الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (51- 60)[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 60]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَاّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
التفسير:
فى هذه الآيات، شرح لقوله تعالى:«نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» ..
ففى هذه الآيات نفحات من رحمة الله ومغفرته.. وفيها لفحات من بأسه وعذابه.. رحمته ومغفرته التي تحفّ بالمتقين من عباده، وبأسه وعذابه الذي يحلّ بالضالّين الذين يتخذون الشيطان وليّا من دون الله..
وفى قوله تعالى: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ» تذكير بقصّة إبراهيم عليه السلام، إذ جاءه ملائكة الرحمن على هيئة بشرية، فظنهم ضيفا نزل عليه، وإذ كانوا قد دخلوا عليه فجأة من غير استئذان، فإنه وجد فى نفسه وحشة منهم وإنكارا لهم.. فقال فيما بينه وبين نفسه:«قَوْمٌ مُنْكَرُونَ!» كما ذكر ذلك
فى موضع آخر من القرآن الكريم.. وهنا يقول لهم فيما بينه وبين نفسه أيضا:
«إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أي خائفون.
وفى قوله تعالى: «قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» إشارة إلى أن الملائكة قد وجدوا دلائل الخوف وأمارات النّكر تظهر على إبراهيم، فقالوا له:«لا توجل» .. وهذا الموقف شبيه بالموقف الذي كان من الملائكة حين دخلوا على داود، ففزع منهم، فقالوا له.. لا تخف، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.. قالُوا لا تَخَفْ» (21- 22: ص) .
- وفى قولهم: «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» تعجيل بهذه البشرى، لكى يطمئن قلبه إليهم، وتأنس نفسه بهم، وكى يذهب هذا الخبر العجيب بهذا الخوف الذي دخل عليه فجأة.
وقوله تعالى: «قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ» .؟
إنكار من إبراهيم لهذه البشرى بالولد أن يجيئه، وقد بلغ من الكبر حدّا انقطع فيه الأمل من الولد، وانصرفت الرغبة عنده عن طلبه، إذ فات الأوان الذي تهفو فيه النفس إلى الولد، ويشتد الطلب له..
وكان جواب الملائكة: «قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» وكان هذا الجواب تصحيحا لمشاعر إبراهيم نحو الولد، وأنه إذا لم يكن هو الذي يطلب الولد بعد هذا العمر الذي بلغه، فإن إرادة الله هى التي جاءت بهذا الولد فى هذا الوقت، وفى هذه المرحلة من العمر.. وذلك هو الحقّ الذي لا بدّ أن يقع.. ومن ثمّ كان وقوعه فى هذا الوقت هو أنسب الأوقات، حسب تقدير الله، وكان تأخيره إلى هذا الوقت لحكمة يعلمها الله، وإن خفيت على إبراهيم، وغاب عنه ماوراءها من خير.
- وقوله تعالى: «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» .
القنوط: هو اليأس من أمر محبوب منتظر طال انتظاره، حتى فات وقته.. وقد كان ذلك النصح من الملائكة لإبراهيم، إلفاتا له إلى ما لله سبحانه من حكمة، فى تقدير الأمور، وتوقيت الأحداث، وأنه إذا كان لإنسان مطلب خاص عند الله، فليس له أن يوقّت له، وأنه إذا وقّت له، ثم لم يقع فى وقته فليس له أن ييأس من إجابة طلبه.. فإلى الله سبحانه وتعالى تقدير الأمور وتوقيتها.. وإن اليأس من تحقيق المطلوب بعد فوات الوقت الذي وقّته له- فيه انقطاع الرجاء من الله، وصرف الوجه عنه.. وهذا ما لا ينبغى من مؤمن يؤمن بالله، ويعرف لله قدره.. ولهذا جاء جواب إبراهيم:«قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» - تقريرا لهذه الحقيقة، وأنه عليه السلام لم يكن قانطا من رحمة الله، ولكنه كان متعجبا دهشا لهذا الأمر الذي طلع عليه فجاءة بولد غير منتظر! وهنا سؤال هو: كيف يقع من إبراهيم هذا الدّهش الذي يبلغ حدّ الإنكار من أن يكون له ولد، وهو الذي كان له ولد وهو «إسماعيل» عليه السلام، لذى سبق مولده مولد إسحاق؟
والجواب على هذا، أن إبراهيم كان ينتظر الولد من امرأته سارة، وأنه إذ طال انتظاره حتى مسّه الكبر، وبلغت سارة سنّ اليأس الذي لا يولد فيه لمثلها- اتجه إلى أن ينجب الولد من امرأة غيرها، فكان له من زوجته «هاجر» ولده إسماعيل، الذي انتقل به وأمّه إلى البيت الحرام، وأسكنه وأمّه هناك حيث المكان الذي هو مكة الآن..
وإذ لم يكن لإبراهيم غير «سارة» التي يعيش معها، فإنه أنكر أن يكون له ولد منها، بعد أن وصلا إلى هذه المرحلة من العمر!
وسؤال آخر.. هو:
الوصف الذي وصف به الولد الذي بشّر به إبراهيم هنا من الملائكة هو أنه غلام «عليم» ثم ذكر هذا الوصف مرة أخرى فى قوله تعالى: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (28: الذاريات) على حين أن هناك وصفا آخر لولد بشّر به إبراهيم وهو أنه غلام «حليم» كما يقول سبحانه «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (100- 101: الصافات) ..
فما سرّ اختلاف الوصفين؟ وما دلالة هذا الاختلاف.؟
والجواب:
أولا: أن وصف الغلام بأنه غلام «عليم» هو وصف للولد الذي بشر به من الملائكة بعد اليأس، وهو «إسحق» عليه السلام..
وأما الوصف الذي وصف به الغلام بأنه غلام «حليم» فهو نصف لإسماعيل عليه السلام، وأنه لم يجىء بعد اليأس، وإنما جاء إجابة من الله سبحانه لدعوة إبراهيم إذ دعا ربّه، فقال:«رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
وهذا مقام غير المقام الذي استقبل فيه البشرى بإسحاق.. فهنا يدعو دعاء الراغب الطامع، وهناك ينكر إنكار اليائس الذي انقطع طمعه فى الولد! وثانيا: أن الوصف الذي وصف به الغلام بأنه «حليم» والذي قلنا إنه وصف لإسماعيل- هذا الوصف، يشير إلى أن إسماعيل هو الذبيح، وأن صفة الحلم، هى الصفة التي تناسب الموقف الذي وقفه من أبيه حين قال له:
«يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» ؟ فكان جوابه:
«يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (102: الصافات) .
وثالثا: يجىء بعد هذا الموقف بين إبراهيم وإسماعيل قوله تعالى:
«وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (112: الصافات) .
وفى هذا ما يقطع بأن الذبيح هو إسماعيل.
وسنعرض لهذا الموضوع فى مبحث خاص إذا شاء الله، عند تفسير سورة الصّافات..
قوله تعالى: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» ..
الخطب: الأمر العظيم، والشأن الجلل..
وفى سؤال إبراهيم للملائكة عن شأنهم، وعن الأمر العظيم الذي جاءوا له ما يشير إلى أن ما جاء إليه الرسل لم يكن هو البشرى بالولد، وأن هذه البشرى لم تكن إلا تطمينا لإبراهيم، وإجلاء للروع الذي استولى عليه..
وأنه بعد أن ذهب روعه وأنس إلى هؤلاء الملائكة الكرام.. سألهم:
«فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؟» فكان جوابهم: «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» .. وهؤلاء القوم، هم قوم لوط.. وقد استثنى منهم لوط وآله بقوله تعالى:«إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ» ..
وهنا سؤال:
إذا كان هؤلاء الرسل من الملائكة، قد جاءوا لمهمة خاصة، وهى إهلاك قوم لوط، فلم عرّج الرسل على إبراهيم، ولم يذهبوا رأسا إلى لوط، وهو نبىّ مرسل كما أن إبراهيم نبىّ مرسل؟ ..
والجواب على هذا: هو أن لوطا عليه السلام كان من قوم إبراهيم، وممن استجاب لدعوته من دون قومه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ
لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
(26:
العنكبوت) ..
وقد خرج لوط من بين القوم، واتخذ له موطنا قريبا من إبراهيم، يدعو فيه إلى ربه، بدعوة إبراهيم.. وكانت القرية التي أوى إليها لوط قرية ظالمة فاسدة، وكان أهلها- فوق شركهم- يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. كما يقول الله تعالى على لسان لوط لهم:«وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (28- 29: العنكبوت) ولهذا فقد عجل الله لهم العذاب فى الدنيا، ولم يعجله لقوم إبراهيم، إذ كان قوم إبراهيم مجتمعا كبيرا يضمّ أمة فى إهلاكها قضاء على الحياة فى رقعة كبيرة من الأرض، قبل أن يتسع العمران، فيكون هلاكها أشبه بالطوفان الذي ذهب بقوم نوح.. أما قوم لوط، فقد كانوا عضوا خبيثا فى جسد هذا المجتمع الفاسد الذي يضم قوم إبراهيم، فكان من حكمة الله، بتر هذا العضو الخبيث، والإبقاء على هذا الجسد الفاسد يعانى من دائه، حتى يجىء من يطبّ له من رسل الله..
من ذرية إبراهيم..!
وعلى هذا، فإن مجىء الرسل إلى إبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط، هو مما تقتضيه طبيعة الأمور، إذ كان لوط- وإن كان نبيا مرسلا- هو من قوم إبراهيم، ومن الذين تابعوه، فكان إعلام إبراهيم بما سينزل على لوط من بلاء، مما لا يغفل عنه أدب السماء..
ولهذا فإن إبراهيم- عليه السلام حين تلقّى هذا النبأ من الملائكة، فزع وقال:«إِنَّ فِيها لُوطاً!!» (32: العنكبوت) وكان جواب الملائكة:
«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» .. ولم يقف إبراهيم عند هذا الحد، بل جعل يجادل