المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (90- 97) [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 97] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٧

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌(الآيات: (53- 57) [سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 62) [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]

- ‌الآيات: (63- 67) [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 67]

- ‌الآيات: (68- 76) [سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 76]

- ‌لمحة من القضاء والقدر

- ‌الآيات: (77- 83) [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 87) [سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 87]

- ‌الآيات: (88- 92) [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 92]

- ‌الآيات: (93- 98) [سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 98]

- ‌[قميص يوسف.. ما هو

- ‌الآيات: (99- 101) [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101]

- ‌الآيات: (102- 107) [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 107]

- ‌الآيات: (108- 111) [سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 111]

- ‌13- سورة الرعد

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 7) [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 15) [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 18) [سورة الرعد (13) : الآيات 16 الى 18]

- ‌الحق والباطل.. دولة ودولة

- ‌الآيات: (19- 24) [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 29) [سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 29]

- ‌[ذكر الله.. واطمئنان القلوب به]

- ‌الآيات: (30- 34) [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 43) [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 43]

- ‌14- سورة إبراهيم

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 8) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 17) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17]

- ‌الآيات: (18- 23) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 23]

- ‌الآيات: (24- 27) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]

- ‌[الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة]

- ‌الآيات: (28- 34) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 41) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 52) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 46 الى 52]

- ‌15- سورة الحجر

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 15) [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 25) [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 50) [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 50]

- ‌[إبليس ومن له سلطان عليهم]

- ‌الآيات: (51- 60) [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 77) [سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 77]

- ‌الآيات: (78- 84) [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 84]

- ‌الآيات: (85- 99) [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 99]

- ‌16- سورة النحل

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 19) [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 29) [سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 32) [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 40) [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 40]

- ‌الآيات (41- 50) [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50]

- ‌الآيات: (16- 60) [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 67) [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 67]

- ‌الآيات: (68- 73) [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 73]

- ‌الآيات: (74- 77) [سورة النحل (16) : الآيات 74 الى 77]

- ‌الآيات: (78- 83) [سورة النحل (16) : الآيات 78 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 89) [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]

- ‌[القرآن الكريم.. والحقائق الكونية]

- ‌الآيات: (90- 97) [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 97]

- ‌الآيات: (98- 102) [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102]

- ‌الآيات: (103- 105) [سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105]

- ‌الآيات: (106- 111) [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111]

- ‌الآيات: (112- 119) [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 119]

- ‌الآيات: (120- 124) [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124]

- ‌الآيات: (125- 128) [سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128]

الفصل: ‌الآيات: (90- 97) [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 97]

وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ»

.. فمن ثمرة هذا النظر الذي ينظر به أولوا الألباب فى خلق السموات والأرض، هى تلك الحقيقة التي إليها يؤدى هذا النظر، وهو التعرف على الله سبحانه وتعالى، والاستدلال على وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وأن هذا الوجود ما خلق إلا بالحق، وما قام إلا على سنن وقوانين تمسك به، وتحفظ عليه وجوده ونظامه..

‌الآيات: (90- 97)[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 97]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)

وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)

ص: 348

التفسير:

قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..

مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه وقد ذكر الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة:«وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ناسب أن يجىء بعدها بيان لما فى القرآن الكريم من تبيان لكل شىء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين.. وهذا ما ضمت عليه هذه الآية:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ..»

فما فى القرآن الكريم كله، هو دعوة إلى العدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، ونهى عن الفحشاء، والمنكر والبغي..

فالعدل هو القيام على طريق الحق فى كل أمر.. فمن أقام وجوده على العدل استقام على طريق مستقيم، فلم ينحرف عنه أبدا، ولم تتفرق به السبل إلى غايات الخير..

ومن أتبع العدل بالإحسان، انما الخير فى يده، وطابت مغارسه التي يغرسها فى منابت العدل..

وقد جاء الأمر بالعدل والإحسان مطلقا، ليحتوى العدل كله، ويشمل الإحسان جميعه.. فهو عدل عام شامل.. حيث يعدل الإنسان مع نفسه، فلا يجوز عليها بإلقائها فى التهلكة، وسوقها فى مواقع الإثم والضلال.. ويعدل

ص: 349

مع الناس فلا يعتدى على حقوقهم، ولا يمدّ يده إلى ما ليس له. ويعدل مع خالقه، فلا يجحد فضله، ولا يكفر بنعمه، ولا ينكر وجوده وقيّومته عليه، وعلى كل موجود..

كذلك الإحسان، هو إحسان مطلق، يتناول كل قول يقوله الإنسان، وكل عمل يعمله.. وإحسان القول أن يقوم على سنن العدل، والحق والخير..

وإحسان العمل ينضبط على موازين الكمال والإتقان.. كما بقول سبحانه:

«وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (195: البقرة) .

بل إن الإحسان، هو الإيمان بالله على أتم صورة وأكملها، بحيث لا يبلغ درجة الإحسان، إلا من عبد الله على هذا الوجه الذي بينه الرسول الكريم، فى قوله حين سأله جبريل، وقد جاء على صورة أعرابى، فقال: «ما الإحسان؟

فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..»

- وقوله تعالى: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» هو عدل وإحسان معا.. والإيتاء هو الإعطاء، وفعله آتى، بمعنى أعطى.. ولا يستعمل الإيتاء إلا فى مقام البرّ والإحسان.. والبر بذي القربى هو عدل، لأنه وفاء لحق القرابة، وهو إحسان إذا قدمته النفس فى سماحة ورضى.

- وقوله تعالى: «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» هو نهى عن محظورات، فى مقابل ما أمر الله به من عدل وإحسان، وبرّ بالأقارب.. وفى توارد الأمر والنهى على أمر من الأمور، توكيد للإتيان بالمأمور به..

فالفحشاء، ما قبح من الأمور، وعلى رأسها «الزنا» .. وإتيان الفاحشة ظلم للنفس، وعدوان على حرمات الناس.. وفى هذا مجافاة للعدل..

والمنكر، كل ما تنكره العقول السليمة على من يفعله.. سواء أكان

ص: 350

قولا أو فعلا.. ولا يكون هذا إلا بالتخلي عن الإحسان فى القول أو العمل..

والبغي: الجور، والظلم، وهضم الحقوق. وهو مجف للعدل والإحسان معا..

- وقوله تعالى: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» هو تنبيه لما تحمل آيات الله للناس من آداب. وأحكام، تدعو إلى الحق، والخير، وتذكّر بهما، وتفتح للعقول الراشدة والقلوب السليمة طريقا إليهما..

وهذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها.. فهى أقرب شىء إلى أن تكون عنوانا للرسالة لإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية:«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» . وما فى كتاب لله كله هو شرح لما أمر الله سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذى القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي.

قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» .

العهد: الميثاق، يكون بين الناس والناس، أو بين الناس ورب الناس..

وعهد الله.. هو العهد الذي يوثق باسمه، ويقام تحت ظل سلطانه..

ونقص العهد: نكثه، وعدم الوفاء به..

والكفيل: هو الضامن لما كفل من عهد.

ومعنى الآية الكريمة، هو أمر ملزم للمؤمنين بالله بالوفاء بعهد الله، الذي وثقوه باسمه، وجعلوه كفيلا وضامنا لما عاهدوا عليه.. إذ كان باسمه تعالى

ص: 351

أمضى المتعاهدان ما تعاهدا عليه.. فأعطى أحدهما ما تعهّد به وعدا، وأقام اسم الله تعالى كفيلا على هذا الوعد، وقبل الآخر ما أعطى الأول، مطمئنا إلى كفالة الله، وإلى أن صاحبه لن يخون عهد الله! وإنه لجرم عظيم أن يعطى الإنسان عهدا باسم الله، ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلا إلى ثقة الناس به، واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة! إنه عدوان على الله، ومخادعة باسمه، وسرقة تحت ستار من جلال الله وخشيته..!

وتلك جرأة على الله، واستخفاف بقدره، وليس لمن يتعرض لهذا، إلا أن ينتظر ما يحلّ به من غضب الله ونقمته.

- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» تحذير من نكث العهد، ومن التلاعب باسم الحق جل وعلا.. فهو- سبحانه- يعلم من بفي بعهده، ويعرف لاسمه الكريم جلاله، ومن لا يوقّر الله، ولا يحفل بالعهد الذي قطعه، وأشهد الله عليه.. والله- سبحانه- غيور على حماء أن يستباح.. فمن استباحه، فقد أورد نفسه موارد الهالكين..

قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .

الغزل: ما يغزل من صوف، وغيره.. ونقض الغزل: حلّه بعد فتله وغزله، فيتقطع، ويتفتت، ولا يعود إلى مثل حالته الأولى لو أعيد غزله، كشأن من بينى ثم يهدم ما بنى.. فلو أراد أن يبنى بما هدم، لا يستقيم له بناء..

والأنكاث: جمع نكث، وهو ما يكون من خيوط النسيج بعد نقضها، لإعادة غزلها ونسجها، بعد أن تصبح قطعا مهلهلة.

الدّخل: الفساد. والأمة: الجماعة. وأربى: أكبر قوة، وأكثر عددا.

ص: 352

وهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن يعطون العهد باسمه تعالى، ثم ينقضون ما عاهدوا عليه.. فهؤلاء هم أشبه بامرأة خرقاء، تغزل غزلا محكما، ثم تعود بعد هذا فتنقض ما غزلته، وأجهدت نفسها فيه.. وهذا لا يكون من عاقل، يحترم عقله، ويعرف لآدميته قدرها.. وهؤلاء الذين أعطوا العهد باسم الله ثم نقضوه، كانوا قد أحكموا أمرهم، ووثقوه ثم أفسدوه، وأحلّوا أنفسهم من هذا الميثاق الذي واثقوا الله عليه..

- وقوله تعالى: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» جملة حالية.. فهم إذ يتخذون أيمانهم التي يوثّقون بها العهود بينهم. ثم ينقضونها- هم أشبه بتلك المرأة التي تغزل غزلا، ثم تعود فتنقضه، قبل أن تنسجه، وينتفع به! وقوله تعالى:«أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» هو تعليل لنقص العهد، واتخاذ الأيمان ذريعة للإفساد، وتلبيس الأمور على الناس، وذلك أن هذا النكث بالعهد كان ممالأة لجماعة قوية على حساب جماعة ضعيفة. أي أنكم تتخذون أيمانكم التي لا تبرّون بها، للإفساد لا للإصلاح، حين تميلون عن الحق، وتنحازون إلى جانب الأقوياء، فتنقضون العهد الذي كان بينكم وبين الجانب الضعيف، لتتحولوا بذلك إلى الجانب القوىّ.

وهذه الآية خاصة بحال من أحوال نقض العهد، وهى تلك الحال التي يكون الداعي فيها إلى نقض العهد هو الميل إلى جانب الأقوياء، والتخلّي عن جانب الضعفاء، وذلك بأن يكون الناقض للعهد، بينه وبين جماعة عهد موثق، فإذا رأى جماعة أخرى ذات شوكة وقوة انضمّ إليها، ونقض عهده الذي كان بينه وبين الجماعة الضعيفة، غير ملتفت إلى هذا العهد الذي بينه وبينها.

أما ما يتصل بنقض العهود عامة، فقد جاء فى قوله تعالى بعد هذه الآية:

«وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها

الآية» .

ص: 353

- قوله تعالى: «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» .. الضمير فى به، يعود إلى «عهد الله» الذي جاء ذكره فى قوله تعالى:«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» .. أي أن هذا العهد يقطعه المرء على نفسه، ويجعل الله كفيلا عليه فيه- هذا العهد، هو ابتلاء من الله، وأمانة من الأمانات التي يطالب الإنسان بصيانتها والوفاء بها..

فمن وفّى بالعهد فقد أبرأ ذمته، واستحق الجزاء الحسن من ربه، ومن نكث، فهو غريم لله سبحانه وتعالى، وسيقتصّ الله منه.

قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .. هو معطوف على محذوف تقديره: «ليعلم» . ومعنى الآية مرتبط بالآية قبلها، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، إنما ابتلاكم بهذا التكليف، وهو الوفاء بالعهود، ليعلم المفسد من المصلح، والناكث للعهد والموفى به، وليبين لكم يوم القيامة هذا الذي أنتم مختلفون فيه، بين مفسد ومصلح، وعاص ومطيع، وناقص للعهد، وموف به.

قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .

هو تعقيب على قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» - أي هذا الخلاف الواقع بين الناس، هو مما قضت به حكمه لله فيهم.. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، تجرى أمورهم جميعا فيها على نمط واحد، كما هو شأن الأمم الأخرى من عالم الحيوان، لا اختلاف بين أفراد الأمة الواحدة منها، فى سلوكها، وفى منازع حياتها، وأسلوب معيشتها، حيث تسير جميعا فى طريق واحد، وعلى اتجاه واحد، لا يشذّ عنه فرد من أفرادها.. وليس كذلك شأن الناس، فكل فرد، هو أمة فى ذاته. له مدركاته، ومشاعره، وأنماط سلوكه.. بحيث لا يكاد يتشابه إنسان بإنسان، أو يلتقى

ص: 354

إنسان مع إنسان، لقاء مطلقا! وفى هذا يقول الله تعالى:«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118: 119 هود) .

على أن اختلاف الناس هذا الاختلاف الذي لا يتشابه فيه إنسان مع إنسان، ليس بالذي يفرّق بينهم، أو يقطع علائق الإنسانية التي تشدّ بعضهم إلى بعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، فهم وإن تفرقوا مدركات، وطبائع، ومنازع، واختلفوا مشارب ومسالك وسبلا- هم مجتمعون على مورد الإنسانية، حيث يجتمعون شعوبا، وقبائل، وأمما.. ثم تضيق شقّة الخلاف بينهم شيئا فشيئا، حتى تكون خطا واحدا يفصل بين المجتمع الإنسانىّ كله، ويجعله فريقين: مؤمنين وكافرين.. مهتدين وضالين. حتى لكأن ذلك فى أصل خلقتهم، كما يقول الله تعالى:«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .

- وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. هو بيان لمشيئة الله الشاملة، التي إليها إضلال الضالين، وهداية المهتدين..

- وفى قوله تعالى: «وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تحريك لمشيئة الإنسان وإرادته، مع إرادة الله سبحانه ومشيئته.. وذلك حتى لا يعطل الإنسان وجوده كإنسان له إرادة، وله مشيئة.

فمطلوب من الإنسان أن يعمل إرادته ومشيئته، وأن يحركهما فى الاتجاه الصحيح الذي يقضى به العقل، وتدعو إليه الشرائع السماوية، وتحدده القوانين الوضعية..

وكما لا يعفى الإنسان نفسه من التحلل من القوانين الوضعية، بل يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له

ص: 355

إن هو خرج عليها- كذلك ينبغى ألا يعفى نفسه من التحلل من القوانين السماوية، بل يجب أن يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له إن هو خرج عليها.. فهذا من ذاك.. سواء بسواء..

إن الإنسان مسئول عن تصرفاته كإنسان رشيد، وليس من شأنه أن يسأل الله سبحانه وتعالى عن مشيئته فيه، وما يريده به.. فذلك إلى الله وحده..

يقضى فيه بما يشاء ويريد.!

قوله تعالى: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..

هو توكيد للوفاء بالعهود والمواثيق التي أعطيت باسم الله، وتحذير من الاستخفاف بجلال الله الذي أشهد على هذه العهود والمواثيق.. فإنّه لا يجرؤ على النكث بعهد الله إلا من استخفّ بالله، واتخذ من اسمه الكريم وسيلة يتوسّل بها إلى الغدر بالناس، وأكل أموالهم بالباطل.. وذلك إن لم يكن كفرا صريحا، فإنه مدخل واسع إلى الكفر! - وفى قوله تعالى:«فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» إشارة إلى أن الاستخفاف باسم الله، ونقض العهد الموثّق باسمه، هو مزلق إلى الكفر، حيث ينزلق الإنسان شيئا فشيئا إليه، فتزل قدمه عن طريق الحق، فإذا لم ينتزع نفسه، مما وقع فيه، مضى به الطريق إلى حيث يضع قدميه جميعا على طريق الضلال.. ثم يمضى فيه إلى غايته.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف:«وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار.. وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ..

- وقوله تعالى: «وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» هو بيان للنهاية التي تنتهى إليها حال من يستخفّ باسم الله، حتى

ص: 356

لا يبالى بما يعطى أو يأخذ به.. كاذبا، حانثا.. فمثل هذا الإنسان لا بد أن يرد يوما موارد الكفر، ويتحول من الإيمان بالله، إلى الكفر به، إذ صدّ عن سبيل الله الذي كان قائما عليه، وولى وجهه نحو الضلال، وثبت أقدامه عليه..

وليس لمثل هذا الإنسان إلّا أن يذوق السوء والهوان فى الدنيا، والعذاب العظيم فى الآخرة..

قوله تعالى: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .

هو تحذير، بعد تحذير، بعد تحذير، من الاستخفاف بعهد الله، وبالأيمان التي يحلف بها الحالفون باسمه.. إذ أن ما يبتغيه الناكثون لعهد الله، والحانثون بيمينه، هو التوسل إلى الحصول على متاع من متاع هذه الحياة الدنيا بغير حق.. وهذا المتاع وإن كثر، هو إلى زوال، وهو قليل إلى ما يعقب من خسران وحسرة وندامة فى الدنيا والآخرة.. فلو أن الإنسان الذي أعطى عهدا باسم الله، حفظ هذا العهد، ووقّر الله فلم يحنث بيمينه، ووطن نفسه على الصبر إزاء هذا المتاع الزائل الذي يلوح له من وراء الحنث بيمينه- لو أنه فعل هذا لوجد عاقبة ذلك خيرا كثيرا، وجزاءا حسنا جزيلا عند الله، ولتقبّل الله تعالى منه هذا العمل الطيب، وجعله له عدّة فى الدنيا، وزادا كريما طيبا فى الآخرة، لا يخالطه خبث مما عمل من سيئات، كما يقول الحق جلّ وعلا:«أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» (16 الأحقاف) .

قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .

ص: 357

هو حكم عام بالجزاء الحسن على العمل الصالح مطلقا، بعد الحكم الخاص بالجزاء الحسن على الوفاء بالعهد، والصبر على احتمال تبعات الوفاء به..

فالأعمال الحسنة جميعها مقبولة عند الله، سواء ما كان منها من قول أو عمل، وسواء أكانت صادرة من ذكر أو أنثى من عباد الله.. فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتباين صورهم وأشكالهم، سواء عند الله، يخضعون لقانون سماوى عام، لا محاباة فيه، ولا تفرقة بين إنسان وإنسان.. إلا بالعمل..

وقد خصّ الذكر والأنثى بالذّكر هنا، لأنهما يمثلان جانبى الإنسانية كلها، إذ كانا مصدر المجتمعات الإنسانية كلها.. كما يقول الله تعالى:«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» (13: الحجرات) .. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان الاختلاف النوعىّ بين الذكر والأنثى أمام القانون السّماوى على منزلة سواء- كانت التسوية بين الناس جميعا أمام هذا القانون أحق وأولى..

وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» جملة حالية، وهذه الحالة قيد واقع على الشرط الذي لا يتحقق جوابه إلا وهو مقترن بهذا القيد.. فالإيمان شرط لازم لقبول العمل الطيب، والجزاء عليه.. وكل عمل لا يسبقه إيمان بالله، هو عمل ضالّ، مردود على صاحبه.. لأنه قدّمه غير ناظر إلى الله سبحانه وتعالى، ولا محتسب له أجرا عنده، إذ كان غير معترف بوجوده.. فالعمل الصالح الذي لا يزكيه الإيمان بالله، أشبه بالميتة التي لم تدركها زكاة بالذبح، ويذكر اسم الله عليها..

وقوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» .. المراد بالحياة، هى الحياة الدّنيا، وطيب هذه الحياة يجىء من نفحات الإيمان بالله، تلك النفحات التي تثلج الصدر بالطمأنينة، والرضا، وتدفىء النفس بالرجاء والأمل، بتلك القوة التي لا حدود لها، والتي منها مصادر الأمور، وإليها مصائرها.. وذلك كلّه من

ص: 358