الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
--
باب: صفة الحج والعمرة وما يتعلق بذلك:
نذكر في هذا الباب صفة الحج بعد حل المتمتع من عمرته، ونبدأ بذكر حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح عظيم مشتمل على جمل من مناسك الحج وفوائده، ونفائس من مهماته وقواعده، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم ورواه ابن ماجة.
قال مسلم في صحيحه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم جميعاً عن حاتم، قال أبو بكر حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب فقال مرحباً بك يا ابن أخي سل عما شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجه ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا فقلت أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعاً فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولّدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به
ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته.
قال جابر رضي الله عنه لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول، ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين (قل هو الله أحد، قل يا أيها الكافرون) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبل فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده؛ ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله: ألعامنا هذا
أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد) وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا، فقال فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال قلت: اللهم إني أهِل بما أهل به رسولك، قال فإن معي الهدي فلا تحل قال فكان جماعة الهدي
الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منة فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والغشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضر له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا
الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يؤطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورِك رَحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذن وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبيره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر
حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه) .
وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا جعفر بن محمد حدثني أبي قال: أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجته رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بنحو حديث حاتم بن إسماعيل، وزاد في الحديث:(وكانت العرب يدفع بهم أبو سيَّارة على حمار عري فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل) .
حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن جعفر حدثني أبي عن جابر في حديثه ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعاً. انتهى حديث جابر بن عبد الله، قال عطاء كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى بالخيف قاله في المغني.
ونتكلم الآن على شيء قليل من معانيه ولغته، فنقول وبالله التوفيق: قوله فسأل عن القوم، فيه أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم كما في حديث عائشة (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم) وفيه إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل جابر بمحمد بن علي، ومنها استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما: مرحباً، ومنها ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه، وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي ووضع يديه بين ثدييه، وقوله: وأنا يومئذ غلام شام، فيه تنبيه على أن الرجل الكبير لا يحسن إدخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه، ومنها جواز تسمية الثدي للرجل، وقوله في نساجة: هي بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم، وهو ثوب ملفق على هيئة الطيلسان، وقوله ورداؤه إلى جنبه على المشجب هو بميم مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم جيم ثم باء موحدة، وهو: اسم لأعواد توضع عليها الثياب ومتاع البيت، وقوله: ثم ركب القصواء، هي بفتح القاف وبالمد: اسم لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: وأهلّ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته.
قال القاضي عياض: فيه إشارة إلى ما روى من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر: كما روى في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل. وعن أنس رضي الله عنه: لبيك حقاً تعبداً ورقاً، وقوله: استلم الركن، يعني الحجر الأسود، أي مسحه بيده، قوله: فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلخ، معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث
عن أبيه عن جابر قال: فكان أبي، يعنى محمداً يقول: إنه قرأ هاتين السورتين، قال جعفر: ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر، بل عن جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين، وأما قوله: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس هو شكا في ذلك لأن لفظة العلم تنافي الشك بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: هزم الأحزاب وحده، معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين، ولا بسبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب: الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. قوله: حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فيه دلالة لمذهب الجمهور وأن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة، والرجوع إلى الصفا ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة، وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من الشافعية وحكي عن ابن جرير يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا. وهذا الحديث الصحيح يرد عليهم حيث جاء فيه: حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، الحديث، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان والله أعلم.
قوله: فوجد فاطمة، إلخ، فيه إنكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره، والتحريش الإغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها، وأما قوله: وقصروا فإنما قصروا ولم يحلقوا مع أن الحلق أفضل، لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج، فلو حلقوا لم يبق شعر فكان التقصير هنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر والله أعلم. قوله فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، معنى أجاز جاوز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات قوله: فأتى
بطن الوادي، هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء وبعدها نون، قال النووي: وليست عرنة من أرض عرفات عند العلماء كافة إلا مالكاً فقال هي من عرفات.
قوله: وجعل حبل المشاة بين يديه، روى حبل بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروى جبل بالجيم وفتح الباء، قال القاضي عياض: والأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة طريقهم الذي يسلكونه، وقيل أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيهاً بحبل الرمل، قوله: وقد شنق للقصواء الزمام إلى آخره، معنى شنق ضم وضيق، وهو بتخفيف النون، ومورك الرحل، قال الجوهري قال أبو عبيد: المورك والمورِكة يعني بفتح الميم وكسر الراء: هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب، وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة، وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة، قوله: كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد إلخ، الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل، وهو التل اللطيف من الرمل الضخم، قوله: ولم يسبح بينهما شيئاً، معناه لم يصل بينهما نافلة، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح، قوله: حتى أسفر جداً، قال النووي الضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور أولا، قلت: ويحتمل أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وقوله جداً بكسر الجيم، أي إسفاراً بليغاً، قوله: ثم سلك الطريق الوسطي، إلخ، فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وقوله: ما غَبَر، أي ما بقي، قوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم، معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا
الاستقاء والله أعلم، انتهى ما أردناه من الكلام على حديث جابر.
ونرجع إلى ذكر صفة الحج والعمرة وما يتعلق بذلك، فنقول: يستحب لمتمتع حل من عمرته ولغيره من المحلين بمكة وقربها الإحرام بالحج يوم التروية لقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج) ويوم التروية ثامن ذي الحجة، قال ابن رسلان: اعلم أن أيام المناسك سبعة: أولها سابع ذي الحجة وآخرها ثالث عشر. فالسابع ذكر مكي بن أبي طالب في باب عمل الحج أن اسمه يوم الزينة لأنهم كانوا يزينون محاملهم وهوادجهم للخروج، وأما يوم الثامن فاسمه يوم التروية بالتاء المثناة فوق، وسمي بذلك لترويهم فيه الماء، وسمي يوم النقلة لانتقالهم فيه من مكة إلى منى، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر بفتح القاف وتشديد الراء، لأنهم قارون فيه بمنى، والثاني عشر يوم النفر الأول بفتح النون وسكون الفاء، والثالث عشر يوم النفر الثاني انتهى؛ قال الأصحاب: وسمي الثامن يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء لما بعده، أو لأن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة الثامن في المنام ذبح ابنه إسماعيل فأصبح يتروى في أمر الرؤيا ويفكر أهو حلم أم من الله تعالى؟ فلما كان ليلة عرفة رأى ذلك أيضاً فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: لأن تلك الأماكن لم تكن فيها إذ ذاك آبار وعيون، وأما الآن فقد كثرت جداً واستغنوا عن حمل الماء انتهى، ويسمى يوم الثاني عشر أيضاً بيوم الرؤوس كما يأتي:
(فائدة) : عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إذا رأيت الماء بطريق مكة ورأيت البناء يعلو أخاشبها فخذ حذرك، وفي رواية: فإن الأمر قد أظلك انتهى، ومحل استحباب الإحرام بالحج يوم التروية لمن ذكرنا هو في حق غير
متمتع لم يجد هدياً وأراد الصيام فيستحب له أن يحرم بالحج من ليلة سابع ذي الحجة قبل الفجر ليصوم ثلاثة الأيام في إحرام الحج، ويكون آخر تلك الثلاثة يوم عرفة فيصوم السابع والثامن والتاسع، وإن أحرم ليلة السادس فصامه وصام السابع والثامن أجزأ لأنه أرفق به لا سيما في أيام الحر فإن الوقوف بعرفة مع الصيام يشق، قال في الفروع: والأشهر عن أحمد وعليه الأصحاب الأفضل أ، آخرها عرفة وفاقاً لأبي حنيفة، وعن أحمد يوم التروية وفاقاً لمالك والشافعي، وروى عن ابن عمر وعائشة، وفي البخاري عن ابن عباس تصوم قبل يوم عرفة وفي يوم عرفة لا جناح ولأن صومه بعرفة لا يستحب، وله تقديمها بإحرام العمرة نص عليه وهو أشهر لأن العمر سبب لوجوب صوم المتعة لأن إحرامها يتعلق به صحة التمتع فكان سبباً لوجوب الصوم كإحرام الحج انتهى ملخصاً، وتقدم ذلك في باب الفدية، قال في الإقناع وشرحه، ويستحب أن يفعل عند إحرامه من مكة أو قربها ما يفعله عند إحرامه من الميقات من غسل وتنظيف وتطيب في بدنه وتجرد ذكر من مخيط ولبس إزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين ثم بعد ذلك يطوف أسبوعاً ويصلي ركعتين انتهى. ومثله في المغني والشرح وغيرهما، قلت لم أطلع على دليل يقضي باستحباب الطواف قبل الإحرام بخلاف الصلاة قبله فإن العلماء قد ذكروا ذلك وتقدم والله أعلم.
(فائدة) من أراد أن يضحي أو يُضحي عنه فإنه لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً إذا أراد الإحرام بالحج أو العمرة أو بهما في عشر ذي الحجة لأن الأخذ من ذلك في العشر لمريد التضحية محرَّم، أما المتمتع إذا حل من عمرته في عشر ذي الحجة فإنه يقصر أو يحلق وجوباً ولا يحرم عليه ذلك