الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج ابن الخطيب فى الكتاب
عندما كتب ابن الخطيب مؤلفه «معيار الاختيار» اختط فى التحرير طريقة خاصة، تختلف عن معظم كتاباته فى مؤلفاته الاخرى، ذلك أنه بدأ بمقدمة معتادة أعقبها بمحاورة، ثم انتهى الى صميم الموضوع، فقسمه الى مجموعتين مستقلتين، وأدرج كل مجموعة تحت مجلس خاص، وقصر المجلس الاول على المدن الاندلسية، ثم أعقبه بالمجلس الثانى فقصره على المدن المغربية. وهكذا بدأ المؤلف كتابه فى المجلس الاول، بما جرت به عادة المؤرخين والمؤلفين المسلمين، وذلك بحمد الله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، كل هذا فى قالب يتناسب والموضوع الذي يتعرض له، وهو وصف البلدان.
ثم ثنى بأن الانسان مدنى اجتماعى بطبيعته، لا يستقيم حاله بدون مجتمع، وبالتالى لا يقوم المجتمع بدونه، وأنه- أى الانسان- أحيانا يتخذ سكناه حسبما اتفق، وأحيانا يكون له ظرف الاختيار، مرجحا من الامكنة ما غلبت حسناته على سيئاته، وهذه الامكنة «كثيرا ما تنافر الى حكمها النفر، وأعمل السفر» ، وأيا كان، فانه لا توجد مدينة قد كملت من كافة النواحى كما يقول.
وبعدئذ يتحدث المؤلف عن خبر فى قالب قصة، فهناك راو استهواه مكان ما، فنزل به حتى حل المساء، وحينئذ أبصر شيخا معه تلميذه وحماره، وما استقر المقام بذلك الشيخ حتى حن الى صباه، وضاق بمرارة المشيب، وقسوة الغربة، وشعوره بأن نفسه لم تتب بعد، وأخيرا يسأل الله العفو والغفران، والقربى من رحمته يوم الحساب، معتمدا فى اجابة سؤله على شفاعة شيبه، ثم تدور مناقشة بين الشيخ وفتاه، وعندها ينبرى الشيخ، فيحدثنا عن مدى خبراته فى أمور شتى
نتيجة علمه وبحثه، وجوبه بلاد العالم، ووقوفه بأقطار كثيرة للدرس والبحث. وتكون النتيجة أن يتقرب الراوى الى الشيخ، مطمئنا اياه الى حسن طويته، وما عليه من خلق يؤهله لان يتشرف بالاستماع الى فيض علمه، ويسأل الراوى الشيخ ان يصف له بلاد الاندلس ثم بلاد المغرب، فى دقة وأمانة واخلاص، فأجابه الشيخ الى طلبه، وبدأ الراوى بالسؤال عن جبل الفتح (جبل طارق) وهكذا.. حتى انتهى من المدن الاندلسية بمدينة «رندة» . ثم أخبر الشيخ سائله بأن الصبح قد قارب الوجود، وأنه قد وفاه- فى الوصف- حسابه، ولم يبق الا أن يكافئه على هذه الذخائر حتى يكون له أليفا ورفيقا، فينثر الراوى المال بين يدى محدثه فيأخذ منه شاكرا، وأخيرا يتفقد الراوى الشيخ على ضوء مصباح، فلا يجد له أثرا، «فكأن الفلك لفه فى مداره، أو خسفت الارض به وبداره» ، فيتأسى الراوى عن هذا الفراق بأن «لكل اجتماع من خليلين فرقة» .
هكذا ينتهى نهج المؤلف فى «المجلس الاول» من كتابه.
أما فى «المجلس الثانى» فان الراوى يلج أحد الاسواق، وفى السوق «أمم تنسل من كل حدب، وتنتدب من كل منتدى ومنتدب» ، فى بيع وشراء، وتحايل للتعايش والكسب، بمختلف الوسائل والاعمال، فهناك «رقاة جنون، بضروب من القول وفنون، وفيهم كهل قد استظل بقيطون» ، قد ادعى العلم بالمغيبات، والتفسير للمشكلات والاحاطة بأسرار الطبيعة، وشفاء العضال من الامراض، وفى مجال العلوم قد برع، ما بين طب ورياضة وتاريخ وجغرافية، وحديث وتفسير، ومنثور ومنظور، ومنطق وبرهان، فهو قد جاب الاقطار فى الدرس والبحث والمعرفة. وهنا يجد الراوى بغيته، فقد ذكره ذلك الرجل بالشيخ الاول، فأراد أن يستكمل
معلوماته عن البلدان، فاخترق اليه جموعا بشرية من قصاده، وخاطبه بقوله:«بى الى تعرف البلدان جنوح وجنون، والجنون فنون» فأجابه الشيخ موافقا، متحفظا بأنه «لا تجود يد الا بما تجد، والله المرشد» .
وهنا يسأله الراوى عن البلاد المغربية، بادئا منها ب «بادس» ، والشيخ يجيبه بمعلوماته عنها، واحدة تلو الاخرى، حتى ينتهى منها بمدينة «غساسة» ، وعندئذ «وجب اعتناء بالرحيل واهتمام، وكل شىء الى تمام» كما قال الشيخ، فقد انفض عن السوق أهله، ولم يبق الا أن ينثر الراوى دنانيره، مكافأة طيبة لمحدثه، فيتناول منها ما تستغنى به النفس، وقبل أن يتهيأ للسير لم ينس- وهو الحكيم المجرب- أن يزود الراوى بنصح منظوم، فيه مزايا التحلى بالقناعة، والايمان بالقضاء والقدر، والتحفظ على السر وكتمانه، وتحاشى التعثر بالناس، وتقوى الله تعالى، فالقرب منه رهن بها، وليست هناك خسارة أفدح من معصية الخالق.
وأخيرا نرى الشيخ قد «ضرب جنب الحمار، واختلط فى الغمار» وبقى الراوى يتتبع أثر الشيخ، ولكنه تعزى عن فراقه بأن «كل نظم الى انتثار»
بهذا ينهى ابن الخطيب «المجلس الثانى» ، وبانتهاء «المجلس الثانى» ينتهى الكتاب نفسه.
هذا هو المنهج الذي سلكه ابن الخطيب المؤلف فى كتابه «معيار الاختيار» ، وهو منهج- كما رأينا- قصصى، دار فى فلك نوع خاص من القصة، وهذا النوع هو الذي عرف من بين فنون النثر العربى باسم «المقامة» ، متخذا من المحاورة وسيلة لتشويق القارئ والمستمع، وبخاصة فى صلب الموضوع، عند وصفه للبلاد.