المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره - مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام - جـ ٢

[عبد الله بن جاسر]

الفصل: وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره

وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره مثله، وهو مع ذلك يوم عيد ويوم يحل فيه من إحرام الحج.

--‌

‌ فصل:

ثم يفيض إلى مكة فيطوف متمتع لقدومه كطوافه لعمرته السابق في دخول مكة نصاً بلا رمل ولا اضطباع لأنه قد رمل في طواف العمرة، ثم يطوف للزيارة واختار ذلك الخرقي وأكثر الأصحاب، ويطوف مفرد وقارن لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة للقدوم نصاً برمل واضطباع ثم للزيارة، قال الخرقي وإن كان متمتعاً فيطوف بالبيت سبعاً وبالصفا والمروة سبعاً كما فعل للعمرة ثم يعود فيطوف طوافاً ينوي به الزيارة وهو قوله عز وجل:(وليطوفوا بالبيت العتيق) .

قال أبو محمد موفق الدين بن قدامة: أما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي هاهنا فهو طواف القدوم لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك، والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله تعالى فإذا رجع، أعني المتمتع، كم يطوف ويسعى؟ قال يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافاً آخر للزيارة عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه، وكذا الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهم يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضاً، واحتج الإمام أحمد بما روت عائشة قالت:(فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) فحمل أحمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ولأنه قد ثبت أن

ص: 79

طواف القدوم مشروع فلم يكن طواف الزيارة مسقطاً له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض، ولم أعلم أحد وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابة الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أحداً، وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافاً آخر ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به وذكرت ما يستغنى عنه، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافاً واحداً فمن أين يستدل به على طوافين، وأيضاً فإنها لما حاضت قرنت الحج إلى العمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن طافت للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر

الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة لأنه أول قدومه إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به.

وفي الجملة إن هذا الطواف المختل فيه ليس بواجب وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن للحج لا يتم إلا به ولا بد من تعيينه، فلو نوى به طواف الوداع أو غيره لم يجئه انتهى كلام الموفق، واختار الشيخ تقي الدين ما رجحه الموفق وصححه الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى

ص: 80

بعدما حكى كلام الموفق المتقدم قلت: لم يرفع كلام أبي محمد الإشكال وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره، والصواب في إنكاره، فإن أحداً لم يقل إن الصحابة لما رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسعوا ثم طافوا للإفاضة بعده ولا النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يقطع قطعاً، ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن فأخبرت أن القارنين طافوا طوافاً واحداً وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وهذا غير طواف الزيارة قطعاً فإنه يشترك فيه القارن والتمتع فلا فرق بينهما فيه، ولكن الشيخ أبو محمد لما رأى قولها في المتمتعين أنهم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، قال لبس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام أدرجت في الحديث وهذا لا يتبين ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال، فالصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت وزال الإشكال جملة، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافاً آخر يوم النحر وهذا هو الحق، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافاً آخر بعد الرجوع من منى للحج وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:(يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك) وكانت قارنة ويوافق قول الجمهور، ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) طوافه

ص: 81

الأول هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليه في رواية ابنه عبد الله

وغيره، وعلى هذا فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي، أو يقال مراد جابر من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم وذوي اليسار فإنهم إنما سعوا سعياً واحداً وليس المراد به عموم الصحابة، أو يعلل حديث عائشة بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها، والله أعلم انتهى كلام ابن القيم. قلت: ويأتي قريباً إن شاء الله البحث في مسألة المتمتع هل يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة لعمرته وحجه أم لا بد من سعيين بينهما، والله الهادي إلى سواء السبيل.

قال الموفق والشارح: والأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة، وهو ركن لا يتم الحج إلا به بغير خلاف. وطواف القدوم، وهو سنة لا شيء على تاركه. وطواف الوداع، وهو واجب يجب بتركه دم، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم ولا شيء على تارك طواف الوداع، وما زاد على هذه الأطوفة فهو نفل ولا شرع في حقه أكثر من سعي واحد بغير خلاف علمناه. قال جابر:(لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول) . رواه مسلم، ولا يكون السعي إلا بعد الطواف، فإن سعى مع طواف القدوم لم يسع بعده، وإن لم يسع معه سعى مع طواف الزيارة انتهى ملخصاً، وسمي طواف الزيارة بذلك لأنه يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكن بل يرجع إلى منى، ويسمى طواف الزيارة الإفاضة لأنه يفعل بعدها، قال في الإقناع: ويسمى الصَّدر بفتح الصاد والدال المهملة: وهو رجوع المسافر من مقصده لأنه يفعل بعده أيضاً، وما ذكره في الإقناع من

ص: 82

أنه يسمى طواف الصدر قاله ابن أبي الفتح في المطلع وابن حمدان في الرعاية والسامري في المستوعب وقدمه الزركشي، وصحح في الإنصاف أن طواف الصدر هو طواف الوداع وتبعه في المنتهى، ويعين طواف الزيارة بنيته لحديث (إنما الأعمال بالنيات) وكالصلاة، ويكون طواف الزيارة بعد وقوفه بعرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف كذلك، وقال:(خذوا عني مناسككم) وطواف الزيارة هو الطواف الذي به تمام الحج فهو ركن من أركانه إجماعاً قاله ابن عبد البر، لقوله تعالى:(ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق)، وعن عائشة قالت:(حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله فقلت: يا رسول الله إنها حائض، قال أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا) متفق عليه.

فعلم منه أنها لو مل تكن أفاضت يوم النحر لكانت حابستهم فيكون طواف الزيارة حابساً لمن لم يأت به، فإن رجع إلى بلده قبل أن يطوف للزيارة رجع من بلده باقياً على إحرامه بمعنى بقاء تحريم النساء عليه لا الطيب، وليس المخيط ونحوه لحصول التحلل الأول إن كان رمى جمرة العقبة وحلق، وإذا رجع من بلده طاف طواف الإفاضة وتقدم حكم ما لو وطئ قبل طواف الإفاضة، والرمي في الثامن من محظورات الإحرام، قال في شرح الإقناع: ويحرم بعمرة إذا وصل إلى الميقات فإذا حل منها طاف للإفاضة انتهى. قلت: قد يقال إن هذا من إدخال العمرة على الحج وفيه ما تقدم، وقد يقال الممنوع هو إدخال العمرة على الحج الكامل بخلاف ما إذا لم يكن بقي من الحج إلا طواف الإفاضة فقط والله أعلم.

ويأتي في فصل أركان الحج وفي باب الإحصار البحث في هذه المسألة، ولا يجزئ عن طواف الإفاضة غيره

ص: 83

من طواف الوداع أو غيره لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) وأول وقت طواف الزيارة من نصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبل، وإلا يكن وقف بعرفة فوقته بعد الوقوف بعرفة فلا يعتد به قبله وفعله يوم النحر أفضل لحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى) متفق عليه، وفي حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الظهر) . رواه مسلم. قال ابن القيم رحمه الله لما ساق بعض الأوهام التي ذكرها بعضهم في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ومنها على القول الراجح وهم من قال صلى الظهر يوم النحر بمكة، والصحيح أنه صلاها بمنى انتهى، وإن أخر طواف الزيارة إلى الليل فلا بأس بذلك، وإن أخره عن يوم النحر وعن أيام منى جاز كالسعي، ولا شيء عليه لأن آخر وتقه غير محدود، وعند الشافعية أول وقت طواف الزيارة من نصف الليل من ليلة النحر ويبقى إلى آخر العمر، والأفضل في وقته أن يكون في يوم النحر، ويكره عندهم تأخيره إلى أيام التشريق من غير عذر، وعند الحنفية أوله طلوع الفجر من يوم النحر وآخره آخر أيام النحر، وعند المالكية يدخل وقت طواف الإفاضة بطلوع الفجر من يوم النحر وآخره تمام شهر ذي الحجة، وإن دخل شهر محرم فعليه دم. قال الحطاب وكذا لو طاف للإفاضة وأخر السعي حتى دخل شهر محرم فنه يعيد طواف الإفاضة ويسعى وعليه الهدي كما ذكره سند في باب المحصر انتهى كلامه، ثم يسعى متمتع لحجه بين الصفا والمروة لأن سعيه الأول كان لعمرته، ولا يكتفى بسعي عمرته لأنها نسك آخر بل يسعى لحجه، ويسعى من لم يسع مع طواف القدوم من مفرد وقارن، ومن سعى منهما لم يعده لأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك إلا الطواف بالبيت لأنه صلاة، قال في الشرح الكبير: ولا نعلم فيه خلافاً، والسعي ركن في الحج فلا يتحلل.

ص: 84

التحلل الثاني إلا بفعله لحديث حبيبة بنت أبي تجراة قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو رواؤهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) رواه أحمد، وتقدم الكلام على هذا الحديث في باب دخول مكة في فصل: ثم يخرج إلى الصفا فليراجع. وعن عائشة (ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة) متفق عليه مختصر فإن فعل السعي قبل الطواف عالماً أو ناسياً أو جاهلاً أعادة لما تقدم من أن شرط السعي وقوعه بعد الطواف. قلت عبارات الأصحاب صريحة واضحة في أن المتمتع إذا أفاض إلى مكة يلزمه بعد طواف الإفاضة السعي بين الصفا والمروة لحجه، لأن سعيه الأول كان لعمرته. والعمرة نسك آخر. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وليس على المفرد إلا سعي واحد وكذلك القارن عند جمهور العلماء وكذلك المتمتع في أصح قوليهم وهو أصح الروايتين عن أحمد، وليس عليه إلا سعي واحد فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف، فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك كما يجزئ المفرد والقارن، وكذلك قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، قيل لأبي: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين يعني بالبيت وبين الصفا والمروة فهو أجود، وإن طاف طوافاً واحداً فلا بأس، وإن طاف طوافين فهو أعجب إليّ. قال أحمد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول: المفرد والقارن والمتمتع بجزئه طواف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة.

وقد اختلف في الصحابة المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع اتفاق الناس على إنهم طافوا أولاً بالبيت بين الصفا والمروة ولما رجعوا من عرفة قيل إنهم سعوا أيضاً

ص: 85

بعد طواف الإفاضة، وقيل لم يسعوا، وهذا هو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر قال:(لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول) ، وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين، لكن هذه الزيادة قيل إنها من قول الزهري لا من قول عائشة، وقد احتج به بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت وهذا ضعيف: والأظهر ما في حديث جابر ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فالمتمتع من حين أحرم بالعمر دخل في الحج لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف، بل هذا الطواف هو السنة في حقه كما فعل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طاف طواف الإفاضة فقد حل له كل شيء النساء وغير النساء انتهى. كلام شيخ الإسلام. قوله رحمه الله وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين مراده بحديث عائشة الحديث المتقدم الذي تكلم عليه ابن القيم رحمه الله، وقد جاء في (فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم حلو ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) ، ومراد عائشة بهذا الطواف الآخر هو السعي بين الصفا والمروة كما هو ظاهر كلام شيخ الإسلام المتقدم، وقد حققه ابن القيم كما تقدم قريباً، وقوله رحمه الله: ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف إلى آخره خلافاً لما ذهب إليه الخرقي وهي رواية الأثرم عن أحمد وتقدم ذلك قريباً والله أعلم. وقال في الفروع بعد كلام سبق: وعند يجزئ سعي عمرته واختاره شيخنا انتهى.

يعني صاحب الفروع أن المتمتع إذا سعى لعمرته يجزئه سعيها فلا يحتاج بعد ذلك إلى سعي آخر بين الصفا والمروة لحجه على هذه الرواية التي اختارها

ص: 86

شيخه سيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. قلت: وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه هدي فليحلل، قال: قلنا أي الحل؟ قال: الحل كله، قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن المتمتع يكفيه سعي واحد لعمرته وحجه بين الصفا والمروة، ولقد أوّل النووي هذا الحديث وصرفه عن ظاهره حيث قال في شرح مسلم على هذا الحديث: قوله وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة يعني القارن منا وأما المتمتع فلا بد له من السعي بين الصفا والمروة في الحج بعد رجوعه من عرفات وبعد طواف الإفاضة انتهى كلام النووي.

قلت: هذا صرف للحديث عن ظاهره الذي لا يحتمل التأويل، لأن قوله في الحديث (فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة) صريح واضح في أنهم حلوا من إحرام العمر فإنهم أهلوا أولاً بالحج مفردين له ثم بعد طوافهم بالبيت وبين الصفا والمروة أمر صلى الله عليه وسلم من لم يكن معهد هدي منهم بفسخ الحج إلى العمر فسمعوا وأطاعوا وفسخوا حجهم فصار حكمهم بعد الفسخ حكم المتمتع ابتداء، ولو كانوا قارنين كما جنح إليه النووي ما أتوا النساء ولا لبسوا الثياب ولا مسوا الطيب، لأن القارنين يثبتون على إحرامهم كالمفردين ولا يحلون إلا يوم النحر، إذا تقرر ذلك فإن هذا الحديث صريح في أن المتمتع يكفيه السعي لعمرته وأنه

ص: 87

لا يحتاج بعد طواف الإفاضة إلى سعي بين الصفا والمروة لحجه، ويدل لذلك أيضاً الحديث الآخر عن جابر أيضاً، قال:(لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول) . رواه مسلم. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والقارن يكفيه سعي واحد.

قلنا هذا مسلَّم ولكن معظم الصحابة رضي الله عنهم كانوا متمتعين لأنهم فسخوا حجهم إلى العمرة وحلوا من إحرامهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن معهم هدي، وحديث جابر هذا صريح في أنهم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً قبل التعريف فهو عام يشمل القارن والمتمتع، وإذا قيل إن الذين لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً هم القارنون لا المتمتعون قلنا هذا تقييد لما أطلقه الحديث بغير دليل مع أن حديث جابر المتقدم لا يحتمل مجالاً لقائل، حيث جاء فيه:(فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة) ويؤيد ذلك ما في سنن أبي داود، عن جابر قال (قدم رسول الله صلى الله عليه وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة) انتهى ويؤيد ذلك أيضاً ما في سنن النسائي.

قال النسائي في سننه: كم طواف القارن والمتمتع بين الصفا والمروة؟ وساق بسنده إلى جابر رضي الله عنه أنه قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) انتهى، قال السندي في حاشيته على سنن النسائي قوله وأصحابه: أي الذي وافقوه في القران، وقيل بل مطلقاً والصحابة كانوا

ص: 88

ما بين قارن ومتمتع وكل منهما يكفيه سعي واحد وعليه بنى المصنف يعني النسائي ترجمته انتهى كلام السندي. قلت: فترجمة النسائي لحديث جابر وهي قوله كم طواف القارن والمتمتع بين الصفا والمروة تفيد أنه يرى شمول الحديث للقارن والمتمتع جميعاً والله أعلم، ولكن يشكل على ما تقدم ما روى البخاري في صحيحه في باب قول الله تعالى:(ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) قال عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعال: (فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) إلى أمصاركم الشاة تجزئ فجمعوا النسكين في عام بين الحج والعمرة الحديث، قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: قوله فقد تم حجنا ومن هنا أي من قوله فقد تم حجنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن هنا إلى أوله مرفوع انتهى، فحديث ابن عباس هذا يدل على أن المتمتع لا يكفيه لعمرته وحجه سعي واحد بين الصفا والمروة وأنه لا بد له من سعيين واحد للعمرة وآخر للحج والله أعلم.

قلت: ومما تقدم يتضح أن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة لعمرته وحجه لحديث جابر المتقدم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورواية عن الإمام أحمد، وإن سعى بينهما مرتين واحدة لعمرته، وأخرى لحجه عملاً بحديث ابن عباس المتقدم فهو أحوط وهو قول جمهور

ص: 89