الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن الخطيب 713- 776 هـ (1313- 1374 م)
ثانى اثنين أرّخا لعصر بنى الأحمر، فكشفا عن السلالة النصرية، حتى عصرهما الذي عاشاه جنبآ الى جنب، ولم ينل من علاقتهما الطيبة سوى التنازع على المزيد من السلطة، فى دولة طالما استبد فيها الحجاب والوزراء، وانتقصوا من سلطة السلطان، فكانت نهايتهم على يدى من نازعوهم أمور المملكة، بايعاز من صاحب سلطة قضائية أو ادارية، وهذا ما حدث بين ابن الخطيب، وبين قاضى الجماعة أبى الحسن على النباهى الجذامى، على نحو ما سنرى من خلال سيرة الأول.
هو لسان الدين أبو عبد الله محمد، بن عبد الله، بن عبد الله، بن سعيد، بن على، بن أحمد، السلمانى، نسبة الى سلمان، بقعة باليمن نزلت بها بعض القبائل القحطانية، وكانت أسرة ابن الخطيب احدى هذه القبائل، ومن اليمن وفدت الأسرة الى الأندلس، حيث اتخذت قرطبة مقرا لها.
ثم هاجرت الأسرة الى طليطلة- كما أخبر بذلك ابن الخطيب نفسه فى
مقدمة
«الاحاطة» - عام 202 هـ 817 م، وهو العام الذي حدثت فيه ثورة أهل الربض بقرطبة، ضد أمير الأندلس الحكم بن هشام، حيث حرض الفقهاء أهل الربض ضد الأمير، ولكن الحكم قضى على الثورة فى الموقعة المشهورة
ب (موقعة الربض) وشنتت شمل القائمين بها، فنفى من نفى، وشرد من شرد، وغادر قرطبة جمهور من المعارضين وعديد من العلماء، ومن هؤلاء أسرة ابن الخطيب، حيث قصدت طليطلة، فبقيت بها قرابة قرن ونصف، ولما أحست أسرة المترجم له بالخطر المحدق بالمدينة- حيث أصبحت هدفا للأسبان فى أواسط القرن الخامس الهجرى (أوائل القرن الثانى عشر الميلادى) - بادرت بالنزوح عنها الى مدينة لوشة «1» مسقط رأس ابن الخطيب فى 25 رجب 713 هـ (16 نوفمبر 1313 م) .
تربى ابن الخطيب فى أسرة عرفت بالاصالة والعلم والجاه، فقد كان أبوه عبد الله من أكابر العلماء والخاصة، كما أخبر بذلك ابن الخطيب نفسه، حيث ترجم لأبيه فى كتابه (الاحاطة فى أخبار غرناطة) فروى لنا أنه ولد فى (672 هـ 1273 م) واستقر حينا فى غرناطة، ثم عاد الى لوشة مقر الأسرة، ثم رجع الى غرناطة أخيرا، حيث التحق بخدمة السلطان أبى الوليد اسماعيل ملك غرناطة (713- 725 هـ- 1314- 1324 م) .
وقد كانت أسرته تحمل اسم «الوزير» الى أن جاء جده سعيد فعرفت باسم «الخطيب» .
ولما توفى هذا السلطان، وخلفه ابنه السلطان أبو عبد الله محمد، التحق والد ابن الخطيب بديوان كتابته أيضا، ثم بأخيه السلطان أبى الحجاج يوسف (733- 755 هـ- 1333- 1354 م) ، حيث عاصر الكاتب الكبير، والرئيس العظيم أبا الحسن على بن الجيّاب، والذي منح من قبله لقب الوزارة، وأخيرا سقط عبد الله مع ولده الأكبر- أخى لسان الدين- قتيلا فى موقعة طريف الشهيرة، التى تمخضت عن فوز الأسبان على المسلمين من الأندلس والمغرب، وسقوط كل من طريف ثم الجزيرة الخضراء وقلعة بنى سعيد، وذلك فى جمادى الأولى 741. هـ (1340 م) .
لقد نشأ ابن الخطيب فى العاصمة غرناطة، وتلقى بها دراسته «2» ، فقد كانت وقتئذ ميدانا احتشد فيه الأكابر من العلماء والأدباء، فدرس اللغة والشريعة والأدب على جماعة من أقطاب العصر، مثل «أبى عبد الله بن الفخار الألبيرى» شيخ النحاة فى عصره، «وأبى عبد الله بن مرزوق» فقيه المغرب الكبير، «والقاضى أبى البركات بن الحاج البلفيقى» ، ودرس الأدب والشعر على الوزير «أبى عبد الله ابن الحكيم اللخمى» وعلى الرئيس «أبى الحسن على بن الجياب» ، وغير هؤلاء، كما درس الطب والفلسفة على حكيم العصر وفيلسوفه الشيخ «يحيى بن هذيل» . فلا نبالغ اذن اذا قلنا: ان غرناطة- فى ذلك الوقت- كانت أعظم مركز للدراسات الأدبية والعلمية والاسلامية، فى هذا القطر الغربى من العالم الاسلامى، وكان هذا من حظ ابن الخطيب الى حد بعيد.
هذا، وقد تأثر مستقبل ابن الخطيب السياسى بحكم منصب والده، فمنذ شب عن الطوق ونفسه تطمح للوصول الى مركز أبيه، فلما توفى الوالد دعى ابنه للخدمة مكانه، وكان حينئذ فى الثامنة والعشرين من عمره، حيث تولى أمانة السر لأستاذه الرئيس «أبى الحسن بن الجياب» وزير السلطان ابى الحجاج يوسف الأول النصرى وكاتبه «3» ، ثم خلف أستاذه فى الوزارة، وتقلد ديوان الانشاء لهذا السلطان، وكان ابن الخطيب يومئذ قد ملك زمام أرفع الأساليب شعرا ونثرا، بفضل أستاذه الراحل، وظهر أثر هذه التلمذة على رسائله السلطانية، التى حررها بقلمه على لسان ملوك الأندلس والمغرب، والتى نعتها المؤرخ ابن خلدون بالغرائب، وقد جمع ابن الخطيب نفسه منها الكثير فى كتابه «ريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب» ، كما أورد المقرى عددا منها فى مؤلفه «نفح الطيب» »
، ويعتبر كتاب ابن الخطيب «كناسة الدكان بعد انتقال السكان» مجموعة من الرسائل السلطانية التى تمثل العلاقات السياسية بين غرناطة والمغرب، فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى، على لسان سلطانه يوسف الأول ابن الأحمر، الى معاصره فى فاس أبى عنان فارس المرينى.
ولقد كسب ابن الخطيب ثقة هذا السلطان الغرناطى، حيث قربه من مجلسه، وخلع عليه الجم من النعم، كما أنه أصبح أثيرا لديه، مودعا اياه أمانة سره وكتابته، وذلك لروعة هذه المكاتبات السلطانية التى دبجها له من جهة، ولنجاح سفاراته مع ملوك النصارى والمغرب من جهة أخرى، فقد بعثه عاهل غرناطة سفيرا الى أبى الحسن المرينى ملك المغرب عام 749 هـ (1348 م) .
ولما توفى السلطان أبو الحجاج يوسف قتيلا- فى يوم عيد الفطر 755 هـ (19 أكتوبر 1354 م) - خلفه فى الملك ولده السلطان محمد الخامس الغنى بالله، واستمر ابن الخطيب فى معاونة الوزير أبى النعيم رضوان على خدمة السلطان الجديد، كما تولى الوصاية على الأبناء القصر للسلطان المتوفى، ثم قام بسفارة الى السلطان «أبى عنان فارس المرينى» عام 755 هـ 1354 م، ولقد نجح ابن الخطيب فى مهمته هذه نجاحا عظيما، ذلك أن ملك المغرب استجاب للمطالب التى حملها ابن الخطيب لصالح ملك غرناطة، وفى مقدمتها العون الحربى لمقاومة أطماع ملك قشتالة.
ولقد ظفر ابن الخطيب بمكانة ممتازة لدى الغنى بالله، اذ منحه ثقته كأبيه من قبل، وخلع عليه لقب (ذو الوزارتين) ، لجمعه بين وزارة القلم ووزارة السيف.
ولكن حدث أن اندلعت الثورة بغرناطة، فى رمضان 760 هـ 1359 م، ونتج عنها فقدان السلطان الغنى بالله لملكه، واستيلاء أخيه الأمير اسماعيل على العرش، كما تمخضت هذه الثورة عن مقتل الحاجب أبى النعيم رضوان، ثم فرار الغنى بالله الى وادى آش «5» ، وعليه فأصبح ابن الخطيب لا يملك من الأمر شيئا، غير أنه حاول أن يستميل السلطان الجديد، فقبله فى منصب الوزارة مؤقتا، ثم تشكك بعد قليل فى نواياه، وذلك بتحريض منافسيه وحساده، فقبض عليه، وصادر أملاكه، وبذلك فقد ابن الخطيب جاهه ونفوذه، بل ومتاعه بين عشية وضحاها.
لم تطل هذه النكبة بابن الخطيب، فقد بعث ملك المغرب السلطان أبو سالم سفيره (الشريف أبا القاسم التلمسانى) الى ملك غرناطة الجديد، يطلب اليه أن يسمح للملك المخلوع (الغنى بالله) ووزيره ابن الخطيب بمغادرة الأندلس الى المغرب ضيفين عزيزين، فرضخ سلطان غرناطة لهذا الطلب، سياسة منه فى الابقاء على أواصر الوداد مع بنى مرين، واحتفاظا بهم سندا لمستقبل الدولة الاسلامية بالأندلس. ولهذا أطلق سراح ابن الخطيب، ولحق بسلطانه، حيث لجأ إلى وادى آش، ومن ثم الى المغرب، ومعهما نفر كبير من الحاشية، فوصل الركب فاس فى محرم 760 هـ (ديسمبر 1358 م) حيث استقبلهما السلطان أبو سالم استقبالا حارا، واحتفل بقدومهم احتفالا عظيما، وألقى ابن الخطيب فى هذه المناسبة- بين يدى المضيف- قصيدته الشهيرة «6» ، يستنصره ويستصرخه؛ ليعين سلطانه على أمره.
ويشهد ابن خلدون المؤرخ ذلك الحفل- بصفته من كبار رجال البلاط المرينى- فيصفه لنا ويقول: «إن ابن الخطيب استولى على سامعيه، فأبكاهم تأثرا» .
هذا وقد طاب العيش لابن الخطيب بالمغرب فى رعاية السلطان «أبى سالم» ، الذي أقطعه الأراضى، ورتب له الرواتب، حيث استقر فى مدينة «سلا» «7» حوالى ثلاثة أعوام منفيا 760- 763 هـ (1358- 1361 م) ، اقتنى خلالها الضياع والأموال، ولكن لم ينس- فى الوقت نفسه- نزعته الثقافية والتأليفية، فجاس خلال مدن المغرب دارسا باحثا، ملتقيا بالعلماء فى تجواله، وفى نهاية المطاف يرجع الى سلا، حيث يرابط بضاحية «شالة» ، قرب أضرحة ملوك بنى مرين.
ولقد أصيب ابن الخطيب- ابان هذه الفترة- فى زوجته أم أولاده، وبالرغم من كل ما أصابه من نكبات متوالية فانه لم يقعد عن التأليف، ولم يخلد الى الراحة والسكينة، ويكفى دليلا على هذا تلك المؤلفات التى حررها وقتئذ، ومن أهمها:
1) معيار الاختيار، فى ذكر المعاهد والديار (هذا الكتاب) .
2) نفاضة الجراب، وعلالة الاغتراب.
3) اللمحة البدرية، فى تاريخ الدولة النصرية.
4) الحلل المرقوقة، فى اللمع المنظومة «8» .
5) رقم الحلل، فى نظم الدول.
6) كناسة الدكان، بعد انتقال السكان.
7) رسائل فى فنون مختلفة، معظمها نظمه شعرا.
وفى هذه الأثناء تم انقلاب فى فاس، ترتب عليه مصرع السلطان أبى سالم، فى ذى القعدة 762 هـ (1360 م) ، وتقلد السلطان صاحب الانقلاب الوزير عمر بن عبد الله، الذي أعان ابن الأحمر المخلوع على أمره، ووقف الى جانبه فى استرجاع عرشه، حتى سنحت الفرصة، وواتت الظروف، باندلاع ثورة جديدة فى غرناطة، صرع فيها السلطان اسماعيل بن الأحمر على يد الرئيس أبى سعيد، الذي فر الى (قشتالة) عقب عودة الغنى بالله الى الأندلس، واستيلائه على ولاية مالقة، ثم دخوله غرناطة، وتربعه على العرش من جديد عام 763 هـ- 1361 م.
لقد استدعى سلطان غرناطة الجديد، محمد الخامس الغنى بالله، وزيره المنفى ابن الخطيب، ليقدم الى دار ملكه، برسالة مؤرخة: 14 جمادى الآخرة 763 هـ (15 أبريل 1361 م) وليتقلد منصبه السابق، فاستجاب ابن
الخطيب، وجاز البحر صحبة أسرة السلطان وأسرته، ثم وصل العاصمة، وهناك وجد من يزاحمه منصبه، وينافسه السلطة، وهو شيخ الغزاة (عثمان بن أبى يحيى) ، صاحب اليد على السلطان فى استرجاع العرش، فنشب خلاف بين الرجلين، وحقد كلاهما على الآخر، ولكن ابن الخطيب كان أشد مراسا بأساليب الكيد والدس، فتغلب على خصمه؛ اذ زين للسلطان خطورة نفوذ عثمان هذا، وبدأ يخيفه من غدره وغدر أشياعه، فاستجاب ابن الأحمر لنصح ابن الخطيب، وقضى على عثمان وآله فى شهر رمضان 764 هـ- 1363 م، وبذلك استرد ابن الخطيب كامل سلطته، دون مناوئ أو منافس، ولكن الى حين، فقد شعر مرة أخرى بما يحاك حوله من دسائس ومكائد، ورأى سلطانه يتأثر بسعاية الخصوم، وقد تزعم هذه الحملة الجديدة ضد ابن الخطيب رجلان وثيقا الصلة بالسلطان بحكم وضعيتهما فى الخدمة السلطانية، ولمكانتهما السياسية فى الدولة، وهما:
1) الشاعر محمد بن يوسف المعروف ب «ابن زمرك» تلميذ ابن الخطيب، ومعاونه فى الوزارة.
2) قاضى الجماعة أبو الحسن على بن عبد الله النباهى، ولى نعمة ابن الخطيب.
وحينئذ شعر ابن الخطيب بخطورة موقفه عند السلطان، بين هذين الرجلين الداهيتين، فدبر أمره على مغادرة الأندلس نهائيا، دون أن يشعر السلطان مطلقا بذلك، وفعلا طلب منه أن يأذن له فى تفقد بعض الثغور والموانئ الأندلسية، فأجابه السلطان، وكان وزيرنا- من جانبه- قد أعد العدة للابحار الى المغرب، حيث يحل ضيفا لاجئا على السلطان أبى عنان فارس بن أبى الحسن المرينى، وقد تم له ذلك بوصوله الى جبل طارق، الذي كان يومئذ ضمن أملاك المرينيين، ونجحت الخطة، اذ استقبله قائد الميناء بحفاوة، وسهل له مهمته، بأمر من سلطان المغرب، وأجازه الى سبتة هو ومن معه من ولده، وقبل أن يودع هذه البقاع بعث برسالة مؤثرة الى السلطان الغنى بالله
يعلل فيها مسلكه هذا، ويبرر تصرفه الاضطرارى، وأخيرا يطلب غفرانه، راجيا عونه لأسرته التى خلفها وراءه فى غرناطة.
وصل ابن الخطيب الى سبتة ومنها التحق بتلمسان، مقر السلطان عبد العزيز الذي احتفى به وأكرمه، ثم بعث بسفرائه الى غرناطة، يلتمس من سلطانها ان يجيز أسرة ابن الخطيب، فأجابه ابن الأحمر الى طلبه، وكان ذلك عام 773 هـ- 1371 م.
وكان من المتوقع أن يهنأ ابن الخطيب بهذا المقام بالمغرب، فالسلطان قد أحله مكانته اللائقة به، وأبدله مما فقد الشيء الكثير، ولكن- للأسف- اتخذ منافسوه بغرناطة من هربه- على هذه الصورة- مادة دسمة للكيد، وأكدوا للسلطان محمد الخامس ابن الأحمر ادانته، وعدم وفائه لولى نعمته، وزاد الاتهام تأكيدا أن ابن الخطيب كان حريصا على أن يحمل معه أمواله وذخائره الى المغرب، وفى هذا يخاطب القاضى النباهى غريمه- فى الرسالة المعروفة التى بعث بها اليه: «فهمزتم ولمزتم، وجمعتم من المال ما جمعتم،
…
، ثم هربتم بأثقالكم» «9» .
كان القاضى النباهى فيما سبق من أنصار الوزير ابن الخطيب، بل إن تعيينه قاضيا للجماعة واستصدار ظهير هذا المنصب قد تم على يدى ابن الخطيب نفسه، كما نجد فى كتاب الاحاطة ترجمة للنباهى تنبئ عن تقدير ابن الخطيب لهذا الرجل؛ اذ ينعته بأنه «قريع بيت مجادة وجلالة، وبقية تعين وأصالة، عف النشأة، طاهر الثوب، مؤثر للوقار والحشمة، بعيد الغور، مرهف الجوانب، ناظم، ناثر، نثره يشف عن نظمه، ذاكر للكثير، بعيد المدى فى باب النزاهة، ماضي غير هيوب
…
الخ» ، ولكن ذلك «النباهى» تنكر تماما لابن الخطيب، ولم يحفظ له هذا الجميل؛ فقد آزر الوزير «ابن زمرك» ضده، وسعى سعيا حثيثا فى سبيل القضاء عليه، وتتجلى هذه الروح الشريرة، وما يمليه الحقد الشخصى، والضغائن الدفينة، فى تلك
الرسالة التى بعث بها القاضى النباهى الى ابن الخطيب بالمغرب، وفيها يعيب عليه الانصراف الى اقتناء الضياع والديار، كما أنه نسب اليه- فى بعض مؤلفاته- بعض محدثات فى الدين، مما يمس الشريعة الاسلامية، كما تناول فى بعض هذه المؤلفات الأموات من الناس، وذلك بالطعن أو العيب فيهم، الأمر الذي يستنكره الدين....، الى آخر ما جاء فى تلك الرسالة من هذه المثالب، وحتى مغادرة ابن الخطيب للأندلس مؤخرا- على تلك الصورة- رأى فيها النباهى غدرا بالسلطان ولى نعمته، كما كذبه فى ادعائه الانقطاع للعبادة فى المغرب، وأنه لو أرادها حقيقة لقصد الديار المقدسة، أو أبقى على نفسه بغرناطة بجوار الكفاح والجهاد، لنصرة المملكة الاسلامية التى يتهددها خطر الأسبان كل حين.
وفى الأخير ينهى النباهى رسالته بالنيل من أسرة ابن الخطيب، بأنها حديثة النعمة، وأن ثروتها هذه لم تأت الا عن طريق المنصب والسلطة..
وقد كان لهذه الرسالة أثر كبير فيما بعد؛ حيث كانت صك الاتهام، وأدين ابن الخطيب على أساس ما ورد فيها، وذلك عندما حلت نكبته، ودنت ساعة نحسه «10» .
هذا، ويرجع تاريخ الرسالة هذه الى أواخر جمادى الأولى 773 هـ- 1371 م، وقد تسلمها ابن الخطيب بتلمسان، وأجاب على ما جاء بها مفصلا، فى كتابه «الكتيبة الكامنة فيمن لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة» ، وشدد النكير على القاضى النباهى، عندما وصقه بأنه «الجعسوس» أى: القزم الدميم، وزاد ابن الخطيب فوضع رسالة خاصة للنيل من خصمه اللدود، وسماها «خلع الرسن، فى وصف القاضى أبى الحسن» .
ظل القاضى النباهى وابن زمرك على عزمهما بسحق غريمهما ابن الخطيب، فبعد احراق كتبه العقائدية، عهد النباهى الى قضاة غرناطة باستصدار حكم الشرع فى جريمة الالحاد، وهو الاعدام، وحصل من السلطان على مصادقة بهذا
الحكم، وبعث القاضى أبو الحسن بنوابه الى السلطان عبد العزيز وبأيديهم هذا الحكم، فقابل السلطان رسل غرناطة بالاستنكار، وخاطبهم قائلا:«هلا أنفذتم فيه حكم الشرع وهو عندكم، وأنتم عالمون بما كان عليه!!!» وبالغ فى اكرام ابن الخطيب، وأضفى عليه مزيدا من عنايته.
وتجدر الاشارة هنا الى أن ابن الخطيب قد لاحظ وقتئذ قوة المغرب فى عهد صديقه السلطان عبد العزيز، ومبلغ العداء بين فاس وغرناطة وقد بلغ أوجه، فحرض السلطان على ضم غرناطة لمملكته، وقد رمى من وراء ذلك الى سحق أعدائه هناك، وتأمين مقامه بالمغرب، وما يتبع ذلك من حماية مصالحه.
ويظهر أن هذه السياسة قد لاقت قبولا عند السلطان عبد العزيز، فصمم على تنفيذها، وفى ذلك يقول ابن خلدون:«ثم تأكدت العداوة بينه (ابن الخطيب) وبين ابن الأحمر، فرغب السلطان عبد العزيز فى ملك الأندلس وحمله عليه، وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان الى المغرب «11» » ، وبلغت ابن الأحمر رغبة ملك المغرب هذه، فتخوف لذلك كثيرا، وأسرع الى ايفاد رسله بالهدايا والتحف الثمينة الى بلاط فاس، آملا فى نيل رضا السلطان عبد العزيز، واتقاء شره. ثم تفاجئ الظروف الموقف، فيموت السلطان عبد العزيز بعدئذ بقليل، ويجلس على عرش المغرب ابنه «أبو زيان محمد السعيد» طفلا فى الرابعة من عمره، فى ربيع الآخر 774- 1372 م، وقبض على زمام السلطة الفعلية وزيره «أبو بكر بن غازى» ، فتغيرت الأوضاع السياسية بالمغرب تماما، واضطر ابن الخطيب حينئذ أن يتزلف الى الملك الطفل ووزيره، فألف كتابه المعروف باسم «أعمال الأعلام، فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الاسلام» ، وفيه يبرر هذا الوضع الجديد شرعا، وعرفا وتاريخا، وأورد لذلك الأشباه والنظائر، ردا على المناهضين بالمغرب، وخاصة بنى الأحمر وعملائهم.
وفى هذه الأثناء قام السلطان ابن الأحمر بمحاولة أخرى للايقاع بابن الخطيب، وذلك بأن أوعز الى الوزير «ابن غازى» أن يبعث اليه بابن الخطيب، فامتنع ابن غازى، وتوترت العلاقات مرة أخرى، بين غرناطة وفاس، الأمر الذي جعل ابن الأحمر يوغر صدور هؤلاء الأمراء المرينيين ضد النظام القائم فى فاس، وبذل فى سبيل القضاء على هذا النظام مساعدات ضخمة، كما أقنع من اتصل بهم من حكام الأقاليم- وخاصة حاكم سبتة أبا محمد بن عثمان- بأن من الأفضل للمغرب أن يكون الملك رجلا راشدا، لا طفلا صغيرا، لا يدرك شيئا، واتفق معه على تنصيب الأمير المرينى أبى العباس أحمد بن أبى سالم ملكا على المغرب، وأنه- أى محمد بن عثمان- سيكون الوزير مستقبلا، وأعطاه المزيد من المساعدات الهائلة لتنفيذ هذا الاتفاق، على أن يحقق هذا الوزير لابن الأحمر ثلاثة مطالب، بعد نجاح الخطة، وهى:
1) تسليم ابن الخطيب.
2) تسليم الأمراء المناهضين لابن الأحمر.
3) تسليم جبل طارق.
ووقعت بعض الحوادث بالمغرب، وتمخضت عنها ثورة قاضية، أدت الى حدوث الانقلاب المنشود لابن الأحمر، ونودى حينئذ بالأمير أحمد بن السلطان أبى سالم واليا على المغرب (776 هـ- 1374 م) .
وهنا أسرع السلطان الجديد بالقبض على ابن الخطيب، وسجنه، وبذلك تهيأت الفرصة لوضع نهاية الوزير المنكود؛ فقد كان الوزير الجديد ببلاط فاس سليمان بن داود من ألد خصوم ابن الخطيب، ومن جهة أخرى فقد أرسل سلطان غرناطة سفيره ووزيره عبد الله بن زمرك الى فاس ليشهد آخر فصل فى هذه الرواية، وليدق آخر مسمار فى نعش ابن الخطيب، وبوصول ابن زمرك عقد السلطان أحمد مجلسا من مستشاريه وكبار رجال الدولة، ونوقش ابن الخطيب أمام هذا المجلس، حول كافة الادعاءات المقامة ضده، وبالأخص دعوى الالحاد، تلك الدعوى التى صاغها القاضى النباهى من قبل، وكان مجلسا
صوريا بطبيعة الحال؛ فان نتيجة المحاكمة كانت مقررة، ومتفقا عليها من قبل، فى كل من غرناطة وفاس.
لقد أوذى ابن الخطيب أمام شهود هذه المؤامرة، وأفتى الفقهاء المتعصبون باعدامه شرعا، فأعيد الى سجنه حيث دبر الوزير سليمان بن داود أمر قتله فى السجن، وفعلا بعث اليه ببعض الأشرار الذين قتلوه خنقا أواخر عام 776 هـ- 1375 م، وفى الصباح سحبت جثته الى الفضاء، حيث تم حرقها، ودفن بضاحية فاس «12» .
ويروى المقرى أنه تمكن مؤخرا من معرفة قبر ابن الخطيب، وذلك خلال اقامته بفاس، أوائل القرن الحادى عشر الهجرى (القرن السابع عشر الميلادى) ، فزاره مرارا حيث يرقد، وفى هذا يقول:«وقد زرته مرارا- رحمه الله تعالى- بفاس المحروسة، فوق باب المدينة الذي يقال له: باب الشريعة، وهو يسمى الآن «باب المحروق» ، وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض، بل ينزل اليه بانحدار كثير «13» » .
رحم الله ابن الخطيب كفاء ما زود التاريخ من ذخائر، وأهدى العلوم والمعارف من نفائس.