الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» إلفات إلى هذه النعم الكثيرة التي بين أيدينا، والتي نجدها- لو التفتنا إليها- فى كل شىء يحيط بنا.. فى الهواء الذي نتنفسه، وفى الضوء الذي تكتحل به عيوننا، وفى اللقمة نجدها على جوع، وفى شربة الماء نأخذها على ظمأ، وفى نسمة عليلة نستروحها بعد لفحة الهجير.. وفى إغفاءة بعد سهر، وفى صحة بعد مرض.. وفى نجاح بعد إخفاق.. وهكذا.. نحن فى نعم دائمة لا تنقطع أبدا.. يجدها الغنى والفقير، والقوىّ والضعيف، والمريض والسليم.. وهى من الكثرة بحيث لا نلتفت إلا إلى ما نفقده منها، ولا نشعر إلا بما بعد عنّا من وجوهها.. ولهذا جاء التعبير القرآنى عن هذه النعم بلفظ المفرد «نعمة» - «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .. بمعنى أن النعمة الواحدة من نعم الله، هى نعم كثيرة، لا تحصى، وأن أيّا منها- وإن بدا صغيرا- لا يستطيع الإنسان أن يؤدى لله حقّ شكره.. فكيف ونعم الله- لا نعمته- تلبسنا ظاهرا وباطنا؟ ومع هذا فإن الإنسان لا يحمد الله، ولا يشكر له، على ما أسبغ عليه من نعم، بل يرى دائما أنه مغبون.. ولهذا جاء وصف الله سبحانه وتعالى له بقوله:«إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» .. أي أنه يظلم نفسه بحجزها عن مواقع الهدى، وبحجبها عن مطالع الخير، فلا يرى ما لله عليه من فضل، فيكفر بالله، ويرد موارد الهالكين..
الآيات: (35- 41)[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت مشركى قريش الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، فعبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله.. ولما كان هؤلاء المشركون هم من ذرية إبراهيم عليه السلام، الذي كان حربا على الأصنام وعبّاد الأصنام، والذي بنى هذا البيت الحرام، وأرسى قواعد البلد الحرام، فقد ناسب أن يذكّر هؤلاء المشركون بأبيهم هذا، حتى يروا فى دعوة الرسول الكريم لهم، دعوة مجددة لدين أبيهم إبراهيم، ولتسقط بهذا حجتهم التي يحاجّون بها النبي بقولهم:«إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (22: الزخرف) .. فإذا كان لهم فى آبائهم أسوة، فهذا هو إبراهيم أبوهم الأكبر، فليتأسّوا به، وليهتدوا بهديه! قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ»
هو تذكير لهؤلاء المشركين، عبّاد الأصنام من قريش، بموقف أبيهم إبراهيم من الأصنام، وأنّه- صلوات الله وسلامه عليه- دعا ربّه أن يجعل هذا البلد الحرام- مكة- بلدا آمنا، مؤمنا بالله، وأن يجنّبه أي يبعده وبنيه عن عبادة الأصنام..!
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم دعوته فى البلد الحرام، فجعله آمنا فى الجاهلية وفى الإسلام.. أما فى بنيه. فقد استجاب له فى بعضهم ولم يستجب فى بعض آخر.. فكان منهم فى الجاهلية حنفاء يعبدون الله على دين إبراهيم، كما كان منهم- وهم الأكثرون- عبّاد أصنام، مشركون بالله.
وقد أخبر الله إبراهيم بأن دعوته هذه فى بنيه، ليست مجابة على إطلاقها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (124: البقرة) .. فليس كلّ ذريّة إبراهيم ممن يتابعه، ويكون على دينه إلى يوم القيامة.. وإلا لكان ذلك ضمانا موثقا لكل من اتصل نسبه بإبراهيم أن يكون مؤمنا، وهذا من شأنه أن يرفع التكليف، والابتلاء، ويجعل مثل هذا الإيمان إيمان قهر وإلجاء. ليس للإنسان فيه كسب واختيار.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (126: البقرة) فإبراهيم- عليه السلام إذ يدعو ربّه بما دعاه به، يعلم هذه الحقيقة، وأنه ليس كلّ بنيه إلى يوم القيامة، ممن يهدى الله.. ولهذا قال: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ»
.. فدعا بالرزق لمن آمن، دون من لم يؤمن.. وقد أجابه الله سبحانه، بأنه لن يحرم أحدا رزقه فى هذه الدنيا، فهو سبحانه سيرزق من آمن، ومن لم يؤمن، فهذا الرزق هو متاع قليل، هو متاع الحياة الدنيا..
ولن يحرم الكافر حظّه من هذا المتاع.. أما جزاء كفره فسيلقاه فى الآخرة:
«قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ففى أبناء إبراهيم إذن.. مؤمنون، ومشركون.. هكذا كان، وهكذا يجب أن يكون، تحقيقا لقوله تعالى:«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» ..
وهنا سؤال.. وهو:
لماذا ذكر إبراهيم البلد الحرام مرة منكّرا هكذا: «بَلَداً آمِناً» ومرة معرفا «البلد آمنا» ؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه قد كان لإبراهيم- عليه السلام كما يحدّث التاريخ- أكثر من رحلة إلى البيت الحرام: الرحلة الأولى حين هاجر بإسماعيل وأمه، وأنزلهما هذا المنزل، وأقام هو وإسماعيل قواعد البيت الحرام.. وفى هذا الوقت لم يكن البلد الحرام قد ظهر إلى جوار البيت الحرام، وإنما كان شيئا مطويا فى عالم الغيب لم يولد بعد، ولهذا كان دعاء إبراهيم له:
«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» .. أي اجعل هذا المكان بلدا آمنا.. ثم بعد زمن، عاد إبراهيم إلى هذا المكان مرة أخرى، فوجد حول البيت الحرام قبائل قد نزلت على ماء زمزم مع إسماعيل، ومنها قبيلة جرهم التي أصهر إليها إسماعيل وتزوج منها.. ولهذا كانت دعوته الثانية لهذا البلد فى مواجهة بلد قائم فغلا، فأشار إليه إبراهيم إشارة إلى شخص قائم أمام عينيه:«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» !
قوله تعالى: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فى هذه الآية:
أولا: خطاب الأصنام خطاب العقلاء: «إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وفى هذا ما يكشف عن سفه المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام، وخفّة أحلامهم، وأنهم يتعاملون مع هذه الأحجار كما يتعاملون مع الآدميين العقلاء..
وهذا لا يكون إلا عن سفاهة أحلام، وسخف عقول، وصغار نفوس.. إن هؤلاء الرّجال الدين يشمخون بآنافهم، ويطاولون السماء بأعناقهم، ليسوا إلا أطفالا فى مساليخ رجال.. فكما يتلهّى الأطفال بالدّمى، ويخلعون عليها من مشاعرهم، أسماء يخاطبونها بها، كما يخاطب بعضهم بعضا، كذلك يفعل هؤلاء المشركون بتلك لدّمى التي يشكلونها من الأحجار، والأخشاب، ويزينونها بالملابس والحلىّ، كما يزبن الأطفال العرائس والدّمى!! وثانيا: فى قول إبراهيم: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند إبراهيم من علم بما لله فى عباده من حكمة..
وأن ذريّة إبراهيم لن تكون جميعها على طريق سواء.. فهم بين مؤمن يتبعه، وكافر يخرج عن الدين الذي دعا إليه..
وثالثا: فى قول إبراهيم: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تظهر عاطفة الأبوة، كما تتجلّى تلك الصفة الكريمة التي حلّى الله سبحانه وتعالى بها إبراهيم، والتي ذكرها سبحانه فى قوله:«إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود» .. فهو- عليه السلام يدع العاصين من ذريته لمغفرة الله ورحمته.. وفى مغفرة الله ورحمته، متسع للعاصين، ورجاء للمذنبين.
قوله تعالى: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»
..
هو استكمال لما دعا به إبراهيم ربه لإسماعيل وذريته، إذ أسكنه فى هذا المكان القفر، وأنزله فى هذا الوادي الجديب..
فأول ما دعا به إبراهيم ربه، لإسماعيل وذريته فى هذا الموطن، هو الأمن:
«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» .. إذ كان الأمن هو ضمان الحياة، وسكن النفوس، والقلوب، وإنه لا حياة لإنسان، ولا نظام لمجتمع إلا فى ظل الأمن والسلام.. ثم كانت الدعوة الثانية بعد هذا، وهى الإيمان بالله، وذلك بعد أن يضمن الإنسان وجوده:«وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» .. ثم تجىء الدعوة الثالثة، التي تمسك الإيمان فى القلوب، ويمكّن له فى النفوس، وهى لقمة العيش، التي إن لم يجدها الإنسان، هلك، وطار صوابه، وذهب إيمانه.. وفى هذا يقول إبراهيم:
- «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» أي بعض ذريتى، إذ كان ابنه الآخر وهو إسحق يعيش فى موطن غير هذا الموطن.. فإسماعيل الذي أسكنه فى هذا الوادي هو بعض ذريته، لا كلّ ذريته.. «بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» أي فى حمى بيتك المحرّم، وهذا هو السبب فى أن اختار إبراهيم لإسماعيل هذا المكان القفر المنعزل.. فإنه وإن كان قفرا جديبا، لا زرع فيه ولا ثمر، فإنه مأنوس خصيب، بنفحات الله، محفوف برحمته ورضوانه.
وحسب هذا الوادي أن يشرف بهذا الشرف العظيم، فيكون وعاء حاملا لبيت الله.. أول بيت وضع للناس! - «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» أي لكى تنتظم حياتهم، وتطمئن قلوبهم، ويؤدّوا ما فرض
الله عليهم من فرائض، كانت دعوة إبراهيم ربّه، أن يجعل قلوب الناس تميل إلى هذا المكان، وتنجذب إليه، وتتعاطف مع ساكنيه، فيكون لهم من ذلك رزق يرزقونه من تلك الأمم التي تجىء إليهم، وتلتقى بهم..
وفى هذا إشارة إلى أن حياة الإنسان لا تنتظم إلا فى جماعة، ولا تكتمل إلا فى مجتمع، حيث كانت دعوة إبراهيم أن يعمر هذا البلد بالناس، وأن تتكاثر أعداد الوافدين عليه، وذلك خير من الزرع والخصب.. فحيث كان الناس كان الخير، وكان العمران! ..
وفى المجتمع الذي تتوافر للإنسان فيه وسائل العيش، ويجد فى كنفه الأمن والسلام- فى هذا المجتمع تخصب العواطف، وتزدهر المشاعر، وتتفتح البصائر إلى كثير من حقائق الوجود.. وهنا يجد الإنسان وجوده الذي يستطيع أن يصله بالله، وأن يوثق صلته به، حين يجد الجو الذي يسمح له بالنظر والتأمل، وهو مجتمع النفس، مطمئن القلب.. ومن هنا أيضا يستقيم للإنسان دينه، فيؤدى ما لله عليه من حقوق، لا تشغله عنها شواغل الحياة، ولا تدهله عنها مطالب العيش الملحّة، المهددة للحياة!.
- ففى قول إبراهيم: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. تعليل كاشف عن أن إقامة الصلاة، وما معها من واجبات مفترضة على المؤمن، إنما تجىء بعد أن يجد الإنسان وجوده على هذه الأرض، ويضمن لهذا الوجود بقاء واطمئنانا..!
فالإنسان مع الحرمان الشديد، ومع الجوع المهدد بالهلاك، لا يجد العقل الذي يعقل، ولا القلب الذي يخفق خفقات الوجد والشوق..
فإذا عبد الله فى تلك الحال، عبده وهو شارد اللّب خامد الشعور.. ومثل هذه العبادة ولا يجد فيها العابد ريح ربّه، ولا ينسم أنسام جلاله، وعظمته..
يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه- «لا تشاور من ليس فى بيته دقيق، فإنه مولّه العقل» .. أي لا عقل له، إذ كان فيما ركبه من هم، وما استولى عليه من مشاعر الأسى لصغاره الجياع، ما يذهب بكثير من قواه العقلية والنفسية.
ومن هنا كان هذا الدعاء: «اللهم أصلح لى دنياى التي فيها معاشى، وأصلح لى دينى الذي فيه معادى وعاقبة أمرى» كان دعاء جامعا لخير الدنيا والآخرة.
هذا وليست كثرة المال ووفرة المتاع، بالتي تقيم الإنسان دائما على طريق مستقيم مع الله، إذ كثيرا ما يكون المال ووفرته سببا فى صرف الإنسان عن طريق الحق، وركوبه طرق الغواية والضلال.. ولكن الفقر القاهر والحاجة القاسية، أكثر صرفا للإنسان عن الطريق السّوىّ.. إلا من عصم الله، وأمده بأمداد الحق والصبر.
وفى التعبير بكلمة «تهوى» إشارة إلى الدافع الذي يدفع الناس إلى هذا المكان القفر الجديب. وأن هذا الدافع لن يكون طلبا لمال أو متاع، وإنما هو إشباع لهوّى فى القلوب، وإرواء لظمأ فى النفوس، واستجابة لأشواق تهفو بالأرواح إلى هذا المكان.. وذلك لا يكون إلا استجابة لدعوة الله، وامتثالا لأمره، وتحقيقا لركن من أركان دينه.. فكانت فريضة الحجّ، هى دعوة الله إلى اجتماع المؤمنين فى هذا الوادي.. يجيئون إليه فى شوق، وحنين.. وكأنهم على ميعاد مع أمل محبوب طال انتظاره، وأمنية مسعدة، عزّ الوصول إليها.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله:«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» (27- 28: الحج)
- وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» حثّ لأهل هذا الوادي وساكينه على أن يشكروا الله على هذا الفضل الذي ساقه إليهم، حتى اخضرّ واديهم المجدب، وأزهر وأثمر.. وذلك بأن يقيموا الصلاة، ويؤدوا ما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، كانت الصلاة عمادها.. ولهذا اقتصر على ذكرها، تنويها بها، ورفعا لقدرها، وأنها هى الدين كلّه، فإذا ضيعها المؤمن فقد ضيع كل دينه، وإذا حفظها كان ذلك داعية له بأن يحفظ كل دينه:«إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (45: العنكبوت) قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ..»
تشير هذه الآية إلى أن تقوى لله، وشكره، ليس بأعمال الجوارح الظاهرة وحدها، وإنما بأن يسلم الإنسان لله وجوده كلّه، ظاهرا وباطنا، وأن يخلص له العبادة.. فالله سبحانه وتعالى: يعلم ما نخفى وما نعلن.. وحساب أعمالنا عنده، بما تحمل من صدق وإخلاص.. فإذا تلبس بتلك الأعمال رياء، أو نفاق، ردّت على صاحبها، وكانت وبالا عليه..
قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» ..
هو صلاة شكر وحمد لله، يرفعها إبراهيم لربّه، على النعمة التي أنعم بها عليه، إذ وهب له الولد بعد أن كبر، وجاوز العمر الذي يطلب فيه الولد.. فوهب الله له ولدين، لا ولدا واحدا، هما إسماعيل وإسحق..
وهكذا تجىء رحمة الله من حيث لا يحتسب الناس، ولا يقدّرون..
فهذا إبراهيم الذي بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد الذي
تقرّ به العين، قد بسط له الله سبحانه وتعالى يد رحمته، فكان له أكثر من ولد..!
وهذا الوادي الجديب، الذي كانت تمتدّ العين، فلا ترى فيه إلا مواتا، لا تهبّ عليه نسمة حياة أبد الدهر- هذا الوادي قد عاد لله بفضله عليه، فإذا هو حياة زاخرة، تحتشد فيه الأمم، وتصبّ فيه أنهار الحياة، المتدفقة بالنعم من كل أفق..
وقد شكر إبراهيم ربّه على هذه النعمة، التي جاءته على غير انتظار..،
فليشكر أهل هذا الوادي ربّهم على هذا الخير الذي يفيض به واديهم.. من غير عمل منهم! قوله تعالى: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» فيه توكيد لدعوة إبراهيم التي دعا بها ربّه فى قوله: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. وفى هذا ما فيه من تنويه بأمر الصّلاة، واحتفاء بشأنها.. ثم هو من جهة أخرى، إشارة إلى أن أداء الصلاة على وجهها والمحافظة على أوقاتها، وإخلاص القلوب لها، وإحلاء النفس من الشواغل التي تشغل عنها.. وذلك أمر يحتاج إلى إيمان قوى، وعزيمة صادقة، يستعان عليهما بالله، ويطلب إليه سبحانه العون والتوفيق فيهما.. ولهذا جاء قول إبراهيم- «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ» صلاة ضارعة إلى الله سبحانه أن يثبت قدمه على أداء هذه الفريضة، وأن يجعله من مقيميها على وجهها..
- وفى قوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وفى التعبير بمن التي تفيد التبعيض- إشارة إلى أن دعاءه لذريته بأن يقيموا الصلاة، لا يشمل كل ذريته، بل بعضهم، ممن دعاهم الله إلى الإيمان به، فآمنوا، وأخبتوا، وكانوا من المتقين..
- وقوله: «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» .. هو دعاء بأن يتقبل الله منه ما يدعو به لنفسه ولذريته.. فإذا قبل الله سبحانه قوله: «وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» - كان ذلك إذنا منه سبحانه بقبول ما يدعوه به.. وكان مستجاب الدعوة عند الله.. وهذا غاية ما يطمح إليه المؤمن من رضا ربّه عليه، ولطفه به، ورحمته له..
وقد كان إبراهيم- عليه السلام مستجاب الدعوة عند ربّه.. وكان نبينا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- دعوة مستجابة من دعوات إبراهيم، حيث دعا إبراهيم ربّه بما حكاه القرآن الكريم عنه فى قوله تعالى:«رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (129: البقرة) .. وفى هذا يقول النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «أنا دعوة إبراهيم.»
قوله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» هو دعوة عامة، شملت المؤمنين جميعا، بعد أن بدأ إبراهيم بنفسه، ثم بوالديه..
وهذا أدب ربانىّ فى الدعاء، ينبغى أن يلتزمه المؤمن، وهو يدعو ربه..
ذلك، أن الدعاء، هو استمطار فضل من فضل الله، واستنزال رحمة من رحمته.. ومن الغبن للداعى أن يدعو بهذا الخير، ولا يأخذ نصيبه منه..
كما أنه من الأنانية والشحّ أن يحتجز الإنسان لنفسه هذا الخير المرتقب، ولا يشرك إخوانه المؤمنين فيه.. فرحمة الله واسعة، وعطاؤه جزل.. ودعوة مستجابة تسعد الناس جميعا..
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع وهو فى المسجد داعيا يدعو، فيقول:«اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا» فقال صلى الله عليه وسلم
«لقد تحجّرت واسعا» ؟ أي ضيقت ما كان شأنه السعة، وأدخلت نفسك فى جحر، وكان بين يديك هذا الوجود الرحيب! وهنا سؤال: كيف يدعو إبراهيم لوالده بالمغفرة، وهو على ما كان عليه من كفر عنيد، وضلال مبين؟ كيف، والله سبحانه وتعالى يقول:«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (113: التوبة) وقد نزلت هذه الآية فى مشركى قريش، الذين ماتوا على شركهم.. وقد كان النبىّ والمؤمنون يستغفرون لبعض هؤلاء المشركين، فلما لفتهم الله سبحانه إلى هذا، وكشف لهم عن مصير هؤلاء المشركين- أمسكوا عن الاستغفار لهم..
وكذلك كان شأن إبراهيم عليه السلام، فإنه كان يستغفر لأبيه. على ما كان منه، من جفاء وغلظة، وعلى ما لقيه منه من عناد وإصرار على الكفر..
وذلك طمعا فى أن يهديه الله، وأن يشرح صدره للإيمان، فلما كشف الله له عن مصير هذا الأب، تبرأ منه.. وفى هذا يقول الله تعالى:«وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (114: التوبة) .
وسؤال آخر: لماذا وقّت إبراهيم غفران الله له ولوالديه وللمؤمنين، بيوم القيامة.. «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ؟
والجواب على هذا، هو أن يوم الحساب، هو يوم الإنسان، لا يوم له قبله، وأنه إذا ربح هذا اليوم، وظفر فيه بالنجاة من عذاب الآخرة- وهذا لا يكون إلا بمغفرة الله له، وتجاوزه عن سيئاته- فذلك هو الفوز العظيم حقّا..
أما إذا خسر هذا اليوم، ولم يكن فيمن شملهم الله بعفوه ومغفرته، فذلك هو الخسران المبين..