الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيمة الكتاب الادبية ومدى صلته بفن المقامات فى الأدب العربى
ذكرنا أن «معيار الاختيار» قد جاء فى صورة قصة محدودة، والقصة من أدق الفنون الادبية وأصعبها تركيبا، وهى تتمتع من بين سائر فنون الادب بالذيوع والانتشار، لما تشتمل عليه من استمالة القلوب، وامتناع النفوس، فالآداب العالمية قد زخرت بهذا اللون الغنى منذ أقدم العصور، ولقد ورثنا عن العرب منذ جاهليتهم ذخيرة نفيسة من القصص، تناولها المشتغلون بالبحث والنقد درسا وتحليلا، وانقسموا حيالها الى فريقين متباينين، ولكل وجهة، فبعض المستشرقين فى دراستهم للقصة العربية يرون مع «كارادى فو» أنه «لم يسبق الادب العربى أى أدب آخر فى نوع الاقاصيص، بينما البعض الآخر يرى أن العرب- ابان حضارتهم- زودوا لغتهم بفلسفة الشعوب وعلومهم، وتجاهلوا أدب القصة تجاهلا يكاد يكون مطلقا، ومن ثم جهلوا أصول الفن القصصى، فكانت قصصهم تفقد قيمتها الفنية تبعا لذلك.
وانصافا للحق نقول: ان القصص العربى ذو ألوان مختلفة، وقد حظيت بعض هذه الالوان بعناية العرب، فراعوا فى صوغها مقومات القصة، وأسس بنائها، فجاء هذا اللون منها تحفة فنية، لها قيمتها وروعتها، والبعض الآخر من ألوان القصة العربية فقد معظم هذه الاسس، فكان مثارا للنقد، ومحلا للملاحظة.
والقصص العربى أنواع: أشهرها القصص الدينى، ومصادره التوراة والانجيل والقرآن، ثم ما جاء على ألسنة الرواة والمحدثين من أخبار الاولين وقصصهم، مزج فيها القصاص الحقيقة بالخيال، والتاريخ بالاسطورة. وكان الهدف من هذا النوع من القصص الوعظ والارشاد فى معظمه، ترغيبا فى الجنة وترهيبا من النار.
ومن أنواع القصص أيضا عند العرب القصص التاريخى البطولى، كقصة عنترة بن شداد فى حروبه، وسيف بنى يزن فى كفاحه، وحرب البسوس فى طولها وشناعتها، ومنها القصص العاطفى، كقصة «قيس المجنون بليلاه» ، وعنترة العاشق لعبلة، وكثير الواله بعزة، الى آخر هذه الالوان القصصية، التى تزخر بها كتب الادب العربى، وبعض التراجم الاجنبية. على أنه من الملحوظ أن القصة العربية تطورت مع الزمن، واتخذت فى كل عصر طابعا خاصا، رقيا عما قبل، مع متانة فى البناء، منذ الجاهلية حتى عصرنا الحاضر، وقد تولد عن التصرف فى تركيبها نوع خاص منها، وهو ما سمى- بين فنون النثر العربى- باسم «المقامة» ، والتى ترتكز على العناية بالاسلوب، وتغليب الشكل على الجوهر، فمن مقوماتها البلاغية السجع والجناس والكناية والتلاعب بالالفاظ، ومن مقوماتها اللغوية طائفة ضخمة من شوارد اللغة، وشواذ القواعد النحوية، ومن مقومات أسلوبها- كذلك- تضمينها بعض آيات القرآن الكريم، أو الحديث النبوى، أو الحكم والامثال، أو المنثور أو المنظوم، كما تشتمل المقامة على المعلومات الفقهية والطبية والعروضية والتاريخية، الى غير ذلك مما عرف فى عصر المولعين بصناعتها.
فالمقامة- اذن- نوع من الترف الادبى، وميدان للتدليل على مبلغ معرفة المؤلف بالعلوم والفنون على اختلاف أنواعها، وقد ابتدعها «بديع الزمان الهمذانى» من أشهر أدباء العصر العباسى، ويقال: انه أنشأ حوالى أربعمائة مقامة، ولكن لم يظفر الناس منها اليوم بأكثر من نيف وخمسين مقامة، ومن مقاماته الشهيرة المقامة القريضية، نسبة الى القريض، وهو الشعر، لانه موضوعها، والمقامة الخمرية، والمقامة الجاحظية، والمقامة الدينارية، والمقامة البصرية، والمقامة الكوفية، ثم قلده فى نفس العصر كثيرون، ولكن الحريرى كان بارعا فيها أيضا، ومن مقاماته المعروفة مثلا «المقامة الصنعائية» نسبة الى صنعاء، احدى مدن اليمن المشهورة.
أما ماذا يقصد بالمقامة عموما فهو تصوير بؤس الادباء، واحتيالهم أحيانا لكسب عيشهم، ولها راوية ينقل الخبر، وبطل تدور حوله حوادثها.
على أن هذه المقامة قد اختفت من الادب العربى بعد ناصف اليازجى اللبنانى فى كتابه: «مجمع البحرين» ، ومحمد المويلحى المصرى فى كتابه ذى الشبه الكبير بالمقامة «حديث عيسى بن هشام» ، اذ لم يعد أحد بعدئذ يلتفت الى هذا اللون الادبى من أدباء عصرنا الحاضر.
هذا، وقد كان من الطبيعى أن ينتقل فن المقامة من المشرق- منذ ظهوره- الى الاندلس، وذلك عن طريق الرحلات التى قام بها كثير من الاندلسيين الى الشرق يطلبون العلم، والذين عادوا الى موطنهم بعد أن درسوا- ضمن ما درسوا- هذا الفن، فنشروه بين مواطنيهم، وقد لوحظ أن مقامات بديع الزمان الهمذانى ورسائله- التى أشرنا اليها- قد ذاعت خصوصا فى عهد ملوك الطوائف بالاندلس، فقد قام بعض الادباء الاندلسيين يومئذ بمعارضة هذه الرسائل والسير على نمطها، ومن هؤلاء الاديب عبد الله محمد بن شرف القيروانى، الذي عارض مقامات البديع، حسبما يروى ابن بسام عن هذا الاديب المعاصر للمعتضد بن عباد بأشبيلية 434- 461 هـ (1042- 1068 م) . كذلك روى ابن بسام عن الشاعر أبى المغيرة عبد الوهاب بن حزم المتوفى حوالى سنة 420 هـ (1029 م) أن هذا الاخير عارض رسالة للهمذانى فى وصف غلام، وفى موضع آخر من كتاب الذخيرة يورد ابن بسام أجزاء من مقامتين، إحداهما لابى حفص عمر الشهيد، والاخرى لابى محمد بن مالك القرطبى، وهذان الأديبان عاشا فى عهد المعتصم بن صمادح بمدينة المرية الاندلسية 443- 484 هـ (1051- 1091 م) .
ونزيد تعريفا بصلة المغرب بالمشرق حول فن المقامة، فنذكر أيضا أنه فى أوائل عهد المرابطين بالاندلس انتشرت مقامات الحريرى بالمغرب على مدى واسع، فى الوقت الذي انتشرت فيه بالشرق، واهتم علماء
الاندلس بحياة مؤلف هذه المقامات، فقد روى ابن الابار «أن كثيرا من الاندلسيين سمعوا من الحريرى مقاماته الخمسين ببستانه ببغداد، ثم عادوا الى بلادهم، حيث حدثوا بها عنه» ، ومن هؤلاء الحسن بن على البطليوسى المتوفى عام 566 هـ (1169 م) وأبو الحجاج يوسف القضاعى البلنسى المتوفى عام 542 هـ (1147 م) .
وقد تابع الاندلسيون الاشتغال بفن المقامة حتى نهاية عهدهم الاندلسى، أيام بنى الاحمر فى غرناطة، ومن أشهر أدباء هذا العصر الذين زاولوا هذا الفن الادبى الوزير لسان الدين بن الخطيب، بمقاماته العديدة التى أنشأها، والتى منها: الكتاب الذي نتعرض لدراسته هنا، وهو «معيار الاختيار» ، ومقامته «خطرة الطيف، فى رحلة الشتاء والصيف» و «مقامة السياسة» وغيرها.
-*- وعلى ضوء ما أوجزنا بيانه عن «المقامة» ومقوماتها، ومدى صلتها بفن القصة العربية، وعن دور الاندلسيين فيها بالنسبة للمشارقة، نستطيع أن نزن كتاب «معيار الاختيار» فى هذا الميدان، فنقول: انه عبارة عن وصف قصصى، جاء فى صورة مقامة تقليدية، حاول بها ابن الخطيب- كما حاول فى غيرها- أن يجارى بها من سبقوه فى هذا الميدان، وفى سبيل ذلك حشد لها المزيد من فنون القول والبيان، وبخاصة مقدمة كل من المجلسين، ونهايتهما، حيث انصرف فيهما الى حد ما عن المعنى الى اللفظ مما أفقد المقدمة- خاصة- قيمتها الادبية، من أديب مثل ابن الخطيب.
ولكن عندما تناول صلب الموضوع، فانه- وان كان قد عنى بالاسلوب أيضا- الا أن الوصف للمدن عموما قد جاء تحفة فنية رائعة،