، وما كان الهجو والثلب من شأبنا.

ولو كانت السياسة ترد على ما ننشره من تفنيد بعض نشرياتها الإلحادية

عملاً بحرية الرأي والنشر الذي تدافع به عن الكتب الإلحادية ككتب علي عبد

الرازق وطه حسين ، وتعترف لنا بمثل هذه الحرية لما شكوناها إلى حزبها ، ولا

لامها أحد ، فإن هذا التباين بيننا لا يمكن السكوت عليه.

_________

ص: 319

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع ما قبله)

فصل

والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعًا ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم

فعل ذلك ، أو فعله بعض أصحابه على عهده؛ فأقره عليه، وظنوا أن صلاة

المسافر ركعتين ، أو أربعًا بمنزلة الصوم والفطر في رمضان، وقد استفاضت

الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنهم

الصائم ، ومنهم المفطر ، وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته.

وأما ما ذكروه من التربيع ، فحسبه بعض أهل العلم صحيحًا ، وبذلك استدل

الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدق الله بها عليكم؛

فاقبلوا صدقته) ، فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله ، والصدقة

رخصة لا حتم من الله أن يقصر.

ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف - إن شاء المسافر - أن عائشة

رضي الله عنها قالت: (كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتم في

السفر ، وقصر) .

(قلت) : وهذا الحديث رواه الدارقطني ، وغيره من حديث ابن عاصم ،

حدثنا عمرو بن سعيد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة (أن النبي صلى الله

عليه وسلم كان يقصر في السفر ، ويتم، ويفطر ، ويصوم) .

قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. قال البيهقي: وهذا شاهد من حديث دلهم

بن صالح ، والمغيرة بن زياد ، وطلحة بن عمر ، وكلهم ضعيف ، وروى حديث

دلهم من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا دلهم بن صالح الكندي ، عن عطاء ،

عن عائشة قالت: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى مكة

أربعًا حتى نرجع) ، وروى حديث المغيرة وهو أشهرها ، عن عطاء ، عن عائشة

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ، ويتم. وروى حديثَ طلحة ابنُ

عمر ، عن عطاء ، عن عائشة قالت: (كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه

وسلم قد أتم ، وقصر، وصام في السفر ، وأفطر) .

قال البيهقي: وقد قال عمر بن ذر - كوفي ثقة -: أخبرنا عطاء بن أبي

رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعًا ، وروى ذلك بإسناده ، ثم قال:

وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح ، وإن كان في رواية دلهم زيادة سند.

(قلت) : أما ما رواه الثقة ، عن عطاء ، عن عائشة من أنها كانت تصلي

أربعًا فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره ، عن عائشة دل

ذلك على ضعف المسند ، ولم يكن ذلك شاهدًا للمسند.

قال ابن حزم في هذا الحديث: انفرد به المغيرة بن زياد ، ولم يروه غيره ،

وقد قال فيه أحمد بن حنبل: (ضعيف، كل حديث أسنده منكر)، (قلت) : فقد

روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضًا ، وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن

أباه سئل عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث منكر) .

وهو كما قال الإمام أحمد، وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة

لمن احتج به كالشافعي ، ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه

وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه: كان يقصر في السفر ، وتتم، ويفطر ،

وتصوم، بمعنى أنها هي التي كانت تتم ، وتصوم ، وهذا أشبه بما روي عنها من

غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضًا.

قال البيهقى: وله شاهد قوي بإسناد صحيح. وروي من طريق الدارقطني من

طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن

أبيه ، عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في

رمضان، فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمت، وقصر، وأتممت،

فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أفطرتَ ، وصمتُ ، وقصرتَ ، وأتممتُ؟

قال: (أحسنت يا عائشة) ، ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ، ثنا

العلاء بن زهير ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن عائشة لم يذكر أباه.

قال الدارقطني: الأول متصل ، وهو إسناد حسن ، وعبد الرحمن قد أدرك

عائشة ، فدخل عليها ، وهو مراهق.

ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ، ثنا عباس

الدوري ، ثنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير ، ثنا عبد الرحمن بن الأسود ، عن

عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا

قدمت قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قصرت، وأتممت، وأفطرت،

وصمت، فقال:(أحسنت يا عائشة) ، وما عاب علي.

قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم ، عن عبد الرحمن ، عن عائشة،

ومن قال: عن أبيه في هذا الحديث؛ فقد أخطأ.

(قلت) : أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث، وكان له عناية

بالأحاديث الفقهية ، وما فيها من اختلاف الألفاظ ، وهو أقرب إلى طريقة أهل

الحديث ، والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث

المشهورين ، ولهذا رجح هذا الطريق ، وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد

منهم إلا النسائي ، ولفظه: عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه

وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي،

قصرتَ وأتممتُ وأفطرتَ وصمتُ فقال: (أحسنت يا عائشة) ، وما عاب علي.

وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين ، فتنطق له من الأدلة ما

لو خلا عن ذلك القصد؛ لم يتكلفه ، ولحكم ببطلانها.

والصواب ما قاله أبو بكر ، وهو أن الحديث ليس بمتصل ، وعبد الرحمن

إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته، وقال فيه أبو محمد بن حزم:

هذا الحديث تفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره ، وهو مجهول ، وهذا

الحديث خطأ قطعًا ، فإنه قال فيه: إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

في عمرة في رمضان ، ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

لم يعتمر في رمضان قط ، ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان ، بل ولا

خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح ، فإنه كان حينئذ مسافرًا في

رمضان ، وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم ، وفي ذلك السفر

كان أصحابه منهم الصائم ، ومنهم المفطر ، فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ، ولا

نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعًا ، والحديث المتقدم خطأ كما

سنبينه إن شاء الله تعالى، وعام فتح مكة لم يعتمر، بل ثبت بالنقول المستفيضة

التي اتفق عليها أهل العلم به أنه إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عُمَر منها ثلاث في

ذي القعدة، والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون؛ فحل

بالحديبية بالإحصار ، ولم يدخل مكة، وكانت في ذي القعدة ، ثم اعتمر في العام

القابل عمرة القضية، وكانت في ذي القعدة أيضًا، ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة

اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرته في ذي القعدة أيضًا، والرابعة مع حجته، ولم

يعتمر بعد حجه لا هو ، ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت ،

وأمرها أن تهل بالحج، ثم أعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، ولهذا قيل لما

بني هناك من المساجد: مساجد عائشة ، فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد

النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة، فهذا

كله مما تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه:

عمرة من الحديبية في ذي العقدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة

من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين ، وعمرة مع حجته، وهذا لفظ

مسلم. ولفظ البخاري: اعتمر أربعًا؛ عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده

المشركون، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة حنين،

وعمرة مع حجته.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه

وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري، وأراد بذلك العمرة

التي أتمها ، وهي عمرة القضية ، والجعرانة.

وأما الحديبية ، فلم يمكن إتمامها؛ بل كان منحصرًا لما صده المشركون ،

وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم ، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما

قيل لها: إن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب.

فقالت: (يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا

وهو معه ، وما اعتمر في رجب قط، ما اعتمر إلا وهو معه) ، وفي رواية عن

عائشة قالت: (لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة) ،

وكذلك عن ابن عباس. رواهما ابن ماجه ، وقد روى أبو داود عنها قالت: (اعتمر

رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال) .

وهذا إن كان ثابتًا عنها ، فلعله ابتداء سفره كان في شوال ، ولم تقل قط: إنه

اعتمر في رمضان؛ فعلم أن ذلك خطأ محض.

وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة ، وثبت أيضًا

أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ، ودخلها إلا ثلاث مرات: عمرة القضية ، ثم

غزوة الفتح، ثم حجة الوداع ، وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة

وأحول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة

الفتح - كان كل من هذين دليلاً قاطعًا على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت

معه في رمضان ، وقالت: أتممت وصمت ، فقال:(أحسنت) ، خطأ محض، فعلم قطعًا أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه

وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من روى عني حديثًا ، وهو يرى أنه كذب ، فهو

أحد الكاذبين) ؛ ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه

كذب.

فإن قيل: فيكون قوله: (في رمضان) خطأ ، وسائر الحديث يمكن صدقه؛

قيل: بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان؛ لأنها قالت: قلت:

أفطرت وصمت وقصرت وأتممت ، فقال:(أحسنت يا عائشة) ، وهذا إنما يقال

في الصوم الواجب.

وأما السفر في غير رمضان ، فلا يذكر فيه مثل هذا؛ لأنه معلوم أن الفطر

فيه جائز ، وأيضًا فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي ، عن عائشة

أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ ففرضت ثلاثًا ، فكان

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى ، وإذا أقام؛ زاد مع كل

ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ لأنها وتر ، والصبح؛ لأنها تطول فيها القراءة) .

أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر؛ صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين ، فلو

كان تارة يصلي أربعًا؛ لأخبرت بذلك ، وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على

عائشة، وأيضًا فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ،

فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات ، وعمرها أقل من عشرين سنة ، فإنه لما بنى

بها بالمدينة كان لها تسع سنين ، وإنما أقام بالمدينة عشرًا ، فإذا كان قد بنى بها في

أول الهجرة؛ كان عمرها قريبًا من عشرين ، ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك؛ لكان

عمرها حينئذ أقل ، وأيضًا فلو كانت كبيرة؛ فهي إنما تتعلم الإسلام ، وشرائعه من

النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر

خلاف ما يفعله هو ، وسائر المسلمين وسائر أزواجه ، ولا تخبره بذلك حتى تصل

إلى مكة؟ هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين؟ وما بالها فعلت هذا في هذه

السفرة دون سائر أسفارها معه؟ وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه ،

وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: (فرض

الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، ثم أتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على

الفريضة)

وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ، ورواية أصحابه الثقات ،

ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة ، يرويه مثل ربيعة، ومن

رواية الشعبي ، عن عائشة.

وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة ، فكيف

تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه ،

وهي تراه ، والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين.

وأيضًا فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يحتج

بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها

عروة ابن أختها ، بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد ، كما رواه النيسابوري ،

والبيهقي ، وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب ابن جرير ، ثنا شعبة ، عن هشام

بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعًا ، فقلت لها: لو

صليت ركعتين؟ فقالت: (يا ابن أخي إنه لا يشق علي) .

وأيضًا ، فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه ،

عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت

صلاة السفر على ركعتين ، وأتمت في الحضر أربعًا. قال صالح: فأخبر بها عمر

بن عبد العزيز فقال: (إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر)

قال: فوجدت عروة يومًا عنده ، فقلت: كيف أخبرتني عن عائشة؟ فحدث بما

حدثني به. فقال عمر: (أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعًا في السفر؟) قال:

بلى.

وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة

قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ،

وأقرت صلاة السفر) قال الزهري: قلت: فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة؟ قال:

إنها تأولت كما تأول عثمان.

فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت: لا يشق علي.

وقال: إنها تأولت كما تأول عثمان. فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من

اجتهادها ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الإتمام ، أو كان هو قد

أتم؛ لكانت قد فعلت ذلك اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك

عثمان ، ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد.

ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر ،

وقد عرف أنه باطل ، فكيف بما هو أبطل منه؟ وهو كون النبي صلى الله عليه

وسلم كان يتم في السفر ، ويقصر، وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق

عليها أصحابه نقلاً عنه ، وتبليغًا إلى أمته.

لم ينقل عنه قط أحد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعًا ، بل تواترت

الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه.

والحديث الذي يرويه زيد العمي ، عن أنس بن مالك قال: (إنا معاشر

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا

المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر) وهو

كذب بلا ريب، وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك ، والثابت عن أنس

إنما هو في الصوم.

ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون

فرادى؛ بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم، فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر ،

فهذا الحديث من الكذب، وإن كان البيهقي روى هذا ، فهذا مما أنكر عليه ، ورآه أهل

العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له، وإنه يحتج بآثار

لو احتج بها مخالفوه؛ لأظهر ضعفها وقدح فيها، وإنما أوقعه في هذا مع علمه

ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول

واحد من العلماء دون آخر ، فمن سلك هذه السبيل؛ دحضت حججه ، وظهر عليه

نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ، ويتأولها في كثير من

المواضع بتأويلات يبين فسادها؛ ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب

شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي؛ لكن

البيهقي ينقي الآثار ، ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي.

والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد

قيل: إنه مصحف ، وإنما لفظه:(كان يقصر ، وتتم هي) بالتاء ، (ويفطر وتصوم

هي) ؛ ليكون معنى الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه ، فإنه معروف

عن عبد الرحمن بن الأسود، لكنه لم يحفظ عن عائشة.

وأما نقل هذا الآخر عن عطاء ، فغلط على عطاء قطعًا ، وإنما الثابت عن

عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا كما رواه غيره ، ولو كان عند عائشة

عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ لكانت تحتج بها، ولو كان ذلك

معروفًا من فعله؛ لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون

خلفه دائمًا في السفر ، فإن هذا ليس مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال

كقيامه بالليل ، واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه، بل أمور

السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة؛ لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره ،

فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا

أراد سفرًا أقرع بين نسائه ، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه) .

فإنما كان يسافر بها أحيانًا ، وكانت تكون مخدرة في خدرها ، وقد ثبت عنها

في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هانئ عن المسح على الخفين قالت: (سل

عليًّا ، فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في

السفر ، فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم

لم يكن يصليها في الحضر ، ولا في السفر إلا إمامًا بأصحابه، إلا أن يكون له عذر

من مرض ، أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب؛ ليصلح بين أهل قباء ، وكما غاب

في السفر للطهارة ، فقدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم الصبح ، ولما حضر

النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك ، وصوبه.

وإذا كان الإتمام إنما كان ، والرجال يصلون خلفه ، فهذا مما يعلمه الرجال

قطعًا ، وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، فإن ذلك مخالف لعادته في عامة

أسفاره فلو فعله أحيانًا؛ لتوفرت هممهم ، ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح

على الخفين لما فعله، وإن كان الغالب عليه الوضوء ، وكما نقلوا عنه الجمع بين

الصلاتين أحيانًا، وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص، مع

أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض ، فإن الناس لا يشعرون

بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر ، فإن هذا أمر يرى

بالعين لا يحتاج إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر ، وخروج وقت

المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل. ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان

في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وقد روي

أنه كان يجمع كذلك ، فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعًا لو فعل ذلك في

السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شهة ولا نزاع، بل كان ينقله المسلمون ، ومن جوز

عليه أن يصلي في السفر أربعًا - ولا ينقله أحد من الصحابة، ولا يعرف قط إلا

من رواية واحد مضعف ، عن آخر ، عن عائشة، والروايات الثابتة عن عائشة لا

توافقه ، بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه

وسلم صلى الفجر مرة أربعًا؛ لصدق ذلك ، ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار

التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد ، مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ،

ويعلم أنه لو كان حقًّا؛ لكان ينقل ، ويستفيض.

وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى:

(أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق

ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقًّا؛ لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ،

وذلك مثل ما روى أبو داود الطيالسي ، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن

أبي نضرة قال: سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه

وسلم في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا

قط، إلا صلى ركعتين حتى يرجع ، وشهدت مع رسول الله صلى عليه وسلم حنينًا ،

والطائف؛ فكان يصلي ركعتين، ثم قال: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم

سفر) ، ثم حججت مع أبي بكر، واعتمرت ، فصلى ركعتين ركعتين، ثم قال: (يا

أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) ، ثم حججت مع عمر ، واعتمرت ، فصلى

ركعتين، وقال: أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر ، ثم حججت مع عثمان واعتمرت ،

فصلى ركعتين ركعتين ، ثم إن عثمان أتم.

فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في

السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة

إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين.

وأما ما ذكره من قوله: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) ، فهذا

مما قاله بمكة عام الفتح ، لم يقله في حجته، وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية.

وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده، رواه البيهقي من

طريقه ولفظه: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا إلا صلى ركعتين

حتى يرجع ، ويقول:(يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين فإنا قوم سفر) وغزا

الطائف وحنين فصلى ركعتين، وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت مع

أبي بكر واعتمرت فكان يصلي ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان

يصلي ركعتين.

فلم يذكر قوله: إلا عام الفتح، قبل غزوة حنين والطائف، ولم يذكر ذلك عن

أبي بكر، وعمر، وقد رواه أبو داود في سننه صريحًا من حديث ابن علية: حدثنا

علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: عرفت مع النبي

صلى الله عليه وسلم، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي

ركعتين يقول: (يا أهل البلد صلوا أربعًا؛ فإنا قوم سفر) ، وهذا إنما كان في

غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى، وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة

في الحج ركعتين، ثم قال عمر بعدما سلم: أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر.

هذا، ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من

الصحابة، لا ممن نقل صلاته، ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي

على نقله، مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون: إن المكيين يقصرون الصلاة

بعرفة، ومزدلفة، ومنى. أفيكون كان معروفًا عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم

خلاف ذلك؟ أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع ، ولا يجهله أحد ممن حج مع

النبي صلى الله عليه وسلم؟

وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال: (صلينا مع النبي صلى الله

عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين) . حارثة هذا خزاعي وخزاعة

منزلها حول مكة.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع

ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع ، وقال: صليت مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت

مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.

وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل: إنه كان؛ لأنه تأهل بمكة ، فصار مقيمًا.

وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذئب، أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات،

فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت ، وإني سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تأهل في بلد ، فليصل صلاة مقيم بمكة

ثلاثة أيام ، ويقصر الرابعة) ، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو

لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك، فإن عثمان كان من المهاجرين، وكان المقام

بمكة حرامًا عليهم.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة

بعد قضاء نسكه ثلاثًا، وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب

عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة؛ فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطنًا

بمكة إلا أن يقال: إنه جعل التأهل إقامة لا استيطانًا ، فيقال: معلوم أن من أقام

بمكة ثلاثة أيام، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يمكنه أن

يقيم بها أكثر من ذلك؛ لكن قد يكون نفس التأهل مانعًا من القصر، وهذا أيضًا بعيد ،

فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائها بمنى،

وأيضًا فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون اقتداءً به، ولو كان عذره

مختصًّا به؛ لم يفعلوا ذلك ، وقيل: إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع.

وهذا أيضًا ضعيف، فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

أجهل منهم في زمن عثمان، ولم يتمم الصلاة، وأيضًا فهم يرون صلاة المسلمين

في المقام أربع ركعات، وأيضًا فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم،

فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك، وعروة قد قال: إن

عائشة تأولت كما تأول عثمان ، وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها [1] .

أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر، ورأوا أن الدنيا لما اتسعت

عليهم لم يحصل لهم من الشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعًا، كما قد

جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ أن ذلك كان لأجل حاجتهم إذ

ذاك إلى هذه المتعة ، فتلك الحاجة قد زالت.

تمت

جاء في آخر النسخة التي طبعنا عنها هذه الرسالة ما نصه:

هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة، للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكان

المنقول عنها يقول كاتبها: إنه نقلها من نسخة بخط ابن القيم رحمهم الله ، وقد وقع

الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية،

وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي، والحمد لله رب العالمين.

_________

(1)

سبق مثل هذا الكلام أيضًا في الصفحة 42 من هذا الكتاب فانظره.

ص: 334

الكاتب: محمد رشيد رضا

مسألة القبور والمشاهد عند الشيعة

مناظرة بين عالم شيعي، وعالم سني

من المعلوم في كتب التاريخ أن رفع بناء قبور آل البيت وغيرهم من

الصالحين، وبناء القباب عليها، وإيقاد السرج والقناديل فيها، وجعلها مساجد

يصلى فيها ، وشعائر يحج إليها خلافًا للأحاديث الصحيحة الزاجرة عن ذلك لعمل

الصدر الأول - كل ذلك مما ابتدعه الشيعة الباطنية والظاهرية ، وقلدهم فيه

بعض المنتسبين إلى السنة من الملوك ، والسلاطين الجاهلين ، ولا سيما الأعاجم

منهم كالجراكسة ، والترك ، ومن مشايخ الطرق الصوفية.

ويعلم قراء المنار أننا منذ أنشأناه في أواخر سنة 1315 إلى الآن ، ونحن

ننكر هذه البدع ، ونشنع على أهلها في مصر وغيرها من غير تعرض لذكر

الشيعة؛ لأن هؤلاء أشد الفرق الإسلامية تعصبًا وجدلاً ، فتوجيه الكلام إليهم قلما

يفيد إلا زيادة الشقاق الذي نسعى لإحالته وفاقًا، ولكن نشرنا في المجلد الثاني ،

والمجلد الثالث عشر من المنار رسالتين لسائحين من أهل العلم (أولاهما) عن حال

العراق تعرض فيها لدعاة الشيعة هنالك ، وذكر مسألة المتعة ، (والثانية) من

البحرين بحث فيها مرسلها في مسألة القبور والمشاهد في مذهب الشيعة ، فما زلنا

نسمع الطعن في المنار من أجل نشرهما قولاً وكتابة، وقد ألف بعض علمائهم في

سورية كتابًا سماه: (الشيعة والمنار) ، فعرقل المتعصبون منهم جهادنا في سبيل

التأليف بينهم ، وبين أهل السنة.

وجملة القول: إن بعض علمائهم المتعصبين جعلوا المنار خصمًا للشيعة ،

ولو اشتغلنا بالرد والإنكار على الشيعة عشر معشار اشتغالنا بالبدع المنتشرة في

البلاد التي يعد أهلها من متبعي السنة؛ لقضينا كل عمرنا في الجدل الذي يبغضه

الله تعالى ، ويبغض أهله.

وكنا نود أن نرى كتابة لبعض علمائهم المعاصرين يبين فيه أدلتهم في هذه

المسألة ، ولا نعثر عليها حتى زارنا في هذا الشهر عالم سني كان في العراق، وقعت

بينه وبين أحد علماء الشيعة مناظرة شفاهية فيها تلتها مناظرة قلمية اطلعنا عليها؛

فاستأذناه في نسخها ونشرها؛ فأذن لنا، وهي مبنية على الرسالة الثانية من الرسالتين

اللتين أشرنا إليهما آنفًا.

ونبدأ بنشر ما كتبه العالم الشيعي ، وهو الأستاذ الشهير (سيد مهدي الكاظمي

القزويني) ، ثم نقفي عليها برد العالم السني ، وهو (الأستاذ الشيخ محمد بن عبد

القادر الهلالي) ، ولكننا نعلق في الحواشي بعض الفوائد قبل الاطلاع على الرد كله ،

ونشره.

***

رسالة العالم الشيعي [*]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،

وعترته الطاهرين، وعلى صحبه المنتخبين [1] ، وعلى التابعين لهم بإحسان.

ثم تحية وسلام على جناب العام الفاضل الشيخ محمد بن عبد القادر الهلالي

سلمه الله تعالى ، ووفقه معنا ، وسائر المؤمنين لما يرضيه.

أما بعد ، فقد تناولنا بكمال الاحترام كتابكم الكريم المؤرخ لأربع خلون من

شعبان ، وسبرنا ما أوعزتم إليه مما نشره المنار عن أحد مكاتبيه في الجزء الرابع

من المجلد الثالث عشر في صفحة 311 ، وتلقينا سؤالكم عن الحقيقة بتمام السرور ،

والانشراح رغبة بكشف الالتباس ، ورفعًا لسوء التفاهم بين المسلمين، ولذا تتبعنا

كلام المكاتب فقرة فقرة ، وإن استلزم ذلك طولاً في البحث ، لكنكم ستسامحوننا عليه

إن شاء الله تعالى.

قال المكاتب: والعجب من علمائهم - يعني الشيعة - أنه لا يوجد كتاب من

فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور ، والسرج عليها ، وتجديدها ، وبناء

المساجد عليها. ثم لا نرى منهم منكرًا لذلك ، بل يعدونه من أفضل القربات انتهى.

نقول: كان على المكاتب أن يذكر على الأقل كتابًا واحدًا من كتب الشيعة في

الفقه مصرحًا فيه بعدم جواز هذه الأمور؛ ليكون شاهدًا على صدقه فيما ادعاه،

وأنى له بذلك؟ وهذه كتب الشيعة منتشرة في غاية الكثرة لم نجد في واحد منها ما

نسبه إليهم.

قال المكاتب استدلالاً بما قال الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر

المتوفى في أواسط القرن الثالث عشر على عدم جواز البناء على القبور عند ذكر

صاحب المتن: إنه لا يجوز. انتهى.

نقول: سبحانك اللهم مغفرة وعفوًا، وعجبًا من مدعي العلم كيف يحرف الكلم

عن مواضعه؟ ولم ينقله على وجهه، إن نص عبارة كتاب الجواهر هكذا: ولما

فرغ (يعني المحقق الحلي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة مصنف كتاب شرائع

الإسلام في الفقه ، وهو المتن الذي شرحه الشيخ محمد حسن النجفي ، وسمى شرحه:

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) من الكلام في المسنونات شرع في الكلام

في المكروهات ، فمنها:(إنه يكره فرش القبر بالساج إلا لضرورة) ، ثم ذكر

جملة من المكروهات إلى أن قال: (ومنها: تجصيص القبور) .

هذا نفس المتن ، فهل يتوهم أحد من هذه العبارة عدم جواز البناء على القبور

بعد تصريح المصنف بأنه يكره تجصيصها؟ حاشا ، وكلا.

ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر المتن المزبور أخذ يستدل على كراهة

التجصيص ، ومن جملة ما استدل به: الحديث المروي عن علي بن جعفر رضي

الله عنه قال: سألت أبا الحسن موسى - يعني الكاظم رضي الله عنه عن البناء

على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: (لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا

تجصيصه ولا تطيينه) .

أما وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص ، فهو أن الجلوس على القبر

ليس بمحرم عندنا ، فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة؛ للزوم تساوي

المتعاطفات في الحكم [2]، فقوله رضي الله عنه: لا يصلح؛ إنما يريد به الكراهة ،

لا التحريم بقرينة ذكر الجلوس الذي ليس بحرام.

ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث إلا قوله: لا يصلح البناء على القبر ،

وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث دال على التحريم ، ولا شك أن إسقاط

بعض الحديث خيانة في النقل، على أن لفظ الحديث:(لا يصلح) ، وهو بنفسه

لا يدل على التحريم؛ لأن نفي الصلاح في شيء لا يستلزم ثبوت الفساد فيه، فلا

تحريم إذن.

ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة التجصيص قول الصادق

رضي الله عنه: كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر؛ فهو ثقل على الميت.

وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن المفهوم منه: كراهة أن يهال

على الميت من غير تراب القبر ، فالصادق رضي الله عنه كأنه قال: لا يهال على

القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره ، ولا يؤتى بشيء من غيره ،

فيوضع في القبر [3] إلا أنه يمكن أن يفهم منه كراهة تجصيصيه (أيضًا) ؛ لأن

الجص من غير تراب القبر ، ولهذا جعل صاحب الجواهر هذا الحديث مشعرًا

بكراهة التجصيص لا دليل عليه ، ومعلوم أن الإشعار نظير الإيماء ، والتلميح ليس

من دلالات الألفاظ ، ومفهوماتها الظاهرة منها [4] .

وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم

في هدم القبور ، وكسر الصور ، وسنذكر فيما يأتي معنى هذا الحديث إن شاء الله ،

والمهم هنا بيان أن صاحب الجواهر ذكر هذه الأحاديث استدلالاً على كراهة

تجصيص القبور حسب ما صرح به الماتن ، ونحن وضحنا وجه الاستدلال بها.

ثم قال الماتن: ومنها؛ أي: من المكروهات (تجديد القبور بعد اندراسها) ،

وأخذ صاحب الجواهر يستدل على كراهة ذلك بما لا حاجة إلى ذكره؛ لأن مكاتب

المنار لم يتعرض له [5] ، ثم إنه لا الماتن ولا الشارح تعرض لمسألة السرج على

القبور؛ فيفهم من ذلك أنها غير مكروهة عندهما ، ولهذا أهملا ذكرها [6] ، وسائر

كتب الشيعة على هذا النسق ، فليرجع إليها من شاء ، فكيف قال مكاتب المنار: إنه

لا يوجد كتاب من فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور ، والسرج عليها ،

وتجديدها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم [7] ، ولا عجب منه ، فإنه لما تظاهر

بالتمدن الغربي ، وأدخل نفسه في عداد المتنورين بزعمه ، وتراءى للناس بمظهر

بيان الحقائق؛ سولت له نفسه أن قارئ كتابه لا يتهمه بالافتراء على تحريف كلمات

العلماء ، وساق الأحاديث على غير مساقها بعد أن لعب بها [8] كل ذلك؛ ليشوه

وجه الشيعة ، وسمعتهم عند من لم يعرف حقيقة الحال، ولم يدر ، وليته درى بأنه

سود بذلك صحيفة تاريخه وتاريخ المنار، فأين الكراهة من التحريم؟ وأين تجصيص

القبور أو البناء عليها من البناء الذي قصد التشنيع به كالقباب وغيرها [9] ؟ فإن

من الواضح أن البناء المذكور في حديث الكاظم عليه السلام سؤالاً وجوابًا؛ إنما هو

بناء نفس القبر ، وهو الذي لا يصلح كما يشهد به قوله في الحديث: (ولا الجلوس

عليه ، ولا تجصيصه ، ولا تطيينه) ، فهل يفهم من هذه الكلمات غير نفس القبر؟

وكم من فرق بين بناء نفس القبر [10] ، وبين القبة المبنية على أساسات لا دخل لها

بالقبر أصلاً.

قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكلينى عن سماعة قال: سألت

الصادق رضي الله عنه عن زيارة القبور ، وبناء المساجد عليها ، فقال: (أما

زيارة القبور ، فلا بأس ، ولا يبنى عليها مساجد) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور

أنبيائهم مساجد) انتهى.

نقول: يوجد فيما نقله المكاتب من حديث سماعة بعض تغييرات لا يختلف

بها المعنى ، ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة بصورة

توهم أن الصادق رضي الله عنه استشهد به على قوله، مع أن الحديث النبوي لا

وجود له في كتاب الكليني أصلاً، نعم توجد روايته مرسلة في بعض كتب الشيعة.

وكيف كان ، فليعلم أن جميع ما جاء من بناء المساجد ، أو اتخاذها على

القبور، أو فيها، أو عندها حسب اختلاف النقل؛ إنما يراد به النهي عن جعل

نفس القبر مسجدًا؛ أي: موضعًا يسجد عليه ، وليس المراد بالمسجد ما هو المعروف

بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه؛ لأنه حينئذ لا يكون معنى معقول لبناء

المسجد على القبر ، أو اتخاذ المسجد عليه، وهل يتصور في الإمكان بناء مسجد

على نفس القبر؟ ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي: (لا تتخذوا قبري قبلة ،

ولا مسجدًا) ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه

المصلي ولا يستقبل القبلة ، ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه ، فإن الله

لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ومن المعلوم أن ليس لليهود مساجد

بالمعنى المعرف عند المسلمين، فالمقصود إذن بيان أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم

مواضع يسجدون عليها [11] .

وفي صحيح البخاري: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، وذكر

حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لعن الله

اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ولولا ذلك لأبرز قبره غير أني

أخشى أن يتخذ مسجدًا) . انتهى

فهل يفهم من هذا الحديث إلا اتخاذ نفس القبر موضعًا يسجد عليه؟ قال في

فتح الباري: قوله: (لأبرز قبره) أي: لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم

يتخذ عليه الحائل ، فهل يوجد أصرح من ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس

القبر لا يجوز، وهذا المعنى هو المنهي عنه في جميع أحاديث الباب، وربما حملها

بعض العلماء على إرادة السجود لنفس القبور؛ تعظيمًا لها ، وهذا المعنى وإن

كان غير جائز أيضًا؛ لأنه عبادة للقبور إلا أن الأحاديث ليست مسوقة للنهي عن

ذلك ، بل للنهي عن السجود على نفس القبر ، وسنذكر أقوال العلماء بالنسبة إلى

هذا المعنى فيما يأتي إن شاء الله.

وتوجد (أيضًا) معان ثلاثة غير المعنى الذي قررناه إلا أنه لا يمكن تفسير

الأحاديث بواحد منها ، (أحدها) أن يراد النهي عن وصل المساجد بمواضع القبور ،

وهذا التأويل خطأ فاحش؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل

بموضع قبره الشريف في زمن الصحابة والتابعين ، فكيف يدعى أن ذلك منهي

عنه؟ وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين.

(ثانيها) أن يراد النهي عن أن يقوم المصلي حول القبر ، ويسجد على

الأرض قريبًا من القبر، وهذا التأول أيضًا خطأ لا يصح حمل الأحاديث عليه؛

لأنه لا ريب في أن البقعة المتضمنة لقبر نبي أو إمام عادل أو ولي لله تعالى أو

غيره ممن له عند الله منزلة جليلة ، وجاه عظيم تكون أشرف ، وأفضل من

غيرها؛ لنسبة شرف المدفون فيها ، وفضله، قال النواوي في شرحه لصحيح مسلم

في باب فضل الصلاة بمسجد في مكة ، والمدينة: قال القاضي عياض: (أجمعوا

على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض) ، ولا ريب

أيضًا [12] في أن الصلاة ومثلها الدعاء وقراءة القرآن وسائر الأذكار والأعمال الشرعية في الأماكن الشريفة تكون أقرب إلى قبولها عند الله تعالى [13] ؛ ولهذا

صارت الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره ، ولأجل الحصول على

هذا الفضل كان السلف الصالح وأئمة المسلمين حتى في زماننا هذا يصلون ويدعون ، ويتضرعون إلى الله تعالى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن صفوف

الصلاة تحاذي نفس القبر الشريف [14] .

(ثالثها) أن يراد النهي عن إنشاء المساجد ، واتخاذها حول القبور ، وهذا

التأول خطأ أيضًا؛ لأنه لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله تعالى ببناء مسجد

تقام فيه الصلوات في تلك البقاع الشريفة مع ما ورد من أن من بنى مسجدًا؛ بنى

الله له بيتًا في الجنة ، وهو حديث عام لا يختص ببقعة دون بقعة ، ولا بزمان دون

زمان، بل بناؤه وإنشاؤه في البقاع الشريفة أولى؛ لكونه حينئذ يشتمل على جهتين من

الشرف شرف البقعة ، وشرف المسجدية [15] ، ففي فتح الباري في باب هل تنبش

قبور مشركي الجاهلية قال البيضاوي [16] : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون

لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ، ويجعلونها قبلة يتجهون في الصلاة نحوها واتخذوها

أوثانًا؛ لعنهم - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنع المسلمين عن مثل

ذلك ، فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح ، وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم

له ، ولا التوجه نحوه ، فلا يدخل في ذلك الوعيد انتهى.

وفي الكتاب المذكور في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي

الأرض مسجدًا وطهورًا) قال: وإيراده - يعني حديث جابر - هنا يحتمل أن

يكون أراد أن الكراهة في الأبواب المتقدمة ليست للتحريم؛ لعموم قوله صلى الله عليه

وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا) أي: كل جزء منها يصلح أن يكون مكانًا

للسجود ، أو يصلح أن يبنى فيه مكان للصلاة ، ويحتمل أن يكون أراد أن الكراهة

فيها للتحريم ، وعموم حديث جابر مخصوص بها ، والأول أولى؛ لأن الحديث

سيق في مقام الامتنان ، فلا ينبغي تخصيصه انتهى [17] .

وحيث تبين خطأ تأويل الأحاديث بأحد تلك المعاني الثلاثة؛ تعين أن يكون

المراد ما قررناه أولاً ، وهو جعل نفس القبر موضعًا يسجد عليه ، أو قبلة يصلى

إليها ، وهذا المعنى هو المنهي عنه بتلك الأحاديث حسب ما شرحناه، لكن بعض

العلماء تأولها بالسجود لنفس القبور تعظيمًا لها كما تقدم نقله عن البيضاوي.

وقال النواوي في شرح صحيح مسلم في باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد: قال

العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا

خوفًا من المبالغة في تعظيمه ، والافتتان به ، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى

لكثير من الأمم الخالية ، ثم ذكر علة زيادة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

وإدخال قبره فيه ، وقال: بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهر

في المسجد ، فيصلي عليه العوام ، ويؤدي إلى المحذور. انتهى.

وفي فتح الباري في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ، ويتخذ مكانها

مساجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ اليَّهُود اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبَيَائِهِمْ

مَسَاجِدَ) ، قال: إن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ،

ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية ، وجرهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول من اتخذ أمكنة

قبورهم مساجد بأن تنبش ، وترمى عظامهم ، انتهى.

نقول: إن ما ذكره هؤلاء في تأويل هذه الأحاديث غير مفهوم منها ، ولا

ظاهر من سياقها، وعسى أن يكونوا لم يهتدوا إلى المعنى الذي قررناه، مع أنه في

غاية الظهور، فتأولها بذلك [18] وعلى أي حال، فلا ريب في أن السجود للقبور

تعظيمًا لها لا يجوز ، بل هو كفر وشرك؛ لكونه عبادة ، وسجودًا لغير الله جل وعلا،

ولا يتصور صدور ذلك من مسلم.

وإذ شرحنا معاني الأحاديث ، فليفصح لنا مكاتب المنار عن جهة انتقاده على

الشيعة [19] .

إن زعم أنهم يسجدون للقبور تعظيمًا لها؛ قلنا: سبحانك اللهم هذا بهتان

عظيم {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم:

90) ، وإن زعم أنهم في صلواتهم لله يسجدون على قبور أئمتهم؛ كذبه الوجدان ،

مع أن قبور الأئمة رضي الله عنهم محاطة بصناديق ، وشبابيك تمنع من وصول

أحد إلى نفس القبر، وإن زعم موافقة عمل الشيعة لأحد المعاني الثلاثة المتقدمة؛

فقد بينا أن ذلك غير منهي عنه ، ولا محذور فيه [20] بل هو راجح شرعًا ، وأهل

السنة لم يزالوا عاملين به ، فهم مشاركون للشيعة في ذلك [21] مضافًا إلى أنا لم نجد

أحدًا بنى مسجدًا حول قبر من القبور المشهورة [22] .

نعم إن الشيعة يصلون ، ويدعون ربهم ، ويطلبون منه مغفرة ذنوبهم ،

ويتضرعون إليه في مشاهد قبور أئمتهم رضي الله عنهم ، لكن مجرد الصلاة ،

والدعاء ، ونحوه لا يصيرها مساجد [23] ، ولو أن أحدًا واظب على أن يصلي ،

ويدعو ، ويقرأ القرآن مدة حياته في مكان خاص من بيته؛ فإن ذلك المكان

بالضرورة لا يصير مسجدًا بكثرة العبادة فيه [24] ، وحينئذ ما وجه تعجب مكاتب

المنار من علماء الشيعة ، وإنه لا يرى منهم أحدًا منكرًا لذلك ، فليصرح برأيه ، فإن

أي المعاني المتقدمة يجب في نظره أن ينكره علماء الشيعة؟ هل المعنى الذي لم

يرتكبه حتى الجاهل من الشيعة ، بل لا يمكن ارتكابه ، وهو السجود على نفس

القبر؟ أو أحد المعاني الثلاث التي بعضها لا وجود له أصلاً ، وبعضها مشترك

العمل بين الشيعة وأهل السنة ، وهو عمل راجح شرعًا وعقلاً ، ولو أنه فهم

معاني أحاديث بناء المساجد ، واتخاذها على القبور ، وراجع وجدانه في ذلك؛ لما

تورط في هذا الخطأ الفاحش [25] ، وأعجب منه أن صاحب المنار نشر هذا الخطأ

مع ادعائه التبحر في المعارف [26] .

أما الحديث الذي وعدنا فيما سبق ببيان معناه ، وهو المروي عن أمير

المؤمنين رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور

وكسر الصور.

فليس فيه بيان الموضع المبعوث إليه ، ولا بيان تلك القبور التي بعثه في

هدمها ، لكن متن الحديث يرشدنا إلى أن الموضع كان في بلاد المشركين يومئذ ، أو

من بلادهم ، وأن القبور قبورهم ، وأن الصور المجعولة على القبور ، أو حولها إن

لم تكن هي الأصنام التي يعبدونها؛ فهي التماثيل التي يعملونها مثالاً لعظمائهم ،

ووجدوا فيها ، أو حولها صورهم ، وتماثيلهم في مصر ، في سورية ، في نينوى ،

في العراق، ومن المعلوم أن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قبور

المسلمين مشيدة بالبناءات الصخمة حتى يبعث من يهدمها، ولم يكن المسلمون

يعملون الصور ، والتماثيل كما يشهد به التاريخ [27] .

ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عنه

رضي الله عنه قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته.

ولا شك أن التمثال من صنع المشركين ، أما تسوية القبر فهو تعديله

وتسطيحه ، يعني إذا وجدت قبرًا مشرفًا مسنمًا؛ فسوه؛ أي: عدله وسطحه ، ففي

صحيح مسلم حديث أبي علي الهمداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم

برودس ، فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوي ، وقال: سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. قال النواوي في شرحه: قوله: يأمر بتسويتها

وفي الرواية الأخرى: ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته ، فيه أن السنة أن القبر لا يرفع

على الأرض رفعًا كثيرًا ، ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ، ويسطح ، انتهى محل

الحاجة منه ، وأشار إليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المجلد الأول من كتابه

(منهاج السنة) في صفحة 546 مستدلاًّ به للشافعي ، فإنه بعد أن ذكر أن مذهب أبي

حنيفة ، وأحمد أن تسنيم القبور أفضل قال: والشافعي يستحب التسطيح؛ لما روي

من الأمر بتسوية القبور ، ورأى أن التسوية هي التسطيح انتهى. والحق مع الشافعي

في ذلك ، وليس هو رأيًا رآه كما زعمه الشيخ ، بل التسوية في اللغة هي التعديل ، في المصباح المنير: سويته عدلته وملوكهم ، ويشهد بذلك ما نقرؤه في كثير من

الصحف والمجلات عما يستخرجه علماء الآثار من الأحافير التي عثروا فيها على

كثير من قبور الملوك القدماء. وفي مختار الصحاح: سويت الشيء تسوية فاستوى ،

ثم قال بعد ذلك: واستوى الشيء اعتدل ، وحينئذ فتسوية القبور عبارة عن تعديلها ،

ولا معنى لتعديلها إلا تسطيحها ، وهو الذي فهمه الشافعي من لفظ الحديث، وتعقبه

النواوي في كلامه المتقدم، ونطقت به اللغة ، وليس معنى تسوية الشيء قلعه وهدمه

قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر: 29) ، {فَخَلَقَ

فَسَوَّى} (القيامة: 38)، {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} (النازعات: 28) ،

{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} (البقرة: 29) ، وبمعناه كثير من كلام الفصحاء [28]

فبأي وجه يزعم من ليس له قدم راسخة في العلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم

القباب والبناءات التي تكون حول قبور الأنبياء والأئمة والشهداء والصالحين ،

ومع أن هذه لم تكن مشيدة في زمانه حتى يأمر بهدمها ، هل تقاس بقبور المشركين ،

وبالتماثيل والصور؟ حاشا وكلا ، فإن هذا من أقبح القياسات وأشنعها مضافًا إلى أن

ما عرض به مكاتب المنار من القباب ، والبناءات المعتمدة على أساسات لا دخل لها

بالقبور أصلاً ، كما يشاهده العيان كانت مشيدة منذ عدة قرون بمرأى من المسلمين ،

ومسمع لم ينكره أحد منهم حتى الذين رووا حديث أبي الهياج الأسدي؛ لعلمهم بأن هذا

ونحوه إنما ورد في المعنى الذي ذكرناه [29] ، ولكن جاء بعدهم قوم لم يتدبروا معاني

الأحاديث ، ولم يتفطنوا لما عليه أسلافهم؛ فشددوا النكير على تشييد القباب والبناءات

حول القبور زعمًا منهم أنهم فهموا من الأحاديث ما لم يفهمه الأولون الراسخون في

العلم ، وأنهم وصلوا إلى ما لم يصل إليه أئمة المسلمين ، وهيهات ذلك مع أن هؤلاء

ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية ،

ومعرفة الحلال والحرام بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد ، والأخذ بقول

أحد المذاهب الأربعة [30] .

ثم وصلت النوبة إلى مكاتب المنار فلفق أقاويل طعن بها على الشيعة بزعمه ،

ونشرها المنار مستحسنًا لها ، وقد فات المنار ، ومكاتبه أن يَطْعَنا بمثلها على أهل

السنة حيث شيدوا كالشيعة بناءات القبور ، وقبابها منذ أكثر من تسعمائة سنة [31] ،

ومن المعلوم بالوجدان أن القبور التي شيدها أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة

المنورة والطائف ومصر والشام والعراق ، وغيرها من الأقطار هي أكثر مما شيده

الشيعة سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين علي هو هارون الرشيد العباسي

خليفة المسلمين في عصره ، وتابعه على ذلك سائر الخلفاء حتى عبد الحميد خان

التركي ، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته كلما مست الحاجة إلى تجديدها.

فليت شعري! إن المنار ، ومكاتبه كيف نظرا بعين السخط إلى ما شيده

الشيعة ، وأغمضا عينًا عما شيده أهل السنة ، أو نظرا إليه بعين الرضاء [32] ، ثم

نقول: يحق للشيعة ، بل ولكل مسلم أن يعدوا تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم

القربات.

وايم الله إن مكاتب المنار صدق بهذه النسبة إليهم، وهي بكونها فضيلة أحرى

من كونها رذيلة، وهو أراد أن يذم؛ فمدح، وأن يشنع؛ فبجل، وذلك أن الجهات

القاضية برجحان زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبور أهل بيته الذين

وجبت مودتهم على كل مسلم بآية القربى تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر

الأقطار في مشاهد قبورهم ، والكون فيها للصلاة ، وسائر العبادات، وذلك موجب

لإعداد محال واسعة حول القبور تكون مجمعًا للزائرين ، وهي تفتقر إلى بناءات

فخمة واقية لنفس القبور ، والفرش التي حولها ، وللقناديل المسرجة ليلاً لقراءة

القرآن ، والأدعية في المصاحف ، والصحف، وحافظة لمن يزور تلك القبور من

الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح وتغيرات الجو ، ونحو ذلك؛ ليتمكن الزائر

أن يقوم بأنواع العبادات لله تعالى ، فإن بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيوت

أهل بيته صلى الله عليه وسلم من أعاظم البيوت التي أمر الله أن ترفع ، ويذكر

فيه اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك

البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال حياتهم فكذا قبورهم ، وإن تعظيم

بيوتهم في حال حياتهم؛ إنما هو لوجودهم فيها ، فكذا قبورهم، ولأنهم أحياء

عند ربهم يرزقون.

ومن هذا يظهر رجحان احترام قبور الشهداء والصديقين والعلماء والصالحين

خصوصًا بعد أن ورد في الحديث (إن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًّا) .

ثم لنفرض أنه لا دليل على رجحان تلك البناءات شرعًا ، لكنها مباحة ، فإن

الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المجلد الأول من كتابه (منهاج السنة) في صفحة

125 نقل عن الحنفية ، وعن كثير من الشافعية ، والحنبلية إباحة ما لم يرد فيه

نص شرعي، فإذا كان ذلك مباحًا عند هؤلاء العلماء من أهل السنة ، ولا محذور ،

ولا ضرر في وجوده ، فلماذا ينتقده مكاتب المنار؟ وإذا كانت تلك البناءات مباحة

في أنفسها ، فلماذا لا تكون راجحة بلحاظ ما يترتب عليها من الغايات الشريفة ،

والأعمال الجليلة التي ذكرناها من سائر العبادات لله جل شأنه.

وكيف لا يعد الشيعة تشييدها من أفضل القربات؟ وهل مسلم ينكر فضل

تلك الغايات المقصودة من تلك البناءات التي يضطر إليها الزائرون والمتعبدون؟

ولأجل أن الشيعة استندوا إلى ما ذكرناه ، ونحوه سوى أحاديثهم المستفيضة

جدًّا في رجحان ذلك؛ بذلوا أموالهم ، وأنفقوها في هذا السبيل سبيل العبادة لله تعالى ،

فقد أعد الله للمحسنين أجرًا عظيمًا، إذن فلا ينبغي من المنار ، ومكاتبه إن كان له

مكاتب [33] أن يوجها لومهما على الشيعة منذ قرون عديدة ، وإن زعما أنهم استندوا

إلى ما ذكرناه ونحوه ، فالحمد لله على الوفاق، وحينئذ لا وجه لتعجبهما من علماء

الشيعة، وإن زعما أنهم احترموها ، ولكن ليسألا أنفسهما عن استناد أهل السنة في

احترام القبور ، وتشييدها بغير مستند شرعي - فقد ضللا سلفهما ، وحاشا السلف من

ذلك، وإن زعما أنهم لم يحترموها ، فما وجه بنائها ، وتشييدها ، وتجديد عمارتها

طول هذه المدة، وكيف تعجبا من الشيعة ، ولم يتعجبا من أهل السنة؟ وما هذا

التحامل الذي لا يرتضيه كرم الأخلاق ، ولا أخوة دين الإسلام؟ فما بال الرجل

ينظر إلى الشعرة ، ولا شعرة ، ولا أقل في عين أخيه المؤمن ، ولا يرى الجذع

المعترض في عينه؟ قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:

10) ، وفي الحديث: (إن المؤمن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ، وإن المؤمن

للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، وبالختام نرجو أن تمعنوا النظر بالتأمل في

ذلك ، وإليكم الحكم بين الشيعة وبين المنار ومكاتبه؛ فأي الفريقين أهدى سبيلاً؟

وأيُّهما أحق بالنصيحة؟ وأيهما أولى بالمعذرة؟ كما أنا نرجو أن لا تنقطع سلسلة

مذاكرتكم معنا في الوقوف على الحقائق ، واستطلاع آراء الطرفين.

واقبلوا احترامنا لكم ، والحمد لله أولاً وآخرًا.

حرره سيد مهدي الكاظمي القزويني في 22 شعبان سنة 1345

(المنار)

إنما تعجلنا بتعليق بعض الحواشي الوجيزة على هذه الرسالة قبل نشر الرد

عليها من عالم السنة؛ لئلا يقرأها في المنار أحد من غير المشتركين ، فيعلق

بذهنه بعض مغالطاتها ، ثم لا يتفق له قراءة الرد عليها.

وقد علم منها أن أئمة آل البيت كسائر فقهاء السلف الصالح لا يبيحون هذه

البدع التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليها ، وإنما يتبع خلف الشيعة هذه

الآراء الواهية التي ذكرها عالمهم هذا من كون مكان الرجل الصالح أفضل من غيره ،

فتكون العبادة عنده أفضل! ! وهو رأي يصادم نص الرسول صلى الله عليه وسلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ننشر الرسالة بنصها على غلط ما فيها.

(1)

من عادة علماء الشيعة أنهم لا يذكرون الصحابة في مثل هذا المقام إلا مع وصف يقيدون به الصلاة ، أو السلام ، أو الرضى به، والمنتخبون هنا هم الذين يعدونهم من شيعة علي رضي الله عنه على أن الذين يزعمون أنهم ارتدوا منهم ، والذين يجزمون أن إسلامهم كان رياء كأبي سفيان ، ومعاوية لا يدخلون في عموم الصحابة إن صح ذلك عنهم؛ لأن شرط صفة الصحابي عند أهل السنة أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ، ويموت على ذلك ، وهم أولى بهذا الاشتراط.

(2)

المنار: إنما يصح هذا الاستدلال إذا كان ما ذكر مرويًّا عن الإمام الكاظم نفسه، ومذهبهم الذي هم عليه لا يصح أن يكون قيدًا لكلامه يحمل عليه؛ لأنه لم يكن مدونًا في عصره ، ولم يكن هو مقلدًا لهم فيه ، وهم مخالفون في هذه المسألة نفسها؛ لأن قوله بأنه مكروه شرعًا على تفسيرهم؛ يقتضي تركه ، وما هم بتاركيه.

(3)

هذا تحريف لكلمة الإمام مخالف للمتبادر منها ، وهو ما كان عليه جميع سلف الأمة قبل المذاهب، والتفرق، أعني تسوية القبور بالأرض ، وعدم البناء عليها مخالفة للكفار ، ولا معنى لعدم وضع حفنة، أو حفنات من التراب غير ما استخرج منه ، فهذا مما يجل الإمام عن النهي عنه؛ إذ لا فائدة فيه.

(4)

هذه دعوى باطلة ، فإن معنى أشعره بالشيء؛ جعله يشعر به من الشعور ، وهو العلم والدراية ، قال في الأساس: وما يشعركم ، وما يدريكم، ويستعمل في الفصيح فيما كان مسلكه دقيقًا ، أو خفيًّا ، والإمام الصادق من فصحاء المتقدمين ، لا من أصحاب اصطلاحات المتفقهين.

(5)

لكنه محجة عليهم ، فإن درس القبور من شرائع الإسلام ، ولو كان تشييدها إن صح مطلوبًا شرعًا لما صرحوا بكراهة تجديدها.

(6)

إهمال ذكرها لا يدل على شيء.

(7)

هذا ، وما بعده طعن لا يليق بالعلماء ، فإن صح أن مراسل المنار لم ير في كتبهم مسألة السرج ، فالأقرب أن تكون سبق قلم سببه صحة الأحاديث فيها ، وذكرها في كتب السنة مع ما سبقها.

(8)

إنه هو الذي لعب بنصوص الأئمة ، وحرفها كما علم مما أشرنا ، ومما نشير إليه ، ومن رد الأستاذ الهلالي الآتي.

(9)

الكراهة ليست بعيدة عن التحريم كل هذا البعد ، فكل منهما مذموم منهي عنه شرعًا إلا أن التحريم أشد ، ومكاتب المنار لم يصرح بلفظ التحريم ، فيستحق به كل هذا التقريع ، ويشرك المنار معه فيه ، ويشوه تاريخه.

(10)

النهي عن بناء القباب ثابت في الأحاديث الصحيحة ، ومنها قول الصادق الذي ذكره المكاتب ، وحرفه الأستاذ كغيره ، والغرض منه ، ومن النهي عن بنائها نفسها واحد ، وهو سد الشرك كما فعل أهل الكتاب.

(11)

قوله: فليعلم أن جميع ما جاء في بناء المساجد إلى هنا ، وما بعده باطل أصلاً ، ودليلاً كما ستعرفه في الرد عليه ، وأغربه دعواه أن أهل الكتاب يصلون على قبور أنبيائهم.

(12)

قوله: ولا ريب أيضًا ، هو من كلامه ، لا من كلام النووي ، وكان ينبغي له الفصل بينهما بكلمة انتهى ، أو علامة أخرى كما فعل في مواضع أخرى.

(13)

قوله هذا باطل من وجهين (أحدهما) : أن ما هو الأقرب إلى القبول عند الله تعالى لا يعلم إلا بنص من كتابه ، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعبدي لا مجال للرأي فيه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم صرح لنا بفضل الصلاة في المساجد الثلاثة على غيرها على نسبة لا مجال للرأي فيها، ونهى عن شد الرحال إلى غيرها ، فلا يقاس عليها غيرها ، (وثانيهما) أنه صلى الله عليه وسلم قد نهى ، وزجر عن تعظيم قبور الأنبياء والصالحين بالصلاة فيها ، أو إليها ، وتشريف بنائها، ووضع السرج عليها ، وهو موضوع المناظرة ، فكيف يقيس ما نهي عنه على ما أمر به ، وحكمة هذا النهي ظاهرة ، وهي أن الناس عبدوا الصالحين وقبورهم كما سيأتي بيانه.

(14)

ما عزاه إلى السلف الصالح ، وأئمة المسلمين باطل قطعًا لم يستطع ، ولا يستطيع أن يأتي بنص فيه ، وما عداهم لا قيمة لفعله ، ولا سيما بعد انتشار البدع ، ولا سيما أهل زماننا هذا.

(15)

هذه مغالطة ظاهرة البطلان؛ لأنها عبارة عن منع النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيص ما كان عامًّا من أقواله ، وسيأتي تفصيله ، ومسجد الضرار حجة من الله تعالى عليه ، وما ذكره عن البيضاوي عليه ، لا له ، على أن البيضاوي ليس شارعًا ، وذلك أن المسلمين فعلوا بمساجد الأنبياء ، والصالحين كما فعل أهل الكتاب من كل وجه وفاقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) إلخ ، وهو في الصحيحين ، وغيرها ، ولكن المتأولين ، والجدليين منهم يسمون عبادتها تبركًا ، ودعاء أصحابها من دون الله توسلاً كما سيأتي.

(16)

إن حديث الباب المذكور ، وما ذكره الحافظ في شرحه من الفتح حجة على هذا العالم الشيعي ، وهادم لتأويله الباطل في المسألة ، ولكنه لا ينقل من الكتب إلا ما يوافق مذهبه؛ لأن المذاهب عنده ، وعند سائر المقلدين المتعصبين هي أصل الدين ، والكتاب والسنة فرعان إن أيد المذهب قُبِلا ، وإلا حرفا بالتأويل.

(17)

قد أسقط الأستاذ الشيعي من نقله هنا عبارة صريحة في أن المراد بالعموم الأرض لذاتها قبل طروء ما يمنع صحة الصلاة عليها كالنجاسة ، ومثلها ، وسائر المنهيات ، وهل هذا إلا خيانة في النقل لأجل العصبة المذهبية؟ .

(18)

ما قاله هؤلاء هو معناها الذي فهمه السلف ، والخلف ، وليس تأولاً ، وما قاله هو عصبية لأفعال الشيعة المتأخرين باطل ، وبطلانه في غاية الظهور ، ولعله لذلك لم يخطر في بال غيره أن يكون مثله في التعصب الذي يخفي الحقائق ، وفي ضعف العلم باللغة العربية.

(19)

قد جعل شرحه الباطل للأحاديث المجهول لغيره أصلاً فرض أنه مسلم عند خصمه؛ فبنى احتجاجه عليه، وهو تحكم عجيب، ومنطق غريب.

(20)

لكن مكاتب المنار فهم من الأحاديث ما فهمه جماهير العلماء ، وهو ما نقله هو آنفًا عن الإمامين الحافظين النووي ، وابن حجر ، ولم يكن هو عالمًا بتأويل حضرته ، ولو علمه لما قلده فيه.

(21)

إن مكاتب المنار ينكر هذه المخالفة للإسلام لذاتها ، لا لصدورها عن الشيعة ، فمن شاركهم من المنتسبين إلى السنة فيها؛ فهو مثلهم.

(22)

قوله هذا مخالف للواقع.

(23)

، (24) بل يصيرها مساجد خاصة ، ولا يشترط في المسجد أن يكون عامًّا ، وقد عقد البخاري في صحيحه بابًا خاصًّا بمساجد البيوت.

(25)

ملخص هذا أن مكاتب المنار مخطئ؛ لأنه موافق لعلماء الحديث ، ومتبع للسلف الصالح رضي الله عنهم ، ومنهم أئمة آل البيت رضي الله عنهم ، ولكنه مخالف له ، وللخلف من الشيعة! ! فكهذا تكون الحجج ، وهكذا يكون العلم.

(26)

أين ادعى هذه الدعوة صاحب المنار؟ وهل ينافي التبحر في المعارف نشر رسالة لسائح فيها شيء من الخطأ؟ ولم توجد في الدنيا مجلة ، ولا جريدة تشترط في كل ما ينشر فيها لغير صاحبها أن يكون صوابًا في نفسه ، ولا في رأي صاحبها، دع اشتراط موافقة آراء المخالفين لهما إذا فرضنا أنهم يعلمونها، إن هذا النوع من تحكم التعصب غريب جدًّا! .

(27)

الحمد لله هذا حجة عليه ، وعلى شيعته.

(28)

المتبادر من تسوية القبور هو جعلها مساوية ، ومعادلة لسطح الأرض، ومنه قوله تعالى:

[لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ](النساء: 42) ، وقد تجاهل المعترض هذا المعنى ، وهو مراد ، وجاء بالشواهد على تسوية الخلق، وتشريفها رفع بنائها ، فقوله صلى الله عليه وسلم:(ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) ، ولا قبرًا مرتفع البناء إلا هدمته ، وسويته بالأرض ، وقد رووه عن الصادق بلفظ الهدم ، وهو مع ذلك ينكر أن يكون معناه الهدم ، فأين اتباعه للإمام الصادق؟ وقد نقل النووي عن (الأم) للإمام الشافعي: إن الأئمة بمكة كانوا يأمرون بهدم ما رفع من القبور ، وكان العلماء يقرونهم على ذلك عملاً بهذا الحديث، ولم ينقل المعترض هذا عن النووي مع علمه به؛ لأنه لا ينقل إلا ما وافق هواه ، وإن عاب ذلك على مكاتب المنار ، وأما تسوية الخلق ، فلها معنى آخر ظاهر.

(29)

هذا زعم باطل كأمثاله من مزاعمه؛ فقد أنكر علماء السنة ذلك في كل عصر؛ لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهدم القبور المعظمة عند من قبلنا ، وبطمس تماثيلهم إلا سدًّا لذريعة الاقتداء بهم كما صرحت به عائشة في حديث لعن أهل الكتاب الذين فعلوا ذلك قالت:(يحذر ما صنعوا) .

(30)

في هذا القول عدة أباطيل سيأتي بيانها في الرد عليه.

(31)

هذا كسابقه من مزاعمه كما ذكرنا في المقدمة لهذه المناظرة ، والتاريخ الذي ذكره حجة على أنها مبتدعة بعد القرون الثلاثة ، ومبطل لزعمه أنها كانت في زمن السلف الصالح ، والأئمة.

(32)

قد علم مما تقدم بطلان هذه الدعوى ، وما كان صاحب المنار متعصبًا لمذهب ، ولا لفرقة ، ولا طائفة على أخرى ، فيفعل ذلك ، وإنما يتبع قوة الدليل ، وليس منه عمل هارون ، ولا عبد الحميد.

(33)

هذه الجملة صريحة في التشكيك في عزو المنار تلك المقالة إلى مكاتب، وصاحب المنار أجل بفضل الله عليه من أن يكذب حقيقة ، أو تقية إن كان ثم حاجة إلى الكذب ، فكيف ولا حاجة إليه ألبتة، وإن كثيرًا مما في تلك الرسالة لم يكن يعلمه صاحب المنار قبلها.

ص: 349

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قرار النيابة العامة

في قضية الدكتور طه حسين

وصلت إلينا نسخة من هذا القرار فإذا هو يؤيد ما كتبه الكاتبون من علماء

الشرع ، ومن علماء القوانين ، ومن سائر طبقات العرافين من إثبات جهل طه

حسين فيما كتبه ، وطعنه في الدين الإسلامي ، وتكذبيه للقرآن ، وتقليده في ذلك

لبعض دعاة النصرانية، وإننا ننقل منها ما سبقتنا إلى تلخيصه جريدة الأخبار

الغراء للثقة بها قالت:

أصدر حضرة صاحب العزة محمد بك نور رئيس نيابة مصر قرارًا مسببًا عن

البلاغات التي قدمت ضد الدكتور طه حسين؛ لتأليفه كتابًا أسماه الشعر الجاهلي.

ويقع هذا القرار في ست عشرة صفحة من القطع الكبير ، وقد تناول في

مقدمته الإشارة إلى أسماء الأشخاص المبلغين ، وهم الشيخ خليل حسنين الطالب

بالقسم العالي بالأزهر ، وفضيلة شيخ الجامع الأزهر ، وحضرة عبد الحميد أفندي

البنان عضو مجلس النواب.

ثم أتى القرار على التهمة التي وجهها المبلغون إلى الدكتور ، وهي أنه طعن

في الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه:

(الأول) أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في أخباره عن

إبراهيم وإسماعيل.

(الثاني) ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها.

(الثالث) ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه على النبي صلى الله عليه

وسلم طعنًا فاحشًا من حيث نسبه.

(الرابعة) أنكر المؤلف أن للإسلام أولية في بلاد العرب؛ وأنه دين إبراهيم.

***

عن الأمر الأول

تناول القرار الكلام عن الأمر الأول باستفاضة واسعة ، وذكر أقوال الدكتور

طه في الشعر الجاهلي ولغة العرب ، وعاب طريقة المؤلف الاستدلال والاستنتاج

ثم انتقل إلى تعرضه لإبراهيم وإسماعيل ، فقال:

إن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في

أبحاثه حيث يبدأ بافتراض يتخيله، ثم ينتهي بأن يرتب عليه قواعد كأنها حقائق

ثابتة كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير ، وبين لغة عدنان، ثم في مسألة

إبراهيم وإسماعيل ، وهجرتهما إلى مكة ، وبناء الكعبة؛ إذ بدأ فيها بإظهار الشك ،

ثم انتهى باليقين [1] .

بدأ بقوله: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا

عنهما أيضًا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات

وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن

إبراهيم إلى مكة؛ ونشأة العرب المستعربة فيها) ، إلى هنا أظهر الشك؛ لعدم قيام

الدليل التاريخي في نظره كما تتطلبه الطرق الحديثة، ثم انتهى بأن قرر في كثير

من الصراحة قوله: (أمر هذه القصة إذن واضح ، فهي حديثة العهد ظهرت قبيل

الإسلام ، واستغلها الإسلام لسبب ديني) إلخ ، فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك

إلى اليقين؟ هل دليله هو قوله: (نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا

من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية

والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وإن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه

الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون في شمال البلاد العربية ،

ويبثون فيه المستعمرات) إلخ ، وإن ظهور الإسلام ، وما كان من الخصومة العتيقة

بينه ، وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة بين الدين

الجديد ، وبين ديانتي النصارى ، واليهود، وإنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن

تؤيدها صلة مادية إلخ.

إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تثبت الصلة بينه ،

وبين ديانة اليهود ، والنصارى، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب ، واليهود

لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام ، وبين اليهودية؛ فاستغلها لهذا الغرض ، فهل له

أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضًا بمثل هذه الحيلة؛ لتوثيق الصلة بين الإسلام ،

وبين النصرانية؟ وهل عدم اهتمامه هذا معناه عجزه أو استهانته بأمر

النصرانية؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن حتى باستغلال

التلفيق هو الذي يقول عنهم في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا

اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة: 82) ؟

إن الأستاذ ليعجز حقًّا عن تقديم هذا البيان؛ إذ إن كل ما ذكره في هذه المسألة

إنما هو خيال في خيال، وكل ما استند عليه من الأدلة هو:(1) فليس يبعد أن

يكون ، (2) فما الذي يمنع ، (3) ونحن نعتقد ، (4) وإذن فليس يمنع قريشًا

من أن تقبل هذه الأسطورة ، (5) وإذن فنستطيع أن نقول -

فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار شيء؛ يقول: لا دليل عليه من

الأدلة التي تطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث،

وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له ، وكفى بقوله

حجة!

سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة (أي: تلفيق القصة) ، وهل

هي من استنتاجه ، أو نقلها؟ فقال: هذا فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في

كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئًا مثل هذا الفرض يوجد في

بعض كتب المبشرين ، ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي. على أنه سواء

كان هذا الفرض من تخيله كما يقول ، أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت

اسم هاشم العربي؛ فإنه كلام لا يستند إلى دليل ، ولا قيمة له، على أننا نلاحظ أن

ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام؛ كان في

عبارته أظرف من مؤلف كتاب (الشعر الجاهلي) ؛ لأنه لم يتعرض للشك في وجود

إبراهيم ، وإسماعيل بالذات، وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب ، وقال:

إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقهاء قدماء اليهود للعرب تزلفًا

إليهم إلخ.

كما نلاحظ أيضًا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل؛ لأن

وظيفة التبشير لدينه غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق

هذا الباب ، وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعًا من

الحيلة إلخ.

وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكك الذي أظهره أولاً اعتمادًا

على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول ، فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية

بعبارة تفيد الجزم: " أمر هذه القصة إذن واضح ، فهي حديثة العهد ظهرت قبيل

الإسلام ، واستغلها الإسلام لسبب ديني إلخ " مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة

فرض افترضه.

يقول الأستاذ: إنه إن صح افتراضه؛ فإن القصة كانت شائعة بين العرب

قبل الإسلام ، فلما جاء الإسلام استغلها ، وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن

وسيلة لإقامة الحجة على خصوم المسلمين ، كما اتخذ غيرها من القصص التي

كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج ، أو إلى الهداية ، وهاشم العربي يقول في مثل

هذا: ولما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم رأى المصلحة في إقرارها؛ فأقرها ،

وقال للعرب: إنه إنما يدعو إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه) ،

فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر (! !) .

إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب ، وأخطأ أيضًا في تفسير ما كتب ، وهو

في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن ، ولتفسير نصوص القرآن ،

وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلاً عن الدين؛ فليفسر لنا إذن

قوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ

بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ

وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} (النساء: 163)

وقوله في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ} (مريم: 41) ، {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً

نَّبِياًّ} (مريم: 54)، وفي سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ

عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى

وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:

84) .

وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل

لا على سبيل الأمثال كما يدعي حضرته، وهل عقل الأستاذ يسلم بأن الله سبحانه

وتعالى يذكر في كتابه أن إبراهيم ، وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة؟

وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى ، وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية

الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل ، وقال في حقهم جميعًا:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} (آل عمران: 84) ؟

الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه؛

لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرًا لأن

يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام؛ فقال ص38

من محضر التحقيق: هذا العبارة إذا كانت تفيد الجزم؛ فهي إنما تفيده إن صح

الفرض الذي قامت عليه ، وربما كان فيها شيء من الغلو ، ولكنني أعتقد أن العلماء

جميعًا عندما يفترضون فروضًا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير ،

فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة.

والذي نراه نحن أن موقف الأستاذ المؤلف هذا لا يختلف عن مواقف الأستاذ

هوار حين يتكلم عن شعر أمية بن أبي الصلت ، وقد وصف المؤلف نفسه هذا

المؤلف في ص 82 و 83 من كتابه بقوله: (مع أني أشد الناس إعجابًا بالأستاذ

هوار ، وبطائفة من أصحابه المستشرقين ، وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان ،

ومن النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ،

فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذه الفصل دون أن أعجب كيف يتورط العلماء

أحيانًا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم) .

حقًّا إن الأستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم

لغير ضرورة يقتضيها بحثه ، ولا فائدة يرجوها؛ لأن النتيجة التي وصل إليها من

بحثه ، وهي قوله: (إن الصلة بين اللغة العدنانية ، وبين اللغة القحطانية كالصلة

بين اللغة العربية ، وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة، وإن قصة العاربة ،

والمستعربة ، وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر

له ، ولا غناء فيه) ما كانت تستدعي التشكك في صحة أخبار القرآن عن إبراهيم ،

وإسماعيل ، وبنائهما الكعبة ، ثم الحكم بعدم صحة القصة ، وباستغلال الإسلام لها

لسبب ديني.

ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين ، وبين العلم ،

وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو

بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والإنكار (ص22 عن محضر التحقيق) ، وإننا

حين نفصل بين العلم والدين؛ نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها

من إنكار المنكرين وطعن الطاعنين (ص24 من محضر التحقيق) ، ولا ندري لم

يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع؟ لقد سئل في التحقيق عن هذا؛ فقال: إن

الداعي أني أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين ، وكلهم يقررون أن

العرب المستعربة قد أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة أبيهم إسماعيل بعد

أن هاجر، وهم جميعًا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن ، ومن الحديث ،

فليس لي بد من أقول لهم: إن هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية.

أما الثابت في نصوص القرآن ، فقصة الهجرة ، وقصة بناء الكعبة ، وليس

في القرآن نصوص يستدل بها على تقسيم العرب إلى عاربة ، ومستعربة ، ولا على

أن إسماعيل أبو العرب العدنايين ، ولا على تعلم إسماعيل العربية من جرهم.

ونص الآية التي تثبت الهجرة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي

زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) لا يفيد غير إسكان ذرية

إبراهيم في وادي مكة - أي: إن إسماعيل هوجر به صغيرًا (كنص الحديث) إلى

هذا الوادي؛ فنشأ فيه بين أهله ، وهم من العرب ، وتعلم هو وأبناؤه لغة من

نشأوا بينهم ، وهي العربية؛ لأن اللغة لا تولد مع الإنسان ، وإنما تكتسب اكتسابًا،

وقد اندمجوا في العرب؛ فصاروا منهم، وهذا الاندماج لا يترتب عليه أن يكون

جميع العرب العدنانيين من ذريته؛ إذ الحكم بهذا يقتضي أن لا يكون مع إسماعيل

أحد منهم حتى لا يوجد غير ذريته ، وهو ما لم يقل به أحد.

ويا ليت الأستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر هاشم العربي في هذه المسألة

حيث قال: (ولا إسماعيل نفسه بأب للعرب المستعربة ، ولا تملك أحد من بنيه

على أمة من الأمم ، وإنما قصارى أمرهم أنهم دخلوا ، وهم عدد قليل في قبائل

العرب العديدة المجاورة لمنازلهم؛ فاختلطوا بها ، وما كانوا إلا كحصاة في فلاة)

(تراجع صحيفة 356من كتاب مقالة الإسلام) ، ولو أن المؤلف نقل هذا؛ لنجا من

التورط في هذا الموضوع.

وأما مسألة بناء الكعبة ، فلم نفهم الحكمة في نفيها ، واعتبارها أسطورة من

الأساطير اللهم إلا إذا كان مراده إزالة كل أثر لإبراهيم وإسماعيل ، ولكن ما مصلحة

المؤلف في هذا؟ الله أعلم بمراده [2] .

***

عن الأمر الثاني

تناول القرار الأمر الثاني الخاص بالقراءات ، وبعد تحليله قال: (ونحن نرى

أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ،

ولا اعتراض لنا عليه) .

***

عن الأمر الثالث

تناول القرار مسألة نسب النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن حللها قال:

(ونحن لا نرى اعتراضًا على بحثه على هذا النحو من حيث هو ، وإنما كل ما

نلاحظه عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في

قريش بعبارة خالية من كل احترام ، بل بشكل تهكمي غير لائق ، ولا يوجد في

بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو) .

***

الأمر الرابع

تناول القرار الأمر الرابع ، وبعد تحليله قال: ونحن لا نرى اعتراضًا على

أن يكون مراده بما كتب في هذه المسألة هو ما ذكره ، ولكننا نرى أنه كان سيئ

التعبير جدًّا في بعض عباراته كقوله: ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ، ولا زعم

لنفسه الانفراد بتأويلها، لقد أخذ المسلمون يردون دين الإسلام في خلاصته إلى دين

إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى.

وكقوله: وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام ، وبعده فكرة أن الإسلام

يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب

في عصر من العصور

؛ لأن في إيراد عبارته على هذا النحو ما يشعر بأنه

يقصد شيئًا آخر بجانب هذا المراد، خصوصًا إذا قربنا بين هذه العبارات، وبين ما

سبق له أن ذكره بشأن تشككه في وجود إبراهيم ، وما يتعلق به.

***

عن القانون

نصت المادة (2) من الأمر الملكي رقم (42) لسنة 1923بوضع نظام

دستوري للدولة المصرية على أن حرية الاعتقاد مطلقة.

نصت المادة (14) منه على أن حرية الرأي مكفولة ، ولكل إنسان الإعراب

عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون.

ونصت المادة 49 منه على أن الإسلام دين الدولة ، فلكل إنسان إذًا حرية

الاعتقاد بغير قيد ، ولا شرط ، وحرية الرأي في حدود القانون ، فله أن يعرب عن

اعتقاده وفكره بالقول أو الكتابة بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون.

وقد نصت المادة 139 من قانون العقوبات الأهلي على عقاب كل تعد يقع

بإحدى طرق العلانية المنصوص في المادتين 148، 150 على أحد الأديان التي

تؤدى شعائرها علنًا، وجريمة التعدي على الأديان المعاقب عليها بمقتضى المادة

المذكورة تتكون بتوفر أربعة أركان:

1-

التعدي.

2-

وقوع التعدي بإحدى الطرق العلنية في المادتين 148، 150 عقوبات.

3-

وقوع التعدي على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علنًا.

4-

القصد الجنائي.

***

عن الركن الأول

لم يذكر القانون بشأن هذا الركن في المادة إلا لفظ (تعد) ، وهذا لفظ عام

يمكن فهم المراد منه بالرجوع إلى نص المادة باللغة الفرنسية ، وقد عبر القانون فيه

عن التعدي OUTRGE ، والقانون قد استعمل لفظ OUTRAGE هذا في المواد

155 و 159 و160 عقوبات أيضًا ، ولما ذكر معناها في النص العربي للمواد

المذكورة؛ عبر في المادة (155) بقوله: (كل من انتهك حرمة) ، وفي المادتين

159، 160 بإهانة ، فيتضح من هذا أن مراده بالتعدي في المادة 139 هو كل

مساس بكرامة الدين أو انتهاك حرمته أو الحط من قدره أو الازدراء به؛ لأن

الإهانة تشمل كل هذه المعاني بلا شك.

وحيث إنه بالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين ، والتي تكلمنا

عنها تفصيلاً ، وتطبيقها على القانون؛ يتضح أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان

(الأمر الأول) فيه تعد على الدين الإسلامي؛ لأنه انتهك حرمة هذا الدين بأن نسب

إلى الإسلام أنه استغل قصة ملفقة هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ،

وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة ، واعتبار هذه القصة أسطورة ، وأنها من تلفيق

اليهود، وأنها حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلاً عند الكلام

على الوقائع ، وهو بكلامه هذا يرمي الدين الإسلامي بأنه مضلل في أمور هي عقائد

ثابتة وواردة في القرآن باعتبار أنها حقائق لا مرية فيها ، كما أن كلامه الذي بحثناه

تحت عنوان (الأمر الرابع) قد أورده على صورة تشعر بأنه يريد به إتمام فكرته

بشأن ما ذكر ، أما كلامه بشأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو إن لم يكن فيه

طعن ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره ، وأما ما ذكره بشأن

القرآن مما تكلمنا عنه في الأمر الثاني فإنه بحث بريء من الوجهة العلمية والدينية

أيضًا ، ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبية ، ولا من الوجهة

القانونية.

***

عن الركن الثاني

لا كلام في هذا الركن؛ لأن الطعن السابق بيانه قد وقع بطريق العلانية.

إذ إنه أورد في كتاب الشعر الجاهلي الذي طبع ونشر وبيع في المحلات

العمومية ، والمؤلف معترف بهذا.

***

عن الركن الثالث

لا نزاع في هذا الركن أيضًا؛ لأن التعدي وقع على الدين الإسلامي الذي

تؤدى شعائره علنًا ، وهو الدين الرسمي للدولة.

***

عن الركن الرابع

هذا الركن هو الركن الأدبي الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة ، فيجب

لمعاقبة المؤلف أن يقدم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، وبعبارة أوضح يجب

أن يثبت أنه إنما أراد بما كتب أن يتعدى على الدين الإسلامي ، فإذا لم يثبت هذا

الركن؛ فلا عقاب.

أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال: إنه

ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي ، وخدمة العلم لا غير

غير مقيد بشيء،

وقد أشار في كتابه تفصيلاً إلى الطريق الذي رسمه للبحث، ولا بد لنا هنا أن نشير

إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم

وإسماعيل ، وما يتصل بهما مما جاء في القرآن ، ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن

لمناهج البحث؛ فلا يسلم بالوجود العلمي التاريخي لإبراهيم وإسماعيل ، فهو

يجرد من نفسه شخصيتين ، وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحًا مستفيضًا

في مقال نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد نمرة 19 الصادر في17 يولية سنة

1926 ص 5 تحت عنوان (العلم والدين)، وقد ذكر فيه بالنص: (فكل امرئ

منا يستطيع إن فكر قليلاً أن يجد في نفسه شخصيتين ممتازين ، إحداهما عاقلة

تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس ،

والأخرى شاعرة تلذ وتألم، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وترغب وترهب

في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا

نستطيع أن نخلص من إحداهما ، فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة

باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟

ولسنا نعترض على هذه النظرية مما اعترض به هو على نفسه في مقاله ،

حيث ذكر بعد ذلك: (ستقول: وكيف يمكن أن تجمع المتناقضين؟ ولست أحاول

جوابًا لهذا السؤال ، وإنما أحولك على نفسك) إلخ ، ولا شك في أن عدم محاولة

الإجابة على هذا الاعتراض إنما هو عجزه عن الجواب، والمفهوم أنه قد أورد هذا

الاعتراض؛ لأنه يتوقعه حتى لا يوجه إليه.

الحقيقة أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين في شخص واحد ، وفي وقت واحد ،

بل لا بد من أن تتخلى إحدى الحالتين للأخرى ، وقد أشار المؤلف نفسه إلى هذا في

نفس المقال في سياق كلامه على الخلاف بين العلم والدين ، حيث قال بشأنهما:

(ليسا متفقين ، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما لصاحبه عن شخصيته

كلها) .

أما توزيع الاختصاص الذي أجراه الدكتور؛ بجعله العلم من اختصاص القوة

العاقلة ، والدين من اختصاص القوة الشاعرة ، فلسنا ندركه، والذي نفهمه أن العقل

هو الأساس في العلم وفي الدين معًا، وإذا ما وجدنا العلم والدين يتنازعان فسبب ذلك

أنه ليس لدينا القدر الكافي من كل منهما.

إننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه في أنفسنا ، أما الدكتور ، فقد تكون لديه

القدرة على ما يقول ، وليس ذلك على الله بعسير.

نحن في موضع البحث عن حقيقة نية المؤلف ، فسواء لدينا صحت نظرية

تجريد الشخصيتين عالمة ، ومتدينة ، أو لم تصح؛ فإننا على الفرضين نرى أنه

كتب ما كتب من اعتقاد تام ، ولما قرأنا ما كتبه بإمعان؛ وجدناه منساقًا في كتابته

بعامل قوي متسلط على نفسه، وقد بينا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما

كتب ، وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب

شيء ، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر.

وحيث إنه مع ملاحظة أن أغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى ،

وهو ما قصرنا بحثنا عليه؛ إنما هو تخيلات ، وافتراضات ، واستنتاجات لا تستند

إلى دليل علمي صحيح ، فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصًا في جرأته على ما

أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي الذي هو دينه ، ودين الدولة التي هو من رجالها

المسؤولين عن نوع من العلم فيها ، وأن يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي

يعمل فيه.

صحيح إنه كتب ما كتب عن اعتقاد بأن بحثه العلمي يقتضيه ، ولكنه مع هذا

كان مقدرًا لمركزه تمامًا ، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه ، منها

قوله: (وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه ، وبأن فريقًا آخر

سيًزْوَرُّون عنه ازْوِرَارًا ، ولكني على سخط أولئك ، وازورار هؤلاء أريد أن أذيع

هذا البحث) .

إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء

من الغربيين ، ولكنه لشدة تأثر نفسه مما أخذ عنهم؛ قد تورط في بحثه حتى تخيل

حقًّا ما ليس بحق، أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق؟

إنه قد سلك طريقًا مظلمة ، فكان يجب عليه أن يسير على مهل ، وأن يحتاط

في سيره حتى لا يضل ، ولكنه أقدم بغير احتياط؛ فكانت النتيجة غير محمودة.

وحيث إنه مما تقدم؛ يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن ،

والتعدي على الدين ، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع

من كتابه؛ إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.

وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر.

(فلذلك) تحفظ الأوراق إداريًّا

...

رئيس نيابة مصر

القاهرة في 3 مارس سنة 1927

(المنار)

قد أثبت رئيس النيابة أن الدكتور طه حسين طعن في الدين الإسلامي ،

وكذب القرآن بما سبقه إليه بعض دعاة النصرانية ، فكان هذا في طعنه أقرب منه

إلى الأدب، وأثبت أن مطاعنه التي شكا منها المسلمون وطلب بعض رجال الدين

ورجال النيابة البرلمانية محاكمته عليها لم تستند إلى دليل علمي صحيح ، وإنما هي

تخيلات ، وافتراضات باطلة ، وهو قد أثبت بما ذكر ارتداده عن الإسلام، وإنه كان

مقدرًا نتيجة عمله وسوء تأثيره في المسلمين كما صرح به بغير مبالاة ، ثم إن الرئيس

مع هذا قد ارتأى أن الدكتور طه يعتقد أن ما كتبه حق ، وإنه يقتضيه البحث العلمي ،

ولم يقصد به مجرد الطعن والتعدي ، وإنه لهذا لم يجد وجهًا قانونيًّا لمحاكمته؛ فأمر

بحفظ الأوراق الخاصة بقضيته إداريًّا.

وقد رأينا الناس متعجبين من هذه النتيجة ومخالفين لرئيس النيابة في استنتاجه

على إعجابهم بدقة فهمه وحسن تفنيده لتلك المطاعن.

وقد سبق لي أن بينت في المنار ما فهمته من غرض الدكتور طه حسين ،

وهو تشكيك طلبة الجامعة المصرية ، وسائر من يقرأ كتابه في الدين الإسلامي؛ بل

إفساد اعتقادهم ، وتجرئتهم على الكفر؛ لأنه ليس من الغباوة والبلادة بحيث يعتقد

أن تلك (التخيلات ، والافتراضات) أدلة علمية على حقية طعنه ، فهو لا يعتقد أن

ما كتبه حق إلا من حيث إنه لا يؤمن بأن كتاب الله هو الحق الذي {لَا يَأْتِيهِ

البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .

ثم أقول: إذا كان من يطعن في دين الدولة والأمة طعنًا صريحًا لا يستند

إلى دليل ، ولكنه هو يعتقده؛ يباح له ذلك قانونًا ، ولا يحاكم ، ولا يعاقب ، فكيف

يعقل أن يكون الطعن في الدين ممنوعًا ، ومن الضروري أنه لا يطعن فيه إلا من

يعتقد بطلانه من ملحد ، أو متدين بدين آخر؟

ألا إن هذا القرار يجرئ كل كافر بالإسلام على الطعن فيه، وهل يطعن فيه

إلا كافر به؟

هذا وإن الدكتور طه قد استقال من التعليم في الجامعة عقب صدور هذا القرار؛

لما فيه من الإهانة له ، وإثبات جهله ، فبادر مدير الجامعة أحمد لطفي بك السيد

إلى تلافي الأمر ، وحمل وزير المعارف على أن لا يقبل استقالته؛ ففعل، فعلم بهذا

من لم يكن يعلم رأي كل من مدير الجامعة ، ووزير المعارف في الدكتور طه حسين ،

وقد طبع كتابه ثانية بعد حذف ما أنكر المسلمون منه ، وهو باق في الجامعة ،

فمن شاء؛ فليرض ، ومن شاء؛ فليغضب {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) .

_________

(1)

أي: بالجزم.

(2)

المنار: الذي فهمه الناس من كلامه أن مراده الطعن في الإسلام ، وصد الناس عنه.

ص: 368

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ما يسمى النهضة النسائية بمصر

وعدنا بأن نكتب شيئا في هذا الموضوع ، فإن فساد النساء الذي يسميه دعاة

الإلحاد والإباحة نهضة تجديد قد تفاقم ، واستشرى في هذه السنين حتى صار

العقلاء من أهل الدين ، والصيانة يخشون أن يفضي في أقرب وقت إلى هدم بناء

الأسر والفصائل (العائلات) التي تتألف منها وحدة من الشعب المصري ، وذهاب

ما بقي من مقوماته القومية والملية وذهاب الثروة والصحة في أثرها ، وقد كنت

أتربص فرصة فراغ أبين فيها هذه الحقائق بعبارة لا تهيج عليَّ زنابير السفهاء

حماة هذا التجديد حتى رأيت المقالة الرابعة من سلسلة مقالات تنشرها في جريدة

السياسة نفسها امرأة أوربية فاضلة اهتدت إلى الإسلام، فإذا هي قد وصفت المرأة

المصرية بعد الاختبار وصفًا لم ينكر أحد عليها شيئًا منه للطفه واعتداله ، فرأيت

أن أنشره بنصه ، وهو:

المرأة المصرية

أتيت في مقالي السابق على ما كان للمرأة المسلمة من الشأن ، وتنقلت بها في

جميع الأدوار التي مرت بالإسلام منذ بدئه إلى هذا العهد.

إلا أن لي كلمتين أقولهما عن المرأة المصرية في هذا العصر، وأختم كلامي

عن المرأة.

ولكي أقوم بهذا التحليل الذي أرجو أن يكون من ورائه فائدة لكل أخت

مصرية مسلمة؛ أرجو أن يقابل كلامي بشيء من روح التسامح، وأن ينظر إليه

نظرة ودية إصلاحية لا انتقادية عدائية.

فلتعذرني إذن القارئة إذا كنت أجرؤ على القول بأني لم أجد في المرأة

العصرية في مصر ما أستطيع أن أشيد بذكره ، أو أتغنى بمحاسنه.

فكم كنت أتمنى أن أراها آخذة في دور الرقي الحقيقي ، والحضارة الصحيحة

المؤسسة على روح الدين ، وحب الفضائل والآداب الإسلامية التي لم أجد فيها ما

يحول دون التقدم المنشود ، والتمشي مع التطور الاجتماعي كما أقمت الدليل على

ذلك فيما أسلفت من مقال ، وقبل أن أبدأ في شرح وجوه النقص في التربية

الأخلاقية الحاضرة، أرى أن أقسم المرأة في مصر إلى ثلاث طبقات، أتكلم عن

كل طبقة بما استطعت أن أراه وأشهده، فإن رأى القارئ مني خطأ؛ فليتراكم

بتصحيحه ، أو شططًا فليعذرني ، وينبهني.

***

طبقة العامة

أستطيع أن أقول بوجه عام: إن هذه الطبقة من النساء لم تمتد إلى رؤوسهن

بعد يد العلم والتهذيب ، ولا ما عداها من الفنون العادية أو الجميلة ، وقليل منهن من

تفهم ، أو تدرك معنى من معاني الرابطة الزوجية ، أو التربية العائلية يخيم على ربوع

تلك الفئة الجهل المطبق بأبسط شؤون الحياة.

كما أنهن بعيدات كل البعد عن معرفة أمور دينهن حتى أكثرها بساطة

وسهولة! ! وتكاد نساء هذه الطبقة لا يفهمن من العيش أكثر من التمتع باللذتين على

نحو ما تعيش العجماوات في الغابات!

وما كانت كذلك البدوية الساذجة؛ فقد كان من بينهن من تقرض الشعر ،

وتستظهر القرآن ، أو بعضًا منه ، ولو كانت أمية، وكن على تمام التمسك بالدين

وآدابه ، وتأدية فرائضه.

وما هكذا نساء هذه الطبقة في أوربا ، فجلهن - إن لم أقل كلهن - يعلمن

القراءة ، والكتابة ومبادئ الحساب والتاريخ والجغرافيا وغيرها.

حتى لتراهن يزاحمن الرجال في ميادين الخدمة ، والأعمال الكتابية البسيطة.

فأين أختنا المصرية في هذه الطبقة من ربيبتيها العربية والأوربية!

***

(الطبقة المتوسطة)

أخذ أكثر فتيات هذه الطبقة بقسط من الثقافة والتهذيب ، وكثيرات منهن

الآن يعرفن القليل من الموسيقى ، وغيرها من الفنون الجميلة، وأرى أن هذا القدر

من التعليم يكفي لأن يجعل من الفتاة زوجة تعرف كيف ترضي بعلها، وأُمًّا

صالحة لتربية طفلها ، وأغلب نساء هذه الطبقة يفهمن من آداب المجالس واختيار

الأحاديث ، وإن كان لا يزال من بينهن من قد يحملك مجلسها على الملل في

بعض الأحيان خصوصًا إذا كانت من عشاق (المودة) والأزياء!

وفتاة هذه الطبقة لا تخلو من العلم بالمبادئ الدينية ، وإن كانت الأغلبية قد

انصرفت عنها ، وأخذت في التهاون والتفريط!

إني لأقنع من المرأة الشرقية بهذا النصيب من الثقافة ، وإن تفوقت عليها

الغربية في هذا المضمار، وأرى أن المسلمة في القرون الأولى لم تكن تفوق فتاة

هذه الطبقة علمًا وتهذيبًا ، وإن سبقتها إلى الفضيلة والدين.

***

(الطبقة الراقية)

يجب أن أكون شجاعة إلى حد ما حتى أستطيع أن أخاطب صراحة نساء هذه الطبقة.

لا أنكر على الفتاة الراقية في مصر ما أحرزته من العلم والتهذيب ، ولا كيف

تستطيع أن تنقل أناملها الرقيقة فوق (بلابل) البيانو ، وأوتار العود!

ولا

يستطيع بصري أن يأخذ به بريق لآلئها البحرية، التي تخشع أمام در ثناياها اللؤلؤية،

ولا يمكنني أن أنكر عليها رشاقتها ، وخفة حركاتها، ولا رطانتها بالفرنسية

والطليانية كأنها إحدى بنات روما والسين، ولا أقوى على مباراتها في تموجاتها فوق

مراقص (هليوبليس) ، و (جروبي) على نغمات (التانجو والشالستون) .

كل ذلك يا سيدتي العظيمة لا قبل لي على إنكاره والمكابرة فيه ، فأنت قد

أصبحت أوربية؛ أوربية قلبًا وقالبًا، عادة ولسانًا، رشاقة وفتنة؛ ولكن اسمحي لي

كمسلمة أن أسألك بالله ، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أين إلى جانبك هذا

كله.. التمسك بالدين وتعاليمه! ..

قد انتهيت من التقسيم ، ولكن بقي لي كلمة إجمالية أقولها بصراحة، وأرجو

أن أرى لي بعدها مشجعات لا ناقمات.

ها أنا (ذا) قد استعرضت أمامك يا سيدتي المصرية صورتك في طبقاتك

الثلاث؛ فلم أر الدين ، ولا لآدابه في أخلاقكن أثرًا، وكأنه الكابوس على النفوس،

وكأني بكن تتمثلنه شبحًا مخيفًا مزعجًا يريد أن يهوي بكن إلى الظلمات ، أو يرجع

بكن إلى عهد البرابرة والوحوش.

وإلا فأين تلك المرأة التي كانت لا تخرج من خدرها إلا نادرًا، ولا تزور

غيرها إلا غبًّا، وإن برزت في الأسواق فعلى صورة ، وفي زي يخشع له نظر

الفاجر، ويرق له قلب العابد، ويكبره ويجله شباب الرجال قبل شيبهم؟؟

أين ذلك العصر الذي كانت فيه المساجد عامرة زاخرة بالمصليات الخاشعات

في مقاصير أفردت لهن خاصة في بيوت الله؟

أين تلك المرأة التي كانت إذا جلست من الرجل مجلسًا ملأت قلبه خشوعًا ،

وإجلالاً، وألقت عليها بنظراتها الطاهرة البريئة دروسًا بالغة في العفة.

بيض غرائر ما هممن بريبة

كظباء مكة صيدهن حرام

يحسبن من لين الكلام زوانيا

ويصدهن عن الخنا الإسلام

دالت دولة تلك المرأة المتعففة الفاضلة، وأصبحت لا ترى في الأسواق إلا

كل بارزة النهدين، مزججة الحاجبين، مكحولة العينين، دامية الشفتين، عارية

السواعد والسيقان، متمايلة في مشيتها، مداعبة في نظرتها، متراخية متكاسلة،

حركتها تطمع، ونظراتها توقع، ثم دعك قليلاً من الطريق، وادخل معي دكانًا من

الدكاكين (الكبيرة) ، وانظر هل ترى إلا بحرًا زاخرًا من الأجسام النسائية،

وسواعدَ ونهودًا وصدورًا عارية وضحكات كأنها نغمات الموسيقى أو أحلى، تستوي

في ذلك كله الثلاث الطبقات.

وأسمع أن هناك جمعيات نسائية، غير أني لم أر مع الأسف أثرًا جديًّا في

سبيل نهضة المرأة المصرية ، والرجوع بها إلى حظيرة الفضيلة والدين، وصونها

عن التبذل والخلاعة، وإلا فمن من الرجال لا يشكو اليوم إسراف زوجه ، وبناته في

الملبس والمسكن واقتناء الحشم، ومن منهم لا يشكو كثرة الخروج ، والزيارات

وإنفاق الأموال في الملاهي والسياحات؟

وأين الفتاة أو والد الفتاة اللذان لا يشكوان إعراض الشبان عن الزواج

ورغبتهم عن البنات؟ وأين الكتَّابُ والأُدَبَاءُ والشعراء الذين يحضون بكتاباتهم

وخيالهم وأشعارهم على حب الفضيلة والعفة والتمسك بآداب الدين؟ ثم أين

المجتمع والخطباء الذين يبينون مواضع الضعف الأخلاقي وعلاجه ويرشدون

إلى مواطن الفضيلة والشرف؟

إني لا أرى الغرب يكتسح بمدنيته الخداعة كل ما بقي في هذه الديار من آثار

التقى ، وآداب القرآن، وأرى النفوس تستعذب هذا الطريق ، وتستمرئه، وتصبو

إلى المزيد منه ، والتمادي فيه!

لم تتعلم المصرية من الغربية حب الاقتصاد ، والتدبير في المنزل، ونظافة

الداخل، وتربية الأطفال؟

لم تقلدها في القبيح، وتقف جامدة أمام الحسن المليح؟

لِمَ لَمْ تنقل عنها خروجها يوم الأعياد والآحاد إلى المعابد والهياكل تصلي

وتذكر ربها قبل أن تنصرف إلى أماكن اللهو والنزهة.

وما لنا لا نبتدع إن كنا قد شغفنا بحب تقليد الغربيين إلى هذا الحد أناشيد

دينية ، وألحانًا أخلاقية مستعيضين بها عن تلك (الطقاطيق) السخيفة المبتذلة تثير

في القلوب نشوة الدين، وتحث على التمسك بالفضيلة، وتزجر عن التمادي في

التبذل والغواية؟

ثم ما لنا لا نعمر بيوت الله بذوي الأصوات الشجية يرسلون مثل تلك الأناشيد

الدينية والأخلاقية على مسامع الشبان والفتيات قبل أو بعد الصلاة [1] ؟ وليس فينا من

يجهل تأثير النغمات على النفوس، ولعب الصوت الحسن بالقلوب ، والعقول؛ فتنمو

فينا بذلك روح الطهر ، وتزكو النفس، وتتهذب بالأخلاق، وتسمو بالرجل والمرأة

إلى أعلى مراتب الفضيلة!

سيدتي! الأخلاق الأخلاق، الفضيلة، العفة، كل أولئك لا تجدينه إلا في

دينك، ولا يمكن أن تري لك منزلة عالية في القلوب قبل المكانة التي تنشدينها في

المجتمع إلا بعد أن تتفهمي ما انطوى عليه دينك من حكمة عالية، وآداب سامية.

سيدتي؛ اعملي على تقويم الأخلاق، وأحبي الدين ، والشريعة، وحضي

على التمسك بهما، ثم دعي بعد ذلك المرأة تخرج سافرة ، أو مقنعة، تخالط الرجال ،

وتمشي في الأسواق، فلن تقع عيناك إلا على كل فاضلة عفيفة، ثم انظري هل

ترين رجلاً يبغي الزواج من اثنتين، أو شابًّا راقيًا يفضل عيش العزوبة على

الزواج من فتاة طاهرة نقية، أو حياة زوجية لا تسودها السعادة ، ولا الهناء؟ ثم

انظري وانظري! ..

ألا إنما المرأة كشجرة، فاسقوها بماء الفضيلة وغذوها ببذور العفة واجتثوا

منها - وهي ناشئة - جراثيم التبذل والرذيلة، وأنموها على التقوى ومبادئ الدين،

فالمرأة إن سَمَتْ كانت مخلوقًا سماويًّا يوحي إلى الرجل كل عزيمة، ويبث في قلبه

روح التضحية وغيرة الرجولة وعبقرية العظماء.

فإن أحبت - ولست أجهل ما في الحب من سر قدسي - فهو عذري طاهر

كحب ليلى وقيس، وحب معنى لا مبنى، وهيام روح طاهرة إلى روح طاهرة

تجانسها ، وتكمل ما فيها من نقص ، لا حب بهيمي إرضاء لغريزة الحيوان.

فإن تزوجت فزوجة كخديجة تناصر زوجها وتؤازره، وإن أنجبت فبأمثال

عمر وعلي، وإن جلست من الرجال؛ فمجلسًا كمجلس عائشة.

وإن عملت فعلى طراز خالدة أديب التي قدم لها رجال تركيا كرسي وزارة

المعارف اعترافًا منهم لها بفضلها ويدها على النهضة التركية.

لا أريد لمصر امرأة كالتي قيل فيها: إنها أحبولة الشيطان ، أو واحدة من

ثلاث من تجارة إبليس.

إنما أريد المرأة الطاهرة السماوية التي يخشع أمامها قلب الرجل كأنه يرى

فيها صورة الرحمن..!

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

...

...

...

...

مدام رئيفة كامل

(المنار)

لا يوجد في أوربة كلها شعب أهمل التربية الدينية للإناث كإهمال مصر

شعبًا وحكومة وهي مع ذلك تبيح حرية الكفر والفسق كالرقص والسباحة مع

الرجال والزنا في بعض الأحوال فكيف يكون المآل؟

_________

(1)

الصواب في مثل هذا التعبير أنه يقال: قبل الصلاة ، أو بعدها.

ص: 380

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ أحمد عباس الأزهري البيروتي

وفاته وترجمته

في يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر شوال هذا العام توفي الأستاذ العالم

العامل الشيخ أحمد عباس الأزهري في مدينة بيروت مسقط رأسه، وموطن عمله،

ودفن في مقبرة الباشورة باحتفال كبير يليق بمقامه.

وقد كتبت خبر وفاته مع الوعد بترجمته؛ لينشر في الجزء الماضي، ولم

أعلم بأنه لم ينشر لكثرة مواد الجزء إلا بعد صدوره.

كان الأستاذ صديقًا لي، وكان لي معه مجالس إصلاحية خاصة في زياراتي

الأخيرة لبيروت، ولكنه لم يكن يعلم فيما أظن أنني أفضله على جميع علماء بلادنا

في مجموعة معارفه، لا في كل نوع منها، ولا في علم ، أو فن خاص امتاز به،

وفي إقدامه ، وسعيه لنشر علوم الدين والدنيا ، وفي وطنيته وقوميته.

لا أعرف أحدًا من علماء سورية كان خبيرًا بزمانه وأهله كما قال بعض

السلف في وصف العالم أو الفقيه ، وكان بخبرته يهتم بأمر أمته ووطنه ، ويحب

لهم أن يسابقوا غيرهم في العلم والعمل - إلا أستاذي الشيخ حسين الجسر ، فصديقي

الشيخ أحمد عباس رحمهما الله تعالى ، وكان الشيخ حسين أوسع من الشيخ أحمد علمًا،

ولكن الشيخ أحمد كان أنشط منه في العلم والسعي.

سعى الأول لإنشاء مدرسة وطنية في طرابلس تجمع بين العلوم الدينية

والفنون العصرية ، وبعض اللغات الأجنبية التي تقتضيها ترقية التجارة والعلم ،

ثم سعى لأن تعترف الحكومة العثمانية بأنها مدرسة دينية يعفى طلابها من الخدمة

العسكرية ، فلما لم تقبل الحكومة؛ سقطت المدرسة ، وقضى الأستاذ بقية عمره في

تدريس فنون العربية والعلوم الدينية على الطريقة الأزهرية التقليدية مع نوع من

سهولة الإلقاء ، والتنبيه الفكري ، ولو ثبت على النهوض بإدارة المدرسة الوطنية؛

لأحدث انقلابًا كبيرًا في سورية.

وأما الشيخ أحمد عباس؛ فما زال يجاهد في هذه السبيل إلى أن قضى نحبه

كما ترى في ترجمته، وهو لم يلق من أغنياء سورية ولا بيروت ، ولا من وجهائها ما

كان يجب عليهم من مساعدته.

ولو ساعدوه؛ لأمكن أن يستغنوا بسعيه عن مدراس الأجانب.

جاهد الشيخ أحمد عباس في سبيل نشر العلم بالتعليم نصف قرن ، وقد احتفل

بعيده الذهبي في بيروت احتفالاً حسنًا لم يتح لنا الاشتراك فيه، وقد ألقى صديقنا

الأستاذ عبد الباسط فتح الله خطابًا في ذلك الاحتفال أودعه تاريخ الأستاذ المحتفل به ،

وهو أجدر الناس بذلك علمًا واطلاعًا وحسن بيان، فنحن ننشر هذا التاريخ

بنصه في المنار مع تغيير ألفاظ قليلة جدًّا اقتضاها الفرق بين الكلام عن رجل في

حياته ، ثم بعد وفاته ، وهو:

مولد الأستاذ ومنشؤه

كان مما تركته الحملة المصرية التي اكتسحت الديار الشامية سنة 1245هـ

بقية صالحة تأصلت في ثغر بيروت؛ فنشأ منها فرع أزهر ، وأثمر، وانتظم البلاد

خيره.

العباس بن سليمان من جند إبراهيم باشا ابن محمد علي الخديوي تزوج

ببيروتية من بني الشامي؛ فرزق منها عدة أولاد صفوتهم (أحمد) الذي لبس حلة

الوجود عام سنة 1270 هجرية؛ فكان شعلة من نور أضاءت بيت والد فقير ، فلما

بلغ الخامسة من عمره؛ أدخله إلى الكتاب ، فقرأ القرآن الكريم على الشيوخ الحفاظ

المجودين، واستظهر منه بضعة أجزاء ، وفي السنة العاشرة دخل المدرسة الرشدية

التي أنشأها المرحوم الشيخ حسن البنا حيال سنة 1280 ، وهي أول مدرسة

إسلامية عصرية سماها صاحبها بالرشدية قبل أن تنشئ الدولة مدارسها المعروفة

بهذا الاسم نسبة إلى راشد باشا والي سورية لذلك العهد ، فتعلم الخط والحساب ،

وكان من شيوخه فيها علامة الفقه والأدب المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب.

إلى ذلك الزمن ظل العلم عزيزًا ، والعلماء نادري الوجود ، والناس ولا

سيما المسلمون في هجعة قطعت صلتهم بالماضي، وتراكمت على فكرهم سحب من

الجهل حجبتها عن التطلع إلى المستقبل، فظلوا في فترة من العلم حتى نبغ

الأستاذان الفاضلان الكبيران الشيخ محمد الحوت ، والشيخ عبد الله خالد قدس الله

روحيهما، فصاحا بالقوم صيحة أيقظتهم من سباتهم، وزحزحتهم عن مضاجع

غفلتهم، وجعلا ينيران بدروسهما عقول الكافة، ويثقفان عقول النابهين من الخاصة،

حتى استرشدوا ، وأحسوا الحاجة إلى العلم؛ فهبوا لطلبه، وكان آنئذ بدء النهضة

العلمية في الطائفة الإسلامية في بيروت.

ثم أراد العلامة الناهض الشيخ عبد الله خالد أن يتوسع في نشر العلم ، فاقترح

على زملائه والنابهين من تلاميذ قرينه العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير انتخاب

طائفة من نجباء تلامذة الرشدية ، واختصاصهم بدروس توسع ما أدركوا من علوم

الدين ، فتزيدهم معرفة بالعلوم العربية؛ ليتسنى لهم أن يخدموا الأمة بنشر العلم فيها

عملاً بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا

قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) فارتاح الأساتذة إلى هذا

الاقتراح ، واقتسموا المنتخبين ، فكان (أحمد) من نصيب الأستاذ الأديب الشاعر

الشهير السيد عمر أنسي؛ فلزم دروسه ، ووجد فيه السيد عمر أنسي نباغة ،

وحرصًا على التحصيل ، فزاده من عنايته حتى فاق رفاقه ، وصار يذاكرهم الدرس

عندما كان يغيب الأستاذ الذي شغلته تجارته بعد حين عن مواصلة التدريس في

الأوقات المعينة.

واتفق أن الأمير محمد أرسلان صادف الشيخ عمر ، ومعه تلميذه الصغير

(أحمد) يماشيه ، فسأله عنه ، فعرفه إليه ، وأثنى عليه ، فجعل الأمير يباحثه في

بعض مسائل النحو ، وهو يحسن الجواب حتى التفت الأمير إلى الشيخ عمر ، وقال

له: جدير بتلميذك أن يدخل الأزهر ، فكان لهذه الكلمة أثرها في نفسه ، وبعد قليل

يمم الأزهر أحد رفقائه في طلب العلم ، وهو الشيخ خضر خالد ، فهاجت رغبته

الكامنة ، واشتد شوقه إلى ورود ذلك المورد العلمي العظيم غير أن أباه الفقير كان

كثيرًا ما يمنعه من الانقطاع إلى الدرس في نفس بيروت للاستعانة به على الكسب ،

فكيف إذا سأله السفر ، وما يستلزمه من النفقة؟ فجعل يستنجد بأستاذه؛ ليبلغه

مقصده، والأستاذ الأنسي يقول له: رويدك لا يصبر على الأزهر إلا كل ضامر

مهزول. فيجيبه (أحمد) : وهل أنا إلا ذلك الضامر المهزول؟ واتصل الخبر

بالسري الأديب المفكر الناهض السيد حسين بيهم ، فأجرى عليه وظيفة شهرية من

ريع لأسرتهم كان موقوفًا على عمل الخير ، ثم انتدب الشيخ الأنسي ، ورفيقه الشيخ

عبد الرحمن الحوت ، فهونا الأمر على والده ، وأقنعاه؛ فأذن له ، وفرض على

نفسه مبلغًا أضافه إلى ما رتبه المرحوم السيد حسين بيهم ، وولى أحمد وجهه شطر

الجامع الأزهر سنة 1285هـ ، فعكف على التحصيل مدة ست سنين ، فنال من

فضل الله بجده ما لم ينله غيره في مثلها من الزمن.

والناس مشتبهون في إيرادهم

وتفاضل الأقوام في الإصدار

فتلقى علوم العربية وآدابها من خواص مدرسيها لذلك العهد كالشيخ المرصفي

والأشرافي والإبياري والبابي الحلبي، وأخذ الشريعة على مذهبي الإمام محمد بن

إدريس الشافعي ، والإمام أبي حنيفة عن أعلام علمائها (الأشموني والعز والرافعي

ومنقاره) ، واضطلع بالعلوم العقلية والنفسية والتصوف بين يدي جهابذتها حكيم

الشرق السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ أحمد البابي الحلبي والشيخ محمد الولي

الطرابلسي.

وعندما كان يأتي بيروت أثناء العطلة الأزهرية لم يكن يقضي أيامه في

الاستراحة ، بل كان يتزود في المنطق والأدب من دروس العلامة الشيخ يوسف

الأسير رحمه الله.

وبينما هو على وشك الفراغ من التحصيل أصابته في السنة الخامسة مصيبة

كادت تعجله عن الإتمام؛ إذ توفي أبوه ، ففقدت أسرته المعين ، وأعوزته النفقة،

فاضطر إلى ترك الأزهر في بدء السنة السادسة ، وقفل راجعًا ، وحل ضيفًا على

رجل المروءة والإحسان المرحوم سعد الله بك حلابه بالإسكندرية ، فسأله عن

أسباب عودته في غير ميعاد العطلة ، فنبأه بخبره، وما كاد يتم قصته حتى نقده -

تغمده الله برحمته - مبلغ الراتب الذي كان يرسله إليه أبوه عن السنة كلها ، وأمره

بالعود ، وإتمام التحصيل ، فأحسن له الدعاء ، وعاد؛ فأتم ، ونال إجازات التدريس

سنة 1219 من أساتيذه في العلوم التي تعلمها (بعد التحصيل) .

تلك المرحلة الأولى من حياة الأستاذ الرئيس ، وهي في كثير من ماجرياتها

تشبه حياة أكثر العصاميين ، فأين مميزات ذاته ومقومات ماهيته التي ترتسم بها

صورته الخاصة في أذهان المعاصرين، ويحتفظ بها لوح التاريخ؟

لا جرم أنه يسهل على الإنسان تصور حقيقة ما كما هي كلما كانت أقرب إلى

السذاجة ، فإذا تشعبت وعلت مرتبتها في الوجود عز ضبطها ، فتفاوتت صورها

في الأذهان بتفاوت المدارك ووسائل التصوير، من أجل ذلك نرى الناس يختلفون

في وصف الرجل الواحد من العلماء ، والمفكرين المصلحين.

فكل يرسم له صورة حسبما وصل إليه من خيره، وقلما يصيب الحق فيه

واصف؛ لما يعترضه من وعورة الرواية ، واختلاف أهواء الراوين، وفي هذه

الحال لا يبقى إلى معرفة الحقيقة غير سبيل واحدة ، وهي النظر في العمل؛ لأن

الأعمال هي وحدها مرآة الرجال الصافية التي تحتفظ من حقائقهم أمثل صورة ،

وأصدق مثال، فهلم نستقرئ شيئًا من أعمال شيخنا التي تتجلى فيها صورته

المعنوية الخالدة.

نرى للمعاهد العلمية الكبرى أثرًا خاصًّا تطبعه في نفوس واردها بقصد ، أو

بغير قصد؛ حتى ليدركه البصير في نقد الرجال أثناء المعاملة أو المذاكرة والمباحثة

غير أن الأزهر - وإن اتحد أثره في الأزهرين من حيث التحقيق في البحث

والاستقصاء في التقرير إلا أن له آثارًا مختلفة من حيث العمل بالعلم والاستفادة منه -

فترى في الأزهريين المجتهد العامل الذي استعد عقله للجري على نظام التجدد ،

وقبول الحقائق التي يقررها العلم الحديث ، وتأهلت نفسه لسلوك سبل الحياة سهلها

وحزنها، كما ترى فيهم الجامد والخامل الذي لا فرق بينه وبين الصحيفة تؤثر فيها

المطبعة ، أو يد الخطاط ، فلا تعود تقبل الزيادة، ويعتريها النقص بما ينتابها من

عوارض الطبيعة، ثم هي تستقر حيث تلقى لا تغيير ، ولا تبديل حتى يدركها الفناء،

فمن أي الفريقين جاء الأستاذ الرئيس؟ كأني بكم تقولون معي: من الفريق الأول ،

ولا ريب.

عاد من الأزهر إلى بيروت سنة 1291 هجرية ، وكان العلامة العامل الكبير

المعلم بطرس البستاني قد أنشأ مدرسته الوطنية ، وازدحم فيها الطلبة من كل ملة ،

فدعا الأزهري الجديد إلى التدريس فيها ، واختصاص التلامذة المسلمين بدرس

ديني. فلبى الدعوة ، وقام بالعمل إلى آخر سنة 1294 حيث صرفت المدرسة

تلامذتها ، وأقفلت بسبب انتشار الهواء الأصفر، وهكذا أصبح الأزهري بلا عمل ،

فماذا فعل؟ لم يكن ثوبه العلمي ليمنعه من كسب الرزق الحلال من موارده

المشروعة ، فاتخذ له دكانًا ، وجهزها بما استطاع من البقول والأثمار ، وقعد يبيع ،

ويشتري كعامة الناس، ومر به الوجيه الورع المرحوم الحاج محيي الدين بيهم ، فعز

عليه أن يرى الشيخ الفتى يحترف الحرفة المبتذلة ، فدنا منه ، وقال له: أرى أن هذا

غير لائق بك. فأجابه: أرى أن هذا أليق من التسول للقيام بأود الأهل ، وبعد قليل

من الزمن - أي: في سنة 1295 - دعاه الأمير مصطفى أرسلان إلى التدريس في

المدرسة الداودية في (عبية) ، فلبى دعوته ، وظل يعمل هناك بجد وإخلاص مدة

ثلاث سنين آخرها سنة 1298.

وكان من تلاميذه ثمة المحامي المشترع المرحوم عباس حميه ، والأفاضل

محمود بك تقي الدين مدير المعارف السابق ، وسامي بك العمار وثامر بك

العمار وفرحات بك حمادة وغيرهم ، ثم ترك الداودية ليتولى إدارة مدرسة المقاصد

الخيرية التي تأسست في بيروت سنة 1299 بعناية أبي الأحرار المرحوم مدحت

باشا ، وصديقه الكبير رائف باشا متصرف بيروت، ثم انتخب لتدريس العلوم

العربية والدينية في المدرسة الرشدية العسكرية سنة 1300.

ولما افتتحت جمعية المقاصد الخيرية مدرستها السلطانية عام 1302؛ دعته

إلى التدريس فيها ، وتولى نظارة السلوك كما دعت الأستاذ علامة سورية المرحوم

الشيخ حسين الجسر إلى تولي إدارتها؛ فقام بالوظيفة خير قيام مع محافظته على

التدريس في الرشدية العسكرية حتى كاد لا يكون له ساعة للراحة.

في المدرسة السلطانية عرفنا في الأستاذِ الرئيسَ الناظرَ البعيد النظر،

والرقيب الشديد الحذر، والمربي الحكيم يحسن سياسة النفوس، حتى إذا ما

استقامت على الطريقة بث فيها روح التقدم وساقها إلى أنبل مقصد من مقاصد العلم ،

وأمثل غاية من غايات العمل.

في المدرسة السلطانية كان أول من (شنف) آذاننا ، وشغل أذهاننا بهذه

الكلمات الذهبية: حب الوطن، الغيرة على الأمة، والاستعداد للمستقبل، المجد،

النهوض، الاعتماد على النفس، إلى أمثالها من الفرائد الكريمة التي كان ينسج منها

خطبه ، ومواعظه، ويشعل بنارها أفئدة النشء الذي كان يربيه ، ويعده؛ لخدمة ملته

وبلاده.

لم تطل إقامته في المدرسة السلطانية؛ لما اعتور إدارتها من تأثير السياسات

المختلفة ، فاستقال من خدمتها سنة 1304 ، ولما كانت همته وعصاميته تأبى

الارتزاق من موارد الكسل؛ انصرف إلى تجارة الكتب؛ لكيلا يفارق العلم في أيما

عمل متأسيًا بأستاذه البابي الحلبي صاحب المطبعة والمكتبة المشهورة ، وأسس في

تلك السنة مكتبته العثمانية ، ومع ما في ظاهر هذا العمل من النفع الخاص ، فقد خدم

به العلم؛ إذ حبب المطالعة إلى كثير من الناس ، وزاد في رغبة الراغبين فيها بما كان

ينتقي لهم من التآليف الحسنة في كل فرع من الفروع على أن تجارته هذه لم تكن

لتغفله عن غرضه الأسمى من إصلاح النفوس بالوعظ والإرشاد والتربية والتعليم؛

لذلك ما كان ينفك عن إلقاء الدروس في المسجد الجامع العمري.

تلك الدروس التي كان يرمي فيها إلى تهذيب الأخلاق التي إنما يكون المسلم

بها مسلمًا ، بل الإنسان إنسانًا، وتفقيه الكافة في الدين، وتنوير عقولها بمواعظ

التاريخ الإسلامي، ومناقب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام رضي

الله عنهم، ولمثل هذه الغاية من الإصلاح كان سلك غب عوده من الأزهر الطريقة

الشاذلية، وعمل جهده على ضبط أفكار مريديه من العامة بضابط الشرع، وشحذ

قرائح المعلمين منهم بآداب التصوف، وقاية لأولئك من الشذوذ الذي قلما يسلم منه

السالك الجاهل، وصونًا لهؤلاء من الجمود الذي يستولي على الطالب الواقف عند

ظواهر الفقه دون النفوذ إلى أسراره المتعلقة بكمالات الروح ، وتهذيب النفس،

على نحو ما أشارت إليه هذه الكلمة الحكيمة: (الطريقة بلا شريعة باطلة،

والشريعة بلا طريقة عاطلة) [1] .

ثمان سنين مضت على الأستاذ في المكتبة دون أن يفارقه الفكر في خدمة

الأمة من أقرب الطرق بأنجع الوسائل خصوصًا وقد رأى (بعد) ما عرى المدرسة

السلطانية من القلب ، والإبدال في المبدأ والمقصد أن الخطب يتعاظم ، والخطر يشتد.

تنبه المسلمون للعلم بصحبة القطبين الجليلين: الحوت ، وخالد، ثم اندفعوا

إلى تحصيله من الطريق الوطني الإسلامي الذي اختطته لهم جمعية المقاصد الخيرية

أسوة ببقية الطوائف المواطنة؛ ليجاروها في حلبة المدنية.

بيد أن الحكومة السابقة التي كانت تخصهم من مراحمها بالقسط الأوفر أخذت

عليهما هذه الطريق ، وصدتهم في بدئه عن بلوغ غايته؛ إذ حولت المدرسة

السلطانية إلى معمل موظفين؛ فارتدوا حيارى ، وسبل العلم متفرقة ، ومناهله

مختلفة لا يدرون أي سبيل يسلكون، ولا أي منهل يردون، وألحت بهم الحاجة إلى

مدرسة يعتاضون بها عن المدرسة الوطنية التي فقدوها، فمن لهذا الأمر العظيم غير

الكفء الندب العظيم؟

دفعت الغيرة والحمية أستاذنا لسد هذه التلمة ، فترك تجارة الكتب سنة 1312

استعدادًا لإنشاء المدرسة المنشودة ، وكاشف بالأمر صديقه المفضال صاحب السعادة

السيد عبد القادر أفندي قباني ، فوجد عنده من الشعور مثلما كان يجد هو في نفسه

حتى إن سعادته ارتاح إلى مشاركته في رأس المال.

وهكذا تيسر له سنة 1313 هجرية فتح المدرسة التي سماها بالعثمانية تعوذًا

من شر.

ودعاني إلى ما أحب من الخدمة؛ فلبيت ، وسعدت بموازرته زهاء عشرين

سنة، ومنذ ذاك دخل الأستاذ الرئيس في طور من الجهاد الأدبي لا يحتمل المقام

وصف مصاعبه ومتاعبه.

جرت المدرسة العثمانية على نظام عصري في الإدارة والتدريس لم يعهد

بمثلها في المدارس التي ينفرد بتدبيرها شخص واحد حتى زهت في برهة يسيرة ،

وانتشرت شهرتها في الآفاق؛ فأمتها الطلبة من أقاصي البلاد الإسلامية فضلاً عن

الأحياء السورية، ثم اتسعت دائرتها ، وجمعت داخل محيطها أقسام التعليم الثلاثة:

الابتدائي والاستعدادي والعلمي عدا روضة الأطفال، وبهذه صارت كلية وأخرجت

للأمة من الشباب الناهض الذي انطلق يؤدي ما وجب عليه لأمته من خدمة

المدنية في فروع العلم التي حصلها في الكلية الإسلامية، ثم اضطلع بها في جامعات

بيروت وأوربا ، فكان منه الأديب الصحافي والطبيب والصيدلي والحقوقي والتاجر،

وبالجملة فإن تلامذة الكلية الإسلامية إن لم يرفعوا أمتهم إلى ذروة المجد؛ فقد

قربوها من المنزلة التي تليق بها بين أخواتها في الوطنية من الأمم الراقية.

هذا ومن الأماني الإصلاحية التي كانت تشغل قلب الأستاذ الرئيس التوفيق

بين مقتضيات العلوم الحديثة ، ومقررات العلوم الدينية.

كان يزعجه ما يرى من التباين في الرأي بين بعض تلامذة المدارس

العصرية ، وبعض طلبة العلوم الدينية؛ لجهل كل من الفئتين بعلم الفئة الأخرى ،

وخاف على الجهود المبذولة في سبيل نهضة الأمة أن يحيط بها هذا الخلاف ،

ويحبطها إلى عكس المقصود منها، فهم بتلافي الأمر ، فوسع قدر ما أمكن دروس

العلوم الدينية من فقه ، وتوحيد ، وأضاف إليها درسًا في علم الأصول، ثم حاول

إنشاء دائرة خاصة بمريدي الاختصاص في العلوم الدينية شرط أن لا يقبل فيها إلا

من اضطلع بالعلوم العصرية ، وأحرز (إجازة البكلوريا) .

ولما كانت واردات المدرسة لا تتسع للإنفاق على هذه الدائرة رأى أن يستنجد

المشيخة الإسلامية؛ فسافر إلى الآستانة سنة 1913 ، وعرض عليها الفكر؛

فأعجبت به ، ونقلته إلى رجل الدولة إذ ذاك (أنور باشا) ، فحبذه أيضًا ، ووعد

بتخصيص ألف ومائتي ليرة تدفع مشاهرة معاونة لهذا المشروع [2] .

غير أنه لم يدفع منها سوى قسط واحد ، ووقعت الحرب العالمية؛ فبدلت

الخير شرًّا، وانقلبت المعاونة إلى مضايقة وإحراج ، وانتهى إلى إقفال المدرسة ،

ونفي الأستاذ الرئيس إلى إستانبول ، ووضعه هناك تحت المراقبة كما هو معلوم،

على أن الكلية ومشاغلها العظيمة ما كانت تستغرق همته، وما كانت عزيمته لتقف

عند حد من الخدمة، فقد كان لا يدع فرصة تسنح إلا اغتنمها للقيام بعمل مفيد، وإن

أنس لا أنسى دهشتي ، وقد دخل علي المخزن [3] يومًا من أوائل أيام الدستور

العثماني ، وفي يمينه أسطوانة من الورق ، فقلتُ له: يا أستاذ ، ما تلك بيمينك؟

فألقاها إليَّ ، وإذا هي ثلاث استدعاءات بطلب ثلاث رخص بإنشاء جريدة ومجلة

ومطبعة.

إلى ذلك اليوم كنت أحسب نفسي أعرف الناس بمبلغه من علو الهمة ،

والإقدام، ولكن استصغرت نفسي ، واستضعفت إدراكي؛ عندما ظهر لي أن همته

لا تحد بحد، وأن إقدامه لا يقدر بمقدار.

***

آثاره العلمية والأدبية

إن ما تقدم بيانه من المهام التي شغلت قلب الأستاذ ، وجوارحه منذ برز

لمعركة الحياة كانت تكفي لإشغاله عن سواها من الكتابة ، والتأليف غير أن احتماله

أعباء التدريس حمله على وضع عدة كتب نافعة في علوم الصرف والبلاغة

والمنطق وأحوال الفقه [4] على أسلوب يقرب هذه العلوم الرياضية والطبيعية واللغات

وآدابها.

وكان شرع في تصنيف كتاب في تاريخ آداب العربية ، وأملى منه عدة

فصول على تلامذته، فلما ظهر كتاب (الوسيط) الذي وضعه الأستاذان الفاضلان

الشيخ أحمد الإسكندري ، والشيخ مصطفى عناني في مصر وجده وافيًا بالغرض؛

فاعتمده في تدريس هذا العلم ، وأجل إتمام كتابه.

أما مكانته من الشعر ، وفنون الأدب ، فيكاد لا يجهلها أحد ، فقد صور شهامة

العرب ومكارمها ، وعواطف القلب البشري ، وأهواء النفس في رواياته البليغة:

السموأل والسباق، وذي قار، وفتاة الغار، التي تكرر تمثيلها ، وشهدها الألوف من

الناس؛ فراقهم حسن سبكها ، وما رصعت به من الشعر الجزل ، والأمثال الحكيمة

التي للمسامع ، والقلوب (كذا) .

***

أثره الأكبر

على أن للأستاذ أثره الخالد ، وتأليفه الحي النامي الذي أبدعته عزيمته

الماضية، وتعاهدت تنسيقه ، وتنميقه قواه العقلية والبدنية تعضدها مزاياه النفسية

من حزم ، وثبات ، وإخلاص، ذلك الأثر الذي اتخذ له من عقول النابتة وقلوبها

صحائف حساسة أودعها ما شاء أدبه ، وشاءت الوطنية والمدنية من كل علم

وفضيلة ، ثم هو لم يفعل بها فعل المؤلفين يجمعون صحفهم بين دفتين، بل فرقها في

الآفاق تشع النور والعرفان، وتنمو ، وتكثر ما تعاقب الملوان، وأضاء النيران

(عنيت المدرسة){ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 4) .

(المنار)

يظن بعض الناس أن قصر مدة مجاورة الشيخ أحمد عباس في الأزهر يدل

على أنه لم يكن من علماء الدين بكل ما في هذا اللقب من معنى، ونقول: إن

اشتغال طالب العلم الذكي بتلقي العلوم الأزهرية بضع سنين ، وتلقيه فيها عن

علماء أذكياء كالشيخ المرصفي ، وغيره من شيوخ فقيدنا كاف لتحصيل القدر

الكافي من هذه العلوم الذي يمكن صاحبه من الإخصاء بنفسه في كل ما يريده منها ،

ولتحقيق كل مبحث يريد الإحاطة به من مباحثها ، ولو أنه مكث بضع عشرة سنة في

دراسة تلك الحواشي ، والتقارير المعلومة ، والغوص في مناقشاتها؛ لغرق في بحر

من الخيال تتقاذفه أمواج الأوهام والشكوك ، ولم يخطر في باله خدمة أمته بمثل ما

خدمها به.

وأما الذي أذكى مصباح استعداده للعمل والسعي للنهوض بالأمة فهو حضوره

بعض مجالس السيد جمال الدين الأفغاني ، ثم قراءته لصحيفة العروة الوثقى

التي كان يصدرها هذا الحكيم بقلم مريده وصديقه الأستاذ الإمام رحمهم الله أجمعين.

_________

(1)

المنار: إذا أريد بالطريقة هذه النظم المعروفة المنسوبة إلى المتصوفة كما هو الظاهر؛ فهو مراد باطل، وإذا أريد ما هو أعم ، وهو الاهتداء بالشريعة عملاً وحالا؛ فالمراد صحيح.

(2)

المراد أن المبلغ المذكور إعانة سنوية ، ولكنها تدفع مشاهرة كل شهر مائة ليرة.

(3)

محل تجارة صاحب الترجمة.

(4)

أي: قسم العبادات من الفقه.

ص: 386

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون في أميركا يطلبون أستاذًا من الأزهر

وقفنا على الكتاب الآتي الذي أرسل إلى شيخ الأزهر بوساطة وزارة الخارجية

المصرية ، ولم نعلم ماذا كان من أمر الجواب عنه، وهذا نصه:

226 يونيون هول جمييكا. ل. ا. مدينة نيويورك

صاحب الفضيلة المفتي الأكبر شيخ الجامع الأزهر القاهرة القطر المصري.

أود أن أبين لفضيلتكم - معبرًا ببياني عن عواطف الكثرة من السكان -

الحالة الدينية السيئة التي تحيط بمسلمي هذا القطر خصوصًا المتزوجين منهم

العائلين للأطفال ، ليس لقومنا إمامة دينية تهديهم، الرجال أحرار في معتقداتهم ،

ولهم أن يصدقوا ما يشاءون ، وليس للشبان فضيلة إلا أنهم مسلمون صادقون، أما

الأطفال فيشبون جاهلين بميراث أسلافهم ، وبمبادئ الدين لا جامع ، ولا مدرسة

تؤويهم.

أما الأساتذة القليلون الذين يفدون إلى هذا القطر ، فإن مكاسب التجارة تغريهم

بمجرد وفودهم؛ فيهجرون التعليم ، ويقبلون على الدخول في غمار المتاجرة ،

وحينئذ ينبذ عامتنا فكرة تلقي الهدي الروحي عنهم، وقد أصبحوا رجال أعمال مثلهم.

ومن الممكن أن نثق وثوقًا صحيحًا أنه إذا تحسنت أحوال الأسر التي يجرى

فيها الدم الإسلامي؛ فإن عدد المسلمين يزيد زيادة عظيمة ، ويكون ذلك يومئذ أجل

المكافأة للجهود التي تبذل في هذا الصدد، ولقد حاول القوم كثيرًا أن يُنْشِئُوا عدة

مراكز للعمل، ولكن لم تكلل تلك الجهود بالنجاح؛ لعدم وجود قيادة ذات سلطة ،

ولضعف الإلمام بأحوال القطر المحلية.

هذا ، وهناك رغبة ظاهرة تقضي بتسيير الأعمال في حدود الدائرة الوطنية ،

مع إهمال روح الإسلام العامة إهمالاً كليًّا؛ فلذلك يمكن أن يجني المسلمون

الأميركيون من جراء توحيد جهودهم أكبر الفوائد.

وليكن من المفهوم يا صاحب الفضيلة أن عريضتنا هذه ليس لها أية صبغة

سوى الصبغة الدينية، وأن قضيتنا ما هي إلا قضية قوم ذوي دين خاص يريدون

لهم أستاذًا هاديًا.

والآن قد رغبنا في إيجاد وحدة دينية ، فإنا نلتمس بهذا أن تكون حاجاتنا

المساسة المستعجلة موضع التروي والفحص منكم ، وأن يبعث إلينا أستاذ معلم يعرف

أحوال هذا البلد ، ويبقى بيننا حتى تصبح هذه الجماعة قادرة على إخراج أساتذتها.

15 نوفمبر سنة 1926

... (إمضاء) حسين أديب

نيويورك، الولايات المتحدة ا. ل.

... الداعي الأول

...

...

... أسماء وعنوانات بعض العاملين معه

_________

ص: 396

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المطبوعات الحديثة

(مفتاح الخطابة والوعظ)

كتاب في العقائد والعبادات والأخلاق والفضائل وآداب المعاملات الشرعية

للحكام وسائر الناس، صنفه صديقنا الأستاذ الشيخ محمد أحمد العدوي أحد علماء

الأزهر المشتغلين بالسنة، ومدرسي القسم العالي فيه، ووعاظ المساجد الرسميين؛

ليستعين به في وعظه وخطبه، ويكون خير مادة لغيره من خطباء المساجد

وغيرهم من الواعظين، ومباحثه تدخل في بضعة عشر كتابًا: الإخلاص، العلم،

العقائد، الأخلاق، الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، المعاملات

المدنية، النكاح، الجهاد، القضاء، والولايات، المنكرات الظاهرة، وختمها

بالكلام في التوبة وما تنال به سعادة الدارين، ولم يسمه كتابًا.

وفي كل كتاب من هذه الكتب فصول فيما تشتد حاجة جميع المسلمين إلى العلم

به؛ ومادتها كلها من الكتاب والسنة التي يحتج بها.

يبتدئ كلاًّ منها بالآيات معدودة معزوة إلى سورها، ويقفي عليها بالأحاديث

النبوية مقترنة بأسماء مسنديها إلى النبي صلى الله عليه وسلم معزوة إلى مخرجيها

من كتب حفاظ السنة وجامعيها لا يزيد على ذلك إلا تفسير بعض الألفاظ التي يحتاج

الجمهور إلى تفسيرها في حواشي الكتاب.

عرض المؤلف كتابه هذا على وزارة الأوقاف لتقرر إرشاد خطباء المساجد

التابعة لها ووعاظها على الاستعانة به على عملهم؛ فندبت لجنة من كبار علماء

الأزهر لفحصه، ثم قررت (تحت رقم 1282 سنة 1341) : (إن هذا الكتاب

صالح لأن يكون مادة يستعين بها الوعاظ والمدرسون في إلقاء مواعظهم، ودروسهم) .

بعد هذا طبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا متقنًا على ورق جيد في سنة

1344، فبلغت صفحاته 212 بقطع المنار، وثمن النسخة منه عشرة قروش

يضاف إليها أجرة البريد، وهو يطلب من مكتبة المنار، فننصح لكل مسلم قارئ أن

يتخول نفسه بمواعظه وحكمه.

***

(الأخلاق والواجبات)

(مباحث في القرآن والحديث، الأخلاق والإيمان، الأخلاق والعبادات، الدنيا

والآخرة، الخير والواجب، الواجبات الشخصية، الواجبات العائلية، الواجبات

الاجتماعية، الواجبات المدنية، ستون آية وحديثًا) .

صنف هذا الكتاب صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي الطرابلسي

الشهير، وعضو المجمع العلمي بدمشق، وكان قد اقترحه عليه، ورسم خطته له

الأستاذ ساطع بك الحصري مدير المعارف في العراق أيام كان مديرًا للمعارف في

سورية في فترة استقلالها القصيرة، قال المؤلف في فاتحته بعد بيان الحاجة إلى

مثله في هذا العصر التي كنت سبب الاقتراح ما هو أصح وصف له قال:

(ورغب إلى أن أضع كتابًا مدرسيًّا في تهذيب أخلاق الناشئة الإسلامية يجمع

بين حاجة المربي والمعلم؛ فيستعينان به على ما هم بصدده من تربية الأحداث،

وتكوين أخلاقهم، وفائدة المتعلم؛ فيجد فيه كلمات جامعة، وأقوالاً في الحكم

والآداب رائعة، تكون عونًا له إذا راعاها على تهذيب نفسه، وتقوية ملكاته، وإن

اقتصر فيه من المنقول والمأثور على اقتباس ما ورد في الكتاب السماوي والحديث

النبوي. اللهم إلا ما جاء عرضًا من أقوال الحكماء مما يلتحم معناه في معنى الآية

والحديث، وأن أفرغ ذلك كله في أسلوب سهل المأخذ، قريب التناول، وأعلق عليه

من الشرح والتفسير ما تستدعيه الحاجة، ويتطلبه ذهن المطالع) ثم ذكر أنه احتذى

في تأليفه هذا المثال الذي رسمه، ووضعه ساطع بك له، وزاد عليه مقدمة في مباحث

القرآن، والحديث (توسع المطالع بيانًا، وتزيده رسوخًا وإيمانًا) .

وكنا قد اطلعنا على طائفة من هذا الكتاب قبل طبعه، وانتقدنا على صديقنا

المؤلف عدم ذكر مخرجي الأحاديث التي جمعها فيه، وعدم تحري الصحيح،

والحسن منها، فأجاب عن ذلك في خاتمته بمثل ما كان كتبه إلينا في كتاب خاص

قال:

(ولم نعن بتخريج هذه الأحاديث، ولا بينا درجتها قوة وضعفًا؛ لأن مواقف

كتابنا خطابية مراعى فيها التأثير في نفوس المخاطبين، وقد يوجد فيهم من إذا سمع

أن الحديث ضعيف؛ فترت همته عن العلم به، ولم يكترث لموضوعه.

على أن كتابنا هذا لم نؤلفه في فن الحديث؛ وإنما ألفناه في الفضائل، وهذه

يتسامح فيها، ويستشهد لها بأي حديث كان اللهم إلا الحديث الموضوع الذي خلا

كتابنا هذا منه، والحمد لله) اهـ.

ونقول: إن هذا الإطلاق غير مسلم، فإن الحديث الواهي الشديد الضعف أو

النكارة لا يقول أحد بالعمل به، بل اشترطوا للعمل بالضعيف الذي لا يصل إلى هذا

الحد شروطًا بينها الحافظ ابن حجر ، وسبق للمنار نشرها.

وجملة القول؛ إن الكتاب نفيس مفيد جدير بأن تستفيد منه النابتة الإسلامية

الحديثة، فإنهم لا يجدون فيه شيئًا مما يستنكرونه من كتب القدماء في الأدب؛

لاختلاف التربية والتعليم في المدارس العصرية، والعادات المنزلية والاجتماعية

بين هذا العصر وما تقدمه، وقد أشار إلى ذلك المؤلف بقوله:

(وقد اجتهدنا أن نشرح هذه الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية شرحًا يقرب

فهمها، ويسهل حكمها على أبناء هذا العصر، ولم نخالف فيما قلناه أصلاً تقرر بين

علمائنا رضي الله عنهم، نعم خالفناهم في بعض التراكيب الاصطلاحية، وكثير من

الأساليب الكتابية، مما اختلف باختلاف الزمان، وتطور العمران، وتبدل القرائح

والأذهان) ، واستشهد على الحاجة إلى هذا بعبارة من كتاب (أدب الدنيا والدين)

للعلامة الماوردي في اختلاف الأدب باختلاف الزمان والعرف.

وقد طبع الكتاب في سنة 1334 في المطبعة السلفية طبعًا حسنًا، وبلغت

صفحاته 227 صفحة، وثمن النسخة منه 25 قرشًا.

(البينات) مقالات في الدين والاجتماعات والأدب والتاريخ للأستاذ الشيخ

عبد القادر المغربي جمعت في جزأين.

سبق لنا تقريظ الجزء الأول منها، وقد طبع الجزء الثاني في سنة 1344

بالمطبعة السلفية أيضًا، وهو مُصَدَّر بمقدمة لنا في ترجمة مؤلفه ، ومكانته في العلم

والأدب والإصلاح ، وهو جدير بأن يطالعه قراء العربية ، ولا سيما نابتة المدارس

العصرية ، والمولعون بقراءة المجلات والصحف الدورية المتعارضة المتناقضة في

أمثال هذه المباحث التي ولج المؤلف أبوابها على علم وبصيرة، وقد بلغت صفحاته

314 بقطع المنار ، وثمن النسخة منه 25 قرشًا.

_________

ص: 397

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحج في هذا العام

بلغ عدد حجاج هذا العام 225 ألفًا بالرغم من أنوف الملاحدة والمبتدعة

والروافض الذين بثوا الدعاية لمنع الحج ، وكان منهم ألوف من الشيعة الإيرانيين ،

وغيرهم بالرغم من حكومتهم التي منعت الحج رسميًّا، وقد كان الأمن العام

والخاص على أكمله كما ثبت بالتواتر ، وقد بلغنا أن حجاج الشيعة كانوا في غاية

الغبطة والهناء ، وقال من سبق لهم الحج منهم: إن الشيعة لم يكونوا مكرمين

أحرارًا في موسم كهذا الموسم ، ففي سبيل الله ما سيلقون من ظلم حكومتهم ، وعقابهم

على أداء ما فرضه الله عليهم، فقد بلغنا أنها أمرت بنزع أملاكهم ، وعقارهم من

أيديهم، وسكت لها علماء الشيعة الأعلام على ذلك! !

وقد ظهر للعيان خطأ الحكومة المصرية فيما فعلت من تخويف المصريين من

الحج ، وزعمها أنهم يستهدفون للخطر؛ لعدم خروج المحمل وحرسه معهم، وقام

البرهان الحسي على أن ذلك الحرس لا حاجة إليه؛ لأن الأمن في الحجاز أتم

وأكمل منه في مصر ، بل هو هنا مختل معتل أعيا أمره الحكومة ، والشكوى عامة.

هذا ، وإننا ننتقد ما كتبه بعض الحجاج في الجرائد من ذم الحجاز بحرارته ،

وطرز مبانيه القديمة ، وغلاء بعض الحاجات والأجور فيه ، فإنهم يجهلون أن

الحج تقشف ينافي الترفه ، والتنعم شرعًا ، وأن أهله فقراء ، وحكومته فقيرة ، وأن

المسلمين كانوا يقضون في سبيل الحج عدة أشهر ، وينفقون ألوفًا كثيرة ، ويعدون

ذلك أفضل ما أنفقوا طول عمرهم ، فمن لم يفقه هذا؛ فهو لم يحج ، ولم يعرف

الحج، ومن لم يرض به؛ فليحج مع الملاحدة الفاسقين إلى منتزهات أوربة ،

ومعاهد الخلاعة فيها ، ولا يدعي الإسلام.

_________

ص: 400

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من البحرين

في الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي

(س 7-10) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين؛

هل يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة أحمد ومالك

والشافعي وأبي حنيفة، وهل يجوز للعامي ألا يتمسك بمذهب من المذاهب الأربعة ،

وألا يقلد إمامًا من الأئمة الأربعة ، وأن يكون مذهبه مذهب من أفتاه، وأن يلقب

نفسه محمديًّا، ويومًا يسأل عالمًا شافعيًّا ويعمل بقوله، ويومًا يعمل بفتوى مالكي ،

ويومًا بفتوى حنبلي، ويتبع الرخص في مسائل العبادات.

وهل يجوز له إذا أفتاه عالم من المسلمين من الفقه أن يقول: ما أقبل الفقه ،

أقبل الكتاب والسنة فقط.

أفتونا على ذلك ولكم من المولى جزيل الثواب.

...

...

...

... لمخلصكم خليل الباكر

(أجوبة المنار)

(1)

هل ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة؟

إن لأئمة الفقه الأربعة المتبعين فضلاً على الشيخ أحمد تقي الدين ابن تيمية؛

لأنه لم يصر فقيهًا إلا باطلاعه على فقههم، كما أن لأئمة الحديث كأحمد ، والشيخين ،

وأصحاب السنن الأربع وغيرهم فضلاً عليه بأنه لم يكن محدثًا إلا بكتبهم.

ولقد كان مثل مالك والشافعي وأحمد أصح منه فهمًا للكتاب والسنة فيما أعتقد؛

لأن اللغة العربية كانت لهم سليقة لا صناعة فقط كعلماء عصره، وهو قد بلغ

رتبة الاجتهاد المطلق، واطلع على ما لم يطلعوا عليه كلهم من الأخبار والآثار؛

لأنه اطلع على ما رووه وعلى غيره وحفظه وعرف ما قالوه هم ، وما قاله

غيرهم من أقرانهم في أسانيدها وفي معانيها ، فهو في فتاويه يذكر خلاف الأئمة

المجتهدين في المسألة وأدلة كل منهم ، ويمحص هذه الأدلة؛ فيتبين الراجح منها

بالدليل، فمن تأمل فتاويه بنظر الإنصاف؛ يرى أن ما رجحه هو الحق في الغالب ،

كما ترى في رسالة أحكام السفر التي خالف فيها الأئمة الأربعة في بعض المسائل

كتحديد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويباح الفطر ، ووافقه من جاء بعده من فقهاء

الحديث المستقلين كالشوكاني.

ثم إنه قد حَدَثَ بعد الأئمة الأربعة بدع خلع عليها مبتدعوها ثياب زور عزيت

إلى الدين، فاتبعها خلق كثير من المسلمين، منها ما جاء من شبهات الفلسفة ،

ومنها ما جاء من تصوف الهنود، ومنها ما كان من أوضاع غلاة الشيعة الظاهرية

والباطنية إلخ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم الناس - إن لم يكن أعلمهم -

بمثارات هذه البدع وشبهاتها ومنتحليها، ومن أقدرهم على بيان وجوه مخالفتها للدين

الإسلامي ، والاستدلال على بطلانها، ولم يكن الأئمة يعرفون ذلك كله؛ لأنه لم

يكن في زمنهم إلا بعضها، فالأمة الإسلامية محتاجة إلى شيء من علوم ابن تيمية

لا تجده في شيء مما روي عن الأئمة رضي الله عنهم أجمعين - وأهمه بيانه

لحقيقة التوحيد ، وهدم قواعد الشرك والبدع ، ودحض شبهات أهلها.

مع هذا كله لا ينبغي لأحد أن يقول: إن ابن تيمية كان أعلم من هؤلاء الأئمة

هكذا على الإطلاق لما فيه من الدعوى بأنه - أي القائل - من طبقتهم ، أو أعلم

منهم، ولذلك قدر أن يرجح بعضهم على بعض، ولما فيه أيضًا من إثارة الخلاف

والشقاق بينه وبين أتباعهم ، وهم سواد المسلمين الأعظم مما هو في غنى عنه إن لم

يكن صاحب هوى، ولأن الله تعالى قد نفع بعلمهم وهديهم أضعاف من انتفعوا به،

وهذا أمر عظيم ، مثاله في المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وأولاده وأحفاده الذي

يظهر من كتبهم أن الشيخ عبد اللطيف كان أوسع علمًا بفنون العربية وأصول الفقه

وفروعه ومصطلح الحديث من جده شيخ الإسلام، ولكن جده هو الذي هدى إلى

العلم الواسع الدقيق بتوحيد الله تعالى الذي هو أساس الإسلام ، وقام بالدعوة وهدى

الله به الألوف ومئات الألوف إلى دين الله الخالص ، وكان أولاده وأحفاده - ومنهم

الشيخ عبد اللطيف هذا من بعض حسناته ، وله مثل أجورهم كلهم رحمهم الله

أجمعين.

****

(2)

هل يجوز لعامي ترك تقليد كل من الأربعة

إلخ؟

زعم بعض المقلدين من المتكلمين والفقهاء أنه يجب على جميع المسلمين تقليد

أحد هؤلاء الأربعة في الأحكام الدينية العملية من العبادات والمعاملات، وزاد

بعضهم تقليد الشيخ أبي القاسم الجنيد إمام الصوفية كما قال اللقاني في عقيدته

(جوهرة التوحيد) .

ومالك وسائر الأئمة

كذا أبو القاسم هداة الأمة

فواجب تقليد حبر منهم

كذا حكى القوم بلفظ يفهم

قالوا كما قال هو في شرحه: إنه أراد بسائر الأئمة الثلاثة - أبا حنيفة

والشافعي وأحمد ، وهذا ما عليه جمهور متأخري العلماء الرسميين من أهل الأزهر

ومن على شاكلتهم في سائر الأمصار ، إلا من آتاه الله حظًّا من الاستقلال في العلم ،

والنظر في الأدلة ، واتباع ما تقوم عليه الحجة، وكنا نسمع هذا من مشايخنا منذ

أول عهدنا بطلب العلوم الدينية، وكانوا يحتجون على ذلك بأن هؤلاء الأئمة هم

الذين دونت مذاهبهم وبسطت فيها المسائل وكثرت الفروع بحيث يجد الناس فيها

جميع ما يحتاجون إليه دون غيرها، وكل هذا غير صحيح فإن للظاهرية كتبًا مدونة ،

ولا سيما الإمام أبي محمد ابن حزم وهم من أهل السنة، وكذلك الشيعة الزيدية

والشيعة الإمامية والأباضية قد دون فقه مذاهبهم في مجلدات كثيرة.

هذا وما ذكروه ليس متفقًا عليه عند علماء القرون الوسطى ومن بعدهم ممن

صرحوا بوجوب التقليد، بل قال بعضهم: بجواز تقليد غيرهم من الأئمة كالليث بن

سعد وداود الظاهري وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير

الطبري وسفيان بن عيينة كما تراه في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ

الأزهر في عهده على الجوهرة - وقد ذكر هو وغيره أنهم استدلوا على أصل

وجوب التقليد الذي حصره بعضهم في الأربعة بالعلة المتقدمة بقوله تعالى {فَاسْأَلُوا

أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)، قال: فأوجب التقليد على من لم

يعلم ، ويترتب عليه الأخذ بقول العالم وذلك تقليد له.

وأقول: إن هذا الاستدلال ظاهر البطلان ، فإن من لا يعلم حكم الله تعالى في

مسألة يجب أن يسأل عن النص فيها من كتاب الله تعالى ، أو سنة رسوله صلى الله

عليه وسلم لا عن رأي أحد الأربعة أو غيرهم ، والاجتهاد ظن المجتهد في المسألة

الذي أداه إليه بذل الجهد في البحث عنها، وهو ساقط الاعتبار مع وجود النص

بغير خلاف، ولا يجب على أحد من خلق الله أن يدين الله بظن غيره ، والتقليد أن

تأخذ بقول لم تعرف له دليلاً، وما المانع أن يقال: إن الجاهل يسأل عن نص

الشارع الذي كلف اتباعه فإن لم يوجد؛ سأل المجتهد عن ظنه ، وعن الدليل الذي

استنبطه منه، فإذا اقتنع به واطمأن قلبه أخذ به وإلا فلا، فقد روى أحمد من حديث

أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعا: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب،

والإثم ما لم تسكن إليه النفس ، ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون) حديث

حسن ، وروى أحمد ، والبخاري في التاريخ من حديث وابصة بن معبد رضي الله

عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر

والإثم إلا سألته عنه. فقال لي (ادْنُ يا وابصة) ، فدنوت حتى مست ركبتي ركبته ،

فقال: (يا وابصة أخبرك ما جئتَ تسأل عنه ، أو تسألني؟) فقلت: يا رسول

الله أخبرني. قال: (جئت تسألني عن البر والإثم) قلت: نعم، فجمع أصابعه

الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: (يا وابصة! استفت نفسك، البر ما

اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر،

وإن أفتاك الناس وأفتوك) وفي طريق إسناده مقال ، ورواه أحمد من طريق

آخر باختصار ، وهذا المعنَى مروي عن غيرهما من الصحابة ، وفي صحيح مسلم

من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا (البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك

وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، وأخرجه النووي في الأربعين ، وقد أورد الحافظ

ابن رجب في شرحه له حديث وابصة ، وتكلم على طرقه ، ثم قال: وقد روي هذا

الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، وبعض طرقه جيدة ،

فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد

بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإثم؟

قال: (إذا حاك في صدرك شيء؛ فدعه) ، وهذا إسناد على شرط مسلم إلخ ، ثم

ذكر رواية أحمد لحديث أبي ثعلبة المار بإسناد جيد، والمراد من اطمئنان القلب هنا

ما يعبر عنه في هذا العصر بالوجدان وراحة الضمير، وعليه المعول في

المشتبهات بين الحلال والحرام دون البين منها كما حديث: (الحلال بين ، والحرام

بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ

لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام (الحديث رواه الجماعة

كلهم من حديث النعمان بن بشير ، وإن من الجاهلين من يقترف المعصية ، أو

يطلق امرأته ، ثم يستفتي أحد العلماء ويحرف له القول؛ ليفتيه بما يوافق هواه ،

فإن أفتاه بما يحلل له المعصية كأكل مال غيره بالباطل ، أو معاشرة مطلقته معاشرة

الأزواج؛ فعل وإن كان قلبه غير مطمئن للفتوى ظانًّا أن الله يعذره بفتوى المفتي

كما يفعل الحكام في الدنيا.

ألا فليعلم كل مسلم أن المفتي ليس شارعًا للدين ، وإن كان مجتهدًا ، وإنما

وظيفته بيان حكم الله الذي أنزله في كتابه ، أو بينه على لسان رسوله صلى الله

عليه وسلم ، فإذا لم يكن في المسالة نص عنهما؛ فليس له أن يحمل الناس على أن

يدينوا الله ويعبدوه بمقتضى رأيه واجتهاده الذي هو ظن من ظنونه فضلاً عن حمله

إياهم على العمل برأي غيره مما يقرؤه في الكتب، ولم يكن أحد من الأئمة المجتهدين

بحق - ولا سيما الأربعة - يأمر الناس بالعمل باجتهاده وتقليده في رأيه وفهمه، وإنما

كانوا يبينون للناس ما يفهمون من نصوص الشارع بطرق الدلالة المعروفة عندهم،

فمن وافق فهمه فهم أحد منهم فعمل به؛ كان عاملاً بما اعتقد أن الله شرعه له، ومن

لم يوافقه؛ تركه وعَدَّهُ كأن لم يكن ، وليس له أن يدين الله تعالى به ، والنصوص

عنهم في ذلك مشهورة سبق لنا ما يكفي منها في (محاورات المصلح والمقلد)

وغيرها ، ولا سيما ما نقلنا بعد ذلك عن كتاب (أعلام الموقعين) للمحقق ابن القيم

وسيأتي بعضها.

قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3)، وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا

إِلَيْكَ} (الشورى: 13) الآية.

وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:

21) ، وقال في أهل الكتاب:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) فقال عدي بن حاتم عندما سمعها وكان نصرانيًّا فأسلم: يا رسول

الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ فبين له صلى الله عليه وسلم أن المراد بها أنهم كانوا

يحلون لهم ويحرمون عليهم؛ فيتبعونهم. فاعترف بذلك، وما كان يفعله علماء

اليهود والنصارى من التحليل والتحريم ، والقول في دين الله برأيهم ، وفهمهم

للتوراة والإنجيل من غير أن يكون نصًّا ظاهرًا في الحكم فعله كثير من علماء

المسلمين المقلدين؛ فاتبعهم العوام فيه حتى صارت الجرأة على التحليل والتحريم

موضع العجب والاستغراب عند العقلاء المستقلين؛ بل صار العوام يحلون

ويحرمون، وليس لأحد حق في التحليل والتحريم على العباد إلا ربهم تبارك وتعالي ،

ولكن كان ذلك وهو مصداق ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من اتباع هذه الأمة

سنن من قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.

حتى إنهم حرموا كثيرًا من العلوم والفنون والصناعات التي تعتز بها الأمم

وتقوى، والمنافع العامة التي تدل نصوص الكتاب والسنة على إباحتها كامتنانه

تعالى علينا بتسخير جميع ما في الأرض لمنافعنا، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما

رواه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني وحسنه: (إن الله فرض فرائض؛

فلا تعتدوها، وحد حدودًا؛ فلا تقربوها، وحرم أشياء؛ فلا تنتهكوها، وسكت عن

أشياء رحمة لكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها) ، ويؤيده ما رواه البزار في مسنده

والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو

عفو ، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى) ، ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ

رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) .

ويدخل فيما أحله الله وحرمه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فكأنه مستنبط من كتاب الله وبيان له كما يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره،

أو لأنه بوحي آخر غير القرآن كما يقول آخرون، أو لأن الله تعالى أذن له

بالتشريع باجتهاده كما فهم بعضهم من حديث (إلا الإذخر) .

هذا وإن ما ورد في الكتاب والسنة من أمور الدين المحضة كالعقائد والعبادات

والحلال والحرم؛ فهو قسمان: قسم قطعي الرواية والدلالة وهو التشريع العام الذي

يجب على كل مسلم الأخذ به، ويجب على أئمة العدل إلزام الناس إياه، وقسم ليس

كذلك وهو محل الاجتهاد، فمن فهم منه حكمًا اعتقد أنه مراد الله تعالى ولو بواسطة

بيان غيره من العلماء له؛ وجب عليه العمل به دون من لم يفهم ذلك ولم يعتقده

استقلالاً ولا تبعاً ، وليس للأئمة أن يجعلوه تشريعًا عامًّا.

كما يؤخذ ذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه حين نزل

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ

وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) ، وقد وضحنا هذا في مقدمتنا لكتاب

المغني في الفقه، وبناءً على هذا كان ما يجب على كل فرد من أفراد المسلمين

عوامهم وخواصهم وجوبًا عينيًّا معلومًا كله أو جله منتشرًا بين الناس في عصر

السلف الصالح لقلته وجلائه ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلقنون

الأعرابي دينه وما يجب عليه في مجلس واحد - فكان ما يحتاج العامي إلى سؤال

العلماء عنه قليلاً، وإنما كانوا يسألونهم عن حكم الله لا عن آرائهم واجتهاداتهم، ومن

المعلوم من تاريخهم وسيرتهم بالقطع أن أحدهم كان يسأل في كل أمر يعرض له من

يلقاه من أهل العلم ، ولم يكن أحد يلتزم عالمًا بعينه لا يأخذ عن غيره ، وكان علماء

السلف يجيبون كل سائل بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،

ثم صاروا في عصر التابعين يذكرون ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في

المسألة ، أو علماؤهم المشهورون إذا كان فيها خلاف، وقد دون رواة السنة وحفاظها ما

رووه من أقوال الصحابة وأعمالهم تبعًا لتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

وعدوا إجماع الصحابة حجة شرعية دون أقوال أفرادهم إلا من احتج بإجماع الخلفاء

الراشدين.

هذا وإن مدار الاجتهاد على القياس ، ومن أئمة الشرع من ينكره ألبتة ، ومنهم

من لا يقول إلا بما كانت علته منصوصة وما قطع فيه بنفي الفارق ، ومنهم من

يدخل هذا المعنى في مدلول النص، ومنهم من منعه في التعبدات، فعلى هذه

الأقوال كلها لا تثبت عبادة مستقلة باجتهاد المجتهد فلا حاجة بمسلم إلى تقليد أحد في

مذهبه ، وإنما يأخذ الجاهل عن العلماء ما أوجبه الله وما حرمه عليه بنصوص

الكتاب والسنة القطعية الثبوت والدلالة كما تقدم ، هذا هو الضروري فإذا وجد سعته

لطلب العلم واقتنع ببعض الظنيات العملية أخذ بها.

وإنما يثبت الاجتهاد في المعاملات والقضاء وسياسة الحكام بنص حديث معاذ

المشهور فإذا قال علماء السنة: إنه يتعين على الحكام في هذه الأزمنة الاعتماد على

هذه المذاهب المدونة في الأحكام القضائية والسياسية والحربية لأنهم يجدون أكثر ما

يحتاجون إليه فيها كان لقولهم هذا وجه في الجملة - وأما القول التفصيلي في ذلك

فهو: إنه لا يمكن إدارة حكومة إسلامية إلا بعلماء مجتهدين يستفيدون من علم الأئمة

المتقدمين ، ويزيدون على ذلك ما تضطرهم إليه حالة هذا الزمان بما تجدد للبشر

فيه من أمور المعايش والسياسات والمعاملات مع الأمم الأخرى، إلا إن وجد

حكومة صغيرة في عزلة عن العالم كله؛ فإنها يمكنها أن تلتزم أحكام مذهب معين لا

تحتاج إلى غيره كما هي حالة أهل نجد في نجدهم وأهل اليمن في يمنهم دون من

خرج منهم للتجارة في الهند أو العراق أو مصر أو سورية دع من اتسعت تجارته

فبلغ بها أوربة.

هذا وإن بعض علماء القرون الوسطَى الذين زعموا وجوب تقليد واحد من

الأئمة الأربعة دون غيره لم يوافقهم جميع أقرانهم في زمنهم ، ولا فيما بعده.

قال الباجوري في شرحه بيت الجوهرة المتقدم: وقال بعضهم لا يجب تقليد

واحد بعينه ، بل له أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى ، فيجوز

صلاة الظهر على مذهب الإمام الشافعي ، وصلاة العصر على مذهب مالك وهكذا.

ثم ذكر أن بعضهم جوز تقليد الأربعة في غير الإفتاء كما قال:

وجائز تقليد غير الأربعة

في غير إفتاء وفي هذا سعة

والحاصل أن التقليد باطل بنص القرآن ، والعمل به مفض إلى إضاعة الدين

لأن من طبع العوام تقليد من يثقون به في كل زمان ومكان ، وأنى لهم بتمييز الإمام

المجتهد من غيره ، وإننا نرى الملايين ممن ينسبون إلى المذاهب المعروفة يأخذون

بأقوال رجال من الجهلة الدجالين أدعياء طرق التصوف وأدعياء الفقه أيضًا لتلبيسهم

عليهم بالدعاوى الباطلة وإظهار التدين أو بعض الغرائب التي يسمونها كرامات ،

حتى صار الشرك الصريح من أصول عقيدة الدين ، والتوحيد المحض من الكفر

المنكر بدعوى أنه احتقار لأولياء الله تعالى وإنكار لكرامتهم إلخ ما شرحناه مرارًا

فلا محل هنا لإعادته.

فالواجب أن يعلم الناس دينهم كما كانوا يعلمون في الصدر الأول من الإسلام

يلقن العوام عقيدتهم من الكتاب والسنة وكذا عباداتهم وما أحل الله لهم وحرم عليهم ،

ويجعل تعليم هذا على درجتين الأولى المجمع عليه الذي كان يقال فيه إنه معلوم من

الدين بالضرورة بحيث يعد جاحده غير مسلم ، والثاني ما قويت أدلته من مسائل

الخلاف وكان عليه جمهور السلف بحيث كانت تعد مخالفته شذوذًا، مهما يكن

المخالف فيه جليلاً، وأرى بعد اختبار حال المسلمين منذ ثلث قرن أنه لا يمكن أن

يعرف جمهورهم حقيقة دينهم إلا بهذه الوسيلة التعليمية وإنني أعلم أن الملايين من

المنتسبين إلى هذه المذاهب المدونة الأربعة وغيرها يقلون سنة بعد سنة، واعلمْ

أن أكثرهم لا يعرف ضروريات المذهب معرفة صحيحة وإنما يعرف في الغالب منه

أضر ما فيه ، وهو بعض مسائل الخلاف بينه وبين المذاهب الأخرى في بلده أو

قومه ، فإن الأصل في الدين الوحدة والاتفاق وأضر ما فيه تعدد المذاهب الاختلاف

والافتراق {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ

عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) .

فعلم من هذا أن أكثر الناس إذا قالوا: نحن شافعية ، أو مالكية مثلاً يكذبون

لأنهم ليسوا على مذهب من ورثوا الانتساب إلى مذهبه عن آبائهم لا في العلم ولا

في العمل لأنهم قلما يعرفون منه إلا بعض مسائل الخلاف في مسائل اجتهادية ليست

من أمور الدين القطعية ولا يضر أحدًا جهلها ، ولا العمل بقول أي إمام فيها كما

وضحناه في (محاورات المصلح والمقلد) ، وكذا في مقدمتنا لكتاب المغني الشهير

التي جعلناها في أول الجزء الأول منه ونشرناها في المنار ، فليراجعها السائل.

فإذا قال من هذه حاله: إنه محمدي أي من أهل ملة محمد صلى الله عليه

وسلم؛ فلا بأس بذلك ولكن ليس له أن يحتقر هذه المذاهب التي قامت على أساسها

حضارة الدول الإسلامية كلها ووجد بها تشريع للإسلام كان يمكن للمسلمين الاستغناء

- بمواصلة الاجتهاد فيه - عن قوانين جميع الأمم التي ما زال يقلدها بعض الدول

الإسلامية ويبعد عن التشريع الإسلامي حتى انتهى بعضها إلى نبذ الشريعة الإسلامية

بجملتها وتفصيلها ويخشى أن يتبعها غيرها من الدول المشابهة لها في سيرتها إذا

استمر علماؤها على جمودهم على تقاليدهم، وحكامها على اقتباس التشريع عن

غيرهم.

***

(3)

هل يجوز تتبع الرخص في العبادات؟

الأصل في أحكام الدين العزائم ، وقد شرع الله الرخص كما شرع العزائم ،

وهو يحب أن تؤتى رخصه ، كما يجب أن تؤتى عزائمه، وبعض الرخص مقيد

بأحوال محدودة لا يتعداها ، كالمجاعة المبيحة لمحرمات الطعام ، والسفر والمرض

المبيحين لترك الصيام وللتيمم، وبعضها مقيد بأحوال غير محدودة ، بل تحتاج إلى

اجتهاد المكلف كالجمع بين الصلاتين على التحقيق فيه كما بينه شيخ الإسلام في

رسالة في القصر والجمع ، فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ،

كما رواه الشافعي ومسلم غيرهما من حديث ابن عباس وعلله بقوله: لئلا يحرج

أمته ، فلا يجوز لمسلم أن يلتزمها دائمًا ، فيجعل أوقات الصلوات الخمس المعلومة

من الدين بالضرورة ثلاثًا.

ولا يحظر عليه أن يحرج نفسه إذا تعسر عليه أداء الظهر أو المغرب في

وقتها لشغل ضروري عارض ، فيمتنع من تأخيرها إلى ما بعدها ليجمعها معها ،

ومن كان مقلدًا لمذهب يتأول فقهاؤه حديث الجمع في الإقامة؛ فليقبل هذه المسألة

بعدها من باب المثال.

هذا ما يقال في رخص الشرع الثابتة بالنصوص، وأما رخص المذاهب

الاجتهادية فتتبعها وتقليد أصحابها فيها تلاعب بالدين لا يفعله إلا جاهل متهاون.

وإذا كان التقليد المحض بدون بينة ولا بصيرة باطلاً في عزائم الشريعة ،

فكيف يكون صحيحًا في العبث والتلاعب؟

***

(4)

هل يجوز رد الفتوى الفقهية طلبًا للنص؟

إن الله تعالى أمرنا باتباع كتابه واتباع رسوله، ونهانا أن نتبع غيرهما، وإنما

العلماء أدلاء ومبلغون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما الواجب

على من يجهل شيئًا من دينه أن يسأل العالم عن حكم الله ورسوله فيه ، لا عن رأيه

أو رأي من يقلده هو فيه كما تقدم شرحه قريبًا ، فإذا قال له العالم: حكم الله كذا ،

فله أن يسأله عن النص ، ويقول له: لا أقبل قولك ولا ما تنقله من كتاب من كتب

الفقه؛ حتى تبين لي دليله من الكتاب والسنة ، قال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد أن

يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين قلناه ، وكتب المزني صاحب الشافعي في أول

مختصره في الفقه ما نصه: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس

رحمه الله ، ومن معنى قوله: لأُقَرِّبه على من أراده ، مع إعلامه نهيه عن تقليده

وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه وبالله التوفيق اهـ.

ورئي مالك يبكي في مرض موته؛ لأنه بلغه أن بعض الناس يعملون بأقواله ،

مع أنه يقول القول ويرجع عنه، وامتنع أحمد عن كتابة شيء في الفقه؛ لئلا

يقلده الناس فيه.

هذه جمل عن الأئمة الأربعة من عمل بها؛ كان منتفعًا بعلمهم ، وأكثر ما في

كتب الفقه آراء لمن لم يبلغ رتبتهم من أتباعهم، وأكثر من يسمون العلماء الآن لا

يتقيدون بأقوال الأئمة ، بل العمل عندهم على اعتماد بعض المقلدين لهم.

إن الله تعالى لم يأمر باتِّبَاع أحد في الدين غير رسوله صلى الله عليه وسلم ،

وأمر بطاعة أولي الأمر فيما يتعلق بالأحكام المنوطة بهم ، لا في عبادة الله تعالى ،

فإلى متى نحجب الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم ، ونكلهم إلى هؤلاء الأشياخ

الأدعياء الذين لا يوجد في الألف منهم عالم ، ونخالف الأئمة أنفسهم في ذلك من

حيث ندعي اتباعهم؟

_________

ص: 423

الكاتب: محمد رشيد رضا

كيف تنهض اللغة العربية

بحث للأستاذ عبد السميع أفندي البطل من حذاق مدرسي المدارس الأهلية

عرضه على مؤتمر اللغة العربية المتصور بمناسبة الاحتفال بأحمد شوقي بك أمير

الشعراء بمصر - قال بعد مقدمة مناسبة للاحتفال ما نصه:

(آمالنا في المؤتمر)

طالما تمنت نفوس الغيورين من شداة الأدب، والذادة عن لسان العرب، عقد

مؤتمر كهذا للبحث والتشاور في حالة اللغة ومستقبلها، وما يجب عمله على أبنائها؛

لتثبيت قدميها أمام هذا التنازع المستحر بينها وبين اللغات الحية قبل تطبيق قانون

بقاء الأصلح على المصروع منهن في ميدان التجاذب.

حقًّا! إن الفرصة سانحة، والوقت مساعد، وما نرى اللغة في وقت بمسيس

الحاجة إلى هذه المباحث أشد منها في هذا الوقت الذي أصبحت فيه اللغات أداة من

أدوات المزاحمة في الحياة الزاخرة بعلومها وآدابها وصناعاتها ومخترعاتها وكل

ناحية من نواحيها.

وإن مما يذكر بالشكر للقائمين بتنظيم الاحتفال بشاعرنا العبقري أن دعوا

دعوة جفلى ، كل من له اقتراح أو عنده رأي في خدمة اللغة ونهضتها أن يقدمه لهم؛

ليكون له ما بعده، ففتحوا بذلك بابًا واسعًا يجدر بكل غيور على اللغة أن يلجه

غير متوان ولا متواكل.

لذلك يتقدم هذا الضعيف إلى جماعة المحتفلين بالشكر والثناء، عارضًا عليهم

ما يراه الطريق اللاحب إلى تعليم اللغة - عرض خبير زاول تعليمها بضع عشرة

سنة بدت له في خلالها عيوب كثيرة في طرق التدريس، ويرى أنها هي التي قعدت

بالمتعلمين عن إجادة لغتهم - بله النهوض بها وخدمتها من طريق العمل كالتصنيف

والترجمة والتعريب والوضع العرفي.

ولما كان استقصاء هذه العيوب ، وشرح مضارها ، وذكر طرق إصلاحها

بالتوسع المطلوب لا يتسع له وقت المؤتمر - رأيت أن أسلك سبيل الإيجاز، ورب

قليل خير من كثير.

فإذا أسعدني المؤتمر بقبول هذه الرسالة ونشرها فيما يرتئي نشره؛ كان ذلك

إعزازًا للفكرة وأطير لها ذكرًا، والفكرة متى برزت من مكمنها ، ووجدت تربة

خصبة، وجوًّا ملائمًا، نمت وترعرعت وآتت أكلها ضعفين.

***

(الموضوع)

ليست اللغة العربية ببدع من اللغات الحية الناهضة النشيطة، فسبيل تلقينهن

والتبحر فيهن، هو عين السبيل المهيع للغتنا إذا أردناها غضة بضة، وما سبيلهن

إلا الحفظ والتقليد في الكتابة والمحادثة، وليس لنا من وسيلة إلى إتقان لغتنا في

قليل من الزمن غير هذه الطريقة، وما سواها باطل وضلال وإليكم أسوق الدليل:

يقضي الطالب في مدارسنا صدر حياته بتعلم اللغة، فينفق الشطر الأكبر من

هذا الزمن في دراسة الوسائل بطريقة ملتوية غير مفيدة ، وكلما أمعن فيها زاد بعدًا

عن الغاية ، وإن هو وصل إليها؛ وصل وقد أنهكه السرى، وأضناه التعب، وقعد

به الملل، وهيهات أن يحصل شيئًا نافعًا يكسبه ملكة الذوق بحيث يقتدر على

ارتجال خطبة بليغة، أو كتابة رسالة عالية الأسلوب؛ لذلك أرى أن تكون طريقة

التعليم هكذا:

***

(النحو والصرف)

ليست قواعد النحو والصرف مطلوبة لذاتها، بل لتعصم اللسان عن الخطأ في

النطق، وكلما كانت طريقة تعليمها سهلة قريبة المنال، مقتصرًا فيها على القواعد

الأساسية التي يحتاج إليها في تصحيح اللسان وتركيب الجمل - كان ذلك أدعى إلى

الاقتصاد في الوقت ، وتوفير جزء كبير منه يصرف في دراسة اللغة نفسها؛ لذلك

يجدر أن يفرغ من دراسة النحو والصرف عند الفراغ من المدارس الابتدائية [1]

مراعى في ذلك تطبيق العلم على العمل في كل قاعدة وبحث، ومراعى في ذلك

أيضًا سنة التدريج مع الطالب في سني الدراسة المختلفة، فيُسْتَغْنَى إذن عن كثير

من أبواب النحو والصرف كلها أو بعضها، كالتوسع في الكلام على المبتدأ والخبر

والمجرد والمزيد من الأسماء، ومواضع الإعلال والإبدال والتصغير والنسب

والإمالة وإعراب (لا سيما) ، وفعلي التعجب وصيغ الاستغاثة والندبة والاختصاص

والمنادى المرخم، لعدم الحاجة إليها في الاستعمال، وعدم الاشتباه في بعض الصيغ

إذا جهل إعرابها، لأنها ملازمة لحالة واحدة لا تختلف عنها، والإعراب لا يكسبها

شيئًا جديدًا إلا التهويش واضطراب الذهن وقتل الوقت فيما لا يجدي.

والمهم في تثبيت القواعد: التطبيق في أثناء المطالعة، والتنبيه إلى مواضع

الرفع والنصب والجزم والجر وتوابعها، مع سلامة المفردات، وجعلها موافقة

للفصيح، وقد يكون ذلك صعبًا على الطالب في أول الأمر - ككل شيء في أوله ،

ثم لا يعتم أن يمرن عليه لسانه مع طول الدربة، وكثرة التنبيه، ولا نريد من

القواعد أكثر من هذا.

ولو وجدت هذه الطريقة عناية من المعلم لنجحت نجاحًا باهرًا في أقل زمن

وقد جربتها أنا نفسي في درس خصوصي فكان من نتائجها أن صار الطالب مع قلة

الدروس بعد سنة واحدة في مستوى طلبة السنة الثالثة من المدارس الثانوية بحيث

كنت أعطيه من التطبيقات ما كنت أعطيهم إياه، ولا تسل عن باقي فروع اللغة،

فقد أظهر فيها مهارة عجيبة.

***

(البلاغة)

البلاغة إحساس روحي، وشعور وجداني، وسلامة في الذوق، وملكة في

النفس، ولا يتهيأ ذلك كله لأمثالنا إلا بكثرة مزاولة الكلام البليغ نظمًا ونثرًا،

ومحاكاته كتابة وقولاً، فمن كان حظه من القراءة والحفظ وفيرًا؛ كان قسطه من

البلاغة عظيمًا، ومن كانت حافظته مهزولة مجدبة، وقريحته بليدة مفلسة؛ نأت

عنه البلاغة بجانبها، ولوت عنه أعنتها، وشمست به رامحة، ورفسته جامحة،

وهيهات أن يذلل قيادها، ويمتلك عنانها، إلا بفضل دربة ومرانة، وطول صبر

وأناة.

عرف ذلك رجال الأدب المبرزون، الأقدمون منهم والمحدثون، فكانوا حفظة

بارعين، ورواة ناقلين، والتاريخ يحدثنا عنهم بما يثير في النفس العجب، ويبعثها

على تلمس السبب، فمن في زماننا يتصور أن شاعرًا كأبي تمام كان يحفظ أربعة

عشر ألف أرجوزة غير المقطعات والقصائد، ولا يخجل أن يسميه الناس أديبًا، أو

يخلع هو هذه الخلعة السنية على غيره من الأدعياء؟

قد يكون في مثل هذا الخبر بعض المبالغة، ولكنه يفيد على كل حال في

موضوعنا.

لذلك أقول في غير مواربة: إن قراءة هذه الكتب التي يطلقون عليها كتب

البلاغة - مضيعة للوقت، مهزلة في الحياة، فما كانت إلا مبعدة للبلاغة عن طلابها،

حابسة لها عن ورادها، وما علمنا يومًا أن ضليعًا في البلاغة وقواعدها، خبيرًا،

برسومها واصطلاحاتها، كان كاتبًا مجيدًا، أو شاعرًا مفلقًا، أو خطيبًا مصقعًا اللهم

إلا إذا كان ممن لم تشغلهم المباني عن المعاني، ولم ينصرفوا إلى العناية بالأشباح

مجردة عن الأرواح، في حين أنك تستطيع أن تعد ألوفًا من أهل الخبرة والذوق في

البلاغة، وهم لم يقرؤوا من قواعدها حرفًا، ولا سمعوا فيها درسًا، ولكنهم عرفوها

بالتقليد والمحاكاة، والموازنة بين كلام وآخر، فانطبعت صورتها في نفوسهم،

وتغلغلت في صدورهم، ثم جرت على لسانهم عفوًا لا قصدًا، وهدرت شقاشقهم بها

طبعًا لا تعملاً، وتلك - لعمري هي البلاغة التي تبلغ بصاحبها ما أراد، وتنزل به

في كل واد، ويقتاد بها العاصي، ويستدنى القاصي.

وقد أخجل إذا ذكرت لكم الطريقة التي نتبعها في دراسة البلاغة بالمدارس

الثانوية، وأخبرتكم كيف نضحي بوقت الطلبة بلا جدوى.

إن الطلبة لا يجهلون القواعد الأساسية لعلوم البلاغة، ولا يجهلون التطبيق

عليها، إنهم يدرسون ذلك ، وينفقون فيه سنتين من عمرهم، ولكنها دراسة فنية

اصطلاحية محضة، لا حظ فيها للعلم من حيث يكسب ملكة الذوق، ويشعر بجمال

المعنى وطلاوته، فيعرف الطالب مثلاً مواقع التشبيه أو الاستعارة وأركانهما

وإجراءهما بطريقة فنية، ويفرق بين الاستعارة الأصلية والتبعية، والتصريحية

والمكنية، والمرشحة والمجردة والمطلقة، ويعرف التشبيه المجمل والمفصل

والمرسل والمؤكد والبليغ الاصطلاحي وغير البليغ، ولكن ذوقه لا يساعده على

التمييز بين تشبيه بليغ رائع، وآخر مبتذل خامل، ولا بين استعارة بديعة طريفة،

وأخرى ركيكة سخيفة، وقل مثل ذلك في البديع، فهو يستطيع أن يبين المحسنات

البديعية فيما يقرأ من النظم، ولو كان مهلهل النسج فاتر الخيال مبتذل المعنى، ولا

تساعده بلاغته على إدراك هذه العيوب، بل متى ظفر بحاجته من المحسنات؛ طار

بها فرحًا غير ناظر إلى ما وراءها من حسن أو قبح ، وهذا الحكم نفسه يجري في علم

المعاني.

وأظنني لست بحاجة إلى التدليل على فساد هذه الطريقة وعقم نتيجتها.

***

(خير الطرق لدرس البلاغة)

وأنفس الطرق عندي لدرس البلاغة دراسة جدية نافعة، أن يوضع كتاب

مختصر على طريقة إمام الفن عبد القاهر الجرجاني في الإكثار من الأمثلة والشواهد

البليغة من القرآن فما دونه من كلام الفصحاء، ويوجه الأستاذ نظر تلامذته إلى ما

أودع فيها من أسرار البلاغة ونكتها، والإحساس الذي شعرت به نفوسهم عند

قراءتها، وارتياح القلب واهتزازه حين استخراج دفائنها، ثم يقفي على ذلك بسرد

عدة شواهد دونها في البلاغة والروعة، ويوازن بين القولين، ويزيّل بين النفوس

في الحالين، عند ذلك تستقيم طباع الطلبة، وتسلم أذواقهم، فلا ترمحهم البلاغة

مولية، ولا تجمح بهم هاربة، بل تضع في أيديهم زمامها، وتسفر لهم عن بدرها.

***

(الأدب وتاريخه)

هذا فن حديث العهد بمدارسنا، ولذلك لما تتعبد طريقته، ولا تزال فجة ثمرته،

ولم تجذب التلامذة إليه روعته، وأكثرهم يستثقله؛ فيلفظه، ومنهم من يتجرعه

ولا يكاد يسيغه، لو أضيف إليه قليل من التوابل، ووضع بجانبه بعض الكوامخ؛

لاشتهته نفوسهم ولم تصد عنه، ولفتحت له صدورهم ولم تنقبض دونه.

ورأيي أن يبدأ بدراسته عندما يضع التلميذ قدمه على عتبة المدارس الثانوية،

فيدرس له في السنتين الأولى والثانية حالة اللغة في عصورها المختلفة لا بطريق

التلقين والحفظ، بل بطريق الاستنباط والاستقلال، فإذا أراد الأستاذ مثلاً أن يتكلم

عن مميزات النظم أو النثر في عصر من العصور، استعرض طائفة منه، ووجه

نظر الطلبة إلى ما فيها من متانة التركيب وقصر الجمل، وقلة الاستعارة والغلو،

وترك التمهيد، والبعد عن العجمة، إن كان الكلام في نثر الجاهلية، أو وصف

الخمر ومجالس الشراب والأنس، والقصور البديعة ومحاسن الطبيعة، والمعارك

الحربية، والأساطيل البحرية، وعذوبة الألفاظ والمحسنات البديعية، والأخيلة

الجملية، إن كان الكلام في مميزات النظم في العصر العباسي.

عند ذاك تكون دراسة الأدب نافعة شائقة لا يملها الطلبة.

وفي باقي السنين يدرس ترجمة النابهين ، ومن لهم أثر بارز في اللغة من

الكتاب والخطباء والشعراء ومدوني العلوم كالفقهاء والمؤرخين بالطريقة المتقدمة

عينها، فيذكر المترجم نشأته وبيئته وحياته المادية والأدبية وصلة الثانية بالأولى

وتأثرها بها، وما لذلك من أثر في نفسه وأفكاره وتخيلاته، ثم تعرض أثارة من

قوله، وينبه الأستاذ إلى ما فيها من حسن وإبداع، أو تقليد لقول سابق، أو تكلف

باد، وما أشبه ذلك.

ويحسن أن تدرب التلامذة على إجراء موازنات بين شاعر وشاعر، أو

خطيب ومثله، وكاتب وتاجر، فإن ذلك مما يزيد في سلامة الذوق وصحة الحكم،

وتنبيه الذهن، وتفتق القريحة.

ويتوسع بعض التوسع في الكلام على القرآن الكريم: إعجازه وأسلوبه وأثره

في اللغة، ويقرر جزء كبير منه في كل سنة لدرسه وحفظ بعضه؛ ليستعان به على

إصلاح النفوس التي استفحل مرضها، وأعيا نطس الأطباء علاجها، وتثقيف

الألسنة التي اعوجت، وخصوب الملكات التي أجدبت، ولا يخفى صلة ذلك بعلمي

الأخلاق والبلاغة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) كان المكرمون لأحمد بك شوقي أذاعوا في دعوتهم التي نشرتها الجرائد أن الحفلة التي سيقيمونها ستكون كهيئة مؤتمر للغة العربية، وطلبوا إلى الكتاب أن يكتبوا ما يرونه من المباحث مفيدًا للغة العربية ، فبادرت إلى كتابة هذه الرسالة وإرسالها إلى جماعة المكرمين ، ثم ظهر أن فكرة المؤتمر كانت أمنية فقط، وقد رغبت إلى المنار في نشر الرسالة بعد حذف مقدمتها التي كانت في التعريف بشعر شوقي بك.

(1)

يعني في التعليم العام وهذا لا يمنع وجود أخصائيين في النحو والصرف يتوسعون فيهما.

ص: 433

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد

الرد على رسالة العالم الشيعي

للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي

وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا

(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى العالم الجليل، المحقق النبيل، السيد مهدي الكاظمي القزويني سلمه الله

ووقاه، وبلغه مناه، وسلام عليكم ورحمة الله: أما بعد فقد وافاني جوابكم الكريم

المؤرخ في 22 شعبان سنة 1345 ، فتلقيته بكامل التجلة وعظيم الارتياح، وأثنيت

على همتكم الشماء وعنايتكم السامية بما يقتضيه المنصب الذي ولاكم الله إياه، ومن

كمال لطفكم ووافر ظرفكم أن استسمحتموني في تطويلكم الجواب عما في المنار،

وإلا فهو رياض بهيجة، وموارد عذبة، وثمار بحث شهية، بعبارات رائقة طلية،

فبها يحق لكم أن تفتخروا لا أن تعتذروا.

ولما التمستم مني القضاء بينكم وبين المنار بعد الإمعان فيما كتبتم في الرد

عليه؛ وجب علي أن ألبي التماسكم معترفًا بقصور باعي وقلة اطلاعي متجردًا من

الهوى ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، غير متحيز إلى مذهب، ولا واقف مع

مشعب، إذ لا مذهب لي إلا الحق، وأتمثل بقول الشاعر البليغ الشيعي:

وما لي إلا آل أحمد شيعة

وما لي إلا مشعب الحق مشعب

وهذا الجواب الذي سأجيب به عن كلامكم هو الذي أنوي أن أجيب به بين يدي

الجبار سبحانه وتعالى إن سألني - والملائكة والأنبياء والصالحون شهود - فإذا تحققتم

إخلاصي؛ فلا أظن أنكم تجدون من شيء من كلامي، وإن باين مذهبكم

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) .

(المقام الأول) قولكم: إن مكاتب المنار حرف الكلم عن مواضعه، ولم ينقله

على وجهه.

أقول: لا يمكنني أن أبدي رأيي في هذه القضية؛ لعدم اطلاعي على الكتاب

المنقول منه.

(المقام الثاني) تكذيبكم إياه في قوله [1] : (إنه لا يوجد كتاب من كتب فقه

الشيعة إلا وبه:، أنه لا يجوز البناء على القبور) ، يعكر عليه ما نقلتم عن كتاب

جواهر الكلام أنه ذكر خبرًا عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: (لا يصلح

البناء عليه) .

ونفي الصلاح فيما يتعبد به؛ يستلزم الفساد، إذ لا واسطة بينهما، والفاسد

شرعًا لا يجوز التعبد به، وعليه فمن قال: إن عدم جواز البناء على القبور موجود

في كتب فقه الشيعة صادق في قوله. نعم إذا كان عدم جواز البناء على القبر يوجد

في بعض كتب الفقه دون بعض لم يصح كلامه.

(المقام الثالث) تأويلكم الخبر فيه نظر بيّن لأن الإمام سئل عن البناء على

القبر: هل يصلح أم لا؟ فقال لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا

تطيينه. هذه أربعة أشياء نفَى عنها الإمام الكاظم (عم) الصلاح في مقام السؤال

عن حكمه شرعًا فلزم أن فعلها فساد عند الإمام (والله لا يحب الفساد) والفساد

محرم لقوله تعالى {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} (الأعراف: 56) .

وقولكم: (وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص أن الجلوس على

القبر ليس محرمًا عندنا فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة للزوم

تساوي المتعاطفات في الحكم) في غاية البعد مع ما فيه من الإبهام إذ لم تبينوا دليل

جواز الجلوس على القبر: أهو البراءة الأصلية أم نص من القرآن أو من حديث

إمام معصوم، أما القرآن فليس فيه دليل على جواز ذلك فإن كان هناك نص صريح

عن النبي أو أحد من الأئمة كان ينبغي لكم أن تذكروه لنضعه إلى جانب كلام

الإمام الكاظم فإن تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر

بشيء من المرجحات توقفنا عن العمل بهما جميعًا وطلبنا دليلاً من الخارج، فإن

وجد؛ حكمنا به، وإلا، قلنا: لا نص معتبر في الجلوس على القبر ، ويسلم لنا

نص الإمام الكاظم على عدم جواز البناء على القبر بغير معارض، وظاهره الحرمة

لأن عدم الصلاح في مقام السؤال عن الحكم شرعًا يستلزم الفساد، وهو حرام كما

تقدم.

(المقام الرابع) قولكم: (ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث [2] إلا

قوله: لا يصلح البناء على القبر، وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث

دال على التحريم، ولا شك أن إسقاط بعض الحديث خيانة في النقل) فيه نظر

أيضًا لأنه ليس كل إسقاط موهمًا، وإنما يكون الإسقاط تحريفًا وخيانة إذا كان مخلاًّ

بالمعنى المقصود، أما الاقتصار على ذكر دليل المسألة من الخبر وحذف سائره إذا

كان لا يتغير المعني بحذفه كما هنا؛ فليس بخيانة، بل هو اختصار، وهو مقبول

عند أهل العلم، موجود في كتب الثقاة الأمناء كالبخاري وغيره.

(المقام الخامس) قولكم: ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة

التجصيص [3] قول الصادق (ع) كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر ،

فهو ثقل على الميت: قلتم: وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن

المفهوم منه كراهة أن يهال على الميت من غير تراب القبر فالصادق (ع) كأنه

قال: لا يهال على القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره، ولا

يُؤْتَى بشيء من غيره ، فيوضع في القبر إلخ.

أقول: كلام الإمام يقتضي قطعًا أنه لا يوضع على القبر شيء إلا تراب القبر

سواء أكان ذلك الشيء ترابًا أم جصًّا أم تابوتًا وستورًا ومباخر وشموعًا

وغيرها؛ لأن الإمام لم يقل: كل تراب يهال على القبر من غير تراب القبر، فهو

ثقل بل عبر (بما) التي هي من ألفاظ العموم، فلا يصح تخصيصها بجنس التراب

بلا دليل، ولذلك فهم منه صاحب الجواهر النهي عن التجصيص، وحمله على

الكراهة، والظاهر الحرمة؛ لأنه من جنس البناء على القبر، وتقدم الدليل على

حرمته.

(المقام السادس) قولكم: وقال صاحب الجواهر: وكذا يشعر بالكراهة

حديثه عليه السلام [4] قال أمير المؤمنين (عم) : بعثني رسول الله صلى الله عليه

وسلم في هدم القبور، وكسر الصور.

أقول: استدلال صاحب الجواهر بهذا الحديث على كراهة التجصيص يدل

على أنه فهم منه مشروعية هدم القبور مطلقًا سواء أكانت للكفار، أو المؤمنين،

وكسر الصور مطلقاً ولو كانت صور الأنبياء والأئمة، وينافي ما ملتم إليه فيما بعد

من أن مشروعية الهدم خاصة بقبور الكفار.

(المقام السابع) اعترافكم بأن تجديد القبور بعد اندراسها مكروه في مذهب

الشيعة [5] وهو يرشد إلى أن المشروع عند سلف الشيعة هو إهمال القبور وتركها

لأيدي الزمان؛ تعفوها، وتمحو آثارها، وأن تجصيصها وتطيينها والبناء عليها

واتخاذها مساجد، وأعياداً، ومواسم، وجعل التوابيت المزخرفة المذهبة، والستور

المزركشة الموشاة، وتبخيرها واتخاذ السرج عليها، والحج لها والعكوف عندها،

والطواف بها، وتقبيلها والتسمح بها وأخذ ترابها للاستشفاء، والنذر لها، وتقريب

القرابين لها، والإقسام على الله بأهلها؛ وغير ذلك مما يجعلها أوثانًا تعبد من دون

الله، كل ذلك بريد الكفر بل الكفر بعينه، وقد عمت البلوى بهذا الداء العضال الذي

هو أعظم أسباب شقاء المسلمين واستيلاء العدو عليهم وضرب الذالة والمسكنة

عليهم وضلالهم ضلالاً بعيدًا، حتى صار المخلوق في صدورهم أعظم من الخالق،

وصاروا أكثر توكلاً، وأخضع وأرجى للمخلوق منهم للخالق، حتى إنك إذا اتهمت

أحدهم، فسألته أن يحلف بالله ويجمع أسماءه، وصفاته يفعل ذلك بدون مبالاة ولا

خجل ولا وجل، وإذا قلت له: احلف بالشيخ فلان إن كان ممن ينتسب إلى السنة

أو بالإمام فلان إذا كان ممن ينتسب إلى الشيعة ظهرت عليه علامات الاهتمام

والرعب، وخاف أن يحلف بها كاذبًا، وبعضهم يخاف أن يحلف بالمخلوق، ولو

صادقًا، ولا يبالي أن يحلف بالملك القهار ألف مرة كاذبًا.

وكذا يتصدق لوجه المخلوق بكرائم الأموال، ولا يتصدق لله إذا سئل به بفلس،

وهذا أعظم الشرك والكفر، وهو مشاهد في العوام، وفي أكثر الخواص معلوم

بالضرورة إنكاره جحد للضروريات، ومكابرة فيها لكنه عام في الشيعة وأهل السنة

ما رأيت فرقًا بينهم في ذلك إلا أن كثيرًا من أهل السنة متجنبون لذلك متبرئون منه،

وأما الشيعة فلم أختبر خواصهم كثيرًا، ويغلب على ظني أنهم لا يجمعون على

ذلك الضلال البعيد، وهم يتلون كتاب الله ويدرسون أحاديث النبي وآثار الأئمة،

هذا ظني بهم والله أعلم.

(المقام الثامن) إنكاركم على المكاتب قوله: لا يوجد كتاب من فقههم إلا،

وفيه: لا يجوز البناء على القبور وتجديدها والسرج عليها [6]، وقولكم: إنه لم

يتعرض أحد من فقهاء الشيعة لذكر الإسراج على القبر، وذلك يقتضي أنه غير

مكروه عندهم، فادعاء المكاتب وجود ذلك في كل كتاب من فقههم بهتان عظيم،

هذا معنى كلامكم.

أقول: الذي يغلب على ظني أنكم أنتم أعلم بما في كتب الشيعة من المكاتب ،

ولو كان ذلك في كل كتاب؛ لما خفي عليكم، وعليه فظاهر كلامه غير صحيح،

لكن يمكن أن يكون قد اطلع على النهي عن الإسراج في بعض كتب الشيعة ، ولم

تطلعوا عليه أنتم، أو سهوتم عنه حين كتابتكم هذا الجواب، فظن أن ذلك موجود

في جميع كتبهم؛ فأطلق في كلامه، ولا غرابة في ذلك ، فقد يوجد في النهر ما لا

يوجد في البحر، وعلى كلٍّ؛ فالواجب عليه ألا يطلق إلا بعد تحقق وجود ذلك في

كل كتاب من فقههم.

(المقام التاسع) تشنيعكم على المنار ومكاتبه ورميه بالافتراء والتحريف

والتحامل على الشيعة والسعي في تشويه سمعتهم [7] .

أقول: أما مكاتب المنار؛ فلا أعرف حاله، وأما صاحب المنار فالذي أعتقده

فيه هو الصدق فيما ينقله، وأنه لا يتحامل على الشيعة، ولا يغضي عن عيوب

أهل السنة ويبحث عن عيوب الشيعة، بل كل من طالع المنار علم يقينًا أنه انتقد

على أهل السنة ، وأنكر عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة، وهذه مجلدات المنار

شاهدة بذلك ، وقولكم: وكم من فرق بين بناء نفس القبر وبين القبة المبنية على

أساسات لا دخل لها بالقبر أصلاً [8] .

أقول: لو لم يرد في الأحاديث إلا النهي عن البناء على القبر؛ لخص النهي

به ، ولم يتناول القبة، أما وقد عزز الشارع النهي عن البناء بالنهي عن اتخاذ

المساجد عليها ولعن فاعل ذلك في مرضه الذي توفي فيه فواضح أن النبي صلى الله

عليه وسلم كان ينهى عن كل بناء على القبر أو حوله ويأمر بهدمه، وكذلك فعل

عليٌّ (عم) بعده وسائر الأئمة، ولم يتجرأ أحد على بناء قبة على قبر في زمانهم.

والذي أعتقده في علي عليه السلام أنه لو رأى ما يفعله الغلاة عند القباب التي

ابتدعوها لحرقهم كما حرق الغلاة، وحاشا للسلف الصالح أن يرضوا بهذه الأوثان،

وهذا الذي أعتقد وأدين الله به.

(المقام العاشر) في قولكم: قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب

الكليني عن سماعة قال: سألت الصادق عن زيارة القبور وبناء المساجد عليها ،

فقال: (أما زيارة القبور فلا بأس، ولا يبنى عليها مساجد) . قال النبي صلى الله

عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا ، فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا

قبور أنبيائهم مساجد) اهـ.

ثم قلتم: ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة

بصورة توهم أن الصادق (ع) استشهد به على قوله مع أن الحديث النبوي لا

وجود له في كتاب الكليني أصلاً.

نعم توجد رواية مرسلة في بعض كتب الشيعة وكيف كان؛ فليعلم أن جميع

ما جاء من بناء المساجد واتخاذها على القبور أو فيها أو عندها حسب اختلاف النقل؛

إنما يراد به النهي عن جعل نفس القبر مسجداً، أي موضعاً يسجد عليه، وليس

المراد ما هو معروف بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه.

أقول: فيه اعترافكم بأن الإمام الصادق (ع) أفتى بأنه لا يبنى على القبور

مساجد ، وهو صريح في المنع من بناء المساجد على القبور، ولكن تأولتموه على

أن النهي إنما هو عن جعل القبر مسجدًا أي محلاًّ للسجود لا عن بناء المسجد على

القبر؛ لأن ذلك كما قلتم: لا يتصور إلخ.

أقول: هذا تأويل بعيد جدًّا كنت أربأ بكم عن ارتكابه ويرده:

(أولاً) أن قوله: لا يبنى عليها مساجد نهي عن البناء لا عن السجود، فإن

السائل سأله عن الزيارة والبناء؛ فأثبت الزيارة ونفى البناء ، ولم يتعرض السائل

ولا المجيب للسجود على القبر ولا تشم رائحته من كلامهما، فحمل كلام الصادق

عليه من أبعد التأويل، بل هو سلب لمعنى اللفظ الذي يدل عليه دلالة مطابقة،

وتحميله معنى آخر لا علقة بينه وبينه.

(ويرده ثانيًا) أن بناء المسجد على القبر نفسه لا يتصور ولا يعقل كما قلتم،

وكذلك لا يعقل أن يريد الصادق وجده صلى الله عليه وسلم النهي عن السجود

على القبر، ويعبر عن ذلك بالنهي عن بناء المساجد على القبور، والنبي صلى الله

عليه وسلم أفصح العرب، والصادق من أفصح العرب، ولو أراد عالم اليوم أن

ينهى عن السجود على موضع فقال للمخاطب: لا تبن مسجدًا على هذا الموضع؛

لعيب عليه ذلك ، وعد غالطًا ، أو جاهلاً باللغة ، فكيف يقع ذلك من أبلغ الناس.

(ويرده ثالثًا) أنكم اعترفتم بأن أحاديث الباب وردت بألفاظ في بعضها

النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وفي بعضها النهي عن اتخاذ المساجد على القبور،

وفي بعضها النهي عن اتخاذها عندها، وفي بعضها النهي عن اتخاذها فيها ، وفي

بعضها النهي عن بناء المساجد عليها ، فهذه خمسة ألفاظ.

(اللفظ الأول) يحتمل معنيين: (أولهما) النهي على بناء المساجد عند

القبور ، كما تدل عليه بقية الألفاظ.

(والثاني) ما ذكرتم وهو اتخاذ القبور نفسها موضعًا للسجود ، ويتوجه أن

يكون دالاًّ عليهما معًا فتكون فيه فائدة زائدة على ما بعده.

(اللفظ الثاني) النهي عن اتخاذ المساجد على القبور ، هذا اللفظ واضح

المعنَى ، وهو يفسر سائر الألفاظ ويقطع النزاع لورود مثله في كتاب الله تعالى ،

وذلك قوله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} (الكهف: 21) ، قال الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير في تفسيره عند هذه

الآية ما نصه: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (أحدهما) أنهم المسلمون

منهم ، (والثاني) أهل الشرك منهم ، والله أعلم.

والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ، ولكن هل هم

محمودون في ذلك؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) ، وقد روينا عن أمير المؤمنين

عمر رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى على

الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها

انتهى.

ولم يفهم أحد من المفسرين فيما علمت أنهم أرادوا أن يسجدوا على أجسادهم ،

أو يبنوا فوقها مسجدًا ، بل فهموا ورووا عمن قبلهم أنهم أرادوا أن يتخذوا مسجدًا

أي يبنون عند باب كهفهم تبركًا بهم وتعظيمًا لهم ، وذلك مخل بالتوحيد ، ولذلك

رجح الحافظ ابن كثير أنهم مذمومون على ذلك، ويظهر لي أن الذين غلبوا على

أمرهم هم أهل الشرك؛ لأن أهل التوحيد لا يتخذون المساجد عند قبور الأنبياء

والصالحين؛ لأن الله حرم ذلك ، ولعن فاعله على لسان نبيه.

وهذا من دقة نظر الإمام ابن كثير وسعة اطلاعه وجمعه بين الكتاب والسنة ،

وقد اتضح أن المراد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور

هو بناؤها حولهم أو بالقرب منهم خوفًا عليهم من الفتنة والوقوع في الشرك كما وقع

للذين من قبلنا ، وقد اتبع سننهم من أراد الله فتنته من هذه الأمة؛ فوقعوا في مثل ما

وقع فيه من قبلهم من الشرك، ومن تأول الحديث على النهي عن السجود فوق القبر؛

لزمه أن يفسر الآية بذلك ، وتأويلها بذلك ظاهر الاستحالة.

(اللفظ الثالث) النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور ، وإذا أردنا أن نعرف

معنى هذا اللفظ على التحقيق؛ ينبغي لنا أن ننظر علام يدل لفظ (عند) في اللغة؟

قال المختار بن بونا في أرجوزته الممزوجة بألفية ابن مالك:

وعند للحضور والقرب وقد

تضم عينها وفتحها ورد

قال في حاشيتها: للحضور حسًّا أو معنى ، واجتمعا في قوله تعالى: {قَالَ

الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ} (النمل: 40)، والقرب نحو {عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى} (النجم:

14-

15) انتهى.

وإذا تحقق هذا؛ فكلمة عند في الحديث إما بمعنَى القرب أو الحضور ، وكلا

المعنيين موجود في القباب والمشاهد المبنية حول القبر أو بقربه فهي داخلة في النهي ،

وهذا واضح لا يحتمل التأويل.

(اللفظ الرابع) النهي عن اتخاذ المساجد في القبور هو بمعنى اللفظ الثاني؛

لأن (في) فيه بمعنى (على)، كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ

النَّخْلِ} (طه: 71) ، وتقدم بيانه.

(واللفظ الخامس) النهي عن بناء المساجد على القبور ، وهو بمعنى اللفظ

الثاني سواء؛ لأن المراد باتخاذ المساجد عليها بناؤها عليها.

فتضافرت الألفاظ الخمسة على معنى واحد ، وهو النهي عن بناء المساجد عند

القبور أي بحضرتها أو بقربها ، وإذا صحب البناء قصد التبرك والتعظيم؛ اشتد

تحريمه لعظم مفسدته حينئذ ، وكونه ذريعة موصلة لا محالة إلى اتخاذ قبر ذلك

النبي أو الصالح وثنًا يعبد ، كما هو واقع في غالب الأقطار التي ينتسب أهلها إلى

الإسلام، وهم عاكفون على عبادة الخشب وستور الحرير والجدران تبعًا لعبادة

المقبور فيها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(ويرده رابعًا) أننا لو سلمنا أن أحد الألفاظ وحده لا يدل على تحريم بناء

القباب على القبور؛ لكانت الألفاظ بمجموعها دالة أوضح دلالة على ذلك ، ومن

عرف المعنى الذي لأجله خص النبي صلى الله عليه وسلم قبور الأنبياء والصالحين

بالذكر دون سواهم ، وإن كان داخلا في النهي؛ علم يقينًا أن هذه القباب المشيدة

المزخرفة بأنواع الزخارف على قبور الأنبياء والصالحين وغير الصالحين شر على

الإسلام مِنْ سقم على بدن، وعرف مقدار حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجانب

التوحيد إن في ذلك لآيات لقوم يفقهون.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو في ص 350 و 351 من الجزء الماضي.

(2)

ص 352 أيضًا.

(3)

(ص 353) .

(4)

(ص 353) .

(5)

يعني ولا تجديدها ولا وضع السرج عليها - راجع آخر ص 353.

(6)

راجع ص 354.

(7)

ص 345.

(8)

ص 355.

ص: 439

الكاتب: شكيب أرسلان

‌الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربية

عند خواص أمريكا

ذكر مستر تشارلس كراين الأميريكاني الشهير في محاضرته التي ألقاها في

جمعية الرابطة الشرقية (أنه يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد ،

وتشابه عقائد هذه الطائفة من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة) ، وذكر أنه

ظهر فيها رجال عظماء في أوربة وأمريكا أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، وذكر

أنه كان في مقدمتهم في الولايات المتحدة صديقه الرئيس (إيليوت) الذي بقي مدة

أربعين سنة رئيسًا لأعظم مدرسة جامعة أمريكية وهي جامعة هارفرد ، وقد توفي

في العام الماضي ، وذكر أنه لقنه قبل وفاته سورة الفاتحة قائلاً له: اسمع هذه

الصلاة الإسلامية الجميلة - وذكرها قال: (فأعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا ،

وكانت هي آخر العهد بيننا) .

وقد زار صديقنا الأمير شكيب أرسلان الشهير الولايات المتحدة في الشتاء

الماضي ، فكان مما اطلع عليه من نفائس مخبآتها جمعية سرية مؤلفة من خواص

العلماء والكبراء تعقد اجتماعات خاصة في محافل لها يلبس فيها أعضاؤها

الطربوش والعمامة، وألقابهم فيها عربية إسلامية، وتحيتهم فيها (السلام عليكم) ،

واسم الجمعية مرادف لاسم الكعبة ، واسم المحفل من محافلهم الجامع إلخ ما ستراه.

فظهر لنا من هذا أن مستر تشارلس كراين منهم ، وأن صديقه العلامة

(إيليوت) كان منهم ، ذلك بأن مستر كراين كان إذا دخل علينا يحيينا بالسلام ، فنظن

أن ذلك مجاملة منه ، وتمرين للسانه على النطق بالتحية العربية التي يحب أهلها.

كتب الأمير شكيب مقالته في المقارنة بين هؤلاء الأمريكيين وبين حكام الترك

الكماليين ومقلدتهم من المصريين الدعاة إلى هدم مقومات الإسلام والعرب تقليدًا

للإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من زي ولغة وعادات مهما تكن قبيحة، ونشرت هذه

المقالة في جريدة الشورى ، ونقلتها عنها جريدة كوكب الشرق بعد مقدمة، ثم نقلتها

مجلة العرفان ، وأضافت إليها بعض الصور والرسوم لأعضائها جاءتها من مراسل

لها في الولايات المتحدة ، ونحن ننشرها مع مقدمة الكوكب وهي:

***

مهين عند قومه مكرم عند الناس

سفير مصر يلبس القبعة في تركيا مراعاة لشعور حكومتها

وسفير تركيا في مصر لا يحفل بشعور حكومة مصر

مقال بديع من قلم الأمير شكيب أرسلان

قرأنا في الصحف أن سعادة عبد العظيم راشد باشا وزير مصر المفوض في

تركيا بدأ عمله الرسمي في الآستانة بحديث امتدح فيه البرنيطة ، وحقر الطربوش

ناسيًا أنه شعار بلاده الرسمي من مليكها إلى نوابها وشيوخها وأعضاء حكومتها ،

وأنها في وقت ما نهضت لتستبدله بالبرنيطة عارضت كل هيئاتها الرسمية في ذلك ،

وفي المقدمة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس النواب سعد باشا زعيم الأمة.

لا بد أن سفيرنا العظيم أراد أن يستميل إليه الأتراك وأن يكون قريبًا من قلوبهم ،

ولكن ألا يتم ذلك إلا بتحقير شعارنا الرسمي ، وإلا بأن يكون التقرب على حساب

قومه وبلاده؟ ؟ وهل هو عين في وظيفته ليرفع رأس مصر وليعلي من شأن زيها؟

أو ليكون في المجلس الذي هو فيه لا يهمه إلا أن يرضي جلساءه ، ولو بالنيل منه

فيكون ذلك شأن (الستري) لا عمل السفير؟ ؟

لقد أدى عبد العظيم باشا راشد في مثل هذه الأيام فريضة الجمعة في جامع

عمرو بالجزمة ، وها هو مع أنه يلبس الطربوش ، ومع أنه يمثل لابسيه يراه دون

البرنيطة ورمز التأخر، فهل تقره وزارة الخارجية على ذلك؟ وهل يبقى مع هذا

أهلاً لأن يمثل البلاد؟

وهل غاب عن سعادة عبد العظيم راشد باشا سفير مصر في تركيا أن محيي

الدين باشا سفير تركيا في مصر يلبس القبعة التي اختارتها حكومة بلاده لشعارها في

جميع الحفلات الرسمية وغير الرسمية في هذه الديار؟

ولقد كان من الواجب عليه ألا يلبس غير الطربوش الذي لا يزال شعار

الحكومة التي يمثلها.

بهذه المناسبة ننشر المقال الآتي الذي أرسله إلى (الشورى) الأمير شكيب

أرسلان من الديار الأمريكية تحت العنوان الذي صدرنا به هذا المقال.

خلع بعض الشرقيين الطربوش ، وعدوا لبسه دنيئة من الدنايا ، وحاكموا

عليها الناس ودقوا أعناقهم.

وأوشك آخرون أن يقتدوا بهم لو لم يمسك رجال الحل والعقد برمق الكرامة

الشرقية ويقفوا في وجه أولئك الحمقى الذين ألقوا على دعايتهم الأجنبية اسم (تجدد) ،

وأنكرت فئات لبس العمائم ، وزعمت أنها رمز الهمجية ، وضربت الرقاب من

أجل لبسها ، وودت زعانف آخرون أن تضرب الرقاب على لوث العمائم ، كما

تضرب على لوثها في تركيا ، ولو قام أحد منذ سنوات قلائل وحدثنا بأنه سيكون من

الشرقيين أناس يبلغ بهم التقليد الأعمى أن يجازوا بالقتل من لبس الطربوش ، أو

العمامة؛ لظننا أنه ممسوس يخلط أو محموم يهذي ، ولكننا رأينا ذلك بأعيننا

وسمعناه بآذاننا.

وحاول أناس أن يحملوا الشرقيين والعرب خاصة على التفصي من كل شيء

شرقي أو عربي ، وزعموا أن لا حياة للأمم الشرقية بدون ذلك.

ولسنا نعجب من أن يصاب الشرق بمثل هذه الأمراض الاجتماعية على أثر

الحرب الكبرى ، وأن ينكر الشرق بعض بنيه ، وأن يحتقروا كل ما هو منسوب

إليه؛ فما زالت الأمم قديمًا وحديثًا تبتلى بمثل هذه الأمراض ، إذ مجموع الأمة

عبارة عن جسم معنوي لا يخلو من أن تطرأ [1] على الجسم الحيواني عوارض

الأمراض البدنية.

ولكن الطربوش والعمامة والزي الشرقي واللغة العربية كل ذلك كان مكرمًا

معززًا مقدسًا في بلاد غربية تعرف الفضل وذويه ، ولا يمنعها كونها أعرق البلاد

في التغرب أن ترفع للشرق منارًا، وتحيي له آثارًا.

يوجد في أمريكا جمعية شريفة نابهة عالية القدر اسمها (شراين) ، ومعنَى

هذه الكلمة (الكعبة) ، أو المكان المقدس الذي يحج إليه.

وليست هذه الجمعية من الجمعيات الماسونية ولكن مبادئها أشبه بمبادئ

الماسونية ، وبعبارة أخرى: لا يوجد في مبادئ الجمعية ما يناقض المبادئ

الماسونية ، ثم إن بين جمعية (شراين) والماسونية رحمًا ماسة؛ إذ لا يدخل هذه

الجمعية إلا من كان منسوبًا إلى الماسونية ، ولا يكفي أن يكون منسوبًا إلى الماسونية ،

بل شرط الدخول في جمعية (شراين) أن يكون المريد مترقيًا في الماسونية إلى

درجة 32 ، ومن علم مبلغ أهمية الماسونية في أميركا ، وأنها هي مصاص هذه

الأمة الأميركية العظيمة ، وتأمل في شرط الدخول إلى جمعية الكعبة المشار إليه؛

أمكنه أن يفهم في أي ذروة هي هذه الجمعية من ذرى الاجتماع الأميركي.

ويقدر عدد المنسوبين إلى جمعية الكعبة هذه بمائتي ألف وخمسين ألف

شخص.

من الفضول أن نقول بعد الذي تقدم من الكلام: إنهم جميعًا من الطبقة الراقية ،

ولهم محافل عديدة ، ومنهم عدد كبير من رجال الحكومة من أمير وأعضاء مجلس

الشيوخ ، بل ممن تولوا رياسة جمهورية الولايات المتحدة ، والمحفل يسمَّى عندهم

(Mosque) أي (الجامع) ، والمريد يسمَّى (شريفًا) ، فكل المنتظمين في سلك

هذه الجمعية يطلق عليهم لقب شريف.

ويوجد عدا لقب شريف لقب (حاج) ، وهذا يطلق على من يكون قد جاء من

محفل زائرًا محفل مكة وأثبت لدى هذا المحفل أنه ترك عند عائلته مالاً يكفيهم

لمعيشتهم إلى أن يكون رجع إليهم، فإنه يوجد عندهم محافل بأسماء عربية ، ولكن

أسماها محفل نيويورك ، وهو الذي يسمَّى بمحفل مكة

وقد علمت من أسماء محافلهم محفل سلام في نيويورك من ولاية نيوجرسي،

ومحفل الملائكة في لوس أنجليوس من ولاية كاليفورنيا، ومحفل عنزه بالمكسيك

وبلغني أن عندهم: محفل دمشق، ومحفل بغداد، ومحفل مصر، ومحفل عمر،

ومحفل علي، ومحفل رمضان، ومحفل زمزم، ومحفل المدينة، ومحفل فلسطين،

ومحفل الناصرة، ومحافل أخرى تحمل كلها أسماء عربية. وهذه الأسماء يلفظونها

بالعربي لا بترجمتها في اللغة الإنجليزية.

ولهم في ولاية بنسلفانيا محفل كبير فخم البناء مكتوب عليه بأحرف كبيرة

(أشهد أن لا إله إلا الله) وإذا دخل الواحد منهم إلى المحفل فلا بد أن يقول: (السلام

عليكم) يلفظها بالعربية، وعلى جدران أبهاء المحافل توجد آيات قرآنية كما هي

على جدران المساجد عندنا، ولا يجوز للداخل أن يدخل المحفل إلا بالطربوش ،

فالطربوش هو اللباس الرسمي للمنسوبين إلى جمعية (شراين) ، أما أصحاب

الرتب الذين ترقوا في الجمعية؛ فيلبسون العمائم والطيالس.

وكثيرًا ما يجتمعون في الاحتفالات ، ويخرجون في الشوراع مئات وألوفًا

وهم بالطرابيش والعمائم ، وليس التعارف فيما بينهم على الطريقة الأوربية أي أن

الإنسان لا يكلم الآخر إلا بواسطة رجل يعرفه ، بل طريقة التعارف عندهم أشبه

بطريقة الشرقيين ، فإذا شاهد الواحد الآخر لابسًا طربوشًا؛ تقدم إليه وصافحه بدون

واسطة قائلاً له: السلام عليكم.

ثم إن المنسوب إلى هذه الجمعية يحمل على صدره زرًا عليه صورة سيف

وهلال ونجمة ، فالهلال راكب عليه السيف والنجمة من فوقه ، وهذا هو شعار

الجمعية.

قصدت بهذه المقالة أن يعلم من في الشرق أن الطربوش والعمامة والجبة

واللغة العربية والآية القرآنية والأزياء الشرقية يتنافس بها المتنافسون في أكمل

وأغنى مراكز المدنية الغربية ، بينما كثيرون من الشرقيين يحقرونها ، وينفضون

أيديهم منها {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .

...

...

...

...

... شكيب أرسلان

(المنار)

إن للجمعية الماسونية أسرارًا ورموزًا لا يفقهها إلا بعض أولي النهاية من

زعمائها كما كان شأن جمعية الباطنية من الشيعة. ومنها أن هيكل سليمان رمز

عند اليهود من أولئك الزعماء المؤسسين لاستعادة الهيكل من المسلمين؛ بل لتجديدهم

ملك سليمان؛ ولذلك نجد للصهيونيين أعوانًا كثيرين من النصارى كلهم من الماسون

فيما أظن.

وقد كان المعروف من رموز الماسونية بعضه يهودي ، وبعضه نصراني

كالتثليث مثلاً.

ولم يبلغنا أن فيها شيئًا إسلاميًّا قبل جمعية الكعبة التي علمنا خبرها في هذه

الأيام، وهو في رأينا الاجتماعي ارتقاء في الماسونية إلى أفق أعلى، جزم الأمير

شكيب بأنه خروج منها. فمن لنا بمن يكشف لنا سر ذلك ويعرف الواضع له؟

_________

(1)

المنار: كذا في الأصل المطبوع ، والظاهر أنه سقط منه شيء ، وأن يكون أصله: لا يخلو من أن تطرأ عليه عوارض الأمراض الاجتماعية كما تطرأ على الجسم الحيواني عوارض الأمراض البدنية.

ص: 450

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار

(5000 جنيه مكافأة على خدمته للملك وقومه 10000 جنيه رواية أخرى

1000 أو 2000 أجرة تعب العمل في المؤتمر 6000 جنيه بحيلة طبع المغني

وابن كثير ، 600 جنيه باسم الجرائد المصرية. آلاف الجنيهات مبهمة في رواية

أخرى) .

لا بدع ولا غرابة إذا خطر في بال بعض الناس أن الملك العربي عبد

العزيز بن السعود يكرم صاحب المنار ، أو أكرمه بالمال وبغير المال - ولا غرابة

في تقدير بعضهم لهذا الإكرام بكذا وكذا من المبالغ بحسب آرائهم، ولا عجب إذا

ذكر بعض الناس ما قدروه من هذا المال؛ فظن آخرون أن هذا التقدير رواية لا

رأي، وتناقلوه تناقل الروايات.

نقول: إن كل هذا ليس بغريب لأن من شأن مثله أن يقع، وقد وقع بالفعل ،

وكثر فيه القيل والقال ، وتناقله خواص الناس كما ذكرنا ذلك في فاتحة الجزء الأول

من هذا المجلد من المنار (28) نقلاً عن بعض كبار العلماء والوجهاء ، ونسمي

الآن من كبار العلماء الذين تحدثوا به في مصرالأستاذ الشهير الشيخ محمد بخيت

فهو أول من سمعنا منه رواية الخمسة الآلاف من الجنيهات التي تحدث بها بعض

الخواص في مصر - وأما صاحب رواية العشرة الآلاف التي تحدث الناس بها في

أوربة فقد سمعها الأمير ميشيل لطف الله في مدينة (جنيف - سويسرة) .

أمثال هذه الأحاديث إذا دارت بين خواص الناس لا ينبغي أن يهتم مثلنا

بتكذيبها إن ذا كانت كاذبة؛ لأن الذين يتحدثون بها لا يعدونها عارًا ، ولا يقصدون

الطعن في عالم يأخذ مساعدة أو مكافأة على نشر العلم والدين من ملك من الملوك

الكرام.

وأما غيرهم من اللئام والحاسدين والسفهاء والخصوم الذين يفترضون سماع

مثل هذه الإشاعات أو يفترونها للطعن على من يأخذ أمثال هذه المبالغ التي تعد

عظيمة في هذا العصر ، فيذمون آخذها بما شاءت آدابهم، وتحركت به أهواؤهم،

فقد اعتدنا أن نحتقر كل ما يقولون ويكتبون ونعده كالعدم، وماذا يهمنا إذا سفه سفيه ،

أو احترق قلب حسود؟ ؛ لهذا ذكرنا الخبر في أهم مكان من المنار (وهو فاتحة

المجلد) ولم نصدقه؛ لأنه غير صدق، ولم نكذبه لما ذكرنا آنفًا.

وقد سمعنا وقرأنا في بعض الصحف لغطًا كثيرًا في ذلك منذ العام الماضي

إلى الآن؛ فلم نحفل به على عادتنا.

ولكن السفهاء لم يقفوا عند حد أخذ صاحب المنار ألوفًا من الجنيهات مكافأة من

ملك الحجاز ونجد على خدمته السابقة له ولقومه على قولهم، أو مساعدة له على

خدمته المستمرة للعمل والدين على ما يدين الله به ذلك الملك من كتاب الله وسنة

رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج سلف الأمة الصالح، وإن عد ذلك بعضهم

نقيصة فينا ودليلاً على أن هذه الخدمة التي كاد يمر عليها ثلث قرن لم تكن لوجه

الله تعالى ، وإنما كانت لأجل أموال ابن السعود - كأننا كنا نعلم الغيب على تقدير

صحة زعمهم.

لم يقف خصومنا في ديننا ومذهبنا السلفي من ملاحدة وطننا هذا - ومن

روافض العلويين في جاوه الداعين إلى عبادة علي رضي الله عنه وذريته، ومن

بعض الحاسدين لنا على مكانتنا عند هذا الملك المسلم التقي السلفي - لم يقفوا عند

هذا الحد، بل أخذوا يختلقون علينا سلب مال الملك بالحيلة والسرقة (والنصب) ،

ويكتبون ذلك في بعض الصحف ، ومنها صحف لا نراها عادة لعدم المبادلة بينها

وبين مجلتنا ، أو لأنها لا تصدر إلا عند الحاجة إليها، وقد كان من سوء تأثيرها أن

كتب إلينا صديق لنا من خيرة فضلاء الحجاز رقعة أودعها كتابًا له يذكر فيها هذه

الإشاعات ، ويزيد عليها قوله: (هذا عدا ما أتحفكم به جلالة الملك من الهدايا

والتحف الثمنية) - ويقول: إنه دافع عنا من حدثوه بتلك التهم على عدم وقوفه على

شيء مما قيل إلخ ، وقد كان لهذه الرقعة من سوء التأثير في نفسنا ما كان هو

الحامل المباشر على بيان الحقيقة في المنار؛ فنقول:

أرسل إلينا أحد أصدقائنا في سورية نسخة من عدد جريدة ألف باء المشهورة

الذي صدر في دمشق في 9 يوليو (تموز) الماضي فإذا فيه ما قاله من راسل

الجريدة بمكة المكرمة بإمضاء (أبو هشام) في ذي الحجة الماضي يثني فيها على

ملك الحجاز ونجد ويخاف على أعماله الإصلاحية أن يتركها لمن لا يهمهم إلا جمع

الآلاف من الجنيهات ، أو حب الذات وكرسي الوظيفة - وحينئذ تبوء مساعيه

بالفشل، ثم قال المراسل بعد هذا السياق:

ولنعد الآن لموضوعنا ، فإننا ذكرنا ما التهم سادتنا المتعممين (كذا) من

ألفي جنيه وألف جنيه أجرة أتعابهم بالمؤتمر ، فظن البعض أننا مغالين (كذا)

وربما جاراهم الأستاذ صاحب ألف باء بهذا الظن، ولكن ما قولهم وقول الأستاذ

بالتهام ستة آلاف جنيه آخر (كذا) ؟

وإليك البيان: يوجد في نجد كتابان خطيان وهما: (شرح المغني لابن

قدامة ، وتفسير ابن كثير) وهما كتابان سلفيان؛ فلما كان المؤتمر الإسلامي منعقدًا

أطلع جلالة الملك عليهما الشيخ رشيد رضا؛ فتعهد الشيخ بطبعها لقاء ستة آلاف

جنيه ، وهكذا تم الاتفاق ، وتناول المبلغ ، وباشر بالطبع ، ولكن أتعلم ماذا طبع؟

طبع من كل كتاب جزءًا واحدًا ، وأهمل بقية الأجزاء، وقد خاطبه جلالة الملك

مرارًا بتنفيذ تعهده وما تناوله لقاءه (كذا) ، فكان الشيخ يحاول تارة ويعتذر أخرى

إلى أن ضاق ذرع جلالة الملك؛ فطلب أن يرد الكتابين وهو مسامح بالستة آلاف

جنيه ، وللآن لم يردهما ، ولم يقم بطبعهما مع أنه تناول المبلغ سلفًا.

فما قول الأستاذ صاحب ألف باء الذي مسخ لي مقالي السابق في هذا

الموضوع؟ ، وما قول القراء الكرام؟ ، وما قول سادتنا العلماء؟

ولا يظن أحد أن هذه القصة مختلقة ، أو تصورتها مخيلة الكاتب، كلا فأنا

مستعد أن أناقش كل فرد يكذبني لأن الذي أطلعنا عليها كان هو الواسطة ، وهو

رجل ثقة أمين واقف على كل شيء حتى إنه من أنصار الشيخ ، ولكنه قالها عفوًا ،

وما علم أنها ستذهب إلى ألف باء ، ولولا الخوف على الرجل لذكرت اسمه [1] ولكن

لا سبيل إلى ذلك.

حتى إن السيد الطيبي كان حاضرًا ذلك المجلس ، ويقول المثل: (إذا أردت

أن تكذب فبعد شهودك) ، ولكن ولله الحمد الشهود موجودون.

وهذه الحادثة يعلمها كثيرون من أعضاء المؤتمر من أهل الحجاز وغيرهم

من الأعضاء.

ونحن لا نقصد التشهير ، وإنما نقصد أن يعرف الناس أن هؤلاء العلماء

الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى أخرى لا يهمهم من وراء هذه الدعوى الفارغة

إلا صيد القروش.

ورب معترض يقول: إن الشيخ رشيدًا قام بدعاية عظيمة لابن السعود ،

وخدمه أجل خدمة ، فهو يستحق هذا المبلغ أو أكثر منه - فنحن لا ننكر ذلك ، ولا

نجحد خدمة الشيخ للملك ، ولكنه لماذا ينادي بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب

طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟

...

...

أبو هشام

(المنار)

لا أعرف أبا هشام هذا ، ولم أطلع على مقالته الأولى التي يظهر من هذه

الثانية أنه ذكر فيها أنني أخذت من جلالة الملك ألف جنيه أو ألفين أجرة عملي في

المؤتمر، وكل ما كتبه عني في المقالتين كذب واختلاق ، لو كان محررًا في جريدة

السياسة أو جريدة حضرموت؛ لما كنت أبحث ولا أتعجب من اختلاقه.

ويظهر من تأكيداته للخبر وتصريحه بأنه يدفع بها عن نفسه تهمة الكذب

أنه يعلم أن الأستاذ صاحب جريدة ألف باء وغيره يعهدون منه الكذب ، كما يظهر

من حرصه على تصديقه ، ومن استنباطه لما استنبطه منه أن له هوى فيه ، إما

لأنه مأجور عليه وهو الراجح عندنا قياسًا على أمثاله وأقتاله ، وإما لسبب آخر.

الراجح عندنا أنه قد أخذ أصل هذه الفرية ، وما قبلها في الحجاز عن ذلك

الرجل المصري الذي كان هو المصدر الوحيد لكل ما نشر في جريدة السياسة

وغيرها ، من الطعن فينا وفي السوريين الذين استخدموا في حكومة الحجاز أو عن

أحد أعوانه.

ونحن نعلم من مخازي ذلك الرجل وخياناته القطعية ما نستطيع أن ننشره في

جرائد العالم الإسلامي كله ، لو كنا ممن يتصدى لعقاب المجرمين بمثل هذا.

ولكن ما بال أبي هشام أصلح الله باله يخرج عن حدود الشرع والعدل في

تأكيد بلاغ هذا المبلغ له ، لو لم يكن مستأجرًا له والله تعالى يقول للمؤمنين: {إِن

جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) .

وقد اطلعنا في جريدة ألف باء على رسالة لكاتب مطلع كذب فيها رواية أبي

هشام التي يدعي أنه يراهن على صحتها ، فما له لا يبرز للرهان؟ أليس لأن

التكذيب مؤيد بالبرهان؟ وحسبه منه أن كلاًّ من كتابي المغني وابن كثير يقدر بنحو

من عشر مجلدات كبيرة ، وأنه طبع من كل منهما ثلاث مجلدات من القطع الكبير -

فإن كانت رواية مخبره (الأمين) بأن صاحب المنار أخذ من الملك في أيام المؤتمر

ستة آلاف جنيه لنفقة طبع الكتابين صحيحة؛ فكيف يتصور عقله أن يطبع مثل

هذان الكتابان اللذان يقدران كلاهما بعشرين مجلدًا في أقل من سنة؟ ، وإن عدم

إنجاز طبعهما في أقل من سنة يوجب ما ذكره من تبرم الملك وطلبه إعادة الكتابين

إليه مرارًا؟ ؟

وأنا أعتقد أنه لا يوجد بمصر مطبعة يمكنها طبع هذين الكتابين في سنة ولا

في سنتين ولا ثلاث لا مطبعة المنار ولا غيرها ، ولا أستثني المطبعة الأميرية التي

تعد آلات الطبع فيها بالعشرات إلا أن تترك أكثر أعمالها الأخرى.

وقد طبع القسم الأدبي الخاص بطبع الكتب (صبح الأعشى) في ست سنين

وهو أصغر من أحد الكتابين.

وإذا لم يكن مأجورًا على التشهير في الطعن على صاحب المنار فما معنى

قوله إنه يقصد إعلام الناس أن هؤلاء العلماء الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى

أخرى ، لا يهمهم من وراء هذه الدعوى إلا صيد القروش؟ ، وهذه العبارة هي

عبارة مصدر سائر المطاعن التي أشرنا إليها وإلى صاحبها آنفًا.

ثم إنه قال في آخر مقاله: بأن صاحب المنار خدم ابن السعود أجل خدمة ،

وأنه يستحق عليها هذا المبلغ الذي ادعى أنه أخذه وأكثر منه - فإذا لم يكن صاحب

هوى ومأجورًا على التشهير فلماذا استدرك على هذا بقوله: ولكن لماذا ينادي

بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ؟

من المعلوم الذي لا يمكن إنكاره أن صاحب المنار كتب مقالات كثيرة ، وألف

كتبًا في الرد على الطاعنين على الإسلام من المبشرين والملاحدة وغيرهم، وأنه

كتب مقالات كثيرة في التنفير عن البدع والخرافات والتقاليد والعادات الضارة منذ

أول سنة من سنة (1315هـ) ؟ ، وأنه يفسر القرآن تفسيرًا هو الآن عمدة أشهر

مدرسي التفسير بمصر ، وأنه كتب مقالات كثيرة في سبيل النهضة العربية - فهل

كانت هذه الأعمال من سنة 1315 إلى سنة 1346 لأجل تقاضي ابن سعود أجر

خدمته مدة ثلاثين سنة ، لو صح خبر التقاضي الذي افتراه؟ .

ماذا يعلم الطاعن المشهور من دين الإسلام وعلومه؛ فيسوغ له الحكم على

علمائه ، ويفرق بن المحصلين والأدعياء منهم - وهو لا يحسن ضروريات اللغة

العربية حتى التمييز بين البديهيات التي يعرفها المبتدئون؟ .

ثم ماذا يعلم من قوادم النهضة العربية وخوافيها؛ حتى يصح له الحكم على

العاملين منهم وغير العاملين؟ دع المخلصين وغير المخلصين؟ أيدري من أسس

جمعية الجامعة العربية وكان يكاتب بمقاصدها أئمة الجزيرة يحيى والإدريسي وابن

السعود منذ بضع عشرة سنة ، ويرسل إليهم الوفود؟ هل قرأ رد المنار على ما

كتب أشهر كتاب الترك في مصر سنة 1921 في تفضيل العرب على الترك؟ هل

قرأ تلك المقالات التي نشرت في الآستانة بعنوان (العرب والترك) مع ترجمتها

(عربار تركار) التي شرعت في نشرها جريدة إقدام التركية ، ثم لم تتمها؛ لعجزها

عن الرد عليها وقيام الحجة فيها للعرب على الترك؟ هل يعلم على أي الرجال كان

يعول شبان العرب عند قيامهم بإنشاء النادي العربي بالآستانة؟ وهل يقول إذا كان

يعلم شيئاً من ذلك: إن صاحب المنار لم يكن مخلصًا لقومه فيما كان له من

المساعدة في تلك الأعمال؛ لأنه تقاضى في العام الماضي أجرة من ابن السعود على

خدمته الخاصة، على تقدير صحة رواياته المختلقة؟

لو كان منصفًا بريئًا من الهوى لما عد مساعدة ابن سعود له على خدمته

الخاصة تتناول أعماله الدينية والعربية التي بدأ بها شابًّا ، ثم اكتهل وشاخ في سبيلها ،

وتكون منافية لدعوى خدمة دينه وقومه بها وهو يصرح بأن كل ما قيل إن

صاحب المنار قد التهمه هو دون ما يستحقه على خدمة ابن السعود وحده؟ وبعد هذا

كله ألم يكن العقل وحده كافيًا للحكم على أن الذي يقف حياته على خدمة عامة؛ له

حق أن يقبل كل مساعدة مالية له على ذلك إذ لا يمكن العمل ولا الحياة بغير مال ،

وأحق الناس ببذل هذا المال الملوك والأمراء؛ لأن مثل هذه الخدمة العامة تستغرق

العمر فلا تدع لصاحبها من الوقت ما يكتسب به من طريق آخر! ! كل هذا

معروف بالضرورة ، ولكن الضروريات تكون أخفى من المجهولات عن نظر أهل

الأهواء.

هذا وإنه قد جاءني في البريد قصاصة لمقالة افتتاحية في جريدة تسمى

(الأماني) لم أرها ولم أسمع بها من قبل، عنوان المقالة (شكوى واحتجاج من

الحجاج المصريين) إلى ملك الحجاز ونجد ، موضوعها عين موضوع تلك المقالات

المتعددة التي كانت تنشرها جريدة السياسة لمكاتبها في مكة المكرمة - وهو أحد

الأفراد الذين أشرت إلى مصدر عملهم آنفًا - موضوعها الطعن في السوريين

المستخدمين في الحجاز عامة ، والشيخ يوسف ياسين خاصة وشكري بك القوتلي

من غير المستخدمين، وكان لصاحب المنار حظ منها وهو قول الكاتب: (فكم من

ألوف الجنيهات حملها ذلك للشيخ رشيد رضا النشيط يوسف ياسين وغيرهم من

أبالسة النفاق ، وطوحوا بها حيث تقف مطامعهم وتضل في وادي المادة المحسوس)

اهـ نقلت هذه الكلمة من المقالة؛ لأنها تدل في الجملة على أنني مشارك لأولئك

السوريين في أكل الألوف من الجنيهات بزعم الكاتب، وإن كنت لم أفهم معنى

العبارة لأنها ليست عربية صحيحة ولا عرفية عامية.

وفي آخر هذه المقالة أن صورًا منها أرسلت إلى الوزارة المصرية ، وأعضاء

مجلس الشيوخ والنواب ، وزعماء الإسلام وأمرائه ، وجميع الصحف في البلاد

الإسلامية - ولكن لم نعلم أن شيئًا من صحف العالم نشرها غير هذه الجريدة

المجهولة التي ذكرت أنه جاء في آخرها 37 توقيعًا.

ولكل عاقل اطلع عليها أن يقول: ما للحجاج وللطعن في السوريين الموظفين

بالحجاز؟ هل ذهبوا لأداء النسك وعبادة الله ، أو لمعصية بالبحث عن عيوب الناس

وعوراتهم والتشهير بهم؟ ، ثم إن كانوا قدموها لملك الحجاز ناصحين له فما شأن

الحكومة المصرية ونوابها وشيوخها وأمراء الإسلام وزعمائه وصحفه في ذلك؟

ومن ذا الذي أطلعهم على عناوين أولئك الأمراء عقب عودتهم من الحجاز ومن

تولى مكاتبتهم والنفقة عليها؟

هذه التواقيع تشبه تلك البرقيات العشرين التي وردت على سمو الأمير سعود

عندما كان بمصر احتجاجًا واعتراضًا على ما كان عزم عليه من زيارة صاحب

المنار، كاشف الأمير صاحب المنار قبيل صلاة الجمعة بأنه يريد زيارته في داره

غدًا ، فما جاء المساء إلا وكان قد ورد عليه عشرون برقية أو أكثر من أقسام القاهرة

المختلفة المتباعدة الأطراف في استنكار هذه الزيارة والاحتجاج عليها! فمن ذا الذي

أعلم هؤلاء بذلك الوعد ، وماذا أهمهم منه؟

الحق الواقع أن القائم بهذه السخافات رجل واحد صار معروفًا ، وله أفراد من

الأعوان بمكة ومصر، فمصدر ما يسمى شكوى الحجاح المصريين واحتجاجهم على

السوريين الموظفين في الحجاز ومصدر تلك البرقيات للأمير سعود واحد - هو

بعينه مصدر ما نشر بهذا المعنى في جريدة السياسة وألف باء وغيرها، والغرض

منها واحد وهي التأثير الذي يطلبون أن يكون لهم عند جلالة ملك الحجاز ونجد

والانفراد بالنفوذ عنده، وأبغض الناس إليهم أشدهم إخلاصًا له، وهم يعلمون أنه

يميز حق التمييز بين المخلصين والمنافقين، ولكنهم يظنون أن هذا التهويش في

الجرائد يقلقه ، فلا يجد له بدًا من تضحية أخلص المخلصين له للاستراحة منه.

فإن صح زعمهم فإن الرجل لن يستريح له بال طول حياته سواء ضحى

أصدقاءه أم لا ، فقد علمنا من تاريخ السلطان عبد الحميد أن إصغاءه للجواسيس

والدساسين ، ولما كانوا ينشرونه في الجرائد في مدحه وذمه هو الذي سلب راحته

وحرم الدولة العثمانية من مواهبه، أعاذ الله ابن السعود من ذلك.

وجملة القول؛ أن كل تلك الإشاعات باطلة ، وأما مسألة المطبوعات فكل

ما ذكره فيها أبو هشام فهو افتراء، وإنما الحق أن ابن السعود يطبع عندنا كتبًا كثيرة

منها المغني مع الشرح الكبير، وتفسير ابن كثير مع تفسير البغوي، ولم نقاوله ولا

أحدًا من أتباعه على شيء منها، وإنما نطبع ونقدم لجلالته عند إتمام بعضها كشفًا

(فاتورة) بنفقتها ونطلب منه مبلغًا من الدراهم على الحساب سلفًا أو متأخرًا

فيرسله، وكل ذلك يقيد في دفاتر المطبعة على الطريقة المعروفة فيما يسمونه

الحساب الجاري، وإدارة المطبعة أعلم منا بتفصيل هذا الحساب لأننا نأخذ عنها.

وأما مسألة الهدايا التي كتب إلينا صديقنا أنها مما تناوله حديث الناس في

الحجاز ، فالخوض فيها من الغرائب بمكان، إذا من المعلوم عندهم وعند ألوف من

الناس أن هذا الملك كثير الهدايا ، وأنه قلما عرف أحدًا من أي جنس وملة كان ،

ولم يهده شيئًا، فما نال صاحب المنار من هداياه مع الصداقة القديمة واتحاد العقيدة

والمشرب ليس غريبًا فيذكر ، لولا الحسد من قوم وحب الإفساد من آخرين.

إنني أغتبط بأي هدية منه لأنني أرى فيها آية المودة والإخلاص، لا للانتفاع

بها ، فإنها مما لم أكن أستعمله عادة كالعباء الرقيقة الصيفية، ولا لأنها من ملك ،

وقد أبت علي نفسي أن أقبل من الملك فيصل في الشام أن يفرش لي الدار الواسعة

التي استأجرتها ، وكان قد عرض علي ذلك ، وأنا أعلم أن قيمة ما كان يفرشها به

من السجاد العجمي والأرائك والزرابي والسرر والآنية له قيمة عظيمة. وإحسان

بك الجابري سمع ذلك منه وما أراه نسيه، وقد أحضرت الأثاث لها من طرابلس

قبل أن يشعر فيصل باستئجاري لها.

كتبت هذا كله وإن كان الأخير منه غير لائق في العرف، ولولا ما كتبه إلي

ذلك الصديق لم أكتبه، وأزيد على ذلك أنني لمت هذا الإمام بلسان الشرع قولاً

وكتابة على بسط يده إلى الحد الذي اشتهر عنه من الصلات والهدايا للزائرين من

حجاج الآفاق وغيرهم وبينت له أنني أعتقد أنه محرم شرعًا، فهل هذا مما يفعله

ويقوله من كان طامعًا في ماله بحق أو بغير حق كلا ، إنني أحمد الله أن نفسي لا

تستشرف لأخذ مال من أحد بدون استحقاق شرعي، على أنني أثق بما في يد هذا

الأخ في الله كما أثق بما في يدي ولكنني بما في يدي الله تعالى أوثق. وليعلم الحاسد

والمفسد أن الرابطة بيننا هي رابطة دينية روحية خالصة لوجه الله تعالى لا تزيدها

المعاملة المالية ولا تنقصها كما زعموا لأنها ليست للمال ولا لجاه الملك، وأن كل

تلك الإشاعات والتقولات لا تزيدها إلا قوة وثباتًا، هي رابطة لا يقدر على حلها أو

نكث فتلها إلا الله تعالى - والمرجو من فضله أن يحفظها بالإخلاص والعقل وهداية

الشرع - ولا يطمع فيها إلا الشيطان، وأعوانه من بني الإنسان، ولكن الله تعالى

قال في الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 99-100) ،

ونحن بحمد الله من المؤمنين المتوكلين.

_________

(1)

المنار: لو كان يفهم الكاتب ما يكتب لعلم انه بيّن اسمه لمن لا يخاف عليه من غيره فإنه قال: إنه كان الواسطة بيننا وبين الملك ومن أدرى من الملك بالواسطة بيننا إن كان ثم واسطة؟ وهل يخاف عليه إلا من الملك أن يعاقبه؟ .

ص: 465

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين

كتب إلينا بعض القراء من جاوه ومن فلسطين يشكرون لنا ما كتبناه من

التحقيق في مشكلات أحاديث المهدي وأحاديث الدجال وبيان المخرج من مشكلاتها،

وسألنا بعضهم عن أحاديث نزول المسيح عيسى بن مريم لعلاقتها بتلك الأحاديث،

ولكن ليس فيها من التعارض والتناقض والإشكاليات مثل ما فيها، وإن كان بعضها

لا يخلو من ذلك.

وانتقد علينا بعض النجديين هذا البحث، وتمنوا لو لم ينشر، وإنهم لا

يعرفون لنا عذرًا في نشره، ولو كان جميع المسلمين كمسلمي نجد لما كنا في حاجة

إلى مثل هذا البحث، فإنهم قوم يأخذون بالإيمان والتسليم كل ما يجدونه في كتب

الحديث من غير بحث في تعارض ولا إشكال، حتى إن ناصحهم يحتاج إلى

الاحتراس في بيان ضعف بعض الأحاديث متنًا وسندًا؛ لئلا يخدش ذلك التسليم

والإذعان لكل ما نسب إلى السنة، وإن كان لا يصح عزوه إليها أو يعارض

الصحيح القطعي منها، وإذا بحث بعض المشتغلين بالعلم منهم على قلتهم في هذه

المسائل؛ فإنه يقبل في الجمع بين الحديثين، أو في دفع الإشكال الذي يرد على

بعض الأحاديث كل ما يقوله الباحثون في ذلك كالكثير مما أورده الحافظ ابن حجر

مما لا يكاد يعقل، حتى إنه قد يدافع عن الحديث الذي يعد من أقوى المطاعن على

أصول الدين كالتوحيد والرسالة إذا كانت صناعة فن رواية الحديث تعده مقبولاً

كحديث الغرانيق الصريح في إقرار عبادة الأصنام والثناء على اللات والعزى ومناة

الثالثة الأخرى، والمجوز لإلقاء الشيطان في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم

لسورة النجم في مدح هذه الأصنام الكبري: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن

لتُرْتَجَى.

دافع الحافظ عفا الله عنه عن هذا الحديث الذي يعترف بأنه لم يصح له سند

بأن تعدد طرقه يقويه! ! ! و

قاعدة للمحدثين لم ينزلها الله تعالى في كتابه، ولا

ثبتت في سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة،

فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق أو عقلاً لا قيمة له

لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل؛ ولذلك حكم صفوة المحققين من أهل

الحديث والأصول بأن حديث الغرانيق موضوع باطل.

ونحن قد علمنا منتهى شوط الانتقاد علينا من بعض النجدبين بلقائنا هنا لرجل

من أوسعهم اطلاعًا في الحديث ، ومراجعته لنا في المسألة مرتين في مجلسين

طويلين ، فيذكر صفوة ما دار بيننا وبينه في ذلك باختصار لبعض المسائل وإيضاح

لبعض.

بدأ الكلام في مجلسه الأول بالثناء علينا وعلى المنار وبحب النجديين لنا

لقيامنا من زهاء ثلث قرن بالدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك والبدع

وتأييد السنة ومذهب السلف ، ثم انتقل إلى مسألة البحث في أحاديث الدجال والطعن

أو إيراد الإشكالات حتى على الصحاح منها، وما في هذا من مخالفة خطة المنار

ومنهاجه ، قال: ولا ندري السبب المقتضي لذلك.

قلت له: إن استشكال هذه الأحاديث وأمثالها من أشراط الساعة قديم حتى إنك

تجد أكثره في شراح صحيحي البخاري ومسلم ، وإن لأهل هذا العصر من الاستشكال

ما ليس لغيرهم ، ومنهم من يجعلها شبهة على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه

وعلى آله، وقد كثر سؤال الناس إياي عنها مشافهة ومكاتبة ، فكنت أجيبهم بالإجمال ،

وأعد بكتابة التفصيل في فرصة أخرى، وقد قال لي من عهد قريب بعض إخواننا من

السلفيين المشتغلين بعلم الحديث: الأولى أن لا تكتب في ذلك شيئًا؛ لأن الإقناع بها

متعذر ، فنحن نفوض علم الحقيقة فيها إلى الله تعالى ونعدها كأنها غير موجودة.

ولكن الناس يظلون يسألون ويستشكلون، وبعضهم يشككون ويطعنون، فكان

من الواجب على صاحب المنار القائم بفريضة الدفاع عن الإسلام أن يبين للناس ما

يدفع الشبهات عنه، ويثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما صح

عنه صحة لا شبهة فيها.

وقد صرحت فيما كتبت في آخر بحث أشراط الساعة بأن من صدق رواية

مما ذكر فيها ولم يجد فيها إشكالاً ، فالأصل فيها الصدق ، ومن ارتاب في شيء

منها [1] أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشكلين إشكالاً في متونها؛ فليحمله على

ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية بالمعنى أو غير ذلك مما أشرنا إليه. فعلم بهذا

أن غرضنا من أصل البحث تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل طعن

يورده أحد على بعض هذه الروايات تبرئة يقبلها عقله ، ويطمئن لها قلبه، ومن كان

يكتفي برواية الشيخين أو أحدهما فإنه لا يستشكل ما رويا.

قال أخونا النجدي الفاضل: إن بعض ما ذكرتموه من الأجوبة عن التعارض

بين الأحاديث وحل مشكلاتها ، مما يتضمن الطعن في أسانيد ما في الصحاح منها

كحديث الجساسة يمكن أن يجاب عنه بأجوبة أخرى مقنعة مع الجزم بصحة الأسانيد.

قلت: إن من جاءنا بأحسن مما جئنا به دفاعًا عن هذه الأحاديث وجمعًا بين

رواياتها؛ نشكر له صنعه ، وننشره في المنار؛ ليهتدي الجمهور به، ومن أقنعنا

بخطأ في شيء مما جئنا به؛ نقبله مع الشكر أيضًا.

فعليك إذًا أن تكتب لنا ما عندك في ذلك؛ لننشره ، وعسى أن يكون خيرًا

وأهدى سبيلاً.

ثم ذهب الرجل وغاب عنا غيبة طويلة جاءنا بعدها بمقال طويل غير ما

اقترحناه عليه ، وقد اتهمنا فيه أننا أنكرنا أحاديث الدجال كلها ، وحاول الرد علينا

بإثباتها وفيه أغلاط أخرى - فقرأنا عليه طائفة منه بينا له ما فيها من الغلط، وإن

بعضه قد جاء من عدم فهم عباراتنا التي صرحنا فيها بأنها متواترة تواترًا معنويًّا،

وإن القدر المشترك الذي يدل عليه التواتر المعنوي هو كذا وكذا (ص20 ج1م)

فاعترف بالخطأ ، وأخذ منا المقالة ورسمنا له خطة لمقالة أخرى يقول فيها:

إنه اطلع في المنار على بحث كذا ، فوجد فيه مطاعن في بعض أسانيد الأحاديث

وإشكالاً وتعارضًا بين بعض المتون ، يمكن الجواب عنها بما يدفعها ويثبت صحة

تلك الأحاديث كلها أسانيد ومتونًا، ثم يسرد ذلك بالعدد ، ويجيب عن كل منها بما

عنده ، وأعطيناه المنار؛ لينقل منه ما يقتضيه الرد بالحرف لئلا يخطئ، بنقله

بالمعنى ، ونصحنا له بأن يراجع عند الكتابة شرح البخاري للحافظ ابن حجر

وشرح مسلم للنووي في الكلام على هذه الأحاديث ، فوعد بذلك ، وانصرف شاكرًا ،

ولما يعد.

وإننا نطالب كل منتقد بما طالبنا به هذا النجدي الفاضل الغيور ، ومن المعلوم

من أصول ديننا بالضرورة أن كل أحد يجوز عليه الخطأ إلا المعصوم فيما هو

معصوم فيه ، وحسن النية مع بذل الجهد في استبانة الحق مما يرجى به عفواته

تعالى عن المخطئ.

_________

(1)

جاء في ص 27\8 من الجزء الأول: ومن ارتاب في كل شيء - ولفظ كل زائد قطعًا.

ص: 474

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة

الدكتور يعقوب صروف، شيخ الأزهر

بطرك القبط، زعيم الأمة سعد باشا زغلول

اشتدت وطأة الحر في صيف هذا العام على تشبع هوائه الضعيف

بالرطوبة؛ فثقل علينا القيام بأعمالنا العادية الكثيرة، فعزمنا على جعل شهري

إجازة المنار السنوية شهري المحرم وصفر متتابعين، وقد حدث في هذه الفترة وفاة

أكبر أكابر رجال مصر في المنصب والمقام والسن جميعًا يتلو بعضهم بعضًا:

مات أولا الدكتور يعقوب صروف أحد مؤسسي مجلة المقتطف الشهيرة

والمحرر الأول لها عن 75 سنة ، وما عهد الاحتفال بعيد المقتطف الذهبي

الخمسيني ببعيد، فكان لموته رنة أسف في مصر وسورية وسائر البلاد العربية ،

وجدد عشاق العلوم والفنون فيها الاعتراف له بخدمتها نصف قرن كامل.

وتلاه الشيخ أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد

الدينية ، مات عن 85 سنة ، وكان في الرعيل الأول من العلماء المتقنين للعلوم

الأزهرية كلها يقل نظراؤه فيها، ولم يكن معاديًا للإصلاح في عهد الأستاذ الإمام،

بل كان صديقًا له، ولكنه لم يعمل شيئًا في أيام مشيخته، على أن الأزهر في هذا

العهد مقيد بقيود ثقيلة ، ودخل جمهور شبابه في مآزق السياسة فصار أمر إدارته أعقد

من ذنب الضب.

وتلاه بطرك القبط الأرثوذكس الملقب برئيس الكنيسة المرقسية ، مات عن

زهاء 95 سنة ، وكان عظيم الملة القبطية وأعطى منصبه حقه من الوقار

والمحافظة على التقاليد الكنسية، وفي عهده ترقت القبط في الشؤون الاجتماعية

وطالبوا رجال الدين الذي هو رأسهم بإصلاحات كثيرة أهمها: ما يتعلق بشؤون

أوقافهم ، وانتفاع الشعب بها، وكانوا أمثل من المسلمين في خدمة دينهم وأوقافهم

وتكافلهم وأدبهم مع رئيسهم الديني ، وفي مصالحهم السياسية والاجتماعية وسائر

أمور دنياهم.

***

سعد باشا زغلول

وتلاه زعيم البلاد الأكبر الرئيس الجليل سعد باشا زغلول ، مات عن زهاء

سبعين سنة ، فزلزلت الأرض، وعظمت أهوالها، وشاركت الشعوب العربية أخاها

الشعب المصري في المصاب ، وعدوه مصاب الأمة العربية بأعظم رجل سياسي

نبغ فيها، وتجاوبت برقياتها مع مصر بالتعزية حتى كان أكبر ملوك العرب صاحب

الحجاز ونجد ونائبه الأمير فيصل في مقدمة المعزين للشعب المصري ولحكومته.

بل اهتزت لموته أرجاء الشرق والغرب وأكبرته جرائد الأمم كلها، حتى إن

جرائد أوربة عامة وإنكلترة خاصة قد أظهرت لنا من معرفة قدره وتقدير مواهبه ما

غاب بعضه عن جرائد مصر نفسها.

وأما الأحزاب المصرية وجرائدها؛ فقد أجمعت على إكبار الرجل في نفسه،

وإكباره في عمله، وإكباره في مصاب البلاد به، إجماعًا ظهر أنه خرج من صميم

أفئدة الكتاب، بالرغم مما كان من شذوذ بعض الأفراد والأحزاب.

وقد كان مشهد جنازته والاحتفال بتشييعه مما لم ير له أحد نظيرًا في هذه

البلاد ولا في غيرها إلا في يوم عودته من أوربة إلى مصر عظمة وحفلاً وجلالاً

ووقارًا، إلا أن الحزن العام، وقد اقتضى بطبعه شيئًا من الإخلال بالنظام، فإن

الجماهير من دهماء الشعب كانوا يهجمون المرة بعد المرة على النعش بسائق أقرب

إلى الاضطرار منه إلى الاختيار، وظهر أنهم كانوا يريدون انتزاعه ، وإخراجه من

مركبة المدفع التي وضع عليها لحمله على أعناقهم.

لا يتسع هذا الجزء من المنار لوصف المصاب ، ولا لوصف الفقيد العظيم

وترجمته، وإنما نقول: إن الشعور بأن المصاب بسعد مصاب كل فرد من أفراد

الشعب كان شعورًا عامًّا ، ولكن لا نزاع في أن وقع الرزء على قرينته كان أعظم

من وجوه يعرفها بالإجمال كل أحد ، ويعرفها بالتفصيل من عرف كيف كانت

حياتهما الزوجية في جميع أطوارهما ، ولا سيما الجهاد السياسي الأخير فنحن نعزيها

بقول أشهر النساء في الحزن وهي الخنساء الشاعرة الصحابية رضي الله عنها:

ولولا كثرة الباكين حولي

على أحبابهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزي النفس عنه بالتأسي

بل نقول: إن الخنساء تعزت بكثرة الناس الذين يبكون حولها من فقدوا وإن

لم يكن في نظرها كمن فقدت - ولكن قرينة سعد أولى منها بالعزاء لأن الذين يبكون

حولها إنما يبكون من تبكي هي ، فلا تستطيع أن تقول كما قالت الخنساء.

(وما يبكون مثل أخي) فإن كان المصاب لا نظير له في عظمته ، فالتعزية

لها لا نظير لها أيضًا فهي على قدر المصاب سواء.

سننشر لهذا الزعيم الكبير ترجمة نودعها من العبرة ما يوافق خطة المنار ،

ونعجل الآن بذكر مسألة مهمة وهي أن مجلس الوزراء قرر أخذ بيت سعد باشا

الذي يدعَى (بيت الأمة) ، وهو موقوف بطريق الاستبدال المعروف ، وجعله من

المنافع العامة ذكرى للفقيد مع إبقاء كل آثاره فيه ، وشراء البيتين المجاورين له ،

وهدمهما وإنشاء قبة عظيمة يجعل فيها قبره بنقل جثته إليها ، وتجعل مسجدًا ومزارًا

للناس؛ فتكون كقبة الشافعي والبدوي ونحوهما، وقد رسم الرسامون شكل القبر

وشكل القبة، وطُبِعَا في بعض الجرائد.

وقد أنكر هذا العمل القبط ومن على رأيهم من وجهين (أحدهما) أن الفقيد

كان زعيمًا سياسيًّا للشعب المصري كله ، لا للمسلمين وحدهم ، ولم يكن زعيمًا دينيًّا

إسلاميًّا ، بل هو الذي جمع بين الهلال والصليب ، ولم يكن يفرق بين المسلمين

وغيرهم ، فلا يجوز أن يجعل قبره معبدًا للمسلمين.

(ثانيهما) أن شكل القبة التي رسمت لقبره عربي إسلامي ، والواجب أن

يكون مصريًّا فرعونيًّا؛ لأنه هو كان مصريًّا قبل كل شيء ، ويعنون بهذه الكلمة أن

الجنسية المصرية الوطنية مقدمة على كل رابطة أخرى دينية كانت أو لغوية أو

غيرهما.

وقال بعض الكاتبين في ذلك: إن الزمن الذي كان فيه المصريون من القبط ،

والمسلمين يلعنون الفراعنة لأجل دينهم (الوثني) ولا سيما فرعون موسى تبعًا

للتوراة والإنجيل قد مضى ، وصار جميع المصريين الوطنيين يفتخرون بفرعون

وبأنهم سلالة فرعون.

ولعل هؤلاء يستحسنون أن يجعل ما يبنى على قبره بشكل الهرم كما قالت

إحدى السيدات المسلمات.

ونحن نتعجب لسكوت علماء الدين ، ولا سيما أهل الحديث منهم عما نستدركه

عليهم من النصح للحكومة أن لا تجعل قبره مسجدًا لأن بناء المساجد على القبور

محرم شرعًا ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن الأربع

وغيرها بلعن فاعليه ، ووصفهم بشرار الخلق، ونحن نعلم أن العلماء إنما يسكتون

عن مثل هذا البيان والنصح للحكام لاعتقادهم أنهم لا يعملون به، ولولا الملوك

والسلاطين؛ لما وجدت هذه القباب العظيمة والمساجد على قبور الأئمة والصالحين

وعلى الملوك بالتبع لهم ، فهم الذين ابتدعوا ذلك ، ونفذوه بالرغم من أنوف العلماء؛

ولذلك أجاب بعض العلماء الأعلام في كتاب له من احتج بوجود هذه القباب

والمساجد في أكثر بلاد الإسلام على مشروعيتها ، فكان مما قاله: إن هذه أمور

حكومية لا حكمية، ودولية لا دليلية، ولكن الحكومة المصرية الحاضرة لا ترضى

أن تجعل قبر سعد باشا فتنة لعوام الشعب يضلون به كما ضلوا بقبور الأولياء

فعبدوها بالدعاء والنذور والطواف بها وغير ذلك مما شرحناه مرارًا، وإنني قوي

الرجاء في امتناعها عن جعل قبة قبره مسجدًا؛ لمخالفته لنصوص الشارع ولحكمة

التشريع معًا، وهو افتتان الجاهلين بتعظيم القبر تعظيمًا دينيًّا ، وتعليق آمال زائريه

بقضاء الحاجات، ودعائه لذلك في المهمات والنذر له ، فهذه الحكومة لا تريد أن

يكون قبر رجلها السياسي سببًا لازدياد الخرافات والضلالات في البلاد، ولكنها لا

تسمع كلام العلماء فيما عدا ذلك من المباني والتماثيل التي قررتها ، وقد يتأول لها

من يبالي بالدين من رجالها بأنها خالية من الحكمة أو العلة التي حرمت لأجلها،

وهي كونها ذريعة للشرك محتجين بأنه لا يوجد في مصر أحد يعظم تمثال محمد

علي باشا أو ولده إبراهيم باشا تعظيمًا دينيًّا ، ولا غير ديني أيضًا، فإذا كان هذا

مأمونًا فيما ستنصب الحكومة لسعد من التماثيل ، فليس مأمونًا في قبر عليه مسجد

يصلى فيه بجانب القبر ، والصلاة إلى القبر ممنوعة شرعًا أيضًا.

وقد ظهر أن قرن الفتنة بعبادة سعد قد نجم في الأرياف؛ إذ بلغنا أن بعض

أهل الطرق ابتدعوا طريقة سموها السعدية الزغلولية.

وإننا لا نشك في أن جعل البناء على قبره مسجدًا معدًّا للصلاة فيه بفرشه

ووضع محراب فيه لمعرفة القبلة يكون ذريعة لجعله كقبر البدوي والسيدة زينب

وأمثالهما.

وهل يظن عاقل أن جميع عوام المصريين يفهمون أن خدمة سعد للبلاد

سياسية محضة لا شائبة للدين فيها؟ ، كيف وإن بعض كبار علماء المغرب الأقصى

قد ذكر في مقال له نشر في المنار ما يدل على أن العلماء المستنيرين هنالك

يعتقدون أنه زعيم ديني ، فعسى أن تتدبر الحكومة المصرية هذا الأمر وتحول دون

وقوع هذه الفتنة التي هي خلاف مرادها من إحياء ذكرى سعد بقبره وداره وآثاره

وما تنصب له من تماثيل، وإنما مرادها أن تحفظ ذكرى خدمته السياسية ومقاصده

الاستقلالية ويتمسك الشعب بها ويكون عونًا للقائمين بعده بتنفيذها كما كان عونًا له

يؤيده في كل أعماله.

وأما تعليل دعاة الإلحاد من القبط والمسلمين طلبهم جعل شكل القبة فرعونيًّا

تبعًا لجعلهم جنسية المصريين في هذا العصر فرعونية ، وجعل سعد من ذرية

فرعون ، فهو تعليل باطل، فسعد من أسرة عربية الأصل ، كما أخبرني ابن أخيه

العالم الفاضل الثقة عبد الرحمن زغلول رحمه الله تعالى، والجنسية المصرية في

هذه العصر جنسية سياسية شاملة لكل سكان هذا القطر من عرب - وهم السواد

الأعظم - وقبط وترك وإفرنج وغيرهم من الأجانب الذين قبلوا هذه الجنسية

الوطنية السياسية ، ولا دخل للأنساب القديمة ولا للحديثة فيها.

_________

ص: 477

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خيرية القرون الثلاثة مع وقوع الفتن فيها

(س11) من صاحب الإمضاء في فكلوغن جاوه

إلى حضرة الإمام مفتي الأنام خليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد آل رضا

أطال الله بقاه ونفعنا بعلومه آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام والمسلمين كما أشاهد (؟)

في مقالاتكم على صفحات مناركم المنير ، ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية؛

ألتمس من فضيلتكم أن تبينوا لي مقصود هذا الحديث الشريف: (خير القرون

قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) بيانًا وافيًا كعادتكم في حل المسائل،

وتوضيح المشاكل، فإنه قد أشكل علي مقصود قوله صلى الله عليه وسلم (خير) ما

هو ذلكم الخير الذي يقصده صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن قرون الفتن والزلازل

والزندقة ما نجمت [1] إلا في تلكم القرون الثلاثة المشهود لها بالخير.

ألم تروا إلى فتنة عبد الله بن سبأ ذالكم اليهودي اللعين التي أدت إلى قتل

الخليفة الثالث رضي الله عنه وإيقاد نار الحرب بين الخليفة الرابع وسيدنا معاوية

رضي الله عليهم التي كانت السبب في إزهاق أرواح الألوف من خيرة رجال

الصحابة، وظهور الحرورية وقتلهم للإمام علي كرم الله وجهه، وواقعة كربلاء،

واستباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه، ورمي الكعبة بالمنجنيق،

ونبوغ الجهمية وغيرها من الفرق الضالة المضلة وافتراء الألوف المؤلفة من

الأحاديث الموضوعة على رسول الله إلخ إلخ، بل إن خذلان المسلمين اليوم

وسقوطهم في هاوية الذل والمسكنة؛ إنما هي عاقبة تلكم الوقائع السود التي وقعت

في تلكم القرون الثلاثة ، وما تليها أفيدونا مأجورين، ولا زلتم ملجأ ومأوى

للحائرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

... سعيد بن طالب الهمذاني

(ج) الحديث ورد في الصحيحين وغيرهما بلفظ: (خير الناس قرني)

إلخ وبلفظ: (خير أمتي أهل قرني) إلخ، وفي عدة روايات البخاري (خيركم

قرني) ، وقد بين علة الخيرية في الرواية المتفق عليها من حديث عبد الله بن

مسعود (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق

شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) ، وفي رواية من حديث عمران بن حصين في

البخاري (ثم يجيء من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون،

وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن) وفي رواية له زيادة (ثم يفشو الكذب)

وفي رواية الترمذي والحاكم عنه: (ثم يأتي بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السمن،

يعطون الشهادة قبل أن يسألوها) ، فالمراد بخيرية كل قرن على ما بعده خاص

بتفضيل المسلمين فيه على من بعدهم فيما يليه، قيل: في جملتهم، وقيل: في

أفرادهم، والمشهور تفضيل الصحابة على من بعدهم مطلقًا.

والقرن: أهل زمان تجمعهم فيه جامعة يكون فيها بعضهم مقارنًا لبعض

كرئيس يجمعهم من نبي أو حاكم أو غيرهما أو عمل مشترك، وحدده بعضهم

بالزمان، وفيه أقوال: من عشرة إلى مائة وعشرين، والأشهر الذي جرى عليه

الناس أن القرن مائة سنة، وليس بمتعين في هذا الحديث، وعليه يمكن تفسير قرنه

صلى الله عليه وسلم بزمانه من بعثته .... والقرن التالي له بقرن الخلفاء الراشدين

لتشابهه، أو إلى آخر مدة عمر، أو إلى حدوث الفتن في زمن عثمان لامتيازه بذلك،

والمشهور عند جمهور العلماء أن القرن الأول قرن الصحابة، والثاني قرن

التابعين، والثالث قرن تابعي التابعين، قال الحافظ ابن حجر: (واتفقوا على أن

آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين،

وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت

الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا

شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن) ، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم:

(ثم يفشو الكذب) ظهورًا بيِّنًًا ، حتى شمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله

المستعان اهـ.

وجملة القول؛ أن التفضيل خاص بما يكون عليه المسلمون من الاعتصام

بعروة الدين من صحة التوحيد، والبعد عن الشرك وخرافاته، واجتناب الرذائل

وشرها الكذب، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإخلاص في العبادات، وما وقع من

الدعوة إلى الشرك من عبد الله بن سبأ ثم إلى فتن السياسة والملك، فإنما وقع من

الكفار كعبد الله بن سبأ اليهودي وأمثاله من زنادقة أهل الكتاب وزنادقة الفرس

واصطلى المؤمنون بنارها.

وفي الصحاح أحاديث أخرى تؤيد هذا المعنى وهو أن كل زمن شر مما بعده

أي من حيث الدين والتقوى في مجموع الأمة، وهو مقتضى سنة الله في البشر التي

يدل عليها قوله تعالى: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ

فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ، ولا ينافي هذا وجود بعض

المزايا والأعمال في بعض الأزمنة المتأخرة بحيث تفضل بها على ما كان قبلها ،

كزمان عمر بن عبد العزيز على ما قبله من أزمنة ولاية قومه.

وقد روى الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس وابن حبان من حديث عمار

وصححه: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) قال الحافظ ابن

حجر: حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة ، وحملوا الآخر فيه على

زمن المسيح وهو مع ذلك لا يظهر بالنسبة إلى قوة الإيمان وفضائل الأفراد ، بل

بالنسبة إلى ما يكون فيه من جمع كلمة المسلمين وقوتهم وكثرة البركة في أموالهم

ومعايشهم وخفض كلمة الكفر وذلة أهله على ما روي في ذلك ، والله أعلم.

_________

(1)

المنار: كان الأصل بأن شمس الفتن

ما بزغت إلا إلخ فغيرنا الكلمتين بما هو المناسب للمعنى وجاء الجناس بلفظ القرون عفوًا غير متكلف.

ص: 502

الكاتب: محمد رشيد رضا

أسئلة من إيبك - يوغو سلاويا: (أوربة)

(س12 15) من صاحب الإمضاء

حضرة صاحب الفضل والفضيلة، سيدنا ومولانا العالم العلامة، المحقق

المدقق مفتي الأنام السيد محمد رشيد رضا أطال الله بقاءه وحفظه آمين.

(1)

هل يجوز أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة بالجماعة لأهل القرى في

القرى، مع أن الجمعة قد أقيمت قبلها؟ هكذا يفتي بعض العلماء ، ويخصون هذه

بالقرى دون الأمصار ، ونحن نظن أن إقامة صلاتين متغايرتين في وقت واحد من

الجماعة لا تجوز ، كما قررت في الأصول، ومع هذا إذا أقيمت صلاة الظهر مع

الجماعة بعد صلاة الجمعة في المسجد؛ هل تبطل الجمعة بأداء الثانية؟ إذ

المصلون هذه يشكون من أن صحة الجمعة ليست قطعية (في القرى) لفوات بعض

شروطها.

(2)

هل يعد من الزكاة الخراج المستأدية للحكومة المطروح من عندها -

أي حكومة كانت - ويسد مسدها؟

(3)

ما معنى حديث: (استنزهوا عن البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) ،

أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والدارقطني عن أنس بلفظ

(تنزهوا) ؟ ، وما حكمة تعميم النبي صلى الله عليه وسلم عذاب القبر بالبول؟

(4)

هل (وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر) حديث صحيح أو من

الموضوعات ، إن كان من الأحاديث الصحيحة ، فما معناه؟ وما سبب إيراد النبي

صلى الله عليه وسلم هذا؟ ومن كان المخاطب بهذا؟

أقدم لفضيلتكم هذا ، وأرجو الجواب والإفتاء عنها ، مع فائق احترامي

وتشكري.

...

...

... المخلص والمشترك لمجلتكم الغراء

...

...

...

يحيى سلامي

صلاة الجمعة في القرى والظهر بعدها جماعة

الجواب عن السؤال الأول أنه من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله

تعالى لم يفرض على عباده صلاتي فريضة في وقت واحد.

فمن كان في قرية فيها مسجد تقام فيه الجمعة؛ يجب عليه أن يصليها مع

الجماعة ، إلا إذا كان يعتقد أن صلاة الجمعة فيها باطلة شرعًا لفقد بعض شروطها ،

وحينئذ لا يجوز له أن يصليها لأنه شروع في عبادة باطلة غير مشروعة في اعتقاده ،

وإن كان مخطئًا ، وهو عصيان لله تعالى، وإذا عصى وصلاها معتقدًا بطلانها؛

تبقى صلاة الظهر متعلقة بذمته فعليه أن يصليها، وليس له أن يقيم له مع غيره

جماعة أخرى لأنه تفريق بين هؤلاء وبين إخوانهم المسلمين الذين أقاموا الجمعة

قبلهم ، وهذه مسألة اجتهادية ، هذا ما أراه في حكمها.

وأما إذا صلاها معتقدًا صحتها ، فلا يجوز له أن يصلي بعدها ظهرًا لا

منفردًا ولا جماعة؛ لأنه يكون بهذا مخالفًا للمعلوم من الدين بالضرورة ، وهو

قطعي بظن بعض الفقهاء.

وهذه المسألة قد بيناها بدلائلها التفصيلية من قبل، وإذا كان لمن تحكون

عنهم شبهات غير ما سبق لنا بيانه والرد عليها ، فاذكروها لنا.

وليعلم المسلمون في بلادكم وأمثالها أنه لا ينبغي لهم تقليد من يقول من الفقهاء:

إن صلاة الجمعة لا تصح في القرى ، فإن أول جمعة أقيمت في الإسلام قد أقيمت

بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرية جواثي من البحرين

كما في صحيح البخاري وشروحه ، ولا تقليد من يشترط لصلاة الجمعة دار الإسلام ،

وإقامة الأحكام الشرعية من قبل الإمام، لأنه تقليد في إبطال شعيرة من أعظم

شعائر الإسلام، قال بعض الأئمة بعدم اشتراط ما ذكر في صحتها.

***

(2)

اجتماع العشر والخراج

الجواب عن الثاني أن مذهب الحنفية عدم اجتماع الخراج والزكاة في أرض

واحدة ، ومذهب الجمهور أنهما يجتمعان لأن الخراج أجرة الأرض لبيت المال ،

فهو واجب عليها، وأما الزكاة فهي حق على الغني المسلم لأصحاب الحاجة من

المسلمين ومصالحهم العامة؛ ولذلك لا تجب على الذمي ، والخراج يجب عليه،

وهذا كله خاص بالحكومة الإسلامية سواء كانت حكومة الإمام الحق في دار العدل

أو حكومة البغاة المتغلبين منهم.

وأما إذا أقام المسلمون في غير دار الإسلام وملكوا فيها أرضًا ، أو تحولت

دار الإسلام إلى دار حرب لغير المسلمين ، فالمختار عندنا أنه لا وجه لجعل ما

تأخذه هذه الحكومة من المسلم كالخراج الشرعي في دار الإسلام، وإذا كان للمسلمين

إمام يقيم العدل في قطر آخر؛ فالمصلحة الإسلامية العامة تقتضي أن يرسلوا إليه

من زكاة أموالهم كل ما يتعلق بالمصالح العامة بعد أن يؤدوا للفقراء والمساكين ما

لهم فيها، وكذا المؤلفة قلوبهم والغارمون إن وجدوا، وإلا كان حالهم كحال المسلمين

قبل الهجرة.

وهنا مسائل يفتقر بيانها بأدلتها إلى بحث طويل لا محل له هنا ، وهذا الوقت

ليس بوقته.

وإنما أقول للسائل الفاضل - وهو من أهل العلم ومتدارسي الفقه -: إن

أحكام الخراج وما يتعلق بها أحكام اجتهادية لا تعبدية ، وإن جعل جماهير الفقهاء

اجتهاد الخليفة الثاني ومن بعده من الراشدين ، كنصوص الشارع في التزام العمل به

عند عدم المعارض، وعدوا المتفق عليه منها داخلاً في مسائل الإجماع الأصولي،

والذي نعتقده: أنها من أحكام المصالح العامة المفوضة إلى الأئمة وأولي الأمر من

المسلمين ، يقررون بالتشاور في كل زمان وحال ما فيه المصلحة.

وأما الزكاة فهي من العبادات الأساسية ، والنصوص القطعية فيها معلومة

وكذا الاجتهادية ، ومنها الخلاف في عشر غلات الأرض هل هي زكاة تعبدية أو من

قبيل الخراج؟ ، ومن فروع ذلك: هل يجب الوقوف فيها عند النصوص أم يدخل

فيها القياس؟ فليتذكر هذا على إطلاقه وإجماله ، وليجعله محل تذكر وتأمل وبحث

لا موضع مناقشة ومراجعة معنا.

***

(3)

حديث (استنزهوا من البول) إلخ

الحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: (استنزهوا من

البول فإن عامة عذاب القبر منه) ، والحاكم لم يروه بهذا اللفظ ، وإنما روى عن

أبي هريرة وابن عباس: (عامة عذاب القبر من البول) ، وأما الدارقطني فرواه

من حديث أنس بلفظ: (تنزهوا) إلخ ، ومعناه الأمر بالاحتراز والتوقي من البول

أن يصيب البدن أو الثوب ، والتطهر منه إذا أصابهما أو أحدهما: ومعنى أصل

المادة (ن ز هـ) البعد ، فالمراد أن يبتعد المسلم من نجاسة البول ويتقيها.

وأما حكمة كون عذاب القبر منه ومن النميمة كما في حديث الصحيحين في

الرجلين اللذين وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدة على قبورهما؛ فهو من

عالم الغيب الذي لا مجال للرأي فيه، ولم نقف على بيان له من الشارع.

***

(4)

جملة (وجودك ذنب) إلخ.

هذه الجملة لا نعلم أن أحدا رواها حديثًا ، وإنما المعروف أنها مصراع بيت

من الشعر من غير كلمة (آخر) فإن كنتم اطلعتم على كتاب ذكر به أنها حديث؛

فأخبرونا بنصه في ذلك.

_________

ص: 504

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌زكاة الفطر وقت وجوبها وحكم تعجيلها

(س16و17) من فكلغان جاوه.

إلى جناب السيد الأفخم محمد رشيد رضا أدام الله عزه ، وجعله ذخرًا للإسلام

والمسلمين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعد السلام التام وأفضل التحية والإكرام ، بما أنكم منار الإسلام وقبلته الذي

يرجع إليه المسلمون في جميع المشكلات العويصة؛ نتقدم إلى أيديكم البيضاء بهذه

المسألة ، ونرجوكم إفادتنا بالأدلة الواضحة؛ لأن هذه المسألة صارت موضع اختلاف

الناس في هذه الديار ولكم منا مزيد الشكر وعاطر التحية والثناء وهي:

(1)

متى يجب إخراج زكاة الفطر؟

(2)

وهل يجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين أم لا؟ وإذا قلتم: إنه لا

يجوز؛ فلماذا أجاز الباجري في شرحه ص (303) ، وهل هو معتمد على حديث

قوي أم لا؟ وإذا قلتم: إنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ فهل تسمى

صدقة أو زكاة؟ والسلام.

...

...

...

عبد الله بن أحمد باشراحيل

...

...

...

... دفكلنغان جاوه

(المنار)

أما الجواب عن السؤال الأول ، فجمهور الفقهاء المجتهدين وأتباعهم على أن

زكاة الفطر تجب بوقت الفطر من آخر يوم من رمضان ، ووقته غروب الشمس ،

واستدلوا على ذلك بتسميتها بزكاة الفطر في الأحاديث الصحيحة ، ونازع بعضهم في

هذا الاستدلال، وزعم بعضهم أن المراد بالفطر الفطرة أي الخلقة ويرده رواية (زكاة

الفطر في رمضان) .

وأما الجواب عن الثاني ، فهو أنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين عند

جمهور الأئمة المجتهدين ، وادعى بعضهم الإجماع عليه لضعف الشذوذ فيه،

والأصل فيه ما رواه البخاري في صحيحه من أنهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو

يومين.

وسبب ذلك أن الغرض من زكاة الفطرة إغناء الفقراء في يوم العيد عن

السؤال ، وهو يوم ضيافة الله لعباده المؤمنين.

وكانوا يعطون الفقراء الحَبَّ في الغالب كالبر والشعير ، فإذا أعطوه يوم العيد

ولو وقت الفضيلة عند الجمهور ، وهو ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد ، فربما لا

يتيسر لبعض الفقراء طحنه وخبزه والفطر منه.

وفي هذه الحالة تسمى زكاة كما تسمى صدقة ، باعتبار أن لفظ الصدقة يشمل

المفروض والمندوب ، وإنما ورد اختلاف التسمية في حال أدائها بعد صلاة العيد ،

ففي حديث ابن عباس قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر

للصائم طهرة من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة؛ فهي زكاة

مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات) . ورواه أبو داود وابن

ماجه والدارقطني والحاكم وصححه ووافقه الحافظ الذهبي بأنه على شرط

الصحيحين.

والجمهور على أن الأداء جائز في نهار العيد كله وهو خلاف هذا الحديث.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بزكاة الفطر قبل صلاة العيد ويقسمها

بعدها على المستحقين ، والاحتياط أن يؤديها الإنسان قبل العيد بيوم أو يومين ، كما

كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه الشهير بالحرص على اتباع السنة.

والخلاف في صحة هذا التعجيل لها أضعف من الخلاف في صحة أدائها بعد

صلاة العيد من حيث الدليل ، وجوز بعض الأئمة أداءها من أول رمضان وهو

ينافي حكمة فرضيتها.

_________

ص: 507

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حظر أخذ العلم الشرعي من الكتب بدون توقيف

(س18) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية.

حضرة الإمام العالم العامل الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا أمد الله في أجله ،

ونفع المسلمين بعلمه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد جاء في كتاب الإمام ابن حجر

الموسوم بالفتاوى الحديثية صحيفة نمرة 20 من طبع مطبعة الجمالية ما يأتي:

كل من أخذ العلم عن السطور كان ضالاًّ مضلاًّ؛ ولذا قال النووي رحمه الله:

من رأى المسألة في عشرة كتب مثلاً لا يجوز له الإفتاء بها؛ لاحتمال أن تلك

الكتب كلها ماشية على قول أو طريق ضعيف اهـ.

فما رأيكم في ذلك؟ وإذًا فما فائدة الكتب الدينية والمجلات العلمية؟ ألا يجب

بناء على ذلك أن نَدَعَهُمَا بطون المكاتب ، حتى يتيسر لنا أخذها عن صدر عالم ،

أو ما معنى هذا الكلام؟ أفيدونا ولكم من الله الجزاء ، والسلام عليكم ورحمة الله

وبركاته.

محمد عثمان

(ج) يعني الفقهاء أن علم الدين لا يوثق به إلا إذا أخذ بالتلقي عن أهله من

العلماء الراسخين، وأن الجاهل إذا احتاج إلى العلم بمسألة فبحث عنها في بعض

الكتب ، وإن تعددت فأخذ بما رآه مدونًا فيها؛ يكون ضالاًّ بأخذه بها في نفسه،

مضلاًّ في فتواه بها لغيره، إن لم يكن هو عالمًا يقدر أن يميز بين ما يراه في الكتب ،

فيعرف بالدليل صحيحه من غيره وحقه من باطله ، لاحتمال أن يكون ما رآه قولاً

ضعيفًا دليلاً أو مدلولاً.

وأنا قد اختبرت بنفسي أفرادًا من الناس تعرض لهم المسألة ، فيأخذون بعض

الكتب ويراجعون فيها عنها في مظانها؛ فيجدون شيئًا لا يفهمونه حق الفهم؛

فيعملون به ويفتون ويحتجون ويجادلون، وهم لا يفهمون ما يقولون وما يكتبون،

لضعفهم في العلوم التي يتوقف عليها فهم المسألة من عربية وشرعية، وقد انتقد

بعضهم علينا بعض ما نشرناه في المنار ، فنشرناه لهم على عادتنا وبينا لهم أنهم لم

يفهموا النقول التي استدلوا بها على آرائهم كلها أو بعضها.

ومنهم من ذكرنا في الرد عليهم بعض قواعد الأصول ، فطعنوا في علم

الأصول نفسه ، واحتجوا على طعنهم بأنه مبتدع ما أنزله الله تعالى ومثله النحو

والمعاني والبيان في ذلك ، فتأمل وتدبر.

هذا سبب ما كتبه الفقهاء ، وهو لا ينافي الانتفاع بكثير من الكتب السهلة

العبارة والمجلات وغيرها ومراجعة أهل العلم فيما يخفى على القارئ منها.

_________

ص: 509

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الصريح والكناية في الطلاق

وكتاب الرجل بطلاق امرأته

(س19و20) من صاحب الإمضاء في سمبس برنيو (جاوه) وهو من

قضاة الشرع فيها.

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة مولاي الأستاذ العلامة المصلح السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار

الإسلامي نفعني الله والمسلمين بوجوده.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني أرجو من فضلكم أن تفيدوني

بالجواب عن الأسئلة الآتية وهي:

(1)

هل ورد في الكتاب أو السنة نص في تقسيم ألفاظ الطلاق إلى ما هو

صريح وكناية فالأول لا يحتاج إلى، النية والثاني يحتاج إليها، أم هو من الأمور

الاجتهادية؟

(2)

ما قولكم في رجل كاتب معروف الخط أو الإمضاء كتب إلى زوجته

أو إلى غيرها من أحد أقاربها يبين فيه أن طلقها بلفظ صريح كأن قال فيه: -

(طلقت زوجتي ثلاثة) وقدمت الزوجة الكتاب إلى قاضي بلدها ليثبت

الطلاق ويمكن لها أن تنكح زوجا غيره فهل يجوز للقاضي أن يعمل بمضمون ذلك

الكتاب أو يجب عليه أن يسأل صاحبه الذي هو الزوج عن الطلاق الذي هو فيه - هل

نواه أم لا؟ وهل تلفظ به بعد كنايته أم لا؟ أو حال الكتابة.

لو قال قائل يجيب عن هذه الأسئلة كما قال في شرح الروض: كتب الطلاق

ولو صريحًا كناية ولو من الأخرس فإن نوى به الطلاق وقع وإلا فلا.ا. هـ

لقلت له سائلاً: أليست الكتابة تدل على القصد والإرادة فهي كاللفظ، ولم لا

تعبر في الطلاق كاللفظ ولا يقع بها الطلاق إلا مع النية؟ على أننا لو نظرنا

صحيحا إلى الكتابة لقلنا إنها أثبت من اللفظ فإنه يسهل على اللافظ إنكار لفظه ما لا

يسهل على الكاتب إنكار كتابته فإنها باقية مخطوطة مقروءة فهل يتسامح في دين

الله تعالى لمن كتب إلى زوجته كتاب الطلاق الصريح أن يقول: إنني كتبته بلا نية

ولا قصد بل كتبته لأجل تمرين الكتابة فيقبل قوله بيمينه؟ أليس هذا تلاعبا بالدين؟

هذا والمرجو أن تبينوا لي ولقراء المنار وغيرهم أحكام الكتابة التي تتعلق

بالأمور الدينية كالطلاق والوصية والهبة والشهادة وهي كشاهد كتب شهادته إلى

الحاكم فهل يجوز له أن يعمل بكتاب شهادته بغير حضوره مجلس الحكم أم لا؟

وأسأل الله تعالى أن يجزيكم جزاء حسنا وفاقا.

...

...

...

... محمد بسيوني عمران

سمبس في 13 جمادى الآخرة 1345

(ج) أما الجواب عن الأول فهو أن تقسيم الطلاق إلى صريح وكناية من

اصطلاح الفقهاء لا مما ثبت في نصوص الكتاب والسنة فهو يتعلق بمفهومات لغات

المطلقين.

وأما الجواب عن الثاني فهو أن الكتابة كالنطق في مفهوم الكلام كما هو بديهي،

فإذا ثبت عند القاضي أن الخط خط الزوج المطلق حكم به. وقد قصر الفقهاء في

أحكام الخط على ما كان من عناية كتاب الله تعالى بها وسننشر إن شاء الله تعالى

فصلاً طويلاً في المسألة إجابة لاقتراحكم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 510

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الطلاق الثلاث باللفظ الواحد

(س21) من صاحب الإمضاء في (بوسعيد)

نسألكم سيدي في رجل طلق زوجته ثلاثًا دفعة واحدة ، يقع ثلاثًا أو واحدة؟

وهذا الأمر وقع عندنا ، وأفتانا شخص بأن الطلاق يقع واحدة ، ونسب الفتوى لشيخ

الإسلام ابن تيمية ، ولم يرنا الفتوى ، وهو من أهل الطريقة لم أثق بكلامه؛ لأن

أهل الطرائق إلى دين النصرانية أقرب ، لمحبتهم أن يعظموا إلى الحد الذي لا

ترخص الشريعة الإسلامية به حسب علمكم بهم سيدي، والآن مرادنا الإفادة منكم إن

كان هذا حقًّا؛ فالحق أحق أن يتبع.

...

...

... من تلميذكم راجي عفو المنان

...

...

سليمان بن علي بن سليمان البوسعيدي

(ج) أصل المسألة خلافية ، فجمهور العلماء على أن من طلق زوجه ثلاثًا

بلفظ واحد؛ يقع عليه ثلاث طلقات ، ولا تحل له بعد ذلك إلا إذا تزوجت بعد

انقضاء عدتها زوجًا آخر ودخل بها وواقعها ثم مات عنها أو طلقها، وذهب آخرون

إلى أنه لا يقع عليه في هذه الحالة إلا طلقة واحدة.

وقد كان شيخ الإسلام يفتي بوقوع الواحدة ، وكذلك تلميذه العلامة ابن القيم ،

وهذا الذي نعتقده ونختاره كما بيناه في تفسير الآية من سورة البقرة.

وقد وضع بعض العلماء بمصر عدة مسائل بصفة مواد قانونية للعمل بها في

المحاكم الشرعية ، منها الحكم في الطلاق الثلاث باللفظ الواحد بطلقة واحدة رجعية ،

فاعترض عليه جمهور علماء الأزهر ، وأقره بعضهم ودافع عنه.

وقد ذكرتم أن علة عدم ثقتكم بالمخبر لكم بفتوى شيخ الإسلام من مشايخ

الطريق بأنهم إلى دين النصرانية أقرب لحبهم الغلو في التعظيم إلخ ، وهذا خطأ

منكر بهذا الإطلاق والتعميم ، فأهل الطرائق ليسوا أشد حبًّا للتعظيم من غيرهم من

طبقات وجهاء الناس كالحكام والعلماء والأغنياء.

نعم إن هذه الطرائق مشتملة على بدع كثيرة محرمة ، وبعضها لا يخلو من

الشرك الصريح ، ولكن أتباعها متفاوتون في اتباع هذه البدع ، فمن مقل ومكثر،

ومنهم من يتقي الكذب ، ولا سيما في الشرع كما يجب فإطلاقكم خطأ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 512

الكاتب: عبد السميع البطل

‌كيف تنهض اللغة العربية

(2)

(تتمة ما جاء في الجزء الماضي)

فقه اللغة ومتنها:

يضطر التلميذ كثيرًا إلى تصوير بعض الأشياء أو وضعها أو معرفة مرادفها

أو ضدها؛ فيتعاصى عليه ذلك، ولا يجد في خزانة فكره ما ينفق منه، وهنا يظهر

عجزه عن إبراز ما في نفسه، فيطوي صحيفته، ويكسر قلمه، ويتنفس الصعداء،

أو يركب متن التعسف والركة، ويؤدي مراده على أية صورة تهيأت له ، فلا يكاد

يبين.

ولو درس فقه اللغة؛ لتدفقت عليه الألفاظ تدفقًا، ولوجد من ثوبها الفضفاض

خير حلة يجمل بها فكره، ويجلي ما في نفسه.

ومع أهمية هذا العلم لا تسمع به في مدارسنا ولا تحس له وجودًا، وحسبك

ذلك في جهل التلامذة وفقرهم المدقع في اللغة.

وأما متن اللغة؛ فيكفي فيه ما يحفظه الطلبة في تضاعيف الكتب التي

يدرسونها ، والقطع التي يحفظونها مع الضبط ومعرفة المعنى الصحيح واشتقاقه،

ولكي تكون الفائدة محققة؛ يحسن تجريد الألفاظ من الكتب وتدوينها في كراسات

الطلبة لسهولة حفظها والرجوع إليها عند الحاجة.

وهنا أنبه إلى شيء مهم جدًّا يجدر بالمعلم الالتفات إليه، وهو تعويد التلامذة

مراجعة الكلمات ، والكشف عليها في معاجم اللغة، فإن جلهم إن لم يكن كلهم يجهل

ذلك.

وأقول - والأسف شديد -: إن معاجمنا أصبحت بحاجة إلى تهذيب كبير،

ولم تعد أداة صالحة مع بقائها على ما هي عليه بل أقول: إننا في أشد الحاجة إلى

معجم عصري (وأريد أوسع معنى لكلمة عصري) .

ولعل جماعة المؤتمر تفترض الوقت لبحث هذا الموضوع ، وترغيب حكومة

مصر في العمل لذلك بالمساعدة والتنشيط ، فهي أحرى الحكومات بذلك لوجوه كثيرة

لا محل لبسطها الآن.

***

المطالعة

هي إحدى الأركان الثلاثة المهمة في تكوين اللغة ، أعني الإنشاء والمحفوظات

والمطالعة، ويجب الإكثار منها مع الفهم والتطبيق، وإنما تفيد المطالعة حيث تكون

كتبها منتقاة من أعلى الكلام وأبلغه ككلام الله ورسوله ، وما دونهما من كلام

الفصحاء في الجاهلية والإسلام، ولا أرى لذلك كتبًا تصلح من كل الوجوه، فينبغي

وضع كتب لذلك يراعى فيها الشروط السابقة، وملاءمتها لحال الطلبة وأسنانهم.

***

الإنشاء

يكتب الطلبة ما يستطيعون كتابته في الموضوعات المختلفة، وتصحح كتابتهم

بدقة وعناية، ويقفون على أخطائهم اللفظية والمعنوية والأسلوبية والتعابير العامية

والمبتذلة والدخيلة، ويرشدون إلى مواضع الصواب فيها؟ ، ويحسن بالأستاذ أن

يقرئ بعض الطلبة موضوعاتهم ليوازن بين جدها ورديئها، ويشجع المجد بإظهار

استحسانه، لتدب روح الغيرة في نفس المقصر؛ فيجتهد في اللحاق به، كما يحسن

أن يقرأ التلميذ موضوعه غير مصحح؛ ليصلحه بإرشاده.

ولا بأس أن يتخولهم بدرس عناصر الموضوع قبل الكتابة فيه بطريقة

المحاورة والاستنباط.

***

المحفوظات

هي الركن الضخم في تكوين ملكة اللغة والبلاغة، وما نبغ خطيب أو شاعر،

أو كاتب إلا بعد أن كان له من محفوظه مدد لا ينفد، وهؤلاء شعراء الجاهلية

والإسلام قضوا عهد الثقافة والمرانة رواة ناقلين، قبل أن يكونوا شعراء مبرزين ،

وما قلناه في المطالعة من حيث الاختيار والفهم والتطبيق نقوله هنا، وأنفع المختار

للحفظ وأولاه بالتقديم كلام الله ورسوله ، فينبغي الإكثار منهما.

***

العروض والقوافي

لا أقول: إن درس هذا العلم يتوقف عليه قرض الشعر ، فكثير من الشعراء

المفلقين يجهلونه جهلاً تامًّا، وأكثر الذين يعرفونه يتعاصى عليهم معالجة النظم؛ لأن

قرض الشعر ملكة تقوى بالعكوف على دواوين الشعراء وحفظ الكثير المتخير منها

وفهمه، ثم تقليده ومعارضته، وتلك طريقة المتقدمين والمتأخرين ، وحسبك

بالبارودي رحمه الله مجدد الشعر في العصر الحديث ، فقد كان فحلاً من فحول

الشعراء دون أن يتعلم اصطلاحات العروض والقوافي ، بله النحو والصرف

والبلاغة.

نعم إن هذا العلم يفيد من لم يكن شاعرًا بطبعه أن يقرأ ما يقرأ من الشعر

صحيحًا سليمًا من الاضطراب، فيسهل عليه فهمه، ولا يعزب عنه مراد الشاعر،

وقد يكون منشطًا له إلى معالجته ، ثم التبريز فيه.

لذلك يحسن وضع مختصر فيه؛ ليدرس على الطريقة التي رسمناها في

القواعد كأن يقرأ الأستاذ البيت أمام الطلبة، ثم يبين لهم وزنه، ويسنده إلى بحره،

ويرشدهم إلى ما فيه من زحاف أو علل، ويساعدهم بمعرفة الأسباب والأوتاد على

طريقة الوزن، ثم يأتي بآخر من نوعه ويطالبهم بوزنه ، وهلم جرًّا ، حتى يثبت

ذلك في أذهانهم.

ولا بأس أن يطرح أمامهم بيتًا من الأبيات ، ويطالبهم بمعارضته، أو يضع

معنى من المعاني ، ثم يطالبهم بالنظم فيه، فإن في ذلك تنشيطًا لأفهامهم، وشحذًا

لقرائحهم، ومعينًا على قرض الشعر لمن عنده استعداد لقرضه.

***

الكلمة الأخيرة

هذه فكرتي في تعليم اللغة ، أقدمها لجماعة العلماء المحتفلين بتكريم أمير

الشعراء ، وكلهم إمام في اللغة غيور عليها، وفيهم كبار رجال التعليم في وزارة

معارفنا المصرية، وهم الذين يسند إليهم وضع نظم التعليم ومراقبة سيره في

المدارس ، ووضع التقارير الضافية له، بل هم أجدر الناس بلمس عيوب التعليم

وتلافي ضررها، وقد أصبحوا الآن والحمد لله أحرارًا لا تسيطر عليهم رقابة أجنبية،

ولا تغل أيديهم عن العمل قوة دنلوبية.

ولعل هذه الكلمة الهادئة المتواضعة تتقبل بقبول حسن، فتكون نواة لأبحاث

مستفيضة في هذا الباب، بل جذوة لإضرام ثورة أدبية تأتي على الأخضر واليابس

من نظم التعليم العتيقة الرثة.

والله يوفق من شاء لخير الأشياء ، والسلام عليكم ورحمة الله.

...

...

...

... عبد السميع البطل

...

...

...

مدرس الأدب بالمدارس الثانوية

_________

ص: 513

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد

الرد على رسالة العالم الشيعي

للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي

وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا

(3)

(المقام الحادي عشر) قولكم: ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي (لا

تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا) ، فإنه نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه المصلي ،

ولا يستقبل القبلة ، ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه ، فإن الله لعن اليهود

حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قلتم: ومن المعلوم أنه ليس لليهود مساجد

بالمعنى المعروف عند المسلمين ، فالمقصود إذًا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

مواضع يسجدون عليها [1]

أقول: لا شك أن الحديث دال على ما ذكرتم ، وهو النهي عن التوجه إلى

القبر والسجود عليه ، ولكن معناه غير منحصر فيما ذكرتم؛ لأن من تحرى السجود

عند قبر النبي أو الصالح ، فإنما يفعل ذلك تبركًا وتعظيمًا ، وذلك هو المعنى الذي

وقع النهي لأجله؛ لأنه ذريعة للشرك، فالسجود على القبر وعنده سواء ما دام

المعنى المحذور موجودًا، وهنالك قرائن كثيرة لفظية ومعنوية تدل على ما ذكرت ،

فإن أبيتم إلا الوقوف مع ظاهر اللفظ ، ففي غيره من الأحاديث التي تدل على تحريم

تحري السجود عند قبور الصالحين كفاية ، وقد تقدم ما فيه الغنية منها ، وربما يأتي

زيادة على ذلك.

(وقولكم) : (من المعلوم أنه ليس لليهود مساجد بالمعنى المعروف عند

المسلمين) [2] إن أردتم أن المتقدمين والمتأخرين منهم في مشارق الأرض ومغاربها

ليس لهم معابد عند قبور أنبيائهم؛ فذلك ممنوع ، والعلم به مستحيل ، وعدم العلم

بالشيء ليس علمًا بعدمه.

وكيف ينفَى عن اليهود ذلك ، وقد أخبر به الصادق المصدوق ، وذكرت له أم

سلمة كنيسة رأتها في أرض الحبشة وذكرت له ما رأت فيها من الصور ، فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل

الصالح؛ بنوا على قبره مسجدًا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق

عند الله) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فسمى النبي صلى الله عليه وسلم

الكنيسة مسجدًا؛ لأنها بمعناه ، لأن المسجد محل عبادة الله من ذكر وصلاة ودعاء ،

وكذلك الكنيسة عند النصارى.

وروى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(ألا ، وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا

تتخذوا القبور مساجد) ، والمراد بالحديثين واحد ، وهو النهي عن الصلاة عند القبر

وجعله محلاًّ للعبادة ، وبناء المسجد عليه.

وخص قبور الأنبياء والصالحين بالذكر؛ لأن الفتنة إنما وقعت للأولين

والآخرين بها.

واتخاذ قبور الصالحين محالَّ للعبادة هو أعظم باب للإشراك بالله ، وما قرت

عين إبليس بفتح باب مثله - نسأل الله تعالى العافية - ويظهر من حديث عائشة أن

الكنيسة التي ذكرتها أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على قبر صالح تبركًا

به ، وصوروا فيه الصور؛ لأن الصور التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم

في قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) هي التي رأتها أم سلمة، وهي كانت في

كنيسة ، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم مسجدًا، والكنيسة لا يمكن أن تكون

مبنية فوق القبر فقط ، فلا بد أنها كانت حوله أو بقربه ، وذكر النبي صلى الله عليه

وسلم أن من بنوها شرار الخلق ، ونهانا عن ذلك في حديث جندب وغيره ، فوضح

أن المعنى المقصود بأحاديث الباب كلها هو النهي عن تحري العبادة عند قبور

الصالحين والسجود على القبور نفسها ، وإن كان اللفظ شاملاً له.

وقد فهم البخاري ، وهو من أدق الناس فهمًا وأورعهم وأبعدهم من تحريف

النصوص ، ومن التعصب للمذاهب أن من ضربت قبة على قبر زوجها استمتاعًا

بقربه وتعليلاً للنفس وتخيلاً باستصحاب المألوف من الأنس، ومكابرة للحس،

يشملها نص اتخاذ القبور مساجد؛ لأنها لا بد أن تصلي مدة إقامتها في تلك الخيمة ،

وكانت سنة مع أنها لم تضرب عليه القبة لأجل الصلاة عنده ، والتبرك به؛ لأن

هذه البدعة لم تكن موجودة في ذلك الزمان ، وإنما قصدت الاستئناس بقربه ، وكانت

قبتها من شعر أو نحوه لا من مدر، فسمعت هاتفًا فهمت من كلامه أن فعلها مكروه

عند الله، ولما كان كلام ذلك الهاتف مطابقًا للدليل؛ أورده البخاري في الباب ، ولم

يورده على أنه دليل يحتج به؛ لأن الأحكام لا تثبت بمثله ، فكيف بمن يبني قبة من

مدر مزخرفة على القبر يقصدها الناس من كل صوب للدعاء والصلاة عندها ،

وذلك هو معنى بناء المساجد عليها واتخاذها أعيادًا ، وقد نهى النبي صلى الله عليه

وسلم عن ذلك أشد النهي ، ولعن فاعله ، وأخبر أنه من شرار الخلق عند الله؟

وشرار الخلق عند الله هم الكفار ، وذلك يقتضي كفر من يتخذون القبور مساجد ،

ويؤيده ما رواه أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام من حديث كسر الأوثان وتسوية

القبور ولطخ الصور فإنه قال في آخره: يا رسول الله لم أدع بها وثنًا إلا كسرته ،

ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(من عاد إلى صنيعة شيء من هذا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) .ا. هـ

وهو صريح في أن من بنى بناء على قبر؛ كفر بذلك ، ولا إشكال فيه؛ لأنه

لا يبني على القبر إلا من غلا في صاحبه ، وذلك باب الشرك كما تقدم ، والحديث

يدل على أنهم كانوا يجعلون التماثيل في القبور ، ويبنونها تعظيمًا لأهلها؛ فخاف

النبي صلى الله عليه وسلم على أمته الشرك؛ فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد ، ولو

كان السجود فيها لله وحده لأنها مظنة الشرك وبابه ، لأن المصلي عند القبور يخشع

في صلاته لأهلها ، ويكون قلبه مع الله تارة ومع أصحاب القبور أخرى ، ولا يزال

الغلو يزداد في الجهلة ، ويستدرجهم الشيطان حتى ينسوا الله ، ويخلصوا التوجه

لصاحب القبر، وهذا أمر واقع معلوم يقينًا عند كل من خالط القبوريين، ومن كان

مبتلى بعبادة القبور ، ثم تاب منها يقر على نفسه بذلك ، فلا معنى لتجاهله وهو

وشمس الضحى صحوًا سواء.

وما أكثر ذلك في هؤلاء الذين ينتسبون إلى السنة ، وهم من أبعد الناس عنها

وأشدهم عداوة لها.

اللهم إلا أن تكون سنة الشيطان الليطان، استذلهم وأغواهم، وأضلهم

وأرداهم، فنعوذ بالله من حال أهل النار.

(المقام الثاني عشر) نقلتم عن فتح الباري أنه قال عند لفظ: (لأبرز قبره)

أي لكشف عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتخذ عليه الحائل [3] ،

واقتصرتم على هذا الكلام من شرح الحديث ، وحذفتم قوله بعده: والمراد الدفن

خارج بيته، وهذا الكلام قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي ، ولهذا لما وسع

المسجد؛ جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة

القبر انتهى كلامه ، وحذفكم لبقية كلامه أخل بالمعنى وأبهمه ، لأن من رأى ما نقلتم ،

ولم يطلع على بقية كلامه يظن أن الحائل المذكور هو الذي جعل على القبر بعد

إدخاله في المسجد ، فيكون المعنى: ولولا ذلك أي خشية اتخاذ الناس قبر النبي

مسجدًا؛ لأبرز قبره ، أي كشف ولم يتخذ عليه حائل بعدما دخل في المسجد ، وليس

كذلك ، بل مراد الحافظ ولولا ذلك لأبرز قبره - أي - كشف عنه بأن يدفن خارج

البيت ولا يتخذ عليه حائل ، وهو الحجرة التي كانت تسكنها عائشة ، هذا معنى

كلامه ولعل لكم عذرًا في حذف ما حذفتم لم نطلع عليه.

(المقام الثالث عشر) قولكم بعد نقل كلام الحافظ: فهل يوجد أصرح من

ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس القبر لا يجوز. [4]

أقول: إنما يستقيم ما أردتموه لو كان الحائل المذكور في كلام الحافظ هو

الجدران الثلاثة المتخذة على القبر بعد إدخال الحجرة في المسجد ، كما أوهمه

إسقاطكم ذيل كلام الفتح ، أما وقد تبين أن المراد بالحائل إنما هو حجرة عائشة ،

فالمخشي منه أولاً هو السجود عند القبر تبركًا وتعظيمًا ، والسجود على القبر نفسه

تابع له ، ولذلك دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة مسكونة ، فكان قبره

محجوبًا عن الناس لا يسهل الوصول إليه ، ولا سيما للعامة الذين يخشى عليهم أن

يصلوا عند القبر ويفتنوا به لجهلهم ، فحصر المعنى في السجود على القبر نفسه

دون ما حوله لا تدل عليه أحاديث الباب ، ولا كلام الحافظ ، وسأنقل من كلام

الحافظ ما لا يبقى معه شك في أن صاحب الفتح فهم من أحاديث الباب النهي عن

الصلاة عند القبر كما فهمه سائر الأئمة ، لكن بعض المتأخرين التبس عليهم الأمر؛

لأنهم نشئوا في أوطان غلبت البدع على أهلها حتى ألفوها وصارت دينًا يدان به لما

ماتت السنن وعفت معالمها.

ومن أولئك البيضاوي فإنه لم يفهم معنى الحديث؛ فتناقض في كلامه أقبح

تناقض، إذا جوز بناء المسجد عند قبر الصالح تبركًا به إذا أمن التعظيم ، أولا

يدري أن التبرك هو العظيم أو هو ملازم له؟ فلا يبني أحد قبة أو مسجدًا على قبر

للتبرك به إلا وقصده تعظيم صاحب القبر.

والشارع صلى الله عليه وسلم سد هذا الباب البتة؛ فنهى أشد النهي عن

الصلاة عند القبور واتخاذ المساجد عندها ، ولعن فاعل ذلك ، وأخبر أنه من شرار

الخلق عند الله ، ولم يفرق في ذلك بين من قصد التعظيم لأهل القبور أو التبرك بهم ،

فكيف يسوغ للبيضاوي أو غيره أن يفتح هذا الباب الجهنمي الذي سده النبي صلى

الله عليه وسلم بالتأويل والتحريف؟ فعسى أن يكون قد التبس عليه الأمر،

قال الحافظ في الفتح عند قول البخاري: (باب هل تنبش قبور مشركي

الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود

اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وما يكره من الصلاة في القبور) قوله: وما يكره

من الصلاة في القبور ، يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو بين القبرين.

وقال الحافظ أيضًا في آخر شرحه حديث عائشة في الباب المذكور: وفيه

كراهية الصلاة سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه.

وقال: (في ص141 ج1 بعد ما تقدم بقليل: قوله - أي البخاري -: باب

كراهية الصلاة في المقابر ، استنبط من قوله - يعني النبي صلى الله عليه وسلم:

(ولا تتخذوها - أي بيوتكم - قبورًا) أن القبور ليست بمحل للعبادة؛ فتكون

الصلاة فيها مكروهة ، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والترمذي

مرفوعًا (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) .

وقد اتضح مما نقلته من كلام صاحب الفتح أنه لا يفهم من كلامه أن النهي

خاص بالسجود فوق القبر فقط كما ذكرتم قائلين: إنه لا يوجد أصرح من كلامه في

رده.

(المقام الرابع عشر) قولكم: وتوجد أيضًا معان ثلاثة غير المعنى الذي

قررناه، إلا أنه لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها أحدها: أن يراد النهي عن

وصل المساجد بموضع القبور، وهذا التأول خطأ فاحش؛ لأن مسجد النبي صلى

الله عليه وسلم قد وصل بموضع قبره في زمن الصحابة والتابعين ، فكيف يدعي أن

ذلك منهي عنه ، وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين؟ [5] .

(أقول) : قولكم: لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها ، ممنوع لما تقدم وما

يأتي إن شاء الله.

قولكم: أحدها أن يراد النهي عن وصل المساجد ، إلى قولكم: وهذا التأول

خطأ فاحش (أقول) : من نظر في أحاديث الباب متجردًا من العصبية وله أدنى

نصيب من معرفة لغة العرب؛ يعلم يقينًا أن الأحاديث ناطقة ومصرحة أتم تصريح

بالنهي عن وصل المساجد بالقبور ، والنصوص في ذلك واضحة كشمس الضحى لا

تحتاج إلى تفسير ولا تأويل، تفسيرها قراءتها عند من يعرف لغة العرب، وليس

له في العصبية من أرب ، ولم لا يمكن تفسير الأحاديث بذلك؟ ، ولم صار تأولاً

وهو نص جلي؟ ولم صار خطأ فاحشًا؟ ، قلتم: لأنه فعل في زمن الصحابة

والتابعين ورضوا به هم وسائر المسلمين في تعبيركم بموضع القبور وموضع قبر

النبي صلى الله عليه وسلم احتراس واعتراف بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

لم يوصل بالقبر نفسه بل بالحجرة وعبرتم عنها بالموضع وليس سواء ، وإن كان

النهي يشملها، فإن وصل المسجد بالقبر نفسه أكثر فتنة من وصله بحجرة فيها قبر.

وقولكم: (وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين) دون إثباته

خرط القتاد، ونحن نطالبكم أن تنقلوا لنا ذلك بأسانيد تفيد العلم، كما هي شريطة

نقل الإجماع عند علماء الأصول، فيلزمكم أن تثبتوا ما ادعيتم ، فالدليل على الناقل

والبينة على المدعي ، وليس علينا أن نأتي بما يبطل هذه الدعوى؛ لأنها لم تثبت

بعد ، ولكن نتبرع بذلك فنقول:

مما يدل على أن أهل العلم والفضل من الصحابة والتابعين لم يرضوا بذلك ما

قاله السمهودي في كتابه خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (ص137 ط مصر) :

وللواقدي عن عطاء الخراساني: أدركت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم

فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يأمر بإدخالها، فما رأيت يومًا كان أكثر باكيًا

من ذلك اليوم، قال عطاء، فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم

تركوها على حالها اهـ.

ثم قال السمهودي في الصفحة نفسها: وقال ابن زبالة حدثني محمد بن

عبد العزيز عن بعض أهل العلم قال: قدم الوليد بن عبد الملك حاجًّا ، فبينا هو

يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حانت منه التفاتة فإذا

بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في بيت فاطمة بيده مرآة

ينظر فيها ، فلما نزل أرسل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: لا أرى هذا قد بقي بعد،

اشتر هذه المواضع وأدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المسجد واسدده وفي

خبر ليحيى أنه لما نزل من خطبته أمر بهدم بيت فاطمة وأن حسن بن حسن

وفاطمة بنت الحسين أبوا أن يخرجوا، فأمر بهدمه عليهم وهما فيه وولدهما ، فنزع

أساس البيت وهم فيه ، فلما نزع قالوا لهم: إن لم تخرجوا منه؛ قوضناه عليكم ،

فخرجوا منه. اهـ ثم ذكر نحوه عن ابن زبالة أيضًا ، ثم ذكر أن الحجاج اغتصب

بيت حفصة من عبد الله بن عمر ، فأبى أن يسلمه فهدده بالهدم ، فقال: والله لا

تهدمه إلا على ظهري ، فأمر بهدمه فجاءت بنو عدي عبد الله فقالوا: ما أضعفك! هو

يتأسف على قتل أبيك وينزع عن قتلك؟ فأخرجوه فهدمه الحجاج.

ثم قال السمهودي في الكتاب المذكور في ص144: وعن عروة قال نازلت

عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يجعل في المسجد أشد

المنازلة ، فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه قال: فقلت: فإن أبيت

فاجعل له جؤجؤًا أي وهو الموضع المزور شبه المثلث خلف الحجرة اهـ.

أقول: أفتكون أعمال أولئك الظلمة الغصبة حجة على حديث رسول الله صلى

الله عليه وسلم الصريح في النهي عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها

والقباب تعظيمًا لها وغلوًّا؟ وإن لم يصرح في الحديث بالنهي عن بناء القباب ،

فقد ورد النهي عن البناء على القبور مطلقًا غير مقيد بالمساجد ولا غيرها فالقباب

داخلة فيه ، والأحاديث الناهية عن بناء المساجد على القبور تدل بفحواها على

تحريم بناء القباب ، وإذا منعنا من بناء المساجد هناك وهي بيوت الله ومحال عبادته ،

فالقباب من باب أولى لأنها لا فائدة منها ، بل فيها أعظم الضرر لأنها ذريعة إلى

الذنب الأكبر الذي لا يغفره الله وهو الشرك ، وقد ظهر من الأخبار السابقة أن الذي

أدخل القبر في المسجد ليس من خيار الصحابة ولا التابعين ، وإنما هو من الجبابرة ،

ولم يرض بذلك أبناء المهاجرين والأنصار ومن بقي من الصحابة كعبد الله بن

عمر ، بل بكوا أشد البكاء، وتأمل إنكار عروة عَلَى عمر بن عبد العزيز إدخال

القبر المسجد وجوابه.

وفي الكتاب المذكور ما يدل على أن الوليد إنما بنى المسجد لأغراض فاسدة ،

وحسبك دليلاً على جهله بآداب الدين أنه زخرف المسجد فبناه بالفسيفساء ، وقد صح

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زخرفة المساجد، وفي الحديث (لتزخرفنها

كما زخرفتها اليهود) فمن زخرف المساجد؛ فقد تشبه باليهود وكذا من اتخذ

المساجد والقباب على قبور الأنبياء والصالحين.

ونقل السمهودي أن الوليد لما أتم بناء المسجد بالرخام والذهب والفسيفساء

وأنواع الزينة والنقوش التفت إلى أبان بن عثمان فقال: أين بناؤنا من بنائكم؟

قال أبان: بَنَيْنَاهُ بناء المساجد ، وبنيتموه بناء الكنائس اهـ بعضه بالمعنى.

ثم إنه لو لم يكن مدخل القبور في المسجد النبوي غير صالح للاقتداء به ،

لكنه غير معصوم ، ولو لم ينقل لنا غصبه بيوت الناس ومباهاته بزخرفة المساجد

وإنكار الناس عليه وبكاؤهم على إدخاله الحجرات النبوية في المسجد؛ ما كان ذلك

حجة يعارض بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدم العلم بإنكارهم

ليس علمًا بعدمه ، وكم أشياء ينكرها الصالحون بقلوبهم ولا يستطيعون إنكارها

بألسنتهم ، أو ينكرونها بألسنتهم همسًا عند خاصتهم بعد ما يأخذون عليهم العهد أن لا

يبوحوا بذلك ، وليس هذا مما تتوفر الدواعي على نقله كأفعال رسول الله صلى الله

عليه وسلم ، وأقول: بل هذا بالعكس ، فالدواعي على كتمانه وافرة لأن في

التصريح به إتلاف الأعراض والأموال والأرواح ، فلا يتأتى لأحد أن يقول فعل

ولم ينكر فكان إجماعًا وقد عصم الله أمة محمد الذين جعلهم وسطًا أن يجمعوا على

إباحة ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله ، وأخبر أنه من شرار

الخلق.

(المقام الخامس عشر) قول السيد مهدي:

(ثانيها) أن يراد النهي عن أن يقوم المصلي حول القبر ، ويسجد على

الأرض قريبًا من القبر ، وهذا التأول خطأ لا يصلح حمل الأحاديث عليه لأنه لا

ريب في أن البقعة المتضمنة لقبر نبي أو إمام عادل أو ولي لله تعالى أو غيره ممن

له عند الله منزلة جليلة وجاه عظيم ، تكون أشرف وأفضل من غيرها بنسبة شرف

المدفون فيها ، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم في باب فضل الصلاة بمكة

والمدينة قال القاضي عياض: أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض.

اهـ[6]

قوله: وهذا التأول خطأ لا يصح حمل الأحاديث عليه ، (أقول) : هذا

المعنى قد دلت عليه الأحاديث أوضح دلالة ، فكيف يسمى تأولاً.

قوله: لأنه لا ريب إلخ ، غير مُسَلَّم لأن فضل الحالّ لا يستلزم فضل

المحل [7]، قال البخاري في باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب: ويذكر أن

عليًّا كره الصلاة بخسف بابل قال الحافظ ابن حجر هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة

من طريق عبد الله بن أبي المحلى قال: كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي

ببابل، فلم يصَلِّ حتى أجازه. ومن طريق أخرى عن علي قال: نهاني حبيبي

صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة. في إسناده ضعف اهـ

بخاري، ثم أسند البخاري حديث عبد الله بن عمر مرفوعا (لا تدخلوا على هؤلاء

المعذبين، إلا أن تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم) زاد في

المغازي: ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي ، وروى البخاري في

كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا

منها الحديث، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم بأرض ثمود وهي أرض عذاب من

شرار البقاع ولا تزال كذلك، ولم يلزم فضلها بنزول أفضل الخلق فيها وأفضل

الناس بعده أصحابه ، ولم يقل أحد فيما علمت أنه يستحب السفر إلى الموضع

الذي نزل به النبي بالحجر أو يبنى عليه قبة ويصلى فيه ، بل نهى عن الصلاة في

أرض العذاب كما تقدم في حديث علي وعن الشرب والاستقاء من مائها ، وقد مر

علي وهو من أفضل خلق الله بعد النبيين بأرض بابل وهي أرض خسف

وعذاب ، فلم تصر بمروره أرض رحمة؛ بل نهى عن الصلاة فيها ولا يستحب أن

تبنى فيها قبة ولا أن يصلى فيها.

وقوله: أو ولي لله أو غيره ممن له منزلة جليلة وجاه عظيم [8] فيه أن غير

ولي الله هو عدو الله ولا منزلة له ولا جاه لأن من كان مؤمنًا ، ففيه ولاية لله ولا بد

لقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا

يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ

الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى

الظُّلُمَاتِ} (البقرة: 257) الآية ، فلا واسطة بين الولاية والعداوة.

قوله: قال القاضي عياض أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه

وسلم أفضل بقاع الأرض [9] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول من

الفتاوى (ص292) أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله أكرم عليه منه ،

وأما نفس التراب - يعني القبر - فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام ، بل

الكعبة أفضل منه ، ولا نعرف أحدًا من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا

القاضي عياض ، ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد عليه اهـ فقول عياض لا يصح

لأنه دعوى بلا دليل.

(المقام السادس عشر) قوله ولا ريب أن الصلاة ومثلها الدعاء وقراءة

القرآن وسائر الأذكار والأعمال الشرعية في الأماكن الشريفة تكون أقرب إلى قبولها

عند الله، ولهذا صارت الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره، ولأجل

الحصول على هذا الفضل كان السلف الصالح وأئمة المسلمين حتى في زماننا هذا

يصلون ويدعون ويتضرعون عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن الصفوف

تحاذي نفس القبر الشريف اهـ[10] .

أقول: فيه منتقدات (الأول) أن الصلاة والدعاء في الأماكن الشريفة أقرب

إلى قبولها عند الله فيه إجمال، وهو على إطلاقه غير صحيح حتى ما ذهب إليه

السيد مهدي من أن النهي يختص بالقبر نفسه ، لأن الشرف إن كان في مدافن

الصالحين ، فإنما هو في القبور نفسها، وما حولها تابع لها، والسيد مهدي مقر معنا

بأن السجود على القبر نفسه لا يجوز فضلاً عن أن يكون إلى القبور.

ونحن نقول: إن ما حول القبر أيضًا في حكم القبر للنصوص الدالة أوضح

دلالة على ذلك ، فلو كانت الصلاة في كل مكان شريف أقرب إلى القبول لكان

الأولى أن تكون فوق القبر نفسه لأنه محل الشرف.

(الثاني) في كون البقعة لها فضيلة أن تشرع الصلاة فيها مطلقًا فضلاً عن

أن تكون أقرب إلى القبول، فغار حراء له فضيلة لتعبد النبي صلى الله عليه وسلم

فيه، ونزول الوحي عليه لأول مرة فيه ولم يشرع إتيانه للصلاة والدعاء فيه فضلاً

عن أن يكون ذلك أقرب إلى القبول وكذلك الغار الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه

وسلم وأبو بكر وهو المذكور في القرآن لا يشرع إتيانه لصلاة ولا دعاء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم، في مخالفة

أصحاب الجحيم) : أجمع العلماء على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله

صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبر - أي قبر كان - لا فضل فيها ، ولا

للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً ، بل مزية شر ، واعلم أن تلك البقعة وإن

كانت قد تنزل عندها الملائكة والرحمة ولها شرف وفضل ، ولكن دين الله بين

الغالي فيه والجافي عنه ، فإن النصارى عظموا [11]

ولو كانت للصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة لفعلها أحرص

الناس على الخير وأسبقهم إليه وأعلمهم به السابقون الأولون من المهاجرين

والأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وحاشى لهم أن يعصوا النبي صلى

الله عليه وسلم ، بل كانوا يحذرون الصلاة عند القبر ويحذرون منها كما فعل عمر

مع أنس ولو كانوا يتحرون الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم لنقل إلينا

ذلك لأن الدواعي على نقله متوفرة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : فأما إذا قصد

الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين متبركًا بالصلاة في تلك

البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن الله به،

وتقدم نقله الإجماع على أن الصلاة عند القبر لا فضل فيها، فكيف يظن مع ذلك

بأحد من السلف والخلف الصالحين أنه يتحرى الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه

وسلم أو غيره؟ .

(الثالث) قوله: ولهذا صارت الصلاة في المسجد أفضل منها في غيره.

أقول: هذا أيضًا على إطلاقه لا يصح ، لما ورد في الصحيح أن صلاة المرأة

في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفضيلة الصلاة

في المسجد ليست لكونه مسجدًا فقط ، فإن الله سمى المكان الذي بناه المنافقون

للصلاة مسجدًا ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه بقوله: {لَا تَقُمْ

فِيهِ أَبَداً} (التوبة: 108) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريقه ، وإنما كانت

الصلاة في المسجد أفضل منها في غيره لأن الله شرعها فيه وأثنى على أهلها بقوله

في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا

بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ} (النور: 36-37) الآية ولم يأذن الله قط ولا رسوله في الصلاة عند القبور ولا

شرعها فيها ، بل نهى عنها رسوله أشد النهي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ

وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} (النجم: 3-5) فكيف يقاس ما شرعه الله

وأثنى على فعله بما نهى الله عنه على لسان نبيه ولعن فاعله؟ قوله: ولهذا الفضل

كان السلف الصالح إلخ [12] تقدم جوابه.

وقوله: حتى إن صفوف الصلاة تحاذي نفس القبر الشريف [13] ممنوع؛ لأن

قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته وحجرته مسورة بسور فالصفوف لا يمكن أن

تصل إلى قبره البتة ، وقد روى مالك في الموطأ وغيره في غيره أن النبي صلى

الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم

اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقد استجاب الله دعاء نبيه فصانه بالحجرة والسور.

وقدا أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم فقال وأجاد:

ولقد نَهَانا أن نصير قبره

عيدًا حذار الشرك بالديان

ودعا بأن لا يجعل القبر الذي

قد ضمه وثنًا من الأوثان

فأجاب رب العالمين دعاءه

وأحاطه بثلاثة الجدران

حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه

في عزة وحماية وصيان

فكيف يدعي أن صفوف المصلين تصل إلى القبر نفسه؟

وقول ابن القيم: ولقد نهانا البيت. إشارة إلى ما رواه الحفاظ من طرق كثيرة

منها ما في سنن سعيد بن منصور حدثنا حبان حدثنا علي حدثني محمد بن عجلان

عن أبي سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا

بيتي عيدًا ، ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ورواه

أبو داود بسنده عن أبي هريرة بلفظ (لا تجعلوا قبري عيدًا) وقال سعيد بن

منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد قال أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال

رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى:

فقال: إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت:

سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد؛ فسلم عليه، ثم

قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم

مقابر ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم

تبلغني حيثما كنتم) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. اهـ.

فانظر إلى الإمام الحسن وكيف كره إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم

للسلام عليه ونهى عنه ، وأمر الرجل إذا دخل المسجد أن يسلم على النبي ولا يأتي

القبر؟ والسلام على النبي مشروع عند دخول كل مسجد لا يختص بمسجد النبي

صلى الله عليه وسلم وفي مسند أبي يعلى حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا زيد بن

إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه علي بن الحسين أنه رأى

رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها

فيدعو فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فإن مسألتكم تبلغني أينما

كنتم) . ا. هـ قال الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه الصارم المنكي ص109 وهذا

الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد

الزائدة على ما في الصحيحين اهـ.

فانظر إلى أهل البيت - سلام الله عليهم - كيف صانوا حمى التوحيد اقتداء

بجدهم ، ولم يرخصوا في إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام ولا للدعاء ،

فكيف يُدَّعَى أن السلف الصالح كانوا يتحرون الصلاة والدعاء عند القبر؟ ، وإذا

وقع ذلك من بعض المسلمين خطأ وجهلاً ، فليسوا معصومين من الخطأ والزلل،

ولا تثبت المشروعية بفعل أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف يرد

حديث النبي صلى الله عليه وسلم وينسخ بمخالفتهم له ولو كان الأمر كذلك لنسخت

أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منها إلا ما شاء الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ

وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ

اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب: 36) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (في اقتضاء الصراط المستقيم) بعدما ساق

الأحاديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد: فهذه المساجد المبنية على قبور

الأنبياء والصالحين والملوك وغيره يتعين إزالتها بهدم أو غيره هذا مما لا أعلم فيه

خلافًا بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ، ولا تصح

عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن ولأحاديثَ أُخر. اهـ.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

العبارتان في ص 355 جزء المنار 5.

(2)

ص 356 جزء 5.

(3)

ص 356 جزء 5.

(4)

ص 356 أيضًا.

(5)

ص 356 أيضًا.

(6)

المنار: في هذه المسألة مباحث أهمها أن فضل المكان على غيره إما ذاتي لمعنى فيه كخصب أرضه وجودة هوائه ومائه وهذا يعرفه كل أحد، وإما ديني كفضل المساجد وكون أفضلها الثلاثة لكثرة الثواب فيها إلخ وهذا لا يعرف إلا بنص الشارع، وإما عرفي كاختيار الناس بقعة يفضلونها على نظائرها لاجتماع أو عمل آخر أو لجلوس السلطان أو الأمير أو لدفن ميت شريف، وهذا التفصيل العرفي الإضافي لا يجعل للبقعة شيئًا من الفضل الحقيقي لا الذاتي ولا الديني ، ولذلك صح في الحديث تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن موقفه في عرفات والمزدلفة ونحره في منى لا يقتضي فضل هذه الأماكن على غيرها من المشاعر الثلاثة قال: (وقفت هنا وعرفة كلها موقف ومزدلفة كلها موقف

ومنى كلها منحر) .

(7)

ص 356 منه أيضًا.

(8)

ص 356 منه أيضًا.

(9)

357 منه.

(10)

بياض بالأصل.

(11)

ذكرت هذه العبارة بالمعنى وهي في ص 357.

(12)

في ص 357 أيضا.

(13)

المحفوظ في سائر الروايات (صلاتكم) ولم أجد أنهم كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم بعد موته فلفظ مسألتكم شاذ رواية ودراية ولعله غلط من بعضهم.

ص: 516

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دعاية المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية

كتب إلى جريدة البلاغ البيروتية مراسل من مدينة لاهور في بلاد الهند فصلاً

مسهبًا سماه (عقائد الجماعة الأحمدية في الهند) قسم فيه الفرقة إلى اثنتين: فرقة

(قاديان) وهي التي بنت الجامع الذي في لندن، وفرقة (لاهور) عاصمة حكومة

البنجاب وهي التي بنت جامع برلين.

وإننا ننشر ما جاء في البلاغ عن هذا المكاتب ، ونعلق عليه بتحذير المسلمين

من هذه الدعاية التي تنشرها جرائدهم السياسية غير عليمة بما وراءها من الجناية

على الإسلام ، وهذا نصه بأغلاطه العربية لم تصحح منها إلا آيات القرآن:

الفرقة الأحمدية في لاهور هي تحت رئاسة مولانا الأمير محمد علي مترجم القرآن

الكريم إلى اللغة الإنكليزية، وهي اعتقاد عامة المسلمين، لا تختلف عنهم إلا

ببعض نظريات كوفاة سيدنا عيسى، والناسخ والمنسوخ في القرآن، وقد قامت هذه

الفرقة بتضحيات عظيمة في الهند وأوربا في سبيل نشر الإسلام، وافترقت عن

الأحمديين القاديانيين منذ وفاة السيد أحمد مؤسس تلك الفرقة، وقد كان إسلام اللورد

هدلي على يد فرقة الأحمدية؛ لأن خوجه كمال الدين معين مبشرًا في إنكلترا من

قبل الأمير محمد علي.

هذه كلمة يقول عنها المراسل إنها توطئة لرسائله التي سيوافي بها البلاغ،

وإننا ننشر منذ اليوم أولى هذه الرسائل، قال:

إن تبليغ الأحمدية هو تبليغ الإسلام الروحاني [1] ، ومقصدها تطهيره من

العناصر الأخرى ، وتغلبه في هذه الدنيا.

كان المؤسس لهذه الدعوى هو مرزا غلام أحمد قادياني مجدد القرن الرابع

عشر حسب وعود النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة

على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ورجال يكلمون من غير أن يكونوا

أنبياء) [*] ، وقد قام هذا الشخص بدعوى مجدد ومحدث.

وبعد وفاته أقام لحفظ وإشاعة الإسلام (مجلس شورى خدام الإسلام) الذي

مركزه في لاهور (الهند) .

وعقائد هذه الجماعة هي مثل عقائد أهل السنة التي تطابق القرآن والحديث،

ولكن بإمعان النظر؛ فإن أفكار هذه الجماعة مبنية على المعنى الصحيح من القرآن

والحديث وهي:

1-

تعليم القرآن والحديث:

إن حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وبعده لا يأتي

نبي، وجاء في الحديث أيضًا:(لا نبي بعدي) ، وعقائد الجماعة الأحمدية في

لاهور هي مطابقة لهذا الحديث ، على أنه لا يأتي نبي إن كان قديمًا أو جديدًا بعد

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن مجيء أحد الأنبياء قديمًا أو جديدًا قد تكون

بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ختمت، ومن غير الإيمان بالنبي الآتي لا

يحصل أحد على النجاة، وعلى ذلك؛ فإن أفراد هذه الجماعة يفهمون بأن من

خلاف المسلمات مجيء عيسى بن مريم الذي كان رسولاً إلى بني إسرائيل في الأمة

المحمدية ، ومنه على حسب الآيات القرآنية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ

الرُّسُلُ} (آل عمران: 144)، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) ، وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تبرهن على وفاته، ولهذا

أيضًا ممنوع مجيء نبي جديد؛ لأن الأنبياء من لدن الله عز وجل يأتون إلى الناس

إما ببعض الهدايات أو الشرائع، ولأن القرآن أتى بدين مكمل كما هو دعواه

{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ، ولهذا ممنوع للمستقبل مجيء إحدى

الهدايات والشرائع الجديدة، ومن هذا الوجه؛ فإن مجيء أحد الأنبياء الآن هو لغو

ولهج في الألسن فقط ، وهي بعيدة عن شأن الله تعالى، من هذه الدلائل؛ فإن هذه

الجماعة مصدقة بأن النبوة المحمدية ووحي القرآن كافيان إلى يوم القيامة ، ولا

ضرورة لنبي جديد أو قديم إلى يوم القيامة [2] .

2-

إن ألفاظ القرآن كلها واجبة العمل وليس فيها ناسخ ومنسوخ؛ لأن دعواه

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، ومعنى

التصديق في مسألة ناسخ ومنسوخ في الآيات القرآنية هو وجود الاختلاف فيها؛

لذلك فإن هذه الجماعات لا توافق على مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن ، بل هم

يفهمون بواجب العمل على جملة أحكام القرآن طبقًا لحالات الزمان وضروراته.

3-

معنى الإسلام هو مذهب الصلح والسلامة؛ لذلك فإن هذه الجماعة يفهمون

بأنه لا يجوز أي نوع من أنواع التشدد والجبر في الإسلام؛ لأن حكم القرآن {لَا

إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ، وحضرة النبي الكريم وصحابته لم يستعملوا

السيف ولا الجبر قط في تبليغ الدين الإسلامي ، والقرآن أمرنا بالجهاد لأجل الدفاع

فقط {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190) ، والإسلام انتشر

بقوته الروحانية ، وسينتشر كذلك في المستقبل إن شاء الله ، وثبوته موجود في هذا

الزمان ، فالجماعة القليلة لمجدد هذا القرن ، قد فازوا في إدخال الألوف من طبقة

الأدباء والفضلاء في أوربا وأمريكا في الدين الإسلامي، ونعلم علم اليقين أنه إذا

كان عقلاء المسلمين وعلماؤهم يقومون مع هذه الجماعة باتحاد العمل في هذا الشغل

الصالح، ويعضدوا قوتها؛ فتفوز بسرعة بغلبة الإسلام الروحانية على جميع الدنيا ،

وتدخل الطبقة العاقلة المخالفة للإسلام في الدين الإسلامي ، ومتى زاد عدد

المعاونين في هذا العمل؛ يرتفع كثير من المشكلات السياسية عن المسلمين.

4-

هذه الجماعة لا تأخذ حصة في التبليغ السياسي في أي مملكة كانت، وفي

أي بلاد مختلفة تشتغل فيها بالتبليغ، فعضوها المبلغ يحترم قوانين تلك البلاد.

5-

هذه الجماعة تعتقد بأن جميع الناس الذين يؤمنون بكلمة لا إله إلا الله

محمد رسول الله من قلب خالص هم مسلمون، وتفهم بأن تكفير أحد أصحاب كلمة

الشهادة هو مناف لاتحاد المسلمين ، واعتقاد هذه الجماعة بأن جميع المؤمنين إخوة ،

ويفهمون بأن معاونة جميع المسلمين من أي فرقة كانوا هي ضرورية؛ لأن الجماعة

التي تريد أن تَرْقَى ، وتظهر في الدنيا تعليم الله ورسوله ، فهي لا تقدر أن تفهم بأن

إخوانها الناطقين بالكلمة هم خارجون عن الإسلام.

6-

إن أفراد هذه الجماعة يحترمون جميع الأنبياء والصحابة والأئمة

والمجددين ، وليست طريقتهم بأن يهينوا أحد مشايخ الأمة ، وعلى هذه الصورة

أيضًا يعززون كبار المذاهب الأخرى ، وعلى موجب التعليم الإسلامي لا يذمون أحدًا

منهم.

إن الخدمات الإسلامية التي قامت بها هذه الجماعة المختصرة في ظرف مدة

قليلة هي على حسب ما يأتي ، ندرجها ههنا؛ ليشترك المسلمون معنا في العمل في

هذا التبليغ والعمل الصالح ، وليس مرادنا من درجها أن نحرز الفخر؛ لأن هذه

الجماعة إنما تعمل لخدمة الإسلام خدمة خالصة ، وليس لأجل الفخر وهذه هي:

1-

التبشير بالإسلام في الممالك الأخرى.

أ - أقيم على صرف الألوف من الدراهم مركز للتبشير في محلة (وكنج)

في إنكلترا، حيث تصدر هناك مجلة مصورة بالإنكليزية؛ لأجل تبليغ الإسلام ،

ومنها يوزع عدد كبير مجانًا لغير المسلمين ، وعلاوة على ذلك ، ينشر كثير من

الكتب الإسلامية المفيدة باللغة الإنكليزية هناك.

ب - ثم إن هذه الجماعة لإعلاء كلمة الإسلام بنوا مسجدًا في برلين

عاصمة ألمانيا ، وصرفوا على تعميره نحو 150 ألف روبية ، وأيضًا تصدر مجلة

باللغة الألمانية؛ لأجل تبليغ الإسلام ، وكثيرًا من الكتب الإسلامية المفيدة انتشرت

باللغة الألمانية.

ج- ثم إن حركة التبليغ الإسلامي جارية في جزيرة (جاوا) التابعة لحكومة

هولاندا ، وكثير من الكتب الإسلامية قد انتشرت لسكان هذه الجزيرة باللغة الملائية

ولغة هولاندا حاكمة البلاد ، وقد يترجم الآن القرآن باللغة الملائية.

د- والتبليغ الإسلامي يجري في أوروبا وأمريكا وإفريقيا وآسيا والجزائر

المختلفة بواسطة الخط والكتابة وإرسال الكتب الإسلامية مجانًا، ويعطَى إلى جميع

المكتبات الكبرى في العالم كثير من المجلات والكتب مجانًا بدون ثمن.

2-

التبليغ في داخل بلاد الهند:

أ- إن التبليغ الإسلامي جار في الأماكن التي لا يوجد فيها مسلمون ، وقد دخل

إلى الآن ألوف من الناس في الدين الإسلامي.

ب- ويجري استعداد المبلغين الواقفين على العلوم الدينية والعلوم العصرية؛

لأجل دعوة المجوس والمشركين والمذاهب الأخرى إلى الإسلام ، ثم إن كثيرين من

طلبة (البلاد) الأخرى يحصلون العلم في مدرسة " إشاعة الإسلام " بحيث يمكنهم

القيام بالتبليغ الإسلامي في بلادهم بعد فراغهم من تحصيل العلوم.

3-

سلسة التصانيف:

أ - لكي يمد المبلغون الإسلام؛ تنتشر كثير من الكتب الإسلامية باللغة العربية

والتركية والإنكليزية والفرنسوية والألمانية والإيطالية وغير ذلك من اللغات

الأخرى.

ب - طبعت ترجمة القرآن باللغة الإنكليزية والهندية ، وأرسل منها الألوف

إلى جميع أنحاء العالم؛ فحازت القبول [3] ، والآن يترجم إلى اللغة الصينية

والملائية وفي بعض اللغات الأوربية، وفي هذه السنة وزعت 500 نسخة من

القرآن باللغة الإنكليزية على جميع مكتبات الدنيا المشهورة مجانًا.

ج - أرسلت أيضًا ترجمة السيرة النبوية باللغة الإنكليزية إلى جميع المكتبات

مجانًا، وترجمتها باللغة الألمانية والإيطالية تحت التصنيف.

- تنشر جريدة (لايت) الإنكليزية في كل خمسة عشر يومًا مرة، وتوزع

تقريبًا خمسمائة نسخة منها مجانًا على المكتبات وعلى بعض الإخوان من المسلمين

وغير المسلمين، وتعطَى القيمة إلى تلامذة المدارس والفقراء.

4-

وسائل الدخول:

أ - لسد هذه النفقات الكثيرة كلها؛ يعطي كل فرد من هذه الجماعة حسب

اقتداره إلى (بيت المال القومي) المبلغ المعين له شهريًّا ، وعلاوة على ذلك فإن

دراهم زكاة وصدقة هذه الجماعة أيضًا تجمع في (بيت المال) ، ثم تصرف على

الشعبات المختلفة بواسطة إدارة منظمة، وأما جماعات المسلمين الأخرى فالقليل

منهم الذين قاموا بمد يد المساعدة لإشاعة الإسلام.

5-

الواردات الداخلة والخارجة في السنة الماضية:

بلغ مجموع الواردات في السنة الماضية للجماعة الأحمدية في لاهور 934،

189 روبية ، صرفت على الأشياء الآتية:

أ - شراء اللوازم العامة لجميع الدوائر (بيت الضيوف) ، وإشاعة الكتب

والمجلات مجانًا ، وللواعظين ومدرسة إشاعة الإسلام ، ومساعدة المساكين واليتامى

المكتبة والأملاك غير المنقولة، متفرقة 31723 روبية.

ب - تبليغ الهند 5412 روببة.

ج - تبليغ البلاد الأخرى 30360 روبية.

د - الصحافة 12527 روبية.

هـ - نفقة تثقيف المتوحشين 3880 روبية.

و تصنيف وتأليف - 24924 روبية.

ز - تعليم المدارس 35534 روبية.

ط - تعمير المحلة الأحمدية - 83 روبية.

ثم إن الخدمات التي أتت بها هذه الجماعة المتحدة للإسلام والمسلمين لا

ينكرها أحد من عقلاء المسلمين، فنظامها قابل التقليد للمسلمين ، فإذا كانت جماعة

متحدة صغيرة أتت بهذه الأعمال العظيمة، فكيف لو كانت القوة المتحدة للمسلمين

مع هذه الجماعة؟ لا شك إذ ذاك تكون للإسلام قوة شديدة وكبيرة جدًّا، ولخدمة

الإسلام يلزم على إخواننا المسلمين أن يشتركوا معنا في هذا العمل الجليل.

ومما تجب الإشارة إليه أن تبليغ الجماعة الأحمدية في لاهور (البنجاب) ليس

لها تعلق مع الجماعة التي تدعي بأن مرزا أحمد قادياني هو نبي حقيقي ورسول

ويكفر جميع المسلمين.

وقد أعلنت جماعتنا بأنها بريئة من هذه العقائد؛ لأن هذه العقائد اخترعت بعد

وفاة المجدد والمؤسس لهذه الحركة ، وهو بريء من هذا الافتراء ، والله على ما

نقول شهيد.

***

عقائد جماعة لاهور الأحمدية [4]

إن جمعية (ألأنجمن الأحمدية إشاعة الإسلام في لاهور) قد شرعت في

العمل لتوسيع نطاق التبليغ والتبشير في أوربا والممالك الأخرى ، والقيام لمقابلة

المخالفين للإسلام، وهي تجاوبهم وترد عليهم بواسطة الإعلانات والمجلات

والجرائد والمبلغين ، وقد تشيع ترجمة القرآن الكريم والسيرة النبوية في أنحاء

مختلفة ، وهي ترفع علم التوحيد في ممالك أوربا الآن حيث يوجد مسجدان واحد في

(برلين) عاصمة ألمانيا والثاني في (وكنج) في عاصمة البلاد الإنكليزية وهناك

ألوف من إخواننا الذين اعتنقوا الدين الإسلامي يؤدون صلاتهم فيها.

وقد يشك بعض الناس في عقائد الأحمدية ، ولذلك أرى من الواجب الإشارة

إلى هذه العقائد ، لإطلاع إخواننا المسلمين عليها ، وإلى القارئ تلك العقائد التي

يضعها فريق جماعة لاهور الأحمدية.

أولاً - إننا نؤمن بوحدانية الله تعالى ، وبرسالة رسوله محمد صلى الله عليه

وسلم.

ثانيًا - نؤمن بالقول والفعل بأن حضرة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم

خاتم النبيين ، وقد أكمل الله تعالى الدين ببعثته؛ لذلك لا يأتي نبي بعده صلى الله

عليه وسلم ، نعم يأتي مجددون يكون عملهم خدمة الإسلام وتأييد الدين.

ثالثًا - نحن نؤمن بالقول والفعل بأن القرآن الكريم الذي أنزل على محمد

المصطفى صلى الله عليه وسلم هو كلام الله ، ولا يمكن نسخ أي حكم من أحكامه

إلى يوم القيامة.

رابعًا - نحن نصدق بأن حضرة مرزا غلام أحمد صاحب قاديان مجدد القرن

الرابع عشر ، ولا نصدق بنبوته.

خامسًا - نحن نصدق بأن الله تعالى يكلم أولياء هذه الأمة ، وأن هؤلاء الناس

يدعون بالمحدث باصطلاح الشريعة ، وعلى هذا يصير استعمال لفظ (النبوة)

الظلية في اصطلاح الأولياء ، والأمثل ظل الله لا يكون الله، ولا ظل النبوة يكون

نبيًّا.

سادسًا - نحن نفهم بأن كل إنسان يؤمن بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله

يكون مسلمًا.

سابعًا - نحن نعز جميع الصحابة الكرام ومشايخ الدين ، ولا ننظر بنظر

النفرة والتحقير لأي صحابي أو إمام أو محدث أو مجدد ما.

ثامنًا: نحن نفهم بأن تكفير المسلمين هو فعل قابل للنفرة والاشمئزاز أكثر من

كل شيء ، وعلى إظهار النفرة من أولئك الناس الذين يكفرون أحد المسلمين أو

جماعة ما من المسلمين لا نصلي خلفهم؛ إن كان المكفر أحمديًّا أو غيره من الناس ،

ثم إننا نصلي خلف أولئك الناس الذين ينفرون من فتاوى التكفير إن كانوا أحمديين

أم غيرهم من المسلمين.

تاسعًا: إننا نصدق بصحة الأحاديث التي فيها ذكر نزول المسيح ، ولكن بما

أن القرآن الكريم يقول بألفاظ واضحة وصافية بذكر وفاة حضرة المسيح؛ لذلك نأخذ

المراد منها بظهور مجدد للدين.

عاشرًا: وفي قربنا أن الدين الإسلامي قبلاً لم ينشر بالجبر ولا يكون أيضًا

فيما بعد ظهور مهدي كهذا ينشر الإسلام بقوة السيف، بل إن المهدي هو على ذاك

الذي يحصل الهداية من الله تعالى ويظهر صداقة الدين الإسلامي.

وفي الختام أقول:

إن بعض الناس ينسبون عقائد الجماعة القاديانية لنا. على أن مما يؤخذ

الجماعة القاديانية غلوهم ، بأن وضعوا حضرة مجدد القرن الرابع عشر في منصب

النبوة ، وكفروا جميع مسلمي الأرض ، وقرروا خروجهم عن دائرة الإسلام ، وقد

رددت جماعتنا هذا القول مرارًا عديدة. اهـ.

(المنار)

إن ما علقناه من الحواشي الوجيزة على هذه الدعاية يظهر للمسلمين أن

هؤلاء الأحمدية على الباطل ، وان كانت الفرقة الأخرى من أتباع القادياني أشد

منهم غلوًّا في مسيحيته الباطلة، وسننشر في جزء تال مقالاً في ذلك ، يتبعه نُقُول من

كتب المسيح القادياني الدجال، يعلم منه أن كل متبع له خارج من حظيرة الإسلام.

_________

(1)

هذا أول اعتراف من هذه الملة الجديدة بأنها تدعو إلى شطر الإسلام الروحاني ، وتترك شطره الخاص بالأمور الجسدية أو الدنيوية ، كما فعلت المسيحية في اليهودية ، وهذه دعوى مسيحهم الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه مسيح الإسلام الموعود به في الأحاديث النبوية ، مع أنها لا تنطبق على حاله بوجه ما.

(*) قوله: (ورجال يكلمون) ليس من هذا الحديث ، ولكن ورد هذا المعنى في حديث آخر كما ورد أنه يظهر في هذه الأمة دجالون قبل الدجال الأكبر والقادياني من هؤلاء كما سنبينه.

(2)

المنار: الغرض من هذا حمل أحاديث مجيء المسيح عيسى بن مريم على القادياني لدعواه هو المسيح المنتظر ولكنه هو قد ادعى الوحي حتى بالشعر كما سننقله عن كتبه بعد.

(3)

هذا كذب فعلماء مصر أفتوا حكومتهم بمنع الإذن بدخول مصحفهم المطبوع مع ترجمتهم له، وكذلك فعل مفتي بيروت.

(4)

مقالة أخرى نشرت في جريدة البلاغ البيروتية.

ص: 543

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي

‌بول الصبي وبول الصبية

حكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائي

الأحاديث التي وردت فيهما

(1)

اتفق العلماء على أن ما تزول به النجاسة أمور ثلاثة: الغسل والمسح

والنضح [*] .

والنضح هو الرش، وقد اختلف الفقهاء في الاكتفاء به في طهارة بول الصبي

وبول الصبية على ثلاثة أقوال:

(الأول) أنه خاص بإزالة بول الصبي ، ولا يكفي في إزالة بول الصبية ،

بل لا بد في إزالة بولها من غسله ، ولا يكفي فيه الرش ، وهو مذهب الشافعي في

المشهور عنه.

(الثاني) أنه لا يكفي فيهما ، بل لا بد فيهما من الغسل ، وإلى هذا ذهب

مالك، وعنده أن الغسل طهارة ما تيقنت نجاسته والنضح طهارة ما شك فيه.

وقد أخذ في هذا بحديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى

الله عليه وسلم في بيته ، فقال: (فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما يبس ،

فنضحته بالماء) .

(الثالث) أنه يكفي فيهما ، وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي ،

وحجتهم في ذلك قياس الأنثى على الذكر الذي وردت أحاديث النضح فيه.

وإنا إذا رجعنا إلى العلم الحديث؛ نجد أنه لا يفرق بين تركيب بول الصبي

وبول الصبية ، بل لا يفرق في ذلك بين بول الذكور وبول الإناث على العموم.

ومن الواجب أن نرجع إليه في ذلك ، وأن نأخذ فيه رأيه ، ولا نعتمد على

رأي بعض الفقهاء الذين يفرقون بين تركيب بول الصبي وبول الصبية ، مع أنهم

ليسوا من علماء الكيمياء الذين يعرفون تركيب المواد والأجزاء التي تتألف منها.

يقول البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن بول الصبي أرق من بول

الصبية [1] ، والائتلاف بحمله أكثر من الائتلاف بحملها؛ فخفف فيه دونها.

وأضاف إلى هذا أن أصل خلقه من ماء وطين ، وأصل خلقها من لحم ودم ،

فإن حواء خلقت من ضلع آدم ، وأن بلوغ الصبي بمائع طاهر وهو المني ،

وبلوغها بذلك وبمائع نجس وهو الحيض.

ولا شك أن البيجوري لم يحلل بول الصبي وبول الصبية حتى يكون حكمه بأن

بولها أرق من بوله ناشئًا عن بحث علمي؛ فيقبل منه، فضعف حكمه في هذا ليس

بأقل من ضعف حكمه بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر من الائتلاف بحمل الصبية.

وكذا حكمه بأن أصل خلقه من ماء وطين وبلوغه بمائع طاهر بخلافها فيهما ،

فما لهذا والاكتفاء بالنضح في بوله دونها؟ .

ولو كان لنا أن نحكم في تركيب بول الصبي وبول الصبية بظاهر الرأي كما

فعل البيجوري؛ لقلنا بأن بول الصبية أرق من بول الصبي؛ لأن الأنثى أرق من

الذكر جسمًا ، فلماذا لا تكون أرق منه بولاً [2] ؟ ولكن الواجب تحكيم العلم في هذا ،

وعدم الأخذ بظاهر الرأي فيه.

***

(2)

رجعنا إلى بعض الأطباء؛ فأمكننا أن نحصل منه على هذه الأمور:

(1)

أهم أجزاء البول هي: البولينا وحمض البوليك وكلور الصوديوم

والسولفات والفوسفات وأكسيدات الجير والصودا.

(2)

إن هذه الأجزاء توجد في بول الذكور والإناث بكميات متساوية ، ولا

فرق في ذلك بين الكبار والصغار من النوعين.

(3)

تختلف النسبة بين أجزاء البول باختلاف السن وباختلاف الأغذية

وكيفية هضمها.

فمن يتغذى بالألبان كالأطفال؛ تقل في بوله كمية البولينا وحمض البوليك ،

وهما اللذان يكسبان البول الرائحة الكريهة الخاصة به.

ولعل هذا هو السر الذي يهدينا إليه العلم الحديث في تفريق الشارع بين بول

الأطفال الرضع وغيرهم في الاكتفاء في طهارته بالنضح؛ لأنه لا يوجد فيه من

الرائحة الكريهة بسبب هذا ما يستوجب الاعتماد في طهارته على الغسل ، وكذلك

الأطفال لسلامتهم من الأمراض المعدية كالبلهارسيا وغيرها؛ يكون بولهم خاليًا من

جراثيم تلك الأمراض ، فلا يخاف منه كما يخاف من بول غيرهم ، ولذا لم يشدد

الشارع في طهارته ، واكتفى فيها بالنضح ، وشدد في طهارة غيره ، وأوجب فيها

الغسل الذي يزول به ضرره ، وتتقى عدواه.

فانظر كيف استفدنا من الرجوع إلى العلم في هذا الحكم ، وكيف وقفنا على

هذه الأسرار الجليلة التي تدل على فضل الشريعة الغراء.

وما كنا لنصل إليها؛ لو فعلنا كما فعل البيجوري ، ووقفنا عند ظاهر الرأي،

ولم نسبر أغوار العلم.

***

(3)

ورد في هذا الباب أحاديث - أولها - عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن

لها صغير، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا

بماء، فنضحه عليه ولم يغسله.

ثانيها - عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(بول الغلام الرضيع ينضح ، وبول الجارية يغسل) .

ثالثها - عن أبي السمح خادم رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: (يغسل من بول الجارية ، ويرش من بول الغلام) .

رابعها - عن أم كرز الخزاعية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بول

الغلام ينضح وبول الجارية يغسل) .

خامسها - عن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت: بال الحسين في حجر النبي

صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، أعطني ثوبك، والبس ثوبا غيره

حتى أغسله ، فقال:(إنما ينضح من بول الذكر ، ويغسل من بول الأنثى) .

ومثل الحديث الأول لا يوجد فيه ما يمنع قياس الأنثى على الذكر؛ وفقًا

للمذهب الذي رجحناه ، وقلنا: إنه الذي يوجد في العلم الحديث ما يؤيده ، ولكن

الكلام في الأحاديث الباقية الناطقة بالفرق بين الأنثى والذكر في النضح ، التي قال

فيها الشوكاني: إنه لم يعارضها شيء يوجب الاشتغال به.

وقد يكفيني في التخلص منها أن العترة والحنفية وسائر الكوفيين والمالكية لم

يروا العمل بها جملة ، وآثروا عليها قياس بول الصبي على سائر الأبوال ، فأوجبوا

الغسل فيه مثلها.

وإذا صح لهم إيثار هذا القياس عليها ، وعدم العمل بها جملة؛ فإنه ليصح

من باب أولى أن نؤثر قياس الجارية على الغلام على ما جاء منها بالتفرقة بينهما.

ففي هذا إعمال لها في الجملة بخلاف ذاك ، ولكنا نحب أن نبدي فيها رأيًا

حديثًا ، بعد أن نلاحظ عليها إجمالاً أنها لم ترد في صحيحي البخاري ومسلم ، وقد

قال ابن حجر في فتح الباري: (إنها لم تستوف شرط البخاري فيما يورده في

صحيحه من الأحاديث) .

وقد يكفيني عدم إيراد البخاري لها في صحيحه لهذا الذي يذكره ابن حجر في

التخلص منها أيضًا ، فهو يرى أنها ليست من القوة بحيث تقضي بالفرق بين بول

الصبي وبول الصبية في ذلك الحكم ، ولو كانت تكفي عنده في ذلك لذكرها في

صحيحه ، لتكون حجة في ذلك ، كما ذكر أحاديث بول الصبي؛ لتكون حجة في

الاكتفاء في طهارته بالنضح.

وكذلك نلاحظ مع هذا أنها ليست إلا أحاديث آحاد ، والحنفية يقدمون عليها

القياس؛ لأنه من الأصول المعلومة المقطوع بها من الشرع ، وخبر الواحد مظنون.

وهذا يسوغ لنا أيضًا أن نقدم قياس بول الجارية على بول الصبي على تلك

الأحاديث السابقة ، التي هي أحاديث آحاد ، ومع هذا فيها ما سنورده عليك.

حديث علي:

رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد والترمذي ، أما ابن ماجه ففي سنده إلى

علي رضي الله عنه معاذ بن هاشم وأبوه هشام وقتادة بن دعامة. ومعاذ بن هشام

قال عنه ابن معين: إنه صدوق وليس بحجة ، وقال الحميدي بمكة لما قدم معاذ بن

هشام: لا تسمعوا لهذا القدري ، وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا

معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن عمران بن حصين

أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتوا النبي صلى الله عليه

وسلم، فلم يجعل لهم شيئًا.

ومن يروي مثل هذا؛ لا يصح أن يحتج بحديثه. وأبوه هشام أحد الأثبات

إلا أنه رُمي بالقدر ، وقيل رجع عنه. وقتادة بن دعامة حافظ ثقة ثبت؛ لكنه

مدلس ، ورمي بالقدر ، ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح ، وأما أبو داود ،

فروى هذا الحديث موقوفًا على علي رضي الله عنه من غير طريق معاذ وأبيه هشام ،

ورواه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن طريقهما عن قتادة ، وقد

عرفت ما في الثلاثة ، وأما أحمد فرواه عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن هشام

عن قتادة أيضًا ، وقد عرفت ما فيهما.

حديث أم الفضل:

رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد ، أما ابن ماجه وأبو داود ، ففي سندهما إليها

سماك بن حرب وقابوس بن أبي المخارق ، وسماك قال سفيان: إنه ضعيف ،

وقال جناد المكتب: كنا نأتي سماكًا؛ فنسأله عن الشعر ، ويأتيه أصحاب الحديث ،

فيقبل علينا ، ويقول: سلوا فإن هؤلاء ثقلاء.

وقابوس لم يحدث عنه سوى سماك، وقال النسائي: ليس به بأس ، وكلنا

يعرف معنى هذه الكلمة (ليس به بأس) .

وأما أحمد ، ففي بعض طرق سنده إليها سماك وقابوس هذان ، وفي بعضها

حماد بن سلمة وعطاء الخراساني ، وحماد ممن تحايده البخاري ، واحتج به مسلم.

وعطاء ذكره البخاري في الضعفاء، وقال: لم أعرف لمالك رجلاً يروي

عنه ، يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني ، وفي بعضها عفان بن مسلم ،

وقد قال سليمان بن حرب: إنه كان رديء الحفظ بطيء الفهم.

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن

ثابت، عن أنس مرفوعًا (أعطي يوسف وأمه شطر الحسن) يعني سارة ، ورواه

الناس عن حماد موقوفًا ، وقال أبو عمرو الحرضي: رأيت شعبة أقام عفان من

مجلسه مرارًا من كثرة ما يكرر عليه.

حديث أبي السمح:

رواه ابن ماجه وأبو داود والنسائي ، وفي طريق الثلاثة إليه يحيى بن الوليد ،

قال النسائي: ليس به بأس ، ومع هذا فمن هو أبو السمح خادم رسول الله؟ قال أبو

زرعة: (لا أعرف اسم أبي السمح هذا ، ولا أعرف له غير هذا الحديث) .

حديث أم كرز:

رواه الطبراني وغيره، وفي إسناده انقطاع؛ لأنه من طريق عمرو بن شعيب

عنها، وهو لم يدركها، وقد اختلف على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه عن أبيه

عن جده كما رواه الطبراني.

البيهقي وأحاديث هذا الباب:

وبعد ففي هذا الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة ، وهي كما قال البيهقي: إذا

ضم بعضها إلى بعض قويت ، ويكفينا هذا في الحكم على هذه الأحاديث بأنها لا قوة

لها إلا في اجتماعها ، ومعنى هذا أنه لا قوة لها في ذاتها.

وإذا كان هذا حالها؛ فالواجب تقديم القياس السابق عليها ، والتخفيف في بول

الجارية مثل الغلام ، فالائتلاف بحملها مثل الائتلاف بحمله ، وقد ذم الله في كتابه

العزيز من لا يأتلف بالبنات ويسود وجهه إذا بشر بأنثى ، فكيف يفرق بينهما في

ذلك وهو يؤدي إلى قلة الائتلاف بالبنات؟ وكيف يذم الشيء ويشرع ما يؤدي إليه ،

وهو أحكم الشارعين.

...

...

...

عبد المتعال الصعيدي

...

...

...

المدرس بالجامع الأحمدي

(المنار)

ما ذكره الأستاذ الكاتب من نقد أحاديث المسألة وطرق الاستدلال ، فيه نظر

من وجوه لا حاجة إلى بسطها ، وأهم ما نحب أن لا يعود إليه إعلال الحديث

بترك تخريج البخاري له في جامعه ، فإن شرطه فيه معلوم ، انفرد به دون سائر

علماء الملة ، فهو على كونه احتياطًا في التصحيح ، لا يقتضي ترك العمل بما

لا ينطبق عليه لا عنده ولا عند غيره بالأولى ، فمتى صح الحديث؛ وجب العمل به

بالإجماع ما لم يعارضه ما هو أقوى منه دلالة على خلافه.

والحافظ ابن حجر صحح حديث علي المرفوع ، ولم يعد الموقوف علة قادحة

فيه، ونقل عن ابن خزيمة تصحيح حديثي لبابة وأبي السمح وأقره ، فهو لم يذكر

أن هذه الأحاديث ليست على شرط البخاري إلا لبيان سبب عدم تخريجها في جامعه ،

لا للتخلص منها كما تخلص الكاتب منها بعدم عمل العترة (الزيدية) والحنفية

وغيرهم بها، فأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على كل مسلم ، ولا حجة

لأحد عليها.

وأما ترجيح القياس على خبر الواحد ، فليس على إطلاقه كما قال ، فليراجعه

في كتب الأصول.

_________

(*) كان ينبغي أن يقول: قال الفقهاء: إن النجاسة تطهر بالغسل وبالمسح وبالنضح.

(1)

ثبت عندنا بتجارب قليلة خاصة بأطفالنا أن بول الصبي أشد نتنًا من بول البنت ، وكون أصل التركيب الكيماوي واحدًا لا ينافي ذلك.

(2)

(المنار) إن العلة في كون الشيء نجسًا هو القذارة التي مظهرها الرائحة الكريهة ، وأصح أسباب إثباتها في الجنسية الاستقراء، وقد ثبت عندنا باستقراء ناقص في أطفالنا أن رائحة بول الصبيان الكريهة أشد ، فإن ثبت عند غيرنا ضده ثبت أن الذكورة والأنوثة لا تأثير لهما في النتن الذي سبب الحكم بالنجاسة ، وهو ما يقتضيه العلم الفني.

ص: 551

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال الخمسيني لدار العلوم

احتفلت مدرسة دار العلوم في مساء الجمعة ثاني المحرم بمرور خمسين عامًا

على تأسيسها، فحضر احتفالها كبار رجال الحكومة والعلم وشيوخ البرلمان ونوابه،

وكان في مقدمتهم الرئيس الجليل المرحوم سعد باشا زغلول، فافتتح الجلسة

الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس لجنة الاحتفال بخطاب وجيز مفيد، بين

فيه حال المتعلمين قبل إنشاء هذه المدرسة، ووجه الحاجة إلى إنشائها، وقيام

المرحوم علي باشا مبارك بذلك.

وتلاه الخطباء والشعراء من كبار أساتذة المدرسة وبعض طلابها، وكانت

خطبة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار من أنفع تلك الخطب، جامعة بين تاريخ

تأسيس المدرسة والأطوار التي مرت فيها، وبين الفكاهات الأدبية، ومنها نبذ من

إنشاء الكتاب قبل ظهور ثمرات هذه المدرسة، ونوَّه بالإصلاح الأول الذي قام به

الأستاذ الإمام للُّغَةِ والإنشاء ، بمساعدة صحبه الذين كانوا أعوانه في تحرير جريدة

الوقائع الرسمية في عهد رياسته للمطبوعات ، ومنها الرئيس الجليل.

وإننا ننشر من تلك القصائد الغر قصيدة شاعر البداوة في الحضارة (الشيخ

محمد عبد المطلب) لا لانفرادها بالبلاغة ، فالقصائد كلها غر ، وناهيك بشعر

الجارم والهراوي الشهيرين؛ ولكن هذه القصيدة امتازت بالرد على خصومنا

الملاحدة الذين يريدون إفساد ديننا ولغاتنا علينا ، بشبهة التجديد الذي يزعمونه ، وما

هو إلا تجديد الزندقة والإباحة المطلقة.

وقد سرنا أنه لما كان يتلو تلك الأبيات العامرة في الرد عليهم؛ كان الجماهير

يصفقون له تصفيقا شديدًا متواترًا ، لا محرك له إلا تصفيق قلوبهم قبله.

وكان في مقدمة المصفقين المرحوم سعد باشا ، وهذا نص القصيدة:

لي في ظلالك مسرح ومقيل

روض أغن ومنزل مأهول

ومعاهد نشر الحياة بها الحيا

فالعيش أخضر والنعيم ظليل

سر الجمال جمال مصر إذا سرت

ريح الشمال بها وعب النيل

بلد جريت إلى المنى في ظله

سبحًا على اللذات وهي شكول

أرد المرابع والمصايف سادرًا

أختال بين ظلالها وأجول

لي في الصعيد إذا شتوت منازل

فيها سراة العالمين نزول

بهرت مصانعها الزمان ولم تزل

للعقل فيها حيرة وذهول

جلست على الآباد في جبرية

يقف البلى من دونها فيحول

مشتى الملوك مراد أرباب النهى

هذا يحل بها وذاك يزول

وإذا تربع أسل نجد بالغضا

أوقاظ منهم بالشريف قبيل

فبغور وادي النيل كل منضر

للعيش فيه غرة وحجول

فيح إذا نهض القريض لوصفها

يحلو القريض بوصفها ويطول

أمرابعي والعمر فينان الهوي

ومراد لهوي والصبا معسول

بالرمل منها منزل أشتاقه

إن شاق صنوي حومل ودخول

يزهي ظباء النيل روح رياضه

ونسيم ذاك البحر وهو عليل

أهوي إليه على البخار إذا سرت

بالمنجدين هوادج وحمول

كالطيف يختلس الظلام إذا سرى

لمحًا وطرف النجم عنه كليل

وإذا بكى الأثلات يحيى شاقه

مغنى جفاه بقرقرى ومقيل

غنيت نشوان القريض يهزني

سدر بريف جهينة ونخيل

أو غردت ورقاء رامة هزها

حي هناك بذي الأراك حلول

فبجانب الفسطاط من غربيه

وُرْقٌ لها بالمنيلين هديل

حيث القصور الشم تزهو حولها

غلب الحدائق والنسيم عليل

والنيل في ثوب المخيلة بينها

يسطو على جنباتها ويصول

متبهنسًا بين الرياض كما حبا

ليث العرين دجا عليه الغيل

يا نيل أنت ثراء مصر وغيثها

والأرض قفر والبلاد محول

بك يرتوي الوادي إذا جف الثرى

ويبل من صادي الفؤاد غليل

وعلى يمينك بالمنيرة حلة

للعلم فيها جمة وحفيل

راقت بها دار العلوم موارداً

تُرْوَى بهن بصائر وعقول

أُمٌّ لنا في المنجبات مهادها

دعم لمجد بلادها وأصول

أم إذا درج الوليد بحجرها

فالدين يرعى والبيان يعول

لله در شبيبة كفلتهم

أم لنا في الأمهات بتول

أخذت علينا منذ أيام الصبا

عهد الكريم وعهدها مسئول

يا أم عندك في القلوب موثق

صدق الوفاء بحبله موصول

الدين عهدك والمكارم بيننا

والعلم والآداب والتنزيل

علمتنا أن الحنيفة ملة

لا نَهْجُهَا وعر ولا مجهول

تهدي إلى سبل الرشاد إذا هوى

المفتون بالإلحاد والتضليل

رفعت منار الحق لا يعيا به

عقل ولا ينجاب عنه دليل

إلا الذين تبوءوا وخم الهوى

فالنهج أعمى والمناخ وبيل

نزعوا إلى دنس الإباحة فانجلى

للناس ذاك المنزع المرذول

مازوا الجديد من القديم وما دروا

أن الجديد من القديم سليل

جلبات إفك في مهالك فتنة

هوجاء كيد غواتها تضليل

دعوى وما ضربوا لنا مثلاً بها

يجري عليه من القياس مثيل

وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها

في العقل فهي على السفاه دليل

إن كان ما زعموا قديمًا ديننا

فليأت منهم بالجديد رسول

أو عَلَّه لغة السماء؟ وإنها ال

قرآن والتوراة والإنجيل

أو ذلك الأدب الذي شهدت له

في كل شعب بالجمال عدول

زخرت به أم اللغات ولم تزل

بعلاه تفترع اللغى وتطول

وسيعلمون إذا الحقيقة أعرضت

أن الضلالة جندها مخذول

وترى الجديد يصيح في حجراتهم

يا قوم عن تلك المهالك زولوا

ما في القديم معابة إن لم يكن

فيه عن السنن السوي عدول

وذر الجديد إذا رأيت سبيله

عوجًا عن الحق المبين تميل

واسلك سبيلك غير ذي عوج ترد

شرع الحياة وصفوها مكفول

يا أم كم من شرعة لك في الهدى

لا وردها رنق ولا مملول

وهديتنا سبل العلوم قواصدًا

فالغور نجد والحزون سهول

دان القريض لنا فأما روضه

فجنى وأما صعبه فذلول

ولنا إذا شئنا جزالة جرول

وإذا نرق فتوبة وجميل

ولربما ملك النديّ خطيبنا

والجمع يبهر والمقام يهول

وإذا كتاب الله عب عبابه

قسمت إليه قراوح وفحول

فهناك منا من إذا شاء انبرى

فدنا المدى وتبين التأويل

يا أم كم لك من يد في شكرها

يعيا المقال ويعجز التفصيل

أحييت أحياء الجزيرة من نمى

قحطان من ولد وإسماعيل

فبكل فصل منك مظهر أمة

من أهلها وبكل يوم جيل

ولو استدار بك الزمان لأصبحت

لك في عكاظ من البيان فضول

لم تقصري عن أهلها في خير ما

صنعوا ولم يردد عليك مقول

أو عاد للزوراء عهد بيننا

هارون يسمع والوفود تقول

لشأوت فرسان القريض إلى المدى

لم يعدك الترتيب والترتيل

هذا مجالك في البلاغة فاسلكي

ما شئت نهجك في البيان ذلول

وارعي تلادك أن يحيط به البلى

فيحول أو ينتابه التبديل

لغة الكتاب وديعة الأحقاب ميراث

إلى الأعقاب عنك يَئُول

من لم يحط بقديمها لم يعتقد

علمًا بمجد الشرق وهو أثيل

وخذي المعاني في جمال جديدها

ما شئت لا حجر ولا تخذيل

وتبختري في الابتداع فإنه

دين أتى بكتابه جبريل

يا أم إن ملأ القريض بحاره

فجرى سريع واستطال طويل

وتساجلت في المرسلات يراعها

فانهل مندفق وفاض سجيل

لم يبلغوا معشار حقك مدحة

فليقصروا إن المرام جليل

أو ما جريت إلى العلى لم تقصري

عن غاية والسابقات قليل

خمسين عامًا أو تزيد قضيتها

والعزم لا واه ولا مفلول

دأبًا على الإخلاص بين حوادث

للدهر تخترم القوى وتغول

طورًا ينازعها البقاء معوق

هو للمعارف والعلوم خذول

وتصيبها غول السياسة تارة

بيد الهوان وللسياسة غول

خصمان مختلفا الهوى فإلى الهدى

هذي وذاك إلى الضلال يميل

لولا دفاع الله عن أنصاره

راحت بها في الذاهبات سبيل

فمضت مضاء البحر ليس يعوقه

وعر ولا يعمى عليه مسيل

تأبى معاتبة الزمان شعارها

صبر يعوذ به الكريم جميل

لم يعنها عرض الحياة وإنه

ظل وإن طال المدى سيزول

ما لي وأيامًا مضين غواشمًا

والدهر ألوى والليالي حول

دار الزمان بمصر دورة مقبل

فالليل أقمر والرياح قبول

وامتد بالدستور ظل سريرها

يرعاه ظل الله وهو ظليل

(بقي 12 بيتًا في مدح الملك والدستور والبرلمان ورجاله ورئيسه ضاقت

عنها الصحيفة) .

_________

ص: 557

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حل أموال أهل الحرب

(س 22) من صحاب الإمضاء في (بيتزرغ - جاوه)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده

ما قول السيد البار بالمسلمين، والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين،

في فتوى بعض العلماء بحل أموال أهل الحرب ، فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها ،

مما كان برضاهم وعقودهم فهو حل لنا مهما يكن أصله ، حتى الربا الصريح؟ !

أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله ،

والتعدي على الحدود التي لم يستثن منها اضطرارًا ولا عذرًا لفاعل؟ كالشرك

والكفر بغير إكراه والقتل عمدًا وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا ونحو ذلك،

لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر ، وتأجيل بعض العبادات لعذر ، كما بينه

الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان ، عدا ما

استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله المؤيد بالتواتر ، والحق

المهيمن بالإجماع والتواطؤ! ! أفتونا بما أمر الله به أن يوصل ، واصدعوا بما

أراكم الله ، والله يتولى الصالحين، والعاقبة للمتقين، لا معقب لأمره وحكمه ، وهو

أحكم الحاكمين.

...

...

مدير جريدة الوفاق ببيتنزرغ - جاوا

...

...

... محمد بن محمد سعيد الفته

(ج) أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها

وأحرزها بأي صفة كان الإحراز ، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في

الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة ، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنًا في حال

من الأحوال ، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيًّا على مال؛ وجب عليه حفظ

الأمانة ، وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن

غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة؛ أفلا يكون حله أولى إذا أخذه

المسلم برضاه ، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين

والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟

إنه لم يظهر لي أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة -

وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب جميعًا - على مال

الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في

علة الحكم لا بضده.

هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام ، وكذا في دار الحرب

بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ

المال من صاحبه برضاه واختياره ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال

بالربا؛ لا يعطي الزيادة برضاه واختياره ، والشرع لم يجعل له حقًّا بأخذها ، فكانت

حرامًا لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل، ولذلك عللت في نص

القرآن بأنها ظلم إذ قال تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا

تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ، وظلم الحربي غير محرم؛ لأنه جزاء على ظلمه،

فإنه لا يكون إلا أشد ظلمًا من المسلم، لأنه يخون ، والمسلم لا يخون، ولأن المسلم

يمنعه دينه من أعمال في الحرب ، ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها كقتل

غير المقاتلين، والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام، ونرى

غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم ، لا المحاربة لهم

فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم.

على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ

منه ، إذا كان بمحض اختياره ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم من كان

اقترض منه بعيرًا بسن فوق سن بعيره كما في الصحيحين، ولو كان ذلك مشروطًا؛

لكان ربا، قال أبو هريرة - كما في البخاري -: إن رجلاً تقاضى رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، فأغلظ له ، فهم به أصحابه ، فقال: (دعوه ، فإن لصاحب

الحق مقالاً ، واشتروا له بعيرًا ، فأعطوه إياه) فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه،

فقال: (اشتروا؛ فأعطوه إياه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء) .

وما رواه الحارث عن علي (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، فسنده ضعيف ،

بل قالوا: إنه ساقط ، فإن راويه سوار بن مصعب متروك يروي المنكرات، بل

اتهم برواية الموضوعات.

لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله ، لما فهمنا قوله فيه:

إن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى ، فقد كتب إلينا أن

بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه ، قد استنكروا الفتوى المسؤول عنها؛ لأنهم

فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي

كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقًا.

وهذا سوء فهم منهم ، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقًا كما تقدم.

ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ

المال بغير حق ، فهل يقيسون إذًا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من

مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها:

عدم إقامة الحدود فيها.

ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون

أن الله تعالى يأمره بأن يدفع لأهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا

وغيره - ولا مندوحة له عن ذلك - ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم

ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى

يوجب على المسلم أن يكون على الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب

عليه أن يكون مظلومًا مغبونًا.

إن تحريم الربا من الأحكام المعقولة المعنى لا من التعبديات ، وما حرم الله

تعالى شيئًا إلا لضرره على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في

نص القرآن؛ بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو

ضرورته إلا بالاقتراض.

والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودًا بين الناس في الجاهلية ، وهو الربا

المضاعف كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور ، ومنه

قول ابن زيد (زيد أحد علماء الصحابة الأعلام ، وابنه من رواة التفسير المأثور) :

(إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل على الرجل

فضل دين ، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني؟ فإذا كان عنده شيء

يقضيه؛ قضى ، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي

في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي في السنة الثالثة) ، ثم حقة (أي ابنة

السنة الرابعة) ، ثم جذعة (في الخامسة) ، ثم رباعيًا (وهو ما ألقي رباعيته ،

ويكون في السنة السادسة) ، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي الذهب والفضة)

يأتيه ، فإن لم يكن عنده؛ أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده؛ أضعفه أيضًا،

فتكون مائة ، فيجعلها إلى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده؛ جعلها أربعمائة،

يضعفها له كل سنة أو يقضيه) . اهـ من تفسير آية آل عمران.

وضرر هذا عظيم ، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب

القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط.

وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور ،

وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة ، وفيه ورد حديث: (لا ربا إلا

في النسيئة) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد

مرفوعًا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ:(إنما الربا في النسيئة) ، وفي

لفظٍ: (ألا إنما الربا في النسيئة) ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث؛

فلسد الذريعة كما نص عليه المحققون.

وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل ، فلا نعود

إليها هنا ، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد ، ولا

تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها؛ فلا يعملن بها.

_________

ص: 575

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المراد بالطعن في الدين

وكون مخالفة القرآن كفرًا

(س 23و24) لصاحب الإمضاء في دمشق الشام ، بنصه على غلطه في

عبارته.

لجناب الفاضل صاحب مجلة المنار الأستاذ رشيد رضا المحترم.

قد وصلني جزء المنار الخامس ، فقرأت فيه قرار النيابة العامة عن كتاب

الدكتور طه حسين ، وما علقه المنار عليه ، وإذ لم أتيسر للحصول على نسخة من

الكتاب المذكور ، حيث منعته الحكومة؛ لم أقرأ منه إلا ما طبعته جريدة الميزان في

دمشق ، ولكني مع ذلك سأوجه لكم الكلمات التالية فيها سؤالان ، أرجو إجابتكم

إياهما في المنار.

ولربما تتعجبون من ذلك كما تعجبتم مرة من قبل عند ما سألتكم بعض الأسئلة ،

فجاوبتم عليها في المنار، ولا بد أن سبب تعجبكم هو الفكر الغارس فيكم أنه من

واجبات المبشر المسيحي أن يطعن في الإسلام، ولكني أتأمل أن المستقبل سيزيل

هذا الفكر عنكم وعن بقية المسلمين ، فيدرك الجميع أن المسيحي لا يبشر بالمسيح

بين المسلمين إلا لاعتقاده بوجود بشارة في ديانته المسيحية ليس لها وجود في

الإسلام ، ولا يمكن وجودها فيه ، مع كل ما يحتويه القرآن من الأوامر والنواهي

المفيدة ، حيث يرفض الاعتقاد بموت المسيح على الصليب ، وقيامته من بين

الأموات.

وذلك ليس فقط اعتقاد بولس كما يقال ، ولكنه يظهر بكل وضوح من سفر

أعمال الرسل، ومن رسائل بطرس ويوحنا أن موت المسيح وقيامته هما محور

تعليم الرسل، فأساس الديانة المسيحية منذ الأول، ولكن ليس قصدي هنا أن أطيل

الكلام في هذا الموضوع؛ بل أتقدم إلى السؤالين الناتجين عن قراءتي جزء المنار

الخامس.

وأولهما: ما هو معني الطعن في الدين؟ إنه ليس من أمري ، ولا من

مقدرتي أن أحكم فيما إذا كانت استنتاجات الدكتور طه حسين ثابتة أم لا علميًّا،

ولكنه - بحسب ما يفهم من كتابه - وصل إليها عن مبادئه العلمية ، دون غاية

أخرى ، فهل يجوز تسميتها طعنًا في الدين؟ أليس معنى الطعن نوعًا من الاستهزاء

والاحتقار؟ أما إذا كان طعنًا كل ما يقال عن ديانة خلاف عقائدها؛ فكيف نتجنب

عنه في بلاد يسكنها المسلم بجانب المسيحي واليهودي ، وكل منهم لا يعتقد بعقائد

الآخر ، بل يرفضها؟ أفيكون كل ما يقولونه عن دين بعضهم لبعض طعنًا ، وهم

يتكلمون به عن ضمير صالح وإن كانت أدلتهم غير مقبولة وغير مسلم بها عند

الخصم؟ أما الطعن إذا كان بمعنى الاستهزاء والاحتقار؛ فيمكن التجنب عنه؛ بل

هو واجب.

وسؤالي الثاني هو هذا: إذا وصل مسلم في أبحاثه العلمية إلى نتيجة تخالف

شيئًا من تعاليم القرآن أو من العقائد الإسلامية ، فهل يحسب لذلك كافرًا أو طاعنًا في

الدين ، ولو كان لم يزل يعتبر نفسه مسلمًا في الأمور الدينية والأدبية؟ وهذا السؤال

يهمني جدًّا جوابه؛ لأنني بصفتي مبشرًا مسيحيًا ، لا أريد أن أقول عن مبادئ

الإسلام ، ولا أن أفتكر عنها غير ما هو مُسَلَّم به من أهله، ولا يبعد عني الفكر أن

المسلمين المتنورين بعد مدة وجيزة سيغيرون اعتقادهم في القرآن ، فيميزون فيه

بين الأمور الدينية والأدبية من جهة ، وبين الأمور التاريخية والعلمية من جهة

أخرى، كما صار أيضًا بين المسيحيين؛ لأن كثيرين من المسيحيين اليوم يختلفون

عن مسيحيي القرن الثامن عشر في أفكارهم عن عصمة الكتاب المقدس ، مع أنهم لم

يزالوا يشاركونهم بالإيمان بالمسيح كمخلص العالم ، والوسيط الوحيد بين الله

والناس.

ويوجد بعض الدلائل لحدوث تغيير كهذا في العالم الإسلامي ، كالذي يعمله

الأتراك اليوم ، أو كالذي نجده في بعض المجلات الإسلامية العصرية كمجلة

Revue Islamic حيث يقال في العدد الأخير إن قصة آدم لربما مجازية ، ولا

واقعة تاريخية.

قد باحثت في هذه الأمور بعض المسلمين الأتقياء المتفكرين من الذين لا

يرفضون البحث مع مبشر مسيحي ، ولكني للتخلص من المشاكل العلمية في القرآن

لم أجد عندهم غير فكر التأويل؛ لأنهم لا يريدون أن يسلموا بوجود غلطة واحدة في

القرآن من أي نوع كان، وإلى الآن لم أجد أحدًا يعرف بإمكان بقاء المسلم مسلمًا

تقيًّا إذا أوصلته دروسه العلمية إلى نتيجة تخالف نص القرآن ، كمسألة وجود

إبراهيم أو عدم وجوده التاريخي.

قد يكون للمنار أسباب أخرى لتسمية الدكتور طه حسين بكافر ، ولكن سؤالي

هو هذا فقط: إذا قال عالم مسلم بعد دروس علمية بعدم وجود إبراهيم التاريخي ،

فهل بطل إسلامه؟ أم بصورة أخرى: هل يجب على المسلم أن يعتبر كل ما يقال

في القرآن من الأمور التاريخية والطبيعية أساسًا متينًا ، لا يجوز له أن يخالفه

بشيء؟ ودمتم.

...

...

...

القسيس ألفريد نيلسن الدانيمركي

(المنار)

ما ذكرتم في مقدمة السؤال من توقع تعجبي من سؤالكم؛ فخطأ، وما قلتم في

الدفاع عن المبشرين ، وتبرئتهم من الطعن في الإسلام ، فقد طعن فيه بعضهم

بالمعنى الذي به فسرتم الطعن، وكذلك قولكم: إن المسيحي لا يبشر بالمسيح

بين المسلمين إلا لاعتقاده.... فقد عرفنا من بعض المبشرين أنهم كانوا مستأجرين

للتبشير ، فلما وجدوا رزقًا من طريق آخر؛ تركوه البتة، وقولكم فيها: إن كتاب

أعمال الرسل ورسائل بطرس ويوحنا تثبت موت المسيح وقيامته ، لا يقوم حجة على

المسلمين؛ لعدم ثبوت هذه الرسائل عندهم ، وأنتم لا يمكنكم إثباتها بالتواتر إلى

مؤلفيها ، كما علم مما كتبه علماء أوربة المحققون في تاريخها.

أما الجواب عن السؤال الأول وهو: ما معنى الطعن في الدين؟ فهو أن

الطعن في أصل اللغة قد وضع لمعناه الحسي المعروف وهو الطعن بالرمح أو

الحربة ثم أطلق على الذم والهجو والتكذيب والتحقير القولي الذي يؤذي المطعون

فيه إيذاء نفسيًّا ، كما يؤذيه الطعن بالرمح أو الحربة إيذاء بدنيًّا، وما كتبه طه

حسين في كتابه المذكور قد آذى المسلمين وآلمهم ، فصدق عليه أنه طعن في دينهم.

فالمسألة من المسائل التي تعرف بالبداهة، وأما إذا نقل أحد من النصارى أو

المسلمين أو اليهود نصوصًا من كتب الآخرين مع الأدب في العبارة ، وبحث في

أدلتها، وقال: إنها لم تصح عنده أو عند أهل ملته ، وإن ما يعارضها عنده هو

الذي يعتقدون صحته ، فإن هذا لا يعده أحد طعنًا، ومنه ما كتبه السائل في مقدمة

سؤاله هذا ، وما رددناه به ، فهو ليس طاعنًا في الإسلام بتلك العبارة ، ولا نحن

طاعنون في النصرانية بردها.

وأما الجواب عن الثاني ، فهو أن من يعتقد اعتقادًا مخالفًا لنص القرآن القطعي

الدلالة عالمًا غير متأول ، بحيث يعتقد أن خبر القرآن غير حق؛ فلا شك أنه لا يعد

من جماعة المسلمين.

فمن أنكر وجود آدم أو إبراهيم وإسماعيل؛ فهو كافر لأنه مكذب لكلام الله

تعالى، لا من تأول قصة آدم في معصيته وتوبته وسجود الملائكة له إلا إبليس ،

وما ورد في شأن إبليس من التخاطب مع الرب عز وجل ، فقال: إن كل خطاب

فيها تكويني لا تكليفي ، وإنها تمثيل لسنن الله تعالى في النشأة الآدمية البشرية، فمن

يقول بهذا (وقد قال به بعض علماء المسلمين كما تراه في تفسيرنا) ؛ لا يعد مكذبًا

للقرآن كمنكر وجود آدم وإبراهيم وإسماعيل بشبهة عدم ثبوت وجودهم بدليل علمي ،

فإنه ليس من شأن قواعد العلم العقلي أو الطبيعي إثبات وجود زيد وعمرو ، أو

نفيه كما سيأتي.

وهذا الذي صدر عن مصطفى كمال باشا ورجال حزبه من الترك كفر محض ،

وارتداد عن الإسلام ، لا شبهة فيه ، وهم يقصدون به هذا الارتداد بغضًا في

الإسلام وعداوة له، وأما السواد الأعظم من الشعب التركي ، فلا يزالون على دين

الإسلام وتقاليده كما عرفوها ، وهم يتربصون الدوائر بهؤلاء الذين يجبرونهم على

الكفر بقوة الشعب ومال الشعب وجند الشعب.

وأما ما ارتأيته أن المسلمين المتنورين سيغيرون اعتقادهم في القرآن بعد مدة

وجيزة ، فيميزون بين الأمور الدينية والأدبية من جهة، وبين الأمور التاريخية

والعلمية من جهة أخرى، فيجعلونه معصومًا في الأولى دون الثانية ، كما فعل

النصارى؛ فهو بعيد ، وإنما قربه إلى ذهنك قياس الإسلام على النصرانية ، وقياس

القرآن على العهدين القديم والجديد، والفرق بين الأمرين مثل الصبح ظاهر،

وفرضك إمكان قيام أدلة علمية تنفي وجود إبراهيم عليه السلام غير معقول؛ لأن

هذا النفي ليس مما يثبت بالعلم.

فإن وجود إبراهيم وإسماعيل متواتر عند الإسرائيليين وعند العرب ، وإن

نازعنا منازع في التواتر التاريخي المتصل ، وفي الأنساب المتسلسلة به المثبتة له

علميًّا ، فلا يمكن الإتيان بدليل ينفي وجوده علميًّا؛ لأن نفي وجود شيء في القرون

الخالية لا يمكن إلا إذا كان وجوده محالاً عقلاً، ووجود رجل اسمه إبراهيم غير

محال عقلاً، وقد جاء خبر الوحي مؤيدًا لخبر البشر المشهور أو المتواتر ، وهو

أقوى منه متى ثبتت صحة الوحي ، وهي ثابتة عند أهلها ، فإذًا لا يمكنهم الجمع

بين التصديق بالوحي ، وإنكار وجود إبراهيم.

نعم قد يوجد شبهات تاريخية قوية تعارض إثبات وجود رجل مشهور خبره

غير متواتر ، أو تُعارِض دعوى تواتره ، كقول بعض من أنكر وجود المسيح عليه

السلام: إن يوسيفوس مؤرخ اليهود الشهير لم يذكره في تاريخه ، مع أنه كان في

العصر الذي قالوا إنه وجد فيه ، وقد ذكر من تاريخ اليهود ما هو دون مسألة وجود

المسيح ، فليس من المعقول أن يحفل بتلك الأخبار الصغيرة ، ويسكت عن هذا النبأ

العظيم الذي هو أهم ما عزي إلى تاريخ قومه عندهم ، إذ كانوا كلهم ينتظرون قيام

المسيح ، ولا يزالون كذلك إلى اليوم.

وقد رددنا هذه الشبهة بأنها أمر سلبي ، قد يكون له علة أقربها إلى التصور أن

هذا المؤرخ لم يصدق دعوى المسيح؛ فأحب أن لا يذكرها لئلا تكون فتنة لبعض

قارئي كتابه ، فيكون كالداعية له.

ومثل ذلك إنكار بعضهم لوجود (هوميروس) شاعر اليونان ، وزعمهم أنه

رجل خيالي ، نسب إليه ذلك الشعر الكثير البليغ ، ولا بدع في ذلك ، فالقصص

الخيالية والأبطال الخياليون مما عهد وكثر في تاريخ الإغريق، ومثله (مجنون

ليلى) في تاريخ العرب ، المشهور أنه رجل من بني عامر اسمه قيس كان يعشق

امرأة اسمها ليلى ، وجن بحبها؛ فلقب بمجنون ليلى ، وشبب بها بأشعار اشتهرت

في الأدب العربي شهرة واسعة ، وقيل: إن هذه الأشعار لرجل من بني أمية نسبها

إلى قيس العامري؛ لأجل إخفاء اسمه.

بقي شيء لا ينكره علماء المسلمين ، وهو يقرب مما عليه أهل الكتاب في

التفرقة بين ما جاء به الدين من أصول الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعالم الغيب،

وأصول الآداب الدينية والعبادات ، وأحكام التشريع - وبين ما يذكر في الكتب

الإلهية من أمور الخلق والتكوين وأحوال المخلوقات العلوية والسلفية.

وذلك أن القسم الأول هو المقصود بذاته؛ لإصلاح أمور البشر ، وتزكية

أنفسهم ، وتهذيب أخلاقهم ، وإعدادهم لحياة أعلى من الحياة الدنيا ، فهو يؤخذ برمته

لذاته ، كما أمر الله ورسله.

وأما القسم الثاني فإنما يذكر في الكتب الإلهية؛ لبيان آيات الله في خلقه الدالة

على وحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته ، وسائر صفات الكمال الثابتة له، ولأجل

الموعظة والعبر ، ولا يراد من ذكرها ما يريده أهل الفنون والصناعات ، ولا

مدونو التواريخ من بيان حقائق أمور العالم العلوي والسفلي بقدر الطاقة التي

توصلهم إليها أبحاثهم ، كعدد الكواكب وأبعادها ومساحتها وحركاتها وطبائع المواليد

الثلاثة ، وسنن الله فيها ومنافعها ومضارها ، وغير ذلك مما جعل الله في استطاعة

البشر الوصول إليه ببحثهم وحدهم ، بدون توقف على الوحي الإلهي.

ويرى السائل هذا المعنى في الجزء الأول وغيره من تفسيرنا ، فإذا وصل

بحث الباحثين في أمور الكون إلى حقيقة مخالفة لظاهر الوحي فيها ، وصار ذلك

قطعيًّا؛ وجب تأويل عبارة الوحي فيها بحملها على التجوز أو الكناية أو مراعاة

العرف ، كغروب الشمس في العين أو البحر مثلاً ، وتخبط الشيطان للمصروع في

قول.

ونعتقد نحن معشر المسلمين أن من مزايا كتابنا أنه ليس فيه نص قطعي

الدلالة يمكن أن ينقضه دليل عقلي أو علمي قطعي ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية

وغيره ، ولا يستطيع أهل الكتاب مثل هذه الدعوى في كتبهم.

ولكن المسلمين على موافقة كتابهم وقطعيات دينهم للعقل ، وعدم تعارضهما

مع العلم قد استحوذ على أكثرهم الجهل به من الجهتين الروحية والاجتماعية ، فلا

يشعرون بالحاجة إلى الاعتصام به كما يشعر أكثر النصارى في الغرب بالحاجتين ،

ويبذلون الملايين في خدمة دينهم ونشره ، على ما في نصوص كتبه من مخالفة

العقل والعلم التي لم يسعهم إنكارها، حتى قال أعظم رجل فيهم: إنه لا يضرنا

ثبوت اقتباس شريعة موسى من شريعة حمورابي ، ولا يحملنا على ترك هداية

الكتاب المقدس؛ إذ لا يوجد لدينا كتاب غيره تعرف فيه الرب إلى خلقه بصفوة

أنبيائه ورسله - أو ما هذا معناه.

_________

ص: 578

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سعد زغلول

(1)

فطرته واستعداده - تربيته العقلية والنفسية - تعليمه - ونتيجة ذلك

إن اسم (سعد زغلول) أو (سعد) وحده قد صار أشهر وأكبر - وهو

غفل من الألقاب والنعوت - من كل ما تتحلى به أسماء العظماء وتحلى هو به

من لقب ونعت كالزعيم والرئيس الجليل وذي الرياستين والوزير الخطير

ورئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب؛ أعني أن جميع طبقات الناس صاروا

يعدون شخص الرجل أكبر وأعلى بصفاته ومزاياه الذاتية، من كل المناصب

الرسمية وغير الرسمية التي وصل إليها. ذلك بأن هذه المناصب قد تحلى بها

غيره، ولم يكن لأحدٍ منهم معشار ما بلغه من إجلالِ أمته وغير أمته له.

وعدتُ بأن أكتب شيئًا في ترجمة سعد يليق بمشرب المنار، وقد كان

يخطر بالبال أن اضطراري إلى تأخير إنجاز الوعد يجعلني مضطرًا للاقتباس

مما كتبه غيري لأن جمهور الكتاب من تاريخيين وسياسيين ومترسلين

وجمهور الشعراء المفلقين قد تسابقوا إلى تأبين سعد ورثائه وكتابة تاريخه

ببلاغة رائعة وعناية تامة، شارك فيها المصريين سائر الشعوب العربية من

فلسطين إلى سورية إلى العراق إلى عمان وجزيرة العرب في الشرق ومن

تونس والجزائر إلى مراكش في الغرب.

ناهيك بحفلة التأبين الكبرى في العاصمة وما قاله فيها الوزراء والرؤساء،

ومصاقع الخطباء وخناذيذ الشعراء، وبتراجم الجرائد الكبرى وما توخاه

محرروها من الاستقصاء.

حضرت حفلة التأبين الكبرى وسمعت ما قيل فيها مما أبكاني وأبكى

جمهرة الحاضرين، وقرأت كثيرًا مما نشر في أشهر الجرائد، ولا أدعي أنني

قرأتُ كل ما كتب في الصحف التي ترسل إليَّ وهي تعد بالعشرات، دع ما لا

يرسل إليَّ منها وهو أكثر؛ ولكنني على كثرة ما سمعت وقرأت قد بقي لي ما

أقوله مبتدئًا غير مقتبس، ومبتكرًا غير منتزع، بَيْدَ أنَّه لا بد من مزجه بغيره

مما قد يعرفه كل أحد.

ومن الغريب أن جميع من وقفت على كلامهم قد قصروا في بيان أهم

شيء في تاريخ الرجل وهو تربيته وتعليمه مع إجماعهم على أن التربية

والتعليم هما بعد الاستعداد الفطري كل شيء، على أنهم قصروا في الكلام

على استعداده أيضًا كما قصروا في الكلام على إيمانه بالله عز وجل الذي هو

السبب الأكبر في كل ما رأوا من شجاعته واستهانته بالمصائب، واهتمامه

بمعالي الأمور وعزوفه عن سفسافها، نعم إنهم قصروا فيما يجب بيانه من

هذه الأمور الأربعة وهي البذرة والجرثومة فالشجرة، وكيف نبتت واستوت

على سوقها ورسخ أصلها وعلا في المساء فرعها، فأينعت ثمراتها، وآتت

أكلها ضعفين بإذن ربها. وحق المنار على قرائه أن يتلافى هذه التقصير ويتم

ما كتب غيره في موضوعه.

***

(1)

نفس سعد وفطرته

قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (الناس معادن كمعادن الذهب

والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري.

في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في

جواب مَن سألوه عن أكرم الناس وأرادوا معادن العرب وأنسابها. وقوله:

(كمعادن الذهب والفضة) من زيادة رواية العسكري. والمعنى أن الناس في

اختلاف استعدادهم للخير والشر كما في رواية أبي داود الطيالسي للحديث

معادن بعضهم كالذهب والفضة في صفاء جوهره وجماله وبقائه وقلة قبوله

للخبث والصدأ، وبعضهم كالزنك والقصدير في ضعف مادته وسرعة قبوله

للصدأ والتلف، وبعضها كالنحاس والحديد بين ذينك وذين، وقد كان سعد ذا

مزايا فطرية ووراثية يعد بها جوهر نفسه من أزكى النفوس، وعقله من أذكى

العقول، كان ذكي الفؤاد شجاع القلب دقيق التمييز عظيم الإقدام عالي الهمة،

يحب المعالي ويحتقر الصغائر، عرفت فيه هذه الصفات الفطرية من صغره،

وتجلت تمام التجلي في كبره، فكانت هي الأصل في استفادته مما صادفه من

حسن التربية والتعليم، وقد روى الطبراني في الكبير من حديث الحسين بن

علي مرفوعًا وحسنه (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره

سَفسافها) .

ولد سعد سوي الخلق، جميل الصورة، تام البنية، كبير الدماغ، مستعدًّا

لتربية يكون بها من عظام الرجال، وهو من عرق عربي أصيل ورث عنه

الشجاعة والإقدام، وغريزة الحرية والاستقلال، ولم يكن يحتاج إلا إلى رجل

حكيم جمع بين العلم الصحيح ومكارم الأخلاق وعلو الهمة وشرف المقصد

يربي فيه هذه الغرائز وينميها ويصقل معدنها ويضعه حيث ينتفع به، وكم وكم

يولد في الأمة من أطفال أزكياء الفطرة فيفسد فطرتهم سوء التربية؛ كما

يوضع المعدن النفيس في السبخة، فيعلوا طبعه الطبع، إلى أن يأكله الصدأ.

***

تربيته وتعليمه

إذًا إن خير ما قيضه الله لسعد فكان بعد ما ذكرنا من استعداده سببًا لكل

ما ظهر منه من المزايا أن ساقه في أول نشأته إلى كنف نادرة الزمان المصلح

الكبير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عند ما أراد طلب العلم في الأزهر،

ولم أسأله ولا سألت شيخنا وشيخه عن أول أمره فيه ولكنني علمت منهما أنه

لم يكن يعجبه درس غير درس الأستاذ الإمام بعد أن اعتاده، فسعد قد جلس

إلى كثيرٍ من شيوخ أستاذه وغيرهم من شيوخ الأزهر ولم يستفد إلا من واحدٍ

منهم ولم يتخرج إلا به؛ بل كان كثيرًا ما يجلس إلى تلك الدروس مختبرًا

للشيوخ والطلبة منتقدًا عليهم في نفسه تارةً وبلسانه تارةً كما سمعت من لسانه،

وسأنشر في هذه الترجمة بعض مكتوباته المصرحة بذلك.

قال لي مرة: علمت أن الشيخ أحمد الرفاعي يقرأ درسًا في المنطق -

لعله قال شرح السلم أو إيساغوجي - فجلست في درسه لأعلم كيف يقرأ علمًا

هو في عقله من أبعد الناس عنه، فإذا هو يبدي احتمالين في إعراب عبارة

يقتضي أحدهما بطلان القاعدة المنطقية التي يقررها وهي كون القضية الكلية

السالبة تنعكس جزئية ولا يطرد عكسها كلية فلا يصح. فقلت له: يا سي

الشيخ إن هذا الإعراب يبطل القاعدة من أساسها فلا يصح أن يكون مرادًا.

فقال: ما لنا؟ هم العلماء قالوا إذا صح الإعراب صح المعنى؟ فعجبت لأستاذ

يقرر بطلان قواعد العلم القطعية فيه بإيراد احتمال في إعراب عبارة مؤلف

فيه! أو ما هذا معناه.

وقال لي مرة إنه حضر له درسًا آخر في علمٍ آخر - لعله السعد أو جمع

الجوامع - فاستمر الدرس ساعتين كاملتين (قال) ولم أحضره من أوله،

وكان موضوعه مسألة واحدة لم يستقر ذهن الشيخ على فهم رضيه فيها إلا

بانتهائه، وهنالك تنفس الصعداء وقال الحمد لله، هذه المرة فهمناها في درس

واحد، وقد قرأت هذا الكتاب مرتين قبل هذه، فأما الأولى فقد استغرق بحثنا

في هذه المسألة ثلاثة دروس مثل هذا الدرس، وأما الثانية فقد فهمناها في

درسين مثله في طوله. قال سعد فقلت له: ياسي الشيخ لِمَ لَمْ تكتبوا الحل الذي

فهمتوه في المرة الأولى أو الثانية بعد ذلك التعب الطويل فيها ليستغنوا عن هذا

التعب في كل مرة؟

وإننا رأينا بعض الجرائد تذكر أن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى

كان من أشياخه كفلان وفلان، نعم وكان من أشياخ شيخه أيضًا؛ ولكن هل

علم أولئك الكاتبون بما استفاده من فلان وعلان؟ ولَمْ أَرَ أَحَدًا منهم بين أن

أستاذه الذي تخرج به هو فلان؛ بل ذكروا أو ذكر بعضهم أنه كان يحضر مع

(صديقه) الشيخ محمد عبده دروس الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني،

والسيد لم يكن يقرأ إلا دروسًا عالية في الفلسفة والكلام والأصول، ذكرنا

كتبها في تاريخ الأستاذ الإمام؛ إذ كان سعد مبتدئًا لم يستعد لحضور تلك

الكتب؛ ولكنه كان يختلف إلى مجلسه بالتبع لأستاذه فيستفيد منها علمًا وحكمة

وأدبًا وسياسة؛ لأن مجالس السيد رحمه الله كانت كلها كذلك كما قلت في

المقصورة الرشيدية:

وأشرع الطريق للإصلاح من

علم وحكم ولسان وحجا

بما أفاض من هوامي حكمة

قد زانها فصل الخطاب ونثا [1]

في خطب يُحْيِي القلوب وقعها

وتكشف الخطب وتبعث الرجا

وفي دروس كتب أحيا بها

من دارس العلوم ما كان عفا

وفي آمالي بها أنشأ من

معالم الإنشاء ما كان أمحي

يقبسهن في ثبا [2] من داره

مريده والشمس في رأد الضحى

ثبا له ينحوه أهل الرشد ما

بين ثبات وفرادى وثنى

وفي كؤوس سمر يديرها

في سامر (البورصة) ما الليل سجا [3]

لا لغو بين شربها يخشى ولا

غول فيغتال الجسوم والنهى [4]

تنازعوها حيث لا تنازع

صرفا بأفواه العقول تحتسى

كان سعد زغلول مريدًا للأستاذ الإمام لا تلميذًا فقط، أعني أنه كان ربيبه

ولا يصح لكل من حضر دروسه أن يدعي أنه مريده ولا ربيبه، وكان هو

يعبر عن نفسه في مكتوباته للإمام بالمريد، وهذا اللقب من اصطلاح الصوفية

الذين كان مدار التربية الروحية عندهم على تربية الإرادة. وتربية الإرادة هي

التي يكون بها الرجل رجلاً حرًّا من الرق والعبودية لغيرِ الله عز وجل طليقًا

من الأسر؛ أسر الشهوات والأهواء، فلا تكون إرادته خاضعة إلا لاعتقاده،

ولا يتصرف فيها ملك من الملوك، ولا يستخذي لناسك من النساك؛ بل يأبَى

أن تذل ويخزَى لسلطان الجمال أيضًا.

وكان منهاج الأستاذ الإمام في التربية أن تكون غاية التأديب والتثقيف

حرية الإرادة وقوية العزيمة، ومنهاجه في التعليم أن تكون غايته حرية الفكر،

واستقلال العقل في الحكم، ويدخل في هذا تعليم الدين فقد كان منهاجه فيه

الرجوع إلى مذهب السلف الصالح، وفهم الدين من الكتاب والسنة كما كانوا

يفهمون، والاهتداء به في الأخلاق والعمل كما كانوا يهتدون، والتوسل إلى

ذلك بتحصيل ملكة اللغة العربية قَوْلاً وكِتَابَةً وخَطَابَةً عن فَهْمٍ وذَوْقٍ للكلام

العربي الفصيح بكثرة مزاولته مع الاستعانة بأحسن ما كتب في فنونه. وجعله

صديقًا للعلم وعونًَا له على إصلاح البشر، وكان يمزج التربية والتعليم بشيء

من السياسة يرى أنه لا تتم إنسانية المرء ولا كونه حرًّا مستقل الإرادة والفكر

بدونه، وهو الدعوة إلى استقلال الأمة وحريتها، وعدم استبعاد حكامها لها.

ويدخل في هذا الروح السياسي مسألة الوطنية واتفاق أهل الوطن على

مصالحهم الوطنية من غير جناية على الهداية الدينية.

وقد كتب فيما شرع فيه من ترجمة نفسه هذه المقاصد قال: وارتفع

صوتي بالدعوى إلى أمرين عظيمين: (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد،

وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب

معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها

الله لترد من شططه، وتقلل من خبطه وخلطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام

العالم الإنساني، وإنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في

أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، ومطالبًا بالتعويل عليها في

آداب النفس وإصلاح العمل. وكل هذا أعده أمرًا واحدًا.

وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم

الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن

هو في ناحيتهم.

(وأما الأمر الثاني) فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء

كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره

الجرائد على الكلفة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين

الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه

الذوق وتنكره لغة العربي؛ إلخ.

(ثم قال) وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جميعًا في عمى

عنه وبعد عن تعقله؛ ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية،

وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز

بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة

على الحكومة؛ نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على

حاكمها وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد

على عشرين قرنًا - دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو

من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يقف

طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل.

جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه

والظلم قابض على صولجانه

ويد الظالم من حديد

والناس كلهم عبيد له أيّ عبيد ا. هـ

كان سعد أيام طلبه للعلم في حجر الإمام وكنفه كولده لا كسائر تلاميذه

فكان يستفيد من علمه وعمله، ومن أخلاقه وشمائله، ومن فصاحته وبلاغة

كلامه، فشبَّ بين يديه كاتبًا خطيبًا أو أديبًا سياسيًّا، وطنيًّا إسلاميًّا.

لأجل هذه النزعة السياسية نفى الخديو توفيق باشا الأستاذ الإمام من

القاهرة إلى بلده محلة نصر في الغربية عقب نفي أستاذه السيد الأفغاني إلى

الهند، وكان يعلم أنهما قد بثا في مريديهما فكرة الحكومة النيابية الدستورية

في الحزب الوطني الذي ألفه السيد وكان سببًا لإسقاط إسماعيل باشا بالتواطؤ

مع ولي العهد توفيق باشا الذي كان انتمى إلى هذا الحزب وعاهد رئيسه السيد

على أن يجعل حكومة مصر نيابية إذا آل أمرها إليه إلخ ما بيناه بالتفصيل في

الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الذي سيصدر عن قريب إن شاء الله

تعالى، ثم انقلب على الحزب وزعيمه بدسائس الطامعين في ملكه وهو لا

يدري.

وأعجب من هذا أن توفيق باشا أبى على الأستاذ الإمام ما طلبه بعد

عودته إلى مصر بانتهاء مدة نفيه من أن يكون مدرسًا في مدرسة دار العلوم

لئلا يربي طلابها على أفكاره الاستقلالية - وأمر البلاد في أيدي المحتلين لا في

يده - وأمر بعد العفو عنه بأن يجعل قاضيًا في المحاكم الأهلية؛ ولكن في غير

القاهرة فقال الأستاذ لوزير الحقانية لما عرض عليه ذلك إنني لم أُخْلَقْ قاضيًا

وإنما خُلِقْتُ معلمًا، على أنني أعلم إذا دخلت القضاء أرتقي إلى أعلى درجة

فيه وأن التعليم ليس فيه ارتقاء.

هكذا كان شيخنا الأستاذ الإمام، وشيخه السيد الأفغاني موقظ الشرق

وحكيم الإسلام، يعلمان ويربيان مريديهما ويعدانهم لكل إصلاح. كانا يشبهان

في استفادة الناس منهما الكون الأعظم أو العالَم الكبير: سماؤه وما فيها من

النيرات، وأرضه وما فيها من جماد ونبات وحيوان، كل أحد يأخذ عنهما كما

يأخذ عن الكون ما هو مستعد له بفطرته، وبما توجهت إليه نفسه في تربيته،

وكانت مجالسهما وأوقاتهما كلُّها عِلْمٌ وحكمة كعالم الكون الأكبر لا تحجب عن

أحد، فكانت صيقلاً لمعادن مريديهما تعدها للنفع والفائدة للناس، والقيام بما

يتيسر للمرء من المصالح العامة، وقد كان تعليم سعد دينيًّا أدبيًّا سياسيًّا،

فعرض له أن يكون محاميًا في المحاكم الأهلية ففاق جميع المحامين؛ بل كان

أول من جعل لهذه المهنة قيمةً واحترامًا لم يكونا لها من قبله، ثُمَّ طفر

منها إلى أعلى درجة في القضاء الأهلي فكان مستشارًا في محكمة الاستئناف

في الذروة العليا منها، وتعلم اللغة الفرنسية وقوانينها في أثناء اشتغاله بها،

وذلك أن مَن كان مريدًا للأستاذ الإمام يصلح لما تَعَلَّمَ الوسائلَ له، ولِمَا لم

يتعلم وسائله. قال لي الأمير شكيب أرسلان الشهير: قلت لأستاذنا الإمام إن

الدولة عَرضت عليّ أن أكون مديرًا للمعارف في ولاية بيروت فامتنعت

معتذرًا بأن استعدادي للأمور الإدارية العامة لا للتعليم - فعذله الأستاذ عذلاً

شديدًا لقوله إنه غير مستعد لإدارة التعليم وإنني أنقل هنا كتابًا من كتب سعد

لأستاذه ليقف القارئ منه على ما كان من أثر تربيته له في نفسه، وسأنقل

غيره أيضًا إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

نثا الشيء ينثوه أظهره.

(2)

الثبا بالضم المجلس الذي يحوي الأكابر.

(3)

السامر محل السمر وهو الحديث في الليل والمراد به مَقْهَى كان يسمى (قهوة البورصة) بجوار حديقة الأزبكية.

(4)

الشرب بالفتح جماعة الشاربين والغول بالفتح ما في الخمر من السم الذي يغتال العقل ويزيله، وهو ما يسمى في عرف الأطباء بالكحول أو الألكول.

ص: 584

الكاتب: سعد زغلول

‌أول كتاب من سعد إلى الأستاذ الإمام

بعد عودته من أوربة إلى بيروت

أيام النفي بعد الثورة العرابية

من مصر 24 ربيع الآخر سنة 1300 إلى بيروت

مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله معاده؛

بعد تقبيل الأيدي الكريمة ، قد ورد الكتاب الكريم على طول تشوقنا إليه،

فتلوناه ووعيناه في الفؤاد، وحمدنا الله تعالى على أن شرفتم تلك الديار سالمين،

مبالغًا في إكرامكم والاحتفال بكم من كرام أعيانها المسلمين، وأماجد نبهائها

المؤمنين، جزاهم الله عن كل مصري يعرف مقداركم خير الجزاء.

ولهم منا معشر أتباعك ومريديك بما تقبلوك به من كريم الاحتفال، وعظيم

الإجلال ألسنة مرطبة بالثناء عليهم، وضمائر مطوية على مزيد احترامهم وفائق

تعظيمهم.

صحتي البدنية معتدلة ، أما فكري فقد تولاه الضعف من يوم أن صدع الفؤاد

بالبعاد، وتمثلت فيه بعد تلك الحقائق التي كنت تجلو مطالعها معان، نعرفها أوهامًا

يضيق بها الصدر ولا ينطلق بردها اللسان؛ مخافة فوات مرغوب، أو لحاق مكروه

مما تعلمون.

توجهت إلى البيك صاحب تاريخ العرب وسألته إعارته فأجاب بأن محمود

سامي أخذه منه وسافر ، ولم يرده إليه، ثم هو يسلم عليكم أطيب السلام ويقول:

إنه مستعد لخدمة جنابكم في أي شيء تريدون حسيًّا كان أو معنويًّا.

وسأتحرى هذا الكتاب في كتب سامي عند بيعها فإذا وجدته فيها؛ اشتريته،

وأرسلته في الحال إلى حضرتكم أو أحضرته معي إن وافق ذلك استجماعي لوسائل

السفر.

الحال العمومية على ما تركتها، غير أن الناس أخذوا في نسيان ما فات من

الحوادث وأهوالها، وقلَّت قالتهم فيها، وخفت شماتة الشامتين منهم، وأصبح

المادحون للإنكليز من القادحين فيهم وبالعكس، والكثير يتوقع انقلابًا أصليًّا ، والله

أعلم بما يكون.

رفعت تحيتكم لجميع من ذكرتم في الكتاب تصريحًا وتلويحًا، فتقبلوها بمزيد

المسرة والانشراح.

يسلم على جنابكم الصادق في صداقته ومودته حسين أفندي وهو في غاية من

الصحة والعافية وقد عاد من الريف فرارًا من شروره، آسفًا على ما وقع لجنابكم

أكثر من أسفه على نفسه.

الشيخ محمد خليل والشيخ عامر إسماعيل والشيخ حمادة الخولي والسيد

عثمان شعيب والشيخ حسن الطويل ووالدي عبد الله وأخواي شناوي وفتح الله

(هو المرحوم أحمد فتحي باشا) وكثير غيرهم يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم،

ويقدمون مزيد تشكرهم لحضرات أولئك الكرام الأماجد الذين أحسنوا وفادتكم وأكرموا

مثواكم، زادهم الله كرمًا وكمالاً.

مولاي: ذكرت لحضرتك أن الضعف ألم بفكري فبالله إلا ما قويته بتواصل

المراسلة غير تارك فيها ما عودتنا على سماعه من النصائح والحكم التي نهتدي بها

إلى سواء السبيل، ونتمكن بها من السير في العالم المصري الذي اختبرت حقائقه،

وعرفت خلائقه، وما يناسبها من ضروب المعاملة ، وفقنا الله لمتابعتك، ولا أطال

على بلادك مدة غيبتك، إنك إمامها وإن اقتدت بغيرك، ومحبها الصادق وإن لم

تعرف بقدرك، والسلام.

...

...

...

...

...

ولدكم

...

...

...

...

... سعد زغلول

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 591

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد

الرد على رسالة العالم الشيعي

للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي

وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا

(4)

(المقام السابع عشر) قوله: (ثالثها أن يراد بها النهي عن إنشاء المساجد ،

واتخاذها حول القبور ، وهذا التأويل أيضًا خطأ؛ لأنه لا محذور في أن يتقرب

العبد إلى الله تعالى ببناء مسجد تقام فيه الصلوات في تلك البقاع الشريفة، مع ما

ورد من أن (من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) ، وهو حديث عام لا

يختص بقعة دون بقعة ، ولا بزمان دون زمان ، بل بناؤه وإنشاؤه أولى؛ لأنه حينئذ

يشتمل على جهتين من الشرف شرف البقعة وشرف المسجدية [*] ) ، ثم أيد تأويله

بكلام البيضاوي الذي سبق رده.

(أقول) : فيه مردودات ، أولها قوله: إن تفسير الأحاديث بذلك تأويل ،

وليس كذلك ، بل ذلك معناها الذي تدل عليها مطابقة بلا تأويل ، ولا تحتمل خلافه

البتة، وقوله:(إنه خطأ) تسمية للشيء بضده ، ونحن وجميع علمائنا شاهدون

بالله أن ذلك هو عين الصواب يقينًا.

قوله: (إذ لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله ببناء مسجد في تلك البقاع

الشريفة) ، أقول: بلى - والله - فيه أعظم محذور ، وهو معصية الرسول صلى

الله عليه وسلم ، ومحادته ، كما تقدم عن شيخ الإسلام ، والتعرض للعنة الله ، وفتح

باب الشرك وإضلال الناس والتشبه بالأمتين المغضوب عليها والضالة ، فنشدتك ،

أي محذور أعظم من هذا؟ وهل يكون التقرب إلى الله بمعصية رسوله ومشاقته

والاستخفاف بأمره ونهيه؟

وقوله: (مع ما ورد من أن من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) إلخ ،

أقول: هذا عام ، والنهي عن اتخاذ المساجد على القبور خاص ، فهو مخصوص

به ، ولو ترك على عمومه ، ولم يلتفت إلى المخصصات؛ لكان الذين اتخذوا

مسجدًا ضرارًا مستحقين أن يبني الله لهم بيوتًا في الجنة ، ولكن الله أخبرنا عنهم بما

يقتضي أنهم يعاقبون على بناء ذلك المسجد؛ لأنهم بنوه لمعصية الرسول ، وكذلك

من بنى مسجدًا عند قبر ، وفي الزواجر لابن حجر الهيتمي - وهو ممن يُجوِّز شد

الرحال لزيارة القبور ، وغير ذلك من المردودات - قال: إن اتخاذ القبور مساجد ،

وإيقاد السرج عليها ، واتخاذها أوثانًا ، والطواف بها ، واستلامها كل ذلك من كبائر

المعاصي ، ثم أورد الأحاديث في ذلك ، وذكر كلام الفقهاء من الشافعية والحنابلة ،

ومنه أنها من أسباب الشرك ، إلى أن قال: وتجب المبادرة لهدمها ، وهدم القباب

التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية

الرسول اهـ.

فمن بنى لله مسجدًا مأذونًا فيه بنى الله له بيتًا في الجنة ، وأما من بنى مسجدًا

منهيًّا عنه أشد النهي، ملعونًا بانيه ، معدودًا من شرار الخلق ، مشتدًّا غضب الله

عليه ، فإنما يتبوأ دركًا في النار؛ إن لم يتب ، ويسارع إلى هدم ما بني على القبر.

قوله: بل بناؤه وإنشاؤه في البقاع الشريفة أولى؛ لكونه حينئذ يشتمل على

جهتين من الشرف.

أقول: هذا قياس مصادم للنص ، وهو فاسد الاعتبار ، وشرف الأماكن لا

يثبت بالعقل ، بل مرجعه إلى الوحي.

وأعلم الناس بالشرف والفضل هو الذي لعن باني المسجد على القبر ، ونهانا

عن ذلك ، وقال:(اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وأخبر

أن فاعل ذلك من شرار الخلق ، فيتصور بعد هذا أن يكون للمسجد المتخذ على القبر

شرف ، فضلاً عن أن يكون أشرف من المساجد التي أذن الله فيها ، وأثنى على

عامريها.

وأما كلام البيضاوي في تجويز بناء المسجد عند قبر الصالح للتبرك ، فهو

فاسد ، وقد تقدم رده، ثم رأيت الشوكاني رده بمثل ما رددته به ، فلله الحمد وهذا

نفسه في المجلد الثاني من نيل الأوطار ص 140 ، (واستنبط البيضاوي من علة

التعظيم جواز اتخاذ المساجد في جوار قبور الصلحاء للتبرك دون التعظيم ، ورد

بأن قصد التبرك تعظيم) اهـ بتفسير يسير.

(المقام الثامن عشر) قوله: (إنه لا يتصور صدور السجود للقبور من

مسلم [1] ) ، إن كان مراده المسلم المؤمن الذي يميز التوحيد من الشرك؛ فنعم ،

وأما إن كان مراده أن كل من انتسب إلى الإسلام لا يتصور منه السجود لغير الله،

فليس كذلك؛ بل هو متصور ومصدق أيضًا، يعني أنه تجاوز التصور إلى

التصديق أي إدراك وقوعه.

وسجود أصحاب الطرق لأشياخهم مشهور حتى إنهم يدعون جوازه،

ويجادلون فيه، وكذلك السجود للقبور والصلاة موجودان في زماننا، وقد أخبرني

ثقة ، وأنا أكتب هذا ، أنه شاهد في السنة الماضية حين كان في النجف وكربلاء

الناس يصلون إلى الضرح ، ويسجدون لها ، فقلت له: إن السيد مهديًّا يستبعد هذا ،

بل يعده محالاً ، فقال لي: أنا أروح معك إلى السيد مهدي بعد الفطر ، وأخبره

أني رأيت ذلك بعيني ، وأنا عازم أن آتيكم به ، وقد تعجبت كثيرا كيف لم تطلعوا

على ما يفعله الجهلة بالنجف وكربلاء وبغداد من الأعمال الشركية التي تقشعر

منها الجلود، ولا يختص ذلك بالشيعة ، بل لمن ينسبون أنفسهم إلى السنة الحظ

الأوفر منه عياذاً بالله.

قوله: (مع أن قبور الأئمة محاطة بصناديق وشبابيك تمنع من وصول أحد

إلى نفس القبر) ، أقول: ولكنها لا تمنع من السجود حول الصندوق والصلاة له ،

بل التوابيت المزخرفة هي التي تملأ قلوب الجهلة هيبة وإجلالاً ، فيعبدون القبور

وأصحابها ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبر ، وأمر

بهدمه.

(المقام التاسع عشر) قوله: وأهل السنة مشاركون للشيعة في ذلك [2] ،

أقول: اللهم نعم ، وأشهد بالله ، وكل من يقرأ المنار أو يعرف صاحبه أنه شدد

النكير عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة.

(المقام العشرون) قوله: مضافًا إلى أنّا لم نجد أحدًا بنى مسجدًا حول

القبور المشهورة [2]، أقول: إن لم تطلعوا على ذلك؛ فلا ينبغي لكم أن تنفوا كل

ما لم تطلعوا عليه فإنكم إن فعلتم نفيتم أشياء كثيرة واقعة ، بلى - والله - قل أن

يوجد مسجد في مصر القاهرة وغيرها إلا وهو على قبر أو بقرب قبر، حتى صار

العامة وبعض من يزعم أنه من الخاصة إذا أراد أن يبني مسجدًا بحث عن قبر رجل

صالح يبني عليه ، ويجد حرجًا في صدره أن يبني المسجد على غير قبر {فَاسْئَلْ

بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59) ، وهذه من أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم ،

فإن الله أطلعه على ذلك؛ فلذلك شدد النهي عنه.

(المقام الحادي والعشرون) قوله: على أن مجرد الصلاة والدعاء - يعني

في مشاهد قبور الأئمة - لا يصيرها مساجد [2] ، ولو أن أحدًا واظب على أن

يصلي ويدعو ويقرأ القرآن في مدة حياته في مكان خاص من بيته ، فإن ذلك المكان

بالضرورة لا يصير مسجدًا بكثرة العبادة فيه.

أقول: ما قاله غير مُسَلَّم ، بل كل مكان أعد للصلاة؛ فهو مسجد شرعًا ،

سواء اتخذه رجل في بيته ، أم عند قبر ، أم في غير ذينك.

قال البخاري (باب المساجد في البيوت) : وصلى البراء بن عازب في

مسجد داره جماعة ، ثم روى بسنده عن عتبان بن مالك أنه أتى رسول الله صلى الله

عليه وسلم ، فقال: قد أنكرت بصري ، وأنا أصلي بقومي، فإذا كانت الأمطار

وسال الوادي الذي بيني وبينهم؛ لم أستطع أن آتي مسجدهم ، فأصلي بهم ، ووددت

يا رسول الله أنك تأتيني ، فتصلي في بيتي ، فأتخذه مصلى ، الحديث وفيه أن النبي

غدا عليه ومعه أبو بكر فصلى في ناحية من بيته اهـ بعضه بالمعنى.

وأخرج أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه

وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب وفي البخاري أن أبا بكر ابتنى

مسجدًا بفناء داره؛ فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن قلت: وكان ذلك في مكة وفيه:

وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب.

فثبت ما قلته من أن كل ما كان أعد للصلاة يسمى مسجدًا شرعًا ولغة.

(المقام الثاني والعشرون) قوله: أما الحديث الذي وعدنا فيما سبق ببيان

معناه وهو المروي عن أمير المؤمنين (ع) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه

وسلم في هدم القبور وكسر الصور ، فليس فيه بيان المواضع المبعوث إليها ، ولا

بيان القبور التي بعثه في هدمها ، لكن متن الحديث يرشدنا إلى أن الموضع كان في

بلاد المشركين يومئذ أو من بلادهم ، وأن القبور قبورهم.

ثم ذكر أن الصور هي الأصنام المعبودة أو التماثيل ، وأيد ذلك بما يجده

المنقبون عن الآثار في قبور الفراعنة وغيرهم ، ثم قال: ومن المعلوم أن في زمان

النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قبور المسلمين مشيدة بالبناءات الضخمة ، حتى

يبعث من يهدمها ، ولم يكن المسلمون يعملون الصور والتماثيل ، ونظير هذا

الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عنه (ع) قال: ألا

أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا

طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته [3] .

قوله: ليس فيه بيان الموضع ولا بيان القبور إلخ ، أقول: هنا حجة لنا على

أن الحديث عام غير مخصص بشيء ، بل لو عين الموضع والقبور فيه أو في

غيره من الأخبار ما كان ذلك مخصصًا للفظه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص

السبب ، وكل ما تكلف في استنباطه لتأييد أن القبور قبور المشركين؛ لا يجدي

شيئًا؛ لأن (أل) في القبور للاستغراق أو الجنس ، فاللفظ شامل لقبور الأنبياء

والأئمة ، بل هي من باب أولى لعظم المفسدة ببنائها ، والبناء عليها ، وللوعيد

الشديد الوارد في بنائها بالخصوص من اللعن وشدة غضب الله ، وكون فاعل ذلك

من شرار الخلق ، ولو زعم زاعم أن الهدم مخصوص بقبور الأنبياء والصالحين

للوعيد الوارد فيها بالخصوص؛ لكان أقرب من عكسه عند من أنصف ، ومما يرد

تأويله أن هذا الحديث اتفق الفريقان على روايته ، ولم يطعن أحد في صحته ، وقد

استدل به أهل السنة قاطبة على عدم جواز بناء القبور كائنة ما كانت ، بل نقل

الشوكاني اتفاق المسلمين على ذلك ، وهو خبير بمذهب الإمامية وسائر فرق الشيعة،

وكثيرًا ما ينقل أقوالهم في الأصول والفروع ، قال في جزء له سماه شرح

الصدور بتحريم رفع القبور) أجاد فيه كل الإجادة: اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم

ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة إلى هذا الوقت؛ أن رفع القبور والبناء

عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها ، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه

وسلم لفاعله كما يأتي، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع

للإمام يحيى بن حمزة مقالة تدل على أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور

الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه اهـ.

ثم رد عليه أبلغ رد، وساق النصوص في ذلك، وقد تقدم منها ما فيه مقنع

للمنصف، ومزجر للمتعسف، ثم قال أثر حديث أبي الهياج وحديث جابر نهى

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ قال:

في هذا التصريح بالنهي عن البناء على القبور، وهو يصدق على من بنى على

جوانب حفرة القبر ، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعًا فما فوقه؛

لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدًا ، فذلك مما يدل على أن المراد بعض ما

يقربه مما يتصل به ، ويصدق على من بنى قريبًا من جوانب القبر كذلك ، كما في

القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة على وجه يكون القبر وسطها ، أو في جانب منها ،

فإن هذا بناء على القبر لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم ، كما يقال: بنى

السلطان على مدينة كذا سورًا ، وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدًا ،

مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو المكان ، ولا فرق بين أن تكون

تلك الجوانب التي وقع البناء عليها قريبة من الوسط كما في المدينة الصغيرة

والمكان الضيق ، أو بعيدة من الوسط كما في المدينة الكبيرة والمكان الواسع.

ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق؛ فهو لا يعرف لغة

العرب ، ولا يفهم لسانها ، ولا يدري ما تستعمله في كلامها اهـ.

فيه فوائد منها اتفاق المسلمين على أن البناء على القبور ورفعها بدعة منهي

عنها قد اشتد فيها وعيد رسول الله وما كان كذلك ، فلا ريب في حرمته ، وهذا مع

ما تقدم عن شيخ الإسلام ابن تيمية من نقل اتفاق العلماء على تعين إزالة المساجد

المبنية على قبور الأنبياء والصالحين ، وما نقله مكاتب المنار من أن سلف الإمامية

كلهم متفقون على عدم جواز البناء على القبور ، ولم يقل بجوازه على قبور الأئمة

إلا المتأخرون ، ولا سند لهم إلا الاستحسان المجرد ، كل ذلك يدلنا على أن الشيعة

لم يخالفوا سائر المسلمين في منع البناء على القبور كيف كانت ، ووجوب هدم ما

بني عليها ، وذلك الظن بهم ، فمعاذ الله أن نظن بأئمة الشيعة الاثنا عشر وغيرهم

من الصالحين أنهم يجهلون ما يعلمه غيرهم بالضرورة من شريعة جدهم ، كيف وقد

تقدم من حديث علي وأولاده الحسن والحسين والحسن المثني وعلي بن الحسين

وجعفر بن محمد وموسى الكاظم وعلي بن جعفر عليهم السلام ما يفيد موافقتهم

لسائر أئمة المسلمين في المنع من البناء على القبور ، ووجوب هدمه متى وقع وأين

وقع ، وبعض الأحاديث المروية عن أهل البيت اتفق على روايتها أهل السنة

والشيعة باعتراف السيد مهدي ، وبعضها من رواية أحد الفريقين ، وتذكر ما مر عن

علي بن الحسين والحسن بن الحسين من منع إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم

للسلام عليه والدعاء؛ يتبين لك أن أهل البيت هم أشد الناس صيانة وحماية لجانب

التوحيد ، وأبعدهم من ساحات الشرك {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ

البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) والرجس: الشرك ، ومن كان محبًّا

لأهل البيت معظمًا لهم لا ينسب إليهم الرضى بالقباب والمشاهد ، وما يصنع عندها

من المناكر التي تقشعر منها الجلود.

ونقل السيد مهدي استدلال علماء الشيعة على كراهة تجصيص القبور بحديث

علي (بعثني رسول الله في هدم القبور) ، ومعلوم أن علماء الشيعة لم يقولوا

بكراهة تجصيص قبور المشركين خاصة ، بل المقصود بالذات كراهة تجصيص

قبور المسلمين مطلقًا ، ولا فهموه منه ، فهذا أوضح دليل على أن علماء الشيعة

فهموا من حديث علي مشروعية هدم ما يبنى على القبور أي قبور كانت ، بل دلالة

حديث علي على هدم القبور مطلقًا أوضح من دلالته على كراهة تجصيص القبور

لأن البناء على القبر أحرم من تجصيصه، وأدنى إلى محادة الرسول، فاحفظ هذا

فسترى قريبًا من كلام السيد مهدي ما يناقضه ، بل يصرح أنه من أقبح القياسات

وأشنعها ، وهنالك الجواب بحول الله.

(المقام الثالث والعشرون) تقدم ذكر السيد مهدي حديث أبي الهياج عند

مسلم ، وفيه أن عليًّا أمره بتسوية القبور [4] ، تعلق بلفظ التسوية ، واستأنس به ،

وأطال في ذكر الخلاف بين أهل السنة في الأفضل أهو تسنيم القبور أم تسطيحها ،

ونصر الثاني، وذلك كله خارج عن مسألة النزاع ، وليس فيه ما يستروح منه

جواز البناء على القبور أو تركه بلا هدم متى وقع وأين وقع، ورواية الشيعة

مصرحة بالهدم ، فهو المراد بالتسوية بلا شك لأن النبي ما بعث عليًّا ، ولا بعث

عَلِيٌّ أبا الهياج إلا لتسوية القبور المبنية لا تسطيح القبور المسنمة ، ففهم التسطيح

من هذا الحديث غير مستقيم ، والرواية الشيعية قد بينت المراد بالتسوية ، ورفعت

الإيهام ، ودفعت الإيهام ، فلا أدري لم تركها السيد مهدي وتعلق برواية التسوية ،

وبصرف النظر عن الرواية الشيعية يظهر من المقام بأدنى تأمل أن المراد بالتسوية

الهدم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ص 357 ج 5م28.

(1)

ص 360 ج 5.

(2)

ص 360.

(3)

ص 361.

(4)

ص 362 و363.

ص: 593

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌معاهدة جدة

بين جلالة ملك بريطانيا وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

نقلت عن جريدة (أم القرى) الصادرة في يوم الجمعة 27 ربيع الأول سنة

1346.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

نحن عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك الحجاز ونجد

وملحقاتها:

بما أنه قد عقدت بيننا وبين حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظيم

وأرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وإمبراطور الهند معاهدة صداقة

وحسن تفاهم؛ لأجل تثبيت وتقوية العلاقات الودية، وحسن التفاهم بين بلادينا.

ووقعها مندوبنا المفوض ومندوب جلالته الحائزان للصلاحية التامة المتقابلة.

وذلك في مدينة جدة في اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة سنة ألف

وثلاثمائة وخمس وأربعين هجرية (الموافق 20 مايو سنة 1927) ، وهي

مدرجة فيما يلي: -

بسم الله الرحمن الرحيم

جلالة ملك بريطانيا وأيرلندا والممتلكات البريطانية من وراء البحار

وإمبراطور الهند من جهة ، وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها من جهة أخرى.

رغبة في توطيد العلاقات الودية السائدة بينهما ، وتوثيقها وتأمين مصالحهما

وتقويتها؛ قد عزما على عقد معاهدة صداقة، وحسن تفاهم.

لذلك أوفد صاحب الجلالة البريطانية حضرة السير جلبرت فلكنجهام كلايتن

مندوبا مفوضًا عنه، وانتدب صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها صاحب

السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز نجله ونائبه في الحجاز مندوبًا مفوضًا

عنه.

بناء على ما تقدم ، وبعد الاطلاع على مستندات اعتمادهما والتثبت من

صحتها ، قد اتفق سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز وحضرة السير جلبرت

فلكنجهام كلايتن على المواد الآتية: -

(المادة الأولى) يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالاستقلال التام المطلق

لممالك صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.

(المادة الثانية) يسود السلم والصداقة بين صاحب الجلالة البريطانية،

وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونَجْد وملحقاتها، ويتعهد كل من الفريقين المتعاقدين

بأن يحافظ على حسن العلاقات مع الفريق الآخر، وبأن يسعى بكل ما لديه من

الوسائل لمنع استعمال بلاده قاعدة للأعمال غير المشروعة الموجهة ضد السلم

والسكينة في بلاد الفريق الآخر.

(المادة الثالثة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسهيل

أداء فريضة الحج لجميع الرعايا البريطانيين، والأشخاص المتمتعين بالحماية

البريطانية من المسلمين أسوة بسائر الحجاج، ويعلن جلالة الملك بأنهم يكونون

آمنين على أموالهم وأنفسهم أثناء إقامتهم في الحجاز.

(المادة الرابعة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسليم

مخلفات من يتوفى في البلاد التابعة لجلالته من الحجاج المذكورين آنفًا، والذين

ليس لهم في بلاد جلالته أوصياء شرعيون إلى المعتمد البريطاني في جدة ، أو من

ينتدبه لذلك الغرض؛ لإيصالها لورثة الحاج المتوفى المستحقين ، بشرط أن لا

يكون تسليم تلك المخلفات إلى الممثل البريطاني إلا بعد أن تتم المعاملات بشأنها أمام

المحاكم المختصة وتُسْتَوْفَى عليها الرسوم المقررة في القوانين الحجازية أو النجدية.

(المادة الخامسة) يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالجنسية الحجازية أو

النجدية لجميع رعايا صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها ، عندما يوجدون

في بلاد صاحب الجلالة البريطانية، أو البلاد المشمولة بحماية جلالته، وكذلك

يعترف صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بالجنسية البريطانية لجميع

رعايا صاحب الجلالة البريطانية، ولجميع الأشخاص المتمتعين بحماية جلالته

عندما يوجدون في بلاد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها ، على أن

تراعى قواعد القانون الدولي المرعي بين الحكومات المستقلة.

(المادة السادسة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

بالمحافظة على علاقات الود والسلم مع الكويت والبحرين ومشايخ (قطر)

والساحل العماني الذين لهم معاهدات خاصة مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية.

(المادة السابعة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بأن

يتعاون بكل ما لديه من الوسائل مع صاحب الجلالة البريطانية في القضاء على

الاتجار بالرقيق.

(المادة الثامنة) على الفريقين المتعاقدين إبرام هذه المعاهدة ، وتبادل

قرارات الإبرام بأقرب وقت، وتصير المعاهدة نافذة اعتبارًا من تاريخ تبادل

قرارات الإبرام، ويعمل بها مدة سبع سنوات ابتداءً من ذلك التاريخ ، وإن لم يعلن

أحد الفريقين المتعاقدين الفريق الآخر قبل انتهاء السنوات السبع بستة أشهر أنه يريد

إبطال المعاهدة؛ تبقى نافذة، ولا تعتبر باطلة إلا بعد مضي ستة أشهر من اليوم

الذي يعلن فيه أحد الفريقين إبطالها للفريق الآخر.

(المادة التاسعة) تعتبر المعاهدة المعقودة بين صاحب الجلالة البريطانية

وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها في 26 ديسمبر سنة 1915 يوم كان

جلالته حاكمًا لنجد وما كان ملحقًا بها؛ إذ ذاك - ملغاة ابتداء من تاريخ إبرام

المعاهدة.

(المادة العاشرة) دونت هذه المعاهدة باللغتين العربية والإنكليزية،

وللنصين قيمة واحدة ، أما إذا وقع اختلاف في تفسير أي قسم منها؛ فيرجع إلى

النص الإنكليزي.

(المادة الحادية عشرة) تعرف هذه المعاهدة بمعاهدة جدة.

وقعت هذه المعاهدة في جدة يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة 1345

هجرية الموافق (20 مايو سنة 1927) .

جلبرت فلكنجهام كلايتن

...

فيصل بن عبد العزيز السعود

فبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر، وأمعنا النظر فيها؛ صدقناها ،

وقبلناها ، وأقررناها جملة في مجموعها ، ومفردة في كل مادة وفقرة منها ، كما

أننا نصدقها ونقبلها ونثبتها ونبرمها ، ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم

بحول الله بما ورد فيها ، ونلاحظه بكمال الأمانة والإخلاص، وبأننا لن نسمح

بمشيئة الله بالإخلال بها بأي وجه كان ، طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في

تثبيت صحة كل ما ذكر فيها؛ أمرنا بوضع خاتمنا على هذه الوثيقة ، ووقعناها بيدنا ،

والله خير الشاهدين.

حرر في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة

وست وأربعين هجرية الموافق للسابع عشر من شهر سبتمبر سنة ألف وتسعمائة

وسبع وعشرين ميلادية.

الختم الملكي

...

عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود

***

تصديق ملك بريطانيا

ومن المفيد في تتمة هذه الوثيقة التاريخية أن نثبت هنا النص الذي كان من

قبل صاحب الجلالة البريطانية في التصديق على نسخة المعاهدة ، حيث جاء فيه ما

يلي: -

جورج بنعمة الله ملك بريطانيا العظيم وأيرلندا والممتلكات البريطانية فيما

وراء البحار حامي الإيمان وإمبراطور الهند إلخ إلخ إلخ إلى كل من يطلع على

كتابنا هذا ، سلام.

بما أنه قد عقدت بيننا ، وبين حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد

وملحقاتها معاهدة وقعت في جدة من قبل مندوبنا المفوض ، ومندوب جلالته

الحائزين للصلاحية التامة المتقابلة ، وذلك في اليوم العشرين من شهر مايس

(مايو)، والحمد لله بين بلادينا وهي كلمة بكلمة كما يلي: (هنا يأتي نص

المعاهدة ، وبعد النص ورد في التصديق ما يأتي) :

فنحن بعد أن اطلعنا ، وأمعنا النظر في المعاهدة المتقدمة؛ صدقناها ، وقبلناها

وأثبتناها مجملة، وفي كل مادة وفقرة منها.

كما أننا بموجب هذا؛ نصدقها ونقبلها ونثبتها ونبرمها عن أنفسنا ، وعن

خلفائنا وورثتنا، ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم ، ونلاحظ بكمال

الأمانة والإخلاص ما ورد فيها إجمالاً وإفرادًا من الأشياء الموجودة والمبينة في

المعاهدة المذكورة، وبأننا لا نسمح لأحد بالإخلال بها ، أو مناقضتها بأي وجه كان

طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في الاستشهاد والصحة في كل ما ذكر فيها؛

أمرنا بوضع خاتمنا الكبير على هذه المستندات، ووقعناها بيدنا الملكية.

***

تبادل قرارات الإبرام

وبعد أن أبرم جلالة الملك المعاهدة على الشكل المتقدم ، تبادل مدير شؤون

خارجيتنا ، ومعتمد وقنصل الحكومة البريطانية في جدة قرارات الإبرام ، ونسخ

المعاهدة بعد أن وقعا شهادة التبادل الآتي ذكرها:

إن الموقعين أدناه قد اجتمعا لأجل تبادل قرارات إبرام معاهدة الصداقة ،

وحسن التفاهم المعقودة بين صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندة

والممتلكات البريطانية من وراء البحار إمبراطور الهند، وبين حضرة صاحب

الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها ، والتي وقع عليها في مدينة جدة في اليوم

العشرين من شهر مايس (مايو) سنة 1927 (الموافق 18 ذي القعدة سنة

1345) وبعد أن قابلا نسخ قرارات إبرام المعاهدة السالفة الذكر بدقة ، ووجدا كل واحدة مطابقة تمام المطابقة للأخرى ، قد جرى التبادل المذكور هذا اليوم

على الصورة المعتادة ، وإقرارًا على ذلك قد وقعا على هذه الشهادة.

حرر في جدة في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1346

معتمد وقنصل صاحب الجلالة البريطانية

مدير الشؤون الخارجية للمملكة

...

...

...

الحجازية والنجدية وملحقاتها

ف. هـ، أستون. هبوور. بيرد

...

عبد الله الدملوجي

* * *

الكتب التي تبودلت

تبودلت مع المعاهدة كتب يتعلق بعضها ببيان بعض مواد المعاهدة، وبعضها

مستقل بذاته، نثبت نصها فيما يلي:

(1)

إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.

يا صاحب الجلالة.

إشارة إلى الاقتراح الذي تفضلتم به لوضع مادة في المعاهدة تشرط على

حكومة صاحب الجلالة البريطانية عدم الممانعة في شراء وتوريد جميع الأسلحة

والأدوات الحربية والذخيرة والآلات ، وغير ذلك من اللوازم الحربية ، التي قد

تحتاج إليها حكومة الحجاز ونجد لاستعمالها لنفسها.

لي الشرف أن أخبر جلالتكم أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ترى أن

هذه مسالة لا تحتاج إلى ذكر في نص المعاهدة، وقد فوضتني حكومة صاحب

الجلالة البريطانية بأن أخبر جلالتكم أن تحريم تصدير الأدوات الحربية إلى جزيرة

العرب قد رفع، وأنه إذا استحسنتم طلب أسلحة أو ذخيرة، أو أدوات حربية من

أصحاب المعامل البريطانيين لاستعمال حكومة جلالتكم، وبمقتضى شروط اتفاقية

الاتجار بالأسلحة (1925) ، فحكومة صاحب الجلالة البريطانية لا تعارض في

تصديرها ، ولا تضع أي عرقلة في سبيل توريدها إلى بلاد جلالتكم، وسأجتهد

إجابة لرغبة جلالتكم أن أقدم نسخة من الاتفاقية المشار إليها بأقرب وقت، وأرجو

من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول أجل الاحترام

عن جدة 19 مايو سنة 1927 الموافق 17 ذي القعدة سنة 1345

...

... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية

...

...

...

جلبرت كلايتن

***

الجواب

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة صاحب الفخامة

المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية.

جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ في 17 ذي القعدة سنة 1345 الموافق 19

مايو سنة 1927 تحت رقم 3 بشأن الأسلحة ، فإني أشكركم على ذلك البيان الذي

يفيد أن جزيرة العرب غير ممنوعة من استيراد الأسلحة. وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي.

...

...

...

...

...

...

...

... (الختم الملكي)

***

(2)

إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.

يا صاحب الجلالة:

لي الشرف أن أذكر جلالتكم أنه في أثناء المفاوضات التي دارت بيننا ، والتي

أدت - ولله الحمد - إلى عقد معاهدة صداقة وحسن تفاهم بين صاحب الجلالة

البريطانية وجلالتكم، كنا بحثنا في مسألة الحدود البريطانية في هذه المسألة كما هو

مبين في مسودة الملحق [1] التي قدمتها إلى جلالتكم ، وأخبرت جلالتكم أن حكومة

صاحب الجلالة البريطانية مصرة على التمسك بذلك الموقف.

أما الحدود المشار إليها؛ فتعتبر حكومة صاحب الجلالة البريطانية أنها تعرف

كما يأتي:

تبتدئ الحدود بين الحجاز وشرق الأردن من نقطة تقاطع دائرة الطول 38

(شرقي) بدائرة العرض 35، 29 (شمالي) ، حيث تنتهي الحدود بين نجد

وشرقي الأردن ، فتمتد على خط مستقيم إلى نقطة على السكة الحديدية الحجازية ،

بعدها ميلان إلى الجنوب من محطة المدورة ، ثم تمتد من تلك النقطة على خط

مستقيم إلى نقطة على خليج العقبة بعدها ميلان إلى الجنوب من مدينة العقبة.

وفي الختام أرجو من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول فائق الاحترام

عن جدة 19 مايو سنة 1927 الموافق 27 ذي القعدة سنة 1345

...

...

...

جلبرت كلايتون

...

... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية

***

الجواب

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة صاحب الفخامة

المندوب المفوض لصاحب الجلالة البريطانية

جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ في 18 ذي القعدة سنة 1345 المختص

بمسألة الحدود بين الحجاز وشرق الأردن ، قد أخذنا علماً بأن حكومة صاحب

الجلالة البريطانية مصرة على موقفها، ولكن نرى أن تسوية هذه المسألة بصورة

نهائية أمر متعذر في الظروف الحاضرة، ومع ذلك نظرًا لرغبتنا الصادقة في

المحافظة على العلاقات الودية المؤسسة على صلات الصداقة المتينة؛ رأينا أن

نعرب لفخامتكم عن استعدادنا لإبقاء الحالة الحاضرة على ما هي عليه في منطقة

معان والعقبة مع الوعد بأن لا نتداخل في إدارتها إلى أن تحين الظروف المناسبة

لتسوية هذه المسألة تسوية نهائية.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

18 ذي القعدة سنة 1345 الختم الملوكي

***

(3)

إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

يا صاحب الجلالة:

إلحاقًا بالمحادثات التي دارت بيننا بخصوص مسألة المتاجرة بالرقيق.

لي الشرف أن أخبر جلالتكم أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ترى أنه

من واجبها أن لا تتنازل في الوقت الحاضر عن حق إعتاق الأرقاء ، ذلك الحق

الذي طالما عمل بموجبه حضرات قناصل جلالته، والذي يمكنهم من إطلاق سبيل

أي رقيق يتقدم إليهم من تلقاء نفسه ، ويطلب تحريره ، وإعادته إلى مسقط رأسه،

ثم أريد أن أؤكد لجلالتكم أن التمسك بهذا الحق من قبل حكومة صاحب الجلالة

البريطانية ، ليس المراد منه أي تداخل في شؤون مملكتكم ، أو أي تجاوز على

سلطان جلالتكم ، وأن السبب في هذا التمسك إنما هو إصرار حكومة صاحب

الجلالة البريطانية على القيام بواجب تعتبره مفروضًا عليها نحو الإنسانية،

وأضيف إلى قولي هذا أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ، ستكون على استعداد

للنظر في إلغاء حق الإعتاق ، حينما يتبين للفريقين أن التعاون المنصوص عليه في

المادة الثامنة من معاهدة جدة قد أدى إلى تدابير عملية كافية لإبطال حق الإعتاق.

آمل أن جلالتكم ستقدرون موقف حكومة صاحب الجلالة البريطانية في هذه

المسألة، وأنكم ستستحسنون الموافقة على الخطة التي شرحتها أعلاه، وأرجو من

جلالتكم أن تتفضلوا بقبول أجل الاحترام.

عن جدة 19 مايو 1927 - 18 ذي القعدة سنة 1345

...

...

...

جلبرت كلايتون

...

... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية

(الجواب)

من عبد العزيز بن الرحمن الفيصل آل السعود.

إلى حضرة صاحب الفخامة المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية

جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ 18 ذي القعدة سنة 1345 الموافق 19 مايو سنة

1927 رقم 2 بخصوص عتق الرقيق ، فإني واثق بأن المعتمد البريطاني في جدة

سيكون محافظًا على الروح التي توخيناها في مداواة الموقف الحاضر ، فلا يدع

مجالاً للتشويش في هذا الموضوع الذي قد يؤثر على الحالة الإدارية والاقتصادية ،

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

19 ذي القعدة سنة 1345 الختم الملوكي

***

(4)

إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

يا صاحب الجلالة:

إشارة إلى المادة الرابعة من معاهدة جدة.

لي الشرف أن أثبت في كتابي هذا التصريحات التي ألقيتها أمام جلالتكم أثناء

محادثاتنا عندما صرحت بأن الغرض الوحيد من إدخال تلك المادة في المعاهدة هو

أولاً وضع المعاملة المتبعة الآن على أساس رسمي، وثانياً أن يقدم لحكومة صاحب

الجلالة البريطانية تأكيدات تمكنها من إعلان المعاملة المتبعة الآن لجميع المسلمين

في البلاد البريطانية، وعلاوة على ذلك أريد أن أؤكد لجلالتكم أن وجود تلك المادة

في المعاهدة لا يؤثر ، ولا يفسر بأنه قد يؤثر على المعاملة المختصة بمخلفات

الأشخاص غير الحجاج ، التي لا تزال خاضعة لقواعد المقابلة بالمثل ، التي هي

أساس التعامل المعتاد بين البلاد المستقلة ، وأرجو من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول

أجل الاحترام

عن جدة 20 مايو سنة 1927 - 19 ذي القعدة سنة 1345

...

...

...

جلبرت كلايتون

...

... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية

(الجواب)

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى صاحب الفخامة المندوب

المفوض لصاحب الجلالة البريطانية الأفخم:

جوابًا على كتاب سعادتكم المؤرخ 19 ذي القعدة و 20 مايو سنة 1927

رقم 4 بشأن مخلفات رعايانا في دياركم ، ومخلفات رعاياكم في ديارنا ، فأحب أن

أؤكد لفخامتكم أن المعاملة ستكون كما ذكرتم حسب التعامل الدولي؛ إذ تقوم

محاكمنا باستلام المخلفات، وبعد إجراء المعاملات القانونية ، واستيفاء الرسوم

عليها؛ تسلم إلى المعتمد البريطاني ، وذلك مقابلة بالمثل لتسليم المعتمد البريطاني

في جدة مخلفات المتوفى من رعايانا في الممالك البريطانية.

وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي 20 ذي القعدة 1345

...

...

...

...

الختم الملكي

***

سكة حديد الحجاز

وقد دار أيام المفاوضات في المعاهدة بحث عن سكة حديد الحجاز ، ولم تنته

المفاوضات بشأنها ، والمنتظر في القريب العاجل أن يتم الاتفاق على تسييرها ،

وسننشر ذلك في حينه إن شاء الله تعالى اهـ ما نقلناه عن جريدة أم القرى بنصه.

(آراء السياسيين في المعاهدة)

(المنار)

قد صرحت الجرائد السياسية الكبرى بمصر ، ومن لقينا من علماء القانون

الدولي ، والحقوق العامة بأن هذه المعاهدة بنيت على أساس المساواة التامة بين

الدول المستقلة إلا في مسألة واحدة ، وهي ترجيح اللغة الإنكليزية على العربية عند

التعارض - وبأن اعتراف الدولة البريطانية فيها بالاستقلال التام المطلق للحجاز ونجد

وملحقاتها اعتراف صحيح لا تشوبه شائبة امتياز ، ولا تحفظ ، ولا غير ذلك من

القيود ، كالتي قيد بها الاعتراف باستقلال مصر مثلاً ، فجعلته صوريًّا ، أو اسميًّا.

وترجيح إحدى اللغتين عند التعارض ضروري ، ولذلك تداركه أكثر الدول

بجعل المعاهدات بلغة واحدة وهي الفرنسية.

وجملة القول: أن السياسيين أجمعوا على أن المعاهدة ظفر لابن السعود

عظيم ، وللأمة العربية التي أسس لها أول دولة عزيزة مستقلة بعد زوال ملكها عدة

قرون؛ اعترفت بها الدول ووقفت مع كبراهن (وهي بريطانية العظمى) موقف

الأقران والأمثال.

لو أن الدولة البريطانية رجعت عن طمعها وعدوانها على الإسلام والمسلمين

بعدم الإصرار على إبقاء منطقة العقبة ومعان ملحقة بشرق الأردن الذي جعلته داخلاً

في مسمى الانتداب البريطاني إلى فرصة أخرى؛ لكان حقًّا على كل مسلم وكل

عربي أن يشكر لها هذه المعاهدة ، ويعدها أول خطوة للمسالمة بينها ، وبين

المسلمين الناقمين عليها بالتعدي على بلاد الحجاز المقدسة ، ونقض وصية خاتم

المرسلين.

والواجب على ملك الحجاز ونجد أن يعود إلى مطالبتها بإعادة هذه المنطقة إلى

الحجاز في أقرب فرصة؛ لئلا يموت هذا الحق بطول الزمن ، أو يضعف بإنشاء

معاقل عسكرية ومدنية فيها ، وعسى أن تثوب الدولة البريطانية إلى حكمتها؛

فتعترف بها للحجاز.

وقد انتقد بعض المشتغلين بالسياسة الدولية المادة الثانية ، بأن الغبن فيها على

ملك الحجاز ونجد ، وإن شئت قلت على الأمة العربية ، وعلى المسلمين كافة بأنها

تقتضي أن يمنع ملك الحجاز ونجد من يلجأ إلى حرم الله تعالى لبث الدعوة إلى

مقاومة هذه الدولة القاهرة لهم المغتصبة لبلادهم، وغلا بعضهم ، فقال: إن المنع

لهذه الدعاية غير جائز شرعًا ، فملك الحجاز ونجد لا يستطيع الوفاء بهذه المادة إلا

بمخالفة الشرع، وليس له في مقابلة هذا الغبن ما يقابله من نفع ، فيقال: إنها مبنية

على المساواة؛ لأن الدولة البريطانية لا تستطيع أن تمنع خصومه في الهند من ترك

الدعاية الموجهة إلى معاداته ، وإلى ترك الحج أيضًا؛ لأن حرية قوانينها لا تسمح

لها بمنعهم، وكذلك إذا لجأ بعض المعادين أو المقاتلين أو الثائرين إلى بلاده؛ فإنه

لا يمكنه أن يقبلهم لئلا تحتج عليه الدولة البريطانية بهذه المادة.

والجواب على هذا من وجوه (أولها) أن الممنوع بنص هذه المعاهدة هو

استعمال كل من الفريقين المتعاقدين بلاده قاعدة للأعمال غير المشروعة الموجهة

ضد السلم والسكنية في بلاد الفريق الآخر ، " ومعناه منع الدعوة إلى حربه ، أو

الثورات والفتن في بلاده، ولا يدخل في ذلك الانتقاد السياسي ولا الطعن العادي في

حكومة كل من الفريقين كالذي نعهده في الجرائد المصرية، ويمكن لملك الحجاز أن

يعامل الإنكليز بمثل ما يعاملونه به في هذا ، ويحتج بالشريعة إذا احتجوا بالقانون.

قال المنتقد: إنه لا يمكنه ذلك لضعفه ، قلت: إن الاعتراض إذًا على الضعف لا

على المعاهدة ، فالقوي لا يعدم وسيلة للعدوان على الضعيف إذا اقتضته سياسته،

وستعلم أنه قوي في مركزه، ولولا قوته لما عقدوا معه هذه المعاهدة التي لا يعقدون

مثلها إلا مع إحدى الدول العظمى.

(ثانيها) أن في الدعوة إلى الحرب أو الثورة ، وهي الممنوعة مصلحة

للفريقين، بل مصلحة ملك الحجاز ونجد ومن ورائه مصلحة العرب والمسلمين هي

الأرجح.

ذلك بأن الغرض من هذه المادة منع التقاتل بين البلاد العربية التي تعدها

الدولة البريطانية تحت حمايتها باسم الانتداب ، وهي العراق وشرق الأردن

وفلسطين وبين بلاد الحجاز ونجد المتصلة بها، وما أظن أنه يوجد عاقل من العرب ،

أو من سائر المسلمين يقول: إن مصلحة ملك الحجاز ونجد قتال هؤلاء المجاورين له

من أمته، لا بأن يكون هو البادئ به ، ولا بأن يكونوا هم البادئين.

ومن المعروف أن الدولة البريطانية قد وضعت على رأس كل من الحكومتين

المجاورتين للحجاز ونجد رجلاً من أولاد الشريف حسين المعادين له ، ويظهر أن

كلا منهما يود لو تساعدهما هذه الدولة على قتاله ، أو إثارة الفتن والثورات في بلاده،

وليس في ذلك مصلحة له، ولا للعرب ولا للمسلمين؛ بل فيه الضرر العظيم بقتل

شعوب هذه الأمة الواحدة بعضهم لبعض ، وإفناء قوتها ، وتخريب بيوتها بأيديها،

وكل منها في طور التكوين، وأقواها في الحرب ابن السعود.

قال المنتقد لهذه المادة: إن الإنكليز يطمعون في جميع بلاد العرب ، ولا يعقل

أن يعدوا من مصلحتهم منع بعضهم من إضعاف بعض ، فما فائدتهم من هذه المادة

إذًا؟

قلت: إن استفادتهم من هذه البلاد تتوقف على عمران ما استولوا عليه ، أو

أخذوا على أنفسهم حمايته منها، فإذا تصدى ملك الحجاز ونجد لمقاتلتها ، فإنهم

يضطرون إما لتركها ، وإما لبذل ألوف الملايين من الجنيهات ومئات الألوف من

الرجال للدفاع عنها، وليس هذا من مصلحتهم في شيء، وقد رأينا أن برلمانهم

ما زال يعذل وزارة المستعمرات على كثرة نفقات جيشهم في العراق ، حتى لم يبقوا

منه إلا القليل ، فكيف يسمح لهم بزيادته أضعافًا كثيرة لإيقاد نار حرب في جزيرة

العرب ما لم تلجئ إلى ذلك الضرورة التي لا دافع لها؟ فإذا كانت مثل هذه المعاهدة

تدفعها ، فالمصلحة لهم فيها ظاهرة، وقد علمنا أن الفريق الآخر إليها أحوج، وإنما

تبنى المعاهدات الاختيارية بين الأقران على تبادل المصالح والمنافع ، بخلاف

الاضطرارية كالتي تجري بين المحاربين الذين انتصر منهم فريق ، وانكسر فريق،

أو بين قوي وضعيف.

فإن قيل: إن هذه فرصة لتمكين نفوذ الإنكليز في هذه البلاد العربية - قلنا:

إن تلافي هذا الخطر موكول إلى أهلها ، والرجاء في الشعب العراقي عظيم.

(ثالثها) أن فرض التجاء فريق من العرب إلى بلاد الحجاز أو نجد

للاعتصام بها في حال مقاتلتهم للإنكليز فرض وهمي ، فإن حال العرب المتصلين

بالقطرين المذكورين معروفة لنا ، بل ثبت أن بدو شرق الأردن اعتدوا على

النجديين ، فمنعهم إمامهم ابن السعود من مقابلة العدوان بمثله على قوته ، وضعف

المعتدين على قومه ، ورضي بالتحكيم بين الفريقين ولما يفد - فحمدنا له هذا.

(رابعها) أن نشر الدعاية القولية في الحجاز لقتال الإنكليز في الهند ، أو

السودان مثلاً عقيم ، وليس فيه مصلحة للمسلمين ، بل فيه ضرر عليهم؛ لأن

الإنكليز يمنعون الجرائد والنشرات التي تنشرها من دخول البلاد التي يرون أنها

تضرهم فيها، وقد يتوسلون بنشرها في الحجاز إلى منع مسلمي تلك البلاد من الحج.

(خامسها) وهو خاص بمن ظن أن مثل هذه المعاهدة محظور شرعًا لأن

الغبن فيها على المسلمين ، أو لأنها تقيد حرية من يريد الطعن بأعدائه معتصمًا

بِحَرَمِ الله تعالى - أن المعاهدات تبنى على المصلحة العامة الراجحة ، فمتى اقتنع

بها إمام المسلمين بعد مشاورة أهل الرأي منهم عنده؛ جاز له أو وجب عليه أن

يفعل ما فيه المصلحة الراجحة، وهذا لا ينفي أن يكون في المعاهدة مضرة

مرجوحة.

وحجتنا في ذلك معاهدة الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة ،

فجميع المسلمين رأوا أن فيها مضرة وغبنًا عليهم ، أو ما هو أكبر من ذلك ، ولا

سيما اشتراط المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم أن من تركه من أصحابه ،

ولجأ إليهم لا يعيدونه إليه، ومن لجأ منهم إليه مؤمنًا به؛ أعاده إليهم، وقد رضي

صلى الله عليه وسلم بهذا لأنه علم أن المصلحة في تلك المعاهدة أرجح؛ فأنفذها.

وهكذا فعل ملك الحجاز ونجد بعد مشاورة من لديه من العارفين بهذه الشؤون -

ومنهم بعض الدارسين للقوانين الدولية - ثم أنفذ ما رأى فيه المصلحة الراجحة.

ومتى عاهد إمام المسلمين قومًا؛ وجب عليه الوفاء ، وإن كان فيه غبن

لبعض المسلمين ، يدل على هذا قوله تعالى في أواخر سورة الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا

وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ

فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) والمعنى أن

المؤمنين الذين كانوا بدار الشرك ، ولم يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في

دار الإسلام؛ تجب لهم على إخوانهم المؤمنين النصرة ، إذا قاتلهم المشركون إلا

على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق ، كمعاهدة الحديبية بين النبي صلى الله

عليه وسلم ومشركي مكة ، فليس لهم أن ينقضوا العهد قبل انتهاء مدته لأجل نصرة

إخوانهم في الدين في غير دار الهجرة.

هذا كل ما سمعته ، وعلمته من نقد هذه المعاهدة من أشد الناس مبالغة وإغراقًا

في التشاؤم من كل عمل للإنكليز ، لشدة سوء الظن فيهم؛ لما ذاقت هذه البلاد من

لدغ سياستهم ، ولسع مراوغتهم.

وأذكر على سبيل الفكاهة المضحكة انتقاد كاتب سوري لا يزال يحلم بما كان

يحلم به الملك حسين الهاشمي من الإمبراطورية العربية التي اقترح على (الحسيات

النجيبة للعظمة البريطانية أن تؤسسها له في حجرها ، وتحت حمايتها في الداخل

والخارج) ، قال هذا الكاتب: إن هذه المعاهدات قد أضاعت على الأمة العربية تلك

الإمبراطورية العظمى، وكان الواجب على ابن السعود أن يرفض عقدها ، ويطالب

الإنكليز بالوعود والعهود التي كان يزعمها الملك حسين! ! ! ولكن ابن السعود

رجل عقل وعمل ، لا رجل أحلام وأوهام ، فهل يترك هذه الدولة المستقلة التي

أسسها بعقله وحزمه ، ويعيش بأحلام حسين بك علي بعد أن صحا هذا منها منفيًّا من

البلاد العربية في جزيرة قبرص؟

هذا ، وإن أكبر مصلحة لملك الحجاز ونجد في هذه المعاهدة تضمنها إلغاء

معاهدة سنة 1915 التي كان عقدها مع الدولة البريطانية في عهد الحرب الكبرى ،

إذ كان ضعيفًا قريب العهد باسترجاع إمارتهم المسلوبة من ابن الرشيد ، ومضطرًّا

إلى إسقاط إمارته ، وتوحيد البلاد النجدية وهذا نصها:

***

المعاهدة الأولى بين بريطانية العظمى وابن السعود

في 2 كانون ثان سنة 1915

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الكولونيل السير برسي كوكس وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل

السعود المعروف بابن السعود اتفقا وتعاقدا على المواد الآتية: -

(1)

إن الحكومة البريطانية تعترف ، وتقبل بأن نجدًا والحسا والقطيف

وحائل وملحقاتها التي تعين هنا والمرافئ التابعة لها على سواحل خليج العجم؛ كل

هذه المقاطعات هي تابعة للأمير ابن السعود وآبائه من قبل، وهي تعترف بابن

السعود حاكمًا مستقلاًّ على هذه الأراضي ، ورئيسًا مطلقًا على جميع القبائل

الموجودة فيها، وتعترف لأولاده وأعقابه الوارثين من بعده على أن يكون خليفته

منتخبًا من قبل الأمير الحاكم، وأن لا يكون مخاصمًا لإنجلترا بوجه من الوجوه ،

أي أنه يجب أن لا يكون ضد المبادئ التي قبلت في هذه المعاهدة.

(2)

إذا تجاوزت إحدى الدول على أراضي ابن سعود ، أو أعقابه من بعده

دون إعلام الحكومة البريطانية، ودون أن تمنح الوقت المناسب للمخابرة مع ابن

سعود لأجل تسوية الخلاف؛ فالحكومة البريطانية تعاون ابن سعود ضد هذه الحركة،

وفي مثل هذه الظروف يمكن للحكومة البريطانية لمساعدة ابن سعود أن تتخذ

تدابير شديدة لأجل محافظة وحماية منافعه.

(3)

يتعهد ابن سعود أن يمتنع عن كل مخابرة ، أو اتفاق ، أو معاهدة مع

أية حكومة أو دولة أجنبية، وعلاوة على ذلك يتعهد بإعلام الحكومة البريطانية بكل

تعرض أو تجاوز يقع من قبل حكومة أخرى على الأراضي التي ذكرت آنفًا.

(4)

يتعهد ابن سعود بصورة قطعية أن لا يتخلى ، ولا يبيع ، ولا يرهن ،

ولا يقبل بصورة من الصور ترك قطعة ، أو التخلي عن الأراضي التي ذكرت آنفًا،

ولا يمنح امتيازًا في تلك الأراضي لدولة أجنبية أو لتبعة دولة أجنبية، دون

رضى الحكومة البريطانية، وأن يتبع نصائحها التي لا تضر بمصالحه.

(5)

يتعهد ابن السعود بأن يبقي الطرق الموصلة إلى الأماكن المقدسة

مفتوحة، وأن يحافظ على الحجاج أثناء ذهابهم إلى الأماكن المقدسة ، ورجوعهم

منها.

(6)

يتعهد ابن سعود كما تعهد والده من قبل بأن يمتنع عن كل تجاوز

وتداخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعمان وسواحلها ، وكل

المشايخ الموجودين تحت حماية إنكلترة ، أو الذين لهم معاهدات معها.

(7)

الحكومة البريطانية وابن سعود يتفقان فيما بعد بمعاهدة على

التفصيلات التي تتعلق بهذه المعاهدة اهـ.

...

... التوقيع

_________

(1)

قدم هذا الملحق ولم يقبل من الحجاز ونجد فرفع من المعاهدة ، ولم يعمل به.

ص: 602

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الكتابة أو الخط

وثيقة شرعية يجب العمل بها

أمر الله تعالى المؤمنين في أواخر سورة البقرة (282: 2) بكتابة الدين

المؤجل، وأكد الأمر بالكتابة، ونهى الكاتب الذي يدعى إلى الكتابة أن يمتنع، وأكد

ذلك بأمره بأن يكتب، ثم نهاهم عن السآمة أن تكون مانعة من الكتابة للصغير

والكبير والقليل والكثير، ثم أمر بالاستشهاد ، وعلل الأمرين بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ

عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَاّ تَرْتَابُوا} (البقرة: 282) ، وقد ذكرنا في تفسير

هذه الآية من جزء التفسير الثالث (ص 125) أن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى

قال عند تفسير {وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} (البقرة:

282) : إن هذا دليل على أن الكتابة يعمل بها، وأنها من الأدلة التي تعتبر عند

استيفاء شروطها.اهـ. وقلت هنالك: إن الآية دليل على وجوبها أيضًا ، ثم

ذكرت (في ص 133) الخلاف بين العلماء في وجوب كتابة الدين وأمثاله

أيضًا ، وأن من القائلين بالوجوب عطاء والشعبي وابن جرير في تفسيره كما هو

الأصل في الأمر عند جماهير العلماء.

وقد عقد العلامة المحقق ابن القيم فصلاً للعمل بالخط في كتابه (الطرق

الحكمية، في السياسة الشرعية) ، وعده من الطرق التي يحكم بها الحاكم، وهو

الذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل ، فاخترنا نقله لإفادة من لم يطلع عليه من الفقهاء ،

وإيجازًا لوعدنا في الفتوى 20 كما في ص 511 ج 7 الماضي وهذا نصه:

***

فصل

(الطريق الثالث والعشرون) الحكم بالخط المجرد ، وله صور ثلاث:

(الصورة الأولى) أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان ، فيطلب منه

إمضاءه ، فعن أحمد ثلاث روايات ، (إحداهن) أنه إذا تيقن أنه خطه؛ نفذه وإن لم

يذكره ، (والثانية) أنه لا ينفذه حتى يذكره ، (والثالثة) أنه إذا كان في حرزه

وحفظه؛ نفذه وإلا فلا.

قال أبو البركات: (الرواية في شهادة الشاهد بناء على خطه إذا لم يذكره) ،

والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم، ولا في الشهادة،

وفي مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظًا عندهما كالرواية

الثالثة.

وأما مذهب أبي حنيفة فقال الخفاف (؟) : قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي

في ديوانه شيئًا لا يحفظه كإقرار الرجل بحق من الحقوق ، وهو لا يذكر ذلك ، ولا

يحفظه ، فإنه لا يحكم بذلك ، ولا ينفذه حتى يذكره.

وقال أبو يوسف ومحمد: ما وجده القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا

عنده لرجل على رجل بحق ، أو إقرار رجل لرجل بحق ، والقاضي لا يحفظ ذلك ،

ولا يذكره ، فإنه ينفذ ذلك ، ويقضي به إذا كان تحت خاتمه محفوظًا، ليس كل ما

في ديوان القاضي يحفظه.

وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكر؛ لإمكان

التزوير عليه.

قال القاضي أبو محمد: إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه ، ولم يذكر أنه حكم به؛

لم يجز له أن يحكم به إلا أن يشهد عنده شاهدان ، قال: وإذا نسي القاضي حكمًا

حكم به ، فشهد عنده شاهدان أنه قضى به؛ نفذ الحكم بشهادتهما ، وإن لم يذكره.

وعن مالك رواية أخرى أنه لا يلتفت إلي البينة بذلك ، ولا يحكم بها.

وجمهور أهل العلم على خلافها ، بل إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد

الراوي على الخط المحفوظ عنده ، وجواز التحديث به إلا خلافًا شاذًّا لا يعتد به،

ولو لم يعتمد على ذلك؛ لضاع الإسلام اليوم ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

فليس بأيدي الناس بعد كتاب الله إلا هذه النسخ الموجودة من السنن.

وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ ، وقد كان رسول الله صلى الله

عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم ، وتقوم بها حجته ، ولم يكن يشافه

رسولاً بكتابه بمضمونه ، ولا جرى هذا في مدة حياته صلى الله عليه وسلم ، بل

يدفع الكتاب مختومًا ، ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه ، وهذا معلوم بالضرورة لأهل

العلم بسيرته وأيامه.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم له

شيء يوصي فيه ، يبيت ليتلين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ، ولو لم يجز الاعتماد

على الخط؛ لم يكن لكتابة وصيته فائدة ، قال إسحاق بن إبراهيم:(قلت) لأحمد:

الرجل يموت ويوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها ، أو أعلم

بها أحدًا ، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ ، قال: إن كان قد عرف خطه - وكان مشهور

الخط - فإنه ينفذ ما فيها ، وقد نص في الشهادة أنه إذا لم يذكرها ، ورأى خطه؛

أنه لا يشهد حتى يذكرها ، ونص فيمن كتب وصيته ، وقال: اشهدوا علي بما فيها؛

أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه ، أو تقرأ عليه فيقر بها ، فاختلف أصحابنا ،

فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى ، وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج،

ومنهم من منع التخريج ، وأقر النصين وفرق بينهما ، واختار شيخنا التفريق ، قال:

والفرق أنه إذا كتب وصيته ، وقال اشهدوا علي بما فيها فإنهم لا يشهدون؛ لجواز أن

يزيد في الوصية وينقص ويغير ، وأما إذا كتب وصيته ثم مات وعرف أنه

خطه ، فإنه يشهد به لزوال هذا المحذور.

والحديث المتقدم كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي ، وكتبه صلى

الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك ، ولأن الكتابة تدل

على المقصود ، فهي كاللفظ ، ولهذا يقع بها الطلاق.

قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم

لفعل الكتابة؛ لأنه عمل ، والشهادة على العمل طريقها الرؤية.

وقول الإمام أحمد: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط؛ ينفذ ما فيها،

يرد ما قال القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة

الفعل، وهذا هو الصحيح فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه ، فإذا

عرف ذلك ، وتيقن كان العلم بنسبة اللفظ إليه ، فإن الخط دال على اللفظ ، واللفظ

دال على القصد والإرادة ، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط ، وذلك كما يفرض من

اشتباه الصور والأصوات ، وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن

خط غيره كتميز صورته وصوته عن صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا

يستريبون فيها على أن هذا فيه خط فلان ، وإن جازت محاكاته ومشابهته ، فلا بد

من فرق ، وهذا أمر يختص بالخط العربي ، ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعًا

لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة.

وقد دلت الأدلة المتضافرة التي تقرب من القطع على قبول شهادة الأعمى فيما

طريقه السمع إذا عرف الصوت ، مع أن تشابه الأصوات إن لم يكن أعظم من

تشابه الخطوط ، فليس دونه ، وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا

وجد في دفتر مورثه: إن لي عند فلان كذا؛ جاز له أن يحلف على استحقاقه ،

وأظنه منصوصًا عنهما ، وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ما علي؛

جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته، ولم يزل الخلفاء والقضاة

والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم إلى بعض ، ولا يشهدون حاملها على

ما فيها ، ولا يَقْرءُونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن.

وقال البخاري في صحيحه (باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من

ذلك وما يضيق عليهم فيه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي) : وقال

بعض الناس [1] : كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود ، قال: وإن كان القتل خطأ؛

فهو جائز لأنه مالٌ بزعمه ، وإنما صار مالاً بعد أن ثبت القتل ، فالخطأ والعمد

واحد.

وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود ، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن

كسرت.

وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم ،

وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي ، ويروى عن ابن عمر نحوه،

وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي: شهدت عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة

وإياس بن معاوية والحسن وثمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد

الله بن بريدة وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كتب القضاة بغير

محضر من الشهود ، فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور ، قيل له: اذهب؛

فالتمس المخرج من ذلك، وأول من سأل على كتاب القاضي البينة ابن أبي ليلى

وسَوَّار بن عبد الله ، وقال لنا أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محرز: جئت بكتاب من

موسى بن أنس قاضي البصرة ، وأقمت عنده البينة أن لي عند فلان كذا وكذا وهو

بالكوفة فجئت به [2] القاسم بن عبد الرحمن ، فأجازوه، وكره الحسن وأبو قلابة

أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها ، لأنه لا يدري لعل فيها جورًا، وقد كتب

النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر (إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تأذنوا

بحرب) . اهـ[3] .

وأجاز مالك الشهادة على الخطوط ، فروى عنه ابن وهب في الرجل يقوم

يذكر حقًّا قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين على خط كاتب الخط ، قال:

تجوز شهادتهما على كاتب الكتاب إذا كان عدلاً مع يمين الطالب ، وهو قول ابن

القاسم ، وذكر ابن شعبان عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على

الخط ، وعد قوله شذوذًا، قال ابن حارث: ولقد قال مالك - في رجل قال: سمعت

فلانا يقول: ورأيت فلانا قتل أو قال: سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها -: إنه لا

يشهد على شهادته إلا أن يشهده، فالخط أبعد من هذا وأضعف، قال: ولقد قلت

لبعض القضاة: أتجوز شهادة الموتى، فقال: ما هذا الذي تقول؟ ، فقلت: إنكم

تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه في وثيقة ، فسكت.

وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن

الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور.

وقد قال مالك في الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور ،

وقد روى ابن نافع عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتيم، حتى

إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه ، فيجاز لهم حتى اتهم الناس

فصار لا يقبل إلا بشاهدين اهـ.

واختلف الفقهاء فيما إذا أشهد القاضي شاهدين على كتابه ، ولم يقرأه عليهما ،

ولا عرفهما بما فيه ، فقال مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله،

ويقول الشاهد: إن هذا كتابه دفعه إلينا مختومًا، وهذا إحدى الروايتين عن

الإمام أحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضي؛ لم

يعمل المكتوب إليه بما فيه ، وهو إحدى الروايتين عند مالك، وحجتهم أنه لا يجوز

أن يشهد إلا بما يعلم، وأجاب الآخرون بأنهما لم يشهدا بما تضمنه ، وإنما شهدا بأنه

كتاب القاضي وذلك معلوم لهما، والسنة الصريحة تدل على صحة ذلك ، وتغير

أحوال الناس وفسادها يقتضي العمل بالقول الآخر ، وقد يثبت عند القاضي من أمور

الناس ما لا يحسن أن يطلع عليه كل أحد مثل الوصايا التي يتخون الناس فيها ،

ولهذا يجوز عند مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن يشهدا على الوصية المختومة ،

ويجوز عند مالك أن يشهدا على كتاب مدرج ، ويقولا للحاكم: نشهد على إقراره

بما في هذا الكتاب.

وقال المانعون من العمل بالخطوط: الخطوط قابلة للمشابهة والمحاكاة ، وهل

كانت قصة عثمان ومقتله إلا بسبب الخط ، فإنهم صنعوا مثل خاتمه ، وكتبوا مثل

كتابه حتى جرى ما جرى ، ولذلك قال الشعبي: لا تشهد أبدًا إلا على شيء تذكره ،

فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا، قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار

فنعم ، وهاهنا أمثالها ، ولكن كان ذاك إذ الناس ناس.

وأما الآن فكلا ، إذ كان الأمر قد تغير في زمن مالك وابن أبي ليلى ، حتى

قال مالك: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم ، حتى إن القاضي ليكتب للرجل

الكتاب ، فلم يزد على ختمه حتى اتهم الناس ، فصار لا يقبل إلا شاهدان.

وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا هذا بالشهادة على الخط؛ لأن

الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور ، وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة

على خاتم كتاب القاضي.

فإن قيل: فما تقولون في الدابة يوجد على فخذها صدقة أو وقف أو حبس هل

للحاكم أن يحكم بذلك؟ (قيل) : نعم ، له أن يحكم ، وصرح به أصحاب مالك ،

فإن هذه أمارة ظاهرة ، ولعلها أقوى من شهادة الشاهد ، وقد ثبت في الصحيحين من

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه

وسلم بعبد الله بن أبي طلحة؛ ليحنكه ، فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة،

وللإمام أحمد عنه دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسم غنمًا في آذانها.

وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب رضي

الله عنه: إن في الظهر ناقة عمياء ، فقال عمر: ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها ،

قال: فقلت: هي عمياء ، فقال عمر: يقطرونها بالإبل ، قال: فقلت: كيف تأكل

من الأرض؟ ، قال: فقال عمر: أمن نعم الجزية هي ، أم من نعم الصدقة؟ فقلت:

من نعم الجزية، فقال عمر: أردتم والله أكلها ، فقلت: إن عليهم وسم الجزية.

ولولا أن الوسم يميز الصدقة من غيرها ، ويشهد لما هو وسم عليه؛ لم يكن

فيه فائدة ، بل لا فائدة للوسم إلا ذلك ، ومن لم يعتبر الوسم؛ فلا فائدة فيه عنده.

فإن قيل: فما تقولون في الدار يوجد على بابها أو حائطها الحجر مكتوبًا فيه

أنها وقف أو مسجد هل يحكم بذلك؟ قيل: نعم ، يقضى به ويصير وقفًا ، صرح

به بعض أصحابنا ، وممن ذكره الحارثي في شرحه.

فإن قيل: يجوز أن ينقل الحجر إلى ذلك الموضع؟ ، قيل: جواز ذلك

كجواز كذب الشاهدين؛ بل هذا أقرب؛ لأن الحجر يشاهد جزءًا من حائط داخلاً

فيه ليس عليه شيء من أمارات النقل؛ بل يقطع غالبًا بأنه بني مع الدار ، ولا

سيما حجر عظيم وضع عليه الحائط بحيث يتعذر وضعه بعد البناء ، فهذا أقوى من

شهادة رجلين ورجل وامرأتين.

فإن قيل: فما تقولون في كتب العلم يوجد على ظهرها وهوامشها كتابة الوقف ،

هل للحاكم أن يحكم بكونها وقفًا بذلك؟ قيل: هذا يختلف باختلاف قرائن الأحوال ،

فإذا رأينا كتبًا مودعة في جراب ، وعليها كتابة الوقف ، وهي كذلك مدة متطاولة

وقد اشتهرت بذلك؛ لم نسترب في كونها وقفًا ، وحكمها حكم المدرسة التي عهدت

لذلك ، وانقطعت كتب وقفها أو فقدت، ولكن يعلم الناس على تطاول المدة كونها

وقفًا ، فيكفي في ذلك الاستفاضة ، فإن الوقف يثبت بالاستفاضة ، وكذلك مصرفه ،

وأما إذا رأينا كتابًا لا نعلم مقره ، ولا عرف من كتب عليه الوقف؛ فهذا يوجب

التوقف في أمره حتى يتبين حاله، والمعول في ذلك على القرائن ، فإن قويت؛

حكم بموجبها ، وإن ضعفت؛ لم يلتفت إليها، وإن توسطت؛ طلب الاستظهار ،

وسلك طريق الاحتياط ، وبالله التوفيق.

وقد قال أصحاب مالك في الرجلين يتنازعان في حائط ، فينظر إلى عقده أو

من له خشب أو سقف وما أشبه ذلك مما يرى بالعين: يقضى به لصاحبه ، ولا

يكلف الطالب البينة، وكذلك القنوات التي تشق الدار والبيوت إلى مستقرها إذا

سدها الذي شقت داره ، وأنكر أن يكون عليها مجرى لأحد ، فإذا نظروا إلى القناة

التي شقت داره وشهدوا بذلك عند القاضي ، ولم يكن عنده في شهادة الشهود الذين

وجههم لذلك مدفع؛ ألزموه مرور القناة على داره ، ونهي عن سدها ومنع منه،

قالوا: فإذا نظروا في القناة تشق داره إلى مستقرها ، وهي في قناة قديمة والبنيان

فيها ظاهر حتى تصب في مستقرها ، فللحاكم أن يلزمه مرور القناة ، كما وجدت في

داره.

قال ابن القاسم فيما رواه ابن عبد الحكم عنه: إذا اختلف الرجلان في جدار

بين داريهما كل يدعيه ، فإن كان عقد بنائه إليهما؛ فهو بينهما ، وإن كان معقودًا

إلى أحدهما ، ومنقطعًا من الآخر؛ فهو إلى من إليه العقد ، وإن كان منقطعًا بينهما

جميعاً؛ فهو بينهما، وإن كان لأحدهما فيه كوى ، ولا شيء للآخر فيه ، وليس

بمنعقد إلى واحد منهما؛ فهو إلى من إليه مرافقه، وإن كانت فيه كوى لكليهما؛ فهو

بينهما، وإن كانت لأحدهما عليه خشب ، ولا عقد فيه لواحد منهما؛ فهو لمن عليه

الحمل، فإن كان عليه حمل لهما جميعًا؛ فهو بينهما.

والمقصود أن الكتابة على الحجارة والحيوان وكتب العلم أقوى من هذه

الأمارات بكثير ، فهي أولى أن يثبت بها حكم تلك الكتابة ، لا سيما عند عدم

المعارض ، وأما إذا عارض ذلك بينة لا تتهم ، ولا تستند إلى مجرد التبديل بسبب

الملك والاستزادة؛ فإنها تقدم على هذه الأمارات بمنزلة البينة والشاهد ، واليد تدفع

بذلك. اهـ. الفصل.

وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ دعوة ربه إلى ملوك الآفاق بالكتابة ،

وكتبت معاهداته مع الكفار كتابة ، وكان يكتب لعماله ، وكذلك خلفاؤه، والقرآن

بلغت نسخته إلى الآفاق بالكتابة على كون حفاظه كانوا من أول الإسلام إلى الآن

يعدون بالألوف ، وسائر كتب السنة والفقه كذلك ، فالخط حجة من أقوى الحجج،

وتضعيفه باحتمال التزوير فيه ، وشهادة الزور أسهل وأكثر وأعم من تزوير الخط ،

ولذلك كان جل اعتماد كل الأمم على الخط.

_________

(1)

هو أبو حنيفة وأصحابه.

(2)

أي بالكتاب.

(3)

أي البخاري.

ص: 617

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌زيارة القبور للتبرك

بسم الله الرحمن الرحيم

من مصطفى نور الدين إلى شيخ المرشدين وزعيم المصلحين وإمام المجددين

لما درس من أمر الدين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد ، فإني سمعت بكتاب اسمه (الإبداع

في مضار الابتداع) لمؤلفه الشيخ علي محفوظ ، فاستحضرته؛ لأقرأه ، فلما

وصلت في قراءته إلى صحيفة 87 عثرت على هذه العبارة في السطر الثالث عشر

من هذه الصحيفة وهي: (ومن الزيارة التي يرجع نفعها إلى الزائر ما تكون للتبرك ،

فتستحب لأهل الخير؛ لأن لهم في برازخهم بركات، وعليهم تتنزل الرحمات) ،

فهل يحسن السكوت على هذه العبارة؟

إن السكوت على هذه العبارة وأمثالها يعد من الكتمان الذي توعد الله عليه في

كتابه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (البقرة: 159)

الآية، خصوصًا وأنها منشورة في كتاب موضوعه من أهم مقاصد أهل الإصلاح ،

فالثقة والاغترار بها أقرب، وأيضًا فإن المفاسد والأضرار المترتبة على مدلولها

كثيرة لا يحصيها إلا الله من الافتتان بالقبور وأصحابها، وهي الفتنة التي عم

بلاؤها، وانتشر وباؤها، وعظم داؤها، وعز دواؤها - ولا سبب للإفساد بالقبور

وأصحابها إلا الاعتقاد بالانتفاع بما لهم في برازخهم من البركات، وما ينزل عليهم

من الرحمات، فإن الإنسان مطبوع على حب النافع ، فإذا اعتقد ذلك؛ سعى بكل

وسعه في تعظيم أهلها ، ثم تدرج من تعظيمهم إلى تعظيم قبورهم بالصلاة عندها

والطواف بها وتقبيلها واستلامها ووضع التماثيل عليها ، وهي مزينة بأنواع الزينة ،

حتى العمامة للذكر والخمار للأنثى، وبأشياء كثيرة مما كان يفعله عباد الأصنام

لأوثانهم.

إن دعوى استحباب زيارة قبور أهل الخير لأجل التبرك دعوى باطلة ، وقول

على الله بغير علم ، ولا دليل عليه أصلاً، بل قامت الأدلة على حرمتها، فإن

الأحاديث التي وردت في التحذير من الافتتان بالقبور وأهلها؛ تدل على أن الزيارة

لمجرد التبرك محرمة؛ لأن اعتقاد التبرك ذريعة من أعظم الذرائع المفضية إلى

أكبر الكبائر وهو الشرك ، فقد قال ابن القيم في باب سد الذرائع: (ومن تأمل

مصادر الشريعة ومواردها؛ علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم

بأن حرمها) ، وقال في موضع آخر: (إن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه

أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر، لهذا تجد كثيرًا من الناس عند القبور

يتضرعون ، ويخشعون ، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله ، ولا في

أوقات السحر) إلخ.

فهذا هو الدليل على حرمة الزيارة إذا كان الغرض منها التبرك ، فما الدليل

على استحبابها؟

إن الأحاديث التي جاءت بشأن زيارة القبور لا تدل على استحباب الزيارة إلا

إذا كان الغرض منها التذكر والاعتبار بالموت وما بعده ، ففي حديث مسلم (زوروا

القبور؛ فإنها تذكر الآخرة) ، فقد قصر علة الزيارة على تذكرة الآخرة فلم يطلق

بدون ذكر علة ، حتى يمكن أن يقال ولو للتبرك ، بل قيدها بهذه العلة ، واقتصر

عليها ، ولم يذكر علة أخرى، وعلى هذا؛ فدعوى استحباب الزيارة لعلة غير التي

ذكرت في الحديث ، وزيادة علة لا تشبهها في معناها؛ يعد من الابتداع والتشريع

لما لم يأذن به الله، ويعد افتياتًا على الشارع، بل معارضة لمقاصده من سد الذرائع

المفضية إلى الشرك بالقبور وأهلها ، وهذا هو الابتداع بعينه، ومن المصيبة أن

هذه العبارة منشورة في كتاب اسمه (الإبداع في مضار الابتداع) ، ويا ليته ابتداع

لم يترتب عليه ضرر؛ بل قد ترتب على هذه الفرية (استحباب الزيارة للتبرك)

من المضار والمفاسد ما لا يحصيه إلا الله.

فجميع أنواع البدع التي تفعل عند قبور الصالحين لا سبب لها إلا الاعتقاد بأن

لهم في برازخهم بركات ، وعليهم تنزل الرحمات، وأنهم ينتفعون بتلك البركات

والرحمات، ولذلك تجد عوام الناس ، بل وخواصهم لا يقصدون من زيارة قبور

الصالحين إلا هذه الغاية، فهل تجد أحدًا يقصد قبور الصالحين للتذكر والاعتبار

بالموت وما بعده؟ كلا ، إنما كانت زيارة القبور عبادة مستحبة؛ لأن الغرض منها

أمر محبوب للشارع مقصود له ، وهو التذكر والاعتبار، فكيف تكون الزيارة بقصد

التبرك عبادة مستحبة والغرض منها إنما هو من هوى النفس وحظوظها؟ {إِن

يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} (النجم: 23) .

ثم يقال لأهل هذه الضلالة أيضًا: من أين أتاكم أن البركات التي لأهل الخير

في برازخهم ، والرحمات التي تنزل عليهم تنال زائريهم؟ والحال أن هذا أمر

غيبي لا يصح أن يقال إلا عن توقيف من الشارع ، إذ لا مجال للرأي والعقل فيه ،

ويا ليتهم اقتصروا على هذه الفرية؛ بل رتبوا عليها حكماً شرعيًّا ، وقالوا: يستحب

زيارة أهل الخير لما لهم في برازخهم من البركات ، وما ينزل عليهم من الرحمات ،

سبحانك هذا بهتان عظيم، وهل تدري أيها القارئ من أين أتت هذه الضلالة ،

وأدخلت في الدين؟ جاءت من الفلاسفة الضالين المضلين التاركين لنصوص

الشريعة معتمدين على عقولهم وآرائهم؛ فضلوا ، وأضلوا، فقد قال ابن القيم في

إغاثته: (إن أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة من عباد الأصنام ، فإنهم

قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف

من الله تعالى ، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به ، وأدناه

منه؛ فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها) .ا. هـ

ثم قال: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي، ثم قال:

وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها ،

وتعليق الستور عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والدعاء بهم ، والنذر

لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله قد بعث رسله ، وأنزل كتبه بإبطال ذلك ،

وتكفير أصحابه ولعنهم ، وهو الذي قصد رسول الله إبطاله ، ومحوه بالكلية، وسد

الذرائع المفضية إليه، فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه ، وناقضوه في

قصده، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان ، وهو شديد التعلق به ،

فما حصل من السلطان من الإنعام والإفضال نال ذلك المتعلق من حصته بحسب

تعلقه به، وبهذا السبب عبد الناس أصحاب القبور.

وقال أيضًا رضي الله عنه: ولا تحسبن أيها المؤمن المنعم عليه باتباع

الصراط المستقيم أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانًا فيه غض من أصحابها ،

وتنقيص لهم، كلا ليس هذا من تنقصهم كما يحسبه الجهال أهل البدع والضلال،

بل هو من تعظيمهم وإكرامهم واحترامهم وسلوك فيما يحبون، واجتناب لما يكرهون،

وأنت - وايم الله - وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم، وأنت على هداهم.

وأما هؤلاء المبتدعون الضالون ، فقد نقصوهم في صورة التعظيم، فهم أبعد

الناس من هداهم ومتابعتهم ، كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى،

والروافض مع علي. هو من قبيل الصديق الجاهل الذي هو أضر من العدو العاقل،

فأهل الحق أحق بأهل الحق من أهل الباطل ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء

بعض ، والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، فإن القلوب إذا اشتغلت بالبدع؛

أعرضت عن السنن، ولذلك نجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن

طريقة من كان يتبع السنن ويحييها، مشتغلين بغير ما أمر به ودعا إليه.

وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما تكون باتباع ما دعوا إليه من العلم

النافع والعلم الصالح ، واقتفاء آثارهم ، وسلوك طريقهم دون عبادة قبورهم ،

والعكوف عليها ، واتخاذها أوثانًا ، فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم

باتباعه لهم، ودعوة الناس إلى اتباعهم، فإن أعرض عما دعوا إليه ، واشتغل

بضده، حرم نفسه وإياهم من ذلك الأجر، فأي تعظيم واحترام له في هذا.. انتهى.

هذا وإني كنت أود أن الرد على هذه العبارة المضلة يكون من فضيلتكم؛ لما

هو معلوم من البون الشاسع بين ما أوتيتم من سعة العلم ، وما أوتيه مثلي، ولكن

لعلمي بكثرة مشاغلكم الإصلاحية؛ كتبت هذا الذي يسر الله لي ، فقد قال تعالى:

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ

مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7) ، ولكن ما فائدة الكتابة بدون نشر، ومن ينشر مثل

هذا غير مجلتكم المنار مجلة الإصلاح الوحيدة في هذا الزمان، وإني لا أجد من

ينصر هذا الحق ويعينني عليه غيركم ، فقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ

وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2)، وقال:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71) وفقنا الله وإياكم، وبارك لنا فيكم ، ونفعنا بعلومكم والسلام عليكم.

...

...

... كاتبه: مصطفى نور الدين بدمياط

(المنار)

إن كتاب الإبداع هذا لم يهد إلينا ، وإنما رأينا نسخة منه جيء بها إلى مكتبة

المنار لأجل تجليدها لصاحبها ، فنظرنا في فهرسه وبعض أوراقه؛ فسرَّنا أن يؤلف

مدرس في الأزهر كتابًا في مضار الابتداع ، وينكر كثيرًا من البدع التي يشارك

الأزهريون فيها العامة ، ويتأولون النصوص الدالة على حظرها، ورأينا في النظرة

العجلى القصيرة الزمن بعض مسائل منتقدة ، لعل هذه المسألة منها ، وأحببنا لو يتاح

لنا تصفح الكتاب كله لبيان منافعه وفوائده ، والتنبيه لما ينتقد منه لعله يجتنب

في الطبعة الثانية المرجوة لمثله ، ثم لم نره بعد ذلك.

_________

ص: 625

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ الأستاذ الكبير صاحب الفضيلة الشيخ:

مصطفى نجا - مفتي بيروت

لخلاصة السيرة المحمدية

حضرة الأستاذ العلامة المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرم أدام الله تعالى

توفيقه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد اطلعت على كتاب (خلاصة

السيرة المحمدية) ، وتأملت فيه؛ فوجدته من أنفس الكتب التي ألفت لتهذيب نفوس

أولاد المسلمين ، وتعليمهم مكارم الأخلاق التي بعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم.

فيا له من كتاب علمنا كيف يكون الاقتداء بإمام المرسلين ورسول رب العالمين

الذي شرف الإنسانية بفضائله وآدابه الصحيحة السامية! ، ولكن أكثر الذين تعلموا

من أولادنا ، وتربوا في مدارس الأغيار ، وغيرها من المدارس الأهلية التي اقتفت

أثر الغرب في التربية والتعليم لا يعرفون فضل ما جاء به هذا النبي الكريم حق

المعرفة ، فإذا ذكر اسمه الشريف لا يصلون عليه ، ولا يسلمون لغفلتهم عما يجب

عليهم من تعظيمه ، وقلما نرى أحدًا منهم متدينًا حق التدين، وربما كان السبب في

ذلك الآباء والمعلمون ، فلأجل المحافظة على عقائدهم الدينية ، وتنوير عقولهم

بأنواره عليه الصلاة والسلام؛ أرى من الواجب على نظار المدارس الإسلامية أن

لا يوسدوا أمر التربية والتعليم إلا إلى العالم المتدين الذي يهتم بأمر المسلمين ،

ويعرف طرق التربية الحقيقية ، وأن يقرروا كتاب خلاصة السيرة المحمدية

للتدريس في مدارسهم لأنه من أفضل كتب المطالعة التي لها في القلوب أجمل تأثير ،

وشأن عظيم في التربية الروحية والأدبية والاجتماعية، بل هو فريد في بابه،

مفيد لطلابه، رواياته صحيحة، وعباراته فصيحة، والأخذ منه سهل على المعلم

والمتعلم، وهو ذخيرة للناشئين، وتذكرة للمتعلمين، كما قلت أيها الأستاذ الناصر

للسنة السنية الحريص على نفع الأمة.

فلك منا على تأليفه الثناء الجميل ، ونرجو الله تعالى أن يمنحك الأجر الجزيل؛

...

...

...

... (الختم) مفتي بيروت

_________

ص: 629

الكاتب: أحمد شوقي

‌حفلة التأبين الكبرى

كانت الحفلة الكبرى لتأبين سعد باشا ورثائه أفخم وأعظم وأشجى من كل ما

سبقها من أمثالها كسائر مظاهر إجلال الرجل حيًّا وميتًا ، وقد خطب فيها أعظم

رجال مصر من الوزراء والشيوخ والنواب وغيرهم ، وأنشدت القصائد لأشعر

الشعراء كما أشرنا إليه في فصل ترجمة الفقيد، وإننا ننشر في هذا الجزء مرثية

أحمد شوقي بك أمير الشعراء ، وسننشر من بعدُ بعضَ الخطب الجليلة؛ حتى لا

يحرم قراء المنار من أبلغ ما قاله أفصح العرب في هذا العصر في نابغة العرب في

السياسة والفصاحة العربية ، وهي هذه:

شيعوا الشمس ومالوا بضحاها

وانحنى الشرق عليها فبكاها

ليتني في الركب لما أفلت

يوشع همت فنادى فثناها

جلل الصبحَ سوادًا يومها

فكأن الأرض لم تخلع دجاها

انظروا تلقوا عليها شفقًا

من جراحات الضحايا ودماها

وتروا بين يديها عبرة

من شهيد يقطر الورد شذاها

آذن الحق ضحاياه بها

ويحه! ! حتى إلى الموتى نعاها

كفنوها حرة علوية

كست الموت جلالاً وكساها

ليس في أكفانها إلا الهدى

لُحْمة الأكفان حق وسَداها

خَطَرَ النعشُ على الأرض بها

يحسر الأبصار في النعش سناها

جاءها الحق ومن عاداتها

تؤثر الحق سبيلاً واتجاها

ما درت مصر بدفن صُبحت؟

أم على البعث أفاقت من كراها

صرخت تحسبها بنت الشَّرى

طلبت من مخلب الموت أباها

وكأن الناس لما نسلوا

شعب السيل طغت في ملتقاها

وضعوا الراح على النعش كما

يلمسون الركن فارتدت نزاها

خفضوا في يوم سعد هامهم

وبسعد رفعوا أمس الجباها

سائلوا (زحلة)[1] عن إعراسها

هل مشى الناعي عليها فمحاها

عطل المصطاف من سماره

وجلا عن ضفة الوادي دماها

فتح الأبواب ليلاً ديرُها

وإلى الناقوس قامت بيعتاها

صدع البرق الدجى تنشره

أرض سوريا وتطويه سماها

يحمل الأنباء تسري موهنًا

كعوادي الثكل في حر سراها

عرض الشك لها فاضطربت

تطأ الآذان همسًا والشفاها

قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم

كل نفس في وريديها رداها

قلت والنعش بسعد مائل

فيه آمال بلاد ومناها

كلما أمعن في نقلته

ضجت الأرض على قطب رحاها

يا عدو القيد لم يلمح له

شبحًا في خطة إلا أباها

لا يضق ذرعك بالقيد الذي

حز في سوق الأوالي وبراها

وقع الرسل عليه والتوت

أرجل الأحرار فيه فعفاها

يا رفاتًا مثل ريحان الضحى

كللت عدن بها هام رباها

وبقايا هيكل من كرم

وحياة أترع الأرض حياها

ودع العدل بها أعلامه

وبكت أنظمة الشورى صُواها

حضنت نعشك والتفت به

راية كنت من الذل فداها

ضمت الصدر الذي قد ضمها

وتلقى السهم عنها فوقاها

عجبي منها ومن قائدها

كيف يحمي الأعزلُ الشيخُ حماها

منبر الوادي ذوت أعواده

من أواسيها وجفت من ذراها

من رمى الفارس عن صهوتها

ودها الفصحى بما ألجم فاها

قَدَرٌ بالمدن ألوى والقرى

ودها الأجيال منه ما دهاها

غال (بسطورا) وأردى عصبة

لمست جرثومة الموت يداها

طافت الكأس بساقي أمة

من رحيق الوطنيات سقاها

عطلت آذانها من وتر

ساحر رن مليا فشجاها

أرغنٌ هام به وجدانها

وأَذانٌ عشقته أُذُناها

كل يوم خطبة روحية

كالمزامير وأنغام لغاها

دلهت مصرًا ولو أن بها

فلوات دلهت وحش فلاها

ذائد الحق وحامي حوضه

أنفذت فيه المقادير مناها

أخذت سعدًا من (البيت) يد

تأخذ الآساد من أصل شراها

لو أصابت غير ذي روح لما

سلمت منها الثريا وسُهَاها [2]

تتحدى الطب في قفازها

علة الدهر التي أعيا دواها

من وراء الإذْن نالت ضيغمًا

لم ينل أقرانه إلا وجاها

لم تصارح أصرح الناس يدًا

ولسانًا ورقادًا وانتباها

هذه الأعواد من آدم لم

يهد خفاها ولم يعر مطاها

نقلت (خوفو) ومالت (بمنا)

لم يَفُتْ حيًّا نصيب من خطاها

تخلط العمرين شيبًا وصبًا

والحياتين شقاءً ورفاها

زورق في الدمع يطفوا أبدًا

عرف الضفة إلا ما تلاها

تهلع الثكلى على آثاره

فإذا خف بها يومًا شفاها

تسكب الدمع على سعد دمًا

أمة من صخرة الحق بناها

من ليان هو في ينبوعها

وإباء هو في صم صفاها

لقن الحق عليه كهلها

واستقى الإيمان بالحق فتاها

بذلت مالاً وأمنًا ودما

وعلى قائدها ألقت رجاها

حملته ذمة أوفى بها

وابتلته بحقوق فقضاها

ابن سبعين تلقى دونها

غربة الأسر ووعثاء نواها

سفر من عدن الأرض إلى

منزل أقرب منه قطباها

قاهر ألقى به في صخرة

دفع النسر إليها فأواها

كرهت منزلها في تاجه

درة في البحر والبر نفاها

اسألوها واسألوا شانئها

لِمَ لَمْ ينف من الدر سواها

ولد الثورة سعد حرة

بحياتي ما جدٌّ حُرٌّ نماها

ما تمنى غيرها نسلاً ومن

يلد الزهراء يزهد في سواها

سالت الغابة من أشبالها

بين عينيه وماجت بلباها

بارك الله له في فرعها

وقضى الخير لمصر في جناها

أو لم يكتب لها دستورها

بالدم الحر ويرفع منتداها

قد كتبناها فكانت صورة

صدرها حق وحق منتهاها

رقد الثائر إلا ثورة

في سبيل الحق لم تخمد جذاها

قد تولاها صبيًّا فكوت

راحتيه وفتيا فرعاها

جال فيها قلمًا مستنهضًا

ولسانًا كلما أعيت حداها

ورمى بالنفس في بركانها

فتلقى أول الناس لظاها

أعلمتم بعد موسى من يد

قذفت في وجه فرعون عصاها

وطئت ناديَه صارخة:

شاهَ وجهُ الرق يا قوم وشاها

ظفرت بالكبر من مستكبر

ظافر الأيام منصورًا لواها

القنا الصم نشاوى حوله

وسيوف الهند لم تصح ظباها

أين من عيني نفس حرة

كنت بالأمس بعيني أراها

كلما أقبلت هزت نفسها

وتواصى بشرها بي ونداها

وجرى الماضي فماذا ادكرت

وادكار النفس شيء من وفاها

ألمح الأيام فيها وأرى

من وراء السن تمثال صباها

لست أدري حين تندى نضرة

علت الشيب أم الشيب علاها؟

حلت السبعون في هيكلها

فتداعى وهي موفور بناها

روعة النادي إذا جدت فإن

مزحت لم يذهب المزح بهاها

يظفر العذر بأقصى سخطها

وينال الود غايات رضاها

ولها صبر على حسادها

يشبه الصفح وحلم عن عداها

لست أنسى صفحة ضاحكة

تأخذ النفس وتجري في هواها

وحديثًا كروايات الهوى

جد للصب حنين فرواها

وقناة صعدة لو وهبت

للسماك الأعزل اختال وتاها

أين مني قلم كنت إذا

سمته أن يرثي الشمس رثاها

خانني في يوم سعد وجرى

في المراثي فكبا دون مداها

في نعيم الله نفس أوتيت

أنعم الدنيا فلم تنس تقاها

لا الحجى لما تناهى غَرَّهَا

بالمقادير ولا العلم زهاها

ذهبت أوابة مؤمنة

خالصًا من حيرة الشك هداها

آنست خلقًا ضعيفًا ورأت

من وراء العالم الفاني إلها

ما دعاها الحق إلا سارعت

ليته يوم (وصيف) ما دعاها

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

زحلة بلدة في جبل لبنان كان الشاعر مصطافًا فيها.

(2)

المنار: السُّهَا بالضم كوكب صغير خفي يراه حديد البصر بجانب الكوكب الأوسط من بنات نعش فهو ليس من كواكب الثريا؛ ولكن فيها مثله ، ولذلك يعدها بعض الناس ستًّا وبعضهم سبعًا.

ص: 630

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شعر في وصفة طبية قديمة

جواب عن سؤال

مقتبسة من كتاب أطباء العرب في ألمانيا الذي يشتغل بتأليفه الدكتور زكي

كرام.

شكا الوزير أبو طالب العلوي آثار بثر بَدَا على جبهته ، ونظم شكواه شعرًا ،

وأنفذه إلى الشيخ الرئيس (ابن سينا) وهو:

صنيعة الشيخ مولانا وصاحبه

وغرس إنعامه بل نشء نعمته

يشكو إليه أدام الله مدته

آثار بثر تبدى فوق جبهته

فامنن عليه بحسم الداء مغتنمًا

شكر النبي له مع شكر عترته

فأجاب الشيخ الرئيس عن أبياته ووصف في جوابه ما كان به برؤه ، فقال:

الله يشفي وينفي ما بجبهته

من الأذى ويعافيه برحمته

أما العلاج فإسهال يقدمه

ختمت آخر أبياتي بنسخته

وليرسل العلق المصاص يرشف من

دم القذال ويغني عن حجامته

واللحم يهجره إلا الخفيف ولا

يدني إليه شرابًا من مدامته

والوجه يطليه ماء الورد معتصرًا

فيه الخلاف مدافًا وقت هجعته

ولا يضيق منه الزر مختنقًا

ولا يصيحن أيضًا عند سخطته

هذا العلاج ومن يعمل به سيرى

آثار خير ويكفى أمر علته

...

...

...

...

...

ز. ك

_________

ص: 634

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنباء العالم الإسلامي

(بلادنا المصرية)

فقدت هذه البلاد بموت زعيمها الأكبر سعد باشا زغلول ركن نهضتها، وسياج

وحدتها، وروح قوتها، ومناط آمالها في نيل الاستقلال التام المطلق، وأثبت لها ما

قالته الجرائد البريطانية فيه بعد موته أنها غير مخطئة في آمالها فيه وتعلقها به،

ولكنه قد مهد السبيل قبل وفاته للسياسي المحنك عبد الخالق ثروت باشا رئيس

الوزارة الائتلافية، للاتفاق مع الحكومة البريطانية على حد عقد الخلاف بمعاهدة

بين المملكتين، فإذا أمكن لرجال الوفد وسائر الأحزاب المحافظة على وحدة البلاد

واتفاق كلمتها بنظام حكيم يؤدي وظيفة الزعيم في ذلك؛ فإن البلاد تنال بذلك ما كان

مرجوًّا لها بوجوده أو ما يقرب منه ، وإلا تعذر الاتفاق بين الدولتين ، وعاد الجهاد

إلى ما كان عليه، فالفرصة الآن سانحة للفريقين بهذا وبحرص الدولة البريطانية

على تسوية المشاكل بينها وبين الشعوب الشرقية لئلا تفاجئها الحرب البلشفية العامة

الآتية، وهذه الشعوب على عداوتها؛ فيتعذر عليها الاستفادة منها كالحرب التي

قبلها أو الأمن من قيامها عليها وانتقامها منها.

***

(الشعب التركي)

كنا نعلن أن مصطفى باشا كمال يشنأ الإسلام ، ويمقته من قبل أن يظهر ذلك،

ونعلم أن ملاحدة الترك الموافقين له على السعي لتحويل الشعب التركي عن

الإسلام بغضًا فيه ، وفي العرب قوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرون،

وكنا نتمنى قبل تأليفه للجمهورية اللادينية لو يظل هو وأركان حزبه يظهرون الإسلام

ويحافظون على اسمه وشعائره الظاهرة ، ولا يعلنون عداوته مراعاة للشعب التركي

فأبوا إلا أن يهدموا كل ما بقي للدولة فيه من مظهر وشعيرة وحكم وعمل وعلم،

بعد أن وضعوا في قانون الجمهورية أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، فلم نشك

وقد رأينا ما رأينا من هدمهم للإسلام من الدولة ، ثم محاولة هدمه في الأمة أن هذا

اللقب قد وضع تقية لئلا يكون لمفاجأة الأمة بترك دينها اسمًا ومعنى تأثير تخشى

غائلته، وقد صرح مصطفى كمال باشا نفسه أخيرًا بعد أن صرح مرارًا بأن التركي

حر في اختيار الدين الذي يعجبه وثنيًّا كان أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولعمري إنه ليس

حرًّا في أن يكون مسلمًا ، فإنه يجبر إجبارًا على استباحة شرائع الإسلام من حلال

وحرام.

إن الحكومة الكمالية الشخصية العسكرية (الدكتاتورية) قد خصصت زهاء

نصف ميزانيتها للمصالح العسكرية وما يتعلق بها من حفظ الأمن في البلاد ، وهي

في حال السلم ، فمزقت شمل المعارضة التي قام بها الزعماء المسلمون ، وكذلك

الثورات المتتابعة ، ولما لم يبق في المملكة صوت يرتفع صرح مصطفى كمال باشا

بأن وضع اسم الإسلام في قانون جمهوريته كان مؤقتاً ، وقد حان الوقت.

ومن أعجب أمر انتكاس المسلمين في دينهم وعقولهم أن أكثرهم لم يكونوا

يصدقون أن مصطفى كمال باشا قد انتزع الدولة التركية من حظيرة الإسلام ، وأنه

يحاول انتزاع الشعب التركي منها، فإن منهم من سمى إلغاءه للأحكام الشرعية

ومحاكمها توحيدًا للمحاكم لا ينافي الإسلام - وسمى منعه للتعليم الإسلامي وإبطاله

لمدارسه توحيدًا للتعليم التركي لا ينافي الإسلام ، وسمى تفضيله للقوانين الأوربية

المسيحية الأساس كقانون سويسرة للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث إيثارًا

للأحكام المدنية الجديدة على الأحكام الدينية القديمة الرثة البالية كما يقول هو وحزبه.

ولم يصرحوا بهذا إلا بعد أن صرح به كبراء الدولة الجديدة من الحكام

وأصحاب الجرائد، فكل ما ذكر لم يمنع بعض مسلمي الهند من إرسال وفد له

يعرض عليه منصب الخلافة الإسلامية؛ فرده خائبًا خاسرًا كما يستحق.! ! !

وقد بلغنا رواية عن بعض كبراء الترك في أوربة ونحن فيها منذ بضع سنين أن

مصطفى كمال باشا يرجح تنصير الشعب التركي ، ولكنه يود أن يأخذ ثمنًا على ذلك

من الدولة البريطانية هو أن تعامل الشعب التركي معاملة الأقران والأمثال،

وتحالفه محالفة الأنداد والأقتال، وكان يرجو هذا بإلغاء الخلافة وإعلان اللادينية؛

فعز المنال.

من أشهر الكتاب الذين كانوا يغشون المسلمين بهؤلاء الملاحدة عمر رضا

أفندي المصري الأصل المقيم في الآستانة الذي كان يراسل جريدة الأخبار المصرية

الإسلامية قبل أن يصير أمر الحكومة التركية إلى هذا الحد من إظهار الكفر وعداوة

الإسلام ، فلما برح الخفاء استبدل جريدة السياسة المؤيدة لنزعة الترك الإلحادية

بجريدة الأخبار الإسلامية التي صارت مناوئة ومقاومة لهم.

كتب الأمير شكيب أرسلان مقالات في إظهار خفايا شنآن الحكومة التركية

الجديدة للإسلام وللعرب نشرتها جريدة الأخبار ، فتولى الرد عليها عمر رضا أفندي

هذا وبعض أصحاب الجرائد التركية، ثم شايعتهم جريدة السياسة في مصر، ولم

يرد له أحد حجته، ولا نقض له قضيته، وإنما جادلوا وماروا بالباطل ، وزعموا

أنه ليس له حق في الدفاع عن الإسلام لأنه من طائفة الدروز! !

ولا عجز أظهر من عجز من يحاول دفع حجة خصمه بأنه ليس أهلاً لإيرادها

بسبب نسبه أو زعامته وزعامة بيته لطائفة كذا - فأي علاقة بين المباحث العلمية

والشرعية والتاريخية ، وبين كون الباحث زعيمًا لطائفة من الناس لا علاقة لهم

بموضوع بحثه إلا أن تكون موافقته على الانتصار للإسلام، وتأييده في جهاد الكفر

والإلحاد؟

طائفة الدروز من الشيعة الباطنية الذين انشقت عصا الخلافة بينهم وبين أهل

السنة في القرون البائدة؛ فكانوا طرائق قددًا ، منها جمعيات سرية ألبست لباس

الدين لجعل صلتها برؤسائها تعبدية لا مجال للرأي فيها وهم من صميم الأمة العربية

ولبابها ، لا يعرف أكثر أفرادها من تلك التعاليم الباطنية شيئًا، والذين تعلموا

التاريخ من رجالها قد عرفوا أن تلك التعاليم كانت مكرًا من مجوس الفرس بالعرب

ليفرقوا كلمتهم، ويضعفوا شوكتهم؛ ليزول ملكهم، ويتقلص ظلهم عن بلاد فارس

فيعود لها ملكها التليد، ولذلك يسعى هؤلاء العلماء إلى رد من بقي من طائفتهم

محافظًا على تلك التعاليم الباطنية إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وقد استشارني

كثيرون من نابغي شبانهم في هذا، على أن الذين لا يزالون يعرفون تلك التعاليم

السرية أفراد من الطائفة يسمون رجال العقل ويشترط في اطلاعهم عليها استمساكهم

بكثير من الفضائل والآداب التي يقل في الناس من يحافظ عليها.

وباقي أفراد الطائفة لا يعرفونها فهم لا يعدون دروزًا إلا بالنسب، ككثير من

المنتسبين إلى السنة وهم على بدع بعضها شرك صريح بالله، وبعضها من كبائر

المعاصي ، ومنهم الذين عرفوا مذهب السنة واعتصموا به.

وأما الأمير شكيب نفسه فهو من أنبغ مريدي الأستاذ الإمام الذين تلقوا عنه

عقائد السنة السلفية وحكمتها العالية في بيروت حيث ألف رسالة التوحيد التي لم

يؤلف مثلها في الإسلام، فكان بهذا من أنصار الإسلام والسنة لا من آحاد المسلمين

أو عوامهم، وقد قال له السيد جمال الدين حكيم الملة: حيا الله أرض إسلام أنبتتك.

وقد كان يصلي معي في فنادق أوربة أيام صحبته لي فيها، فيا ليت لهؤلاء

الذين عَرَّضُوا بدينه أو مذهبه بعض ما هو عليه من العلم الصحيح بالإسلام والعمل

به، دع الدفاع عنه والنضال دونه.

ولما كان الانتقاد في فوضى هذا العصر القلمية كالحمارة العرجاء يركبها كل

ضعيف؛ رأينا في بعض الجرائد انتقادات لغوية وشرعية على بعض عبارات

للأمير شكيب في بعض مقالاته ، كان المنتقدون له فيها هم المخطئين ، حتى في

مسألة المصالح المرسلة ويسر الشريعة التي كانت عبارته فيها غير محررة على

الاصطلاح الإسلامي الفقهي ، ولم نفرغ يومئذ لتحقيق الحق فيها.

***

(الشعب السوري والثورة)

لكل مظهر من مظاهر الاجتماع البشري ظاهر وباطن، ولا سيما الثورات

والحروب فإنها كثيرًا ما تخفي حقيقتها وحقيقة رجالها زمنًا طويلاً إن لم يكن دائمًا.

وقعت الثورة السورية فعمل فيها بعض الناس اختيارًا، واضطر بعضهم إلى

الدخول فيها اضطرارًا، وكان هَمُّ بعض هؤلاء استغلالها والربح منها، وشاركهم

في هذه القصد آخرون ممن يشتغلون بالسياسة السورية حيثما وجدوا سواء كانوا في

داخل البلاد أو في خارجها، ومن طلاب الربح من يطلب المال، ومنهم من يطلب

الجاه كالزعامة والرياسة وكثرة الأتباع والأنصار.

وكان من أكبر جنايات هؤلاء المرائين أنهم أحدثوا شقاقًا في الأمة بطعن

بعضهم في الرجال الذين كانوا يتولون إيصال الإعانات إلى أهلها، لأنهم لم

يستطيعوا إرضاء طمعهم وإشباع نهمتهم، ومن دلائل سوء نيتهم وفساد طويتهم

استعانتهم على فعلتهم ببعض الجرائد المستأجرة للمستعمرين خصومهم، ومن

جرائمهم أنهم كتبوا إلى كرام المهاجرين الذين في البلاد الأميركانية مكتوبات تثبط

عزيمتهم وتقبض أيديهم عن إعانة المنكوبين في هذه الثورة، ولا سيما أباة الضيم

الذين أَبَوْا التسليم المخزي وأووا إلى حدود نجد يعتصمون فيها بعد أن أخرجتهم

حكومة الأمير عبد الله بن حسين الهاشمي من أرض الشرق العربي بأمر سادته

الإنكليز.

ولم يكتف هؤلاء بهذه الجريمة، بل ارتكبوا جريمة شرًّا منها أو مثلها ، وهي

الوشاية باللاجئين إلى حدود نجد وبمن يخدمونهم ويسعون لسد رمقهم ، فقد كتبوا إلى

جلالة ملك الحجاز ونجد من الطعن الكاذب في إخوانهم ما لا يرضاه لنفسه إلا

الشيطان الرجيم عدو البشر.

ثم دبت عقاربهم إلى اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني التي كانت

منذ أسست موضع إجلال جميع السوريين وثنائهم، فاحتلوا مكتبها وناديها وجعلوه

مركزًا لجميع ما تقدم ذكره آنفًا من الفساد والفتن، حتى اضطر أكثر الأعضاء إلى

هجر ذلك المكتب والاشتغال في مكان آخر - وقد بذلت كل ما استطعت من جهد

لتلافي ذلك فما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وقد سعى بعض فضلاء الإخوان هنا لما

عجزت عنه ، ولا أزيد الآن على ما ذكرت إلا إذا خاب سعيهم.

ولكن من المحزن أن يلجأ من رفعه سادة المسلمين وكبراؤهم ، ووضعوه فوق

رؤوسهم إلَى الاستعانة على مقاومتهم برجال الكنيسة ومتعصبي الدين والسياسة؛

لينصروه باسم النصرانية على المسلمين، ويزعم هو وهم أنهم نبذوه لأجل دينه،

فهل كان حين رفعوه مسلمًا أو " ما عدا مما بدا "؟

نفاق وشقاق، وخلف وافتراق ، وقر لا يطاق، وبيوت مخربة، وقرى مهدمة،

ومزارع مستأصلة، وهجرة من البلاد متصلة، وذل وعبودية، وشكوى عامة من

الحالة الاقتصادية، وتخبط في التصرفات السياسية - كل هذا بعض ما تئن منه

سورية، وكل هذا وأكثر منه لم يصرف بعض شبان أم الوطن (دمشق) وشوابها

عن فتنة التفرنج، القاتلة للتدين، والتعرب، المزينة باسم التجدد.

فأما الشبان فيريدون تزيين رءوسهم بالبرنيطة ليكونوا كبعض محرري جريدة

السياسة المصرية والهلال المصري مجددين، فإن كانوا لا يعلمون من هذا التجديد

أو التجدد إلا لبس البريطانية لسهولته، وخفة مؤنته، والسبق إلى التميز عن الجمهور

به، فليعلموا أن من أساتذتهم في مصر من يدعو جهرًا إلى ترك الدين - كل دين ألبتة،

ومنهم من يدعو إلى ترك الجنسية النسبية، وقطع الرابطة الوطنية، والتجنس

بجنسية أوربية، فإن كانوا كذلك فما عليهم إلا أن يتجنسوا بالجنسية الفرنسية مباشرة

كما يقول المثل الذي يكثر من ضربه أبو حامد الغزالي: (كن يهوديًّا صرفًا وإلا فلا

تلعب بالتوراة) ، وإلا فلبس البرنيطة وحدها لا تفيدهم علمًا ولا عملاً، ولا عزًّا، ولا

شرفًا، وأقل ما فيها من الضرر إيجاد شقاق وتفرق جديد في بعض مشخصات أمتهم

وهو إضعاف لها، وقطع لصلتهم بها وكذلك يصبحون بغير أمة ولا ملة.

وأما الشواب فقد طلبت زعنفة منهن إذن الحكومات لهن بأن يبرزن في

الشوارع والأسواق سافرات الوجوه، عاريات الصدور، حاسرات عن الذراعين

والعضدين، كاشفات عن الساقين والركبتين، أو كما ورد في الحديث في صفة

بعض أهل النار: (ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة

البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) فهل رأى هؤلاء أن العهر قد رث

وخلق؛ فهن يردن تجديده بتقليد عواهر الغرب؛ ليكون أشهر وأعم انتشارًا؟ فإن

لم يكن عندهم بقية من الدين وشرف العرض كما هو الظاهر، أفليس لهن شعور

بأن لهن أمة محتاجة إلى تجديد مجدها الذي كان فوق كل مجد في الأرض! وبأن

لهن وطنًا محتاجًا إلى تجديده بالعمران، بعد أن خربته أحداث الزمان، أَوَ لا يوجد

من أهلهن من يخبرهن بأن تجديد الأمم والأوطان إنما يكون بالجهاد في تحصيل

الثروة والقوة بالعلم والفن والصناعة والزراعة والتجارة - وأن الترف والسرف في

التورن والتنوق والتطرز والتطرس مدعاة للفسق والفجور المخرب للعمران لا

المجدد له؟ وهذه قضية متفق عليها بين علماء الشرق والغرب لم يختلف فيها أحد ،

وإن ظن الجاهل الناظر لظواهر ترف الإفرنج خلاف ذلك، وقد بينا شبهة هؤلاء

الجاهلين وفندناها في المنار مرارًا.

_________

ص: 635