الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»
- أي إنّ كفر الكافرين لا يضرّ الله شيئا، كما أن إيمان المؤمنين لا ينفعه، فهو الغنى عن خلقه.. إذ كيف يخلقهم، ثم يحتاج إليهم؟
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غنى عن عباده، ومع غناه، فإنه يتقبل من المؤمنين إيمانهم، ويحمده لهم، ويجزيهم عليه.. فضلا منه وكرما، وتنويها بشأن الطيبات من الأعمال، وتكريما للصالحين من عباده.
الآيات: (9- 17)[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
التفسير:
قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟» - يجوز أن يكون من كلام موسى، خطابا لقومه، وتذكيرا لهم بأيام الله، وما يجرى فيها على عباده.. ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، خطابا من الله- سبحانه وتعالى للمخاطبين من أمة النبي «محمد» صلوات الله وسلامه عليه..
والنبأ: الخبر ذو الشأن، الذي يغطّى ذكره على ما عداه من الأخبار.
وفى هذا الاستفهام: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» - تهديد للمخاطبين، وإنذار لهم بأن يصيروا إلى مثل مصير هؤلاء الأقوام، الذين كذبوا رسلهم، ومكروا بهم، إذا لم يبادر هؤلاء المخاطبون، فيصدقوا برسول الله، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه، مما فيه رشدهم وخيرهم..
وقوله تعالى: «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» - هو بيان لقوله تعالى: «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. فالذين من قبل هؤلاء المخاطبين، هم قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وأقوام كثيرون جاءوا بعدهم، وجاءهم رسل الله.. فكانوا جميعا على طريق واحد، من العناد والضلال، والتكذيب برسل الله، والكيد لهم.
قوله تعالى: «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - هو بيان لنبأ هؤلاء الأقوام، وعرض لأخبارهم، وكشف لمواقفهم من رسلهم..
ويلاحظ أنهم أدرجوا جميعا فى ثوب واحد، لا فرق بين سابقهم ولاحقهم، حتى لكأنهم جماعة واحدة، التقت برسول واحد.. وذلك لما كان منهم جميعا، من خلاف على رسلهم، وإعنات لهم، ومكر بهم.. وكذلك الرسل، هم أشبه برسول واحد، إذ كانت محامل رسالتهم واحدة، وهى الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الهدى..
فالرسل قد جاءوا إلى أقوامهم بالآيات البينات، التي تحدّث عن صدق رسالاتهم، وأنها منزلة من عند الله، وأنهم رسل الله المأمورون بتبليغها إلى من أرسلوا إليهم.
أما المرسل إليهم- على اختلاف أزمانهم وأوطانهم- فإنهم ردّوا أيديهم فى أفواههم، وقالوا:«إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ..»
تلك هى قولة أولئك الأقوام، وذلك هو ردّهم على الدعوة التي دعوا إليها من رسلهم..
- «فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ» وذلك كناية عن أنهم سدّوا على الرسل منافذ القول، فلم يدعوهم يبلغون رسالات ربهم، بل قعدوا لهم بالمرصاد، كلما همّوا بأن ينطقوا بدعوة الحق، تصدّى لهم السفهاء، والحمقى من أقوامهم، يسخرون، ويهزءون، ويلغون ويصخبون، فكأنهم بهذا قد وضعوا أيديهم على أفواه الرسل، وحالوا بينهم وبين أن ينطقوا.
ويجوز أن يكون الضمير فى أفواههم عائدا إلى أولئك الأقوام، وأنهم حين دعاهم الرسل إلى الإيمان بالله، وضعوا أيديهم على أفواههم، وردّوا عليهم قائلين: إنا كفرنا بما أرسلتم به.. وذلك إشارة إلى أنهم رفعوا أصواتهم بهذا المنكر الذي استقبلوا به دعوة الرسل، ولم يقولوا ما قالوه فى شىء من الأدب والرفق. فإن وضع اليد على الفم وترديد الصوت من خلالها، من شأنه أن يعطى الصوت قوة ووضوحا.
ويجوز أن يكون ردّ أيديهم إلى أفواههم كناية عن أنهم استقبلوا دعوة الرسل لهم إلى الإيمان بالله، بالصمت المطبق، استخفافا بهم، واستنكافا من الحديث معهم، كما فعل ابن مسعود- شيخ ثقيف وسيدها- حين جاء النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف يدعوهم إلى الله، بعد أن يئس من قومه فى مكة، فقال له ابن مسعود:«والله لا أكلمك أبدا.. لئن كنت رسول الله كما تقول، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذبا على الله، فما أنت أهل لأن أرد عليك..»
وعلى هذا التأويل، يكون قولهم:«إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» هو مما نطق به لسان الحال، وأنبأ عنهم صمتهم، وتجاهلهم لما يدعوهم إليه رسلهم، وعدّهم ذلك لغوا من القول، لا يستمع إليه، ولا يردّ على قائله! - «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - أي أنهم إذا حالوا بين الرسل وبين الكلام، تكلموا هم بالباطل من القول، والمنكر من الكلام، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنّا لفى شك يبعث الريب والاتهام لكم أيها الرسل، فيما تدعوننا إليه.
قوله تعالى: «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» - أي إذا كنتم
تشكّون فينا، فهل تشكون فى الله، وفى وجوده، وهو الذي خلق السموات والأرض؟ .. إن الشكّ فينا هو شك فى الله، إذ أن دعوتنا هى دعوة إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته.. وأنه إذا لم يكن لكم فى الآيات التي بين أيدينا ما يدعوكم إلى صدقنا، ففى هذه الآيات الكونية، وفى خلق السموات والأرض ما يدلكم على وجود الخالق، وعلى تفرده بهذا الوجود.. ومن ثمّ فليس من العقل أن تنكروا دعوتنا.. هذا إذا كانت لكم عقول تعقل وتتدبر! - وفى قوله تعالى:«يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو إغراء لهؤلاء المكذبين بالرسل أن يستجيبوا لله، وأن يقبلوا دعوته التي يحملها إليهم رسله، فإنه- سبحانه- لا يدعوهم إلا إلى خير.. إنه يدعوهم ليغفر لهم من ذنوبهم، وليؤخرهم إلى أجل مسمّى فلا يعجّل لهم العذاب، الذي لا بدّ هو واقع بالمكذبين فى غير مهل، إن هم أصرّوا على ما هم عليه من كفر وضلال، بعد أن جاءهم من الله هذا البلاغ المبين..
- وفى قوله تعالى: «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء المدعوّين، هم كتل متضخمة من الذنوب، وأنهم لن يستجيبوا جميعا لدعوة الرسل، وإنما الذي يستجيب منهم هو بعض قليل، وهم الذين يغفر الله لهم ذنوبهم.. فالذى سيغفر من ذنوب هؤلاء الأقوام، هو بعض من هذه الذنوب.. وعلى هذا، فليبادر كل واحد منهم إلى الإيمان بالله، ليكون فيمن يغفر الله لهم، وألا يكون فى المتخلفين الضالين..
هى قولة من فم واحد، تلقّاها القوم خلفا عن سلف:«إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» - فهذه أول تهمة يتهم بها الرسل من أقوامهم، وإنهم لن يكونوا
إلّا بشرا مثلهم كما يقول تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» ! - «تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» - وتلك هى التهمة الثانية، وهى، أن الرسل يريدون أن يخرجوا بالقوم، عما كان عليه آباؤهم من ضلال وكفر.. وتلك هى قاصمة الظهر عندهم.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان قوم صالح:«قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟» (62: هود) .. وبقول سبحانه على لسان أصحاب مدين:
«قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» (87: هود) .
- «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .. وبعد هذا الاتهام، يجىء التحدّى، بطلب المهلكات التي أنذروا بها، واستعجال العذاب الّذى حذّروا منه!.
والسلطان المبين. هو الحجة القاطعة، التي تسقط أمامها كل حجة! «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
ولم يكن للرسل أن يقولوا لأقوامهم غير هذا، ولا أبلغ ولا أقطع من هذا..
إنهم بشر.. مثل أقوامهم.. فما الذي فى هذا، مما ينكره المنكرون؟
وإنه الحسد لهؤلاء الرسل- وهم بشر مثلهم- أن يكونوا سفراء بين الله وبين الناس.. ولماذا يختارهم الله دونهم؟ .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان مشركى قريش فى إنكارهم على النبي أن يكون هو المصطفى لرسالة الله إليهم: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد ردّ الله عليهم بقوله سبحانه: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (31- 32: الزخرف) .
- وفى قول الرسل: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ردّ مفحم على هؤلاء الذين ينكرون عليهم أن يكونوا رسلا من عند الله، حسدا لهم، واعتراضا على مواقع رحمة الله، أن تنزل حيث تشاء مشيئته.. فهذه رحمة الله تنزل.
بالنّاس، كما ينزل المطر، فيكون غيثا مدرارا فى موضع، وقطرات قليلة فى موضع آخر.. حسب تقدير الله، وحكمته.
- «وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي إن ما تقترحونه علينا من آيات، هو مما لا يدخل فى مضمون رسالتنا، ولا يخضع لمشيئتنا.. وإنما الآيات عند الله، وما أذن به لنا منها، قد جئناكم به..
- «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» أي إننا وقد بلغناكم ما أمرنا به، سنمضى لشأننا، متوكلين على الله، الذي عليه يتوكل المؤمنون به، ويفوّضون أمورهم إليه.
هو تقرير وتوكيد لتلك الحقيقة التي أعلنها الرسل، وهى أنهم قد توكلوا على الله، وأسلموا وجوههم له.. ولم لا يتوكلون عليه وقد اصطفاهم لأكرم رسالة، وجعلهم مصابيح هدى للناس؟ لقد هداهم الله إلى الحق، وأقامهم على صراطه المستقيم.. فكيف لا يسلمون أمرهم إليه، وهو سبحانه الذي أخذ بأيديهم، فأخرجهم من تلك الظلمات المطبقة على أقوامهم؟
- وفى قوله تعالى: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» هو بعض ما يقدمه الرسل لله، وهو الصبر على الأذى الذي يلقونه فى سبيل تبليغ رسالته..
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .
وإذا لم يكن فى السفاهة باللسان، والتطاول بالقول، ما يقطع الرسل عن الدعوة التي يدعون بها، فليكن التهديد بالرجم، أو الطرد من الوطن..
ذلك ما قدّره الضالون المعاندون، وهذا ما عملوا له: -- «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا» .. هكذا يقولونها فى غير حياء، حتى لكأن الرسل غرباء عن هذه الأرض، لا حق لهم فيها مثلهم..!
- «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. الملّة، الدين، والعقيدة..
وعودة الرسل إلى ملّة قومهم، إنما هو باعتبارهم خارجين عليها، بالدّين الجديد الذي يدعون إليه.. وهذا غاية فى الضلال والعناد، إذ يجيئهم الرسل بالهدى الذي يحمله الدين الجديد إليهم، فيدعون الرسل إلى أن يعودوا إلى دينهم الفاسد الذين يدينون به.!
- «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» .. وإذا كان لهؤلاء الكافرين أرض، فإن لهؤلاء الرسل ربّا.. وقد أوحى إليهم ربهم، وأخبرهم بأنه سيهلك هؤلاء الظالمين، الذين دفع بهم الظلم إلى أن يخرجوكم من أرضكم..
إنهم هم الذين سيخرجون من هذه الدنيا كلها.. إنهم لمأخوذون بنقمة الله، وإنهم لهالكون..!
- «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» فأنتم أيها الرسل الذين سيرثون هذه الأرض بعد هلاك هؤلاء الظالمين، الذين أرادوا إخراجكم منها..
- «ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» أي إنّ ذلك الجزاء الحسن وهذا النصر العظيم، إنما هو لمن خاف مقام ربّه، وخشى بأسه، فوقّره وعظّمه، واتقى حرماته، وعظم شعائره.. والرسل من هذا فى المقام الأول، ثم من اقتفى أثرهم.
قوله تعالى: «وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
استفتحوا: أي طلبوا الفتح والنصر..
ويصحّ أن يعود الضمير على الرسل، أو على أقوامهم المكذّبين بهم..
بمعنى أن الرسل طلبوا من الله أن يحكم بينهم وبين أقوامهم، كما يقول تعالى على لسان شعيب والمؤمنين معه:«رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» (89: الأعراف) .. أو بمعنى أن الكافرين هم الذين طلبوا أن يأتيهم الرسل بالعذاب الذي توعدوهم به.. كما يقول الله تعالى فى مشركى قريش بعد معركة بدر: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» (19: الأنفال) .
وسواء أكان الاستفتاح من الرسل، أو من أقوامهم المكذبين لهم، فإن العاقبة واحدة، وهى الخيبة والخسران للكافرين المكذبين:«وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
قوله تعالى:
أي بعد هذا البلاء الذي ينزل بالجبارين المعاندين المكذبين برسل الله- بعد هذا البلاء الذي ينزل بهم فى الدنيا، سيجيئهم (من ورائه) أي من بعده عذاب جهنّم، حيث يلقون الأهوال ألوانا وأشكالا.. فهناك الصديد الذي يسقاه الجبارون.. مكرهين، يتجرعونه جرعة جرعة، وقطرة قطرة..
- «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» وهو توكيد لشناعة هذا الصديد، وأنه لا يساغ الشارب أبدا، ولا يكون على أية درجة من درجات الإساغة.. وهذا أبلغ من أن يقال:«ولا يسيغه» لأن نفى الإساغة لا يقطع بأن تكون هناك درجة من درجات الإساغة فى هذا الشراب، ولكن نظرا لقلتها، فقد شملها النفي.
أما قوله تعالى: «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» فهو نفى قاطع لأى احتمال من احتمالات
الإساغة لهذا الشراب.. وهذا مثل قوله تعالى: «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78: النساء) .
قوله تعالى:
- «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» .. إشارة إلى أن ما يحيط بهذا الجبار العنيد يومئذ، من بلاء ونكال، هو مما تزهق به الأرواح، وأن كلّ سوط من سياط هذا العذاب الذي ينوشه من كلّ جانب، هو موت زاحف إليه، ولكنه لا يموت، بل يظل هكذا أبدا، يذوق عذاب الموت، وما هو بميت..
«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) وفى إفراد الضمير فى قوله تعالى: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» بعد قوله:
«وَاسْتَفْتَحُوا» .
- فى هذا إشارة إلى أن العذاب الذي يساق إلى الكافرين، إنما يساق إليهم فردا فردا، حتى لكأن كل ما فى جهنم من بلاء ونكال، هو للفرد الواحد من أهل جهنم:«مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» .. فهنا يجد هذا الجبار العنيد نفسه وقد أفرد وحده فى جهنم، يتجرع صديدها، ويحترق بنارها، ويشوى على جمرها، من غير أن يكون معه أحد، يشاركه هذا البلاء، ويقتسم معه هذا العذاب الغليظ.. وهذا ما لا تتحقق صورته لو جاء النظم القرآنى هكذا:«وخاب الجبارون المعاندون، من ورائهم جهنم ويسقون من ماء صديد، يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ومن ورائهم عذاب غليظ» .. فشتان بين نظم ونظم، وبين قول وقول، وتصوير وتصوير!