الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» .. فهو مما فى خزائن الله، وفى ملكه، وليس للناس قطرة منه إلا ما يجود الله به عليهم منه..
قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» .. هو كشف لبعض قدرة الله، وأنه سبحانه بيده الحياة والموت.. وأنه ليس لهذه الحياة بقاء.. «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .. والله سبحانه يرث الأرض ومن عليها: «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» فلا يغترنّ أحد بهذه الدنيا، وإن أعطاه الله الكثير من زهرتها، وأفاض عليه الجزيل من متاعها.. فكلّ إلى زوال..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» ..
هو كذلك كشف عن بعض علم الله، وأنه سبحانه قد علم ما كان من خلق قبل أن يخلقوا، السابقين من الخلق واللاحقين.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .. (14: الملك) قوله تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تقرير للبعث، وأن الموت المحكوم به على الناس، ليس هو نهاية الحياة الإنسانية، بل هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا.. فقد اقتضت حكمة الله، أن يكون للناس حياة أخرى يحاسبون فيها على أعمالهم، وينزلون فيها منازلهم حسب ما كان لهم من أعمال فى دنياهم، وهو سبحانه «عَلِيمٌ» بما كان منهم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أعمالهم..
الآيات: (26- 50)[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 50]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
التفسير:
تعرض هذه الآيات قصة خلق آدم، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من طين، ثم نفخ فيه الحق جلّ وعلا من روحه، ثم أمر الملائكة بأن يسجدوا له،
فسجدوا إلّا إبليس، فقد أبى أن يسجد، فلعنه الله وطرده.. ثم تذكر الآيات موقف إبليس من ربه سبحانه وتعالى، وتحدّيه لآدم وذريته، بإغوائهم، وإفسادهم، وخروجهم عن طاعة الله، ثم طلبه إلى الله سبحانه أن يؤخره إلى يوم القيامة، حتى تتاح له الفرصة فى أبناء آدم.. وقد أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وحذّر أبناء آدم منه، ونههم إلى هذا العدو المتربص بهم..
وقد وردت هذه القصة فى أكثر من موضع من القرآن، شأنها فى هذا شأن القصص القرآنى، الذي جاء فى معارض مختلفة، بين الإيجاز والتفصيل..
وفى سورة البقرة عرضنا بالتفصيل لقصة خلق آدم، وقلنا إنه لم يخلق خلقا مباشرا من التراب، وإنما كان خلقه خلقة فى سلسلة التطور.. وأنه إذا كان الطين مبدأ للخلق، فإنه قد تنقل فى هذا الطين من عالم إلى عالم، ومن خلق إلى خلق، حتى كان الإنسان آخر حلقة فى سلسلة هذا التطور، فظهر فيها الكائن العاقل.. وهو آدم، أو الإنسان..
ولا نعيد هذا القول، وحسبنا أن نقف بين يدى الآيات الكريمة وقفات نطلع فيها وجها من وجوه الإعجاز القرآنى فى التكرار لمعارض قصصه، والذي حسبه بعض الجهلاء السفهاء من المآخذ التي تؤخذ على القرآن، وعدّوه قصورا فى بلاغته..
فى هاتين الآيتين عرض موجز لخلق آدم، وخلق الجانّ (إبليس) ، وبيان المادة التي خلق كلّ من آدم وإبليس منها..
فآدم، خلق من صلصال من حمأ مسنون..
والصلصال: الطين الذي جفّ حتى صار له صوت وصلصلة..
والحمأ: الطين المتعفن. وهو الذي تخمّر فى ظروف معينة، وبدأ يأخذ بحكم هذا التخمر صورا وأشكالا، ولهذا وصف «بالمسنون» أي المسوّى والمشكل فى أشكال وقوالب..
وقد ورد فى آيات من القرآن الكريم، أن آدم خلق من تراب، ومن طين، ومن طين لازب..
وهذا يشير إلى أن التراب، هو المادة الأولى التي كان منها هذا الخلق..
ثم تحول التراب إلى طين، ثم تحول هذا الطين إلى طين لازب، أي زبد، ثم تحول هذا الطين اللازب إلى حمأ، ثم أخذ هذا الحمأ صورا وأشكالا فكان حمأ مسنونا.. ثم تحول هذا الحمأ المسنون إلى صلصال كالفخار.. وهكذا سار الإنسان فى هذا المسار الطويل عبر ملايين السنين، حتى ظهرت أول بشائر الحياة الإنسانية فى باكورة إنسان.. هو «آدم» ! أما «الجانّ» فقد خلق قبل آدم، وكان خلقه من نار السموم.. أي من لهب النار لا من جمرها.. فكان جسما هوائيا ملتهبا، مشوبا بدخان..
وقد ذكر فى القرآن الكريم، الجنّ، وإبليس، والشيطان، وكلها تعنى هذا المخلوق الذي أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين..
وقد عرضنا لبحث هذه المسميات- الجن وإبليس والشيطان- فى الجزء الأول من هذا التفسير.. فليرجع إليها من شاء..
هنا يحدّث القرآن عن أن الله سبحانه وتعالى قد آذن للملائكة قبل خلق آدم، وقبل ميلاده المنتظر فى سلسلة التطور، آذنهم- سبحانه- بأن ينتظروا ميلاد هذا الكائن، وأن يسجدوا له ساعة مولده، سجود ولاء لله، وتمجيد لقدرته وحكمته إذ يشهدون هذا الطين يتحرك فى أحشاء الزمن، فيتمخض عن كائنات عجيبة.. ثم يلد أعجب مولود، هو هذا الإنسان، الذي ينطق، ويعقل، ويكون خليفة الله فى الأرض، ويقف بين يديه الملائكة موقف التلاميذ من أستاذهم، يتعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون..
فالسجود لآدم فى حقيقته، سجود لله سبحانه، فى مواجهة هذه الظاهرة العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله، وتطلع منها على الملائكة آية من آياته..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» - إشارة إلى أن آدم لم يظهر من الطين ظهورا مباشرا، وإنما ظل دهورا طويلة فى بوتقة الزمن، حتى استوى ونضح.. فالفاء فى قوله تعالى:«فَإِذا سَوَّيْتُهُ» تفيد التعقيب، ولكنه تعقيب يأخذ من عمر الزمن ملايين السنين.. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .
- وفى قوله تعالى: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» - إشارة إلى كيفية السجود، وأنه سجود لا يملك معه الملائكة أنفسهم، بل يخرون ساقطين على وجوههم، حين يأخذهم جلال الموقف، وتغشاهم رهبته..
والفعل «قعوا» هو أمر من الفعل «وقع» والأمر منه «قع» فإذا أسند إلى واو الجماعة كان: «قعوا» .. أي اسقطوا وخرّوا..
هذا، وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فى موضع آخر، فقال تعالى: