الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على كل ما فى دنياه هذه، فإذا فاته شىء منها- وما أكثر ما يفوته- استبدّ به الجزع، واستولى عليه اليأس، وملكه الحزن.. وإن أصيب بموت قريب أو حبيب- وما أكثر ما يصاب- لم يجد شيئا من ذلك العزاء، الذي يجده المؤمنون الذين يفوضون أمرهم لله، ويسلمون مصيرهم إليه، ويرجون العاقبة عنده، ويحتسبون الصبر لديه..! وهكذا الكافر فى قلق دائم، وجزع متصل، إذ لا حياة له وراء هذه الحياة، حسب تقديره وتفكيره.. فحيثما التفت، وجد العدم باسطا يديه لاحتوائه، والفناء فاغرا فاه لابتلاعه..!
- «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ»
.. وهذا عذاب لا يتوقعه الكافر، ولا يعمل حسابا له، وإنما هو عذاب يجيئه على غير انتظار، ويطلع عليه من حيث لا يحتسب..
- «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
أي ليس هناك من يدفع عنهم هذا العذاب، أو يخفف عنهم من شدته وهوله..
الآيات: (35- 43)[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 43]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
التفسير:
قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..»
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّه وقد ذكر مصير المشركين فى الآية السابقة عليها، فى قوله تعالى:«لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
- كان من المناسب أن يذكر فى مقابل هذا المصير المشئوم، المصير الحسن الطيّب، الذي أعدّه الله للمؤمنين المتقين من عباده، ليكون فى ذلك إثارة لأشواق المؤمنين، وتعجيل بتلك البشريات المسعدة لهم، فى حين أنه يملأ قلوب المشركين حسرة وألما، ويقطع أكبادهم كمدا وحسدا..
ومثل الشيء ما يماثله، ويشبهه، فى بعض الوجوه، لا فى كل وجه.. كما نقول مثلا: القط مثل النمر.. وهذه الفتاة مثل القمر، وهذا الطفل مثل الزهرة..
فهناك وجه شبه يجمع بين المشبّه والمشبّه به، وصفة مشتركة بينهما يلتقيان عندها.. والمثل يجمع أكثر من صورة من صور التشبيه، فهو تشبيه مركّب.
- وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. إشارة إلى أن هذا العرض ليس للجنة، فى ذاتها، وإنّما هو عرض لجنّة تشبهها.. إذ أن الجنّة التي أعدها الله للمؤمنين المتقين من عباده، لا يمكن وصفها لنا، إذ لا شىء مما فى دنيانا هذه، يشبه أشياءها.. كما ورد فى الأثر:«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .. فاشباه الجنة غير واقعة فى فهمنا أو تصورنا، ومن ثمّ لم يكن للكلمات التي نتعامل بها مجال، لتصوير ما لا نفهمه ولا نتصوره..
فكان الحديث عنها بعرض صورة تشبهها، هو أقرب شىء ممكن أن نتمثل فيه صورة لها..
- وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. مبتدأ، وخبره محذوف، موصوف، بقوله تعالى:«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. أي هى جنة تجرى من تحتها الأنهار.. والتقدير على هذا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» مثل جنّد «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» .. فهذه الجنة التي تشبه جنة الآخرة موصوفة بصفتين.. تجرى من تحتها الأنهار.. وأكلها دائم وظلّها.. أي ثمارها دائمة لا تنقطع أبدا، كما تنقطع ثمار الدنيا، وظلّها دائم، أي مورقة مخضرة دائما، لا تتغيّر كما تتغير أشجار الدنيا على مدار الفصول..
وقوله تعالى: «تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» تأكيد للوعد لذى وعده الله المتقين بهذه الجنة فى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» فهى لهم وحدهم، على حين أن للكافرين النار.. فكل ينزل الدار التي هو أهل لها..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» .
الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى..
والسؤال هنا: كيف كان يفرح أهل الكتاب بما أنزل على النبي؟
وإذا كانوا على تلك الصفة فلماذا لا يؤمنون به، ولا يستجيبون له؟ بل لماذا كانوا حربا عليه، وحزبا مع المشركين على الكيد له؟
والجواب على هذا من وجوه:
أولا: أن هذا كان فى أول الدعوة الإسلامية، وكان أهل الكتاب يرصدون مطلع النبىّ، وينتظرون ظهوره.. فلما ظهر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توقعوا أن يكون مبعوثا إليهم، وإن كان من العرب، وانتظروا فى تلهف ما ينزل عليه من آيات.. وإذ كان ينزل على النبىّ من آيات الله- فى أول الدعوة- هو دعوة إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة الأصنام- فإن أهل الكتاب، لم يروا فى هذا ما يضيرهم، أو يعارض الدين الذي هم عليه.. فكانوا لذلك يستبشرون بما ينزل على النبىّ فى تلك المرحلة من الدعوة، فلما أن دكّ الإسلام حصون الشرك، وهدم معاقله، والتفت إلى أهل الكتاب، وخاصة اليهود، كان منهم هذا الموقف اللئيم المخادع الذي وقفوه من النبىّ الكريم، ورسالته..
وثانيا: أن فى القرآن الكريم ذكرا لليهود والنصارى.. وهذا الذكر منه ما هو فى مقام المدح لهم، ومنه ما هو فى مقام الذمّ لمخازيهم، والفضح لنفاقهم..
فاليهود مثلا، كانوا يسمعون ما نزل على النبىّ مثل قوله تعالى:«فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» (94: يونس) وقوله تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»
(47: البقرة) كما كانوا يسمعون ما نزل من القرآن فيما كان بين موسى وفرعون، ونجاتهم على يد موسى، وغرق فرعون وجنوده، وكان هذا مما يسرّهم، وينعش نفوسهم.. فيتلّقون ما نزل من القرآن فى مثل هذا، بالقبول والرضا.. فإذا نزل من القرآن ما يفضح الجوانب الخبيثة فيهم، ويكشف عن وجوه الشر المنطوية عليه صدورهم، مثل قوله تعالى فيهم:«فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» 13: المائدة) .. وقوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (51- 52: النساء) - إذا سمعوا مثل هذا من كلام الله، ساءهم وأفزعهم، فأنكروه، وأنكروا على الرسول رسالته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» .. فالأحزاب هنا هم جماعات اليهود الذين كانوا حزبا على النبي مع مشركى قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب، فهم لا ينكرون كل ما جاء فى القرآن، وإنما ينكرون منه ما فضح نفاقهم، وكشف تحريفهم لكتاب الله الذي فى أيديهم..
وكذلك كان شأن النصارى.. يفرحون بالآيات التي تحدث عنهم حديثا فيه ذكر طيب لهم، كقوله تعالى:«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (82: المائدة) ..
وكقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» (33: آل عمران) ومثل ما قصّ القرآن من سيرة مريم.. فكل هذا مما يرضاه النصارى من القرآن، ويمسكون به منه، أما ما جاء فى القرآن من
حديث عن عيسى عليه السلام، وأنه عبد من عباد الله، وليس ابنا لله، ولا إلها مع الله، وأن من يعبده على هذا المفهوم الخاطئ، كان كافرا بالله- ساءهم ذلك وأنكروه..
وثالثا: ليس كل اليهود والنصارى وقف من الرسول الكريم، ومن كتاب الله الذي بين يديه، موقف الكفر به والتكذيب له، بل كثير منهم كان على انتظار لظهور هذا النبىّ، تحقيقا للبشريات التي بشرت بها عنه التوراة والإنجيل.. فلما جاء النبىّ لم ينكروه، بل تهيأت نفوسهم لاستقباله، واختبار ما عنده من كلمات الله.. فكانت كلما نزلت آيات من القرآن الكريم كشفت لهم دلائل جديدة تزيد من إيمانهم بالرسول، ومن تيقّنهم بصدقه..
فيفرحون لذلك ويستبشرون..
- قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» ..
هو ردّ على موقف أهل الكتاب الذين ينكرون بعض ما أنزل على النبي، وإنكار لموقفهم هذا من رسول الله، وكتاب الله..
فماذا ينكر أهل الكتاب من رسول الله ومن الكتاب الذي معه؟
إنه يعبد الله.. إلها واحدا لا شريك له..
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه الدعوة يدعو عباد الله، إلى الإيمان بالله.. إلها واحدا لا شريك له..
فماذا فى هذا الكتاب الذي بين يدى الرسول، والذي هو دستور دعوته- ماذا فيه مما يخرج عن هذه الدعوة حتى ينكره المنكرون، ويكفر به الكافرون؟
أليس أهل الكتاب مؤمنين بما فى كتبهم؟ أو ليست كتبهم من عند الله
إله واحد؟ إن كان ذلك كذلك- فلماذا ينكرون على النبىّ دعوته، وهو إنما يدعو إلى الله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟
- وفى قوله تعالى: «إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» أسلوب قصر، يراد به أن الرسول لا يدعو إلا إلى الله وحده، وأنه إذا كان لأهل الكتاب دعوة إلى إله غير الله، فلا شأن له بهم، أمّا هو فإن دعوته إلى إله واحد.. لا شريك له.. وأن مآبه ومرجعه إليه.. فإذا كان فى أهل الكتاب من يرى له مرجعا إلى غير الله، فذلك رأيه، وعليه تبعته.. أما الرسول فإنه لا مرجع له إلا إلى الله..
أي كهذا الذي أنت عليه أيها النبىّ، وهو التزامك بالعبوديّة لله وحده، ودعوتك الخالصة له، وإيمانك بمرجعك إليه- كهذا الذي أنت عليه جاء الكتاب الذي أنزل عليك.. فالزمه، واستقم عليه، ولا تلتفت إلى ما جاء فى غيره من الكتب السابقة إن لم يكن مطابقا له، فهو الذي أنزله الله عليك حكما عربيا.. أي حاكما بأسلوبه العربي الذي نزل به، على الكتب السماوية السابقة، ومهيمنا عليها..
فالحكم هنا بمعنى: الحاكم المهيمن، ذو السلطان..
وجاء اللفظ القرآنى «الحكم» بمعنى «الحاكم» ولم يجىء بلفظه، للإشارة
إلى أن القرآن الكريم هو «حكم» صدر من «حاكم» حكيم، هو الله سبحانه وتعالى..
وفى وصف «الحكم» بأنه عربى، تنويه بشأن الأمة العربية، ورفع لقدرها، ولشرف لغتها التي حملت حكم الله الحكيم العليم على الإنسانية كلها، بلسان العرب، وعلى يد الرسول العربىّ..
- قوله تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ» ..
هو تعريض بما مع أهل الكتاب من ضلالات وأهواء أدخلوها على ما جاءهم به رسول الله من نور وهدى.. ثم هو من جهة أخرى توكيد لما فى يد النبىّ من حق، وأنه بهذا الحق قد علم بما فى أيدى أهل الكتاب من أهواء ومفتريات، وذلك حين التقى الحق الذي معه بالباطل الذي فى أيديهم..
وتحذير النبي من اتباع أهواء أهل الكتاب، مع العلم الذي علمه من أمرهم- هذا التحذير هو إشارة لما مع أهل الكتاب من باطل، ينبغى على كل عاقل أن يحذره، ويتوقّى الخطر الذي يتهدد من يقترب منه.. حتى النبىّ نفسه، مع ما يملك من قوى الإيمان، ومع ما يحوطه من رعاية ربه، إن اتبع أهواء هؤلاء القوم تعرض لنقمة الله، ولم يكن له من ولىّ يدفع عنه بلاء الله، أو يقيه بأسه إن جاءه!! فكيف بغير النبي من عباد الله؟ إن الخطر شديد، وإن البلاء داهم، وإنه لا عاصم من أمر الله لمن ألقى نفسه فى لجج هذا الطوفان!.
فى هذه الآية ردّ على المشركين، وتحديد لموقف النبي منهم، بعد أن جاءت
الآية السابقة عليها، فاضحة لأهواء أهل الكتاب، محذرة النبي من أن يلتفت إليهم، أو يتعامل معهم بهذه الأهواء التي بين أيديهم..
والمشركون، كانوا ينكرون على النبي أن يكون إنسانا مثلهم، يأكل كما يأكلون، ويعيش كما يعيشون.. كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم:
«وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» ..
(7: الفرقان) ..
فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» ليقرر أن هؤلاء الرسل كانوا بشرا، وكان لهم ما للبشر، من أزواج وذرية.. فلست أنت أيها النبىّ بدعا من الرسل حتى ينكر منك المشركون ما أنكروا! ..
- وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» هو ردّ على ما كان يقترحه المشركون على النبىّ، كقولهم الذي حكاه القرآن عنهم:
«لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» (7- 8 الفرقان) وقولهم أيضا: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) ..
فالرسول لا يملك من أمر نفسه إلا ما يملك سائر الناس من أمر أنفسهم..
إنهم جميعا فى قبضة الله، وتحت سلطانه.. وليس لرسول أن يأتى بآية إلّا بما يأذن الله له به من آياته. «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» (50: العنكبوت) - وهو
سبحانه الذي ينزلها بقدر: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» .. فكل آية مرهونة بوقتها، شأنها فى هذا شأن المواليد التي تولد، والأحياء التي تموت.. فلا يولد مولود إلا بإذن الله، وفى الوقت الذي قدّره الله له، ولا تموت نفس إلا بإذنه، وفى الوقت الموقوت لموتها..
قوله تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» المراد بالمحو والإثبات هنا، هو ما يقع فى الوجود من آثار قدرة الله، وتصرفاته فى الموجودات، من إحياء وإماتة، ومن بناء وهدم، ومن زيادة ونقص، ونهار وليل، وزرع وحصاد.. إلى غير ذلك مما يجرى عليه نظام الوجود.. فهناك محو وإثبات، وإثبات ومحو.. وكذلك الآيات التي يحملها رسل الله إلى أقوامهم، هى واقعة تحت هذا الحكم، يمحو الله منها ما يشاء، ويبقى منها ما يشاء.. وينسخ دينا، ويقيم دينا، ويمحو شريعة ويثبت شريعة..
وهذا كله ثابت فى علم الله.. فما يقع شىء فى هذا الوجود إلا وهو واقع فى علم الله الأزلىّ.. يظهر فى وقته الموقوت له فى علم الله..
والمراد «بأم الكتاب» هو علم الله، الذي يرجع إليه كل أمر:«وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» هو وعيد لهؤلاء المشركين والكافرين جميعا، وأنهم فى معرض النقمة والبلاء، من الله، وسواء أوقع عليهم البلاء وحلّت بهم النقمة والنبىّ حىّ يرى بعض هذا ويشهده، أو يموت قبل أن يرى ما توعدهم الله به، فإن ذلك ليس من همّ النبىّ، ولا مما يشغل نفسه به، وإنما مهمته هى
أن يبلغ رسالة ربّه، ويدع حساب المبلّغين لله سبحانه، فهو- جل شأنه- الذي يتولى حسابهم وجزاءهم.
قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» المراد بنقص الأرض، ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل، وما يصيب الناس فى أرزاقهم وأعمارهم.. وإذا كان الذي يحدث فى الأرض من نقص يحدث إزاءه ما يقابله من زيادة، إلا أن الأمر الذي أريد الإلفات إليه هنا هو ما يحدث من نقص، فى الأموال، والأنفس، والثمرات، إذ كان ذلك هو الذي يهتمّ له الإنسان أكثر من اهتمامه لجانب الزيادة، وإذ كان المقام هنا مقام تهديد بنقم الله، حيث يرى المشركون والكافرون هذه الغير، وتلك الجوائح التي تقع هنا وهناك فى أطراف الأرض، وأنها ليست بعيدة عنهم، ولا هم بمأمن منها..
- «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ» أي أنه سبحانه إذا أراد أمرا نفذ، دون أن يعترض عليه معترض، أو يفلت منه مطلوب له:«وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (11: الرعد) - «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» أي أنه سبحانه وتعالى بقدرته ممسك بكل شىء، عالم بكل شىء. لا يشغله شأن عن شأن، ولا حساب أحد عن أحد، فلو أراد سبحانه حساب الناس جميعا فى طرفة عين لكان ذلك كما أراد! قوله تعالى:«وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» - هو تهديد لهؤلاء المشركين والكافرين، الذين تصدّوا للنبىّ، وآذوه، وبهتوه وكذّبوا به.. وكان لهم فى هذا مكرهم وتدبيرهم.. ولكن أين يقع هذا المكر والتدبير من مكر الله
وتدبيره؟ إنه قطرة من محيطات، وهباءة من جرم السموات والأرض! - «يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» فيحاسب ويجازى.. لا يفلت مجرم من حسابه وعقابه..
- «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» .. وعند الحساب سيرى الكفار بأعينهم لمن الفوز والظفر، وعلى من الخزي والخذلان؟
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» ..
بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الرعد» ، فيلتقى ختامها مع بدئها:«المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. ثم يصافح هذا الختام بدء السورة التي بعدها «إبراهيم» :
- فقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» - هو جواب الكافرين على هذا الكتاب الذي جاءهم النبىّ به، والذي هو الحقّ الذي أنزل إليه من ربه..
وقوله تعالى فى أول سورة «إبراهيم» - بعد هذه السورة: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - هو ردّ على جواب هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولم يأذن الله لهم بالخروج من تلك الظلمات..
- وقوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» إحالة للكافرين على موقف الحساب والمساءلة بين يدى الله، وهو سبحانه حكم عدل بينهم وبين
النبيّ، عالم بما كان منه من أمانة فى تبليغ ما أمر بتبليغه من ربه، وما كان منهم من تكذيب وبهت وكفر! - وقوله تعالى:«وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» معطوف على فاعل الفعل «كفى» وهو لفظ الجلالة «بالله» والباء حرف جرّ زائد.. أي كفى الله شهيدا بينى وبينكم، وكذلك من عنده علم الكتاب منكم، أي أهل العلم، فإنهم يعلمون أنى مرسل من عند الله! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» (20: الأنعام) وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» (36: الرعد) وقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» (52: القصص) وقوله جل شأنه: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» (197:
الشعراء) فعلماء بنى إسرائيل يعلمون صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.
وإن كتمه بعضهم، وآمن به بعضهم.. وهم شهود على الكافرين المكذبين من قومهم.. «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» «وكفى بالله شهيدا»